أحدث المقالات

ترجمة: صالح البدراوي

 

    مقدّمة

يتصدّر اسم القرآن الكريم الكلام في المصادر العلمية للاجتهاد والفقه، ومن ثم يأتي الحديث عن السنّة، والعقل، والإجماع. ولكنّنا لم نلحظ مثل هذه الصدارة والأولوية لذكر القرآن في العمل الفقهي، بل إنّ كل ما نشاهده مجرّد بعض الآيات القرآنية الكريمة، التي تذكر من باب التبرّك واليُمن، وليس الاستدلال والاستنباط في الفقه، بحيث أصبح الفقه، وسيبقى، محصوراً في نطاق آيات معدودات. ولم يفكِّر الفقيه، ولن يفكر، بأن يخطو إلى ما هو أبعد من تلك الآيات المعروفة والمتداولة، وأن يستعين بآيات أخرى في استنباط الأحكام، ويعمل على توسيع دائرة الفهم القرآني ـ الفقهي. وهذا النقص الأساسي في المنهج الفقهي يعمل على التقليل من إتقان الفقه وقوّته، ويقلِّل أيضاً من الثقة بنتائجه ومنجزاته.

وكيف يمكننا القول بأن القرآن الكريم هو كتاب الحياة، واعتبار الفقه الدليل والمرشد العملي لحياة الإنسان، في حين أننا نجد حضور القرآن في الفقه بهذا المستوى من الضعف والهزال.

والإجابة عن هذا التساؤل لم ولن تتمّ إلاّ على النحو التالي، وهي أنّ التفقّه يجب أن ينهل من مائدة القرآن الكريم، ويتّخذ منه ظهيراً غنياً لا ينضب.

ومن الفقهاء الذين اهتمّوا بهذا الأمر اهتماماً بالغاً، وساروا على هذا الدرب، الإمام الخميني&. وبناءً على طلب المسؤولين الكرام في المجلة القرآنية الموسومة بـ (البيّنات)، بمناسبة الذكرى السنوية المائة لولادة هذا الفقيه الوتر، حرّرتُ هذه المقالة؛ لتلقي نظرة إجمالية على دور القرآن الكريم في اجتهاد الإمام الخميني؛ بهدف توضيح رشحةٍ من اهتمامه البالغ بالقرآن، في ما يتعلّق بالاجتهاد والتفقّه. وقبل البدء بالبحث أجد من الضروري التذكير ببعض النقاط التي لا تخلو من الفائدة.

1ـ نطاق الدراسة في هذه المقالة هو كتاب المكاسب المحرّمة.

2ـ بما أنّ أكثر آيات الأحكام وردت في فقه العبادات فقد اعتمد سماحته؛ وفقاً لذلك، على خمسٍ وثمانين آية ضمن نطاق المكاسب، وتناولها أكثر من مائة وخمسين مرّة، إمّا على شكل استدلال، أو استشهاد، أو ردّ أو ضمن الروايات، بالنقد والتحليل، ممّا يعكس اهتمامه الفائق بالاستفادة من القرآن في مجال الفقه والاجتهاد.

3ـ بسبب كثرة الآيات المشمولة بالبحث فقد تمّ اختيار البعض منها.

4ـ الكثير من الآيات التي حظيت باهتمامه؛ بهدف استخدامها في البرهان الفقهي، تعدّ لدى الآخرين من الآيات الأخلاقية، ولم تستخدم بأيّ شكل من الأشكال للاستفادة منها في المجال الفقهي. وبناءً على ذلك فإن أكثر هذه الآراء تعدّ جديدة، ومن إبداعاته؛ إذ لم نقم بمقارنتها بآراء الآخرين؛ توخّياً للاختصار وعدم إطالة المقالة.

 

    استخدام الأعيان النجسة والمتنجّسة

﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾(المائدة: 90).

اختلف الفقهاء في موضوع الاستفادة من الأعيان النجسة؛ فقال البعض: إن الاستفادة منها في أبواب الحلال مشكِلٌ أيضاً؛ وقال البعض الآخر بعدم الإشكال في الاستفادة منها في المصالح المحلَّلة. وهنا يدخل الإمام إلى ميدان البحث من أصله الأوّلي، ويقول: مقتضى الأصل الأوّلي، مثل: أصالة الحِلّ، وأصالة الإباحة، وعموم الآيات والروايات التي تدلّ على أنّ كلّ ما هو موجود في الكون مخلوقٌ للإنسان، هو جواز الاستفادة من كلّ شيء، إلاّ إذا كان هناك دليلٌ آخر يدلّ على خلاف ذلك. وبإزاء هذا الأصل الأوّلي يُنقل عن بعض الفقهاء أن مقتضى الأصل الثانوي هو حرمة الاستفادة من الأعيان النجسة والمتنجِّسات. ومن جملة أدلّتهم الآية المتقدّمة، بناءً على أنّ الضمير في جملة: ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ يعود إلى الرجس، وأنّ السبب في وجوب الاجتناب عن هذه الأمور يعود إلى أنّها إمّا نجسة حقّاً، كالخمر، أو ادّعاءً، من قبيل الموارد الأخرى. ومن الواضح تماماً أنّ وجوب الاجتناب عن شيءٍ معين يقتضي عدم الاستفادة منه، وفي غير هذه الحالة فإنّ التعبير بوجوب الاجتناب لن يكون صحيحاً.

ويقول سماحة الإمام، في معرض ردّه على هذا الاستدلال: أوّلاً: الضمير في ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ لا يعود على الرجس؛ لأنّه من الممكن أن يكون مرجعه عمل الشيطان؛ لأنّ الضمير إذا كان يرجع إلى عمل الشيطان فالأنسب هو التأكيد على اجتناب هذه الأمور.

وثانياً: لو فرضنا أنّ الضمير يرجع إلى كلمة الرجس، فالاجتناب عنه سيكون واجباً إذا عُدَّ الرجس من عمل الشيطان؛ لأنه إذا كان يلزم الاجتناب عن الرجس دائماً للزم أن يكون ذكر جملة: ﴿عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ لغواً. وبناءً على ذلك فإن الآية تدلّ على جواز الاستفادة من الرجس إذا لم يكن من عمل الشيطان.

وثالثاً: تبيِّن الآية أنّ شرب الخمر والميسر والأنصاب رجسٌ، ومن عمل الشيطان، ليس من باب المجاز، بل من باب الادّعاء، على أنه لا وجود لأيّ أثر آخر للخمر وأدوات القمار سوى الشرب واللعب بها.

ولو كان المراد بالخمر والميسر والأنصاب ذاتها، وإذا كان المتعلَّق بوجوب الاجتناب شربها واللعب بها وعبادتها وغيرها من هذا القبيل، فإن الموضوع واضحٌ بدون الحاجة إلى هذا الادّعاء. والدليل على هذا الادّعاء أن شرب الخمر واللعب بآلات القمار توجب غضب الربّ وعداوته، وتحول دون ذكر الله. وأمّا الاحتفاظ بهذه الأمور أو الاستفادة المحلَّلة منها فلا تحول دون ذكر الله، ولا توجب الغضب والعداوة.

ورابعاً: الرجس ليس بمعنى النجس؛ لأن أصحاب المعاجم ذكروا عدّة معاني للرجس، ومنها: العمل القبيح. وبناءً على ذلك فإنّ الأمر يدور ما بين حمل كلمة الرجس على النجس الفقهي وارتكاب المجاز، أو حملها على المعنى الثاني بدون ارتكاب المجاز. وممّا لا شكّ فيه أنّ الحمل على المعنى الثاني أَوْلى.

وخامساً: الإيمان بالأصنام يوجب الكفر بالله تعالى. والقول برجس هذا الذنب الكبير ونجاسته ليس صحيحاً؛ لأنه يوجب حمل الأمر الكبير والخطير على الأمر الوضيع والصغير، في حين أنّ الآية تقتضي بأن يُنظَر إلى الكفر بالله على أنّه ذنبٌ كبير؛ وسيكون ذلك بمثابة نقضٍ للغرض.

 

    هل أنّ الانتفاع الحرام يوجب بطلان العقد؟

﴿لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾(النساء: 29).

أثار الفقهاء الموضوع التالي من قضية المباع الذي حُرِّمت جميع منافعه أو بعضها، ومفاده: هل يشترط في صحّة البيع قصد الانتفاع الحلال، أم قصد عدم ارتكاب الحرام، أم عدم قصد كلاهما، أم أنّه لا بدّ من التفصيل؟

يقول الإمام الخميني: طبقاً للقواعد لا يشترط الجميع. وادّعى بعض الفقهاء أن قصد الانتفاع الحرام يوجب بطلان البيع؛ لأن هذا النوع من التعامل يعدّ مصداقاً لأكل المال بالباطل؛ إذ إن هذا العنوان لا يتوقَّف عرفاً على تحقُّق التبادل الحقيقي بين المنفعة والمال الحرام، بل إنّ قصد الانتفاع الحرام يوجب صدق هذا العنوان.

ويقول في معرض ردِّ هذا الادّعاء: يصحّ هذا الادّعاء في حالة الاستدلال بالآية المذكورة أعلاه، وهكذا استدلال يعدّ خطأً؛ لأنّه:

أولاً: المراد من عناوين الباطل والتجارة وغيرها من العناوين المستخدمة في الآية معناها العرفي، وليس المفهوم الشرعي. ولهذا السبب عندما يصدق عنوان التجارة عرفاً، ونشكّ في صحته، فإن الفقهاء يتمسَّكون بإطلاق الآية، والحكم بصحّته؛ لما فيه من احتمال أن نأخذ قيداً من قبل الشارع.

ثانياً: لو كان المراد بهذه العناوين مفهومها الشرعي فإنّ التمسُّك بالآية في هذه الموارد ليس صحيحاً؛ لأنّه يكون بمثابة التمسّك بالعام في شبهة مصداقية.

وبناءً على ذلك لا تعدّ الآية دليلاً على بطلان المعاملة في حالة قصد المنافع المحرمة فحسب، بل ستكون دليلاً على صحّته أيضاً: لأنّ قصد الانتفاع المحرَّم لا يصبح سبباً لسقوط المعاملة ماليّاً، ولا يصدق بالتالي عنوان المعاملة عرفاً.

نعم، لو كانت المنافع المحلَّلة قليلة جدّاً، في مقابل المنافع المحرَّمة، بحيث لا يعتدّ بها عرفاً، ففي هذه الحالة يصبح قصد الانتفاع الحرام سبباً للبطلان، وإنْ كان هدف المعاملة تحقيق المنافع المحلَّلة؛ ذلك أنّ معاملة كهذه تعدّ مصداقاً لمعاملة السفيه؛ لأنّ المنافع المحلَّلة ضئيلة جدّاً مقابل القيمة المدفوعة.

 

   التعاون على الإثم

﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ (المائدة: 2).

اختلف الفقهاء في صحّة استخدام العين المحلَّلة في أبواب الحرام من قبل المشتري. القائلون بالبطلان تمسّكوا بآية التعاون، وقالوا بأن هذه المعاملة مصداق للتعاون على الإثم، ومنهيٌّ عنها، طبقاً لمدلول الآية.

وأثار المحقِّق الإيرواني جملة من الإشكالات على هذا الاستدلال، ويقول:

أولاً: النهي هنا ليس تحريمياً، بل تنزيهيّ؛ بقرينة المقابلة مع الأمر الاستحبابي ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى.

ثانياً: يعني باب التفاعل الاجتماع على إتيان الفعل المنكر على نحو المشاركة، أمّا الإعانة والمساعدة؛ لكي يأتي الغير بالفعل المنكر على نحو الاستقلال، فهو ليس من معاني باب التفاعل.

ويقول السيد الخميني في معرض ردّ هذه الإشكالات: أمّا الإشكال فهو ليس صحيحاً؛ أوّلاً: لأنّه لو قلنا بأنّ بعض الفقرات في آيات القرآن تعدّ قرينة على معنى غيرها من الفقرات الأخرى فهنا لا مجال لهذا الأمر؛ لأنّ مناسبة الحكم والموضوع يقتضيان أن يكون النهي تحريمياً، وليس تنزيهياً.

وثانياً: المقارنة بين (الإثم) و(العدوان) تصبح سبباً لعدم بقاء ما يدعو إلى حمل النهي على التنزيه؛ لأنه ما من شكّ أن الإعانة على العدوان ـ وهو الظلم ـ حرامٌ.

وأمّا الإشكال الثاني فهو الآخر ليس صحيحاً؛ لأن مادّة عون لدى العرف واللغويين تعني الإعانة والمساعدة على أمرٍ ما، وهذا المفهوم يصدق عندما يكون شخصٌ ما أصيلاً ومستقلاًّ في القيام بعملٍ ما، ويكون الغير معيناً له.

ورغم أنّ باب التفاعل يعني الاشتراك في الفعل فإنّ ذلك لا يصبح سبباً لخروج مادة الفصل عن المعنى الأساسي، بل إنّ كلا المعنيين مأخوذٌ بنظر الاعتبار فيها. وبالتالي فإن جملة: ﴿وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ﴾ تعني أنْ لا يعين بعضكم بعضاً على الإثم والظلم.

وبعد الإشكال يشير الإمام الخميني إلى كلام المحقِّق الثاني، إذ قال: لو كان الاستدلال بالآية صحيحاً بطلت الكثير من المعاملات؛ لأننا نعلم إجمالاً بأن المشتري يستفيد من المعاملة في الإثم. وفي ما يتعلَّق بتوضيح هذا الإشكال يشير صاحبا مفتاح الكرامة وجواهر الكلام إلى الكثير من المعاملات التي تعين على الإثم. ولكنّ سيرة المسلمين تقوم على صحّة تلك المعاملات، من قبيل: بيع العنب للكفّار، والسلاح للملوك، والورق للكتّاب الذين يؤلِّفون الكتب الضالّة.

ويقول السيد الخميني في إجابته عن هذا الإشكال: أمّا بيع العنب وأمثاله للكفّار فلا إشكال فيه؛ لأنه لا يؤدّي إلى صدق الإعانة على الإثم؛ إذ إن شرب الخمر لا يعدّ إثماً عند الكفّار، حتّى يصبح بيع العنب إعانة على الإثم. وعلى الرغم من أن الكفار مكلَّفون بالفروع، وسينالهم العذاب على تركها، إلاّ أنّ أكثرهم جاهلٌ قاصر، وليس مقصِّراً. أمّا العوام منهم فواضحٌ أمرهم، وأما علماؤهم بما أنّ بطلان أدلّة الحلّية لا يخطر ببالهم، ولا يحتملون من جهة أخرى صحة كلام علماء المسلمين، إذاً فهم جاهلون قاصرون أيضاً.

وأما بيع الورق على كتّاب المواضيع الضالّة، أو بيع الأشياء التي تستخدم في سبل الحرام للملوك، فيبدو أنّها حرامٌ. ولا نرى أنّ سيرة المسلمين تكشف عن صحّتها، بل إنّ سيرةً كهذه لا تكشف عن الصحّة. والمعاملة باطلةٌ؛ إما من باب أن سيرةً كهذه غير موجودة بين المسلمين المتديِّنين؛ وإما من باب أنّ هذه السيرة رفضت بالروايات المستفيضة.

ومن جهة أخرى من الممكن أن يقال: إن التعامل مع الملوك هو من باب التقيّة؛ لأن ترك التعامل معه سينجم عنه الضرر.

 

    الإجارة على عمل الحرام

﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ﴾ (التوبة: 67).

في ما يتعلَّق بالتكسُّب بما هو حرامٌ في ذاته أثير الموضوع التالي: هل أنّ تأجير المرأة المغنّية للغناء، أو التأجير لصنع التماثيل، حرامٌ، حتّى وإنْ لم تغنِّ، ولم يصنع التماثيل، أم أنّه ليس حراماً؟

الذين قالوا بالحرمة وجدوا ضالّتهم في بعض الأدلّة، ومنها: الآية المتقدّمة؛ فإن الله تعالى ذهب في هذه الآية إلى ذمّ المنافقين من الرجال والنساء، بالإضافة إلى وصفهم بالمنافقين والمنافقات، ومن جهة أخرى فإن الأمر بالمنكر، الذي أصبح سبباً لذمّهم، ليست له خصوصية معينة، بل إنّ الشيء الذي يحمل ثمرة الأمر بالمنكر وفائدته سيكون مصداقاً للأمر بالمنكر، من قبيل: الترغيب والتشجيع. ومن جهة أخرى فإن الأمر بالمنكر لا يقتصر على الأمر بمخالفة أوامر رسول الله|، بل هو أوسع من ذلك، ويشمل أيَّ منكر آخر.

وبهذه المقدّمات تدلّ الآية على أنّ نفس إجارة المرأة المغنية لنفسها للغناء، وإجارة صانع التماثيل لصنع الهياكل المحرمة، حرامٌ لدى الشارع، حتّى وإنْ لم يصل إلى مرحلة التنفيذ؛ لأن عملية الإجارة هذه تعدّ تشجيعاً وترغيباً لهم بالحرام. ومن جهة أخرى فإن قبولهم يقود إلى ترغيب المستأجِر وتشجيعه على الحرام. وطبقاً لمدلول الآية فان أي نوع من أنواع التشجيع والترغيب نحو الحرام غيرُ جائز.

 

   الغِيبة ذنب كبير

﴿وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ (الحجرات: 12).

من المواضيع المطروحة وذات الصلة بالغِيبة: هل أنها تعدّ من مصاديق الذنوب الكبيرة أم لا؟

تمسّك الإمام بهذه الآية في استدلاله على هذا المدّعى، وقال: بناءً على أن الملاك في الذنوب الكبيرة يتمثَّل بالوعيد بالعذاب فإن للآية دلالة واضحة على أن الغيبة تعدّ من الذنوب الكبيرة، لأنّ آخر الآية يشير إلى تجسيد عمل المغتاب بصورة لحم الأخ الميت، وهذا الأمر يعدّ نوعاً من الوعيد بالعذاب.

وكذا إذا حملنا آخر الآية على تنزيل حكم أكل الميتة. فإن الآية تدلّ على أن للغيبة حكم أكل الميتة. وممّا لا شكّ فيه أنّ أكل الميتة يعدّ من الذنوب الكبيرة.

ومن ثم يقول سماحته في معرض الإشكال على هذا الاستدلال: من المحتمل أن يكون المراد ممّا جاء في آخر الآية القول بأنّ الغيبة هي بمنزلة أكل الميتة؛ لما له من وقع يبعث على اشمئزاز الذوق السليم. بمعنى أنّ الذوق السليم يشمئزّ من أكل لحم الأخ الميت، والغيبة كذلك تبعث على اشمئزاز الطبع السليم. وبناءً على ذلك فإنّ الآية، بالإضافة إلى عدم دلالتها على اعتبار الغيبة من الذنوب الكبيرة، لا تدلّ كذلك على مبدأ الحرمة التكليفية، بل إنّها مجرّد إرشاد لحكم العقل، القائم على أن الإساءة لحيثيّة المسلم عمل قبيح.

ثم يقول في النهاية: على الرغم من أنّ إنكار دلالة الآية على مبدأ الحرمة التكليفيّة للغيبة لا يمكن القبول به، ويعدّ ضرباً من المكابرة، إلاّ أنّ إنكار دلالة الآية على اعتبار الغيبة من الذنوب الكبيرة ليس بعيداً عن الواقع.

 

    تظلُّم المظلوم

﴿وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ (الشورى: 41 ـ 42).

يرى السيد الخميني، كغيره من الفقهاء، أن تظلّم المظلوم يعدّ من حالات استثناء حرمة الغيبة. وللبرهنة على ذلك يستند سماحته إلى العديد من الآيات والروايات، ومنها: الآيتين المتقدّمتين؛ إذ إنه يرى أنهما أكثر وضوحاً من حيث الدلالة وسعة المفهوم من الآية الكريمة: ﴿لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً﴾ (النساء: 148).

ويقول في معرض استدلاله: الانتصار في الآية يعني أحد المعنيين التاليين:

أـ طلب العون، وإنّما يقال: انتصر على خصمه عندما ينتصر على عدوّ.

ب ـ الانتقام من الظالم.

وبناءً على كلٍّ من هذين المعنيين فإن دلالة الآية على جواز استغابة الظالم تامّة؛ لأنه لو كانت عبارة «انتصر به» بمعنى طلب العون لكان مقتضى إطلاق كلمة «انتصر» أنّه يجوز طلب العون من كلّ شخص قادر على نصرة الشخص المظلوم، سواء أكان حاكماً ووالياً أو غير ذلك. وفي هذه الحالة فإن ما يستلزم طلب العون هو تبيين مساوئ الظالم وغيبته لدى الشخص الناصر. ولا فرق في أن يكون الظالم مجاهراً ويرتكب السوء علانية أو خفية؛ وكذا لا فرق في أن يكون الناصر مطّلعاً على ظلمه أو لا.

أما لو جاءت كلمة «انتصر» بمعنى الثأر والانتقام فإن جواز الانتقام من الظالم يستدعي القول بجواز الاستعانة بالآخرين لأخذ الثأر من الظالم؛ لأن المظلوم لا يقوى على الثأر بمفرده. وإطلاق كلمة «انتصر» يقتضي على الأقلّ جواز الاستعانة بالأقرباء والأصدقاء وأمثالهم لأخذ الثأر. وأصبح جليّاً أنّ قرينة هذا الموضوع هو بيان مساوئ الظالم واستغابته لدى هؤلاء الأفراد.

وبعد أن ينتهي سماحته من توضيح الاستدلال ينتقل إلى إزالة الإشكالات. ويجيب في هذا الصدد على عدد من الإشكالات.

الإشكال الأوّل: الآية في صدد بيان جواز الانتصار للمظلوم فقط، والقَدَر المتيقَّن منها طلب النصرة من الوالي والقاضي، وليس من غيرهم. وبناءً على ذلك لا يستفاد من ذلك جواز غيبة الظالم عند غير القاضي والوالي؛ لأن الآية ليس فيها إطلاق تجاه كيفية الانتصار.

الجواب: الآية تتعلَّق ببيان جواز انتقام المظلوم من الظالم إزاء الظلم الذي لحق به. وهذا السياق مطلق بشأن الأفراد المناصرين. وبناءً على ذلك لا يوجد إشكال ـ من هذه الناحية ـ في إطلاق الآية.

الإشكال الثاني: جواز انتصار المظلوم يؤدى إلى إثارة الفوضى، إلاّ إذا جاء عن طريق الوالي والقاضي. ومن هنا فقد نصّب الشارع المقدَّس القاضي والوالي لنصرة المظلوم وتنظيم الأمور. وانطلاقاً من هذه النتيجة كيف يمكن للمظلوم أن يذهب أنّى يشاء للانتصار؟!

الجواب: أوّلاً: هذا النمط من التفكير يعدّ إشكالاً ضعيفاً، ومخالفاً لإطلاق الأدلة، بل مخالف للفهم الصحيح.

ثانياً: كثيرة هي المواضيع المشابهة لمثل هذا الموضوع (جواز رجوع المظلوم للانتصار لدى غير القاضي والوالي) في الشرع المقدَّس، ومنها: جواز قصاص الدائن، والدفاع عن النفس والمال والعرض، وقتل مَنْ يسبّ رسول الله| أو أحد الأئمّة^، بدون الرجوع إلى القاضي والوالي.

فهل يصحّ أن يرى الشخص مَنْ يسرقه، ويهجم على ماله وعرضه، ولا يحرِّك ساكناً، ويقال له بعد السرقة وانتهاك الحرمة: اذهَبْ إلى المحاكم الصالحة وخُذْ حقّك. وفي كلّ الأحوال، وبعد أن دلّ الدليل على جواز انتصار المظلوم لدى غير القاضي والوالي، لم يبقَ وجهٌ للإشكال والاستبعاد.

 

    أصالة الصحّة في فعل الآخرين

﴿وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ (النور: 16).

استدلّ بعض الفقهاء في موضوع أصالة الصحّة تجاه فعل الآخرين بآيات وروايات متعدِّدة، ومنهم: العلاّمة الشيرازي، صاحب الحاشية على كتاب المكاسب، الذي استند إلى هذه الآية؛ اعتماداً على أنّ الآية تدلّ على أنّ ما ينسب إلى الآخرين يعدّ كذباً وبهتاناً في حالة الجهل.

 ويرى الإمام الخميني أنّ الدليل على أصالة الصحّة في عمل الآخرين يقتصر على العقلاء فقط، أو العقلاء وسيرة المتشرِّعة. والقدر المتيقَّن من هذا الدليل هو الأفعال التي لها صورتان: 1ـ وجه الصحّة. 2ـ وجه الفساد. ولا فرق في أن يكون بشأن العقود والإيقاعات، أو غيرهما، من قبيل: تجهيز الميت؛ إذ يمكن أن يكون قد وقع بشكلٍ صحيح، كما يمكن أن يكون قد وقع بشكلٍ خاطئ أيضاً.

وأما بالنسبة إلى الآيات الواردة في هذا المجال فمنها هذه الآية؛ إذ ليس لها برأيه أيّ دلالة على هذا المدّعى؛ لأنّ حالة أصالة الصحّة توجد حيث يصدر فعلٌ من المسلم، ولكنْ لا نعلم هل وقع على الوجه الصحيح أم على الفاسد منه؟ وأمّا بالنسبة إلى الآية التي نزلت، بناءً على ما هو معروفٌ، في عائشة فلم يصدر فيها فعلٌ من المسلم حتى تصبح مردَّدة بين الصحيح والفاسد، بل إنها نسبت شيئاً جزئيّاً إلى المسلم، والسامع يشكّ في الأمر. وبناءً على ذلك فإن اللوم والتوبيخ في الآية يرتبطان بنسبة عمل الفاحشة إلى المسلم بدون علم ومعرفة، ولو كان نزول الآية في ماريا القبطية، وقلنا: إن عائشة نسبت لها شيئاً قبيحاً، ففي هذه الحالة أيضاً لا تدلّ الآية على هذا المدّعى؛ لأنه لم يصدر عن ماريا فعلٌ، لكي يحمل على وجهه الصحيح.

إلاّ إذا قيل: إن نسبة الفعل القبيح لماريا يرتبط بالحياة الزوجية التي تنجم عنها ولادة الأبناء، ولهذا العمل وجهان: صحيح؛ وفاسد.

ولكنّ هذا الاحتمال بعيدٌ عن ظاهر الآيات؛ لأن الآيات، ومنها هذه الآية، تريد أن تبيِّن أن القول بدون علم، وبدون حجّة وبرهان، يعدّ افتراءً وإفكاً. بل من المحتمل أن يكون اللوم والتوبيخ في الآية انطلاقاً من وجود الاستصحاب العقلائي أو الشرعي على عدم وقوع الفعل القبيح، بناءً على أنّ استصحاب العدم يكفي لإثبات الافتراء.

وأكثر من ذلك من الممكن أن يُقال: إن الآية تدلّ على عدم حُجّية أصالة الصحّة في أقوال الآخرين؛ لأنه إذا سَرَت أصالة الصحة على أقوال الآخرين، وكانت هذه دلالة على الواقع، استلزم ذلك أن يثبت الواقع بهذه الآيات، ولن يكون بالتالي افتراءً وبهتاناً، ولا ينبغي عندئذٍ أن يكون هناك توبيخٌ ولوم.

 

    اللعب بأدوات القمار

﴿لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ﴾(النساء: 29).

في موضوع القمار هناك اختلافٌ في ما يتعلَّق باللعب بالأدوات التي ليست خاصة بالقمار، بدافع لعب القمار.

وقال الفقهاء في معرض استدلالهم على هذا الموضوع: ممّا لا شكّ فيه أنّ عبارة ﴿لاَ تَأْكُلُوا﴾ هي كناية. أمّا سبب الكناية فمن الممكن أن يكون جميع التصرُّفات. وبناءً على ذلك سيكون معنى الآية على النحو التالي: إنه لا يحقّ لكم التصرّف بأيّ شكل من الأشكال في الأموال المكتسبة من طرق الباطل، إلاّ إذا كانت مستحصلة من طريق التجارة.

ومن الممكن أن تكون عبارة: ﴿لاَ تَأْكُلُوا﴾ كناية عن النهي عن كسب الأموال من طريق الباطل. وبناءً على ذلك فإن معنى الآية يفيد بأنّ الحصول على المال بأسباب الباطل، كالقمار والسرقة وما شاكل ذلك، ليس صحيحاً.

ويقول مرجِّحاً الاحتمال الثاني: بناءً على الروايات الواردة في تفسير الآية فإنّ الاحتمال الثاني أكثر ترجيحاً. ومن هذه الروايات: صحيحة زياد بن عيسى، قال سألت أبا عبد الله× عن قوله تعالى: ﴿ولاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ، فقال: كانت قريش يقامر الرجل بأهله وماله، فنهاهم الله عزّ وجلّ عن ذلك.

هذه الرواية تدلّ على أن نهي الله تعالى عن القمار نهي مصدري، بمعنى أن الحرام هو القمار، وليس التصرُّف بالمال المحصَّل من القمار. وما يؤيِّد هذا المدّعى هو الاستثناء الوارد في جملة: ﴿تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ﴾؛ لأن هذا الاستثناء يعني أنّ الاستفادة من الأموال المكتسبة من طرق الباطل غير جائزة، إلاّ إذا كانت من طريق ﴿تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ.

وبناءً على ذلك فإن للآية دلالة على الإطلاق بحرمة كلّ لعب بدافع القمار. وأما الإشكال على البطلان بأن الآية في مقام الإرشاد، وبناءً على ذلك فهي لا تدلّ على الحرمة التكليفية، فليس صحيحاً؛ لأن الحالات والأمثلة الداخلة في الآية ليست من العقود، لكي تتصف بالصحّة والبطلان. وبناءً على ذلك يستفاد من ظاهر الآية أنها تدل على الحرمة التكليفية للعب القمار بغير الأدوات الخاصّة بالقمار.

وبعد قوله بأن دلالة الآية على الحرمة التكليفية للقمار بغير الأدوات الخاصة بالقمار لا يخلو من وجه يقول سماحته: دلالة الآية على هذا المدَّعى لا يخلو من النقاش؛ لأن أقوى ما تدلّ عليه الآية هو دخول القمار في مفهومها؛ لأنه هناك الكثير من الروايات، وبعضها تامّ السند، تدل على هذا الأمر. وبناءً على ذلك تدلّ الآية على حرمة تحصيل المال من طريق بعض الأسباب، من قبيل: القمار، مقابل جواز تحصيله عن طريق التجارة. وأمّا حرمة السرقة والخيانة فلا يُستفاد ذلك من الآية، لأنّ الآية إرشاد للبطلان، وعدم جعل القمار وأشباهه سبباً للحصول على المال.

نعم، إذا توفر دليلٌ يدل على أن السرقة والظلم وأمثالهما يدخلان ضمن مفهوم الآية فإن الاستدلال بها على حرمة اللعب بقصد القمار بغير أدوات القمار سيكون ممكناً. وفضلاً عن الإشكال المتقدِّم فإن القمار في الروايات الواردة في تفسير الآية يعني الرهن، كما قيل: إن الأصل في معنى القمار هو الرهن. وفي هذه الحالة فإن الآية تدلّ على حرمة التصرف في الأموال المكتسبة من طريق الباطل.

بل من الممكن أن يقال: إن دخول القمار في مفهوم الآية أمرٌ تعبدي، بنفس الشكل الذي جاء في الروايات، من أنّ الأوثان فُسِّرت بالشطرنج. وبناءً على ذلك لا يجوز تخطّي المصداق التعبُّدي إلى غيره.

 

   الكذب من الكبائر

﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ﴾(النحل: 105).

بعد أن تمّ إثبات حرمة الكذب طرحت مواضيع أخرى متعدّدة في موضوع الكذب، ومنها: إن الكذب يعدّ من الذنوب الكبيرة، وإنّ الشخص المؤمن لا يكذب. وفي هذا الصدد تمسَّك الفقهاء بآيات وروايات مختلفة.

ولإثبات هذا المدّعى استند الإمام الخميني& إلى آيةٍ وردت أيضاً ضمن مجموعة من الروايات، ويقول سماحته لتقريب المعنى: على الرغم من أنّ هذه الآية نزلت بعد الآية: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (النحل: 101)، والآية: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ (النحل: 103)، إلاّ أن الآية في مقام الإفصاح عن قاعدة عامّة، تستند إلى أنّ الكذب من علامات غير المؤمنين، وسوى هؤلاء الأفراد لا يكذب أحدٌ، ولا فرق في ذلك بين الكذب على الله أو غيره.

والدليل على هذا الادّعاء هو وجود الجملة الأخيرة من الآية: ﴿وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ﴾؛ ذلك أن هذه الجملة تُظهر أن الكاذب يقتصر على غير المؤمن. وبناءً على ذلك فإنّ الكذب مطلقاً ـ سواء كان على الله أو غير الله ـ من خصائص غير المؤمنين.

فضلاً عن أنه يستفاد من الآية أنّ الكذب يعدّ من الكبائر؛ لأن الذنب الذي يعدّ من صفات غير المؤمن يستلزم أن يكون من الكبائر.

ثم يتناول سماحته احتمالين آخرين في مدلول الآية بالنقد والتحليل، ويقول: الاحتمال الآخر في الآية عبارة عن أن الله تعالى ليس في صدد الإخبار عن أمر حقيقي، والقول بأن الكذب من صفات غير المؤمنين، بل في مقام الذمّ، وتوبيخ الذين يقولون: إنّ النبي كذّاب، ومتأثِّر بشخص آخر، كما هو الحال عند الردّ على الشخص الذي يقول: أنت بخيل، فيقال: إنّ البخيل هو مَنْ يأكل أموال الناس.

وكما أن هذه الجملة ليست في مقام الإخبار عن أمرٍ واقعي، بل في مقام الإنشاء وتوبيخ الطرف المقابل، فإنّ هذه الآية هي في مقام الذمّ وتوبيخ الطرف المقابل أيضاً. وبناءً على هذا الاحتمال فإنّ الآية لا تدلّ على المدّعى.

الاحتمال الثالث في الآية عبارةٌ عن أنّ الله تعالى في مقام الرّد على المتقوّلين، الذين ينسبون الكذب لرسول الله، ويتَّهمونه بتعليمه من قبل البشر، وذمّهم، ولكن بالجملة الخبرية، وليس بالجملة الإنشائية، بمعنى أنّ الله تعالى يخبرنا بأنّ القائلين بهاتين التهمتين يكذبون. وبناء على هذا الاحتمال أيضاً فإنّ الآية لا تدلّ على المدّعى كذلك.

ثم ينتقد سماحته في النهاية دلالة الآية على المدّعى (أي إنّ الكذب حرام، وهو من صفات غير المؤمنين)، ويقول: على الرغم من كون الاحتمال الأوّل حول مفاد الآية أقرب إلى الواقع، مقارنةً بالاحتمالين الآخرين؛ لوجود روايتين تدعمان هذا الاحتمال، من الممكن أن يُقال: انطلاقاً من كون الكذب صفة سيئة فهو من صفات الأراذل والمنحطّين من الناس، ولا يمكن للإنسان المؤمن الشريف أن يتخلَّق بهذه الصفة السيئة إطلاقاً. وبناءً على ذلك فإن عدم صدور هذه الصفة لا يدلّ على أنّ هذا العمل حرام، بنفس الشكل الذي يُقال فيه: إن الشخص المؤمن لا يخلف الوعد، أو إن الشخص المؤمن لا يخوض في اللهو واللغو، فهذا لا يعني أنّ فعل اللغو أو اللهو أو النكث بالوعد حرامٌ.

وبالنتيجة فإن الآية لا تدلّ على أنّ الكذب من الكبائر.

 

   عدم حرمة الكذب بهدف الإصلاح

﴿أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾ (يوسف: 70).

﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ﴾ (الأنبياء: 63).

استثنى الفقهاء في موضوع حرمة الكذب بعض الحالات من الحرمة، ومنها: الكذب بهدف الإصلاح.

ومن الأدلة التي أخذ بها الإمام الآيتان المتقدِّمتان، باعتبار أن النبي إبراهيم ويوسف‘ نطقا بهاتين الجملتين، ولكنْ بما أنّهما كانتا بقصد الإصلاح فلا يعدّ هذا الكذب حراماً، بل يعدّ كذباً ممدوحاً عند الله تعالى.

الإصلاح الذي كان يهدف إليه النبيّ إبراهيم× بقوله لهذه الجملة يتمثل في توعية الوثنيين ببطلان هذا الفعل، وإرجاعهم إلى طريق الحقّ وعبادة الله تعالى.

والإصلاح الذي أراده يوسف× هو الاحتفاظ بأخيه لديه، حتى يأتي أبوه يعقوب×.

وأمّا القول باحتمال أن يكون قصد إبراهيم× هو عقد الصلح بينه وبين قومه، وأن يقصد يوسف× إزالة الخصومة التي بينه وبين إخوته، فليس صحيحاً.

 

    الإكراه على القبول بولاية الجائر

﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (النحل: 106).

استثنى الفقهاء في موضوع حرمة القبول بولاية الجائر بعض الموارد، ومنها: الإكراه. وهنا يُطرح التساؤل التالي: هل أن أدلة جواز القبول بولاية الجائر كرهاً مطلقة أم مقيدة؟

احتمل البعض أن تكون هذه الأدلة مقيدة، من جهتين:

أ ـ الإكراه مقيّد بالحالات التي يتعلَّق فيها الحقّ بالله تعالى، وليس بالناس.

ب ـ ومن جهة أخرى يؤدّي الإكراه إلى الدخول في ولاية الجائر إذا توعّد بالقتل.

ولم يوافق السيد الخميني على أيٍّ من هذين القيدين، ويرى أنّ الآية مطلقة إزاء هذين القيدين.

أمّا القيد الأول (أي التقييد بغير حقّ الناس) فهو يتعارض مع سبب نزول الآية؛ لأنه طبقاً لرأي المفسِّرين، وبعض الروايات الموثوقة، فإن سبب نزول الآية هي قصة عمّار بن ياسر. وطبيعة هذه القصّة تتعلَّق أيضاً بحق ّالناس، أي سبّ النبي|.

يقول الطبرسي في تفسير مجمع البيان: استجاب عمّار بن ياسر لما طلبه منه الكفرة، ونفَّذ لهم ما أرادوه منه. وبعد ذلك دخل على النبيّ| وهو يبكي، فسأله رسول الله: ما الأمر؟ فأجاب قائلاً: إنّه أمرٌ سيّئ؛ لأن الكفّار لم يتركوني إلاّ بعد أن نلتُ منك، وذكرت آلهتهم بخير، فقال رسول الله، وهو يمسح دموعه: إذا تمكَّنوا منك ثانيةً فافْعَلْ ما فعلت.

أما إطلاق الآية على القيد الثاني (الوعيد بالقتل) فإنها، بالإضافة إلى تعارضها مع الروايات، ومنها: رواية سعدة، مطلقةٌ بخصوص الإكراه على القتل وغير القتل، ولا يوجد ما يوجب تقييدها على الوعيد بالقتل، سوى سبب النزول. ومن الواضح تماماً أنّ سبب النزول لا يمكنه تقييد الإطلاق.

وبالإضافة إلى ما تقدَّم ذكره فإن ظاهر الآية يتعارض مع التقييد بحق الله؛ لأن هذه الآية إذا كانت ترتبط بالآيات المتقدّمة: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (النحل: 101)، ففي هذه الحالة سيكون مفهوم الآية كالتالي: إنّ مَنْ يقول عنك: إنّك كاذبٌ فإنه هو الكاذب إلاّ إذا أكره على هذه المقولة، وبناءً على ذلك مَنْ أكره على هذا القول لن يناله الذمّ والتوبيخ.

ولو أن هذه الآية لم تكن تتعلَّق بالآيات المتقدّمة، بل جاءت في أوّل الكلام، فسيكون مفهومها على النحو التالي: إنّه مَنْ كفر بعد إيمانه بالله، بالارتداد أو بإيجاد أسبابه، من قبيل: الأقوال والأفعال، سيناله غضب الله وعذابه، إلاّ إذا كان إكراهاً.

 

    معنى الإخلاص اللازم في العبادات

﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه﴾ (الزلزلة: 7).

دخل الفقهاء في دراستهم لموضوع أخذ الأجرة على القيام بالواجبات إلى الموضوع التالي: ما هو المقصود بالإخلاص؟ هل أنّ الإخلاص التامّ ضروري؟ وبالنتيجة فإن عبادة الشخص خوفاً من نار جهنم أو رغبة بالجنة باطلةٌ أو أنّ هذه العبادات بهذه الدوافع صحيحةٌ؟

وافق الإمام الخميني& على المبدأ الثاني، وأقام عليه عدّة براهين، ومنها:

قوله: للآية دلالة على العمل الصالح، ولها آثارٌ وتبعات في الآخرة. وبما أنه ورد عن الإمام أمير المؤمنين× أنّ أحكم الآيات هي هذه الآية لذا يجب ـ بناءً على ذلك ـ الأخذ بظاهر الآية، وظاهرها يدلّ على أن فعل الخير سوف يُرى في الآخرة. والآية الكريمة التالية تؤيِّد هذا المعنى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾ (الزلزلة: 6).

وتقريب الاستدلال في أن نقول: لو أنّ شخصاً أدّى العبادات ـ بما فيها الصلاة ـ بقصد أنّ هذا العمل سوف يُرى في الآخرة بصورة حسنة ـ ترافقه ـ، فهل من الممكن القول: إنّ هذا العمل باطل؟

لو قيل: إن هذه الحالات تم استثنائها بدليل خاصّ، وهي ليست باطلة، نقول في الجواب عن ذلك: إن الاستثناء لا يستلزم في هذه الحالة قصد القربة، وبأن هذه الحالات ليست عبادةً، فممّا لا شكّ فيه أنّ هذا الموضوع هو خلاف ضرورة الفقه.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً