أحدث المقالات

السيد أمين حبيب السعيدي(*)

 

مدخل

نعلم ـ صناعيّاً ـ بأنّ لكلّ علمٍ أدواتٌ خاصّة تتكفّل عمليّة إبرازه وتيسيره للعقول. ولمّا كان علم الفقه من العلوم الدينيّة والفكريّة التي تحتاج في كثير من مراحل إبرازها للمكلَّفين، والأمّة قاطبةً، إلى الكتابة والتدوين وجب أن تتحلّى الكتابة فيه بآليّات دقيقة، وفنون متوازنة؛ تبعاً لعظم شأنه، وخطره، ودقّة مطالبه، وسموّ غاياته، وتوجّهه لكافّة أفراد المجتمع الإسلامي، ومخاطبته لجميع الشرائح المتغايرة.

وهنا نريد أن نوجّه أنظارنا إلى خصوص جهةٍ من جهات التدوين في هذا العلم، ألا وهي جهة كتابة الرسائل العمليّة والكتب الفتوائيّة، الموكول فهمها وهضمها والعمل بها للمكلَّفين.

والسؤال: هل نال علم الفقه معالمه المتميّزة على هذا المستوى؟ وهل حقّق أهدافه المرجوّة، بمقدار ما يحمله من مهام ووظائف عظيمة، وغايات إلهيّة كبرى، تمتد به على هذا الصعيد امتداداً أفقيّاً وعموديّاً؟

هل حقّقت طاقات الكتابة وبراعات التدوين وإبداعات الفنّ التعليمي في كتب الفتاوى من هذا النوع وجودها ضمن أسلوبها التدويني؟

ثمّ إنّنا ـ قبل كلّ هذا ـ عندما نطالع كتب الأحكام التي كان يكتبها العلماء قديماً، والكتب الفتوائيّة التي كتبوها حديثاً، ينقدح في أذهاننا سؤالٌ مهم: لماذا تلك القديمة تختلف في التدوين عن هذه المعاصرة؟!

ولماذا طريقة «كتابتها وعرضها» و«تقسيم مطالبها» في السابق تختلف عمّا هو موجودٌ الآن، ممّا كتبه الفقهاء في الفترة الأخيرة؟!

كما نتساءل عن مدى ما تكتنفه كتب الفتوى من مشكلات.

هذا وغيره العديد من المسائل هو ما نودّ بيانه، وتقديم آليّة علاجيّة له، تجمع بين الأساليب التصنيفيّة الماضية والحاضرة، وترسم منهجيّة حديثة متكاملة تنهض بهذا النوع من الكتب، من خلال هذه الدراسة الحاضرة بين يديك بمقالاتها الثلاثة. فالكلام فيها بعد الاستعانة بالله تعالى مجده على ثلاثة أمور، وهي:

 

الأمر الأوّل: منهج العلماء الأوائل في تدوين رسائلهم الفقهيّة «مقارنة مع المنهج المعاصر»

وفيه نشير إلى قضيّتين مهمّتين: إحداهما تتناول بيان منهجيّة العلماء في رسائلهم العمليّة قديماً، من جهة عرضهم للأحكام ضمن الأبواب الفقهيّة المختلفة، ومقارنة ذلك وفق هذه الدراسة مع ما توصّل إليه الكتاب الفتوائي على أيدي الفقهاء حديثاً في الأعصار المتأخِّرة، المتفاوتة حسب البيان الآتي.

وبعبارة أخرى: تقوم القضيّة الأولى بمقارنة كتب الأحكام التي دوّنت في زمن سيطرة المدرسة الأخباريّة على المدارس الدينيّة، من الجهة المذكورة، مع ما أنتجته المدرسة الأصوليّة في خضم الاختلاف والصراع القائم بين المدرستين على أساس تبنّي الاجتهاد المصطلح والتقليد وعدم تبنِّيهما؛ لنصوّر للباحث من خلال ذلك مدى الشوط العملي الذي سارت عليه الرسالة، والملامح التي ابتدأت بها وانتهت إليها.

وأمّا القضيّة الثانية فسنتناول فيها أيضاً جهتين مهمّتين؛ نتكلّم في الأولى منهما عن منهجيّة الفقهاء الأوائل في تقسيم كتب الأحكام والرسائل الفتوائيّة من جهةٍ عامّة حسب التعاليم ككُلّ؛ بينما سنعمل في الثانية على بيان منهجهم من جهة تقسيم خصوص الأبواب الفقهيّة ومسائلها. وكلّ هذا بالمقارنة مع ما هو قائمٌ في الفترات اللاحقة، وذلك كما يلي:

أـ منهجهم في عرض الأحكام والفتاوى ضمن الأبواب الفقهيّة

تمهيد

أوّلاً: نعلم بأنّ في السَّلَف من العلماء عاش المنهج الأخباري الرافض للاجتهاد والتقليد، والعمل بالعقل والقواعد والأصول الفقهيّة، تجاه المسائل الشرعيّة، ثمّ أعقبه المنهج الأصولي القائم على الاجتهاد العامل ببراهين العقل، المجوِّز للتقليد.

ثمّ انتهى هذا الأخير إلى الغياب، وإنْ بقي محفوظاً في نفوس بعض العلماء. فنما المنهج الإخباري من جديد بكلّ قوّته وحرارته، حتّى بلغ أقصى ذروته ـ النظريّة والعمليّة ـ في قبال المدرسة الأصوليّة التي نمَتْ مرّة أخرى على أنقاض ذلك المنهج فيما بعد، وترعرعت حتّى بلغت أوجها الكبير، الذي هي عليه الآن في الصروح العلميّة، فصار العهد اليوم عهد المنهج الأصولي ومدرسته.

ثانياً: نعلم أنّ المذهب الأخباري على ثلاثة أقسام؛ فمنها قسم لا يؤمن بالعقل، ويقول بعدم قدرته على إدراك ما هو حسنٌ وما هو قبيح، وبالتالي لا ملازمة بين أحكامه وأحكام الشرع.

وقسم يترقّى بدرجة إيجابيّة عن السابق، فهو بعكسه من جهة نظريّته تجاه إدراك الحسن والقبيح، ومثله من جهة نظريّته تجاه الملازمة بين أحكام العقل والشرع.

وقسم بعكس الأوّل، ومثل الثاني، من جهة رؤيتَيْهما تجاه الإدراك، وبعكسهما من الجهة الأخرى. وبالتالي فهو أكثر اعتدالاً؛ حيث يترقّى عن الأوّل بدرجتين إيجابيّتين، وعن الثاني بدرجةٍ إضافيّة إيجابيّة؛ إذ يرى وجود ملازمة بين أحكام العقل وأحكام الشرع. فالشرع عاقل، غايته أنّ العقل ليس بشارعٍ مشرِّع، أو قُلْ بتعبيرٍ أدقّ: شارعٌ ليس بمشرِّع([1]).

إذن جميع هذه الاتّجاهات الثلاثة يجمعها مذهبٌ واحد، يقوم على عدم الإيمان بأحكام العقل في خصوص أمور الدين، من جهة أحكامه المرتبطة بالتشريعات الإلهيّة، أو فقُلْ: جميعها لا تؤمن بأحكام العقل في الفقه وفروع الدين. فالدين عندهم هو مصدر التشريع فحَسْب. بخلاف المدرسة الأصوليّة التي تؤمن بذلك، وتعمل بالاجتهاد والتقليد؛ تبعاً لأوامر العقل، وتقول بوجود ملازمة بين العقل والدين. فكلٌّ منهما مشرّع للأحكام، بما يعني أنّ العقل له تشريع، غاية الأمر أنّ تشريعه محدودٌ في حدودٍ خاصّة معيّنة عندهم، محلّ بيانها في علم الأصول.

طبعاً هنا لا يهمّنا الحديث عن سلامة نظريّات هذا المنهج أو كونه عليلاً، غير أنّ المهم في مجالنا هو أن ندرسه ونحلِّله من جهة تطبيقاته الفقهيّة تجاه كتب الأحكام وفق مذهبه ورؤيته، ثمّ مقارنة ذلك مع ما أسفرت عنه المدرسة الأصوليّة على مستوى تدوين الفتوى، وهو ما نبحثه تحت العنوان التالي:

 

آثار الاختلاف الفكري على تدوين كتب الأحكام ومراحله

طبعاً لم تقع هذه الآثار ضمن مستوىً واحدٍ فحَسْب، وإنّما وقعَتْ ضمن مستويات ومراحل وفق الاختلاف؛ فأخذت بالتمدُّد تارةً؛ والتقلّص أخرى؛ والثبات ثالثة. فمستوياتها ومراحلها كما يلي:

 

1ـ على مستوى مرحلة الزمن الأوّل

لقد درج علماء المنهج الأخباري في رسائلهم الفقهيّة ـ تَبَعاً لمبانيهم المختلفة تجاه العقل والمنع من الاجتهاد والتقليد ـ على جعل الرواية هي الفتوى، بحيث يتمّ انتخاب رواية معيَّنة تكون هي حصيلة النظر، وإنْ كان الاستدلال منحسراً في بعض مذاهبهم، هذا من جهة. وهي تمثِّل أسلوباً من أساليب العرض.

«ففقهاء الشيعة الإماميّة بمجرّد رحيل الرسول الأعظم| عكفوا على دراسة الفقه، وتدريسه، وجمع مسائله، وتفريعها، وتنظيمها، وتبويبها، مقتدين بإمامهم ووصيّ رسولهم عليّ بن أبي طالب×، الذي كان يكتب في حقول الحلال والحرام والعزائم والرخص وكافّة مسائل الفقه والتفسير والعلوم العالية من عند رسول الله، حين قال له|: «يا عليّ، اكتب ما أُملي عليك. قلتُ: يا رسول الله، أتخاف عليّ النسيان؟ قال: لا وقد دعوت الله عزَّ وجلَّ أن يجعلك حافظاً، ولكنْ اكتُبْ لشركائك الأئمّة من ولدك، بهم تسقى أمّتي الغيث…». فدوّن عليٌّ× كتابه الذي أسماه الأئمّة صلوات الله وسلامه عليهم بـ «كتاب عليّ»، فتوارثوه وتناقلوه بينهم إلى يومنا الحاضر. ناهيك عن كتبه الأخرى، ككتاب الفرائض، وكتاب الآداب، وغيرهما ممّا ورد في الكتب الحديثيّة. بل ناهيك عن كتاب جدّتهم÷، الذي أسمَوْه بـ «مصحف فاطمة»، وهو حسب ما ورد عن غير واحد منهم^ كتاب تفصيلي مليء بالأحكام الإلهيّة، حيث نقلت÷ فيه ما سمعَتْه عن أبيها رسول الله| بما تناول كافّة المسائل ودقائقها، إلى الحدّ الذي ضمَّنته حتّى دية الجرح البسيط في الجرح البسيط، أو كما في تعبير الرواية: خَدْش الخَدْش.

كذا كان توجّه الشيعة لدروس أئمّة أهل البيت^ وملء مدارسهم توجّهاً كبيراً لا سابقة له…. فكان أسلوب التدوين عندهم آنذاك قريباً كثيراً من أسلوب التدوين في كتاب الإمام عليّ×، مع ما يمكن أن نحدسه من بعض الفوارق البسيطة؛ نظراً إلى عدم وصول صفات الكتابة فيه لنا بشكلٍ تفصيلي من قبل الأئمّة^ أو مَنْ اطَّلعوا عليه من أصحابهم. غير أنّ القدر المتيقَّن أنّه كان كتاباً روائيّاً ينقل أقوال رسول الله| بسندٍ واحد عن عليّ×، يصل إليه| ثمّ للوحي الإلهي. وهذا عين ما كان في كتاب الزهراء÷، ثمّ في كتب القوم والفقهاء أجمع من الخاصّة والعامّة؛ حيث كان التدوين يسير بصورة النقل «المتني» و«السندي» الكامل، إلى درجة أنّ الراوي السامع يحاول قدر المستطاع أن ينقل قول الإمام بالحَرْف الواحد. ومن ثمّ بعد تدوين المسموع أصبح الفقيه يعتمد المكتوب حرفيّاً، فكان تدوين الفقه بينهم على غرار تدوين الحديث. فالكتب الفقهيّة هي الكتب الحديثيّة»([2]).

 

2ـ على مستوى ترقّي التدوين من مرحلة الزمن الأوّل ونبذ التطوير

ثمّ من جهةٍ أخرى كانت الفتوى عند بعض اتّجاهات القوم تسير على أساس الإدلاء بها إلى جانب مدركها ودليلها اللفظي ـ روايةً كان أم آية مقرونة برواية، تبعاً لقول البعض بأنّ حجّية الآية مقرونةٌ ببيان المعصوم لها، كشخصٍ وحيد قادر على بلوغ مرادها ـ، بما يوجد لدينا فَرْقاً فارقاً بين هذا الأسلوب وسابقه؛ حيث يقوم الأوّل على أساس عرض الدليل اللفظي فحَسْب، أمّا الثاني فيقوم على أساس عرض الدليل اللفظي إلى جانب الفتوى، ممّا يشير إلى وجود فسحةٍ من التعبير عن النتيجة الاجتهاديّة التي توصّل إليها الفقيه من خلال الدليل، وفق مبانيه.

فالمنهج الأخباري وإنْ كان لا يؤمن بالاجتهاد والتقليد، إلاّ أنّ أتباعه من الفقهاء كانوا مجبورين على تقديم الحكم الإسلامي للعوامّ في مختلف المسائل الفقهيّة؛ لتعليمهم أمور دينهم وتنظيم حياتهم. لذا كانت تقدّم لهم الرسالة العمليّة الفتوائيّة ـ إذا صحّ التعبير ـ بأحد هذين الشكلين، حَسْب سعة المبنى الأخباري وضيقه. وإنْ كانت المدرسة الأصوليّة انتهجَتْ أيضاً هذا الشكل الثاني من التدوين في بدايات ظهورها، وأواسط تاريخها؛ «إذ بمجيء أوائل القرن الرابع الهجري من أواخر زمن الغيبة الصغرى لإمام العصر وحجّة الزمان الثاني عشر# التي انتهت بحلول عام 329هـ انتهج الفقهاء الإماميّة طريقاً آخر في التعامل مع التدوين والإفتاء، مضافاً لانطلاقهم في بدايات هذه الفترة لـ «إعمال النظر وتأصيل الأصول وتقعيد القواعد والاجتهاد وتفريع المسائل الفقهيّة وعدم الجمود على النصّ».

وهكذا بدأ الفقهاء الإماميّة بالشروع في الاجتهاد والتفريع عملاً بقول الصادق صلوات الله وسلامه عليه: «علينا إلقاء الأصول إليكم، وعليكم التفريع». ولعلّ أوّل مَنْ سلك هذه الطريقة الاجتهاديّة، وأثبت للجميع قدرة مذهب أهل البيت^ على التفريع، وتجاوز الألفاظ، وإبداع عبائر فقهيّة جديدة، هو شيخ الشيعة، وفقيهها الأجلّ، معاصر الشيخ الكليني&، المتكلِّم الثقة، الحسن بن عليّ بن أبي عقيل، أبو محمد، الحذّاء، صاحب الكتاب المشهور «المتمسِّك بحبل آل الرسول».

وقد نقل آراءه العلاّمة في «مختلف الشيعة» في جميع أبواب الفقه. وهذا يكشف عن أن الكتاب المذكور كُتب على أساس الاستنباط، وردّ الفروع إلى الأصول، والخروج عن دائرة ألفاظ الحديث.

ولعلّه لأجل هذا قال العلاّمة بحر العلوم في «الفوائد الرجاليّة»: هو أوّل مَنْ هذّب الفقه، واستعمل النظر، وفتق البحث في الأصول والفروع في ابتداء الغيبة الكبرى، وبعده الشيخ الفاضل «ابن الجنيد».

وقال صاحب «روضات الجنّات» أيضاً: إنّ هذا الشيخ هو الذي ينسب إليه إبداع أساس النظر في الأدلّة، وطريق الجمع بين مدارك الأحكام بالاجتهاد الصحيح. ولذا يعبّر عنه وعن الشيخ أبي عليّ بن الجنيد في كلمات فقهاء أصحابنا بـ «القديمين». وقد بالغ في الثناء عليه أيضاً صاحب «السرائر»، وغيره.

وهكذا أخذ الطريقة من بعده، وعمل على تطبيقها، معاصر الشيخ الصدوق، الفقيه الجليل الثقة محمد بن أحمد بن جنيد، أبو عليّ، الكاتب الإسكافي، صاحب كتاب «تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة». كما أنّ مؤلّفه ـ حسب ما ذكر صاحب «روضات الجنّات» ـ تبع فيه الحسن بن أبي عقيل العماني.

ثمّ أخذ الطريقة بعده، وعمل على تطبيقها، الفقيه المحقِّق النقّاد، نابغة العراق، ونادرة الآفاق، الشيخ المفيد محمد بن النعمان(ولد 338هـ‍، توفّي 413هـ)، الذي ألقى بكلّ ثقله للجمع بين اتّجاه القديمين واتّجاه الصدوقين في اتّجاهٍ وسط معتدل، والذي تخرّج من مدرسته أكابر الفقهاء، وأجلاّء العلماء، أمثال: العمالقة الشيخ النجاشي والسيد المرتضى والشيخ الطوسي قدّس الله أسرارهم.

ثمّ أخذ الطريقة بعده، وعمل بها، تلميذه السيد عليّ بن الحسين، الملقّب بـ ‍»علم الهدى»، والمعروف بـ «السيد المرتضى»(ولد 355هـ، توفّي 436هـ)، أستاذ الشيخين النجاشي والطوسي.

ثمّ أخذ الطريقة بعده، وعمل بها، تلميذه المعروف بـ «شيخ الطائفة»، أبو جعفر، محمد بن الحسن بن عليّ الطوسي(ولد 385هـ‍، توفّي 460هـ‍)، فقيه الشيعة وزعيمهم في القرن الخامس بعد أستاذه السيد المرتضى. فقد قام بتأليف كتاب على نهج الفقه التفريعي بهذا النمط، تبعاً لأستاذَيْه الشيخ المفيد والسيد المرتضى، وأسماه كتاب «المبسوط». وهو كتابٌ ألَّفه في ثمانية أجزاء، بعد كتابه المسمّى بـ «الخلاف»، الذي كتبه على نمط الفقه المقارن، بإيراد آراء فقهاء عصره والعصور الماضية، وكتابه المسمّى بـ «النهاية»، الذي كتبه على النمط الأوّل من التأليف.

ثمّ أخذ الطريقة بعده، وعمل بها، الشيخ سعد الدين أبو القاسم عبد العزيز بن نحرير بن عبد العزيز بن برّاج الطرابلسي، تلميذ السيد المرتضى، وزميل الشيخ الطوسي، أو تلميذه، المعروف بالقاضي تارةً، وبابن البرّاج أخرى، فقيه عصره، وقاضي زمانه، وخليفة الشيخ في الشامات»([3]).

وهكذا توالت حركة التأليف بعد هؤلاء العمالقة على ذلك النمط الروائي، المصاحِب للمسات قلم الفقيه، وما يقدِّمه من بيان ونظر، ممّا انعكس طبيعيّاً على الرسائل العمليّة. وفي المقابل كان المدوّن الفتوائي بصورة فتاوى خالية من الدليل، مسلوخة معزولة عنه عزلاً تامّاً، كان يعتبر بمنزلة الضلال والانحراف. لذا كان ينكر ويشنَّع على الفقيه عندما يستعرض فتاواه وفق ذلك، بحيث يكون أمام أحد خيارين: إمّا أن يسلك السلوك الأوّل في تدوين المسائل؛ أو أن يسلك السلوك الثاني المعالج والأكثر تطوّراً.

بل حتّى الأسلوب الثاني الأكثر تطوُّراً كان غير مقبولٍ في بدايات حقبه السالفة أيضاً. يقول شيخ الطائفة&، الذي ساهم كثيراً في كسر طوق السلوك التدويني الأوّل، في كتابه «المبسوط»: «وكنتُ على قديم الوقت وحديثه متشوق النفس إلى عمل كتابٍ يشتمل على ذلك ـ أي على الفروع والتفريع والأصول الاجتهاديّة وما ذكر من أمور ـ، تتوق نفسي إليه، فيقطعني عن ذلك القواطع، وتشغلني الشواغل، وتضعف نيّتي أيضاً فيه قلّة رغبة هذه الطائفة فيه، وترك عنايتهم به؛ لأنّهم ألقَوْا الأخبار وما رووه من صريح الألفاظ، حتّى أنّ مسألةً لو غُيِّر لفظها، وعُبِّر عن معناها بغير اللفظ المعتاد لهم، لتعجّبوا منها، وقصر فهمهم عنها!»([4]).

 

3ـ على مستوى غلبة العودة للتدوين وفق مرحلة الزمن الأوّل

وهكذا استمرّت الحركة التدوينيّة للرسالة العمليّة، لكنّها تعثَّرَتْ متقهقرة، لتعود إلى شكلها الأوّل، وتتمثّل فيه أكثر منه في شكلها الثاني، مع عودة المنهج القديم مجدَّداً. «ففي أوائل القرن الحادي عشر من الهجرة، وبعد المشوار الاجتهادي الشائك الطويل، انطلقت ثورة عظيمة مناهضة ومعارضة لـ «المنهج الأصولي». فكان أوّل مَنْ أسّس لانطلاقها، وإحياء الطريقة الأولى القديمة، هو المحدّث الرجالي الشيخ الميرزا محمد بن عليّ الإسترآبادي(1028هـ)، حيث تتلمذ على يديه في علم الحديث، بعد الالتقاء به في مكّة وحضور درسه هناك، العلم المعروف الميرزا محمد أمين بن محمد شريف الإسترآبادي(1033هـ).

فمن خلال إعجاب المحدّث الشيخ محمد بن عليّ الإسترآبادي… بالشيخ محمد أمين& أشار إليه بإحياء طريقة الأخباريّين السالفة.

وبهذا أخذ الميرزا محمد أمين في التنظير للاتّجاه القديم. فألّف كتابه المعروف بـ «الفوائد المدنيّة في الردّ على مَنْ قال بالاجتهاد والتقليد» على هذا الأساس، بعد أنْ رأى أنّ الاجتهاد كان من مُحْدَثات العلاّمة الحلّي&، حتّى راج ذلك الاتّجاه واشتهر به. فدعا للعمل بالأخبار فقط، فكان واجهة هذا المذهب الفقهي آنذاك، وإليه تنسب «الحركة الأخباريّة»، ومرحلتها الأولى من هذه الفترة التالية لنشأة «المدرسة الأصوليّة».

ثمّ أخذ الطريقة بعده، وعمل على تطبيقها، مع بعض التغييرات والتطويرات، الأجلّ الشيخ محمد بن مرتضى، المعروف بـ «الفيض الكاشاني»(1091هـ)، حيث ألّف& كتابه الموسوم بـ «الأصول الأصيلة»، وكتاب «سفينة النجاة»، ومدوّنه بالفارسيّة «راه صواب [أي طريق الحق]». كتب هذه الكتب في تأييد منهجه الأخباري، وتفنيد المنهج الاجتهادي. كما كتب رسالته الموسومة بـ «الحقّ اليقين»، فكان يرى فيها أنّ المصدر المنحصر الوحيد للفقه هو روايات أهل البيت^ فقط؛ ذلك لاعتقاده بأنّ القرآن الكريم وأحاديث النبيّ| لا يعلم حالهما إلاّ من جهتهم^.

وهكذا كان من زعماء وروّاد هذا الاتّجاه آنذاك، في القرن الحادي عشر نفسه، الشيخ حسين بن شهاب العاملي(1076هـ)، الذي يظهر من كتابه «هداية الأبرار» أنّه يقتفي طريقة الشيخ محمد أمين الإسترآبادي في «الفوائد المدنيّة» تماماً.

ثمّ أخذ الطريقة بعد الفيض الكاشاني، وعمل بها، الشيخ الشهير محمد بن الحسن الحُرّ العاملي(1104هـ). فالشيخ الحُرّ العاملي… يعتبر من كبار أقطاب «الحركة الأخباريّة» في مرحلتها هذه، حيث كان يرى في كتابه «الفوائد الطوسيّة» أنّ الرسول الأعظم وأئمّة الهدى من أوصيائه عليه وعليهم أفضل الصلاة وأتمّ التسليم هم رؤساء الأخباريّين، والمؤسِّس الأوّل لهذا المنهج؛ ذلك لأنّهم ما كانوا يعملون بالاجتهاد، وإنّما كانوا يعملون في الأحكام بالأخبار قَطْعاً، ثمّ تبعهم خواصّ أصحابهم، ثمّ باقي شيعتهم في زمانهم، مدّة ثلاثمائة وخمسين سنة، وفي زمن الغيبة إلى تمام سبعمائة سنة.

وبه& انتهت المرحلة الأخباريّة الأولى من هذه الفترة، والتي استغرقت قرابة قرن ونصف من الزمن، لتنطلق مرحلتها الثانية المعتدلة في مركز الأخباريّة وطلابها، في كربلاء المقدّسة وحوزتها العلميّة، في أواخر القرن الثاني عشر الهجري، على يد المحدِّث الكبير، فقيه الطائفة، الشيخ يوسف بن أحمد بن إبراهيم آل عصفور الدرازي البحراني(1186هـ)، والذي لعب دوراً كبيراً في توازن القوى بين «مدرسة فقهاء الاجتهاد والأصول»، وعلى رأسهم محمد باقر بن محمد، الملقّب بـ «الوحيد البهبهاني»(1208هـ)، و«مدرسة فقهاء الأخبار» من أتباع الشيخَيْن الأمين الإسترآبادي والفيض الكاشاني. فكان& الحلقة الوسطى، ونقطة الوصل، وزعيم مرحلة التبرير والجفوة الواقعة بين المدرستين، ولا سيّما في كتابه المسمّى بـ «الدرر النجفيّة»، الدال على نضجه الفكري، وأنصعيّته اللامعة، وإحاطته الكبيرة بمفاصل ودقائق كلا المنهجين.

وبهذا عادت الكرّة إلى مدرسة علماء الأصول، على يد الوحيد البهبهاني&، في حوزة كربلاء المشتعلة بالعلم والفكر والصراع، الذي ألقى بكلّ ثقله، ورسّخ كلّ جهوده، في سبيل إعادة المدرسة الاجتهاديّة إلى أَوْجها، والرقيّ بها إلى ما هو أبعد من ذلك، من خلال تطويرها، وتمتين أدلّتها، إلى درجة أنّه في مواجهاته مع المحدِّث الشيخ يوسف البحراني، المعتدل، قائد «المدرسة الأخباريّة» آنذاك، كان شديد العزيمة على كسب الجَوْلة، وتحقيق هدفه الكبير المستصعَب، إلى أنْ بلغه، إلى الحدّ الذي ارتقى ـ في ما ينقل عنه ـ في إحدى المرّات بكلّ إقدامٍ منبر الشيخ يوسف البحراني، وباحث تلامذته مدّة ثلاثة أيّام، فعدل ثلثا التلاميذ إلى مذهب الأصوليّة.

وهكذا انتهى الصراع في كربلاء بفضل الموقف المعتدل للشيخ البحراني&، وانتقل إلى مرحلته الثالثة من هذا الشوط في حوزة النجف الأشرف ـ على مشرِّفها آلاف التحيّة والسلام ـ بين زميلَيْ الدرس: الشيخ جعفر الكبير؛ والميرزا محمد الأخباري، إلى أنْ اضمحلّ وجود فقهاء الأخبار، وقلَّ أتباع مدرستهم، فقويَتْ شوكة «المدرسة الأصوليّة»، وتلألأت، وملأت الصروح والآفاق إلى يومنا الحاضر»([5]).

 

4ـ على مستوى غلبة العودة لترقية التدوين من مرحلة الزمن الأوّل ومنتهى ما وصل إليه مؤخَّراً

هذا، ومع عودة المدرسة الأصوليّة إلى الساحة كان من الطبيعي أن يعود معها الشكل التدويني الثاني بقوّة. ثمّ مؤخَّراً، وتحديداً بعد نهوض المدرسة الأصوليّة بفترةٍ من زمن انتشارها وغياب وضعف القبضة الحديديّة للمنهج الأخباري على الصروح العلميّة، انتقلت الرسالة العمليّة إلى مرحلةٍ جديدة، أخذت فيها أسلوباً مغايراً تماماً لما كانت عليه في السابق. فقامت على أساس العَرْض الفتوائي المحض المنبوذ سَلَفاً، المنسلِخ كلاًّ عن الدليل، وإنْ كانت هنالك بعض المؤلَّفات الفتوائيّة غير الاستدلاليّة تتضمَّن شيئاً يسيراً جدّاً من الأدلّة والروايات، إلاّ أنّ الوضع الراهن قائم على استعراض الفتاوى بصورةٍ كاملة، بحيث لا يكاد يُرى في الرسالة العمليّة أكثر من خمس روايات، من أوّلها إلى آخرها، طولاً وعَرْضاً، في حين أنّ هذه الروايات المذكورة ليست للاستدلال أيضاً، وإنّما لبيان مثوبةٍ مثلاً، تماماً كما نجد في بعض الرسائل العمليّة عند مراجعة كلامها عن الدَّيْن. فهناك في بدايات مسائل الدَّيْن غالباً ما تذكر رواية في عظم مثوبة الإقراض والتفريج عن المؤمن.

إذن عند ملاحظة المراحل التي مرّت بها الكتب الفتوائيّة سنجدها تحمل ثلاثة خطوط، محصّلها كالتالي:

الخطّ الأول: خطٌّ لا يحوي الفتوى، وإنّما الدليل هو الفتوى. تماماً كما نرى في المراجع والمجاميع الحديثيّة القديمة، ككتاب «الكافي» مثلاً. ففروع الكافي كتاب منسلخ كلاًّ عن الاستدلال والإفتاء، بقلم مصنّفه الشيخ الكليني&…، حيث يجعل الرواية هي التي تنطق بالحكم الشرعي، وحصيلة ما يراه حجّةً بينه وبين ربّه، دون أن يتدخّل في بيانها. كما لا نرى فيه عرضاً لآيةٍ من آيات الأحكام، إلاّ ضمنيّاً، بما تفرضه الرواية قَسْراً عليه.

وكذا كموسوعة «وسائل الشيعة»، التي أُلِّفت في القرن الحادي عشر من الهجرة، للشيخ الفذّ، محمّد بن الحسن الحُرّ العاملي…، أحد أبرز دعاة «الحركة الأخباريّة» في مرحلتها الثانية. فليست موسوعته الفقهيّة «وسائل الشيعة» إلاّ طريقة عمليّة تفعيليّة لمشربه الفقهي.

الخطّ الثاني: خطٌّ يحوي الرواية والفتوى معاً، ولكنْ لا بحيث تكون الفتوى مستقلّةً عن الرواية، بل تكون بمعيَّتها، من باب بيان نفس الرواية لا غير. تماماً كما نرى في بعض مصنَّفات الكتب الأربعة، الجارية في مدوّناتها الثلاثة على محتوى «الكافي». وكذا في كتاب «الحدائق» للشيخ يوسف البحراني&، وإنْ كان هنالك كلامٌ في أنّه كان أخباريّاً أم لا، إلاّ أنّ هذا النهج التدويني الوسطي كان نهجاً مشتركاً بين المدرستين بشكلٍ كبير إلى فترة من الزمن، كما أشرنا.

الخطّ الثالث: خطٌّ يحوي الفتوى دون الدليل. وهذا مماثلٌ تماماً لما نراه في الرسائل الفتوائيّة المعاصرة، بما يوازي زمن نشاط المدرسة الأصوليّة بعد عودتها للساحة العلميّة في مرحلتها الثانية، وإقصائها للمدرسة الأخباريّة. فانظر منهاج السيد الحكيم والسيد الخوئي، وتحرير الوسيلة للإمام الخميني، وقبلهم المختصر النافع على شرائع الإسلام، وغيرها.

 

ب ـ منهجهم في تقسيم الكتاب الفقهي

بعد أن تبلور لدى الفقهاء المنهج الذي ينبغي عليهم ـ حَسْب الرؤية ـ سلوكه في مضمون ومحتوى التدوين للكتاب الفقهي أخذوا في ملاحظة التقسيم الذي يجب أن يشتمل عليه الكتاب، فاختلف أيضاً التصنيف لديهم من هذه الجهة في جنبتين، كما يلي:

 

الأولى: منهجهم في التقسيم للتعاليم الدينيّة ككلّ

وهنا توجد لدينا مرحلتان أساسيّتان؛ فعلماؤنا الأوائل، وبعضٌ قليل ممَّنْ لحق بهم من المتأخِّرين ومتأخِّري المتأخّرين إلى زماننا الحاضر، ساروا في منهجيّتهم التي قدَّموا على أساسها فتاواهم «العلميّة» و«الفقهيّة» بطريقةٍ درجوا فيها على طرح رؤاهم وعقائدهم الفكريّة المرتبطة بالعقيدة وأصول الدين. فالمفتي قديماً كان يبوِّب كتابه ضمن جزءٍ يخصِّصه للكلام عن الأصول الدينيّة ومسائلها، وآخر للكلام عن فروع الدين ومسائلها.

وهذا المسلك تارةً يمارس فيه الفقيه تقديم الروايات الواردة في الأصول، لتنطق بنفسها، وتعبّر عن فكر المعصوم وأطروحاته العقليّة الشخصيّة، بعيداً عن التدخّل في بيانها؛ وتارةً أخرى يقوم باستعراض قناعاته الذاتيّة وأدلَّته العقديّة، مضافاً إلى عرض الشواهد من جهة الرؤية الدينيّة، فيكون بذلك ـ إلى حدٍّ كبير ـ إمّا متكلِّماً صِرْفاً؛ أو حكيماً بمعالم الفقيه المتكلّم.

لذا لو لاحظنا ـ مثلاً ـ كتاب «الكافي»، وغيره من الكتب التي كتبت في تلك الحقبة الماضية، فسنجد أنّ الشيخ الكليني& لمّا كتب كتابه كفقيهٍ، وأراد تقديم رؤية الإسلام وتشريعاته للناس، قام بتقسيم كتابه كـ «رسالة عمليّة» ـ إذا صحّ التعبير ـ إلى قسمَيْن: قسم استعرض فيه مسائل أصول الدين؛ وقسم آخر استعرض فيه مسائل فروع الدين. وفي كلا القسمين لم يذكر إلاّ الروايات فقط. فهو لم يعلِّق عليها بشيء أبداً، ما عدا العناوين التي طرحها لكلّ باب، وصنَّف فيها المسائل، رغم كونه فقيهاً ومتكلِّماً مقتدراً.

أمّا في الفترات المتأخِّرة فقد تلاشى هذا المنهج، واندثرت معالمه بشكلٍ كبير في التدوين الحاضر، حيث أصبحت الرسالة العمليّة تتناول فروع الدين فحَسْب، ولا تعير لأصوله أيّ أهمّيّة من جهة الاستعراض.

 

من أهم الأسباب التي أوجدت اختلافاً في التقسيم، وعلّة بحثنا له بعد التدوين

طبعاً نحن بحثنا مسألة التقسيم بعد الكلام عن المنهج في التدوين؛ لأن المنهج كان له ـ بصورة طبيعيّة ـ أثر كبير وبارز في الاختلاف من جهة التقسيم؛ وذلك لأنّ الفقيه الأخباري الرافض للعمل بالعقل والاجتهاد والتقليد لمّا جاء إلى كتاب الأحكام رأى أنّه (عبارة عن كتاب تجمع فيه روايات الأئمّة المعصومين^)، كما أنّه كتاب تجعل فيه هذه الروايات؛ لتنطق بدورها عن الحكم الشرعيّ، وعن الرؤية الإلهيّة تجاه القضايا «العقديّة» و«الفقهيّة». فلمّا جمع الروايات وجد أنّها تصبّ في موضوعين: أحدهما يتكفّل بيان مسائل أصول الدين؛ والآخر يتكفّل بيان فروع الدين والقوانين التنظيميّة المتَّصلة بحياة الفرد والمجتمع وما حولنا.

لذا اضطرّ إلى تقسيم هذا الكتاب إلى قسمة ثنائيّة، تحمل معالم القسمين المذكورين، ممّا يعني أنّ منهجيّته ومبناه ساهما كثيراً في جعل التقسيم لديه بهذه الطريقة.

أمّا «مدرسة فقهاء الأصول» فلأنّها جاءت بعد «مدرسة فقهاء الأخبار» اضطرّت للسير على هذا التقسيم الثنائي أيضاً، ثمّ عملت بعد هذا على تطوير البحث والكلام في كلا القسمين.

لكنْ ما الذي حصل بعد ذلك؟!

لمّا انتشرت «المدرسة الأصوليّة» في المراكز العلميّة، وسيطرت على صروح التدريس المختلفة، بدأت ترى أنّ الرسالة العمليّة ليست كتاباً يجمع روايات المعصومين^، وإنّما هي (عبارة عن كتاب فقهيٍّ قانوني؛ أي كتاب يجمع فتاوى الفقيه تجاه الأحكام الشرعيّة، ويقدّمها للمقلِّد)، ممّا يعني أنّ هذه الكتب ليست مكاناً للروايات والأدلّة.

فإذا لاحظنا كلمتي «إفتاء» و«مقلِّد»، مضافاً إلى الأخذ بعين الاعتبار عدم جواز التقليد ـ على أقلّ التقادير ـ في أصول الدين الرئيسة؛ لما يوجبه من محاذير عقليّة ممنوعة، فسننتهي إلى نتيجة مفادها أنّ هذه الكتب لا شأنيّة لها بتلك الأصول الدينيّة، وإنّما مكانها يجب أن يكون في مجالٍ آخر، يتم فيه تناولها وبحث مسائلها.

لذا راح الفقيه الأصولي يخصِّص مدوَّنه هذا للقسيم الثاني فحَسْب، دون أن يعطي لنا فيه وجهة نظره تجاه مسائل القسيم الأوّل. كلّ ذلك بسبب المنهج الذي اعتمده وأخذ يسلكه. وبما أنّ أكثر علمائنا المعاصرين ومَنْ مضى منهم مؤخَّراً يؤمن بأفكار المنهج الأصولي أصبحنا نرى أكثر الرسائل العمليّة الحديثة لا تعتمد على القسمة الثنائيّة القديمة.

 

إشكالٌ مهمّ

قد يواجه هذا البيان إشكالاً عقديّاً مهمّاً، وهو أنّه كيف كان الفقيه التابع لـ «مدرسة الأخبار» يستعرض الروايات عند كلامه عن أصول الدين؟!

فهل معنى هذا أنّ الفقيه الأخباري يتَّبع المعصوم في تلك الأصول التي لا يجوز فيها التقليد، بناءً على اعتباره للقسم الأوّل قِسْماً استعراضيّاً كالقسم الثاني، وهو ينهى عن العمل بالعقل؟!

 

الجواب

كلا؛ فالفقيه التابع لـ «مدرسة الأخبار» يؤمن أيضاً ـ كغيره من العلماء ـ بمحاذير العقل تجاه جواز التقليد في أصول الدين الرئيسة، بل هو أساساً لا يؤمن بالتقليد، وليس فقط في أصول الدين، بل حتّى في فروعه أيضاً، أو قُلْ: لا يؤمن بالتقليد إلاّ للمعصوم، مع المنع من تقليده في الأصول. وقد أوضحنا ذلك. غاية الأمر أنّ الفقيه الأخباري كما يستعرض الروايات في القسم الثاني، ويجعلها تتكلَّم عن الحكم الشرعي بنفسها، كذلك يستعرض الروايات في القسم الأوّل، مضافاً إلى توسعته البحث في بعض مناهجه ـ التي بيَّناها ـ تجاه مسائل هذا القسم، وعمله بالعقل عند استنباطه وتصنيفه لها. فهو تَبَعاً لمنهجيّته التي قرَّرها يستعرض الرواية في الأصل، كما يستعرضها في مسألة الفرع، وإنْ لم يكن من باب التبرُّك، وإنّما تبعاً لمنهجه.

علماً أنّ نفس أصول الدين لها مسائل تلحق بها، وهذه المسائل التي تلحق بها لا مجال لمعرفتها إلاّ من القرآن والمعصوم، وتقليدهما في الإيمان بذلك. تماماً كما في مسائل الغيبيّات، كوجود الملائكة والجنّ، وصفاتهم، وصفات الجنّة والنار، وغيرها.

وعليه فالفقيه وإنْ كان (قديماً) يضع الرواية وكلام المعصوم× في مجال بيان وجهة نظره في الأصول، إلاّ أنّه لا يعتمد عليها من باب التقليد لها والخضوع لما تقول، وإنّما من باب نقل وجهة نظر الإمام من جهة، وجعلها تتكلَّم عن حصيلة ما توصَّل إليه بالتوازي مع رأي المعصوم كمفكِّرٍ إلهيّ من جهةٍ أخرى.

 

الآثار السلبيّة التي أوجدها التقسيم الجديد

قد يقال: ما المشكلة في أن يختلف تقسيم الفقهاء للرسائل العمليّة، كي يتمّ البحث في ذلك وطرق الحديث عنه؟

والجواب: إنّ هنالك إيجابيّات للتقسيم القديم، لا يمكن للتقسيم الحديث أن يحقِّقها. هذه هي المشكلة. فالفقيه قديماً بعد أن كان يتحدَّث في كتابه مع المكلَّف كمتكلِّم أو حكيم، ثمّ كفقيه، أصبح الآن يتحدَّث كفقيهٍ مباشرة. ولعلّ هذا أحد أهمّ الأسباب الجوهريّة التي دعَتْ لفتور البحث الفلسفي، وضعف البحث الكلامي، حيث ما عاد الفقيه يرى نفسه ملزماً بالحديث عن أفكاره العَقْديّة، وتدوين آرائه المرتبطة بالأصل الديني، خلافاً لما كان عليه سابقاً، رغم حاجة كلا العلمين اليوم، وخصوصاً علم الكلام، إلى الكثير من الوقفات والردود، ولا سيّما في ظلّ بروز تداعيات كلاميّة جديدة، وإشكاليّات فكريّة معقَّدة، تتهافت من هنا وهناك، من غير المسلمين، وكذا من المسلمين أنفسهم.

فالنقاش في الإلهيّات وإنْ أصبح أمراً ضئيلاً، بعد انحسار وجود الملحدين واللادينيّين، وانتشار الإيمان بالله في أغلب الأرجاء، ولدى أكثر الديانات في العالم البشريّ، إلاّ أنّ ما يُثار من إشكاليّات معقَّدة تختصّ بالنبوّة، وتعتبر الدعوات الإلهيّة وليدةً للإنسان والفكر البشري، بأساليب وحجج جديدة، وكذا ما يُثار من مسائل حول القضايا الأخرى، كالحرّيّة الفرديّة تفكيراً وتديُّناً، والتعايش، ونطاق الكلام الديني وحدوده، والتعدُّديّة الدينيّة، والمعرفة البشريّة في قبال المعرفة الدينيّة، وآفات الدين، والحداثة الدينيّة، وحدود ثوابت الدين ودائرة متغيِّراته القابلة للتمدُّد والتقلّص حسب المجتمع، والمساحة التي تركها الشرع للفقيه ليملأها وفق التحوُّلات الخاصّة والعامّة، بل حتّى معنى الدين وحقيقته، وغير ذلك الكثير؛ فما يثار تجاه هذه الأمور لم يتوقّف، وهو بحاجة ماسّة للتناول والطرح، وتنمية الفقه به في موارده، كتلك الموارد المهتمّة بالمسائل المستعرضة في «فقه المغتربين»؛ إذ لا شكّ في أنّ التزام الفقيه بالحديث عن الأصول في رسالته الفتوائيّة بنفس درجة التزامه بتدوين تلك الرسالة يساهم بشكلٍ كبير في نشر ورفد الحركة الفكريّة وتأجيجها في العلمين الآخرين، وإنْ كان بحث الكثير من هذه المسائل موكولاً إلى هناك.

وكما يساهم التعرُّض لمسائل الأصول العقديّة في الرسالة العمليّة في دعم وتقوية الحركة العلميّة كذلك يساهم في إيجابيّةٍ أخرى مهمّة، وهي أنّه يعمل على جعل الرسالة قطباً يجتذب غير مقلِّدي الفقيه، لا أنْ تكون مرغوبةً لدى مقلِّده فحَسْب. وهو ما ينتج عنه بالتالي تسيير المفاهيم والقيم الإلهيّة الأخرى بشكلٍ فنّي مبادري لا شعوري إلى الآخرين، وكذا حفظ تلك الرسالة وتخليدها، واستدامة استنساخها، حتّى بعد رحيل صاحبها المنتهي عهد تقليده، كما يجعل منها مرجعاً بقدر ما لديها من عطاءٍ علمي وفكري.

ومن هنا عند ملاحظة هذا التغاير المنهجي في كتب العلماء ندرك مدى ما تكبَّدته وتتكبَّده الأمّة من خسارة عظيمة في معرفة آراء هذا الفقيه أو ذاك في هذا المجال؛ إذ قد يرحل الفقيه العالم دون أن تنعم الأمّة بأفكاره السديدة ومعارفه العالية؛ نظراً لتركه ـ كثيراً ـ هذه المحطّة فارغة من إفاداته، وعدم شعوره بالمطالبة بذلك بمستوى ودرجة مطالبته بالرسالة الفقهيّة المثبِتة لفقاهته واجتهاده، في حين أنّه هو الأجدر ـ واقعاً ـ بالكلام والتفكير في هذه المجالات؛ نظراً لسعة اطّلاعه ومعرفته بآراء الدين فيها، وخطوطه العامّة تجاهها، وإنْ كان التفكير في بعضها موكولاً للجميع بلا استثناء.

ومن الغريب أنّ «المدرسة الأصوليّة» المؤمنة بالاجتهاد والتقليد لمّا وجدت نفسها في فترة من الزمن القديم ملزمة بأن تسير وفق منهج العلماء الأوائل في تقسيم الرسالة العمليّة أصبحت في الفترات اللاحقة لا تهتمّ بذلك التقسيم، وتكتفي بالكلام فيها عن الأحكام الفقهيّة فقط. وبعد أن رفعت الحديث عن الأصول، على أساس ما قرَّرته في مسارها التدويني من عزل المباحث اللاتقليديّة، سحبت ذلك حتّى على فروعها وملحقاتها ممّا فيه تقليد. رغم أنّ نفس العلماء الأوائل كانوا في الوقت الذي يتمّ عندهم استعراض المسائل العَقْديّة في مؤلَّفات خاصّة، والمسائل الفلسفيّة في مؤلَّفات منفردة، كذلك كانت الرسالة عندهم يتمّ تقسيمها إلى القسمين المذكورين. كلّ ذلك من أجل التماشي مع المكلَّف، فضلاً عن قضيّة جواز التقليد في إطار الملحقات والفروع العقديّة. فالمكلّف بمعناه العامّ لا شأن له بكتبهم البحتة المختصّة بالعلوم المحضة الأخرى، وإنّما يودّ أن يكتفي بمطالعة الرسالة الموجَّهة إليه، وأن يتعرّف على وظيفتيه الإيمانيّة والعمليّة، بحيث يطلب أن يجد في تلك الرسالة كلّ ما يريده عن الدين، بما يلبّي طموحاته، ويتسلسل معه في تقديم تعاليم الإسلام، ونظريّاته، وأحكامه، بصورةٍ متكاملة تكلّل بالإقناع والبناء القوي.

نسأل الله العلي القدير أن يعيد أمجاد هذه العلوم إلى حرارتها المعهودة ووجودها الأصيل.

نعم، من المهم أن تنفصل العلوم عن بعضها، فيكون لعلم الفلسفة مجاله، ولعلم الكلام مجاله، وللإفتاء مجاله، إلاّ أنّ ما نقصده لا مساس له بذلك.

 

الثانية: منهجهم في التقسيم للمسائل التشريعيّة بالخصوص

ونفس ما وقع من تغاير في التدوين والتقسيم تجاه التعاليم الإلهيّة ككلّ وقع تجاه التقسيم والتدوين في فروع الدين؛ حيث سلك البعض طريقاً يختلف عن البعض الآخر. إلاّ أنّ التقسيم الأساسي العامّ الذي اتّخذته رسائل العلماء رفع الله شأنهم هو تقسيم المسائل الفقهيّة إلى: عبادات؛ ومعاملات، إلى: تعبّديّات؛ وتوصّليّات ـ وإنْ دخلت بعض المسائل في العبادات، وهي ليست منها، والعكس؛ بفعل تداخل المسائل وترابطها ببعضها تَبَعاً للافتعالات القانونيّة عندما تكوِّن دستوراً متكاملاً مترابطاً ـ. في الوقت الذي ظهرت فيه تقسيمات أخرى، جميعها ـ تقريباً ـ حديثة الولادة والتجربة، ولم تأخذ حيِّزاً واسعاً من التطبيق، بل قد لا يتوفَّر لها أكثر من تطبيقٍ واحد في الكتب. وهذا ما نلاحظه مثلاً في تجربة كتاب الفتاوى الواضحة، للسيد الشهيد محمد باقر الصدر&، الذي هو مثالٌ للرسالة المستعرضة للأصول الدينيّة وفروعها ممّا كتب في العهد المتأخِّر، ومثال مبدئيّ لمنهجٍ مختلف في تقسيم الفروع والمسائل الفقهيّة، حيث قسَّمها تقسيماً رباعيّاً في أبواب متتالية كما يلي:

1ـ العبادات؛ 2ـ الأموال، ويشتمل على الأموال العامّة والأموال الخاصّة؛ 3ـ السلوك الخاصّ؛ 4ـ السلوك العامّ([6]).

ويُراد بذلك ـ بعد العلم بما قلناه من أنّ أحكام الشريعة متداخلة ومترابطة مثلها مثل أيّ دستور وقانون قويم متماسك متكامل ـ ما يلي:

العبادات: وهي مسائل الطهارة، والصلاة، والصوم، والاعتكاف، والحجّ والعمرة، والكفّارات.

الأموال: أـ الأموال العامّة: وهي كلّ مال مخصَّص لمصلحة عامّة، فيدخل ضمنها الزكاة والخمس؛ فإنّه ـ رغم كونهما عبادتين ـ يعتبر الجانب المالي فيهما أبرز. وكذلك يدخل ضمنها الخراج، والأنفال، وغير ذلك. فالحديث في هذا القسم ـ وفق ما يرى& ـ يدور حول أنواع الأموال العامّة، وأحكام كلّ نوع، وطريقة إنفاقه.

ب ـ الأموال الخاصّة: وهي ما كان مالاً للأفراد.

وقد استعرض أحكام هذا القسم من الأموال في فرعين، هما:

الأوّل: في الأسباب الشرعيّة للتملُّك، أو كسب الحقّ الخاصّ، سواء كان المال عينيّاً؛ أي مالاً خارجيّاً، أو مالاً في الذمّة؛ وهي الأموال التي تشتغل بها ذمّة شخص لآخر، كما في حالات الضمان والغرامة.

ويدخل في نطاق هذا الفرع: أحكام الإحياء والحيازة، والصيد، والتبعيّة، والميراث، والضمانات، والغرامات، بما في ذلك عقود الحوالة والقرض والتأمين، وغير ذلك.

الثاني: في أحكام التصرُّف في المال، ويدخل في نطاق ذلك: البيع، والصلح، والشركة، والوقف، والوصيّة، وغير ذلك من المعاملات والتصرّفات.

السلوك الخاصّ: وهو كلّ سلوك شخصيّ للفرد لا يتعلّق مباشرةً بالمال، ولا يدخل في عبادة الإنسان لربّه. وأحكام السلوك الخاصّ عنده& نوعان، هما:

الأوّل: ما يرتبط بتنظيم علاقات الرجل مع المرأة، ويدخل فيه: النكاح، والطلاق، والخلع، والمباراة، والظهار، والإيلاء، وغير ذلك.

الثاني: ما يرتبط بتنظيم السلوك الخاصّ في غير ذلك المجال، ويدخل فيه: أحكام الأطعمة والأشربة، والملابس، والمساكن، وآداب المعاشرة، وأحكام النذر واليمين والعهد، والصيد، والذباحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من الأحكام والمحرَّمات والواجبات.

السلوك العامّ: وهو سلوك وليّ الأمر في مجالات الحكم والقضاء والحرب، ومختلف العلاقات الدوليّة، ويدخل في ذلك: أحكام الولاية العامّة، والقضاء، والشهادات، والحدود، والجهاد، وغير ذلك([7]).

فهذه بعض النماذج المطروحة. غير أنّ المحاولات التي قامت هنا وهناك للتطوير والإصلاح، رغم ما جادت به من أفكار جبّارة وتطبيقات رائدة، وأهمّيّة تختصّ بها، لم ترقَ إلى المستوى الذي يعالج كافّة مشاكل التدوين في هذه الكتب.

الهوامش:

(*) باحثٌ وكاتب، وأستاذٌ في الحوزة العلمية. من المملكة العربية السعودية.

([1]) راجع، حول آراء الأخباريّة تجاه «العقل»: العلاّمة السيد محمد تقي الحكيم، الأصول العامّة للفقه المقارن: 284.

([2]) راجع: كلمة المقدِّم لكتاب المهذّب، للقاضي ابن البراج 1: 21 ـ 31. وكذا راجع: كلمة المشرف لكتاب جواهر الفقه، للقاضي ابن البراج: 9 ـ 14، وقد نقلناه بتصرُّفٍ، مع بعض الإضافات والحذف.

([3]) المصدر نفسه.

([4]) الشيخ الطوسي، المبسوط 1: 2.

([5]) راجع: د. الشيخ عبد الهادي الفضلي، تأريخ التشريع الإسلامي: 405 إلى آخر الكتاب، وقد نقلناه بتصرُّفٍ، مع الاختصار.

([6]) السيد الشهيد محمد باقر الصدر، الفتاوى الواضحة: 111 ـ 112.

([7]) راجع: المصدر السابق: 142 ـ 144، تقسيم الأحكام.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً