أحدث المقالات

ترجمة: صفاء الدين الخزرجي

 

النراقي، السيرة العلمية ــــــــــ

في قرية نائية من قرى مدينة كاشان، ولد الشيخ أحمد النراقي سنة (1185هـ)، وتكفّل نشأته العلمية أولاً والده الملا مهدي النراقي ــ وكان من كبار العلماء وفحول الفقهاء ــ فقضى وطراً من دراسته على يد والده الماجد وردحاً آخر منها على يد علماء العراق، وقد تركت منهجية الوالد في البحث والتأليف بصماتها واضحةً على مؤلّفات الابن وطريقته في البحث والكتابة.

في المقابل، ساعدت الجهود العلمية التي بذلها النراقي الابن على انكشاف البعد العلمي بصورة أفضل وأنصع في النتاج العلمي للنراقي الأب.

وقد برع الشيخ أحمد النراقي مضافاً إلى علمي الفقه والأصول، وعلم الأخلاق، وسائر العلوم العقلية والنقلية، في مجالات عديدة أخرى كالشعر مثلاً، فهو شاعر مبدع، وكان يتخلّص في أشعاره بـ((الصفائي)).

وأمّا أساتذته فيأتي في طليعتهم الشيخ كاشف الغطاء والشيخ الأعظم الأنصاري، أمّا مؤلفاته وتصانيفه فكثيرة، وهي كالتالي([1]):

1 ــ شرح تجريد الأصول. 2 ــ مناهج الأحكام في الأصول. 3 ــ عين الاُصول. 4 ــ أساس الأحكام في الأصول. 5 ــ مفتاح الأحكام في الأصول.
6 ــ معراج السعادة. 7 ــ تذكرة الأحباب. 8 ــ خلاصة المسائل. 9 ــ شرح محصّل الهيئة. 10 ــ مستند الشيعة في الأحكام الشرعية. 11 ــ الخزائن. 12 ــ عوائد الأيام. 13 ــ سيف الاُمّة وبرهان الملّة. 14 ــ مثنوي طاقديس. 15 ــ وسيلة النجاة.

لقد اتّصفت شخصية النراقي ــ على لسان مترجميه ــ بالموسوعية والجامعية، سيما في الأصول والفقه والأخلاق والرياضيات والسياسة. أمّا الشعر باللغة الفارسية فقد كان في الصدارة من بين شعراء عصره.

وقد تميّز الفاضل النراقي عن باقي أقرانه بقلّة تلمّذه وحضوره في دروس العلماء، وإنما استقى أكثر علومه من بطون الكتب لا من محضر العلماء والأساتذة([2]).

وافته المنية ــ متأثّراً بالوباء ــ عام (1245 هـ)، ووري جثمانه الثرى في النجف الأشرف.

تكوّن الفكر السياسي للنراقي ــــــــــ

يعتبر النراقي أوّل فقيه يتعرّض للبحث في ولاية الفقهاء، كما يعتبر كتابه ((عوائد الأيام)) أوّل كتاب فقهي يتعرّض بالبحث لهذه المسألة بشكل مستقل ومنهجي. وقد خصّص العائدة الـ(54) من كتابه لبحث هذه المسألة. ويواجهنا ــ قبل التطرّق لنظريته في ولاية الفقيه ــ سؤالان ضروريان:

السؤال الأول: عن دوافع النراقي في بحثه لهذه المسألة؟

والسؤال الثاني: كيف توصّل النراقي إلى نظريته في إثبات الولاية للفقيه؟

والإجابة على السؤال الأول تبدو واضحة، فقد أشرنا في بدايات البحث إلى أن النراقي كان يعيش ــ من جهة تأريخية ــ أزمة سياسية دينية ضاغطة، ونضيف الآن بأن الظروف الاجتماعية الخاصّة تفرز أفكاراً ورؤىً خاصة أيضاً.

وبالرغم من تعرّض الفقهاء السابقين لمسألة ولاية الفقيه ــ حتى أنّ النراقي ادّعى الإجماع على ذلك ــ إلاّ أنّ المسألة لم تكن لتجد مجالاً أو ضرورةً لطرحها، باستثناء فترة الحكم الصفوي، حيث تمتّع الفقهاء آنذاك بصلاحياتهم التقليدية في الحكم، بينما مثّلت البرهة التي عاشها النراقي أزمة التنظير لشرعيّة الحكم السياسي.

ولانقصد بالعلاقة بين الفكر والبرهة التأريخية الرضوخ للحتمية التأريخية والوقوع في فخّ أصالة التأريخ، فالقبول بالعامل التأريخي لا يعني القبول بالحتمية التاريخية بالضرورة، بل يعني النظر من زاوية فكرية تميّز بين المراحل والفترات الزمانية المختلفة.

وفي الحقيقة فإنّا قد أعرضنا عن منهجين فلسفيين:

المنهج الأول: المنهج التأريخي، الذي يعتبر الفكر أمراً عرضياً وإفرازاً للوقائع التأريخية، ويرفض هذا المنهج استقلالية الفكر عن الوقائع والأحداث المحيطة به.

المنهج الثاني: المنهج غير التأريخي، أي المنهج الرافض للعامل التأريخي وسيطرته علىالفكر، فالفكر حسب هذا المنهج ظاهرة مستقلة عن العامل التأريخي، بل إنّه ينكر تأثّره بالوقائع والحوادث التي تتزامن مع الحقبة التي يعيشها المفكر. ومن الواضح التمايز الموجود بين هذين المنهجين في قيمة العلم وشأنه.

وفي الوقت الذي لا يجوز فيه الحطّ من قيمة العلم إلى الحدّ الذي نعتبره أمراً عرضياً غير قائم بنفسه، لا ننكر تأثير العامل التأريخي على الفكر، فكل مفكّر يضطرّ بالضرورة إلى التفكير في الحقبة التي يعاصرها وجميع لوازمها وما يرتبط بها. وفي الوقت عينه يمكن أن يكون ارتباطه سلبياً أو إيجابياً بالمرحلة التأريخية التي يعاصرها؛ وذلك لأنّ الفكر أمر يتّصف بالأصالة، ولذا لا يمكن ــ من الناحية المنطقية ــ أن يكون العامل التأريخي مبيّناً له؛ وعلى ذلك فإنّ دراسة تأريخ الفكر السياسي لمّا كانت تعنى بتحليل البحوث السياسية ــ من دون الاقتصار على توصيف الأثر التأريخي للفكر فقط ــ تأخذ بنظر الاعتبار نسبة الفكر إلى المرحلة التأريخية التي يعاصرها([3]).

كيف أنتج النراقي نظرية سلطة الفقيه؟ ــــــــــ

أمّا السؤال عن كيفية توصّل النراقي إلى نظرية ولاية الفقيه المطلقة، فإنّ ثمة صعوبات قد تواجه الباحث في تحديد الجواب على ذلك، ومع هذا يمكن الإجابة بعدّة أجوبة أولية:

1 ــ سلطة الفقيه نتاج الشخصية العلمية للنراقي ــــــــــ

الجواب الأول: ويرتكز هذا الجواب علىالجانب العلمي في شخصية النراقي، وذلك باعتباره فقيهاً توصّل من خلال البحث العلمي إلى استنتاج مثل هذا الرأي.

ويرى أصحاب هذا الرأي أنّ التضارب الحاصل في آراء النراقي والتي تستشفّ من مؤلّفاته حول هذا الموضوع، إنّما هو ناشئ من طريقته في طرح آرائه في مؤلّفاته التي يخاطب في كل واحد منها مستوىً معين من المخاطبين، فتجده مثلاً في كتاب معراج السعادة، والخزائن، وطاقديس التي كتبها لعامّة الناس يمتدح فتح علي شاه سلطان إيران آنذاك ويعتبره ملكاً عادلاً، ولكنه ــ وبشكل تلقائي ــ ينتهج نهجاً آخر في مثل كتابه العوائد، الذي كتبه لأهل البحث والنظر في العلوم الدينية؛ لأنه كتب البحث بوصفه الفقيه الذي يريد تحديد موقف المذهب الشيعي من هذه المسألة، بطريقته الفقهية الخاصّة التي تمكّن الآخر من الاطلاع على رأيه في نظرية الحكم باعتباره أحد فقهاء المذهب الإمامي([4]).

ويلاحظ على هذا الرأي أنّ كتابي معراج السعادة وطاقديس لم يكتبا لعامّة الناس، وسيأتي أنّ كتابه في الأخلاق ألّفه في تربية النفس، لجهة استفادة السلطان منه قبل أي أمر آخر، كما أن محتوى هذين الكتابين: معراج السعادة وطاقديس يدلّ بوضوح على المستوى الفكري المتميّز لهما، فلا يمكن تأطيرهما بحدود النصيحة والموعظة، فالاختلاف في النتائج لا في منهج الاستدلال، بل في المباني وهي متقدّمة رتبةً على الاستدلال، وتكون النتيجة تابعة لها([5]). وممّا يدعم ماذكرناه المقارنة بين القاعدتين العقليّتين اللتين طرحهما النراقي في ولاية الفقيه، وما طرحه معاصروه في ذلك كالمير فتاح المراغي في كتاب عناوين الأصول.

2 ــ دور الفكر الكلامي في إنتاج نظرية سلطة الفقيه ــــــــــ

الجواب الثاني: إنّ منشأ نظرية ولاية الفقيه المطلقة ربما يكمن في الفكر الكلامي عند النراقي، وعلى ضوء ذلك تكون طاعة الفقهاء بمنـزلة طاعة الإمام المعصوم؛ إذ المهمّ في عصر الغيبة البحث عن معرفة الحجّة وتشخيصه، فالأصل إذاً معرفة من هو الحجّة، ثم تثبيت جميع صلاحيات الإمام المعصوم C له.

إلاّ أن الإمعان في استدلالات النراقي وسياقاتها لا يؤيّد الفهم المذكور؛ إذ لم ينطلق من زاوية التفكير الكلامي حتى في مسألة التقليد والاجتهاد في كتابه المناهج، بل نهج فيها منهجاً مغايراً للمنهج الكلامي عندما جعل ذلك من باب رجوع الجاهل إلى العالم([6]). وقد ذهب إلى ذلك أيضاً في كتابه العوائد([7])، وبشكل عام، يرتكن النراقي إلى قاعدة رجوع الجاهل إلى العالم في كلّ مسألة يتجاذب طرفي العلاقة فيها المجتهد والمقلّد.

3 ــ ثلاثية اليوناني ــ الإشراقي ــ الديني ونظرية ولاية الفقيه ــــــــــ

وأما الجواب الثالث: فيضع هذه النظرية في إطار فكري خاص، يتشكّل من ثنائية يلتقي فيها الفكر اليوناني مع الفكر الديني، مع تزوّده برصيد غني من الإدراك الإشراقي. فالذي نقوله هو: إمكانية تحليل نظرية ولاية الفقيه عند النراقي وفق هذا المنظار الفكري الذي سوف تتكشف من خلاله العلاقة بين نظريته في ولاية الفقيه وبين آرائه وأفكاره في سائر مؤلّفاته، كما سنلاحظ ــ لاحقاً ــ قيمة العلم ودوره في مثل هذا المنظار السياسي، ومن ثمّ نخلص إلى سيادة العلم المطلقة.

لقد انتهل الفاضل النراقي معظم علومه من معين والده المولى مهدي النراقي، حيث كان فيلسوفاً كبيراً وحكيماً متبحّراً، تلمّذ مدّة ثلاثين عاماً على الحكيم الخواجوئي([8]) (1173 هـ ق) الذي يُعد من مشاهير القرن الثاني عشر الهجري في العلم والفلسفة. فكان المولى مهدي النراقي من أبرز تلامذته، كما يعدّ في زمرة حكماء الشيعة([9]).

وعلى أية حال، تأثّر النراقي الابن بالمسلك العلمي لوالده، فكان يقتفي أثره في أكثر آرائه ونظرياته، كما تشابه مؤلّفاتُه مؤلّفاتَ والده، حيث إنّ كلاً منهما يستمدّ أصوله من الفكر اليوناني.

ولكن ما هو المراد من المنظومة الفكرية وكذا المنظومة الفكرية السياسية؟ ومن أي شيء تتوالف وتلتئم؟ ونجيب على نحو الإجمال بأن المتخصّصين في الفكر السياسي يشترطون في المنظومة الفكرية في الفكر الساسي عناصر وأجزاء هي:

1 ــ الطبع البشري. 2 ــ كيفية تكوين المجتمع وضرورته. 3 ــ كيفية ظهور الدولة وضرورتها. 4 ــ الوظائف الخاصّة بالدولة. 5 ــ العلاقة بين الدولة والمجتمع والفرد. 6 ــ نطاق حقوق المجتمع والدولة.

هذا ومن أجل تكوين صورة عن المنظومة الفكرية في مؤلّفات الفقيه النراقي والتقاط نظرة عامّة عن نظريته السياسية، لا بد من البحث والتأكّد أولاً من توفّر العناصر المشار إليها سلفاً.

أمّا مصادرنا في هذا الاستقصاء فهي: 1 ــ مناهج الأحكام في الأصول، ألّفه سنة 1224 هـ.ق. 2 ــ مستند الشيعة في الأحكام الشرعية، ألّفه سنة 1236 هـ.ق. 3 ــ عوائد الأيام، ألّفه سنة 1245 هـ.ق. 4 ــ معراج السعادة، ألّفه سنة 1245 هـ.ق. 5 ــ الخزائن، ألّفه سنة 1245 هـ.ق. 6 ــ طاقديس، ألّفه سنة 1245 هـ.ق. 7 ــ سيف الاُمّة وبرهان الملّة، ألّفه سنة 1233 هـ.ق.

1 ــ الطبع البشري ــــــــــ

يستقي النراقي رأيه حول الطبع البشري من نظرياته وأفكاره في علم الأخلاق، ويعتبر ((معراج السعادة)) أهمّ كتاب ألّفه في هذا العلم، وقد تضمّنت بعض بحوثه ترجمةً لمقاطع من كتاب جامع السعادات لوالده المولى مهدي النراقي. ويتطابق هذان الكتابان بشكل ملفت مع الفكر اليوناني، سيما عند أفلاطون وأرسطو، مع فارق أنّهما ــ النراقيان ــ يستقيان ما يؤيّدهما من الفكر الديني، علاوة على ما يتّصف به الفكر الأفلاطوني والأرسطي من الاعتدال.

إنّ ثمة ترابط خاص بين الأخلاق والسياسة في التعاليم اليونانية، وبالرغم من عدم طرح المسائل السياسية في إيران وخاصة عند النراقيين، إلاّ أنّنا نجد في هذا الكتاب مزجاً بين السياسة والأخلاق بشكل لا يكاد يفصل القارئ معه بينهما، ومن هنا، يمكن عدّه أحد مصادر الفكر السياسي عند الفاضل النراقي.

ويشبه النراقي في هذا المجال كلاًّ من أفلاطون وأرسطو، حيث يتعرّض في البدء إلى تحليل الطبيعة البشرية، ولا يحدّها بحدود العامل الواحد، فالإنسان ليس شرّاً مطلقاً ولا خيراً مطلقاً، بل هو موجود مركّب من الروح والبدن، تتجاذبه نزعات وميول ينبغي عليه أن يعتدل في الاستجابة لها.

وتبتني المفاهيم الأخلاقية جميعها لدى المسلمين وآراء النراقي في كتاب ((معراج السعادة)) على هذه النظرة من التحليل اليوناني، يقول النراقي في هذا المجال: ((إنّ حضرة الربّ المتعال والملك الذي لم يزل ولا يزال ــ عزّ شأنه وعظم سلطانه ــ معمار ذو قدرة فائقة، ورئيس ذو حكمة شاملة، لمّا بنى (مدينة الوجود)، وأمر سكّان صحراء العدم بالرحيل إليها بأمر ((كن))، فأسكن كلّ طائفة وكلّ قوم في موضع منها، ففي المحلّة العالية جعل سبع قباب في السموات السبع الصافية، وأسكن فيها مجاميع الفُلكيين [الملائكة]، وبنى في المحلّة السفلى بيت الأرض من سبع طبقات، وأسكن فيها الأرضيين [البشر والجن وغيرهم] واتخذ لـ(بني الإنسان) الذي يعرف كلا الطائفتين [الفُلكيين والأرضيين] محلّة وسطى، وفتح له من القوى الأربعة أربعة بساتين، وجعل صحنها الربع المسكون، وفيه أربعة أنهر ترتبط بالأبحر السبعة، فأرسل إليها آدم أبو البشر مع قومه، وأخدمه جميع الماديات… ولمّا كانت حياتهم قد نسجت من الشهوات، وطال بهم الأمل، مما دعى كلّ واحد منهم لارتكاب أنواع الفساد، فقد كان هذا كلّه سبباً في انحرافهم عن الجادّة القويمة))([10]).

فالبدن البشري كما يصوّره النراقي ((مملكة))، وقد سخّر الله تعالى الخالق البارئ لهذه الروح أعضاءَ وجوارح وحواس وقوى ظاهرية وباطنية وجنود وخدم، واختار منها رؤوساء وقوّاد أربعة هي: العقل، والشهوة، والغضب، والوهم، وما عداها تعمل بأمرها وتحت تصرّفها.

يقول النراقي بهذا الصدد: ((… إعلم أن ما عدا هذه القوى الأربعة من القوى الظاهرية والباطنية ليس لها سيادة ولا رئاسة، بل كلّ واحدة منها محكومة لحاكم يحكمها في مملكة البدن))([11]).

ويشبّه النراقي هذه القوى الأربع بأربعة قوى فاعلة ومؤثرة في عالم السياسة، فالعقل وزير لملك البدن وهو الروح، والشهوة كعامل الخراج الذي يتصف بالطمع والكذب، والغضب كرئيس الشرطة من صفاته أنّه حادّ الطبع والمزاج، سريع التهوّر، يتطاير منه الشرر، والوهم شغله المكر والخداع والاحتيال والخيانة. ولكل من هذه القوى نزعات واقتضاءات يضاد بعضها الآخر ويخالفه.

ويشير إلى ذلك النراقي قائلاً: ((… والبدن ساحة صراع لهذه القوى الأربع المتحاربة دوماً، فتظهر فيها تارة آثار الملائكة والقدّيسين، وتارة أخرى أفعال البهائم والدواب، وثالثة طبائع السباع والوحوش، ورابعة آثار الشياطين والأبالسة، وهكذا الأمر حتى تغلب وتقهر إحدى هذه القوى سائر القوى الأخرى، ثم تظهر آثارها في الأنا بشكل متتابع ومستمرّ حتى يلج صاحبها في عالمها الخاص، فإذا ظهر سلطان العقل بدت آثار الملائكة في مملكة النفس، وانتظمت أمورها ودخل صاحبها في صفّ الملائكة، وإذا كان الظهور لغير قوّة العقل خربت مملكة النفس، واختلّ أمر المعاش والمعاد، ودخل صاحبها في زمرة البهائم أو السباع أو الشياطين))([12]).

من هنا، يسعى النراقي إلى تعديل هذه القوى الأربع في النفس الإنسانية، فيحاول التعرّف على الحالة المرجوّة ــ وهي الحالة الوسط ــ في كلّ واحدةٍ من هذه القوى، ويركّز النراقي على مفاهيم ((الاعتدال والوسطية)) في الفكر اليوناني، فكلّ حسن وشرف لا ينال إلاّ بالاعتدال، وفضيلة كلّ واحدة من هذه القوى يكمن في الوسطية والاعتدال فيها، فـ((الحكمة)) إفراز للاعتدال في القوّة العاقلة، كما أنّ ((الشجاعة)) إفراز لاعتدال القوّة الغضبية، وهكذا ((العدالة)) إفراز للقوّة الوهمية، وأخيراً ((العفّة)) ثمرة اعتدال القوّة الشهوية([13]).

ثم يضيف النراقي: أنّ المقصود بالعدالة إطاعة القوّة الوهميّة للقوّة العاقلة وتبعيتها لها في جميع تصرّفاتها، أو توقّف تداعيات القوة الغضبية والشهوية تحت سيادة العقل والشرع، فالعدالة تستلزم اجتماع القوى واتفاقها تحت لواء القوّة العاقلة([14]).

العدالة أفضل الفضائل الإنسانية ــــــــــ

ألمحنا إلى أن النراقي يرى الصفات الأربع التي تشكّل بمجموعها قوام الفضيلة عبارةً عن الحكمة، والشجاعة، والعفّة، والعدالة، فكلّ واحدةٍ من هذه الصفات إذا اشتمل عليها شخص فقد تحقّق له من الفضيلة بقدرها، وإذا اجتمعت له كلّها فقد أصاب الفضيلة بتمامها وكمالها، ومن هنا تستدعي العدالة الاعتدال في القوى النفسانية جميعها، فالعدالة أفضل الفضائل وأشرف الكمالات.

يقول النراقي: ((إعلم أنّ العدالة هي أفضل الفضائل وأشرف الكمالات؛ لأنّها تجمع ــ كما عرفت ــ جميع الصفات الكمالية، بل هي عينها. كما أنّ الجور الذي هو ضدّها مجمع لجميع الرذائل، بل هو عينها. كيف وقد علمت أنّ العدالة ملكة في النفس تقدر على تعديل الصفات وضبط الأفعال ورفع النـزاع والخلاف بين القوى الإنسانية المتضادّة على نحو يحصل بينها الاتحاد والانسجام)).

((فجميع الأخلاق الفاضلة والصفات الكاملة متفرّعة على العدالة، ولذا قال أفلاطون بأنّ العدالة إذا حصلت للإنسان صار نورانياً، وتنوّرت جميع أجزاء نفسه، واكتسب كل جزء من الجزء الآخر نوراً وضياءً…)).

((إنّ من خاصيّة العدالة أن تؤلّف بين الاُمور المتباينة وتسوّي بين الأشياء المتخالفة، فتزيل غبار النـزاع والجدل والخلاف عن قوى النفس المؤثّرة، وتعود بها من حالات الإفراط والتفريط إلى الحدّ الوسط الذي هو أمرٌ واحد لا تعدّي فيه، بخلاف الأطراف التي تتّصف بالكثرة… وكلّما ابتعدت من التركيب والكثرة واقتربت من الوحدة كان ذلك أشرف وأحسن… بل التحقيق يثبت أنّ كلّ شرف وحسن فإنّه ثابت بطريق الاعتدال)).

((.. أجل إن (الوحدة) وإن كانت عرضيةً إلاّ أنّها تحمل في طيّاتها رائحة قميص المعرفة به، وتراب ارتسمت على صفحته أثر قدم الحبيب.. كما أنّ نور وجود كلّ موجود منها، فكلّ وحدة في هذا الوجود هي ظلّ للوحدة الحقّة، كما أنّ كلّ اتحاد بين المتباينات هو من تلك الوحدة))([15]).

إنّ الخواص المذكورة للعدالة كما هي عظيمة الآثار بالنسبة للأفراد، كذلك هي عامل ثبات واتحاد على الصعيد السياسي والاجتماعي، بحيث تفوق فضيلتها سائر الفضائل الاجتماعية الأخرى، وسنشير لاحقاً إلى دور العدالة وأثرها في الحياة الاجتماعية عند النراقي، مكتفين بالإشارة إلى أنّه يرى أن كلّ فُرقة سيئة وكلّ وحدة حسنة؛ لأنها ((أثر لوحدته سبحانه))، وعليه فالدولة أو المجتمع الصالحين والناجحين هما اللذان يحتلّ فيهما الفرد موقعه المؤهّل له، والذي لا يتجاوزه إلى غيره من المواقع. فينبغي لأفراد المجتمع والأصناف والمجموعات كافّة أن تنقاد لأمر القائد المطلق لتحقيق الثبات والوحدة في المجتمع، ومن ثمّ تحقيق العدالة فيه.

ويرى النراقي تساوي القوانين التي تسهّل الحياة الاجتماعية مع المقرّرات والتعاليم التي تسعى لتهذيب الأخلاق وتطييب المحتد والأعراق، فلو أراد الإنسان أن يستثمر مواهبه جميعها لينال الكمال فعليه أن يجعلها في طريق القانون الذي تكفّل هداية الناس كافّة، ولكن أيّ قانون هذا؟ إنّه القانون الإلهي الذي يجمع بين مختلف أبناء الأسرة البشرية في إطار سياسي واحد، ومصدر هذا القانون هو الوحي الإلهي بواسطة الأنبياء G.

الفروق الطبيعية بين البشر ــــــــــ

لكلّ إنسان بالقسر طبيعة ومسؤولية ملزم بها، وممّا يذكره النراقي ــ علاوة على ما ذكره سابقاً في بحثه حول تكوين الإنسان من كون الإنسان موجوداً مركباً وذا رغبات وميول عديدة، وأنّه بحاجة إلى صفة العدالة والاعتدال لتعديل هذه الرغبات ــ أنّ أفراد البشر ليسوا متساوين في مواهبهم وقدراتهم الذاتية لتحمّل وظائفهم الاجتماعية.

يرى النراقي ــ في نظرةٍ للنظام العام ــ أنّ انعدام الإمكانات المتكافئة بين الأفراد أمر مراد للخالق، فالمصلحة العامّة في النظام تستدعي أن يكون لكلّ فرد مسؤوليته وواجبه، ومن جهة أخرى، كل فعل يستدعي اقتضاءً خاصّاً، لذا فإنّ اقتضاءات الأفراد وقابليّاتهم تقع في طريق المصلحة العامّة للنظام.

أجل إنّ لكلٍّ عمله ومهارته الخاصّة به

ولكّل شخص ما يناسبه من السياسة

إن عمل صانع جلّ الحمار هو صناعة الجلال حسب

فأنى له خياطة الثوب المرصّع بالديباج والذهب

إذا أراد تولّي قيادة السفينة.

أدّى ذلك إلى غرقه وغرق غيره([16])

إن ترك الحقّ سبحانه الإنسان وما يعمل ولم يشغله بعمل خاص

فإنه سوف تُترك أعماله ولا يتولاها أحد

فيؤدّي ذلك إلى اختلال النظام

وبهذا الطريق فإنّ الله الظاهر الباطن

قد يسّر لكلّ عمل عاملاً

فاذا تجاوز الإنسان ما خُلق لأجله

خسر رأس المال والربح معاً

كل من يترك عمله فقد عرّض نفسه للخسارة والضرر

كل من يدّعي العقل والتفكّر

امتدت أيدٍ من الغيب لتلطمه على فيه([17]).

ويخلص النراقي في تحليله لطبيعة الإنسان إلى نتيجتين مهمّتين لهما دور مهم في فهم ما سيأتي له من آراء:

النتيجة الاولى: يختلف سلوك الناس ونزعاتهم فيما بينهم لاختلاف طبائعهم وتضادّها، وعلى رأسها الطبائع الأربع.

النتيجة الثانية: يختلف الناس فيما بينهم اختلافاً أساسياً فـ((كلّ قد يسّر لعمل ما)).

وهنا بقيت نقطة مهمة أخرى في فكر النراقي لا يمكن إغفالها والإغماض عنها، لعدم إمكان ديمومة فكره بشكل منطقي بدون لحاظها، وهي استشراف رأيه في طريقة تكوين المجتمع البشري وضرورته.

2 ــ الاجتماع الإنساني وبواعث التأسيس ــــــــــ

يرى النراقي أنّ لزوم إقامة المجتمع وتكوينه ينبع من طبيعة الإنسان الاجتماعية والمدنية، إلاّ أنّه لا يصُرّ على مقولة أنّ الانسان مدني أو اجتماعي بطبعه، كما يؤسّس لهذه المقولة أرسطو، بل يكتفي بأن السلوك العملي للإنسان سلوك اجتماعي، وليس مهمّاً أن يكون السبب في ذلك هو ((الفطرة)) أو ((العقل)) أو((العادات))، بل المهم هو أنّ ثمة حاجة تدفع النوع الإنساني إلى أن يسلك سلوكاً اجتماعياً، كما توجب أن يعيش الناس بشكل اجتماعي.

((إعلم يا صاحب البصيرة أنّ الخالق الحكيم قد خلق النوع الإنساني الذي هو أشرف الأنواع الكونية مدنيّاً بطبعه، بمعنى أنّه محتاج في حياته ومعاشه إلى المدنية والاجتماع والانضمام مع الآخرين، لاستلزام الحياة للوازمها من المأكل، والملبس، والمسكن، والسلاح لدفع ضرر الأعداء، والدواء مركبه وبسيطه لرفع الأسقام والآلام، وتحصيل هذه الأمور يستلزم الاجتماع والمعايشة مع الآخرين، بل إن مدنيّته ظاهرة وثابتة حتى مع قطع النظر عمّا ذكر، فكلّ جماعة تستقرّ في مكان معين، سواء كان السبب الكامن وراء ذلك توقّف بقاء النوع البشري، أو مقتضى المدنية في الطبع الإنساني، أو جريان العادة الربانية بذلك))([18]).

ويمكن إيجاز رأيه في موضوع إقامة المجتمع وكيفية تكوينه بما يلي: إنّ أفراد النوع البشري بحاجة إلى الحياة الاجتماعية، سواء كان المنشأ في ذلك هو العقل أو الفطرة أو العادة.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى يتفاوت أفراد البشر في طاقاتهم وقابليّاتهم، لذا، وبناءً على انحصار الطبيعة الإنسانية بهذين العنصرين: ((الحاجة إلى الحياة الإجتماعية وتقسيم القابليات بين أفراد البشر))، من المحتمل أن يقوم الإنسان بممارسة الحياة الاجتماعية وإن لم يكن ثمّة قانون اجتماعي خاصّ ونظام سياسي مكمّل وداعم لذلك القانون، كما لو كانت من نوع الحياة الاجتماعية الغريزية، كحياة بعض الكائنات الأخرى كالنحل والنمل، ولا شكّ أنّ مقتضى الطبيعة والغريزة يساعد على ديمومة هذا النمط من الحياة.

بيْدَ أنّ ما ينطوي عليه وجود الإنسان من طبائع متضادّة، وما تستدعيه هذه الطبائع من نزعات وميول ((من شأنها أن تجعل مملكة النفس ميداناً لصراعها ومنازعاتها))، فإن هذه العوامل يمكن أن تحول دون ديمومة الحياة الاجتماعية للإنسان فيما لو لم تكن قائمةً على نظام اجتماعي متْقَن.

3 ــ البنية التحتيّة

لتكوين الدولة وإقامة الحياة السياسية في المجتمع ـــــ

إنّ ملاحقة رأي النراقي حول الإنسان تقودنا ــ إذا ما أخذنا بعين الاعتبار العوامل الثلاثة المتقدّمة: البعد الاجتماعي في حياة الإنسان، وتوزيع القابليات والطاقات، ووقوع التضادّ بين الـنـزعات والرغبات الإنسانية لتنظيم الحياة الاجتماعية ــ إلى ضرورة إقامة نظام اجتماعي في ظل قانون متقن وصحيح يحقّق آمال الإنسان وحاجياته.

وفي ضوء هذا الفهم والتحليل، يغدو تشكيل المجتمع السياسي أمراً ضرورياً لا محيد عنه، وأهم ما يمتاز به المجتمع السياسي اعتماده على ركيزتين أساسيتين هما: الحاكم، فرداً كان أو أكثر، والرعية أو الشعب. ولكلّ وظائفه وواجباته المختصّة به، ويعبّر اليوم عن المجتمع السياسي بالدولة، وعناصرها الأساسية المقوّمة لها هي: الأرض، الشعب، السلطة، الحاكمية.

ولكن السؤال المهم هو: من له الحقّ في تأسيس الدولة، ومن يجب عليه تولّي ذلك؟

ذهب بعض المفكّرين إلى أنّ ذلك يمكن أن يتمّ من خلال عقد اجتماعي بين الشعب والطبقة الحاكمة، فتأسيس الدولة ــ كما يرى هؤلاء ــ يكون من قبل الشعب، وذهب أفلاطون إلى أنّ تأسيس الدولة من حقّ الفيلسوف، لأنه ــ كما يقول افلاطون ــ قادر على فهم حقائق الأمور وإدراكها أكثر من غيره، الأمر الذي يعينه على إدارة المجتمع وسياسته.

ولكن النراقي ذهب إلى خلاف ذلك، حيث يرى ــ وهو ينطلق من منطلقات دينية ــ أن الله سبحانه وتعالى قد خلق الخلق ثمّ ((رحّلهم وأهبطهم مع أقوامهم إلى قلب العالم والربع المسكون من الأرض))([19]).

وهو المحيط بحاجات الإنسان وطبائعه، وعليه، فإنّ إقامة النظام الاجتماعي وتشريع القوانين ليس من صلاحياته فحسب، بل ممّا يجب عليه فعله عقلاً، كما يجب ذلك على كلّ راعٍ عندما يصون ماشيته ويرعاها، فكذا فعل الباري سبحانه في إرسال الرسل وبعث الأنبياء الذي هو عبارة عن سنّ القوانين وتأسيس النظام السياسي.

يقول النراقي: ((… لمّا كان تركّب هذا النوع (البشر) من قوى مختلفة ــ هي السبعية، والبهيمية، والشيطانية، والملكية ــ واضح وظاهر، واختلاف الأمزجة والآراء والمشتهيات من شخص إلى آخر بيّن وباهر، فإن اجتماع أفراده في صقع واحد موجب ــ بلا شك ــ للنـزاع والجدال والقيل والقال، وسبب لوقوع الاقتتال، وتعارض الآراء وتزاحم الأهواء، مما يوجب الهلاك والإتلاف، بل لو صرفنا النظر عن ذلك فإنّه سبب لوقوع ما هو أكثر من ذلك، من وقوع الحروب والمنازعات، والقتل والضرب، ونهب الأموال وأسر الأطفال، وقتل الرجال والنساء، ووقوع جميع ذلك فيما لو لم يكن ثمّة رادع ووازع أمر ملحوظ ومشهود، سواء كان السبب في ذلك اختلاف القوى أو اختلاف الأهواء أو وساوس الشيطان أو جريان العادة الإلهية بذلك)).

((ومزيداً على ذلك فإنّ كثيراً ما يقع الخلاف في أمور المعاش بين أفراد البشر، وكلّ يدعي الحقّ إلى جانبه، ولا يتيّسر فضّ النـزاع ورفعه من دون التحاكم، فيتوجّب على الخالق الحكيم الرؤوف الرحيم أن يجعل للمحاربة والاقتتال رادعاً، وللاختلاف والنـزاع رافعاً؛ ليمنع وقوع الاختلال والوهن الحاصل جرّاء ذلك، وليرجع إليه في حلّ النـزاعات ومواطن الحيرة والتردّد)).

((ولا يصحّ على الحكيم سبحانه ــ بالحكم العقلي والقطعي ــ أن يدع النوع الإنساني، مع اختلاف الأهواء والآراء، مطلق العنان، لم ينصّب له من يتولى أمره، فإنّ هذا قبيح ومذموم عند العقلاء)).

((وقد عرفت أن الحكم القطعي في الأمور التكليفية يوجب تحقّق التكليف، فلا بد أن نكون إذاً مكلّفين بطاعة الرئيس [المراد بالرئيس هنا هو النبي 2]))([20]).

ثم يواصل النراقي، استدلاله بالتعرّص لسيرة الملوك والسلاطين من الروم وإيران والهند والإفرنج، فإنّهم عندما يستولون على بلاد جديدة يسارعون في نصب الحكّام والولاة معتبرين ((عدم المبادرة الى ذلك وإهماله أمراً غير جائز ولا مسموح به في إدارة الأمور والرعية)).

وكذا الأمر عند والي كلّ بلد، فإنّه يحرص على نصب من يتولّى الأمور ويحسن تدبيرها في أطراف بلده والمناطق التابعة لها، ثم يضيف النراقي قائلاً: ((فكيف يصحّ للملك الحقّ والحكيم المطلق… أن يترك هذا الجمع الكثير والجمّ الغفير ــ مع اختلاف أهوائهم وآرائهم ــ بلا رئيس ولا حاكم يجب اتّباعه والاقتداء به؟ وكيف يجوز أن يدع هذا القطيع في هذه الدنيا بلا راع، تحوطه مخالب الوحوش المفترسة الطباع؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً))([21]).

وقد يثار هنا إشكال عن ضرورة أن يتصدّى النبي للرئاسة، بعد تسليم ضرورة أصل أن يكون هناك تشريع وقانون يتكفّل إقرار رئيس لدفع النـزاع وحفظ النظام.

ويجيب النراقي عن ذلك بأنّ إقامة النظام السياسي تتطلّب مجموعةً من القوانين المشرّعة من الله سبحانه؛ وذلك أولاً: باعتباره الخالق لهذا الإنسان العالِم بمكنون وجوده، وثانياً: لحكم العقلاء بقبح ترك هذا الموجود وإهماله بهذه الصورة. فالصحيح أن يصطفي سبحانه من خلقه من يمتازون ويتمتّعون بصفات متميّزة ويؤيّدهم بالوحي، لكي يقوموا بتنظيم حياة البشرية بنحو تتعرّف على أحكام الله وقوانينه من جهة، وتصلح أمورهم وتستقيم حالهم من جهة أخرى.

وعليه، فإنّ وظائف الأنبياء لا يمكن أن يقوم بها السلاطين والحكماء؛ لعدم اتّصالهم بالمصدر الذي يشرّع القانون الصحيح الذي هو عبارة عن الوحي. بل حتى على فرض إمكانية أن يقوم السلاطين والحكماء بذلك بذكائم وفطنتهم، فإنّ ذلك لا ينفي أيضاً الوجوب العقلي لوجوب نصب الرئيس على الله سبحانه، وفي هذا الشأن يقول النراقي: ((فإذا اعترضت قائلاً: نعم لا محيد عن تأسيس قواعد وسنّ قوانين تتكفّل برفع النـزاع والمفاسد وحفظ النوع (الإنسان) من القتال والجدال بنصب رئيس مدبّر وحاكم عالم وماهر، ولكن ما هي الضرورة في كون هذا الرئيس نبياً؟ فإنّ ذلك يمكن أن يتحقّق بتصدّي حكماء نبهاء وسلاطين واعين ومقتدرين، قلنا: إنّه لا يجدي تصدّي السلطان أو الفيلسوف في بيان (التكاليف) التي أشرها إليها، لذا عرفنا أن نصب شخص مثل النبي لهذه المهمّة لازم وواجب…))([22]).

وبذلك استعرضنا رأي النراقي في ((إبلاغ التكاليف)) وتأسيس النظام السياسي من قبله سبحانه وبواسطة الأنبياء، كما أنّ ما ذكرناه كان يرتبط بصلاحيات النبي وإمام الأصل C.

إذن، ما يراه النراقي هو عدم إمكان وصول الإنسان إلى هدفه ــ وهو السعادة ــ بدون الهداية الإلهية ووجود القادة الإلهيين، وهذا هو الفارق الأساس بين رأي النراقي ورأي أفلاطون، فليست الفلسفة ــ عند النراقي ــ ولا الرياضات العقلية أو الإشراقية بقادرة على هداية البشرية إلى هدفها اللائق والمنشود، كما أنّ نظرية العقد الاجتماعي عنده هي الأخرى ليست بالصياغة الصحيحة لنظام الحكم أيضاً، وأقوى الحجج التي يطرحها لإثبات مدّعاه: أنّ الرئاسة بحاجة إلى مؤهلات ذاتية ونصّ إلهي خاص، فكلّ انتخاب خارج عن هذه الدائرة يكون فاقداً للاعتبار.

ليس المرشد [الهادي والمربي] من اعتبره الناس مرشداً

أو دعي بذلك من غير استحقاق

إذا أراد المرء أن يتّخذ شخصاً مرشداً.

فلا بد أن يهيئ نفسه لقبول إرشاداته

كلّ من تعتبره أنت مرشداً

فإنّ إرشاده يليق بك فحسب

إنّ من تجعل منه إماماً يا صاحب الأهواء

سيتبعك ويقتفي أثرك

كيف تصبح إماماً والإمامة غير لائقةٍ بك

متى أصبح ما يفضل من طعام الآخرين طعاماً لك

إنّ المرشد هو من يكون من قبل الحق

يهديه نور الحقّ في كل مكان

وإمامته ثابتةٌ بالنصّ الإلهي

وعلمه بإلهام رباني

المرشد هو من نصب من قبل الدين للإمامة

ليست (المرشدية) بالشيخوخة الظاهرة([23]).

والدليل الذي يسوقه النراقي لإثبات ضرورة تأسيس النظام السياسي، وضرورة أن يكون هذا النظام المطابق للقانون الإلهي بيد شخص (ملهم من السماء) ورئاسته ثابتة بـ(النص الإلهي) هو: أنّ الانسان ليس بمقدوره أن يستغني عن نوعه البشري، أو ينكفئ على ذاته وقدراته الذاتية، ولذا فإنّ علاقته بالمجتمع علاقة الجزء بالكلّ، وقد أودع الله سبحانه فيه جملةً من الميول الاجتماعية، كما زوّد ــ في الوقت عينه ــ بميول ورغبات متضاربة، بعضها طالب للخير والصلاح، وبعضها طالب للشر والفساد، إلاّ أنّه سبحانه قد خلع عليه (كسوة الاختيار) ليخرج عن مصافّ المخلوقات المسيّرة والمجبورة.

في ضوء ذلك، يغدو الإنسان أفضل المخلوقات وأشرفها إذا استطاع بلوغ الكمال بالسلوك والاعتدال الخُلقي، أمّا لو تخلّى عن المبادئ والخُلق، واختار طريق التحلّل فقد هبط إلى أسفل ممّا عليه الحيوان، وكما يقول أرسطو: الظالم مسلّح، والظالم المسلّح يفوق خطرُه خطرَ كلّ شيء.

يقول النراقي: ((لقد تمّ تجهيز الإنسان منذ خلقه الأوّل بعدّة وسائل، وزوّد بها فقط ليسخّر عقله وفضائله في عمارة آخرته))، مع قدرته على تسخيرها في أهبط المقاصد وأحطّ الأغراض.

إنّ الميول والرغبات المتضادّة هي التي توصل الإنسان إلى منصّة (التكليف الإلهي)، إذ ليس بمستطاعه إدراك الفضائل ونيلها بدون التكليف، وإذا تجرّد عن الفضائل تحوّل إلى وحشٍ لا تضارعه الوحوش، ونزل بنفسه أنزل الدركات الحيوانيّة.

وعليه، يعتبر إسال الرسل ووضع أوّل لبنة في بناء الدولة أكبر النِعم الإلهية، وأجسم المنن الربانية على الإنسان.

ولا يتسنّى للإنسان نيل السعادة إلاّ في ظلّ هذا القانون وهذا النظام الصالح، فهو القادر على إقامة العدل، وكما تقوم الدولة بتأمين النظم الاجتماعي فإنها تأخذ على عاتقها أيضاً أمر تربية المجتمع وتهذيبه، فتصبح بذلك الدولة المربية، ويساعد عنصر الاختيار عند الإنسان على الالتزام بقوانين الدولة فيما تشرّعه من قوانين وتسنّه من أحكام، ممّا يضمن ويسرّع في رقيّه الأخلاقي والعقلي:

يقول النراقي بهذا الصدد:

لمّا أضحى الاختيار والجهل والظلم عند البشر

أموراً مقترنةً بعضها ببعضها الآخر

فقد صار أهلاً للتكليف الرباني

ومورداً للأمر السلطاني

لو لم يكن الاختيار موجوداً في طبيعة الإنسان

لما صحّ الأمر والنهي والوعد والزجر…

إنّ الإنسان المغرور الجهول

قد قبل حمل تلك الأمانة الثقيلة

قَبل بهذه المسؤولية العظيمة

غافلاً عمّا سيؤدي إليه هذا الاختيار

كلّ ما يتحمّله الإنسان في العالمين

إنّما هو بسبب ذلك القبول

صار الاختيار سبباً لبلاء الإنسان

يا حبّذا عدم الاختيار يا حبذا

كلّ من يكون نصيبه من الاختيار أكثر

كان بلاؤه أكثر وأكثر

الأخيار أكثر اختياراً

فهم أشدّ الناس محنةً وبلاءً([24]).

نظريّة الحكم في عصر الغيبة ــــــــــ

الدولة الفاضلة ــ كما يراها النراقي ــ هي الدولة التي شاد أسّها النبي الأعظم 2 في الصدر الأول من تاريخ الإسلام، وقد أنزلت في تلك البرهة المباركة من عهده المبارك مختلف التكاليف والأحكام الكفيلة بسعادة الإنسان. لكن ما هو البديل في الفترة اللاحقة التي حُرمت الأمّة فيها من وجوده الكريم؟ فهل تنتفي ضرورة الحكم والنظام السياسي؟ أم هل تنتفي إمكانية إقامة الحكومة الإسلامية في غير عصر الحضور وتفقد شرعيّتها؟

يرى النراقي أنّ الأسباب التي دعت إلى ضرورة تشكيل الحكومة والنظام السياسي في الصدر الأول للإسلام هي نفسها اليوم تبرّر وتدعو لقيام الحكم في زمان الغيبة، ولذا يندفع ــ جاهداً ــ للتأسيس لمجتمع يتمتّع بالحدّ الأعلى من السعادة، فيقرّر ــ بوصفه العالم والمفكّر ــ مقولته الداعية إلى: ((أنّ سلامة البدن ونظام الحكم تمنع من بروز الأمراض والأسقام، وتُصلح جميع الطوائف والأفراد في جميع الأزمنة))؛ لأنّ السعيد هو ((الثابت الذي لا يطرأ عليه تغيير في الأوصاف والأفعال)).

ويستلهم النراقي من دولة النبي 2 لبناء النظام السياسي الذي ينظر له، فهو يرى أنّ المجتمع الأنموذجي هو الذي يتألّف من طبقتين: الأولى هي الحاكم، أو الطبقة الحاكمة التي تتمتع بـ((النصّ الإلهي)) و((يلزم اتّباعها))، والثانية: هي الرعية ذات الأهواء والآراء المختلفة، وهي مطيعة على الإطلاق للطبقة الأولى (الأنبياء).

وهذه الطاعة المطلقة لازمةٌ عقلاً، والحكم القطعي العقلي في الأمور التكليفية محقّق للتكليف.

وينبغي الالتفات إلى أنّ الطبقة الثانية ــ على اشتراكها في لزوم الطاعة والإنقياد ــ تنقسم باعتبار الفروق الطبيعية فيها إلى طوائف وأقسام، وهذا التقسيم ضروري بلحاظ حاجة المجتمع الإنساني إلى تنوّع الأعمال وتقاسم الوظائف والأدوار، وهو ــ أي النراقي ــ وإن كان يرى في الفوارق الطبيعية بين النوع الإنساني عاملاً مهمّاً في إفراز حالةٍ من التعارض بين طبقات المجتمع على اختلافها، بيْدَ أنّه يرى أن ثمّة ضمانة قوية في المجتمع تضمن نظم المجتمع وتحفظ تعادله، وهذا التضامن الاجتماعي ــ والذي قلنا: إنّه الطاعة المطلقة من قبل الفئات جميعها للحاكم الذي يلزم الاقتداء به ــ يصطلح عليه بالعدالة.

إذن، فالعدالة في المجتمع المثالي ــ الذي يراه النراقي متمثلاً فيما أسّسه الرسول الأعظم 2 ــ عبارة عن انقياد الناس للنبي 2، وبعبارة أخرى هي طاعة الجميع لأفضل إنسانٍ في الوجود، فإذا كانت العدالة بهذه المثابة من الأهمية الاجتماعية، ويبتني عليها النظم الاجتماعي، وتترتب عليها جميع هذه الفوائد، فكيف يمكن إقامة مجتمع سياسي في ظلّ غيبة الإمام، وما هي الصياغة المناسبة التي يقدّمها النراقي؟

وبعبارة ثانية: مع الأخذ بالاعتبار عنصري ((لزوم العدالة في قوام المجتمع)) و((فقدان فيض حضور المعصوم في زمان الغيبة))، كيف يمكن بناء النظام السياسي عند النراقي؟ علماً أنّه يرى عدم تكامل أي نظام سياسي مع فقد المعصوم، إلاّ أنّ هذا لا يعني فساد ذلك النظام وعدم شرعيّته؛ إذ يمكن لعامل العدالة أن يلعب دوراً في إصلاح الأمور وسدّ الثغرات والنواقص، وبالتالي رقّي الإنسان وتعاليه.

وقد أشرنا فيما سبق إلى دور العدالة في بناء الفرد والمجتمع معاً، وهذه القضية تمثّل الحجر الأساس في نظرية النراقي لإقامة النظام السياسي، فالنراقي يرى الدولة قريبة الشبه بالإنسان، فهي بالدقّة تشبه بدنه، فكلّ ما يلزم للروح الإنسانية يحتاجه النظام السياسي أيضاً، والعكس صحيح أيضاً، إنّ تشبيه الإنسان بالدولة وبالنظام السياسي أمر واضح لكلّ من راجع كتاب معراج السعادة.

يقول النراقي في هذا الصدد: ((تعتبر القوى الأربع ــ وهي العقل، والغضب، والشهوة، والوهم ــ بحكم القوّاد والرؤساء وعمّال البلاد، وما عداها فتعمل تحت اختيارها وأمرها… وأحد هؤلاء القوّاد هو العقل، وهو وزير الملك الذي هو عبارة عن (الروح) الذي لا يتجاوز ما يراه العقل ويستصوبه، ولا يتخلّف عن أوامره ونواهيه لتنظيم المملكة)).

((والقوّة الثانية، الشهوة التي هي كعامل الخراج طمّاع متّهِم للآخرين بالكذب، فضولي ومخلّط، وتسعى هذه القوة دائماً للسيطرة على الروح، لتجعل الإنسان ــ كالبهائم وذوات الأربع ــ غارقاً في بحر الشهوات، فيمتثل بكلّ ما تأمره غريزة الأكل والشرب والجماع والمركب والملبس والمسكن وغيرها… والقوة الثالثة، الغضب الذي هو كرئيس الشرطة متهوّر شرير متعجّل، وهي ــ أي القوة الثالثة ــ تتطلب القتل والضرب والإيذاء والبغض والعداوة))، ((والقوة الرابعة، الوهم وشغلها المكر والخديعة والحيلة والفتنة والخيانة، ويخطّط الوهم للاستحواذ على سلطان المملكة ليجعله تابعاً له))([25]).

فاذا استبعدنا ــ بشكل مؤقت ــ من بين هذه القوى القوة الواهمة والتي تتجسّد فضيلتها في العدالة، فإنّ القوى النفسانية المهمّة الباقية عبارة عن:

1 ــ القوة العاقلة، وفضيلتها في الحكمة.

2 ــ القوة الغضبية،، وفضيلتها في الشجاعة.

3 ــ القوة الشهوية وفضيلتها في العفّة.

وفي ضوء التطابق الموجود بين نفس الإنسان والنظام السياسي، تغدو أهم الطبقات والفئات في النظام السياسي عبارة عن:

1 ــ الحاكم أو الحكّام، وفضيلتهم الحكمة.

2 ــ العسكر والحرس، وفضيلتهم الشجاعة.

3 ــ أرباب الأعمال والحرف، وفضيلتهم العفّة.

وينبغي الالتفات إلى أنّ تركّب النظام السياسي والنفس الإنسانية من هذه القوى والعناصر لا يعني تأطّرهما بها خاصّة دون غيرها من القوى والمؤثرات، بل بمعنى أنّ هذه القوى هي أهمّ القوى وأبرزها، فالعدالة ــ وهي أعلى الفضائل الخلقية والاجتماعية، والضامن لسعادة الفرد والمجتمع ــ يعتبرها النراقي المنسّق بين هذه العناصر والقوى، بمعنى أنّ أعلى جزء ــ في المجتمع أو نفس الإنسان ــ يحكم الأجزاء جميعها التي دونه، كما أنّ كلّ جزء من هذه القوى يعمل في دائرته الخاصّة به، والتي تعتبر تجسيداً لكماله([26])، فالعدالة ــ إذاً ــ أن تعمل كلّ قوّة أو فئة بوظيفتها وواجبها، ولذا كان لكلّ قوة فضيلتها الخاصة بها.

من هنا، ينظر النراقي إلى العسكر والشرطة من جهة وإلى أرباب المهن والحرف من جهة أخرى بعين المساواة من حيث انقيادهم وطاعتهم للحاكم، فكلاهما تابع بشكل مباشر لأوامر الرئيس، فلا حكومة للعسكر على أصحاب الحرف والأعمال، وثمّة في الوقت نفسه فوارق ذاتية في القابليات، تدعو بعضهم إلى اختيار المهن العسكرية، وبعضهم الآخر إلى امتهان أعمال أخرى، فنسبة العسكر إلى غيرهم من ذوي الحرف والمهن كنسبة ذوي الحرف والمهن بعضهم إلى بعض.

وعليه، لا يرى النراقي ــ وخلافاً لأفلاطون ــ سلطةً لطبقةٍ على أخرى، بل الذي يراه طاعة طبقات المجتمع كافّة للحاكم أو للهيئة الحاكمة الذين يتمتّعون بخصوصيات تميّزهم عن غيرهم، وهذا هو المقصود بالعدالة.

وقد أسلفنا سابقاً أنّ النراقي ذكر ــ في معرض حديثه عن أهمية تأسيس النظام السياسي ــ ضرورة بعث الأنبياء وإرسال الرسل المنصوبين من قبل الله سبحانه وتعالى، مستدلاً لوجوب ذلك عليه سبحانه من ناحية عقلية بما سبق من البراهين عليه، ويمتاز الأنبياء ــ إضافةً لأفضليتهم وتقدّمهم على أفراد النوع الإنساني عموماً ــ بارتباطهم بمصدر الوحي الإلهي، وهم الحكّام على المجتمع.

أمّا من هم ((الحكّام في زمن الغيبة))؟ فقد كتب النراقي عن هذا الموضوع قائلاً: ((… لمّا وقفتَ على شرف العدالة وفضلها، وعرفت أنّها التسوية بين الأمور المختلفة والاعتدال بين الإفراط والتفريط بالتزام الحدّ الوسط، فاعلم أنّ العدالة إمّا هي في الأخلاق والأفعال، أو في العطايا وقسمة الأموال ومعاملة الناس، أو في سياستهم وإدارة أمورهم، وفي كلّ هذه الموارد فإنّ العادل هو من يميل عن الإفراط والتفريط إلى الاعتدال، فيسعى إلى المساواة ووضع الأمور في الحدّ المتوسط لها، ولا شكّ أن هذا يتوقف على معرفة (المتوسّط) في هذه الأمور وطرفي الإفراط والتفريط فيها، ومعرفة كلّ ذلك أمر شاقّ وعسير ولا يقدر عليه كلّ أحد، فهو يتوقّف على معرفة ميزان العدل الذي تقاس به الأمور وتوزن زيادةً ونقيصة، كما أنّ معرفة الزيادة والنقيصة في كلّ أمر تتوقف على ميزان يوزن به ذلك الأمر، والميزان العدل الوسط في كل أمر ليس هو إلاّ ميزان الشريعة الحقّة الإلهية، وطريقة السنّة النبوية النابعة من مصدر الوحدة الحقيقية، فـ(ميزان العدل) هو النافذ في جميع الأمور والمتكفّل ببيان جميع مراتب الحكمة العملية، فيجب على (العادل الحقيقي) أن يكون حكيماً عالماً بقواعد الشريعة الإلهية، عارفاً بالنواميس النبوية))([27]).

ويعتبر هذا المقطع من كلامه غايةً في الأهمية، حيث يعتبر العدالة فضيلةً فوق الفضائل يتحلّى بها الفرد والمجتمع معاً، وتكون مصدراً لسعادة الجميع، والعدالة عند النراقي ــ كما سبق وأسلفناه ــ عبارة عن الطاعة المطلقة من قبل قوى النفس عمومها للعقل، وهي عبارة أيضاً عن انقياد الناس جميعهم والطبقات عمومها للحاكم العادل، ولكن ينبغي إضافة أمر جديد في ضوء النصّ المتقدّم، وهو عبارة عن أنّ تحديد المعيار للحدّ الوسط وملاك العدالة يتطلّب من الحاكم ومن الناس المعرفة بقانون الشريعة الربانية والسنّة النبوية، باعتبار أنّ الشريعة هي ميزان العدل الوحيد في الأمور جميعها، والمتكفّل لبيان مراتب الحكمة العملية كافّة، فإذاً التزام الحدّ الوسط والعدالة الحقيقية تستلزم ــ عند النراقي ــ معرفة الشريعة.

ومن الجليّ أنّ تطبيق النظام الصحيح في المجتمع يتوقّف على تحلّي الطبقة الحاكمة بالعدالة الحقيقية، ليكونوا عدولاً حقيقيين، أو أن يتصـدّى لأمـر الحكومة من هو عادل واقعاً وحقيقة.

والحاصل: إن أمر الحكومة في عصر الغيبة منحصر بالطبقة العادلة من المجتمع؛ وذلك لأنّ الأكثرية غير قادرةٍ على درك الشريعة بشكل كامل، فلا بد أن يكون ذوو الصلاحية والأهلية لأمر القيادة والحكومة معدودين بعدد الأنامل، وأهمّ ما يمتاز به العادل الحقيقي ــ في مفهوم النراقي ــ معرفته بقواعد الشريعة التي تمكّنه من تحصيل ميزان العدالة، فيكون بذلك الأجدر بإصلاح قواه وتهذيب صفاته وسجاياه، كما أنه هو المؤثر الوحيد القادر على إصلاح نفوس الآخرين، لأنّه قادر على إصلاح نفسه.

يقول النراقي: ((إعلم أنّ من لم يتمكّن من إصلاح نفسه، ولم تظهر العدالة في مملكة بدنه، فهو عاجز عن إصلاح غيره وبسط العدالة بين الناس، وليس له أهلية إدارة منـزله كما ليس له القدرة على سياسة الناس وإدارتهم، فلا يليق لرئاسة بلد ولا سيادة مملكة، أجل كيف يقوى العاجز عن إصلاح نفسه على إصلاح غيره؟.. فإذاً كلّ من يتمكّن من إصلاح نفسه وقواه والتنـزّه عن الإفراط والتفريط.. والأخذ بالجادّة الوسطى، فإنّه قادر على إصلاح غيره، وخليق بالرئاسة والخلافة عن الله سبحانه وتعالى في الأرض، فإذا تولّى مثل هذا الشخص أمور الرعية وأمسك بزمام أمرها صلحت بذلك جميع المفاسد، وعمرت البلدان، واستنارت الأقطار، وسالت الأنهار وأغدقت بالمياه، وجرت العيون، وكثرت الزروع والثمار، وازداد نسل بني البشر، وعمّت بركات السماء الأرض، وهطلت الأمطار))([28]).

الحكّام في عصر الغيبة ــــــــــ

الحصيلة العامّة المستخلصة من مراجعة نظرية النراقي أنّ إصلاح الأمور في زمان الغيبة يتمّ عبر تطبيق العدالة الحقيقي بشكل عام، والعادل حقيقةً هو القادر لوحده على تطبيقها، وهو الفرد أو الجماعة العارفة بقواعد الشريعة، والفقه هو العلم الوحيد المتكفّل بمعرفة الشريعة و((استنباط الأحكام الشرعية من أدلّتها التفصيلية))، فموضوع علم الفقه استنباط الأحكام الشرعية، والفقهاء هم الوحيدون الذين يمكن أن يتصدّوا لذلك، لعلمهم بقواعد الشريعة الإلهية، ونواميس السنّة النبوية.

وهم الذين يشخّصون معيار العدالة الحقيقية، فهم مصاديق العادل الحقيقي، وبمقدروهم تطبيق العدالة وإصلاح المجتمع. وهذا ما يمكن التعبير عنه بصياغة كليّة كالتالي: إنّ إصلاح المجتمع ــ عند النراقي ــ مشروطٌ بتطبيق العدالة، وهذا ما لا يتمّ إلاّ بأن يكون الحاكم على المجتمع فقيهاً، أو يتولّى الفقهاءُ الحكومة.

وفي ضوء هذه النظرية، لا بدّ وأن تكون إدارة أمور الدول والبلدان جميعها بيد الفقهاء، فالفقهاء أفضل من يتولّى أمور الناس ويدير شؤونهم، فالصلاحيات التي أسّسها النبي 2 في النظام السياسي الإسلامي ثابتة له وللإمام من بعده، وهي ثابتة للفقهاء في عصر الغيبة: ((إذاً يمكننا القول ــ والتوفيق من الله ــ إنّ كليّة ما للفقيه العادل توليّه وله الولاية فيه أمران:

أحدهما: كلّ ما كان للنبي والإمام ــ الذين هم سلاطين الأنام وحصون الإسلام ــ فيه الولاية وكان لهم، فللفقيه أيضاً ذلك، إلاّ ما أخرجه الدليل عن إجماع أو نصّ أو غيرهما.

والآخر: كلّ فعل متعلّق بأمور العباد في دينهم أو دنياهم، ولا بد من الإتيان به ولا مفرّ منه، إمّا عقلاً (أعمّ من العرف والعادة) من جهة توقّف أمور المعاد أو المعاش لواحد أو جماعة عليه، وإناطة انتظام أمور الدين أو الدنيا به، أو شرعاً من جهة ورود أمر به أو إجماع، أو نفي ضرر أو إضرار، أو عسر أو حرج، أو فساد على مسلم، أو دليل آخر، أو ورود الإذن فيه من الشارع ولم يجعل وظيفته لمعيّن واحد أو جماعة ولا لغير معيّن ــ أي واحد لا بعينه ــ بل علم لابديّة الإتيان به أو الإذن فيه، ولم يعلم المأمور به ولا المأذون فيه، فهو وظيفة الفقيه، وله التصرّف فيه، والإتيان به))([29]).

إن مبدأ حكومة الفقيه العادل ركن مهم وحاسم في الفكر السياسي عند النراقي، ولكي ندركه بشكل دقيق ينبغي التوقّف عند مفهوم (الفقيه العادل)، ومعرفة مصداقه، فالتفسير الذي يقدّمه النراقي لهذا المفهوم يختلف عن المعنى الاصطلاحي الذي نعرفه اليوم عنه، فإنّا عندما نتحدّث اليوم عن الفقه أو الفقيه فإنّ الذي يتداعى الى الذهن موقف الفقيه بين تجاذبات الحياة الاجتماعية وتطوّراتها من جهة، وحالة الانكفاء والعزوف عن الحياة التي يدعو إليها دعاة العرفان من جهة أخرى، بيد أنّ التعريف الذي يقدّمه النراقي عن الفقيه يختلف عن هذه الصورة تماماً، فهو يفترض في شخصية الفقيه الإحاطة العلمية التي تتوفر ــ إضافة لتخصّصها الفقهي ــ على إلمام جيد بالنظريات السياسية والاجتماعية بل وحتى الاقتصادية، فإن دائرة الفقه الحقيقي دائرة وسيعة تشمل الأبعاد السياسية والاجتماعية للعصر، والفقيه ــ فيما يراه النراقي ــ هو العارف بقضايا العصر الواقف على حوادث الزمان، ويستفاد هذا المطلب بشكل واضح من مواضع عديدة من كلماته التي نقلناها سابقاً، ولذا فإنّ حكومة الفقيه العادل أفضل أنواع الحكومات في زمان الغيبة، وهي خير بديل وخليفة لحكومة النبي 2.

والحاصل: إنّ النراقي يعتبر تقلّد الفقيه العادل أو الفقهاء العدول لزمام الأمور، باعتبارهم الخبراء العارفين بأصول القوانين، خير ضمان لحفظ مصالح المجتمع؛ لأنّ الفقيه هو الشخص الوحيد الذي يمتلك القدرة على استنباط العلّة وتشريع القوانين مورد حاجة المجتمع، وكذلك دستور النظام السياسي، فهو الأقدر على درك روح القانون وتشخيص موارد الإبهام في بعض الحالات التي لم ينصّ القانون عليها؛ وذلك بشمول بعض الإطلاقات لها وعدم التأطّر بحدود الألفاظ ودوائرها الضيقة، فالأمر موكول إلى خصوص هذا الصنف من الواقفين على عمق القانون وروحه، ويطبقونه بما توجبه مقتضيات الزمان من دون مسّ بروح القانون أو تلاعب فيه.

مراتب الحكّام في عصر الغيبة ــــــــــ

إنّ الحكومة المثالية ــ كما يرى النراقي ــ في عصر الغيبة هي التي يكون زمام الأمور فيها بيد الفقهاء العدول، وقد أسّس النراقي لذلك قاعدتين عامّتين في العائدة رقم (54) من كتاب (عوائد الأيام)، بحيث لا يمكن فهمهما إلاّ في ضوء ما ذكرناه من فكره السياسي.

والأمر الآخر الذي له أهميته وتجدر الإشارة إليه، أنّ النراقي يرى أن ضرورة حكومة الفقهاء أمر ثابت بالدليل العقلي، ولا علاقة له بالبحث الكلامي، واعتبارهم نواباً عن الأئمة المعصومين G؛ لأنها الصياغة الفضلى لنظام الحكم في المجتمعات الإسلامية جميعها ــ سواء كانت سنيّةً أو شيعية بل وحتى المجتمعات غير الإسلامية ــ وإن كانت طريقة فقهائنا في الاستنباط تعتبر طريقة خاصّة باعتبار أنها تقوم على أسس تنبع من طبيعة المذهب الإمامي.

من هنا، يمارس النراقي هذه الطريقة من الاستدلال في كتابه العوائد، إلاّ أنّه لا يقف عند حدّ التنظير لصيغة نظام الحكم، بل يحاول ــ كأي مفكّر سياسي يعيش هموم تطبيق النظرية ــ معالجة إشكاليّات الواقع، فنجده يسعى جاهداً إلى المقاربة بين نظريته وبين الإشكاليات السياسية للواقع الذي عاصره ليخلص إلى نظرية ((السلطان العادل))، ويرى النراقي نفسه ــ انطلاقاً من موقعه الفكري والعلمي ــ أمام مهمّة علمية كبيرة ــ كما يشير إليها أرسطو أيضاً([30]) ــ ؛ لأنه في الوقت الذي يتعيّن عليه بيان نوع الحكم الذي يجب تطبيقه باعتباره الصياغة المثلى، وبيان خصائصه ــ على فرض عدم وجود معوقات في طريقه ــ فإنّه ينبغي عليه أيضاً بيان أفضل صياغة عملية للحكم يمكن تطبيقها وممارستها في العصر الحاضر، وماهية نوع الحكم التي يتقبلها طبع كلّ قوم وكلّ أمّة، وبيان السُبل العملية الكفيلة بتطبيق ذلك.

فينبغي الأخذ بأبعاد القضية وجوانبها كافّة، ثم تحديد أفضل الصيغ للحكم، بحيث يسهل تطبيقها من الناحية العملية، كما ينبغي عليه تحديد الإشكاليات التي تواجهها حكومة عصره التي تفصل بينها وبين الحكومة الأنموذجية التي يدعو إليها مسافات طويلة.

لقد أدرك النراقي أنّ الحكومة الإيرانية التي عاصرها ــ والقائمة على النظام الملكي ــ ضاربةٌ بجذورها في تاريخ الأمة الإيرانية وتعتبر طبيعية للحكم هناك. كما كان يدرك أيضاً أن ترك العادة مرض عضال، وأنّ تعريض البناء القائم للانهيار وإقامة نظام آخر ليس بالأمر السهل، ولذا نجده يطلق ــ إلى جانب فكرة ولاية الفقيه ــ فكرة حكومة السلطان العادل، فيحرّر أكثر كتاباته إلى سلطان عصره فتح علي شاه بما يتماشى والأعراف الموجودة في ذلك العصر، محاولاً من وراء ذلك كلّه جعل ملك القاجار سلطاناً عادلاً متحلّياً بالأدب والتربية الإسلامية، ويمكن المقارنة بين موقف النراقي وفتح علي شاه، وبين أفلاطون وديون حاكم سيراكوس، وبين أرسطو والإسكندر المقدوني.

فكرة السلطان العادل ــــــــــ

لـمّا كـان تحقّق الفضيلة لدى الفرد أو المجتمع منوطاً ــ على نحو الحصر ــ بإقامة العدالة، كما ألمحنا لذلك قبل سطور، فإنّ الذي يأخذ على عاتقه تحقيق ذلك هو العادل الحقيقي، وقد قرن النراقي بين إقامة العدالة وبين درك الشريعة، فالأساس هو العدالة، وهي تنتهي في تعريفها وبيان حقيقتها إلى الشريعة، فلو أردنا إجراء العدالة على صعيد الفرد أو المجتمع بشكل دقيق وكامل فلا بد من السعي لتطبيق الشريعة في المجتمع بشكل دقيق، فإنّ تحقيق العدالة مرهون بتطبيق الشريعة، فالسرّ الكامن وراء ما يطرحه النراقي في حكومة الفقهاء إنما هو الاعتبار المذكور من معرفة الفقهاء بمعايير العدالة لتحقيق العدالة الحقيقية.

إنّ تصدّي الفقهاء مباشرةً لأمر الحكومة وإجراء الأحكام الإسلامية وإن كان أفضل أنواع الحكم في زمان الغيبة، إلاّ أن تطبيق العدالة الحقيقية في المجتمع واتّصاف المجتمع بها لا يتوقف على تحوّل الجميع إلى فقهاء، فإنّ الغرض المهم ليس العلم بالشريعة وملاك العدالة، بل المهم هو العمل بمقتضى ذلك وتطبيقه؛ إذ كما قد يتحقّق العلم بالشريعة للبعض بطريق الاجتهاد تارةً أو التقليد لغيرهم تارةً أخرى، كذلك يمكن تحصيل معيار العدالة الحقيقية بطريقين: الأول طريق الاجتهاد والفقاهة، والثاني طريق التقليد، وإن كان أقلّ فضيلةً من الاول، بحيث يمكن اللجوء إليه في حال الضرورة.

وبهذا نخلص إلى أنّ إقامة النظام السياسي لا يتوقّف على حكومة الفقهاء أو الحكّام الفقهاء، بل يمكن الالتجاء إلى الطريق الآخر، فيتصدّى لأمر الحكومة من يقلّد الفقهاء ويرجع إليهم ليطبّق آراءهم، هذا الطريق وإن لم يكن كالأول في الفضل إلاّ أنّه طريق جيد في نفسه، فلا دليل على عدم إمكان إحراز ملاك العدالة الحقيقية عن طريق التقليد، فكما يمكن إجراء ذلك بالاجتهاد يمكن كذلك بالتقليد، وكما يمكن تطبيق العدالة في المجتمع بطريق الاجتهاد يمكن تحقيقها أيضاً بطريق التقليد.

يرى النراقي أنّ أقرب طريق إلى الواقع لتحقيق العدالة في المجتمع وبين الناس هو معرفة الحاكم بأحكام الشرع وقوانينه.

لقد استثمر النراقي تقليد السلطان فتح علي شاه القاجاري له ورجوعه إليه في الرأي ليتقرّب منه ويحمله قدر المستطاع على العمل بالشرع ومراعاة العدالة، ويوضّح له أنّ أهمّ الوظائف التي يجب عليه العمل بها هو تطبيق العدالة، وتطبيقها ــ الذي هو عبارة عن العمل بالشريعة ــ يضمن شرعية السلطان. ويذهب النراقي مؤكّداً على أن العدالة أمر واحد، فكلّ تجاوز لها وتعدٍّ عنها يكون ظلماً، فإذا أمكن للسلطان التحلّي بالعدالة وتطبيقها في المجتمع صار ظلّ الله في الأرض؛ وذلك لأنّ العدالة ــ كما قلنا ــ أمر واحد، ((وكلّ أمر واحد وكلّ وحدة في عالم الإمكان فهي ظلّ لوحدته سبحانه، كما أنّ كلّ وحدة حاصلة في الأمور المتباينة فإنّها أثر من آثار وحدته))([31]).

وفي ضوء ذلك، لا مسوّغ لسلطان كلّ من يتقلّد زمام الأمور بأي سبب كان أو بالغلبة والقهر والقوة، فالشرعية منوطةٌ بتطبيق الشريعة التي هي أساس العدالة ومعيارها الحقّ، فليس كلّ سلطان ظلّ لله، بل هو خصوص العادل، السلطان الذي يجعل العدالة والشريعة نصب عينيه ويمتثل لآراء مقلَّده وأوامره، فمثل هذا هو السلطان الحقّ، كما أنّ السلطان العادل سبب لظهور البركات والخيرات الكثيرة في مجتمعه وبلاده.

يقول النراقي: ((العدالة ــ بالمعنى الأخص ــ عبارة عن حبس النفس عن إلحاق الظلم بالناس، ودفع ظلم الغير عنهم قدر المستطاع، وإقرار كلّ ذي حق على حقّه.. وهي المقصودة بهذا المعنى في الروايات الشريفة والآيات الكريمة، وشرف هذه الصفة خارج عن حدّ الوصف، وفضلها فوق مستوى البيان، فهي تاج وهّاج تزيّن رأس كلّ سلطان وتشرّفه بالوصول إلى منصب ظل الله، وخلعة ثمينة تكتسي بها لياقة كل سلطان، وتحبى من بين جميع الخلائق برتبة جليلة وعالية، وهي كونه ملاذاً وكهفاً للعالم. وأنى لنا أن نتمكّن من بيان شرف صفةٍ قد أنيط بها نظام نوعٍ هو أشرف أنواع الأكوان وقوام لوجود سلسلة بني آدم الذي هو أفضل أبناء العالم…))، ((وهذه الطائفة (النوع الإنساني) لما كانت حياتهم قد نسجت من الشهوات واشبعت بها وطال بهم الأمل فكلّ واحد منهم مستعدّ ــ من أجل الوصول إلى مقصوده ــ لارتكاب أنواع الفساد، ويسعى به ذلك للانحراف عن جادّة الاستقامة والصواب، ومن هنا يمدّ الطامعون عين الطمع إلى أموال العجزة، ويبسط الأقوياء يد العدوان علىالفقراء، ولهذا السبب تتلاشى الحياة، وتقصر اليد عن نيل المقصود، وهو إعمار الآخرة، فكان من اللازم وجود رئيس مطاع ومقدَّم لازم الاتّباع يلوذ به الفقراء من شرّ الأشرار، وينعمون بنعمة عدالته، ولذا فإنّ الحكيم على الإطلاق ــ لفرط رحمته وإشفاقه بخلقه ــ قد جعل لكلّ دولة رئيساً ولكلّ ملة أميراً، ليرعى ــ ساهراً ليل نهار بعين الحب ــ أوضاعهم ويحرسها؛ لكي لا يدع يد الجور المعتدية تخدش بظفرها حال المعدمين، ولكي لا تعمل فأس أهل الفساد الظالمة بنخل الفقراء لاجتثاثها، فسلاطين العدالة منصوبون من قبل حضرة مالك الملك لرفع الظلم، وحراسة عرض ومال أهل العالم، متميزون على جميع الخلائق ومشرّفون بشرف منصب ظل الله، ليقيموا أمر معاش العباد ومعادهم ويحفظوا حياتهم))([32]).

إنّ مقارنة كلام النراقي فيما يرتبط بضرورة تأسيس النظام السياسي من قبل الأنبياء([33])، بما نقلناه آنفاً ينتهي إلى مؤدّى واحد، فكلامه في الموضعين متقارب، فالسلطان العادل يأخذ على عاتقه في ظل توجيه الفقهاء وتقليدهم وظيفة الأنبياء في بناء النظام السياسي.

ويمكن تقسيم نوع الحكومة المطلوبة طبقاً لسلسلة مراتب المطلوبية ــ ومع الأخذ بنظر الاعتبار رأى النراقي في الحكومة والقيادة ووظائف الحاكم في إقامة النظام السياسي ــ إلى ثلاثة أنواع:

1 ــ حكومة الأنبياء والمعصومين G.

2 ــ حكومة الفقهاء والعدول.

3 ــ حكومة السلاطين العدول المقلّدين.

ويرى النراقي أنّ العدالة فضيلة لا يقتصر فضلها على نظم أمور الفرد والمجتمع فحسب، بل إن وجود مجتمع يقوم على العدالة يزيد ويبارك في مواهب الطبيعة، بل حتى ما يعقد عليه السلطان قلبه من تطبيق العدالة وإصلاح نفسه أو عدمه له دور في عمران البلاد أو خرابها، لهذا يقول النراقي بهذا الشأن: إذا أمسك السلطان العادل بمقادير الأمور صلحت جميع المفاسد، واستنارت جميع البلاد وعمرت وأغدقت العيون والأنهار بالمياه، وازدادت الثمار ونسل الإنسان، وهطلت بركات السماء على الأرض ونزلت الأمطار النافعة، ولذا كانت عدالة السلطان من أفضل أقسام العدالة وأشرف أنواع السياسة، بل إن كل عدل متوقف على عدله، وكلّ برّ وخير منوط ببّره وخيره.. بل حتى حسن نيته له دخل عظيم وتأثير تام في هذا الأمر، كما ورد بذلك قول أميرالمؤمنين C: ((إذا تغيّر السلطان تغيّر الزمان))([34]).

إذا كانت نية السلطان خيراً

فقد تنبت الأرض بدل التراب زرعاً

إنّ ما تعانيه الرعية من متاعب وسعادة

ينطق عن عدل الملك (أو ظلمه) ([35]).

ويظهر من النراقي بشكل جلي من خلال النصّ السابق وصفه لعدالة السلطان وبيان أهميتها إلى حدّ يربط فيه بين عدالته وبين الظواهر والقوى الطبيعية، كما أنّه يستفيد بشكل بديع في بحث عدالة السلطان من بعض الروايات ومن الفكر السياسي الإيراني القديم الذي يشير إلى أنّ مواهب الطبيعة، بل وحتى بقاء الدولة منوطان بعدالة الملك ونيته([36]).

وكما أشرنا سابقاً مراراً، لا تقوم عدالة السلطان ــ عند النراقي ــ بشخص الحاكم، بل ترتبط بعدالة هي أسبق وأكبر نطاقاً ودائرة، وهي عبارة عن الشريعة الإلهية والسنّة النبوية، فإنّ السلطان العادل ليس أوّل عادل، بل إنه في أحسن الأحوال عادل متوسط، لذا يقول النراقي: ((إعلم أنّ علماء الأخلاق قسّموا العدول إلى ثلاثة أقسام: الأول: العادل الأكبر، وهو الشريعة الإلهية التي هي من قبله سبحانه، والصادرة منه للمساواة بين العباد. الثاني: العادل الأوسط، وهو السلطان العادل التابع للشريعة المحمديّة، وهو خليفة الأمة والشريعة، الثالث: العادل الأصغر، وهو الذهب والفضّة التي تحفظ المساواة في المبادلات والمعاملات، والتي أشار إليها سبحانه بقوله: >وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديدٌ ومنافع للناس< (الحديد: 25)، فالقرآن هو الشريعة الإلهية، والميزان فيه إشارة إلى الدرهم والدينار، والحديد إشارة إلى سيف السلطان العادل الذي يهدي الناس إلى الطريق المستقيم، ويحفظهم في أمورهم جميعها من الظلم والجور))([37]).

وفي قبال هؤلاء العدول الثلاثة، ثلاثة أنواع من الظلمة الغاشمين: الأول: الظالم الأعظم، وهو الذي يأبى عن متابعة الشرع، وهو الكافر. والثاني: الظالم الأوسط، وهو الذي يأبى طاعة السلطان ولا ينقاد لأمره وهو الطاغي. والثالث: الظالم الأصغر، وهو الذي لا يلتزم بحكم الدرهم والدينار في المساواة، فيأخذ أكثر من حقّه ويعطي الغير أقلّ، وهذا هو السارق الخائن.

4 ــ أهداف الدولة ووظائفها ــــــــــ

يعتبر النراقي البحث عن مبدأ نشوء المجتمع ــ سيما تشكيل النظام السياسي وانتخاب القيادة الربانية للنظام السياسي ــ عاملاً مؤثراً في اتضاح أهداف الدولة وما يترتب عليها من وظائف، وسنحاول أن نتعرض فيما يلي بشكل ملخّص إلى وظائف الدولة.

والملاحظ أنّ مقتضى طبيعة الإنسان تدعوه إلى نزاع مستمر مع أبناء نوعه، إلاّ أن هذا الجدل والنـزاع الذي ولّد معه البغض المتبادل بينهم صار سبباً لفكرة تأسيس الدولة والنظام السياسي في المجتمع، ووضع القانون وجعل القيادة الإلهية لضمان مقدمات السعادة الأبدية للإنسان، مضافاً إلى ضمانه لبيئة يتعايش فيها الانسان مع أبناء نوعه.

وعليه فإنه يمكن القول: إنّ الغرض من تأسيس الدولة هو تأمين الحياة الطيبة والفاضلة للناس، وليس تأمين حياة مادية جافّة وغير هادفة، فإنّ تحقيق السعادة والفضيلة في حياة آحاد الناس يعدّ من الوظائف القطعية للدولة الناجحة.

ويؤكّد الأنبياء والرسل الإلهيّون ــ إلى جانب تشكيلهم للحكومة ــ على أهمّ وظيفة لهم، وهي التربية والتعليم، قال النبي الكريم 2: ((إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)). بل إنّ أصل إقامة الدولة هو القيام بأمر التربية والتعليم، والدولة الموفقة هي الدولة المربية والمعلِّمة.

إنّ هدف الأنبياء من تأسيس الدولة والنظام السياسي الذي أقاموه كان تحقّق الأفعال الشريفة، وليس فقط إيجاد السلام والوئام بين الناس، وفي عصر الغيبة حيث يراعي الحكّام الحقيقيون معيار العدالة التي هي هدف الشريعة المحمدية، على الدولة القيام بهذا الواجب.

إنّ أهم وظيفة تقع على عاتق الدولة ــ برأي النراقي ــ إلى جانب إقامة النظم وتحقيق العدالة في المجتمع، إصلاح المعايب الخلقية للناس وغرز الفضائل النفسانية فيهم، وهذا هو الأساس في الدافع الذي يجعلهم يتحرّكون باندفاع مطلق لاتباع جميع التعليمات والتوجيهات الصادرة عن للدولة.

الدولة من منظار النراقي بمثابة مركز للتعليم الدائم والمستمر، تأخذ على عاتقها تربية الناس وتعليمهم وبثّ الفضائل الخلقية بينهم منذ بداية عهدها على الأرض وحتى اليوم الأخير منه.

ومن هنا، تختلف وظائف الدولة عنده اختلافاً واضحاً عمّا هي عليه في الفكر اليوناني الأفلاطوني والأرسطي من جهة، وعمّا هي عليه في الفكر السياسي الحديث كما عند جون لوك، وإن كان رأي كلّ من أفلاطون وأرسطو قريباً مما يراه النراقي من فكرة الدولة المربيّة، مع فارق أنهما يريان ملاك النظم الاجتماعي والحياة الفردية مبنيين على العدالة الثابتة عندهما بالعقل، فالدولة المربية التي ينظرانها هي الدولة العقلية، وأمّا الدولة التي ينظّر لها النراقي فهي الدولة الشرعية. وعلى كلّ حال فإنّ هذه الخصوصية المهمة والمشتركة بين الفكر اليوناني والفكر النراقي والتي تجعل من التربية والتعليم مشروليّة على عاتق الدولة أوجبت تقارباً بينهما سيما في بحثنا هذا.

وأمّا رأي جون لوك فإنّ له أهميّة خاصّة في هذا المجال؛ لأنه يبيّن الأسس التي تبتني عليها الليبرالية في إنجلترا، ويقوم عليها النظام السياسي الحالي في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ تتأطّر الحكومة الليبرالية من وجهة نظر لوك بالدفاع عن حقوق أعضائها عند تعرّضها للاعتداء فقط، فهو يرى: ((أنّ الحكومة غير موظّفة بالرقابة على ألاّ يقع خطأ أو فساد من أحد أفراد المجتمع، بل موظّفة بأن لا تدع أحد مواطنيها يرتكب ما من شأنه التعدّي على حقوق المواطنين الآخرين)). وهذا عكس ما يعتقده النراقي، حيث يرى أنّ من واجبات الدولة ــ إضافةً إلى منعها من وقوع تعدّي بعض المواطنين على حقوق بعض آخر ــ المنع أيضاً من وقوع المخالفات الشخصية، فكما يلزم على الدولة معاقبة السارق والقاتل عليها أيضاً معاقبة الزاني وشارب الخمر.

5 ــ علاقة الدولة بالمجتمع والفرد ــــــــــ

يتبنّى النراقي في مجال علاقة الفرد والدولة والمجتمع رأياً مخالفاً تماماً لما عليه الليبرالية في عهدها الحديث، سيما ما يتبنّاه لوك في هذا المجال، فهو رأي قريب ــ كما أشرنا لذلك سابقاً ــ من رأي فلاسفة اليونان كأرسطو وأفلاطون على الرغم من وجود بعض الفوارق المائزة بين الرأيين.

إنّ الرأي الذي يفترض المجتمع الإنساني مجموعةً واحدة يرتكز على قاعدة أنّ البشر أساساً ــ وبمقتضى الطبيعة كما يعبّر أرسطو ــ يحتاج بعضهم إلى بعضهم الآخر؛ لأنّهم بحاجة في رقيّ حياتهم الفردية وتكاملها للعيش في اجتماع مع بني نوعهم، وهذا ما يستفاد من قوله: ((… إنّ الوجود المدني والاجتماعي للإنسان أمر ظاهر وواضح، وكل مجموعة تتخذ لها مسكناً ومنـزلاً، سواء كان السبب هو توقف بقاء النوع ومعاشهم على ذلك، أو كان بمقتضى الطبع الإنساني، أو جريان العادة الربانية بذلك))([38]).

فهناك فرق شاسع بين النظرية القائلة بأنّ الاجتماع الإنساني أمر طبيعي، أو أنّ معيّة الناس بعضهم لبعض أمر تلقائي لا بعقد اجتماعي مسبق، وبين النظرية التي تعتبر أفراد الإنسان مستقلّين بعضهم عن بعض، فهم أجزاء مفكّكون ولا رابطة تجمعهم. ويرى لوك أنّ أفراد النوع الإنساني يعتبرون أنفسهم وجوداً ذا قيمة أخلاقية قبل قبولهم بالعقد الاجتماعي كأساس للدولة والنظام السياسي، وبما أنّ الإنسان موجود كامل وعاقل وذو قيم أخلاقية لذا يمكنه إقرار عقد اجتماعي فيما بينه وبين الآخرين، بَيْدَ أنّ هذا العقد لا يغيّر فيه شيئاً؛ لأنه موجود كامل، نعم قد يترك بعض المؤثرات الإيجابية في وضعه الاقتصادي والرفاهي كالملكية مثلاً وغيرها.

وخلافاً لذلك، ذهب النراقي إلى افتقار آحاد المجتمع الإنساني بعضهم إلى الآخر، فالحياة الاجتماعية تمثّل ضرورةً لديهم لا بدّ منها، ومن أجل الوصول إلى موجودٍ يحمل مُثلاً خُلقية لا بد من اتّباع الشريعة، فالشريعة هي الهادي في الحياة الفردية والاجتماعية معاً، وذلك لوجود الرغبات والميول المؤثرة على الإنسان، والتي لا يستطيع العقل بمفرده أن يسيطر عليها ويوازن فيما بينها، لذا وجب بعث الأنبياء وإرسال الرسل.

وبهذا يختلف النراقي مع الفكر اليوناني في قيام الدولة وتأسيس المجتمع السياسي، فإنّ الدولة الصالحة على مختلف أنماطها وأنواعها ــ سواء كانت الحاكمية فيها للأنبياء أو للفقهاء أو للسلاطين المقلّدين لهم ــ هي دولة تابعة للشريعة بلا شك، ولا يعترف النراقي بالفكرة التي تبحث عن تقدّم أجزاء الدولة وتفوّقها على الأجزاء الأخرى المعبّر عنها في الفكر الحديث بالحاكمية، أي حاكمية بعض الأجزاء على غيرها؛ وذلك لأنّ مفاهيم العدالة والقانون والشريعة، والتي هي عبارة عن شيء واحد، مفاهيم ذات قيمة خاصّة، فالشريعة والقانون في الدولة التي ينظّر لها النراقي هما المرجع الأعلى في الدولة، فيما الحاكمية في الفكر الجديد تعني التفوّق على القانون، ولذا يرفض النراقي أيّ هيئة أو إرادة تحكم فوق القانون وخارج مداره؛ لأنّ ذلك معناه تهديد حاكمية الشريعة والقانون بالسقوط، فيما هما أمر حياتي لكلّ مجتمع، وقد يقال: إنّ الحكم للقانون، فالقانون هو الحاكم، لكن هذا رجوع أيضاً إلى ما قلنا من أنه لا حاكم أعلى من القانون، وهذا هو المراد.

وبالرغم من اعتبار النراقي ــ من وجهة نظره ــ الفقهاءَ العدول هم الحكّام على الإطلاق، إلاّ أنّ الفارق يبقى موجوداً بين ما يدعو إليه من الحاكمية المطلقة ــ إن صحّ هذا الإطلاق عليها ــ وبين فكرة الحاكمية الجديدة، فالنراقي وإن كان يعترف للولي الفقيه فوقيّته على القانون المدوّن إلاّ أنّ هذا ليس بمعنى أن الفقهاء هم الذين جعلوا هذا القانون من عند أنفسهم، بل مصدر الفوقيّة ينشأ من علمهم بالشريعة، هذا العلم الذي يمكّنهم من إدراك مجموعةٍ من الأصول والقواعد التي يجب في ضوئها مطابقة القانون عليها، فهؤلاء فوق القانون في الحدّ الذي يعترفون فيه بحاكمية الأصول التي تحكم هذه القوانين، ومن أجل الفهم الصحيح لهذه الفكرة قيل: إنّ وضع القوانين من قبل الفقهاء لا يعني أنهم مصدر التشريع والتقنين، بل هي مشتقة من قواعد مقرّرة وموجودة في الخارج، بحيث لا يرتبط وجودها وعدمها بوجود المقنّن والمشرّع، وعليه، فليس الحكم إلا لله وحده.

ويطلق مصطلح (الحاكم المطلق) في القاموس السياسي الحديث على الفرد أو الجماعة التي لها حقّ وضع القوانين طبقاً لما تمليه إرادتها وميولها، فلها إقرار القانون أو عدم إقرارها طبقاً لذلك.

وترتكز فكرة الحاكمية المطلقة في العصر الحاضر على افتراض أن يكون ثمّة حاكم مطلق يفوّض إليه تقنين كلّ ما يريده، فيخلع على جميع ما يريده ويراه ويطمح إليه ثوبَ القانون، وهذه هي المعبّر عنها بالقوة العليا، والتي يعتبرها هوبز من حق الحاكم الواحد أو المجلس الواحد، أو حق الأكثرية حسب تعبير لوك، فيما يخصّها روسو بإرادة الجميع.

إنّ الحاكم لا يتم تعيينه ــ في نظر النراقي ــ عن طريق تدخّل الشعب وانتخابهم له، إنما بتعيين قوّةٍ تفوق النظام السياسي، ألا وهي الإرادة الإلهية، وحتى في عصر الغيبة يستحقّ الحكّام الحقيقيون الحكم والنصب من قبل الشارع بنحوٍ ما (النصب العام) لتوفر الأرضية المناسبة والشروط اللازمة فيهم من العلم والعدالة.

الشيء الوحيد في نظرية النراقي الذي من المحتمل أن يكون قد أدّى إلى توهم حاكمية الشعب وحرّيته في التصرّف والاختيار هو دوره في اختيار الفقيه الحاكم، وربما استمدّت بعض النظريات الجديدة آثارها من هذا التوهّم، سيما نظرية انتخاب الإمام، فإنّ المصدر في هذه النظرية قد يكون هو ما ذكرناه، إلاّ أنّ التأمّل في نظرية النراقي كفيل ببطلان هذا التوهم، فقد كتب في العوائد: ((يجب على العامّي الاجتهاد في تعيين الفقيه الذي يقلّده من بين أصناف الفقهاء من الأصولي والأخباري، والحيّ والميت، والأعلم وغيره، والمتجزّئ والمطلق، وطريق اجتهاده فيه سهل لا صعوبة فيه، ذكرناه في منهاج تقليد الأموات من كتاب مناهج الأحكام….))([39]).

وقد تعرّض في مناهج الأحكام ــ المشار إليه ــ إلى طريق الاجتهاد، حيث ذكر هناك أن الذي يجب تقليده والرجوع إليه هو الفقيه العالم، وهو على أصناف: الحي والميت، الأصولي والأخباري، الأعلم والأدون، والأورع وغير ذلك… فاللازم على العوام أن يرجعوا بشكل عام فيما لا يعلمون إلى العالم، ومسألة تعيين الرجوع للعالم ــ كيفية الرجوع ــ غير واضحة، وهكذا مسألة تعيين المرجع، وعليه، يجب على المكلّف الرجوع إلى العلماء في تحديد المرجع، فإذا عجز العلماء عن ذلك وجب على المكلّف الرجوع إلى المرجعَين اللذين لا يجيز كلّ واحد منهما تقليد الآخر.

والحاصل: إنّ المرجع في الفرعيات واحد، فاذا كانت المسألة خلافيةً بين مرجعين، فإن أجاز له كلّ منهما تقليد المرجع الآخر تخيّر بينهما، وإن أجاز أحدهما دون الثاني قلّد الذي لم يُجز لأنه المجمع عليه، وإن منعاه من تقليد الآخر، سألهما المكلّف عن حكمه، وحينئذ فلا بد وأن يكون الجواب التخيير، فيصير تعيين أحدهما قطعياً وليس باب التقليد مسدوداً([40]).

هذا تمام ما يمكن الاستناد إليه من كلام المحقق النراقي في تحديد الطريق للوصول إلى الفقيه والمرجع، وإذا استطعنا تطوير هذه الفكرة إلى فكرة انتخاب الناس للفقيه في النظام والمجتمع فإنّ ذلك أيضاً لا يلتقي مع مفهوم الحاكمية الحديث من جهة، ولا مع بعض الآراء الجديدة في ولاية الفقيه التي تسعى للمصالحة بينها وبين بعض النظريات السياسية المعاصرة من جهة أخرى.

6 ــ المجتمع والحكومة، النطاق الحقوقي ــــــــــ

لا شك أن الحكومة التي يدعو إليها النراقي هي الحكومة الدينية الشرعية القائمة على أساس العدالة والشرع، والشارع الحكيم في الوقت الذي عيّن فيه الحاكم وأوجب على الناس اتّباعه وطاعته، رسم الحقوق الاجتماعية والحكومية أيضاً، وأوكل تحديد تلك الحقوق ــ بقسميها ــ إلى من بيده السلطة السياسية وهم الفقهاء العدول. وعليه فإنّ الشريعة التي شرّعت حقوقاً كثيرة للرعية وألزمت القادة والحكّام بتطبيقها والإلتزام بها، أرجعت الرعيّة ــ في الوقت عينه أيضاً ــ في معرفة حقوقها الفردية والاجتماعية وتشخيص حدودها ونطاقها من زاوية شرعية إلى الفقهاء العدول، أي الحكّام على المجتمع، فهم المصدر الوحيد ــ في نظرية النراقي ــ لتحديد الحقوق الاجتماعية والحكومية لا غير.

وبطبيعة الحال، فحريّ بمثل هذه النظرية أن تكون أساساً لنظام حكم مركزي ومقتدر بقيادة مرجعية مركزية ومقتدرة، لكن لا ينبغي الخلط بين هذه النظرية وبين نظرية الدولة الدكتاتورية، أي الدولة التي يحكمها شخص واحد حقيقي ويكون فوق مستوى المساءلة، بحيث تكون الحكومة ضامنةً للمصالح الشخصية لحكّامها حيث تتساوى الغاية من إقامة الحكومة مع التسلّط السياسي والاستئثار بالقرار السياسي([41]).

وبالرغم مما يمنحه النراقي من صلاحيات للطبقة الحاكمة التي يراها، إلاّ أن ذلك لا يتم إلاّ وفق معيار رئيس هو العلم، حيث: ((يجب عقلاً رجوع العامي للعالم))، فبقدر ما يستنبطه ويعيّنه هؤلاء من حقوق بقدر ما يجب إطاعتهم فيه، بل إنّ الفقهاء الذين استنبطوا تلك الأحكام هم أولى بامتثالها والأخذ بها؛ لمكان علمهم واجتهادهم.

وعليه فصِرف اختصاص القدرات والإمكانات بيد الحاكم لا يخلق منه دكتاتوراً، لأن لازم ذلك أن تكون جميع النظريات المعاصرة دكتاتورية؛ وذلك لأنّ دكتاتورية كلّ نظرية منوطة بطبيعة الحاكم الذي تسخّر له هذه المقدّرات، ومنوطة كذلك بالأهداف التي تفوّض على أساسها مثل هذه المقدرات.

هذا ما أمكننا عرضه من النظرية السياسية للنراقي، ولا شك أنّ هذا المقدار غير كافٍ لصياغة نظريته في هذا المجال بشكل متكامل، وإنّما هي محاولة لتصوير لمحة عن الإطار العام لهذه النظرية.

والذي يبدو لي أنّ النتائج التي يمكن ترتيبها على إعادة صياغة الفكر السياسي لدى النراقي عبارة عن:

أولاً: المساعدة في فهم وتحليل نظريته في ولاية الفقيه التي طرحها في كتابه عوائد الأيام.

ثانياً: توضيح الفكر الحاكم على إيران خصوصاً من الفترة القاجارية فما بعدها، وبنحو آخر أيضاً إلى قيام الجمهورية الإسلامية، ذلك الفكر الذي لم يضمحل في إطاره العام رغم الصدمة الكبيرة التي تلقّاها في الحركة الدستورية.

ثالثاً: إنّ بإمكان ذلك أن يؤثر في ترميم فكرنا السياسي الحاضر، أو ليست الحياة المستقلة لأي نظام سياسي وهو يعايش المجتمعات والآراء والنظريات الموجودة بوصفه جزءاً من أجزاء الحياة العالمية، ويحرص على مواكبة العصر، بحاجة إلى فكر حيّ وحرّ قائم على المنطق؟

إنّ الحياة المستقلّة والسياسة المستقلة تبتني على الفكر الحرّ، وإذا أُريد للفكر الحرّ أن يحافظ على استقلاله وحريته وحياته وتأثيره فلا بد وأن يواكب الزمن وأن يكون حاكماً عليه وسابقاً، ولا يتيسر هذا إلاّ في ظل الإصلاحات والتعديلات المستمرة للفكر وأركانه وأطره، وجعلها على محكّ المعطيات والمتطلّبات الزمانية، وهذا ما يحتاج إلى فكر حرّ وبالتالي إلى سياسة حرّة مستقلة، وفي غير هذا الحال سوف يكون موقفنا موقف المدافع الذي فوّت فرصة الهجوم والمبادرة، ومن ثم التراجع للاستتار خلف السواتر الدفاعية التي لا تقوى على المقاومة؛ لأنها قائمةً على أساس غير محكم من العقائد والأفكار لدى عامّة الناس، والتي لا تصلح أن تشكّل أساساً لفكر سياسي يراد له الحياة والديمومة؛ لأنّ ذلك طريق غير آمن ومحفوف بالخطر على المدى البعيد.

وعلى كلّ حال، إن مواجهة تحديات العصر لا ينبغي أن تخيفنا أو ترعبنا، فالطريق الوحيد للنجاح هو المثابرة والسعي الدائم في طريق الإصلاح العقلي والمنطقي للفكر الذي نؤمن به والذي يمثّل أرقى فكر يكفل سعادة الإنسان، لأن جذوره تمتدّ إلى الدين الإلهي، وهذا الطريق وإن كان محفوفاً بعقبات كبيرة، إلاّ أنّه الطريق الوحيد الذي يفترض بنا سلوكه.

ويعتبر تحليل آراء كبار السلف ونقدها من أهم الواجبات والمهام في هذا السبيل، أمّا البحوث والاستدلالات الكلامية فهي وإن كانت علاجاً مسكّناً ومحطات إقناع بشكل مؤقت إلاّ أنها تعتبر عابرة وغير دائمة التأثير، هذا مضافاً إلى أنّها سوف تضفي على فكرة ولاية الفقيه صبغة شيعية خاصة، وتحصرها في هذه الدائرة الضيّقة إذا ما قسناها بالدائرة الأكبر للمسلمين، بل ستغدو ــ من ناحية فكرية ــ قاصرةً عن الإجابة على تساؤلات المسلمين من غير الشيعة، رغم أننا لاحظنا ــ من خلال البحث السابق ــ أنّ نظرية ولاية الفقيه تمثل نظرية سياسية إسلامية تشمل جميع المجتمعات والمذاهب الإسلامية، فهي نظرية عامّة وعالمية.

إنّ تهذيب وترميم النظرية السياسية للنراقي في نطاق هذا البحث له أهميته الخاصّة به، حيث اتّصف هذا البحث بالحيادية وعدم اعتماد النقد كما لاحظنا؛ وذلك ليكون مناراً في هذا الطريق، فهذا هو المقصود وليست الدراسة النقدية، فهي خارجة عن قدراتنا، بل نسعى إلى دراسة نظرية ولاية الفقيه للنراقي في ضوء مجموع أفكاره وآرائه.

7 ــ النراقي والمراغي وتعدّد القراءات الفقهيّة لمقولة ولاية الفقيه ـــــ

تركت آراء جعفر كاشف الغطاء في هذا المجال آثارها على الفقهاء الذين تلوه، فقد استند في مسألة ولاية الفقهاء إلى أصل فقهي خاص، إلاّ أنه أجاز في الوقت نفسه ــ انطلاقاً من اطّلاعه على المسائل السياسية ــ لفتح علي شاه بمزاولة بعض الأمور الخاصة بالإمام C وبالمجتهدين من بعده، وعلى كلّ حال فقد كان أصله الخاص في الاستدلال على هذه المسألة منشأ ــ في الفترة التي أعقبته ــ لطريقتين ونظريتين متفاوتتين فيها.

فالفقهاء الذين كانوا على ارتباط بالمسائل السياسية، بادرت غالبيّتهم ــ عندما طرحت فكرة ولاية الفقيه ــ إلى الإيمان بها، وأثبتوا إطلاقها وعدم محدوديتها، وكان النراقي على رأس المبادرين إلى ذلك، وحيث يرجع الفكر السياسي في إيران في مبادئه وأسسه في تلك الحقبة التي عاصرها النراقي ــ من حيث طبيعته ــ إلى فترة قديمة، لذلك ــ أي لأجل الفترة التي كان ينتمي إليها الفكر السياسي آنذاك ــ شقّت مقولة ولاية الفقيه طريقها في فكر النراقي ومن تابعه إلى زمان الحركة الدستورية.

وقد كانت جهودهم تصبّ في إثبات الولاية المطلقة للفقهاء، حيث تمّت صياغة صلاحياتهم وحقوقهم جميعها ضمن قاعدة عقلية كلّية، صارت فيما بعد المدار والمحور في الاستدلال والاستنباط.

في المقابل، ثمّة فريق آخر من الفقهاء ممن كان بمعزل عن السياسة وملابساتها، عندما يصل بحث ولاية الفقيه يقتفي المنهج الخاص لكاشف الغطاء في معالجة النظرية، فكان العمدة في بحثهم التركيز على شمول الأدلّة في هذه المسألة وتشخيص حدودها وأبعادها، لا في الموارد المستثناة من هذه القاعدة وهذا الشمول، وأبرز هؤلاء المير عبدالفتاح المراغي صاحب كتاب العناوين، الذين فرغ من كتابته بعد سنة واحدة من صدور العوائد للنراقي، كما ينقل فيه عن الأخير.

وعلى هذا الأساس، انقسم الفقهاء إلى تيارين متأثّرين بكاشف الغطاء وآرائه هنا، الفقهاء الذين يؤمنون بولاية الفقيه على إطلاقها، والفقهاء النافون لهذا النحو من الولاية، وقد مثّل كلّ من النراقي والمراغي أنموذجين بارزين لهذين التيارين. وسوف نقارن بين رأيي هذين الفقيهين، ولا نحسبنا بحاجة للإشارة هنا قبل الدخول في المقارنة إلى أنّ الخلاف بين الفريقين ليس في أصل ثبوت الولاية للفقهاء، بل في حدودها وأبعادها وصلاحياتها، ويتأثر هذا الاختلاف بالخلفيات والنظرات غير الفقهية لدى كلّ واحد من هؤلاء الفقهاء، فالمهتمّين منهم بالسياسة يستنتجون استنتاجاً يختلف في طبيعته عن غيرهم.

يحاول العلمان المذكوران ــ النراقي والمراغي ــ استعراض كلّ ما يطلق عليه دليلاً فقهياً من العقل والنقل والإجماع، كما يرجعان معاً إلى الأصل الذي يتمسّك به كاشف الغطاء وهو: ((الأصل الأولي عدم ثبوت ولاية أحد من الناس على غيره؛ لتساويهم في المخلوقية والمرتبة، ما لم يدلّ دليل على ثبوت الولاية؛ ولأنّ الولاية تقتضي أحكاماً توقيفية، فلا ريب في أن الأصل عدمها إلاّ بالدليل))([42])، ويكمن الفارق بينهما في أنّ النراقي يؤسّس لقاعدتين كليتين وعقليّتين، يرتّب البحث في المسائل التي يبحثها جميعها عليهما، فيما يرفضهما المراغي بتاتاً.

ويمكن لهذا الاختلاف أن يكون مائزاً بين هذين الفقيهين، وقد أشرنا
قبل صفحات إلى القاعدتين المذكورتين، وسنذكرهما نصّاً بالتفصيل في الهامش، وذلك لأهمّيتهما([43]). والتأمل في هاتين القاعدتين يقودنا إلى الإذعان بأن القاعدة الثانية متضمّنة في الأولى ومؤدّية لها، وتتجلّى مصاديق الثانية في المناط الكلّي المذكور في الأولى، ويركّز النراقي في استدلاله بهذه القاعدة على ثلاثة أركان:

1 ــ الإجماع كما صرّح به كثير من الأصحاب بحيث يظهر منهم التسالم.

2 ــ الروايات العديدة الدالّة على ذلك والتي ذكرها.

3 ــ العقل.

وقد نقل من النصوص بعد الإجماع (19) رواية([44])، ثم يستدلّ بعد نقل النصوص قائلاً: إن من البديهيات التي يفهمها كلّ عاميّ وعالم ويحكم بها: أنه إذا قال نبيّ لأحد عند مسافرته أو وفاته: فلان وارثي، ومثلي، وبمنـزلتي، وخليفتي، وأميني، وحجتي، والحاكم من قبلي عليكم، والمرجع لكم في جميع حوادثكم، وبيده مجاري أموركم وأحكامكم، وهو الكافل لرعيّتي، أنّ له كل ما كان لذلك النبي في أمور الرعية وما يتعلق بأمّته، بحيث لا يشكّ فيه أحد، ويتبادر منه ذلك، كيف لا؟ مع أنّ أكثر النصوص الواردة في حقّ الأوصياء المعصومين، المستدلّ بها في مقامات إثبات الولاية والإمامة المتضمّنين لولاية جميع ما للنبي فيه الولاية، ليس متضمّناً لأكثر من ذلك، سيما بعد انضمام ما ورد في حقهم أنهم خير خلق الله بعد الأئمة، وأفضل الناس بعد النبيين، وفضلهم على الناس كفضل الله على كل شيء، وكفضل الرسول على أدنى الرعية.

وإن أردت توضيح ذلك، فانظر إلى أنه لو كان حاكم أو سلطان في ناحية وأراد المسافرة إلى ناحية أخرى، وقال في حقّ شخص بعض ما ذُكر فضلاً عن جميعه، فقال: فلان خليفتي، وبمنـزلتي، ومثلي، وأميني، والكافل لرعيتي، والحاكم من جانبي، وحجّتي عليكم، والمرجع في جميع الحوادث لكم، وعلى يده مجاري أموركم وأحكامكم، فهل يبقى لأحد شك في أنه له فعل كلّ ما كان للسلطان في أمور رعية تلك الناحية؟ إلا ما استثناه، وما أظن أحداً يبقى له ريب في ذلك، ولا شك ولا شبهة([45]).

وناقشه في ذلك معاصره المراغي، إضافة إلى نقده لما استدلّ به من نصوص، فقال: ((وهذه الروايات لا دلالة فيها على الولاية، نظراً إلى أنها مسوقة لبيان الفضل لا لبيان الولاية، ولا نسلّم الملازمة بين الفضل والولاية، بمعنى كون كل فاضل وليّاً على مفضول، سيّما إثبات الولاية العامّة المطلقة التي نحن بصددها، نعم، كون كلّ وليّ فاضلاً قضى به قبح ترجيح المرجوح أو المساوي، وأمّا كون كلّ فاضل وليّاً فلا دليل عليه، والأخبار لا دلالة فيها على أزيد من التفضيل، وهو غير المدّعى، وليس بمستلزم له))([46]).

فالروايات التي استدلّ بها النراقي لا تمثّل دليلاً مستقلاً ــ عند المراغي ــ لإثبات الولاية المطلقة للفقهاء، بل هي واردة لبيان فضلهم ومقامهم، ولا ملازمة بين الأمرين، فاللازم في إثبات المطلوب إقامة الدليل المباشر عليه، ولا تصلح الروايات التسعة عشرة المتقدّمة دليلاً لذلك.. وهكذا يحاول المراغي من خلال هذه المناقشة زعزعة القاعدتين الكليتين اللتين أسّسهما النراقي وأشاد عليهما بناءه، ثم يخلص إلى القول مستنتجاً: ((وبالجملة فالعمدة هنا الإجماع، وما مرّ من الأخبار على ما ذكرناه في بعضه، ولولا ذلك لما اقتضى كون الشيء مما لابد منه ثبوته على الفقيه، بل كان سبيله كسبيل الواجبات الكفائية، نعم لو أريد إثبات جواز مباشرة الحكّام أو وجوبها عليهم ولو كفايةً ــ وبعبارة أخرى عدم المنع عليهم في هذا التصرف ــ لأمكن إثباته على هذا الفرض، وهو ليس محلّ البحث، فتدبّر))([47]).

وقد تابع الشيخُ الأنصاري المراغيَّ في مناقشاته عندما أخذ يشكك في الإجماع.. وبهذا فقد أجهز أتباع هذا المنهج على فكرة الولاية المطلقة للفقهاء، وذهبوا إلى تحديدها بحدود الأمور الحسبية.

لكن ــ وكما تقدّم ملاحظته في استدلال النراقي ــ مجرّد الفضل والمنـزلة الثابتة للفقهاء كافية في ثبوت الولاية، فلا يلزم بناءً على ذلك وجوب دلالة الأخبار عليها بالمباشرة، بل حتى لو كانت في مستوى الإشعار بفضلهم ومقامهم ــ وهو أدنى مستويات الدلالة ــ كفى ذلك في إثبات المطلوب.

وبناءً على ذلك ــ أي القبول بأنّ الفضيلة تستلزم الولاية ــ لا يستقيم ما ذكره المراغي من المناقشة في الاستدلال بالروايات، ولا ما ذكره الشيخ الأنصاري من المناقشة في الإجماع، فيبقى ما ذكره النراقي من الاستدلال باقياً على قوّته، رغم أنّ دلالة الروايات التي تمسّك بها لا تفيد أزيد من بيان فضل الفقهاء ومقامهم.

إن ملاحظة منظومة الفكر السياسي عند النراقي تنتج أن العقل يقضي ــ وبمعزل عن الروايات المذكورة ــ بلزوم أن تكون الولاية للفقهاء العدول، لأنّ العدالة وتطبيقها تُعدّان رأس الفضائل، ومعرفة العدالة منوطة بمعرفة الشريعة، فإذاً الفقهاء عدول، لأنّهم يتّصفون بأعلى الفضائل، والعقل يدرك أنهم منصوبون من قبل الشارع، ويدلّ على ذلك ما استدلّ به النراقي في القاعدة الأولى التي تقدّم نقلها([48])، وكذا المتبادر من أنّ للفقهاء جميع الصلاحيات الثابتة للنبي 2.

وأما استدلال المراغي على أنّ مقتضى الروايات هو: ((كون كلّ ولي فاضلاً، وأمّا كون كل فاضل ولياً فلا دليل عليه)). فلا يمكن أن تصلح إشكالاً على نظرية النراقي؛ لأنّ النراقي لايرى ثبوت هذه الصلاحيّات لتمام الفقهاء في عصر واحد، بل هي لأفضلهم، وفي صورة التساوي فإنّ الناس يختارون أحدهم، وعليه فإنّ كلّ من يُنتخب إمّا لأفضليته أو لتساويه تثبت له جُملة الصلاحيات، وقد تعرّض النراقي بمنهج خاص لبيان الطريقة التي ينتخب من خلالها المرجع، وقد تقدّم شرح ذلك ونقله سابقاً.

الخلاصة ــــــــــ

حاولنا في هذا المقال إعادة صياغة النظرية السياسية للفاضل النراقي لصقلها في منظومة الفكر السياسي.. وقد استفدنا في ذلك من مؤلّفاته الأخلاقية والفقهية، كما دعمنا ذلك ببعض المقطوعات من ديوان شعره بالفارسية.

لقد لاحظنا النراقي في كتابه معراج السعادة ــ الذي تأثّر فيه بالأخلاق الفلسفية الأفلاطونية والأرسطية القديمة ــ يشبه الفكر اليوناني في النـزعة السياسية الأخلاقية، وتعتبر هذه الخصيصة من أهم ركائز هذا الفكر الأخلاقي.. حتى أنّ النراقي كتب سيف الأمّة وبرهان الملّة ردّاً على مارتن لوثر وپادري النصراني، حيث طرح فيه نفس هذه الأفكار التي تبنّاها.

إنّ ملاحظة المضمون الأخلاقي، الديني والسياسي لمعراج السعادة يكشف عن نمط خاص من الفكر السياسي يحفظ للعلم سيادته وموقعه المتميّز والمرموق. وينطلق النراقي من أن قوام المجتمع والفرد وديمومتهما مرهونتان بالعدالة، ليستدلّ على أنّ معطي العدالة ومصدرها الوحيد للناس هو الله تعالى. والشريعة ــ بناءً على ذلك ــ هي المعيار للعدالة، وتطبيقها هو الكفيل بتحقيق العدالة وحفظ سلامة الإنسان وديمومة المجتمع واستمراره، ومن هنا، فإنّ الذي له أهلية القيادة في عصر الغيبة هو العالم بالشريعة؛ أي الفقيه، وهذا ما استدلّ عليه النراقي في العوائد بشكل محكم ورصين.

كما يطرح النراقي أيضاً ما أطلقنا عليه هنا فكرة السلطان المقلّد، وذلك في حال عدم تهيؤ الأرضية المناسبة لتولّي الفقهاء السلطة بشكل مباشر، فنجد النراقي حتى في مثل هذه الظروف لا يستسلم للأمر الواقع وإنما يحاول جهد المستطاع جعل السلطان الحاكم تابعاً للشريعة وآراء الفقهاء؛ ليقلّل من وطأة الأزمات السياسية والاجتماعية.

إن النراقي وإن كان يميل ــ اضطراراً ــ إلى مثل هذه الفكرة، إلاّ أنّه يحرص على أن يكون هذا السلطان تابعاً للعدالة والشريعة المحمدية، وقد عبّر عن مثل هذا السلطان بالعادل الأوسط.


[1]) محمد علي المدّرسي، ريحانة الأدب 6: 161، نشر خيام، 1990م.

[2]) محسن الأمين، أعيان الشيعة 3: 183.

[3]) لا يزال الجدل محتدماً ـ بين المؤرّخين في دراسات تأريخ الفكر السياسي ـ حول تأثير العامل التـأريخي في الفكر، وهل أنّ الفكر وليد العامل التأريخي أو أن الفكر هو الذي يولّد التأريخ؟ وهنا نلاحظ أنّ القائلين بالحتمية التأريخية لا يعيرون أهميةً للفكر السياسي، فالمهم عندهم مسألة التناقض التأريخي، فالفكر عندهم بناء علوي ومن مظاهر حركة التأريخ، ويختلف رأينا في هذه المسألة عن نظرية الحتمية التأريخية تماماً. انظر في هذا المجال: السيد جواد الطباطبائي، مدخل فلسفي إلى تأريخ الفكر السياسي في إيران: 399، (در آمدي فلسفي بر تاريخ انديشه سياسي إيران)، طهران: مركز التحقيقات السياسية والدولية، 1989م.

[4]) عبدالهادي الحائري، نخستين رويارويي هاى انديشه گران ايران با دو رويه تمدن بورژوازي غرب: 342، طهران، أمير كبير، 1988م.

[5]) فعلى سبيل المثال لو أخذنا هاتين القضيتين المفروضتين: ((الناس إمّا متساوون أو غير متساوين)) و((الناس إمّا يتمتعون بالحرية أو لا يتمتعون)) ووضعناهما في صورة استدلال، لأنتجت كلّ منهما نتيجة تختلف عن الأخرى في المنظور السياسي.

[6]) الشيخ أحمد النراقي، مناهج الأحكام، الطبعة الأولى القديمة، (غير مرقمة)، الصفحة العاشرة من آخر الكتاب.

[7]) الشيخ أحمد النراقي، عوائد الأيام: 119، الطبعة القديمة.

[8]) عبدالله نعمة، فلاسفة الشيعة: 509، ترجمة جعفر غضبان، طهران، آموزش انقلاب إسلامي، 1988م.

[9]) المصدر نفسه.

[10]) المولى أحمد النراقي، معراج السعادة: 348، طهران، انتشارات جاويدان.

[11]) المصدر نفسه: 19.

[12]) المصدر نفسه.

[13]) المصدر نفسه: 26.

[14]) المصدر نفسه: 27.

[15]) المصدر نفسه: 45.

[16]) المولى أحمد النراقي، مثنوي طاقديس: 38، باهتمام حسن النراقي، طهران، أمير كبير، 1983م.

[17]) المصدر نفسه: 44.

[18]) الشيخ أحمد النراقي، سيف الأمة وبرهان الملّة: 45، الطبعة القديمة.

[19]) معراج السعادة: 347 ـ 348.

[20]) سيف الأمة: 45 ـ 46.

[21]) المصدر نفسه: 46.

[22]) المصدر نفسه: 49.

[23]) مثنوي طاقديس:34.

[24]) المصدر نفسه: 311، 304.

[25]) معراج السعادة: 19.

[26]) وللتذكير نورد الأبيات التالية:

    أجل، إنّ لكل عمله ومهارته الخاصة

    ولكل شخص ما يناسبه من السياسة

    إنْ ترك الحقّ الإنسان وما يعمل

    ولم يشغله بعمل خاص

    فإنّه سوف تُتْرك أعمال ولا يتولاها أحد

    فيؤدي ذلك إلى اختلال النظام

[27]) معراج السعادة: 46.

[28]) المصدر نفسه: 51.

[29]) عوائد الأيام: 187 ـ 188.

[30]) أرسطو، السياسة: 1550 ـ 1556، ترجمة حميد عنايت، طهران، سپهر، 1985م.

[31]) معراج السعادة: 45.

[32]) المصدر نفسه: 347 ـ 348.

[33]) سيف الأمّة: 45.

[34]) نهج البلاغة، الكتاب: 31.

[35]) معراج السعادة: 51، 351.

[36]) انظر للمقارنة بين رأي النراقي في فكرة السلطان العادل وأهمية عدالة السلطان، ورأيه في فكرة نوعي السلطنة، والتضاد بين السلطان العادل والسلطان غير العادل في المعتقدات الإيرانية القديمة. فتح الله مجتبائي، المدينة الفاضلة لأفلاطون والملكية الأنموذجية في إيران القديمة: 121 ـ 130، طهران، منشورات مؤسسة ثقافة إيران القديمة، 1973م.

    وهنا ننقل بالمناسبة إحدى حكايات (بهرام) أحد الملوك السلجوقيين التي نظمها الفردوسي أيضاً في إحدى قصائده، لتتضح المقارنة بين رأي النراقي في النص السابق مع الفكر الإيراني القديم:

    لما تخلّف بهرام في الصيد عن رفقته الذين معه، وبقي لوحده يبحث عن مأوى له يأويه، نزل بيت أحد المزارعين، فقدمت له امرأة المزارع مستلزمات الخدمة والضيافة كافّة، ولم تدّخر شيئاً في ذلك، إلاّ أنّه انزعج عند المساء من كلامها ضدّ الملك، فصمّم على الظلم والجور بحقّ الرعية التي تجرأت بسبب عدله عليه:

قال بهرام في نفسه: أيها الملك الموحِّد

إذا كنت عادلاً فلن يهابك أحد

سوف أكون ظالماً في الأيام المقبلة

حتى يُعرف قدر العدالة من الجور

فأضمر في نفسه نية سيئة ولم ينم ليلته

وعندما أصبح الصباح وأراد المضيّف أن يهيء الطعام

لضيفه ذهبت زوجة المضيف إلى المرعى لتجلب الطعام

فجاءت بالبقرة من المرعى

ووضعت أمامها الزرع لتأكل

ثم مسحت على ضرع البقرة وقالت:

بسم الله الواحد الأحد

فوجدت الضرع جافاً من اللبن

فقالت لزوجها يا صاحب الدار

أظن أن رأي الملك قد تبدّل

وأصبح الملك ظالماً:

لقد كان يتطوّى البارحة

ولم يستطع الرقاد على الوسادة

ومن أجل ذلك جفّ اللبن في ضرع البقرة

ولم تعد فأرة الغزالة تعطي المسك

وظهر الزنا والرياء في العلن

وصار قلب العطوف كالحجارة

وفي وسط الصحارى تأكل الذئاب الناس

العقلاء يبتعدون عن غير العقلاء

ويفسد البيض تحت ولا يفرّخ

كل ذلك بسب ظلم السلطان وجوره

لم يكن مرعى هذه البقرة سيئاً

ولم يكن مشربها رديئاً

فلماذا جفّ اللبن في ضرعها وتغيّر لونه؟!

فلمّا لاحظ بهرام هذه الحالة وتأثير الأفكار التي اختلجت في باله، عاد إلى صوابه وخجل وندم واستغفر الله، ثم صمّم على التزام العدالة.

ثم مسحت المرأة الصالحة الموحّدة على الضرع

وسمّت باسم الله وقالت:

أخرج ما في جوفك من لبن

فأخذ الضرع يدرّ

فناجت ربها: أيها المعين

قد جعلت الظالم عادلاً

لولاك لم يكن يحدث هذا الأمر العجيب

ثم قالت لزوجها: إنّ الظالم قد أبدل الظلم بالعدل.

[37]) معراج السعادة: 47.

[38]) سيف الأمّة: 45.

[39]) عوائد الأيام: 192.

[40]) انظر: مناهج الأحكام، الورقة الأخيرة من نهاية الكتاب، الطبعة الحجرية.

[41]) انظر للمقارنة: و. ت. جونز، أرباب الفكر السياسي 2: 420 ـ 429، والمترجم إلى الفارسية تحت عنوان (خداوندان أنديشه سياسي)، ترجمة علي رامين، طهران، أمير كبير، 1983م، وقد نقد فيه المؤلف نظرية روسو في الإرادة الجماعية.

[42]) مير عبدالفتّاح الحسيني المراغي، عناوين الأصول: 352، الطبعة القديمة، وقال النراقي في العوائد: 185: ((اعلم أنّ الولاية من جانب الله على عباده ثابتة لرسوله وأوصيائه المعصومين G، وهم سلاطين الأنام وهم الملوك… وأمّا غير الرسول أو أحد من أوصيائه فلا شكّ أنّ الأصل عدم ثبوت ولاية أحد على أحد، إلاّ من ولاّه الله سبحانه أو رسوله أو أحد من أوصيائه على أحد… فيكون هو ولياً على من ولاّه فيما ولاّه فيه)).

[43]) ((المقام الثاني: في بيان وظيفة العلماء الأبرار والفقهاء الأخيار أمور الناس وأموالهم وما لهم فيه الولاية على سبيل الكليّة، فنقول وبالله التوفيق: إنّ كلّية ما للفقيه العادل تولّيه وله الولاية فيه أمران: أحدهما كلّما كان للنبي والإمام الذين هم سلاطين الأنام وحصون الإسلام فيه الولاية وكان لهم فللفقيه أيضاً ذلك، إلاّ ما أخرجه الدليل من إجماع أو نص أو غيرهما. وثانيهما: إنّ كلّ فعل متعلّق بأمور العباد في دينهم أو دنياهم، ولا بد من الإتيان به لا مفرّ عنه إمّا عقلاً أو عادةً، من جهة توقّف أمور المعاش أو المعاد لواحدٍ أو جماعة عليه وإناطة انتظام أمور الدنيا أو الدين به، أو شرعاً من جهة ورود أمر به أو إجماع أو نفي ضرر أو إضرار أو حرج أو فساد على مسلم، أو دليل آخر، أو ورد الإذن فيه من الشارع، ولم يجعل وظيفة لمعيّن واحد أو جماعة ولا لغير معيّن أي واحد لا بعينه، بل علم لابديّة الإتيان به أو الإذن فيه ولم يعلم المأمور به ولا المأذون، فهو وظيفة الفقيه، وله التصرّف فيه والإتيان به)). عوائد الأيام: 188.

[44]) المصدر نفسه: 185 ـ 187.

[45]) المصدر نفسه: 188.

[46]) عناوين الأصول: 354 ـ 355.

[47]) المصدر نفسه: 356.

[48]) المصدر نفسه.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً