أحدث المقالات

مخاض عسير لولادة فقهٍ إسلامي آخر

أ. رضا خجسته رحيمي(*)

ترجمة: علي الوردي

منطقة فراغ العقل أم فراغ الشرع؟! نظرية أحمد قابل ـــــــ

عقيب انتشار رسالة الحقوق لآية الله المنتظري في الربيع المنصرم، ظهرت فتاوى فقهية جديدة لمجموعة من الفقهاء من بينهم آية الله الصانعي، وبرز من بين تلامذة المنتظري شخص يعرف بأحمد قابل يسكن في طاجيكستان حالياً، ويعدّ من المجدّدين في مجال الفقه. طرح أحمد قابل في موقعه الشخصي على الإنترنت اتجاهاً فقهياً جديداً حول «الشريعة والعقلانية»، وبدأ متحدثاً عن نفسه: «كنت في بداية دراستي أميل إلى الفكرة السائدة حول العقل الشرعي، وهي أنه ـ أي العقل الشرعي ـ ليس عقلاً مستقلاً عن الشريعة، ولا يتحرك إلا في منطقة الفراغ التي لم تغطها الشريعة، لكني بعد أن واصلت دراستي أصبحت أميل إلى فكرة أخرى جديدة، وهي: إن العقل يشكّل حجة أصيلة ذات أولوية يتقدم بها على الشرع الذي يأتي في المرحلة اللاحقة أو الثانوية».

والذي يبدو لنا أن أحمد قابل طرح فهماً جديداً عندما قال: «إن ما توصلت إليه لا يمكنني التنازل عنه إلا بعد أن يقنعني أحد ببطلانه، وهو أن حكم العقل وحجيته تسري في جوانب الشريعة كافّة، بأصولها وفروعها، أما الشريعة فلا تتحرك إلا في منطقة الفراغ التي ليس للعقل فيها حكم». وهكذا يصبح أحمد قابل مجدداً ليس في فروع الفقه الشيعي فحسب، إنما في أصوله أيضاً ليكون بأطروحته هذه قد عبر إلى ما وراء مرحلة «الفقه التجديدي».

من بدايات مساجلة الفقيه والمثقف، المنتظري وسروش أنموذجاً  ـــــــ

والحقيقة، أن بدء الحكاية يعود إلى ما قبل حوالي ستة أعوام، عندما قامت مجلة «كيان» بإصدار عددها الخاص تحت عنوان: «الدين ، الرفق، العنف»، وقد تضمن العدد لقاء مثيراً مع آية الله المنتظري بدأ بسؤال وجّه له: «ألا ترون أن أحكام الجهاد الابتدائي والارتداد ونجاسة الكفار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و.. ألا ترون أنها أحكام تعزز العنف؟» وكان رد الفقيه يتضمّن دفاعاً عن الأحكام الفقهية الواردة في السؤال، وإصراراً على خلوّها من العنف، بل لا مجال لتصوّر أي علاقة بينها وبينه. وقد انطلق منتظري في ردّه على السؤال من «قاعدة التزاحم»؛ لأنه كان يعتقد أن التزاحم إن حصل بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، فتقدّم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد، كما لو افترضنا شخصاً مصاباً بالسرطان يتوقف علاجه على دواء محدّد، لكن لهذا الدواء أعراض جانبية على المريض، فإنّ أهمية التخلص من السرطان والمصلحة المترتبة على ذلك تدفعنا لاستخدام الدواء، بالرغم من وجود التزاحم بينه وبين الأعراض الجانبية.

وبقاعدة التزاحم فسّر المنتظري حكم الارتداد في ردّه على السؤال المذكور، حينما قال: «لو افترضنا أن مسلماً ذا عهد بالإسلام ارتدّ وجاهر بارتداده وأهان المقدسات الإسلامية فسيكون كالغدة السرطانية التي تصيب المجتمع وتسري في أنحائه شيئاً فشيئاً، وقد يبدأ بحياكة المؤامرات ضدّ الإسلام والمسلمين، ومن ثم يتحول إلى محاربتهم بشكل علني». لكن هذا الجواب الذي تبناه الشيخ المنتظري لم يسلم من الرد، فقد تصدّى له سروش في مقالة حملت عنوان «الفقه في الميزان»، ونوّه فيها إلى أنّ تشبيه المرتد «بالغدة السرطانية» كما ورد في جواب الفقيه ـ المنتظري ـ غير مناسب؛ لأنّ الحكم عليه ـ من خلال هذا التشبيه ـ قد صدر مسبقاً وبات واضحاً!

وتسائل سروش: كيف تصحّ هذه المعادلة: بأن الكافر إذا أسلم فسيفوز بالسعادة الأبدية، بينما المسلم إذا كفر فسيتحول إلى غدة سرطانية في جسد المجتمع؟ ويضع سروش «حقوق الإنسان» مقابل ما يطلق عليه «فقه المسلمين» ليعكس نقطة الافتراق بينه وبين الفقيه، فيقول: «قبل كل شيء، لابد لنا من الإجابة على سؤال في غاية الأهمية، وهو: هل تتسبّب العقيدة في خروج الإنسان عن نطاق الإنسانية أم لا؟ وهل يجوز مصادرة الحقوق الفردية والميزات الاجتماعية للشخص بسبب انتمائه العقائدي أو المذهبي أم لا؟ وهنا يتجسد مبدأ حقوق الإنسان ويظهر ما إذا كان توظيفنا لهذا المبدأ توظيفاً براغماتياً نفعياً أم توظيفاً موضوعياً..».

إذن، فسروش يرى «بأن أيديولوجيتنا ـ وخصوصاً عناصرها الإنسانية والعقلانية ـ إذا لم تعد صياغتها فليس بمقدورنا إيجاد حلول جذرية لتلك الإشكاليات، ولا يستطيع العلاج المؤقت إيجاد مثل تلك الحلول»، وبرأيه فإنّ الاجتهاد في الفروع لابد أن يستبدل بالاجتهاد في الأصول، أما التمسك بقاعدة التزاحم فلن يخفّف من وطأة المشاكل القائمة.

وهكذا ردّ عبد الكريم سروش على ما طرحه المنتظري ليفتح باباً للبحث لن يكون من السهل إيصاده، وليتيح الفرصة للفقيه  لتدعيم أطروحته السابقة، وهذا ما حدث في العدد اللاحق من مجلة كيان، التي تضمّنت مقالاً للشيخ المنتظري حمل عنوان «الاجتهاد باب مفتوح»؛ فقد أثنى الفقيه المنتظري في مقاله هذا على الردود التي تلقاها، ونوّه إلى ضرورة الحفاظ على مثل هذه الحوارات البناءة، واعتبر أن من محاسن المدرسة الشيعية بقاء باب الاجتهاد مفتوحاً، الأمر الذي يساعد على استمرارية مثل هذه النقاشات والحوارات الهادفة. ولذلك فهو ـ والكلام لمنتظري ـ سيكون مستعداً لاستقبال الردود الموضوعية على أطروحاته، أياً كان مصدرها.

نقطة الخلاف المنهجي في تفكير المثقف والفقيه ـــــــ

والذي يجب التنويه إليه هنا، هو أن المفكر والمثقف الديني في ردّه على الفقيه ينطلق في رؤيته من خارج دائرة الدين، فيما يلتمس الفقيه العلاج من صميم الدين نفسه، لهذا يقول: «ينص القرآن الكريم على أن نبينا هو خاتم الأنبياء^، ومن ثم فرسالته تعدّ خاتمة الرسالات السماوية ومهيمنة عليها، إذاً فشريعته شاملة باقية دائمة بإمكانها التكيّف مع الظروف الزمكانية المتقلّبة والاستجابة لمتطلباتها».

ولا يخفي المنتظري أننا قد نخضع في بعض الفترات إلى ظروف زمكانية استثنائية تحتم علينا تقبل جملة من الأمور، وفي مثل هذه الظروف التي لابد أن تفرز تزاحماً ما، يكون معيارنا في حلّ هذا التزاحم هو العقل، لكن مع ذلك، لا يقبل الفقيه ما أورده عليه المفكّر الديني؛ وذلك لأن «أساس الحكم الفقهي هو الكتاب والسنّة» أما «عقل الإنسان فهو كوجوده يعتريه النقصان» و «الإنسان لا يشكل عقلاً محضاً خالصاً، وإنما هو مركب من العقل والوهم والشهوة والغضب».

إذن، تتلخص نظرية الفقيه الشيعي المعاصر بكوننا غير قادرين على إبطال الفقه التقليدي بالاتكاء على الأحكام العقلية فقط. أما عبد الكريم سروش فاعتمد في ردّه على الحقوق الفردية فحسب، فيما «التشريع الصحيح الذي يتمتع بنظرة شاملة يقتضي ـ إلى جانب مراعاة الحقوق الفردية ـ مراعاة الحقوق الاجتماعية بكافة أبعادها».

وهكذا فتح النقاش بين الفقيه والمثقف آفاقاً جديدة للحوار، بحيث قام جمع من تلامذة المنتظري بإعداد ندوات حوارية تتمحور حول هذا الموضوع؛ وقد تمخض عن هذه الندوات دراسة دوّنها محمد حسن موحدي ساوجي، ونشرها في مجلة كيان تحت عنوان «الفقه، ناطق وملبي»؛ وبذلك بدأت حركة قافلة الرأي والرأي الآخر تجتاح الفكر الفقهي الذي أخذ بدوره يفرز جدليات حديثة لم يعهدها من قبل.

حقوق الإنسان مقول ديني أم خارج ديني؟ الخلاف بين شبستري وكديور أنموذجاً ـــــــ

وإلى جانب الحوار الذي كان دائراً بين المنتظري وسروش، كان هناك حوار آخر لا يقل حماسةً وإثارة عن سابقه، وهو ما شكل أحد قطبيه محمد مجتهد شبستري وقطبه الآخر محسن كديور؛ وقد لعبت مجلة كيان دوراً بارزاً في تغطية الحوار الذي دار بين رجلي الدين المذكورين،اللذين لم يختلف حوارهما كثيراً عن حوار المنتظري وسروش إلا في جملة من الأمور الجزئية. ويمكن القول: إن الحوارين يصبان في رافد واحد؛ فقد كان مجتهد شبستري يرى أنّ منشأ حقوق الإنسان يجب البحث عنه خارج دائرة الدين والشريعة، فيما كان غريمه كديور يؤكد على إمكانية استخلاصها من الروايات والأحاديث المتوفرة لدينا. وبرأيه فإن الاعتماد على الأسس الفقهية والكلامية التي بين أيدينا كافٍ لاستخراج وبلورة منظومة كاملة لحقوق الإنسان، ولا نحتاج ـ من أجل ذلك ـ إلى مراجعة فقهية وكلامية جديدة، ويمكننا من خلال عملية اجتهاد ممنهجة وشاملة لسائر الفروع الفقهية والكلامية الخروج بالنتيجة المطلوبة..

ويصرّ شبستري على أن «المساواة بمعناها المعاصر لا يمكن أخذها من الآيات والروايات بأيّ حال من الأحوال»؛ بينما يقول كديور رداً على ذلك: «إن الكثير من الروايات والأحاديث تقرّ بأن الناس متساوون كأسنان المشط، وهذه الروايات ليست قليلة». والحاصل، إن المناظرة بين شبستري وكديور آلت إلى ما آلت إليه سابقتها، مناظرة سروش ومنتظري التي لم تحرز هدفاً أو تخرج بالنتيجة المطلوبة.

كديور والتحوّل نحو نظرية استنفاد الاجتهاد في الفروع ـــــــ

لكنّ السنوات الخمس اللاحقة، شهدت تحولاً كان بطله محسن كديور التلميذ الأبرز للشيخ المنتظري، فقد كتب مقالاً عنوانه «الفكر الديني المعاصر وحقوق الإنسان»؛ ليجسّد من خلاله عملية التحول التي شملت سائر نظريّاته الفكرية السابقة، فهو اليوم يقدّم أطروحة مختلفة تفيد أن الاجتهاد في الفروع قد نفذ تاريخه ووصل إلى طريق مسدود و«الاختلاف في مسألة حقوق الإنسان أكثر عمقاً مما كان يتصور، فهو ليس محصوراً في دائرة الفقهاء وعلماء الدين، وإنما يتعدّى إلى مديات أوسع بكثير ، فهو يكمن ـ في الحقيقة ـ بين النص الديني من جهة وفكرة حقوق الإنسان برمّتها من جهة أخرى».

إذن، فكديور أصبح الآن يتقبل فكرة أن الإنسان لم يكن محوراً أو قطباً في بلورة أحكام الإسلام التاريخي ـ أو أحكام الشريعة عبر التاريخ ـ أي إن المشرّع الإسلامي السابق أغفل الإنسان وغيبه عن تشريعاته ولم يمحورها عليه، ولذلك غابت حقوق الإنسان عن الشريعة الإسلامية التي وصلتنا، وبالتالي أصبحت المقارنة بين الإسلام التاريخي (الذي يميز ـ ولا يساوي ـ بين المسلم وغير المسلم، المرأة والرجل، العبد والحر، العامة والفقيه، والذي يصادر حرية العقيدة ويحدّ المرتد ويقتل ويعذب و..) وبين العهود الدولية لحقوق الإنسان… تصب لصالح  الأخيرة «فإن العهود الدولية لحقوق الإنسان تتفوق على الإسلام التاريخي؛ لأنها أكثر عقلانية وأفضل عدالة وأقرب إلى الصواب، وزماننا الحاضر يرفض الأحكام التي جاء بها الإسلام التاريخي في هذا المضمار».

سروش ومقولة الاستغناء عن التقليد ـــــــ

من هنا، فمحسن كديور يفضل اختيار حقوق الإنسان على أحكام الشريعة في هذا المجال. ولم تكن هذه الرؤية إلا بداية مرحلة جديدة؛ إذ نشرت صحيفة آبان بعد عدة سنوات وتحديداً الشهر الثامن سنة 1381ش/2002م حواراً لسروش ذكر فيه: إن الفقه الجديد هو ما يفتقر إليه الفكر الديني المعاصر في إيران، ويبدو أنّ هناك ملامح لهذا الفقه بدأت تظهر في الأفق، ويضيف: على الرغم من كثرة ما يتحدّث عنه المتدينون، وخصوصاً المهتمين بالفكر الديني، حول الكلام الجديد والقراءة الجديدة للدين، وعلى الرغم مما يتمتعون به من معرفة دينية، إلا أن المصلحة تتحكم في سلوكهم على مستوى التطبيق والممارسة، فهم براغماتيون إلى أبعد الحدود «فهؤلاء يتبعون رجال الدين من أجل تحديد وظيفتهم العملية وأداء سلوكهم العبادي، فهم باحثون ومفكرون على المستوى النظري بينما هم مقلّدون على المستوى العملي. نحن بحاجة إلى اجتهاد يرسم ويحدّد لنا الوظيفة العملية للمسلم ويغنيه عن التقليد والرجوع للغير، وإذا تحقق مثل هذا الأمر ـ الذي امتلك كافة مقوماته وأحيط بكل جوانبه وهو أمر ممكن على المستوى التطبيقي وليس نظرياً بحتاً ـ عندئذ فقط يمكننا أن ندّعي بأن مشروع الفكر الديني قد وصل إلى كماله النهائي».

ولسنا ندري إلى أيّ مدى تطابق ما طرحه سروش مع أحدث نظريات محسن كديور وأحمد قابل، وما طرحه المفكّرون الدينيون مع المجدّدين في الفقه الشيعي، إلا أن الوقائع والمؤشرات كافّة تدل على تقارب وتناغم أكثر من ذي قبل.

وعلى أية حال، فأحمد قابل يتحدث اليوم عن منطلق جديد في الفقه، يؤكّد من خلاله على أن: «الأصل هو إباحة كل شيء إلا ما ثبتت حرمته بدليل معتبر يورث الاطمئنان». فهو يتحدث عن أحكام جديدة لم يعهدها الفقه الشيعي من قبل، كإباحة بعض اللحوم التي اشتهرت حرمتها، وجواز اختلاط الذكور بالإناث حين البلوغ، وإباحة المعاملات الحديثة، والزواج من أيّ شخص يتبع الحق ولا دخل للدين أو العقيدة في تأهيله للزواج، وإمكانية تغيير نسب الإرث بين الرجل والمرأة، وقبول شهادة المرأة و… وكأنه ينوي إتحافنا بفقه جديد.

(*) باحث في الفكر الإسلامي المعاصر.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً