أحدث المقالات

دراسة استدلالية مقارنة في التحديد والضبط

ــ القسم الثاني ــ

السيد عباس نجيب خلف(*)

المجموعة الثالثة: الروايات التي تدل على سقوط القرص

رواية جارود، قال: قال لي أبو عبد الله×: يا جارود، ينصحون فلا يقبلون، وإذا سمعوا بشيء نادوا به، أو حدثوا شيئاً أذاعوه، قلت لهم: مَسُّوا بالمغرب قليلاً، فتركوها حتى اشتبكت النجوم، فأنا الآن أصلّيها إذا سقط القرص([1]).

أمّا من الناحية السندية فالرواية صحيحة.

وأما من الناحية الدلالية فالإمام يشكو لجارود أمر مَن يُعطَى النصيحة فلا يقبل بها، وإذا سمعوا أو حدثهم الإمام بشيء خاصّ ذهبوا وأذاعوه بين الناس، فالإمام قال لهم: أخِّروا صلاة المغرب قليلاً، فأخَّروها كثيراً، حتى اشتبكت النجوم ـ وهو إشارة إلى الوقت التي ترى فيه النجوم في السماء مشتبكة وكثيرة، ويدخل بعضها بعضاً، وهو مأخوذ من شبكة الصياد([2]) ـ، وقالوا: إن هذا من الإمام، لذلك فأنا أصلّيها في أول وقتها، من دون الاحتياط أو التأخير القليل. وقد يكون الإمام قال لهم: مَسُّوا بالمغرب قليلاً، أي أخِّروها قليلاً، وأدخلوها في المساء؛ للاحتياط، أو لعلهم لا يشخِّصون سقوط القرص بالشكل الصحيح؛ لسكنهم في منطقة جبلية، أو لقصور عندهم، أو لسبب لا نعرفه، ولسنا مسؤولين عنه. فالرواية تدلّ على أن أول الوقت هو سقوط القرص، فهي تامّة الدلالة.

وقد علّق الحر العاملي& على هذه الرواية، واحتمل التقية فيها، وذكر سبعة أمور تدفعنا للعمل بروايات الحمرة وترك روايات القرص. ولأهمية هذه النقاط التي ذكرها الحر العاملي&، والتي تشكل الجوّ العام في التعاطي مع هذه الرواية وغيرها، نذكرها، ثم الجواب على كلّ نقطة على حدة.

 قال الحرّ العاملي: واعلَمْ أنه يتعين العمل بما تقدم في هذه الأحاديث ـ روايات الحمرة ـ وفي العنوان؛ أولاً: لأنه أمر بالاحتياط للدين في الصلاة والصوم.

 ويرِدَ عليه: صحيح أنه أقرب إلى الاحتياط، ولكن هذا لا يعني أنه هو المعيار المطلوب في مسألة الغروب.

ثانياً: لأن فيه جمعاً بين الأدلة، وعملاً بجميع الأحاديث، من غير طرح شيء منها.

ويرِدُ عليه: إن الروايات الأخرى فيها جمعٌ أكثر من الروايات، ومَنْ قال: إنه إما أن أجمع وإما أن أطرح، لأن الجمع أولى من الطرح؟! نعم، يوجد شيء وسطي، وهو استيعاب مجموعة من الروايات لمجموعة أخرى، وفهم جديد لها، وهذا لا يؤدي إلى الطرح، ثم إنه مَنْ قال: إن قاعدة (الجمع أولى من الطرح) تصحّ في كل مورد؟!

ثالثاً: لما فيه من حمل المجمل على المبين، والمطلق على المقيد.

ويرِدُ عليه: أولاً: لا يوجد إجمال وإطلاق في المقام؛ وثانياً: إذا كان إجمال وإطلاق فهو الروايات التي تتحدث عن الغروب من دون تفصيل بين سقوط القرص أو الحمرة أو شيء آخر، والمبين أو المقيد أو المفصل في الروايات الأخرى نأخذ به كله ـ على اختلاف أنواعه ـ فيما لو لم يكن فيه تعارض، ولم أرَ أيَّ تعارض بين روايات القرص أو الحمرة، فنأخذ بكليهما.

رابعاً: لاحتمال معارضته للتقية، وموافقته للعامة.

ويرِدُ عليه: لا يمكن الحمل على التقية بهذا الشكل مع وجود عدد كبير من الروايات الصحيحة التي تتحدث عن القرص، وما يزيد عنه يتحدث عن الغروب مطلقاً، الذي يصب في صالح روايات سقوط القرص أيضاً؛ فهذا يوهم معرفة الحكم الشرعي. نعم، يمكن صدور رواية أو روايتين بسبب التقية، لا صدور مجموعة بهذا الحجم، وإلا فهو إضاعة للمكلف عن الحكم؛ إذ ليس مجرد موافقة العامة في حكم من الأحكام سبباً في ادعاء التقية، والخلاف بيننا وبينهم ليس بهذا الشكل المتصور اليوم، فمشهور المتقدمين ـ كما ثبت ـ على سقوط القرص، وسبق أن ذكرنا ما يحكي عن سيرة النبي في صلاته.

خامساً: لعدم احتماله للنسخ، مع احتمال بعض معارضته له.

ويرِدُ عليه: إن عدم احتمال النسخ صحيح، ولكن بعد التدقيق والتأمل لم نجد معارضة بين روايات القرص، وروايات الحمرة.

سادساً: لأنه أشهر فتوى بين الأصحاب.

ويرِدُ عليه: لا يصح الاعتماد على الشهرة الفتوائية، فهي تصح كمؤشِّر فقط لا أكثر، والدليل هو الذي يُتَّبع. بالإضافة إلى أن شهرة القدماء أهمّ بكثير من الشهرة الفتوائية عند المتأخِّرين، وقد ثبت عندنا أن مشهور المتقدمين على سقوط القرص، من دون معارض.

سابعاً: لكونه أوضح دلالة من معارضه، إذ لم يصرح فيه بعدم اشتراط ذهاب الحمرة، فما دل على اعتباره أوضح دلالة، وأبعد عن التأويل.

ويرِدُ عليه: هذا أول الكلام؛ إذ يقال: إن روايات القرص أوضح دلالة من روايات الحمرة. فضلاً عن كون روايات القرص الكثيرة والصحيحة مدعومة بالروايات الأكثر التي اشترطت غروب الشمس، من دون أن تشترط أو تحصر ذلك بذهاب الحمرة.

رواية عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله×، قال: سمعته يقول: وقت المغرب إذا غربت الشمس فغاب قرصها([3]).

 أما من الناحية السندية فالرواية صحيحة السند.

وأما من الناحية الدلالية فالإمام يحدِّد بداية وقت المغرب بغياب القرص مباشرة، فلم يدَّعِ أحد أن الغروب يتحقق قبل سقوط القرص. ومن ناحية أخرى أقول: في مسألة مثل هذه المسألة الابتلائية يتحدث الإمام عن وقت المغرب فيقول: إن وقت المغرب يكون إذا غربت الشمس، ثم يوضح معنى غربت الشمس بأنه غياب القرص، ألا يعني هذا أن الغروب يساوي سقوط القرص أو غيابه. ثم لو كان المراد من غياب القرص أكثر من ذلك لبيَّنه الإمام، حتى لا يضيع المكلَّف في هذه المسألة من هذا النوع. بل قد يقال: إن عدم بيان الإمام لهذه المسائل هو عدم بيان وقت المغرب من الأساس.

فالرواية دالة على المطلوب.

رواية زرارة، قال: قال أبو جعفر×: وقت المغرب إذا غاب القرص، فإن رأيت بعد ذلك وقد صليت أعدت الصلاة، ومضى صومك، وتكفّ عن الطعام إن كنت أصبت منه شيئاً([4]).

أما من الناحية السندية فالرواية صحيحة السند، ولها طريقان آخران أيضاً.

وأما من الناحية الدلالية فهي واضحة الدلالة على أن وقت المغرب يكون إذا غاب قرص الشمس.

فهي دالة على المطلوب.

رواية محمد بن علي بن الحسين، قال: قال أبو جعفر×: وقت المغرب إذا غاب القرص([5]).

أما من الناحية السندية فالرواية ضعيفة السند؛ بسبب الرفع من محمد بن علي بن الحسين بن بابويه إلى الإمام الباقر× مباشرة.

وأما من الناحية الدلالية فهي تدل على أن وقت المغرب يكون عند غياب القرص.

فهي دالة على المطلوب.

رواية جابر، عن أبي جعفر×، قال: قال رسول الله’: إذا غاب القرص أفطر الصائم ودخل وقت الصلاة([6]).

أما من الناحية السندية فالرواية ضعيفة السند؛ بعمرو بن شمر، فقد ضعَّفه النجاشي وابن الغضائري، ولم يوثَّق في كتب الرجال([7]).

وأما من الناحية الدلالية فالرواية تدل على أن سقوط القرص يكفي في إفطار الصائم ودخول وقت الصلاة.

فهي دالة على المطلوب.

رواية داوود الفرقد، قال: سمعت أبي يسأل أبا عبد الله الصادق×: متى يدخل وقت المغرب؟ فقال: إذا غاب كرسيّها، قلتُ: وما كرسيّها؟ قال: قرصها، فقلت: متى يغيب قرصها؟ قال: إذا نظرت إليه فلم تره([8]).

أما من الناحية السندية فالرواية صحيحة السند.

وأما من الناحية الدلالية فهي في غاية الوضوح والتفصيل؛ لأن الإمام يُسأل عن وقت المغرب فيجيب بأنه عندما يغيب كرسيّها، فيُسأل الإمام عن ذلك فيجيب بأن كرسيّها هو قرصها، فيُسأل عن الوقت الذي يغيب فيه القرص فيجيب الإمام بكل بساطة ووضوح: إذا نظرت إليه فلم تره.

فالرواية تدل على أن وقت الغروب يتحقق عند غروب القرص وعدم رؤيته.

وقد علَّق الحر العاملي& على هذه الرواية، محتملاً فيها التقية، إلا أن هذا الكلام ـ كما سبق وذكرنا ـ غير محتمل.

كما أنه احتمل أن يراد من هذه الرواية نفي رؤية القرص ورؤية أثره، الذي هو الشعاع والحمرة المشرقية. وهذا الكلام أغرب من سابقه؛ لأن كلام الإمام واضح تماماً، فهو أجاب عن سؤال السائل: متى يغيب قرصها؟ فقال×: إذا نظرت إليه فلم تره، أي القرص؛ إذ لا يوجد أي احتمال لنفي رؤية الأثر كما ذكر&، فراجع([9]).

رواية عمر بن أبي نصر، قال: سمعت أبا عبد الله× يقول في المغرب: إذا توارى القرص كان وقت الصلاة، وأفطر([10]).

أما من الناحية السندية فالرواية ضعيفة السند؛ بموسى بن جعفر بن وهب البغدادي، فهو لم يوثَّق في كتاب الرجال([11]).

وأما من الناحية الدلالية فهي تدل على أن ذهاب القرص وغيابه عن النظر يدل على أول وقت الصلاة والإفطار أيضاً.

 فهي دالة على المطلوب.

رواية الصباح بن سيابة، قال: سألوا الشيخ× عن المغرب، فقال بعضهم: جعلني الله فداك، ننتظر حتى يطلع كوكب؟ فقال: خطّابية؟! إن جبرائيل نزل بها على محمد’ حيث سقط القرص([12]).

أما من الناحية السندية فالرواية لها طريقان، والثاني الذي فيه أبو أسامة (زيد الشحام) صحيح.

 وأما من الناحية الدلالية فالإمام يسأل عن وقت المغرب، وهل هو عند رؤية الكوكب، وهو ما يعادل ذهاب الحمرة المغربية؟ فيجيب الإمام باعتراض: خطّابية؟! أي إن سببها شخص منحرف اسمه محمد بن مقلاص الكوفي، فالوقت الذي حدَّده جبرائيل للنبي محمد’ هو عند سقوط القرص. وهذا الذيل والشاهد الذي ذكره الإمام لا يمكن حمله إلا على أن وقت المغرب هو الوقت الذي نزل به جبرائيل على النبي محمد، وإلا فما هو معنى الذيل؟ ولماذا جاء الإمام بهذا الشاهد؟!…

فالرواية واضحةٌ، وتامة الدلالة على أن وقت صلاة المغرب عند سقوط القرص.

رواية صفوان بن مهران الجمال، قال: قلت لأبي عبد الله×: إن معي شبه الكرش المنثور، فأؤخِّر صلاة المغرب حتى عند غيبوبة الشفق، ثم أصلّيها جميعاً، يكون ذلك أرفق بي؟ فقال: إذا غاب القرص فصلِّ المغرب، فإنّما أنت ومالك لله([13]).

أما من الناحية السندية فالرواية صحيحة السند.

وأما من الناحية الدلالية فالرواي يقول للإمام: إن معي شبه الكرش المنثور فهل أؤخر صلاة المغرب، وأصليها مع العشاء دفعة واحدة.

والكرش عند الحيوان بمنزلة المعدة عند الإنسان، وأما شبه الكرش فتقال لما هو قريب من الرجل وتحت رعايته، كالزوجة، والأطفال، أو ما يملكه من حيوانات، فهو يقول للإمام: إني كثير العيال لكثرة عيالي، أو كثير الحيوانات أو الجمال المنتشرة، وخوفاً من تفرقها أو ابتعادها، فهل أؤخر صلاة المغرب، وأصليها مع العشاء، فيكون أرفق بي وفيه راحة أكثر؟ فقال له الإمام: إذا غاب القرص فصلِّ، ولا تؤخِّر صلاة المغرب، فأنتَ ومالُك لله. فهي لا تدل على أن وقت صلاة المغرب عند سقوط القرص فحسب، بل إن الامام يصرّ على الصلاة في هذا الوقت، وعدم تأخيرها، حتى مع الانشغال ببعض الأمور الدنيوية؛ لأهمية الصلاة في أول وقتها.

فالرواية تامة الدلالة.

10ـ رواية عبد الله بن سنان، قال: سمعت أبا عبد الله× يقول: وقت المغرب إذا غربت الشمس فغاب قرصها، قال: وسمعته يقول: أخَّر رسول الله’ ليلة من الليالي العشاء الآخرة ما شاء الله، فجاء عمر فدَقّ الباب، فقال: يا رسول الله، نام النساء، نام الصبيان، فخرج رسول الله’ فقال: ليس لكم أن تؤذوني، ولا تأمروني، وإنما عليكم أن تسمعوا وتطيعوا([14]).

أما من الناحية السندية فالرواية صحيحة السند.

وأما من الناحية الدلالية فالذي نستفيد منه هو مطلع الرواية، وهو دالٌّ على أن وقت المغرب إذا غربت الشمس، ويوضِّح أن غروب الشمس هو عبارة عن غياب قرصها. وهي من أوضح الروايات التي تدل على أن المغرب يتحقق بغياب القرص.

فالرواية تامة الدلالة.

11ـ رواية بكر بن محمد، عن أبي عبد الله× قال: سألته عن وقت صلاة المغرب؟ فقال: إذا غاب القرص. ثم سأله عن وقت العشاء الآخرة؟ فقال: إذا غاب الشفق، قال: وآية الشفق الحمرة، ثم قال بيده: هكذا([15]).

أما من الناحية السندية فالرواية صحيحة السند.

وأما من الناحية الدلالية فهي تدل ـ باختصار ووضوح ـ على أن وقت صلاة المغرب عند غياب القرص.

فالرواية تامة الدلالة.

12ـ رواية محمد بن يحيى الخاتمي، عن أبي عبد الله× أنه قال: كان رسول الله’ يصلي المغرب، ويصلي معه حيّ من الأنصار، يقال لهم: بنو سلمة، منازلهم على نصف ميل، فيصلّون معه، ثم ينصرفون إلى منازلهم، وهم يرون منازل سهامهم([16]).

أما من الناحية السندية فالرواية صحيحة السند.

وأما من الناحية الدلالية فهي تدل على أنه كانت عادة رسول الله أن يصلي صلاة المغرب في وقت معين، وبعد الصلاة كان المصلّون يعودون إلى بيوتهم، وكانت مسافة العودة نصف ميل، فيرَون الأرض التي يملكونها. وهذا يدلّ على أن الضوء ما زال موجوداً حتى يتمكنوا من الصلاة، والعودة بمسافة معينة، ورؤيتهم لأراضيهم. ولو أردنا أن نقرب الصورة من الواقع؛ حتى نرى هل يمكن أن يؤيد ذلك سقوط القرص أو لا، نقول: إن الميل في الحسابات اليوم 1800م، فلا بد من حساب أن النبي كان يصلي أول الوقت، وأول الوقت بالنسبة إلينا مجهول، إلا أنه يمكن أن نحسب أنه بعد دخول الوقت لا بد من الأذان، فنحسب له خمس دقائق، وصلاة المغرب نحسب لها عشر دقائق، وبعد ذلك يعود المصلون لمسافة 1800م، فنحسب لها ربع ساعة، فيكون مجموع الوقت على أقل التقادير نصف ساعة من وقت صلاة المغرب حتى عودة المصلين، وهذا ينسجم مع سقوط القرص أكثر ممّا ينسجم مع ذهاب الحمرة المشرقية. وإذا أضفنا لهذا الوقت وقت نوافل المغرب، التي كانوا يلتزمون بها، أو بعض الأمور الأخرى، فالأمر يصبح أكثر وضوحاً. والرواية تنقل عادة النبي وسيرته، وليس حصول هذا الأمر مرة واحدة. فهذه الرواية بالتقريب الذي سبق تدل على أن وقت الصلاة كان عند سقوط القرص.

13ـ رواية إسماعيل بن الفضل الهاشمي، عن أبي عبد الله× قال: كان رسول الله‘ يصلي المغرب حين تغيب الشمس حيث تغيب حاجبها([17]).

أما من الناحية السندية فالرواية صحيحة.

وأما من الناحية الدلالية فالإمام الصادق يتحدث عن سيرة النبي في صلاة المغرب، فهو كان يصليها عندما تغيب الشمس، أي عندما يغيب قرصها أو جرمها. وهذه الرواية تقطع كل شك في مسألة التقية، وتبعد كل إشكالات الحر العاملي&، فالإمام يحكي عن سيرة النبي في قوله: كان رسول الله.

فهي تامة الدلالة.

14ـ رواية سماعة بن مهران، قال: قلت لأبي عبد الله× في المغرب: إنا ربما صلينا ونحن نخاف أن تكون الشمس خلف الجبل، أو قد سترنا منها الجبل؟ قال: فقال: ليس عليك صعود الجبل([18]).

أما من الناحية السندية فالرواية صحيحة([19]).

وأما الناحية الدلالية فهي، وإن لم يكن لسانها سقوط القرص، إلا أنها تدل عليه، فالسائل والمسؤول× قد صاغا كلامهما بعد المفروغية عن أن ذهاب قرص الشمس وغيابه يؤدي إلى دخول وقت الصلاة، وإنما خوف السائل من كون الظاهر مخالفاً للواقع، فأجابه الإمام بأنه عليك بالظاهر، وليس المطلوب منك تحصيل الواقع، أو هو ـ كما يعبِّر عنه الأصوليون ـ عدم وجوب الفحص في الشبهة الموضوعية.

فدلالة الرواية تامة.

15ـ رواية أسامة، قال: صعدت مرة جبل أبي قبيس، والناس يصلّون المغرب، فرأيت الشمس لم تغب، وإنّما توارت خلف الجبل عن الناس، فلقيت أبا عبد الله×، فأخبرته بذلك، فقال لي: ولِمَ فعلت ذلك؟! بئس ما صنعت، إنما تصليها إذا لم تَرَها، خلف الجبل غابت أو غارت، ما لم يتجلَّلها سحاب أو ظلمة تظلها، وإنما عليك مشرقك ومغربك، وليس على الناس أن يبحثوا([20]).

أما من الناحية السندية فهي صحيحة السند.

وأما من الناحية الدلالية فالإمام ذمَّ مَن تحقَّق من غياب الشمس، واعتبر أن وقت الصلاة هو عند غياب الشمس الظاهري، لا الواقعي، وليس على الناس أن يدققوا في هذا الأمر. ومفادها كالرواية السابقة، وتتضمن المفروغية عن أن غياب قرص الشمس هو المعيار في دخول الوقت.

فالرواية تامة الدلالة أيضاً.

16ـ رواية عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله× ـ في حديث ـ، قال: وقت المغرب حين تجب الشمس، إلى أن تشتبك النجوم([21]).

أما من الناحية السندية فالرواية صحيحة السند.

وأما من الناحية الدلالية فهي تدل على أن أول وقت المغرب عندما تجب الشمس، أي تغيب، وأن آخر الوقت، أي وقت الفضيلة، هو عند اشتباك النجوم، كما سبق.

فهي تامة الدلالة.

فتكون نتيجة هذه الطائفة من الروايات، التي جمعت سبع عشرة رواية، أن الثابت منها على المستوى السندي الروايات التالية: (1 ـ 2 ـ 3 ـ 6 ـ 8 ـ 9 ـ 10 ـ 11 ـ 12 ـ 13 ـ 14 ـ 15 ـ 16).

وأما على المستوى الدلالي فقد ثبتت الروايات التالية: (1 ـ 2 ـ 3 ـ 4 ـ 5 ـ 6 ـ 7 ـ 8 ـ 10 ـ 11 ـ 12 ـ 13 ـ 14 ـ 15 ـ 16).

وأما الثابت على المستوى الدلالي والسندي معاً فهو على الشكل التالي: (1 ـ 2 ـ 3 ـ 6 ـ 8 ـ 10 ـ 11 ـ 12 ـ 13 ـ 14 ـ 15 ـ 16).

المجموعة الرابعة: روايات الغروب بدخول الليل ورؤية النجوم

رواية علي بن الريان، قال: كتبت إليه: الرجل يكون في الدار تمنعه حيطانها النظر إلى حمرة المغرب، ومعرفة مغيب الشفق ووقت صلاة عشاء الآخرة، متّى يصليّها؟ وماذا يصنع؟ فوقَّع×: يصليها إذ كان على هذه الصفة عند قصرة النجوم، والمغرب عند اشتباكها وبياض مغيب الشمس([22]).

أما من الناحية السندية فالرواية صحيحة السند.

وأما من الناحية الدلالية فالسائل يكاتب الإمام لمعرفة حكم مَنْ لا يستطيع النظر إلى حمرة المغرب ومعرفة مغيب الشفق، ووقت صلاة العشاء، وأنه متى يصلي صلاة العشاء؟ وماذا يفعل؟ فكاتبه الإمام بتأخير الصلاة إلى حين اختلاط الظلام وظهور النجوم في السماء، ثم أكمل الإمام مكاتبته بكلام اختلف من نسخة إلى نسخة. ففي نسخة الكافي جاء: يصليها إذا كان على هذه الصفة عند قصرة النجوم، والمغرب عند اشتباكها وبياض مغيب الشمس. وهذا المعنى بحاجة إلى تأويل، والقول بأن معنى قصرة النجوم يكون في ظهورها التام الجلي، أما الاشتباك فيكون في أول ظهورها، ويكون معنى بياض الشمس ذهاب آثارها، وليس بياض محل الغروب فمع عدم التمكن من ملاحظة الحمرة المشرقية يقوم مقامها بياض مغيب الشمس، فيكون ظهور النجوم بشكل جلي علامة لصلاة العشاء، وأول ظهورها وبياض مغيب الشمس علامة لصلاة المغرب([23]).

إلا أن هذا التأويل تواجهه مشاكل:

الأولى: إن السائل لم يسأل عن صلاة المغرب، وإنما كان سؤاله عن صلاة العشاء.

الثانية: لم يرِد في نسخة «التهذيب» كلمة المغرب، وإنما جاءت على الشكل التالي: يصليها إذا كانت على هذه الصفة عند قصرة النجوم، والعشاء عند اشتباكها وبياض مغيب الشمس.

الثالثة: إن تأويل ذيل الرواية بأن اشتباك النجوم هو أول ظهورها، وبياض مغيب الشمس بغياب آثارها؛ حتى ينسجم مع نسخة الكافي، بعيدٌ عن المعنى اللغوي والعرفي. ثم إن السائل قال: إنه لا يمكنه ملاحظة المغرب، فكيف أجابه الإمام في الذيل بملاحظة المغيب؟! فلعل الإمام أجابه عن سؤاله، ثم أضاف شيئاً آخر، أو هو علامة أخرى لمعرفة صلاة العشاء في ظروف أخرى. وهذا ما أستقربه، فتكون نسخة التهذيب هي الأقرب والأصح، ويكون كل الكلام عن صلاة العشاء، وتكون لهذه الرواية دلالة، إلا أنها خارجة عن بحثنا هنا.

رواية محمد بن علي بن الحسين، قال: وقيل له ـ أي للصادق ـ: إن أهل العراق يؤخِّرون المغرب حتى تشتبك النجوم؟ فقال: هذا من عمل عدوّ الله، أبي الخطّاب([24]).

أما من الناحية السندية فالرواية مرسلة؛ فقد رفعها محمد بن علي بن الحسين إلى الإمام الصادق× مباشرة.

وأما من الناحية الدلالية فالسائل يسأل الإمام عن تأخير أهل العراق لصلاة المغرب حتى تظهر النجوم؟ فقال له الإمام: إن هذا العمل من عدو الله أبي الخطاب، وهو محمد بن مقلاص الكوفي.

فهي تامة الدلالة عن النهي عن هذا العمل، إلا أنها لا تفيد في المقام.

رواية زيد الشحام، قال: سمعت أبا عبد الله× يقول: من أخَّر المغرب حتى تشتبك النجوم من غير علّة فأنا إلى الله منه بريء([25]).

أما من الناحية السندية فالرواية ضعيفة السند؛ بسهل بن زياد، بل إن فيه علي بن إسماعيل بن شعيب، أو علي بن إسماعيل الهيثمي، وهو لم يوثَّق في كتب الرجال، إلا أن الشيخ ترضّى عليه([26]).

وأما من الناحية الدلالية فالإمام يقول: إني بريء من الذي يؤخِّر صلاة المغرب إلى وقت تشابك النجوم من غير علة. وهذا يدل على شدة الكراهية لهذا التأخير من غير سبب.

فدلالتها أيضاً تامة.

رواية ذريح، قال: قلت لأبي عبد الله×: إن أناساً من أصحاب أبي الخطاب يمسون بالمغرب حتى تشتبك النجوم؟ قال أبرأ إلى الله ممَّن فعل ذلك([27]).

أما من الناحية السندية فالرواية صحيحة السند.

وأما من الناحية الدلالية فالإمام يتبرأ من الذي يتعمد تأخير صلاة المغرب إلى وقت ظهور النجوم في السماء؛ إذ قد يراد من ذلك تشريع تأخير الصلاة عن أول وقتها إلى آخر وقتها (أي وقت الفضيلة بقرينة روايات أخرى).

ودلالة هذه الرواية لا تفيدنا في المقام.

رواية القاسم بن سالم، عن أبي عبد الله×، قال: ذُكر أبو الخطاب، فلعنه، ثم قال: إنه لم يكن يحفظ شيئاً حدثته، إن رسول الله’ غابت له الشمس في مكان كذا وكذا، وصلى المغرب بالشجرة، وبينهما ستة أميال، فأخبرته بذلك في السفر، فوضعه في الحضر([28]).

أما من الناحية السندية فالرواية ضعيفة السند؛ بالحسين أو الحسن بن حماد بن عديس([29]). وفيها القاسم بن سالم، وهو لم يوثَّق في كتب الرجال([30]).

وأما من الناحية الدلالية فالإمام بعد لعن محمد بن مقلاص الكوفي ـ أبي الخطاب ـ ذكر أن النبي أخَّر صلاة المغرب في السفر، فشرَّعها هذا المبدع في الحضر، وخالفني وخالف رسول الله. إلا أن هذه الدلالة لا تفيدنا في المقام أيضاً.

ونتيجة هذه الطائفة الأخيرة من الناحية السندية صحة روايتين: (1ـ 4).

وأما من الناحية الدلالية فيوجد رواية دالّة، وهي: (3).

والنتيجة من الناحية السندية والدلالية معاً عدم ثبوت أية رواية تدلّ على أن وقت المغرب يكون بدخول الليل ورؤية النجوم. نعم، في هذه الروايات دلالة على شيء آخر، وهو أن هناك مَنْ حاول مخالفة الرسول والإمام، وتأخير الصلاة لوقت تشابك النجوم ودخول الليل، وهو أبو الخطاب محمد بن مقلاص الكوفي، الذي لعنه الإمام، وتبرأ ممَّنْ يعمل هذا العمل.

والنتيجة عدم ثبوت تحقُّق المغرب بدخول الليل أو تشابك النجوم ورؤيتها.

نتائج المجموعات الحديثية

وخلاصة ما تقدم من نتائج المجموعات الأربعة على المستوى السندي والدلالي معاً هو:

المجموعة الأولى، التي تتحدث عن الغروب بشكل مطلق من دون التفصيل، ثبت فيها من الناحية السندية والدلالية ثلاث روايات.

المجموعة الثانية، التي تتحدث عن اشتراط الحمرة، ثبت فيها من الناحيتين روايتان فقط.

المجموعة الثالثة، التي تتحدث عن سقوط القرص، ثبت فيها من الناحيتين اثنتا عشرة رواية.

المجموعة الرابعة، التي تتحدث عن تحقق الغروب بدخول الليل،لم يثبت فيها على المستوى السندي والدلالي أية رواية على الإطلاق، وما ثبت هو أمور أخرى تمّ الحديث عنها مسبقاً.

وقفات في التحليل العام لمعطيات البحث

وقبل إعطاء نتيجة البحث لابدَّ من الإشارة إلى بعض الملاحظات والاستنتاجات:

1ـ بعد المراجعة التاريخية للمسألة، وتتبع أقوال الفقهاء، وجدت أن المشهور عند القدماء هو القول بأن الغروب الشرعي يتحقَّق بمجرد سقوط القرص.

2ـ لم أجد في أية رواية على الإطلاق أداة نفي لعدم تحقق المغرب بسقوط القرص، أو لعدم تحقق المغرب بغير ذهاب الحمرة. كما أني لم أجد أداة حصر على ذلك أيضاً.

وإن كان مفهوم الروايات، أو مقام التحديد في بعض الأحيان، يفيد ذلك، إلا أنّ ما وجدتُه هو عبارة عن ملاحظة ومؤيد للنظرية الثانية.

3ـ بعد التحقيق والتدقيق السندي والمتني بقي من الروايات التي تتحدث عن أن وقت صلاة المغرب يكون بسقوط القرص ما يطمئن بصدوره عن المعصوم، وهي اثنتا عشرة رواية. وفي الطرف المقابل لم يثبت معي إلا روايتان، وهما عبارة عن: مكاتبة للإمام يدعوه فيها الإمام للاحتياط الاستحبابي. بالإضافة إلى أننا لا نعرف الظروف المحيطة بهذه الرواية؛ ورواية أخرى واردة في الإفاضة من عرفات، وهي لا تصلح إلا كمؤيِّد. ومع هذا كله فهما لا يقفان ولا يعارضان روايات السقوط، التي وصلت حد التواتر، المحصِّل للاطمئنان.

4ـ إمكانية تأييد المجموعة الأولى، التي تحتوي على ثلاث روايات تامة السند والدلالة، للمجموعة الثالثة، بتقريب أن روايات هذه الطائفة في مقام البيان لوقت صلاة المغرب، فلو كان المقصود من المغرب هو معنى أزيد من المعنى اللغوي أو العرفي الذي كان سائداً في ذلك الزمان، وعليه مجموعة من روايات الإمامية الصحيحة السند، لبيَّن الإمام ذلك في أكثر من مناسبة؛ للردع عن المعنى المشهور والمعمول به، وعدمُ بيانه دليلٌ على أنه قصد المعنى الطبيعي، لا الزائد.

5ـ دعم الروايات التي تتحدث عن تحقق الغروب الشرعي بسقوط القرص بكلمات كلّ اللغويين في كل الأزمنة.

6ـ لقد تحدثت عن احتمال التقية سابقاً. وأقول: لا محل له ضمن هذا العدد من الروايات الصحيحة السند، والتي يحكي بعضها سيرة النبي في صلاته عند سقوط القرص. فالتقية من البحوث الغامضة، التي لا بد من التحقيق فيها ومعرفة دائرتها، ولا يصح اقتحام كل مسألة نتصور فيها التعارض بالتقية. فالمسلّم في هذه المسألة أنها علاج موضعي لبعض الاستثناءات التي يتزاحم فيها القتل مع بيان خلاف الواقع. ثم إنه مَنْ قال: إن صلاة وإفطار الإمامي كان مخالفاً لما عليه المسلمون، عند متقدِّميهم؟ وهذا يعرف من مراجعة البحث التاريخي السابق. نعم الذي يخالف هو ما عليه المتأخرون، وقد صار له رواجٌ بعد مرور الأيام، والبحث التاريخي يكشف عن هذا الأمر.

7ـ قد يُتساءل: لماذا لم تكن العلامة موحَّدة عند كل الأئمة في بيان معرفة وقت المغرب؟

السبب في ذلك اختلاف المناطق والموازين العلمية بين الناس. لذلك فإنني أرى أن طريقة ملاحظة ذهاب الحمرة المشرقية هي عبارة عن أسهل طريقة في ذلك الزمن، وتصلح لكل المناطق، ويستطيع العمل بها كل إنسان.

8ـ إن بيان طريقة لمعرفة الغروب الشرعي لا يعني بطلان الطرق الأخرى، التي جاءت بطرق صحيحة عن الأئمة. نعم، لو سلَّمنا بطريقةٍ ما لا بد وأن يكون لها مفهوم، بحيث ينفي طريقة معاينة سقوط القرص، وهذا ما لم يوجد.

9ـ قد يقال: إن الجمع بين أخبار سقوط القرص وذهاب الحمرة يجعلنا نأخذ بسقوط القرص، بتقريب أن من تيسر له مشاهدة ومعاينة سقوط القرص يستطيع أن يصلي بعد السقوط مباشرة، وأما من لم يتيسر له ذلك فعليه الصبر حتى تذهب الحمرة المشرقية، التي تكشف باليقين عن سقوط القرص، وخصوصاً في بعض المناطق الجبلية أو المنخفضات، وبعد ذلك يصلي صلاة المغرب. فيكون العلم بسقوط القرص مباشرة، أو بذهاب الحمرة المشرقية، التي هي عبارة عن علم بسقوط القرص بطريقة غير مباشرة، هو المعيار في دخول وقت صلاة المغرب. ويدعم ذلك ما تبقى من الروايات الواردة في المجموعة الثانية، التي تشترط ذهاب الحمرة.

10ـ قد يقال: إن انتظار ذهاب الحمرة المشرقية هو من باب المقدمة العلمية الواجبة. فنحن عندما نصبر حتى تذهب الحمرة المشرقية نكون قد أحرزنا العلم بدخول صلاة المغرب، مما يؤدي إلى فراغ الذمة من التكليف؟

والجواب: لو سلمنا بهذه المقدمة فهي لا تتحقَّق دائماً. نعم، إذا لم يمكن معرفة سقوط القرص نعمل بهذه المقدمة بشكل مسامحي. وقد يقال: إن لسان بعض الروايات الصحيحة هو النهي عن تحصيل الواقع، والاكتفاء بالظاهر، أو ما يعبر عنه بعدم وجوب الفحص في الشبهة الموضوعية. وهو ينطبق على ما نحن فيه، فتنتفي المقدمة العلمية.

11ـ إن ما ورد في الروايات من النهي عن تأخير صلاة العصر حتى تصفر الشمس وتغيب([31])، وإفتاء بعض العلماء([32]) بعدم جواز تأخير صلاة العصر حتى يسقط القرص، قد يعطي دلالة على أن اصفرار الشمس، أو سقوط القرص، أو غياب الشمس، إنما هو لوقت آخر، والوقت الآخر هو وقت صلاة المغرب. إلا أن ذلك بحاجة إلى قرائن أخرى.

12ـ لا فرق ـ بحسب الاعتبار ـ بين غروب الشمس وطلوعها، فلو كان وجود الحمرة دليلاً على عدم الغروب لكان وجودها دليلاً على طلوعها في الأفق الشرقي أيضاً عند صلاة الصبح، فيلزم عدم جواز صلاة الفجر بعد حصول الحمرة في الأفق الغربي([33]).

13ـ بطلان النظرية الأولى التي تقول: إن الغروب الشرعي لا يتحقق إلا بذهاب الحمرة المشرقية؛ فقد ثبت ـ بالروايات الصحيحة السند والدلالة ـ تحقق الغروب الشرعي قبل ذهاب الحمرة، وثبت أن الحمرة إنما هي علامة التيقن بحصول الغروب، والشارع أو ناقل الشرع عندما اعتمد على ملاحظة ذهاب الحمرة إنما اعتمد على ما يصلح لكل زمان ومكان، هذا إذا لم يذكر طرق أخرى؛ وأما إن ذكر طرقاً أخرى فالمسألة تكون في غاية الوضوح، بالإضافة إلى أن العلم الحديث تطور إلى حدٍّ يمكن معه تحديد سقوط القرص بالساعة والدقيقة والثانية في جميع أنحاء العالم، بلا فرق في ذلك بين المناطق الجبلية أو الساحلية أو السهلية أو المنخفضات، وهذا ما لم يحصل في الزمن الماضي. فلا بد من الاستفادة من كل تطور صحيح، حتى يحافظ الفقه على الحيوية والازدهار؛ لأن الفصل يؤدي إلى تخلُّف الفقه عن مواكبة الحياة عند المسلمين.

14ـ بطلان النظرية الثالثة، وهي التي تقول بأن الغروب الشرعي لا يتحقق بسقوط القرص، ولا بذهاب الحمرة المشرقية من السماء، وإنما بذهاب الحمرة عن الأبنية والأشجار والجبال؛ فإن الروايات لم تُشِرْ إلى هذا مطلقاً، مع وجود الروايات التي تتحدث عن تحقق الغروب بمجرد سقوط القرص، فلو كان ذهاب الحمرة عن هذه الأماكن الأرضية يؤخِّر تحقق الغروب لأشارت إليه هذه الروايات، أو واحدة منها على الأقل. وعدم ذكر ذلك دليل على عدم إرادته، وخصوصاً أن تلك الروايات كانت في مقام البيان. وقد يقال لأصحاب هذه النظرية: ما الفرق بين ذهاب الحمرة عن بعض الأمكنة دون غيرها من الجهات؟ فالحمرة هي عبارة عن الضوء المتبقي من شعاع الشمس، الذي يرتفع تدريجياً من الأماكن الأرضية إلى الأماكن العالية، كالجبال، ثم إلى السماء، ثم ينسحب إلى وسط السماء، ثم إلى ناحية المغرب. فإما أن يكون بقاء هذا الشعاع علامة على عدم المغيب؛ وإما أن لا يكون. فالتفريق من الناحية العلمية غير دقيق.

15ـ لو واجهنا مجموعات الروايات مع بعضها البعض فالذي يفيد هو المجموعات الثلاث الأولى، دون الرابعة. فتكون مجموعة روايات الحمرة (الثانية) مقابل مجموعتي الغروب وسقوط القرص (الأولى والثالثة). وقد كانت العمدة في مجموعة روايات الحمرة روايتين: الأولى احتياطية؛ والأخرى وردت في الإفاضة من عرفات. أما إذا رجعنا إلى مجموعة روايات القرص لوحدها ففيها اثنتا عشرة رواية تامة السند والدلالة معاً، فلا يمكن  لروايتي الحمرة أن تعارض روايات سقوط القرص. أما لو ضممنا مجموعة روايات الغروب إلى مجموعة روايات السقوط فالأمر في غاية الوضوح، ولا يحتاج إلى تعليق.

16ـ يتبين معنا أن لسان الروايات التي ذكرت أو اشترطت ذهاب الحمرة هو لسان الأمارة، التي قد لا يُستغنى عنها في بعض الأمكنة ذات الجغرافيا الجبلية، أو في بعض المنخفضات ـ وخصوصاً في الزمان الذي صدرت فيه هذه الروايات ـ، بينما قد لا نحتاج إلى مثل هذه العلامة في الأماكن الاخرى، وفي هذا الزمان.

وبذلك نفهم عدم ذكرها في أكثر الروايات، والاكتفاء بذكرها في البعض، مع أن الحاجة إلى هذه العلامة في ذلك الزمان أكثر بكثير من فترة المتأخِّرين، التي سادها التطور وازدهار العلم.

والذي يراجع كلمات الفقهاء يرى أن ذهاب الحمرة لم تكن أكثر من علامة، إلا أن الذي جعلها شرطاً في تحقيق الغروب هو مشهور المتأخرين. أما مع مراجعة المسألة، واكتشاف أن مشهور المتقدِّمين كان على العكس تماماً، من خلال القول بتحقق الغروب عند سقوط القرص، فإن هذا سوف يؤدي إلى إبعاد مشهور المتأخِّرين، حتى عند من يقول بحجيته.

 نتيجة البحث

بعد كلّ ما تقدم، من بيان المعنى اللغوي لكلمة الغروب، وقد تبين أن اللغويين قد أجمعوا في كل عصورهم على أن الغروب هو عبارة عن خفاء القرص وسقوطه.

وبعد العرض التاريخي للمسألة، والذي تبين فيه أن القول بسقوط القرص ليس شاذّاً، بل عليه مجموعة من الفقهاء، بحيث يمكن جعله قولاً مشهوراً.

وبعد ملاحظة كل الروايات سنداً ودلالة، وتقسيمها إلى عدة مجموعات، وقد تبين أن هناك مجموعة من الروايات لا يمكن غض النظر عنها بأي شكل من الأشكال، وهي خارجة عن احتمال التقية، بل ويطمأن بصدورها عن المعصومين سلام الله عليهم أجمعين.

ومع ما تقدم من ستة عشر استنتاجاً، يتبين أن الغروب الشرعي والغروب الكوني هما غروبٌ واحدٌ، وأن أول الغروب يتحقق بسقوط القرص وخفائه. ومعنى ذلك أن النظرية الثانية، الأقلّ شهرة بين المتأخِّرين، والأكثر شهرة بين المتقدِّمين، هي الصحيحة.

الهوامشٍ

(*) كاتب في الحوزة العلمية، من لبنان.

([1]) وسائل الشيعة 4: 177، الباب 16 من أبواب المواقيت، الحديث 15ـ

([2]) الكاشاني، الوافي 7: 270.

([3]) وسائل الشيعة 4: 178، الباب 16 من أبواب المواقيت، الحديث 16.

([4]) وسائل الشيعة 4: 178، الباب 16 من أبواب المواقيت، الحديث 17.

([5]) وسائل الشيعة 4: 179، الباب 16 من أبواب المواقيت، الحديث 18.

([6]) وسائل الشيعة 4: 179، الباب 16 من أبواب المواقيت، الحديث 20.

([7]) معجم رجال الحديث 14: 116.

([8]) أمالي الصدوق: 679، الحديث 15.

([9]) وسائل الشيعة 4: 181، الباب 16 من أبواب المواقيت، الحديث 25.

([10]) وسائل الشيعة 4: 183، الباب 16 من أبواب المواقيت، الحديث 30.

([11]) جامع أحاديث الشيعة 20: 37 ـ 39.

([12]) وسائل الشيعة 4: 190، الباب 18 من أبواب المواقيت، الحديث 18.

([13]) وسائل الشيعة 4: 193، الباب 18 من أبواب المواقيت، الحديث 24.

([14]) وسائل الشيعة 4: 199 ـ 200، الباب 21 من أبواب المواقيت، الحديث 1.

([15]) وسائل الشيعة 4: 205، الباب 23 من أبواب المواقيت، الحديث 3.

([16]) وسائل الشيعة 4: 188، الباب 18 من أبواب المواقيت، الحديث 5.

([17]) وسائل الشيعة 4: 182، الباب 16 من أبواب المواقيت، الحديث 27.

([18]) وسائل الشيعة 4: 198، الباب 20 من أبواب المواقيت، الحديث 1.

([19]) رجال الكشي: 536.

([20]) وسائل الشيعة 4: 198، الباب 20 من أبواب المواقيت، الحديث 2.

([21]) وسائل الشيعة 4: 189، الباب 18 من أبواب المواقيت، الحديث 10.

([22]) وسائل الشيعة 4: 205 ـ 206، الباب 26 من أبواب المواقيت، الحديث 1.

([23]) راجع: مناهج الأخبار في شرح الاستبصار 1: 354 ـ 355.

([24]) وسائل الشيعة 4: 188، الباب 18 من أبواب المواقيت، الحديث 7.

([25]) وسائل الشيعة 4: 189، الباب 18 من أبواب المواقيت، الحديث 8.

([26]) معجم رجال الحديث 12: 299ـ300.

([27]) وسائل الشيعة 4: 189، الباب 18 من أبواب المواقيت، الحديث 12.

([28]) وسائل الشيعة 4: 191، الباب 18 من أبواب المواقيت، الحديث 17.

([29]) معجم رجال الحديث 5: 302.

([30]) معجم رجال الحديث 15: 23.

([31]) وسائل الشيعة: 4: 152ـ 155، الباب 9 من أبواب المواقيت، الحديث 1.

([32]) العروة الوثقى 2: 16.

([33]) الحاشية على مدارك الأحكام 2: 305.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً