أحدث المقالات

أ. محمد ملائي(*)

د. محمد جواد أصغري(**)

ترجمة: حسن طاهر

خلاصةٌ

لقد تمّ تدوين الحقوق المتعلِّقة بتعامل الإنسان بكونه أشرف المخلوقات مع سائر الكائنات الحيّة في النصوص المعتبرة لكلا الدينين الإسلامي والزرادشتي، وذلك بناءً على الرؤى الكونية لكلٍّ منهما في ما خصّ الإيمان بالله، ومكانة الخير والشرّ في العالم. يدّعي بعضٌ أن الإسلام في هذا المجال، بالمقارنة مع الزرادشتية، أكثر قساوةً وأقلّ احتراماً لحياة الكائنات الأخرى على هذه الأرض. وهذا البحث يسعى لاستخراج هذه الحقوق من النصوص والمصادر المعتبرة لهذين الدينين، وهو ما يكشف الوجه الحقيقي لتعاملهما مع بقيّة المخلوقات، ويوضِّح رؤيتهما في هذا الصدد.

تشير نتائج المقالة إلى أن الإسلام لا يسمح بقتل المخلوقات إلاّ في نطاقٍ محدود، كتأمين الطعام والدفاع عن النفس. ولكنّ الزرادشتية، وانطلاقاً من اعتقادها بوجود مخلوقاتٍ شيطانية شريرة، تقسِّم الكائنات الحيّة إلى ثلاث فئات: مقدّسة؛ مباحة؛ مكروهة. والفئة الثالثة محكومةٌ بالموت، حتّى لو لم تتسبَّب بأيّ ضررٍ للإنسان في نفسه أو ماله.

إشكاليّة البحث

تعتبر العديد من الأديان أن الإنسان هو الهدف الرئيس من خلق العالم، ومن ثم فقد اهتمّ علماء الأديان بتعامل الإنسان مع الكائنات الحيّة الأخرى في العالم، سواء كان ذلك بشكلٍ مباشر أو غير مباشر.

وتكمن أهمّية الموضوع في أن معيار عقلانية تعاليم دينٍ ما تُقاس بالحقوق التي يوليها لسائر المخلوقات على هذه الأرض؛ لأن بعض الأديان أغرقت في احترامها لبقيّة الكائنات إلى درجة أنها اقتربت من الطوطمية؛ وبعضها الآخر تجاهلتها بشكلٍ يوحي أن حقّ الحياة حِكْرٌ على الإنسان فقط بصفته أشرف المخلوقات، ولا مكان لحياة غيره من الكائنات الأخرى.

وكما سنرى فإن كلا الدينين: الإسلام؛ والزرادشتية، يعتبر أن عبادةَ أيّ نوعٍ من الأشجار والحيوانات والطوطم وغيرها أمرٌ غير عقلانيّ، وقد نهَوْا عنها. هذان الدينان، كسائر الأديان، يتعاملون مع الكائنات الحيّة في هذا العالم بناءً على رؤيتهما الكونية في ما خصّ الله، وخلق العالم، والمكانة التي يولونها لمفاهيم الخير والشرّ في العالمين المادّي والمعنوي.

وبالطبع فإن الإسلام؛ بالنظر إلى عدم قبوله بالشرّ الذاتي في الموجودات، قد اعتبرها مخلوقات إلهٍ واحد، ونتيجة لذلك لم يتحمّل إيذاءها أو التسبُّب بالضرر لها، ولم يُجِزْ قتلها إلاّ في حالاتٍ خاصة.

ولكنّ الدين الزرادشتي؛ بقبوله للشرور الكامنة في الكائنات، واعتقاده بالثنوية والشرّ، قد اعتبر أن العالم من خلق الشيطان، وقد وضع أحكاماً مختلفة للتعامل مع المخلوقات الشيطانية.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن حول حقوق الكائنات الحيّة في الإسلام والزرادشتيّة هو: أيٌّ من هاتين الديانتين يمتلك إحساساً بالرحمة أكثر تجاه الكائنات الحيّة؟ أيّ دينٍ أكثر عقلانيّةً في التعامل معها؟ ما هي حقوق الكائنات الحيّة في الإسلام والزرادشتية؟

وعلى أيّ حالٍ سيكون لدينا عرضٌ موجز ومقارن لنصوص الزرادشتية والإسلام، وسنبحث في الأسئلة المذكورة في هذا المحور.

الخير والشرّ في الرؤى الكونيّة للإسلام والزرادشتيّة

ترجع أهمّية مناقشة بحث الخير والشرّ في الرؤى الكونية للإسلام والزرادشتية إلى أن لتفسير مكانة الخير والشرّ في الفكر الاسلامي والزرادشتية تأثيراً مباشراً على مناقشة حقوق الحيوانات والكائنات الحيّة في هاتين الديانتين. ونتيجة هذا التفسير في نظام الإلهيّات لزرادشت هي أن ثمّة قوتان تحكمان العالم: إحداهما: تسمّى الفكر (الجديد) (سبانتامينو)؛ والأخرى: تسمّى الفكر السيّئ (أنگره مينو). ولكنهم يعتقدون أن واحداً فقط من هذين الإلهين جديرٌ بالعبادة، وهو أهورامزدا. وفي الواقع يمكن القول: إن الزرادشتية لا تنضوي على توحيدٍ في الخلق، بل توحيد في العبادة. ومن هذه الناحية هي ديانةٌ توحيدية. لذلك فإن توحيدهم يختلف كثيراً عن توحيد الإسلام؛ فالعبادة في الإسلام تتوجّه لله الواحد خالق كلّ العوالم المادّية والروحية، الله الذي يمتلك صفات، مثل: القوّة المطلقة والعلم اللامحدود وما إلى ذلك. في نظام الإلهيات الإسلامي الشرور الطبيعية ناتجةٌ عن التزاحم الحَتْمي لعالم المادّة، والتي تعتبر من لوازمه وصفاته.

ولا يمكن تصوُّر عالمٍ مادّي، وفي عين كونه مادّياً يكون خالياً من هذه الثغرات والنواقص. وبالطبع فإن هذه الشرور لا تنتصر على خيرات العالم، وبالتالي لا تسبِّب خَلَلاً في النظام العام لهذا العالم، الذي هو أحسن العوالم التي أبدعَتْها يد الصنعة. وإذا أراد الله أن يزيل الشرّ من العالم فعليه أن يخلق عالماً من غير طبيعةٍ مادية، ولا يحتوي على خصائص المادة، وبالتالي سيكون عالماً آخر. والشرّ الأخلاقي أيضاً نتيجة الاختيار الذي وضعه الله بين يدي الإنسان، وشرَّف الإنسان على سائر المخلوقات لهذه الجهة بالذات. وانتصار هذه المجموعة من الشرور على الخيرات الكثيرة التي تتبعها أيضاً غير مقبولٍ. لذلك فإن الفَيْض المطلق الإلهي اقتضى خلق هذا العالم بكلّ الخصائص التي ينطوي عليها؛ لأن خيراته أكثر بكثيرٍ من شروره العَرَضية، وترك خلقه خلاف حكمة الله([1]).

والملاحظة الأخرى هي أنه لا يجوز اعتبار قوة الشيطان في الفكر الإسلامي مساوية لقوّته في الفكر الزرادشتي؛ فالشيطان في الفكر الإسلامي عاجزٌ أمام الله، ولا يملك القدرة على الخلق أو التصرُّف في الكائنات، فقط عن طريق الوسوسة يمكنه أن يمارس عمله: ﴿وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ﴾ (سبأ: 21).

أما الزرادشتيون فإنهم يعبدون إلهاً واحداً من باب أنه إله الخير، وخالق الحياة والنظام الذي تسير عليه، ولكنّهم ليسوا موحِّدين. إنهم يعتبرون أن ظواهر العالم ناشئةٌ عن قوّتين متقابلتين مستقلّتين تماماً عن بعضهما، وكلٌّ منهما عاجزةٌ أمام الأخرى. ومع ذلك هناك اختلاف في مقدرة كلٍّ من هاتين القوتين على الخلق. يعتقد بعضٌ أن ما يُفْهَم من تعاليم زرادشت أن أهورامزدا خلق في البداية كائناتٍ بدون نواقص وعيوب، وبعد ذلك شن (أنگره مينو) هجوماً خبيثاً على الخلق، وأحدث الفوضى في نظام العالم([2])؛ بينما يعتقد بعضٌ آخر أن لدى (أنگره مينو) القدرة على الخلق، وهو مستقلٌّ عن أهورامزدا([3]).

ومن أكثر النصوص أصالةً، التي تثبت صحّة وجود الثنوية في الرؤية الكونية الزرادشتية، بعض العبارات التي جاءت على لسان زرادشت نفسه في الأفستا، وهو يصف أول مواجهة حصلت بين هذين الإلهين: «في البداية تحدث هذان الروحان التوأمان (مينو)، أحدهما: حسن الفكر والقول والعمل؛ والآخر: سيّئ الفكر والقول والعمل.

ومن بين هذين الروحين وقع اختيار الأبرار على الحقيقي الصادق منهما، ولم يختره الأشرار، سيّئو الطوية.

وعند ذلك اجتمع هذان الروحان معاً، وأوّل ما فعلوه هو أنهم وضعوا أسس «الحياة» و«اللاحياة». وهكذا سيبقى الوضع إلى نهاية العالم؛ الفضلاء سيكونون من أتباع  «أشه» [أي الدين والحقّ]؛ وأسوأ حياةٍ ستكون من نصيب اتباع «دروج» [أي شيطان الكذب]. ومن بين هذين الروحين فإن الذي اتّبع «دروج» سيسلك أسوأ سبيل؛ أما الروح الخيّرة التي غطَّت السماء الخالدة، فإن الذين يرضون الله «أهورامزدا» بأمانةٍ، عبر تحرُّرهم من الرغائب، فقد اختاروا «أشه»([4]).

مع ذلك، ووفقاً للرأي الأوّل، يعتبر نظام الإلهيات الزرادشتي أن جميع الكائنات في العالم قد خلقها أهورامزدا بنحوٍ من الأنحاء، ولكنّه من ناحيةٍ أخرى يقدِّم إلهاً آخر لا تقلّ قوّته وهيبته عن أهورامزدا، بحيث إنه بهذه الهيبة أجبر كثيراً من الناس على عبادته، وكلّف النبيّ زرادشت بإخراج الناس من هذه العبادة الباطلة التي تقود العالم إلى الهلاك. والملاحظة الجديرة بالانتباه هنا أن أهريمان نفسه قد لا يكون قادراً على خلق الكائنات الشيطانية. ويبدو أن عدم القدرة هذا لا يتعارض مع كونه إلهاً؛ لأن حيثيته ليست الإيجاد والخلق، حتّى يخلق الكائنات من العدم، ولكنّها ضدّ الخلق. ولهذا السبب، ووفقاً لرغباته، استطاع أن يُسخِّر مخلوقات «مينو»، ويتسلَّل الى أرواحهم.

أيدي هريمان مبسوطةٌ في الخلق، وفقاً للرؤى الكونية الزرادشتية، بصفته خالقاً للشرّ، بحيث إنه منذ اليوم الأوّل للخليقة تحدّى قوّة أهورامزدا خالق الخير، الذي انبرى يخلق كائنات سماوية، مثل: سبعة «أمشاسيند» والإنسان وغير ذلك؛ ليكونوا عَوْناً له في هذه المواجهة الكونية مع أهريمان وجنوده الشياطين، الذين أسّسوا وخطّطوا لنظامٍ مناهض لخلق الله([5]).

ووفقاً لهذا التفسير للخير والشرّ في العالم، تمّ تشكيل حقوق الكائنات الحيّة في الإسلام والزرادشتية. وبعبارةٍ مختصرة: إن الإسلام يجعل حقوقاً لجميع الحيوانات؛ في حين أن زرادشت يحصر هذه الحقوق في الحيوانات السماويّة، دون الشيطانية منها.

الموقف النهائيّ من التضحية بالحيوانات وقتلها

من القضايا التي يمكن أخذها بعين الاعتبار عند مناقشة حقوق الحيوان، وتكون معياراً لقياس حقوق الحيوانات في الإسلام والزرادشتية، هي الأهمّية التي يتمّ إعطاؤها لحياة الحيوانات في كلا هاتين الديانتين. ما من شكٍّ أن التضحية بمعناها الخاصّ، أي سلب حياة الحيوان الحيّ، بشروطٍ وعاداتٍ خاصّة، غالباً ما يتمّ إجراؤها لجعل استهلاك لحم ذلك الحيوان حلالاً؛ وكذلك قتل الحيوانات التي تلحق الضرر بالإنسان، بدون شروط ولا إجراء تلك العادات المتَّبعة أثناء الذبح، كلُّ ذلك كان موجوداً دائماً. ولكنّ هذه الشعيرة اختفَتْ إلى حدٍّ كبير من المجتمع الزرادشتي؛ في حين أنها ما زالت مُتَّبعةً عند المسلمين، الأمر الذي حدا ببعض الباحثين، وبدون النظر إلى النصوص الدينية، والخَلْفية التاريخية للدين الزرادشتي، إلى اعتباره مثل الدين السيخي، يحترم بشدّةٍ حياة الكائنات الحيّة المحيطة بالإنسان، ولا يقتلها([6]).

يوجد وجهتا نظرٍ مختلفتان في هذا الصدد:

أـ يعترف بعضٌ بوجود التضحية بالحيوانات في الدين الزرادشتي، ولكنْ بدون الأخذ بعين الاعتبار تصنيف الزرادشتيين للحيوانات، فيصدر حكماً عامّاً، مثل: إنهم يقتلون الحيوانات؛ إما للتضحية بها بالمعنى الخاصّ؛ أو لأكل لحومها؛ أو إنهم يعتبرون قتل الحيوانات صغيرة السنّ حراماً، وهم يتصرَّفون بشكلٍ جيّد مع الحيوانات والكائنات الأخرى في العالم([7]).

ب ـ رفض بعضٌ آخر أساس فكرة التضحية بالحيوانات وقتلها في الدين الزرادشتي، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك؛ إذ رفضوا أكل الزرادشتيين للحوم الحيوانات([8]).

بالنسبة لوجهة النظر الأولى يجب القول: إنه من المؤكَّد أن الدين الزرادشتي ـ مثل الإسلام ـ لا يسمح بإلحاق الضَّرَر بالحيوانات أو إيذائها. وهو يجيز قتلها في حدود الأحكام الشرعية فقط. ولكنّ هذه الأحكام لا تقتصر على التضحية بمعناها الخاصّ، تلك التي تتمّ بموجب إجراء مراسِم دينية معينة، ولكنّها تشمل أيضاً قتل الحيوانات المؤذية. وفي الحقيقة فإن قتل هذا النوع من الحيوانات يُعَدّ جزءاً من المناسك الدينية في الزرادشتية، ويمكن أن نعتبره بنحوٍ ما تضحيةً بالمعنى العامّ، أي تضحية في سبيل انتصار أهورامزدا على أهريمان([9]).

تمّ إدراج قتل الحيوانات المكروهة، التي تُسمّى اصطلاحاً بـ «خرفستران»، في إطار العقيدة الدينية التي تنصّ على أن كلّ الحيوانات تمّ خلقها من البقرة، التي تُعَدّ إحدى المخلوقات السبعة الأولى لأهورامزدا، ولكنّ أهريمان تسلَّل إلى نفوس بعض تلك الحيوانات، وسخّرها لخدمته؛ ليعارض خلق الله. ونتيجةً لذلك يريد المؤمنون بقتلها تدمير عمّال الشرّ، ومساعدة أهورامزدا على هزيمة أهريمان. ومن هذا المنطلق فإن قتل تلك الحيوانات بغير هذه النيّة لا يستتبع أجراً لصاحبه، بل يستتبع لَوْماً وتقريعاً. جاء في النصوص الپهلوية أنه على الشخص الذي يقوم بقتل الـ «خرفستران» [= أي الحيوانات المثيرة للاشمئزاز] أن يقول: «أقتل هذه الحيوانات بنيّة غفران ذنوبي، واكتساب الفضيلة، ومحبّة روحي»([10]).

والملاحظة الأخرى هي أنه على الرغم من أن قتل الحيوان الصغير في الزرادشتية يُعتبر معصيةً، وأنهم كانوا يتعاملون برفقٍ مع الحيوانات، فإنّ هذا يصدق فقط على الحيوانات المفيدة، وليس على «خرفستران» المكروهة. ولذلك لا يمكن اعتبار هذا الأمر قاعدةً عامّة.

تاريخياً كانت الحيوانات المؤذية والغامضة المنسوبة لروح الشرّ «أنگره مينو» تعتبر نجسةً، وعلى قتلها أَجْرٌ، إلى درجة أن كلّ بهديني (مؤمن) يجب أن يكون معه أداة لقتلها، تُسمّى «مارغن» أو «قاتلة الخرفستار»([11])؛ حتّى يتمكن من قتلها حيث وجدها. والجذور الدينية لهذا العمل أدَّتْ الى استمراره قروناً طويلة؛ بهدف تعويض التقصير العمدي أو غير المقصود الذي يمكن أن يقع فيه المؤمن. لقد شهدها هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد؛ ومن ناحيةٍ أخرى بقي زرادشتيّو كرمان يقيمون مراسم قتل الحيوانات المكروهة (خرفستار كشي) حتّى أواسط القرن التاسع عشر([12]).

أما عند مناقشة وجهة النظر الثانية فيجب القول: إن بعض الباحثين، وبحَسَب ادّعاءات الزرادشتيين المعاصرين، قالوا: إن الدين الزرادشتي يعارض بشدّةٍ التضحية بالحيوانات، مبدين تحيُّزاً مع أحكامٍ مسبقة واستقراء خاطئ. هذا الحكم المتعصّب الخاطئ هو أن إراقة دماء الأضاحي لا يتناسب مع الأهداف الأخلاقية السامية للدين الزرادشتي، وذلك الاستقراء الخاطئ هو أن الزرادشتيّين تجنَّبوا القيام بأيّ شكلٍ من أشكال التضحية بالحيوانات في الماضي البعيد. وخلافاً لتصريحات هذه المجموعة من الباحثين، فإن أقوال زرادشت لا تؤيِّد الرأي القائل بأن سَلْب حياة الكائنات الحيّة كان عملاً قبيحاً في ذلك الدين، بل تختلف معه. وكذلك أيضاً لا يوجد شيءٌ من هذا القبيل في تعاليم نبيّ الإسلام. ولكنّ أتباع زرادشت ألغوا تقديم الأضاحي في مسيرتهم التاريخية، بناءً على بعض المصالح، بينما استمرّ أتباع نبيّ الإسلام مواظبين على هذه الشعيرة إلى هذا اليوم.

والأمر الذي ينبغي الانتباه إليه في هذا المقام هو: أوّلاً: الأشياء التي رُويَتْ عن لسان زرادشت نفسه، وتمّ العمل بها من قِبَل المتديِّنين السابقين. وثانياً: الأشياء التي حذفها المتأخِّرون أو أضافوها إلى الدين. في الحقيقة هناك بعض التغييرات التي طرأت على الوقائع الدينية الأولى. وهؤلاء الباحثون جعلوها ـ عن طريق الخطأ ـ من الأصول الأولى.

تقول السيدة ماري بوريس، بصفتها شخصاً أجرَتْ دراساتٍ معمّقة حول الديانة الزرادشتية في كتاب «تاريخ الدين الزرادشتي»، ما يلي: «كانت إحدى علامات وإشارات الإخلاص والصدق لدى المقنِّنين الجُدُد للديانة الزرادشتية في العصر الساساني القديم هي تناول لحوم الأضاحي. ومضافاً إلى ذلك كان الزرادشتيون الهنود والإيرانيون يمارسون طقوس تقديم الأضاحي حتّى القرن الماضي، ولكنْ بعد هجرة الفرس الزرادشتيين من إيران، والاستقرار في الهند، اضطرّوا إلى التخلّي عن أهمّ أضحياتهم التقليدية، وهي التضحية بالبقر. وعلى مرّ القرون أصبحوا، مثل الهنود، يشمئزّون من تقديم أضاحي البقر. وفي منتصف القرن التاسع عشر هيمنوا على زرادشتيّي إيران، وأثَّروا عليهم أخلاقياً ومعنوياً، ممّا اضطرّهم إلى التخلّي ـ مثلهم ـ عن تقديم أضاحي البقر، ولكنهم لم يعترضوا على التضحية بالحِمْلان والماعز والدجاج والديوك؛ لأن الكثير من الفرس الزرادشتيين في الهند كانوا يفعلون الأمر ذاته.

وفي وقتٍ لاحق، في بداية القرن العشرين، امتنع زرادشتيّو الهند عن تقديم أيّ أضحيات، وأظهروا من حيث المبدأ كراهيةً شديدة لهذا العمل. وقد عمَّم الباحثون الغربيون هذه الكراهية على كلّ تاريخ الزرادشتية، وأسقطوها على الماضي البعيد. كما فسروا كلّ إشارةٍ وردت في أقوال زرادشت (گاتات) حول الظلم والقهر لصالح إدانة تقديم الأضاحي. وهو خطأٌ تاريخي. لقد كان الإيرانيون الذين يعيشون على الهضبة الإيرانية، والذين يضطرّون إلى تحمُّل الشتاء البارد والطويل نسبيّاً لآسيا الوسطى، كانوا من آكلي اللحوم، مَثَلُهم كمَثَل سائر الأقوام الأخرى، الذين يمتلكون قطعان الماشية، ويعيشون على خيراتها.

المصطلح المستخدم في كتاب «الأفستا» للدلالة على الطعام هو كلمة «پيتو» (Pitu) (لحم)، ومع ذلك فقد تبدّلت هذه الكلمة لاحقاً في اللغة الإيرانية، واستُعيض عنها بكلمة خبز أو ما يرادفها من ألفاظ.

لم يعارض زرادشت التقليد القديم لتناول اللحوم. وهذا واضحٌ من كلامه الذي يقسم فيه بـ «آرميتي»، والذي تمّ الاستشهاد به في وقتٍ سابق، يقول: «اجتهدوا في تربية المواشي؛ حتّى تسمن البقر من أجل طعامنا»([13]).

تصنيف الحيوانات وحقوقها في مصادر الزرادشتيّة والإسلام

إلى جانب الاستفادة من المصادر التاريخية المعتَبَرة في ما يخصّ الأديان المختلفة، والتي كتبها مؤرِّخون وعلماءُ أديانٍ موثوقٌ بهم خلال القرون الماضية، يُعَدّ الرجوع إلى النصوص الأصلية للدين نفسه مصدراً مهمّاً لفهم الرؤية الكونية والمعتقدات المستجدّة من تلك النصوص. تكمن أهمّية الاستشهاد والرجوع الى المصادر الأصلية لدين ما في إثبات ادّعاءٍ له أو عليه في أن هذه النصوص تتمتّع دائماً بسلطةٍ أكبر بين أتباع ذلك الدين.

تفسير المصادر الزرادشتيّة لمخلوقات الكَوْن

ما يمكن استنتاجه من المصادر الموثوقة للزرادشتية هو دَوْر عاملين رئيسين في الموقف من موجودات الكَوْن: الأوّل: هو تفسير الأفستا للخير والشرّ؛ والثاني: فكرة محورية الإنسان.

يظهر من خلال مطالعة كتاب «الأفستا» أن الإيرانيين، كهنود العصور القديمة، كانوا يعتقدون أن عالمهم مليءٌ بالكثير من الأرواح؛ بعضها خيِّرٌ ومفيد؛ وأكثرها مؤذيةٌ وخبيثة؛ بعض هذه الأرواح الشيطانية تدخل في أجسام البشر مباشرةً؛ بقصد إيذائهم؛ ومجموعة أخرى منهم يختبئون في زوايا المنزل والمزرعة؛ ليجبروا الآدميّ على الانزلاق والوقوع في الخطأ، ويصبحون بلاءً على القطيع، وآفةً لزرعه([14]).

بعض الكلمات، مثل: «ديف» [أي شيطان] و«پري» [أي جنّية] و«خِرَفْستَران» [حيوانات مقزّزة]، هي في الآداب والنصوص الزرادشتية أسماءٌ لكائناتٍ شيطانية تظهر في صورة حيوانٍ أو إنسان أو غير ذلك. على سبيل المثال: نقرأ: «لنبتعد عن الشياطين وعبّاد الشياطين، لنبتعد عن السحر والمشعوذين»([15]).

يعتبر الزرادشتيون أن الإنسان هو العلّة الأصلية من خلق العالم. واعتقادهم هذا في محورية الإنسان تجعل معيار فائدة نباتٍ أو حيوانٍ هو منفعته، وما إذا كان يشكّل حاجةً للإنسان. ومن ثمّ فإن المخلوقات التي لا فائدة منها للإنسان، ولا حاجة له بها، واعتبرَتْ مصدراً للشرّ، ومخلوقات شيطانية، يجب قتلها على كلّ مؤمنٍ زرادشتيّ، كما جاء في كتاب «شايست ناشايست»: «أن تصبح مؤمناً يعني أن تقتل عدّة خرفستر»([16]). ووفقاً لهذين العاملين الرئيسين فإن مخلوقات العالم تقسم إلى فئتين:

أـ مخلوقات مفيدة ومطلوبة للإنسان. ويمكن أن تكون هذه الفائدة في استخدام تلك الحيوانات في حمل الأثقال أو العمل الزراعيّ، أو كطعامٍ أو أضاحٍ، أو للحاجة إليها في الصراع مع مخلوقات الفئة الثانية، التي تهدف إلى الإضرار بالجسم والروح والمصالح البشرية.

ب ـ مخلوقات مضرّة وغير مرغوبٍ فيها للإنسان. ولا يقتصر الأمر على المخلوقات التي تلحق الضَّرَر بجسم الإنسان وروحه عند هجومها عليه، بل تشمل كلّ المخلوقات الجائعة التي تهجم على المزرعة والأرض والمخازن والغِلال، كذلك تشمل الحيوانات كريهة المنظر. والملاحظة المهمّة هي شمول هذه القاعدة العامّة لجميع أنواع تلك المخلوقات.

ولكنْ بإلقاء نظرةٍ فاحصة يمكن تقسيم الوضع الحقوقي للحيوانات في الديانة الزرادشتية إلى ثلاث فئات:

1ـ حيوانات مقدَّسة: ولهذه الحيوانات حقوقٌ تفصيلية كثيرة، وتحظى بتبجيلٍ غريب. ويرجع السبب في فصلها عن بقيّة الحيوانات المفيدة إلى أنها، بالإضافة إلى محاربتها ضدّ المخلوقات الشيطانية، يلعب بعضُها دَوْراً رئيساً في أداء الطقوس الدينية، مثل: الكلب والبقرة (الكلب الذئب والكلب الأزرق والقنفذ والثعلب كلُّها من جملة الكلاب)([17]).

2ـ الحيوانات المباحة: تُعتبر هذه الحيوانات من الناحية الحقوقية أقلّ بدرجةٍ من الحيوانات المقدّسة، ولكنْ لها حقوقٌ شتّى. تستخدم هذه الحيوانات المينوية (السماوية) والمحارِبة للشيطان غالباً للاستفادة من لحومها، وللعمل والحمل والنقل ونحو ذلك، مثل: الحصان والأغنام والجمال ونحوها.

3ـ الحيوانات البغيضة والمؤذية: هذه الحيوانات ضدّ خلق الله، وتنتمي إلى الشيطان، وليس لها أيّ حقوقٍ، ويتمّ التعامل معها بقسوةٍ، وتُقتل لأتفه الأسباب، مثل: الأفعى والضفدع والذئب والنملة ونحو ذلك.

وفي ما يلي بعض الأمثلة على خصائص وحقوق هذه الحيوانات في الدين الزرادشتي:

1ـ حقوق الحيوانات المقدّسة

تتمتّع الحيوانات المقدّسة بأكبر قَدْرٍ من الاحترام والحقوق بين جميع الحيوانات. وبناءً على تعريف الحيوانات المقدّسة فإن الكثير من الحيوانات يندرج ضمن هذه الفئة، مثل: الباز الأبيض، الديك، القنفذ، ونحو ذلك([18]).

ولكنّ البقرة وأنواع الكلاب تتربَّع على قمّة لائحة الحيوانات المقدّسة من حيث القيمة. ولكنّ تقديس البقرة في الدين الزرادشتي، وحقوقها العديدة، يعود إلى سببين:

أـ البقرة رمزٌ للحيوانات المفيدة، وملاك الوَحْي

السبب الأصليّ لقدسية البقرة كونها إحدى المخلوقات السبعة الأولى لأهورامزدا. يقدِّم زرادشت «سينتامينو» على أنه خالق كلّ الأشياء الخيِّرة، وخالق كلّ الكائنات المادّية والمعنوية. وله ستّة كائنات روحانية (= أمشاسپندان)، هم وكلاؤه في هذا العالم. يلعب كلٌّ من هذه القوى الروحية الستّة (الملائكة) دَوْراً ما، ويرافق أحد المخلوقات السبعة الأولى الذين أوجدهم أهورامزدا عند خلق العالم، ويعمل على حمايته، وهي: (1ـ السماء، 2ـ الماء، 3ـ الأرض، 4ـ النبات، 5ـ الحيوانات التي وُجدَتْ من العجل، 6ـ الإنسان، 7ـ النار). والبقرة هي إحدى هذه المخلوقات السبعة، وملاكه المقرَّب والداعم له «وهومنة»، الذي يتمثَّل دَوْره في حُسْن نيّته وهدفه.

ومن ناحيةٍ أخرى، من وجهة نظر الدين الزرادشتي، يُعتبر «وهومنة» أيضاً ملاك الوَحْي النازل على زرادشت النبيّ؛ فقد جاء في يسنا رقم 43 على لسان زرادشت: «لقد قدّستك يا أهورامزدا حينما جاءني وهومنة، وأخبرني عن دينك للمرّة الأولى».

ومن هنا، فإن البقرة كرمزٍ لخلق الحيوان النافع، والمخلوق الذي يسكن فيه «وهومنة» ويتجلّى فيه، أصبحَتْ محلاًّ لاحترامٍ خاصّ من قِبَل الزرادشتيين([19]).

ب ـ بول البقرة أحد المطهِّرات المهمّة في الدين الزرادشتي

وهناك سببٌ آخر لقدسيّة البقرة، وهو دَوْرها الرئيس في أداء الطقوس الدينية. فبحَسَب عقائد الزرادشتيين يُعتبر التلوُّث والأوساخ والسواد وما إلى ذلك آتياً من قِبَل الروح الشرير «أنگره مينو»، الذي يُرى في كائنات العالم. ولإزالة هذه الملوِّثات عن المخلوقات يجب أن يتمّ بَذْل المزيد من الجهود، لا أن نعمل على توسيع رقعتها أكثر. والزرادشتيّون، مثل كلّ الناس، يعتبرون الماء والنار وسائل طبيعيّة للتطهير. ولكنّ القدسية الخاصّة للماء والنار حالَتْ دون استخدامها في تطهير الأشياء. إنهم يعتقدون أنهم بهذا العمل ينجِّسون الماء والنار، التي هي من المخلوقات الأولى لأهورامزدا، أي إن العمل الذي أراد أن يقوم به الروح الشرّير «أنگره مينو» في بداية خلق العالم يقوم به الآن بالنيابة عنه أحد المؤمنين الزرادشتيّين. لذلك من غير القابل للتصوُّر بالنسبة إلى المؤمن أن يتمّ استخدام الماء والنار لإزالة الأوساخ أو حرق القمامة. إنهم يحاولون قَدْر الإمكان عدم تلويث هذين العنصرين. وبَدَلاً عن الماء والنار لجأوا إلى استخدام بول البقر في التطهير، والذي يُعتبر أهمّ البدائل المتوفِّرة. ويسمّى اصطلاحاً «گومز» أو «پادياب»، بمعنى «معادل الماء»، يعني ذلك الشيء الذي يقع بين الماء والنجاسة.

تُعتبر النصوص الزرادشتية أن بول البقر من المطهِّرات التي تزيل النجاسات الظاهرية والباطنية، والذي يحلّ محلّ الماء في كثيرٍ من الموارد؛ فهو يُستَخْدَم في الاستحمام وغسيل الأوساخ الخارجية، ويُشْرَب من أجل التطهير الداخلي في بعض الحالات الخاصّة، مثل: ولادة طفل ميت([20]).

وبالنظر إلى قدسية البقرة وأهمّيتها فإن أيّ ضررٍ أو أذىً يصيبها يستحقّ صاحبه العقوبة. ولا يجوز ذَبْحها إلاّ في الطقوس الدينية. ومن الأهمّية بمكانٍ تمريضها إذا أصابها مكروهٌ، والاهتمام بطعامها ومكانها أكثر من أيّ حيوانٍ مفيد آخر.

ج ـ قُدْسيّة الكلاب باختلاف أنواعها

أما الكلب فله حقوقٌ كثيرة في الديانة الزرادشتية، وترجع أسباب أهمّيته إلى ما يلي:

الكلاب أيضاً كائناتٌ قيِّمة ومقدّسة، وتحظى بالقرب في الديانة الزرادشتية. يعدِّد أهورامزدا في الفصل الثالث عشر من كتاب «فنديداد» ثماني خصائص للكلاب، تميِّزها عن غيرها من الحيوانات المفيدة([21]). الكلاب أقرب الحيوانات إلى الإنسان من حيث الشخصية والقيمة، وتتمتَّع بحقوق أكثر من حقوق البقر بكثيرٍ. حضور الكلاب واجبٌ في بعض المراسم الدينية، وخاصّة في تشييع الميت. ويتمتّع بتأثيراتٍ تكوينية فريدة لا توجد في أيّ حيوانٍ آخر. فمثلاً: لا يمكن سوى للكلاب فقط أن تطهِّر الآثار التكوينية غير الطاهرة التي تبقى بعد تشييع الميت، وذلك من خلال مرور كلبٍ أصفر أو أبيض في مسيرة التشييع([22]).

يترتَّب على قتل الكلاب أو إلحاق الضَّرَر بهم أو أيّ نوعٍ من عدم الاحترام لهم عقوباتٌ شديدة، مثل: الجلد المُحدَّد([23]).

يتمّ تشييع الكلب الميت في مراسم خاصّة([24]).

وتختلف حقوق الكلاب في مجال الطعام وعلاج الأمراض وما إلى ذلك بشكلٍ كامل عن حقوق الحيوانات الأخرى. وقد جاء تفصيل ذلك في كتاب «فنديداد»([25]).

وعلى سبيل المثال:

 أـ ماذا ستكون عقوبة الشخص الذي يعطي طعاماً سيّئاً لكلبٍ هناك؟

أجاب أهورامزدا: ذنبه يساوي ذنب مَنْ يُطْعِم رجلاً تقيّاً طعاماً سيّئاً، بينما هو ذاهبٌ إلى منزله للقيام بمراسم دينية.

 ب ـ ماذا ستكون عقوبة الشخص الذي يعطي طعاماً سيّئاً لكلب المنزل؟

أجاب أهورامزدا: جزاؤه تسعون سوطاً، وتسعون عصا.

ج ـ إذا وُجد في بيت أحد عبّاد مزدا كلبٌ لا يشمّ ومختلّ الإدراك، فماذا يصنع عباّد مزدا؟

أجاب أهورامزدا: يسعَوْن في شفائه، تماماً كما يفعلون مع رجلٍ تقيّ([26]).

2ـ كلب الماء (القُنْدس): القندس من فصيلة الكلاب. ولكنّ حقوق هذا النوع من الكلاب هي من الكثرة بحيث إنه تمّ تخصيص فصلٍ كامل من كتاب «الفنديداد» له([27])، وبعبارةٍ أخرى يمكن القول: إن أقدس حيوانٍ في الزرادشتية هو كلب الماء. جاء في تعاليم زرادشت: عندما يموت الكلب تذهب روحه إلى نبع مياه، وهناك يولد كلب الماء من ألف كلبٍ ذكر وألف كلبةٍ([28]). لذلك إذا قام شخصٌ ما بقتل كلب الماء عمداً فستكون عقوبته شديدة، فوق القدرة على التحمُّل. وترجع هذه القسوة إلى حقيقة أن القاتل قتل مخلوقاً جاء نتيجة أرواح ألف كلبٍ عالي القيمة. بالإضافة إلى ذلك فإن قتل كلب الماء يستتبع عواقب تكوينية وخيمة، مثل: الجفاف وتدمير المراعي([29]). على سبيل المثال: جاء في قوانين زرادشت أن عقوبة الشخص الذي يتسبَّب بقتل كلب الماء هي التالي: «يجلد عشرة آلاف سوط، وعشرة آلاف عصا… عليه أن يقتل عشرة آلاف حيّة تزحف على بطنها، وعشرة آلاف سلحفاة، وعشرة آلاف ضفدع برّي، وعشرة آلاف ضفدع مائي، وعشرة آلاف نملة سارقة للحنطة، وعشرة آلاف نملة سامّة وقارصة، وعشرة آلاف دودة تعيش في الغائط والقاذورات، وعشرة آلاف ذبابة قبيحة المنظر وكريهة»([30]).

3ـ القنفذ: تُعتبر القنافذ أيضاً من ضمن مجموعة الكلاب التي يُمنع قتلها؛ لأنها تشبه الحيوانات المقدّسة الأخرى في صدّها للحيوانات الشيطانية؛ فقد جاء في كتاب «شايست ناشايست»، الذي هو كتابُ الفقه الزرادشتي، ما يلي: «إذا صادفت قنفذاً فابتعِدْ عنه، بدون خوفٍ، ولا تقتله؛ لأنه يتبوّل في بيت النمل كلّ يومٍ، ويقال: إنه يموت من بوله ألف نملة»([31]). والشخص الذي يقتل قنفذاً جزاؤه ألف سوطٍ([32]).

 

2ـ حقوق الحيوانات النافعة وغير المقدَّسة

حيوانات هذه الفئة، مثل: الحصان، الأغنام، الماعز، الدجاج، ونحو ذلك، من جملة الحيوانات المفيدة، التي فيها نفعٌ وفائدةٌ للإنسان، فضلاً عن كونها مخلوقات أهورامزدا. ولذلك جُعلَتْ لها بعض الحقوق، كضرورة التعامل معها بشكلٍ جيّد. ولأنهم كانوا يعتقدون أن كمال هذه المخلوقات في النموّ السليم، والوصول إلى نوعهم الكامل (= الأبقار)، يجب على كلّ فردٍ زرادشتي أن يساعدها على النموّ والوصول إلى كمالها الخاصّ. وتُعتَبَر أذية هذه الحيوانات من هذه الفئة، أو قتلها على سبيل التسلية، معصيةً. وعلى العاصي التكفير عن ذنبه بشكلٍ يتناسب ونوع الجُرْم الذي ارتكبه، وذلك عبر قتل عددٍ معيّن من الحشرات البغيضة (خرفستران)؛ وإنْ لم يفعل فسوف يُعاقَب. وتُعتَبَر التضحية بصغار هذه الحيوانات معصيةً؛ لأنها لم تؤدِّ دَوْرها بعدُ في الخطّة العامّة للكَوْن([33]).

وينبغي مراعاة الدقّة والحِرْص في إجراء طقوس التضحية، حتّى تقتصر الجروح والقتل على حياتها الدنيويّة، بدون أن يلحق الضَّرَر بروحها؛ حتّى تتحرَّر وتكمل حياتها الأخرى في عالم الخلود([34]).

3ـ حقوق الحيوانات الكريهة والمؤذية

كما لوحظ فإنّ هذه الفئة من الحيوانات ليست لها حقوقٌ في الحياة. لقد أمر أهورامزدا بقتلها وتدمير بيوتها قَدْر الإمكان([35]). وحيوانات هذه الفئة؛ لأنها مخلوقة من قِبَل روح الشرّ «أنگره مينو»، ولا يمكن أن تتطهَّر إلاّ بالقتل، كان يتمّ قتلها في طقوس دينيّة متنوّعة، مثل: عيد اسپندارمذ. وتُقتل كنوعٍ من الكفّارات أو العقوبة التي تترتَّب على مَنْ يؤذي الحيوانات المفيدة. جاء في كتاب «بندهش» بعض أسماء هذه الـ «خرفستران»، مع تصنيفها إلى فئات ثلاثة: مائية؛ وبرّية؛ وذوات ريش. ومن المائية تذكر الضفدع، ومن البرّية التنّين ذو الرؤوس الكثيرة، ومن ذوات الريش الأفعى ذات الريش. وهذه الأمثلة هي الأسوأ على الإطلاق.

أنواع الأفاعي، الفأر، العقرب، الصرصور، النملة، الحيوانات المفترسة، مثل: الذئب، والنمر، والكثير من الحيوانات التي وردَتْ أسماؤها، يجب أن تُقتل([36]). وبالطبع هناك المزيد من التوصيات حول قتل بعض هذه الحيوانات والحشرات؛ لأنها تؤدّي إلى ظهور أنواعٍ أخرى منها بَخْسة ومؤذية. مثلاً: جاء في بندهش: إذا لم يقتلوا الذباب الأزرق فسيخرج من فضلاته وبيوضه كائناتٌ: «إذا سلَحَ الذباب في اللحوم يخرج منها الدُّود، وإذا سَلَح في الأرض تخرج البراغيث، وإذ سَلَحَ في الهواء يخرج البعوض، وإذا سَلَحَ في الماء يخرج العَلَق». قيل: «من الواضح أن النملة إذا لم يتمّ تخريب بيتها خلال ثلاثمائة عام تتحوَّل إلى أفعى ذات ريش»([37]).

يمكن رصد أمثلةٍ على كراهية هذه المخلوقات، والأمر بقتلها، في فصول مختلفة من كتاب «فنديداد». مثلاً: جاء في الفصل الرابع عشر ذكر أسماء كثيرة من هذه الحيوانات، التي يتوجّب قتلها كنوعٍ من العقوبة المترتِّبة على مَنْ يقتل كلب الماء؛ أو مثلاً: جاء في قسم أحكام النساء حول المرأة الحائض، التي ترى دم الحَيْض أيضاً بعد تسع ليالٍ: «عليها أن تقتل مئتي نملة سارقة للحنطة في الصيف، ومئتي حشرة من مخلوقات الشيطان في الشتاء، مهما كان نوعها»([38])؛ أو مثلاً: يجب على الرجل الذي يقارب زوجته الحائض متعمّداً «أن يقتل ألف أفعى تزحف على بطنها، وألف أفعى من أنواع أخرى. يجب أن يقتل ألف ضفدع برّية، وألف ضفدع مائية. يجب أن يقتل ألف نملة سارقة للحنطة، وألف نملةٍ من أنواع أخرى»([39]).

تصنيف المصادر الإسلاميّة لمخلوقات الكَوْن

قدّم القرآن وعلماء الإسلام تفاسير مختلفة لخَلْق الكائنات الحيّة، ولكنّها تبدو غير منسجمةٍ مع بعضها.

تجمع النصوص الدينية الإسلامية، من خلال الأمثلة الكثيرة التي سوف تأتي، أن الإنسان خليفةُ الله على الأرض، وكلّ المخلوقات وُجِدَتْ لخدمته. ولكنّ معنى هذه الخدمة لا يقتصر على تأمين طعامنا ولباسنا و…، أو أنه يجب على الإنسان قتلها حيث وجدها؛ لأنها شرّيرةٌ تلدغه وتفترسه. ولكنّ علّة هذه الخدمة يعود إلى أن الإنسان مخلوقٌ أكرم منها؛ بسبب الاختيار الذي وضعه الله بين يدَيْه. كلّ المخلوقات عالةٌ على الإنسان في مسيرته التكاملية، وإذا لزم الأمر يستخدمها في طريقه للوصول إلى الله. ولكنّ بقية المخلوقات هي أيضاً من صنع نفس الإله القويّ الرحيم، ولها دَوْرٌ تؤدّيه في نظام العالم لا ينبغي تجاهله. ليس هناك موجودٌ يمثِّل شرّاً مطلقاً في الرؤية الكونية الإسلامية، وإنما ينشأ هذا التصوُّر من خلال تضارب المصالح. يعتبر الإنسان ـ في الواقع ـ كلَّ ما يراه موافقاً لحاجاته الفطرية خيراً، وكلّ ما يراه مخالفاً لها شرّاً؛ وذلك لأن كلّ الميول والرغبات الفطرية فرعٌ من حبّ الذات. فكلّ موجودٍ ذي شعورٍ؛ لأنه يحبّ نفسه، يحبّ بقاءه وكمالاته. ولذلك نراه يميل إلى الأشياء التي لها تأثيرٌ في بقائه على قيد الحياة أو في تكامله»([40]). لذلك أيّ حيوانٍ أو شيء مُتّهم بأنه شرٌّ فإنه ليس شرّاً في نفسه، ولكنه يُعتبر شرّاً من قِبَل الإنسان؛ بسبب الأذى الذي يصله منه. ومع وضع هذا في الاعتبار لم يُجِزْ اللهُ له سَلْب حياة المخلوقات أو ظلمها؛ لأيّ سببٍ كان، ما عدا الإطار الشرعيّ الذي وضعه له في موارد الاستفادة منها.

سأل أحد الزنادقة الإمام الصادق×: ما هذا الفساد الموجود في العالم، من سباعٍ ضارية، وهوامّ مخوِّفة، وخلق كثير مشوّهة، ودود وبعوض وحيّات وعقارب، وزعمْتَ أنه لا يخلق شيئاً إلاّ لعلّةٍ؛ لأنه لا يعبث؟ قال×: ألسْتَ تزعم أن العقارب تنفع من وجع المثانة والخصاة، ولمَنْ يبول في الفراش، وأن أفضل الترياق ما عولج من لحوم الأفاعي، فإن لحومها إذا أكلها المجذوم ـ مع الشبّة ـ نفعه؟! وتزعم أن الدود الأحمر الذي يُصاب تحت الأرض نافعٌ للآكلة؟ قال: نعم، قال×: «فأما البعوض والبقّ فبعض سببه أنه جعله أرزاق الطير، وأهان بها جبّاراً تمرَّد على الله وتجبَّر، وأنكر ربوبيّته، فسلَّط الله عليه أضعف خَلْقه؛ ليريه قدرته وعظمته، وهي البعوض، فدخلت في منخره حتّى وصلت إلى دماغه، فقتلَتْه. واعلم أنّا لو وقَفْنا على كلّ شيءٍ خلقه الله تعالى لِمَ خلقه؟ ولأيّ شيءٍ أنشأه؟ لكنّا ساوَيْناه في علمه، وعلمنا كما يعلم، واستغنَيْنا عنه، وكنّا وهو في العلم سواءٌ»([41]).

 والخلاصة أنه وإنْ تمّ فرز الكائنات الحيّة في الإسلام إلى بعض الفئات، ولكنّ هذا الفرز متعلّق بحلّية أو حرمة أكل لحومها، وليس لقدسيّة بعضها وشيطنة بعضها الآخر؛ لأن الإسلام يرفض هذا التقسيم. فالقاعدة العامّة في الإسلام للتعامل مع جميع الكائنات، بما فيها الحيوانات، هي عدم الأذى ومراعاة الحقوق، إلاّ إذا كان هناك خطرٌ حقيقي على نفس الإنسان وماله.

تُصنَّف الحيوانات على هذا الشكل؛ وفقاً لبعض المنطلقات:

 ـ حلال اللحم، غير مكروه، مثل: البقرة، الماشية، الجمل.

ـ حلال اللحم، مكروه، مثل: الحمار والحصان.

ـ غير حلال اللحم، نجس، مثل: الكلب والخنزير.

غير حلال اللحم، غير نجس، مثل: الذئب، النملة، الصرصور، الأفعى، العقرب…

نرى في هذا التقسيم أن الصنف الوحيد الذي يجب أن يُقْتَل هي الحيوانات المؤذية التي تسبِّب الأذى للإنسان في نفسه وماله. ولا يجوز قتلها لسببٍ آخر. وهناك الحيوانات التي تُذْبَح للأكل. وهذا الشيء موجودٌ أيضاً في الزرادشتية وغيرها من الأديان. وبما أنه لا يجوز قتل الحيوان إلاّ إذا كان مؤذياً فقد ورد في الإسلام النهي عن ملاحقة تلك الحيوانات في حال هروبها، وكذلك تخويفها بالإحراق([42]).

حرمة التمثيل بالحيوانات وحرمانها من الطعام

ومن ناحيةٍ أخرى أوصى الإسلام باقتناء الحيوانات المختلفة في المنزل؛ لأن وجودها فيه سببٌ لدفع البلاء، ونزول الرحمة والبركة. ولعلّ سبب دفع البلاء متعلِّقٌ بوجود الحيوان نفسه في المنزل، أو رُبَما بسبب الرحمة والشفقة عليه، التي تكون سبباً لرحمة الله؛ أو قد يكون نتيجة دعاء الحيوان لصاحبه. بالطبع كان هناك اهتمامٌ خاصّ باقتناء بعض الحيوانات، مثل: الحمام والديك، ونهيٌ عن بعضها الآخر، مثل: الكلب والخنزير([43])، ولكنّ هذا النهي لا يتعلَّق بشيطنة ذلك الحيوان أو كونه ضدّ خلق الله، وإنما لكونه نجساً، وما يمكن أن يسبّبه ذلك من إشكالات في طهارة المنزل والبدن واللباس ومكان العبادة، وإلاّ فإنه لم يَرِدْ في القاعدة العامّة للإسلام أيّ نهيٍ عن اقتناء حيوانٍ ما بسبب كونه ضدّ عالم الخلق والتكوين الإلهي. وكذلك ورد النهي عن التعامل القاسي مع الحيوانات النجسة، مثل: الكلب والخنزير، فقد أوجب الإسلام ـ على سبيل المثال ـ دفع الدية عند قتل الكلب، بحيث تكون دية قتل كلب الصيد أربعين درهماً، وكلب الحراسة عشرين درهماً([44]).

1ـ حقوق الحيوانات في آيات القرآن الكريم

يوجد آياتٌ عديدة في القرآن المجيد تتعلَّق بخلق الحيوانات وحقوقها وفوائدها:

أوّلاً: يشير إلى أن جميع الحيوانات هي من خلق الله، لا كائنٍ آخر: ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ (البقرة: 164).

ثانياً: حياة جميع الكائنات الأرضية مهمّةٌ عند الله؛ لأنه هو الذي يرزقها: ﴿وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (العنكبوت: 60). وكذلك اعتبر في قصّة طوفان نوح أن جميع الحيوانات هي من خلقه، ولذلك أمر نوحاً أن يأتي من كلّ حيوان بزوجين اثنين، ويُركبها معه في السفينة؛ خوفاً من انقراضها. ولم يميِّز بين تلك الحيوانات، من حيث كونها حلالَ اللحم أو حرام اللحم، أهليّةً أم برّية، مؤذيةً أم غير مؤذية،: ﴿قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ (هود: 40).

ثالثاً: قدَّم الحيوانات على أنها مظهرٌ لقدرته، وجعل فيها منافع لا تُحصى للبشر؛ بعضها يعرفه الإنسان؛ وبعضها الآخر يجهله. ولذلك دعا الناس إلى التفكُّر والتدبُّر في خلق الحيوانات، وأسلوب حياتها الجماعية، ونظامها، وخصائص سلوكها: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ﴾ (يس: 71 ـ 73)؛ ﴿أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ (الغاشية: 17).

رابعاً: أذيّة الحيوانات عملٌ مقيت وشيطانيّ في القرآن الكريم([45]). مثلاً: ﴿وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً﴾ (النساء: 119).

2ـ النهي عن أذيّة الحيوانات في الحديث الشريف

صدرَتْ أحاديث كثيرة في هذا الصدد، بحيث إن بعض الباحثين المسلمين خصَّص كتباً مستقلّة لجمعها. وممّا لا شَكَّ فيه أن الكثير من الأحاديث المكذوبة في هذا المجال، كما في غيرها من المجالات، قد أُقْحمَتْ في كتب السنّة والشيعة، مما يجعل العمل صعباً إذا لم تُراعَ سلسلة سند الأحاديث. وتوخِّياً للحَذَر من الوقوع في هذه المشكلة نكتفي بذكر عدّة أحاديث فقط في ما يتعلَّق بالتعامل مع الحيوانات، مأخوذة من الكتب المعتبرة وصحيحة السند، مع مراعاة القاعدة الإسلامية العامّة:

أـ حقوق الحيوانات الأهليّة ومحلَّلة اللحم

قال رسول الله|: «للدابّة على صاحبها ستّ خصال: يعلفها إذا نزل؛ ويعرض عليها الماء إذا مرّ به؛ ولا يضربها إلاّ على حقٍّ؛ ولا يحمِّلها ما لا تطيق؛ ولا يكلِّفها من السير إلاّ طاقتها؛ ولا يقف عليها فواقاً»([46]).

وقال رسول الله|: «إن الله يحبّ الرفق ويعين عليه؛ فإذا ركبتُمْ الدوابّ العُجْف فأنزلوها منازلها، فإنْ كانت الأرض مجدبةً فانجوا عنها، وإنْ كانت مخصبة فأنزلوها منازلها»([47]).

ويوصي الإمام عليّ×، في رسالةٍ بعثها إلى عمّاله المأمورين بجمع الزكاة، بما يلي: «فإذا أخذها أمينك فأوعز إليه أن لا يحول بين ناقةٍ وبين فصيلها، وأن لا يمصر لبنها فيضرّ ذلك بوليدها، ولا يجهدنّها ركوباً، وليعدلنّ بين صواحباتها في ذلك وبينها، وليرفِّه عن اللاغب… ولا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جواد الطريق، وليروّحها في الساعات، وليمهلها عند النطاف والأعشاب، حتّى تأتينا بإذن الله بدناً منقّيات، غير متعبات ولا مجهودات»([48]).

وينقل ابن شهرآشوب، في كتاب «المناقب»، نقلاً عن زرارة، أن الإمام الرابع للشيعة ـ وهو الإمام السجّاد× ـ حجَّ أربعين مرّةً على جَمَله دون أن يضربه سوطاً واحداً([49]).

وينقل الإمام عليّ× عن رسول الله| أنه قال: «لا تضربوا البهائم على وجوهها، ولا تلعنوها»([50]).

 

ب ـ حقوق الحيوانات البرّية ومحرَّمة اللحم

يقول ابن عبّاس: إن رسول الله| نهى عن قتل أيّ ذي روحٍ، إلاّ إذا حاول الإيذاء»([51]).

ويقول الإمام عليّ×: سمعتُ رسول الله| يقول: «إيّاكم والمُثْلة ولو بالكلب العقور»([52]).

وسُئل الإمام الكاظم× عن قتل النملة؟ فقال: «لا تقتلها، إلاّ إذا أضرَّتْك»([53]).

وجاء في كتاب تحف العقول، في وصيّة النبيّ| للإمام عليّ×: «يا عليّ، إذا رأيتَ حيّةً في رحلك فلا تقتلها حتّى تخرج عليها ثلاثاً، فإنْ رأيتها الرابعة فاقتلها؛ فإنها كافرةٌ»([54]).

ويقول أبان: سأل أحدهم الإمام أبا الحسن الكاظم× عن رجلٍ يقتل الحيّة؟ وقال للإمام×: إنه بلغنا أن رسول الله| قال: «مَنْ تركها تخوُّفاً من تبعتها فليس منّي»، قال: إن رسول الله| قال: «ومَنْ تركها تخوُّفاً من تَبِعَتها فليس منّي، فأما حيّةٌ لا تطلبك فلا بأس بتركها»([55]).

حقوق الحيوانات في مصادر الإسلام والزرادشتية، توافقٌ أم تعارض؟

بغضّ النظر عن الاستفادة من الحيوانات الأهليّة في وسائل الزراعة والعمل والحمل والنقل وأكل لحومها في نصوص وتقاليد كلا الدِّينَيْن، وأنه لم يَنْهَ نبيُّ هذا الدين ولا ذاك عن التضحية بالحيوانات والاستفادة منها، وكلا الدِّينَيْن ـ في النتيجة ـ وضع حقوقاً للحيوانات، متناسبةً مع التعاليم الخاصّة لكلّ دينٍ، وقد نصَّتْ الكتب الفقهية لكلا الدِّينَيْن على رعاية حقوق الحيوانات، في ما يخصّ مكان إقامتها وطعامها والأمور التي يجب أن تُراعى أثناء مراسم التضحية والاستفادة من لحومها. كلُّ ذلك ورد بشكلٍ مفصَّل، وإنْ كان يوجد اختلافٌ طفيف في حقوق هذه الفئة من الحيوانات بين الإسلام والزرادشتية؛ فالإسلام لا يعتبر أيّ حيوانٍ مقدّساً بالمفهوم الزرادشتي، وتتمتَّع كلّ الحيوانات الأهليّة في الإسلام بحقوقٍ متساوية إلى حدٍّ ما. ويمكن القول في النهاية: إنه يوجد حقوقٌ للكائنات الحيّة في كلا الدِّينَيْن، بغضّ النظر عن حجم وكيفية هذه الحقوق.

وأكبر نقطة اختلافٍ بين الإسلام والزرادشتية هي في المقارنة بين حقوق الحيوانات غير الداجنة. فإذا نظرنا إلى مفهوم الحقّ والحقوق كمبدأ عامّ للكائنات فمن السهل أن نرى أن الإسلام يعطي المزيد من الحقوق للكائنات؛ لأن أوّل حقٍّ لكلّ كائنٍ حيّ في هذا العالم هو حقّ الحياة، والذي وفقاً للرؤية الكَوْنية الإسلامية تتمتَّع به جميع الكائنات في العالم، باستثناء حالاتٍ خاصّة يُسْمَح فيها بالقتل.

ولكنْ في الرؤية الكونية الزرادشتية هناك مجموعتان من الحيوانات:

الأولى: هي الحيوانات التابعة لروح (مينوي) الخير، وتتمتَّع بحقّ الحياة، ولا يجوز قتلها، إلاّ في حالاتٍ خاصّة. وفي ذلك يتشابه مع الإسلام.

أما المجموعة الثانية فهي الحيوانات غير التابعة لروح الخير، وهي لا تتمتَّع بحقّ الحياة، ويجب أن تُقْتَل. وفي الواقع فإن حكم القتل هذا يتعلَّق بذات الحيوان، من حيث إنه غيرُ تابعٍ في بداية خَلْقه لروح الخير، ولا علاقة لذلك بمسألة الدفاع عن النفس ضدّ الأذى المحتمل. وبالتالي فإن هذه المجموعة من الموجودات محكومٌ عليها بالموت، بغضّ النظر عن قيامها بعملٍ ما أو عدم قيامها بشيءٍ. أما الحيوانات التابعة لروح الخير (مينوي) فإن حكم قتلها غير مرتبطٍ بذات الحيوان، ولكنّه حكمٌ ثانوي لأسبابٍ تتعلَّق بالتضحية به أو أكل لحمه. وهنا يبرز الفَرْق جليّاً بين الإسلام والزرادشتية؛ ففي الإسلام لا وجود لكائنٍ شيطاني، ويُسْمَح بقتل أيّ حيوانٍ أو التضحية به على أساسٍ ثانويّ [أي لا يتعلّق بذات الحيوان وجَوْهر وجوده]. وفي هذا يتشابه مع المجموعة الأولى من التصنيف الزرادشتي.

يجيز الإسلام قتل الحيوانات الضارّة في حالة الدفاع عن النفس والمال فقط، وبالتالي لا يشملها حكم القتل في الوقت الذي لا يشكِّل وجودها خطراً على الإنسان. وكذلك يشمل هذا الحكم في حال توافر شروطه كلّ أنواع الحيوانات، وليس فقط المفترسة والقارصة. تماماً كما أن كلّ إنسان يتصرّف بالطريقة نفسها لإنقاذ نفسه إذا وجد أنه أمام خطرٍ مُحْدِق، سواء من قِبَل حيوانٍ أو إنسان. وأخيراً فإن الحكم الأوليّ الصادر في مثل هذه الحالات التي تتعرَّض فيها حياة الإنسان أو ممتلكاته للخطر هو إبعاد هذا الحيوان عنه، كما ورد في الأحاديث النبوية([56]).

خاتمةٌ

النقطة الأصلية في الاختلاف بين حقوق الحيوان في الإسلام والزرادشتية تكمن في الرؤية الكونية التي تخصّ كلّ دينٍ في ما يتعلَّق بمفاهيم الله وموقع الشرّ والخير، ومدى قدرة كلٍّ منهما على التأثير في نظام الخلق، وتفسير الكرامة الإنسانية بالمقارنة بالمخلوقات الأخرى. يمكن لكلّ مؤمنٍ زرادشتي أو مسلم، من خلال نظرته إلى حقوق الحيوانات من داخل الإطار الدينيّ الذي يصنِّف نفسه فيه، أن يعتبر نفسه أكثر مراعاة وتسامحاً في تعامله مع سائر الكائنات. ولكنْ من وجهة نظر شخصٍ ثالث، من خارج هذين الدِّينَيْن، يريد أن يقارن بين حقوق الكائنات الحيّة في كلٍّ منهما يمكن القول: إن الإسلام بشكلٍ عامّ يمنح حقوقاً أكثر ومكانةً أكبر للحيوانات؛ لأن القاعدة العامّة للإسلام في التعامل مع الكائنات الحيّة هي أنها جميعاً من خلق الله، وما الشرُّ فيها إلاّ نتيجةٌ لتضارب المصالح بين البشر وبقيّة المخلوقات. ولذلك إذا كان يبدو أن بعض الحيوانات لا تفيد الإنسان فلا ينبغي إغفال دَوْرها في نظام الخلق. ولا ينبغي للإنسان أن يقيس خيريّة الحيوانات وشرّها وفقاً لمصلحته الشخصيّة، ويعمل على قتلها بدون سببٍ. كلُّ الكائنات في العالم خيِّرةٌ، ولا يجوز قتل حيوان ممّا يُؤكَل لحمه لأنه مؤذٍ فقط، إلاّ في حال شكَّل وجوده خطراً على الإنسان. لكنّ حقوق الحيوانات في الديانة الزرادشتية، التي هي ثمرة تغلغل قوّة الشرّ والقذارة وتأثيرها في أجسام وأرواح الحيوانات، وكذلك القول بمبدأين أوّليين للخلق، يتعلَّق بمقدار خيريّتها، وهذا الأخير يُقاس بالنفع الذي يمكن أن يعود من كلّ حيوان على الإنسان.

وبالتالي يقسِّم الدين الزرادشتي الحيوانات إلى ثلاث مجموعات: مقدّسة؛ مباحة؛ مكروهة. ولا يوجد انسجامٌ في الحقوق الممنوحة لكلٍّ منها. فلحيوانات المجموعة الأولى من الحقوق والامتيازات ما يقترب من العبادة الطوطمية، في حين أن المجموعة الثالثة تفتقد حتّى إلى حقّ الحياة، الذي يُعتبر الحقّ الأوّل لكلّ كائنٍ حيّ، ويجب قتلها حتّى لو لم تكن تتقصَّد فعلاً إيذاء البشر.

 

الهوامش

(*) طالبُ ماجستير في فلسفة الدين في جامعة باقر العلوم×، قم ـ إيران.

(**) أستاذٌ مساعِدٌ في جامعة باقر العلوم×، قم ـ إيران.

([1]) محمد تقي مصباح اليزدي، تعليم الفلسفة 2: 453 ـ 460، ط8، مؤسّسة تبليغات إسلامي، طهران، 1388.

([2]) مري بويس، تاريخ الدين الزرادشتي، القسم 2، الفصل 8، ترجمة: همايون صنعتي زاده، طهران، توس، 1374؛ بندهش، ترجمة: مهرداديهار، القسم 5، الفقرة 40 ـ 47، طهران، بدون تاريخ.

([3]) راجع: جيمس دارمستتر، مجموعة قوانين زرادشت (فنديداد أفستا): 30، ترجمة: موسى جوان، ط2، طهران، دنيا الكتاب، 1384.

([4]) يسنا 30، الفقرات 3 ـ 5.

([5]) المصدر السابق؛ شايست ـ ناشايست (نصّ باللغة الفارسية الوسطية)، الفصل 15: 209 ـ 220، تهجئة وترجمة: كتايون مزدايور، طهران، مؤسّسة مطالعات وتحقيقات فرهنگي، 1369.

([6]) أفستا، ترجمة وتحقيق: هاشم رضي، طهران، فروهر، 1395؛ بويس، تاريخ الدين الزرادشتي، القسم 2، الفصل 8.

([7]) جان.ر هينلز، دليل الأديان الحيّة: 479، ترجمة: عبد الرحيم كواهي، ط3، قم، بوستان كتاب، 1387؛ أبو الريحان البيروني، الآثار الباقية، الفصل 9، ترجمة: أكبر دانا شرست، طهران، أمير كبير، 1363.

([8]) بويس، تاريخ الدين الزرادشتي، القسم 2، الفصل 8: 295؛ أفستا: 71، 1395.

([9]) بويس، تاريخ الدين الزرادشتي، الفصل 6: 216، الفصل 12: 408 ـ 409؛ شايست ـ ناشايست، القسم 8، الفقرة 9.

([10]) بويس، تاريخ الدين الزرادشتي، القسم 2، الفصل 12: 409.

([11]) «مارغن» عصا خشبية لقتل الأفعى والحشرات، يغطون رأسها بقطعة جلد. (انظر: بندهش، بدون تاريخ، القسم 12، الفقرة 185؛ دارمستتر، مجموعة قوانين زرادشت (فنديداد أفستا): 225، الفصل 14).

([12]) بويس، تاريخ الدين الزرادشتي، القسم 2، الفصل 12: 408 ـ 409.

([13]) يسنا، الفقرات 5 ـ 48؛ بويس، تاريخ الدين الزرادشتي، القسم 2، الفصل 8: 295.

([14]) المصدر السابق، القسم 1، الفصل 3: 126.

([15]) يسنا، الفقرات 4 ـ 12.

([16]) شايست ـ ناشايست، الفصل 20، الفقرة 5.

([17]) دارمستتر، مجموعة قوانين زرادشت (فنديداد أفستا): 125، الفصل 5، الفقرة 31 ـ 34.

([18]) بندهش، القسم 9، الفقرة 154 ـ 157.

([19]) راجِعْ: بويس، تاريخ الدين الزرادشتي، القسم 1، الفصل 5.

([20]) دارمستتر، مجموعة قوانين زرادشت (فنديداد أفستا): 420.

([21]) راجع: دارمستتر، مجموعة قوانين زرادشت (فنديداد أفستا): 220، الفقرة 44.

([22]) دارمستتر، مجموعة قوانين زرادشت (فنديداد أفستا): 161، الفقرة 16.

([23]) المصدر السابق، الفصل 13.

([24]) المصدر السابق: 8.

([25]) المصدر السابق: 211، الفصل13.

([26]) المصدر السابق: 215 ـ 216، 218، الفصل13، الفقرات 22، 25، 35.

([27]) المصدر السابق، الفصل 14.

([28]) المصدر السابق: 222، الفصل 13، الفقرة 51 ـ 52.

([29]) المصدر نفسه.

([30]) المرجع السابق، الفصل14: 223 و224.

([31]) شايست ـ ناشايست: 369، الفصل 10، الفقرة 31؛ الفصل 12، الفقرة 20؛ بندهش، القسم 9، الفقرة 156.

([32]) دارمستتر، مجموعة قوانين زرادشت (فنديداد أفستا)، الفصل 13، الفقرة 14.

([33]) هينلز، دليل الأديان الحيّة 1: 479.

([34]) بويس، تاريخ الدين الزرادشتي: 213، القسم 1، الفصل 6.

([35]) دارمستتر، مجموعة قوانين زرادشت (فنديداد أفستا): 92، الفصل 3، الفقرة 22.

([36]) بندهش، القسم 9، الفقرات 143، 146 ـ 147.

([37]) المصدر السابق، القسم 9، الفقرات 145 ـ 146.

([38]) دارمستتر، مجموعة قوانين زرادشت (فنديداد أفستا): 240، الفصل 16، الفقرة 12.

([39]) المصدر السابق: 256، الفصل 18، الفقرة 73.

([40]) اليزدي، تعليم الفلسفة 2: 454، 456.

([41]) الطبرسي، الاحتجاج 2: 187، ترجمة: بهزاد جعفري، طهران، الدار الإسلامية، 1381.

([42]) الصدوق، مَنْ لا يحضره الفقيه 3: 5، ط2، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1415هـ.

([43]) المجلسي، حلية المتّقين، الباب 12، الفصل 6، 9، ط4، طهران، وليّ العصر×، 1387.

([44]) الصدوق، المقنع: 534، قم، مؤسّسة الإمام الهادي×، 1415هـ.

([45]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 5: 61، قم، انتشارات ذوي القربى، 1430هـ.

([46]) المحدّث النوري، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل 8: 258، بيروت، مؤسّسة آل البيت^ لإحياء التراث، 1408هـ.

([47]) الكليني، الكافي 2: 120، طهران، دار الكتب الإسلامية.

([48]) نهج البلاغة، الرسالة 25، ترجمة: علي شيرواني، قم، دار العلم، 1383.

([49]) المحدِّث النوري، مستدرك الوسائل 8: 260؛ الصدوق، مَنْ لا يحضره الفقيه 2: 293.

([50]) المحدِّث النوري، مستدرك الوسائل 8: 261؛ الكليني، الكافي 6: 583.

([51]) مجلّة فقه أهل البيت^ 50: 136، قم، مؤسّسة دائرة معارف الفقه الإسلامي على مذهب أهل البيت^، بدون تاريخ.

([52]) نهج البلاغة، الرسالة 47.

([53]) الحميري، قرب الإسناد: 294، قم، مؤسّسة آل البيت^ لإحياء التراث، 1413هـ.

([54]) المجلسي، السماء والعالم 8: 176، ترجمة: محمد باقر كمره إي، طهران، الدار الإسلامية.

([55]) الصدوق، معاني الأخبار 1: 383، ترجمة: عبد العلي محمد شاهرودي، ط2، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1377.

([56]) المجلسي، السماء والعالم 8: 176؛ الصدوق، معاني الأخبار 1: 383.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً