أحدث المقالات

حيدر حب الله[1]

المقدس والدين مفهومان مترابطان تاريخياً؛ فدائماً نجد الدين ممزوجاً ببعض المقدّسات، كما نجد المقدّس تضفى عليه مقولاتٌ دينية، ولعلّك لا تجد ديناً لا مقدّس فيه، وقد ظلّ هذا التصاحب بين الدين والمقدّس قوياً حاضراً، حتى كاد لا يتصوّر الدين بلا مقدّس، وسنحاول هنا أخذ موقع نطلّ منه على هذا الموضوع باختصار شديد.

1 ـ ما هو مفهوم المقدّس؟

إذا أردنا أن نعرّف مقولة mالمقدّسn التي نعنيها هنا، نجدها تحمل أحد مدلولين، وربما حملت مداليل أخرى أيضاً، وهذان المدلولان هما:

الأول: العصيان على الفهم، فالأمر المقدّس أو القدسي هو الأمر الذي لا نفهمه ولا نعيه وعياً عقلانياً في بُنيته الداخلية، وإن كان أصل وجوده قد ثبت لدينا بدليل عقلي وطبق تصوّرات عقلانية، فمثلاً mاللهn أمرٌ مقدّس، بمعنى أننا لا نفهمه ولا ندرك ذاته ولا كُنهه، نعم نحن استطعنا أن نتعقّل مبدأ وجوده عبر معطيات عقلانية، سيقت على نهج البراهين الفلسفية أو الكلامية أو.. هذا اللون من الأشياء تسمّى مقدّسات في الوعي الديني، ومن الطبيعي أنه ليس كل شيء لا نفهمه هو مقدّس، بل من أبرز ميزات المقدّس أو الأوصاف التي تلتصق كثيراً به هو وصف التعالي عن الفهم، وإلاّ فقد نعرف أنّ الشمس موجودة لكننا لا ندرك تكوينها وعناصرها و.. لكنّ هذا لا يصيّرها ـ لوحده ـ مقدّسةً؛ لأنّ معرفتنا هنا لا تجعل وعيها أمراً صعباً، أقرب إلى المستحيل.

الثاني: التعالي عن النقد، ومعنى ذلك أنّ المقدّس في الدائرة الدينية لا يمكن نقده أو إبطال معطياته، سواء استطعنا وعيها لكنها لم تقنعنا، أو أننا لم نعيها وندركها إدراكاً عقلانياً من الأول، فإذا قال النبي – ـ مثلاً ـ : عليكم إقامة الصلاة خمس مرات في اليوم، فهذا أمرٌ قد لا نعي مبرراته، ولا نفهم طبيعته، ولهذا لا مجال للحديث عن قناعتنا بصوابية هذا الوجوب والإلزام أو عدمها؛ لأن المفروض أن المعطيات التي برّرت هذا الوجوب لم تتضح لنا بعدُ، كي نحكم عليها بأنها صائبة أو غير صائبة، وعلى الخط عينه، أن يخبرنا النبي بأنه رأى العرش، ولا نعي نحن ما هو العرش وعياً عقلانياً، ففي هذه الحالات علينا التصديق والتسليم >وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً<، هذا ما يجعل النبي مقدّساً في الدين، أي أنّه يتعالى ـ في قوله وسلوكه ـ عن النقد؛ فلا يمكننا نقده حتى لو لم نقتنع قناعةً عقلانية بما يقول، بل قناعتنا تنبع من كونه مقدّساً، ولولا ذلك لما اقتنعنا.

هذه أبرز الصفات التي تلاصق ـ عادةً ـ المقدّس في دائرة الدين.

2 ـ من هنا، يمتاز مفهوم المقدّس عن مفهوم المحتَرَم؛ فإن الاحترام غير التقديس؛ إذ بإمكانه دوماً أن يجامع إمكانية النقد وقدرة الفهم، فأيّ دعوة لإدخال مقولٍ ما في دائرة المقدّس، لا تعني فقط الدعوة إلى احترامه، بل تتخطّى ذلك إلى أمور زائدة وإضافية.

وهذا خطأ كثيراً ما يحصل، فيتصوّر الذي يريد أن نحترم شخصاً ما أنّ إعلانه مقدّساً دينياً معناه الدعوة لاحترامه، مع أن هذا الإعلان ينطوي على ما هو أزيد، كما أن من يلغي أو يدعو إلى إلغاء قداسةٍ ما، قد يُتصوّر كلامُه دعوةً إلى إسقاط الحرمة والاحترام، وإلى هتك الأمور وتسّيبها، وكلاهما خاطئ، فالدعوة إلى إسقاط قداسة شيء ما لا تعني سوى جعله في دائرة النقد من جهة، وفي إطار الوعي العقلاني، بحيث يخضع للعقلانية البشرية لتحكم عليه سلباً أو إيجاباً، هنا أو هناك، وفقاً لما تراه من أسس علمية صحيحة، من جهة أخرى.

3 ـ والذي يحصل في الحياة الدينية هو توسعة المقدّس وتعميم القداسة على أشياء أو مفاهيم أو أفراد أو.. ليست في الدين مقدّسةً، أو قد نختلف في قدسيّتها فيه أو في غيره، وسأقدّم نماذج لعملية تعميم التقديس، سواء في الوسط الديني المحافظ أو في الوسط الحداثي المعاصر.

يعمّم الوسط الديني المحافظ مفهومَ القداسة أحياناً إلى أشخاص ليسوا مقدّسين أو يجعلهم مقدّسين حكماً وإن لم يكونوا مقدّسين حقيقةً عنده، فمثلاً علماء الدين القدامى أو مراجع الدين، ينظر بعض الناس إليهم بوصفهم مقدّسين يتعالون عن النقد، مع أنّه لا دليل ـ حتى ديني ـ يؤكّد ذلك فيهم، فإن الأدلةّ التي دلّت على لزوم التقليد، لا تعطي سوى رجوع الجاهل في شيء إلى العالم به، ولا يعني ذلك أنه لا إمكانية لنقد الجاهل للعالم أو لفهمه بقطع النظر عن الصواب والخطأ، وأحياناً يحصل أن لا يُجعل هؤلاء مقدّسون أبداً، وإنما تكون هناك عملية ربط بينهم وبين مصالح الدين العليا، مما يعقّد من ممارسة حقّ النقد في حقهم، فمثلاً قد يُقال لك: لا مانع من نقد هذا العالم الكبير الفلاني، لكنك إذا كتبت مقالةً في صحيفة وعنوانها: mنقد تجربة المرجع…n جرى تصوير ذلك في غير صلاح حال الدين، فيمنع هذا الأمر لهذا السبب، وهذا وإن لم يكن تقديساً حقيقياً، لكنه من الناحية العملية درجةٌ من التقديس الذي يعقّد أيّ حركة نقدية، مع أنّ النقد علمي وهادئ وأمين.

هذا هو التقديس العملي أو التقديس الحُكمي غير الحقيقي، وأمثلته قد لا تعدّ ولا تحصى، إنّ هذا الربط بين كتابٍ ما وبين الدين، أو بين شخص ما وبين الدين، أو بين جهةٍ ما وبين الدين، قد يثقل كاهل الدين ويعقّد آليات التعامل مع هذا الكتاب أو الشخص أو الجهة، لقد تصوّر كثيرٌ من أهل السنّة أن نقد صحيح البخاري سيؤدي إلى هدم الدين، فكانوا يمنعون ذلك ـ ولو منعاً اجتماعياً ـ فتحوّل هذا الكتاب إلى مقدّس عملي يصعب نقده والتعاطي العقلاني معه، وليس هو سوى كتاب لشخص كانت له قناعاته، وربما اعتمد مناهج في التعاطي مع الروايات لم نعد نؤمن بها اليوم، وهكذا الحال في بعض الأوساط الشيعية المحدودة مع مثل كتاب mبحار الأنوارn للمجلسي.

ويبلغ الأمر أن يفهم احتمالك لأمرٍ سلبي في هذا العالم أو ذاك إهانةً له، فعندما تقول: لعلّ بعض المرجعيات الدينية تصدر فتاوى تكفيرية لتحمي نفسها من النقد،
فإنّ هذا يعدّ إهانةً حتى لو كان بصيغة لعلّ، وكان موجّهاً للبعض الذي هو مهملٌ
في الجملة، مع أنه لا يُقصد بهذه الجملة إطلاقاً أيّ إهانةٍ أو تجريح لمراجع الدين، والعياذ بالله.

أكثر من ذلك، عندما يطلّ الإنسان في حركة رصد مواقف العلماء، على مواقفهم من بعضهم، ونقدهم اللاذع لبعضهم البعض، ثم يريد أن يجعل ذلك منطلقاً لعدم غرابة النقد، فهو متداول في أوساط العلماء، بل قد يكون قاسياً جداً أحياناً، نجد أن هناك تصويراً يقول: هؤلاء علماء فيحقّ لهم أن يقولوا ما قالوا، وهم أدرى وأعرف، لكن لا يصحّ جعلها سيرةً وسنّة بيد الناس، وهذا هو عينه أحد أبعاد التقديس، أي إنّ هؤلاء يحقّ لهم ونحن لا ندري، على طريقة: قتل سيدنا يزيد سيدنا الحسين بن علي.

هذه النماذج التي نعتقد أنها خاطئة، لا تضمن سلامة وضع المؤسّسة الدينية، إنما الذي يضمنها أن تعتاد المؤسّسة المذكورة على حياة النقد، وتعمل ضمن مناخه، ففي حياتنا رأينا حركات إسلامية اعتبرت نهاية الدين في وجود حريّة نقد الدين في المجتمع، لكننا رأينا أيضاً حركات إسلامية فاعلة جداً نمت وترعرعت وتأقلمت ونجحت وانتصرت وبهرت العالم في مناخ تعدّدي نقدي لا توجد فيه مثل هذه الأمور، وفي ظل مجتمع منفتح، فهي النفسُ ما عوّدتها تتعود.

ومن الطبيعي أنّه لا يُقصد أن تصبح الشخصيات الدينية أو الكتب ألعوبةً بيد هذه الجماعة أو تلك من عامة الناس، يتطاولون عليها ساعة يحلو لهم وفي أيّ وقت يحبّون، بل المقصود هو النقد الأخلاقي والهادئ والأمين والمفتوح، ليس في الغرف المغلقة ولا في الجلسات الخاصّة فحسب.

أما على صعيد مقدّسات الفريق الحداثي، فهو الآخر يجعل رجالاته عباقرة الكون وآلهة الفكر، وكلّ الناس سرابٌ وهراء، حتى لو أردت نقدها لم تجد سوى اللوم أو الاستهزاء أو السخرية، كذلك نجد أن بعض مقولات هذا الفكر صار من المحرّم اللامفكّر فيه، بحيث لا يمكن للإنسان أن يناقش فيها، وكأنه يريد إعادة الفكر إلى عصور التخلّف.

وإذا كان الفكر التراثي يربط بين الأشخاص والدين، فإن الفكر الحداثي يربط بين أشخاصه ومقولاته وبين التقدّم والعقل والوعي والإنسانية، فإذا عارضت أو انتقدت تلك الأفكار فأنت ضدّ العقل، وضدّ الإنسانية، وأنت تدعو للتخلّف، هذا هو الحَجْر الثقافي والاجتماعي، كلٌّ بلغته، وكلٌّ على طريقته.

وإذا رغبت في نقد مفكّر من مفكّري هذا الطرف بدأت عملية التهويل، وأنّ ذلك يحتاج لعُدد معرفية هائلة، في محاولة للترويع النفسي، دون أن نبخس المعرفة هنا أو هناك حقّها وضروراتها ورجالها.

4 ـ لكن مع ذلك كلّه، يجب أن لا ننسى أنّ وجود المقدّس في الحياة من دواعي الطمأنينة، وله حاجته التربوية، وقد أشرنا في موضعٍ آخر إلى مدى ضرورة وجود المقدّس، لكنه المقدّس الذي أوصلتنا المعطيات العلمية إليه، لا المقدّس الذي لا يوجد عليه سوى استنسابات أو استمزاجات فحسب، إلى أيّ جهةٍ انتمى.

من هنا، وبعيداً عن الصراع السياسي والصدام الحالي القائم بين الغرب والشرق، نلاحظ أن بعض المسلمين صار حسّاساً من النقد على مقدّساته في الغرب، بحيث أوجب ذلك إرباكاً أو بات يخلق أحياناً أزمةً في علاقات الغرب والشرق، نعم، إهانة المقدّسات وهتك حرمتها لابدّ أن يكون مبدأ محظوراً، وقد سعى بعض المسلمين ـ مشكوراً ـ لإقرار ذلك مبدأ في العلاقات الدولية يُلزم دول العالم، ونحن لا تغيب عنّا صورة الغرب المتهكّم بمقدّسات الآخرين التي لا تلتقي مع مصالحه، نعم مقدّسات اليهود التي تلتقي مع مصالحه تصبح مقدّساً عالمياً، حتى لو كانت قضيةً تاريخية بسيطة مثل قضية المحرقة، والتي لا تمثل مقدّساً حتى في الديانة اليهودية نفسها..

لكن مع ذلك كلّه، يجب أن لا يتعاطى المسلمون بسلبية مع نقد الآخر للإسلام، فليس كل نقد نصوّره إهانةً ونزهق أنفسنا في التعامل معها، فهذا النقد كان ولا يزال موجوداً في الغرب منذ ظهور الإسلام، وإذا أردنا أن نقف عند كلّ نقد ونصوّره إهانةً أو نصوّر بعض الانتقادات إهانةً، لبقيت حياتنا في إطار هذا الصخب، ألسنا في كتاباتنا ـ نحن المسلمين ـ نكتب بما لو كنّا مكان الآخرين لاعتبروها إهانة؟ فالمفروض ضبط هذه المفاهيم حتى لا تذهب يميناً وشمالاً، فتمنع الحريات الفكرية من جهة، أو تهان المقدّسات وتخدش المشاعر من جهة أخرى.

وفي السياق نفسه، وإن بشكل مخفّف، اعتبارنا في بعض الأحيان كل ما يقوله الآخر نقداً على بعض المفاهيم التي نحملها أنه مؤامرة، وأنه نابع عن خبث وجهالة وحقد و… إن إدخال البحث العلمي في هذه السياقات يفقده قدرة الفهم الصحيح، ويعيقه عن اكتشاف خطئه في مرآة غيره، لقد ظلّت هذه حالنا في التعامل مع المستشرقين الغربيين والشرقيين، فحجبنا عن أنفسنا بعض ملامح الحقّ عندما أغمضنا أعيننا عن سماع الآخر، يجب أن لا يصدق في حقنا ـ بعد التجريد التام للآية عن موردها ـ قول الله تعالى: >وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً< (نوح : 7)، فوضع الأصابع في الآذان صورة حسية لمفهوم الحجب، أي حجب الذات عن سماع الآخر، وهي صورة قد تتعالى لتأخذ أشكالاً مجرّدة عندما نضع في العقل مفاهيم تجعل السماع التكويني كأنه لا شيء.

لا يشك أحد في وجود منطق للمؤامرة والحقد و.. عند الآخر لكن:

أولاً: هل هناك قاعدة عامة في هذا المجال؟ وما هو دليلنا على هذه القاعدة العامة؟ ألسنا مخاطبين في القرآن الكريم بقوله تعالى: >وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى< (المائدة : 8)، فإذا كان هذا هو المنطق القرآني، إذاً هل هناك قاعدة تسامح في التجنّي على الآخرين دوماً، كما هي الثقافة شبه المهيمنة في وسطنا الديني؟! إن العدالة هي المعيار ليس في تعاملنا مع المسلمين فحسب، بل في تعاملنا مع غيرهم أيضاً، فقد وصف الله المؤمنين بالأشداء على الكفار لكنه لم يصفهم بظالميهم، وهذه نقطة جديرة بالملاحظة حتى لا نأخذ من حماية المقدسات شعاراً لممارسة الظلم حتى على الكافرين.

ثانياً: حتى لو كان هدف الآخر أو دافعه هو الحقد والضغينة، هل الصحيح أن نستخدم معه المنطق نفسه الذي نحاسبه عليه؟! إن المهم هو قيمة الفكر ـ وكلامنا هنا في ساحة الفكر والثقافة والمعرفة ـ ودرجة معطياته، سواء كان ضعيفاً أو قوياً، ونحاكم المعرفة ـ ولو كانت ذات شكل معرفي ـ بمعرفة مقابلة ذات أدوات معرفية بكل ما تحمل المعرفة من قيم أخلاقية.

أعتقد أنه بهذا السبيل نرقى بمعرفتنا وعلمنا ومؤسّساتنا الفكرية والدينية إلى شكل أكثر حضاريةً وأقلّ مأساويةً ممّا نشهده اليوم، إن شاء الله تعالى.

 

>وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً<.

]لقمان: 63[.

 _____________________

[1] – نشر هذا البحث في العدد الثامن من مجلة نصوص معاصرة، خريف 2006م

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً