أحدث المقالات

الشيخ عبد الله مصلحي(*)

مدخل

ورد في بعض الروايت أنّه لم يرضع الحسين× من أمّه فاطمة÷. إلاّ أنّه لا يمكن قبول هذه الروايات؛ فإنّها ضعيفة الأسانيد، كما أنها مضطربة المتن. وهذا يوجب الترديد في صدور هذه الروايات. أضِفْ إلى ذلك أنّها مخالفةٌ لما ورد في التاريخ من أنّ أمّ الفضل أرضعته.

قد ورد في بعض الروايات أن سيّد الشهداء× لم يرضع من أمه فاطمة÷، ولا من أنثى أخرى، بل إن النبيّ| كان يضع إبهامه في فيه.

وإليك نصّ هذه الروايات:

1ـ محمد بن يحيى، عن عليّ بن إسماعيل، عن محمد بن عمرو الزيّات، عن رجلٍ من أصحابنا، عن أبي عبد الله× قال: ولم‏ يرضع‏ الحسين‏ من فاطمة÷، ولا من أنثى، كان يؤتى به النبيّ، فيضع إبهامه في فيه، فيمصّ منها ما يكفيه اليومين والثلاث، فنبت لحم الحسين× من لحم رسول الله ودمه‏([1]).

ورواه ابن قولويه، عن محمد بن جعفر الرزّاز قال: حدَّثني محمد بن الحسين بن أبي الخطّاب، عن محمد بن عمرو بن سعيد الزيّات قال: حدَّثني رجلٌ من أصحابنا، عن أبي عبد الله×([2]).

وقال: حدَّثني أبي&، عن سعد بن عبد الله، عن عليّ بن إسماعيل بن عيسى، عن محمد بن عمرو بن سعيد الزيّات، بإسناده،‏ مثله([3]).

2ـ قال الكليني: وفي روايةٍ أخرى، عن أبي الحسن الرضا×‏، أن النبيّ| كان يؤتى بالحسين، فيلقمه لسانه، فيمصّه، فيجتزئ به، ولم يرتضع من أنثى([4]).

3ـ قال الصدوق: حدَّثنا أحمد بن الحسن& قال: حدَّثنا أحمد بن يحيى قال: حدَّثنا بكر بن عبد الله بن حبيب قال: حدَّثنا تميم بن بهلول قال: حدَّثنا عليّ بن حسّان الواسطي، عن عبد الرحمن بن كثير الهاشمي، عن أبي عبد الله× قال: كان رسول الله يأتيه في كلّ يومٍ، فيضع لسانه في فم الحسين×، فيمصّه‏ حتّى‏ يروى،‏ فأنبت الله تعالى لحمه من لحم رسول الله|، ولم يرضع من فاطمة÷ ولا من غيرها لبناً قطّ([5]).

4ـ قال ابن شهرآشوب: غرر أبي الفضل بن خيرانة، بإسناده، أنّه اعتلّت فاطمة لمّا ولدت الحسين، وجفّ لبنها، فطلب رسول الله مرضعاً فلم يَجِدْ، فكان يأتيه،‏ فيلقمه‏ إبهامه، فيمصّها، ويجعل الله له في إبهام رسول الله رزقاً يغذوه. ويقال: بل كان رسول الله يدخل لسانه في فيه، فيغرّه كما يغرّ الطير فرخه، فيجعل الله له في ذلك رزقاً، ففعل ذلك أربعين يوماً وليلةً، فنبت لحمُه من لحم رسول الله|([6]).

5ـ وقال أيضاً: قالت برّة بنت أميّة الخزاعي:‏ لمّا حملت فاطمة بالحسن خرج النبيّ| في بعض وجوهه، فقال لها: إنك ستلدين غلاماً قد هنّأني به جبرئيل، فلا ترضعيه حتّى أصير إليك. قالت: فدخلتُ على فاطمة حين ولدت الحسن، وله ثلاث ما أرضعته، فقلتُ لها: أعطنيه حتّى أرضعه، فقالت: كلاّ، ثمّ أدركتها رقّة الأمّهات، فأرضعته، فلمّا جاء النبيّ| قال لها: ماذا صنعت؟ قالت: أدركتني عليه رقّة الأمّهات فأرضعته، فقال: أبى الله عزَّ و جلَّ إلاّ ما أراد.

فلمّا حملت بالحسين قال لها: يا فاطمة إنك ستلدين غلاماً قد هنّأني به جبرئيل، فلا ترضعيه حتّى أجي‏ء إليك، ولو أقمتُ شهراً، قالت: أفعل ذلك، وخرج رسول الله| في بعض وجوهه، فولدت فاطمة الحسين×، فما أرضعته حتّى جاء رسول الله|، فقال لها: ماذا صنعت؟ قالت: ما أرضعته، فأخذه، فجعل‏ لسانه‏ في‏ فمه، فجعل الحسين يمصّ حتّى قال النبيّ|: إيهاً حسين، إيهاً حسين، ثمّ قال: أبى الله إلاّ ما يريد، هي فيكَ وفي ولدكَ، يعني الإمامة([7]).

6ـ روى الأسترآبادي، عن محمد بن العبّاس قال: حدَّثنا محمد بن همّام، عن عبد الله بن جعفر، عن الحسن بن موسى الخشّاب، عن إبراهيم بن يوسف العبديّ، عن إبراهيم بن صالح، عن الحسين بن زيد، عن آبائه^، قال: فلمّا وضعَتْه وضع النبيّ| لسانه في فيه، فمصّه، ولم‏ يرضع‏ الحسين× من أنثى، حتّى نبت لحمه ودمه من ريق رسول الله|.

النظر في الروايات

هذه جميع روايات الباب. ولكنْ فيها تأمُّلات:

1ـ إنّ جميع هذه الروايات ضعيفة الأسانيد.

أمّا الرواية الأولى فمرسلةً. وهكذا الرواية الثانية.

وأمّا الرواية الثالثة ففيها تميم بن بهلول وبكر بن عبد الله بن حبيب، وهما لم يوثَّقا، بل بكر بن عبد الله بن حبيب يعرف وينكر([8]).

كما أنّ عليّ بن حسّان الواسطي وعبد الرحمن بن كثير الهاشمي ضعيفان.

قال النجاشي: عبد الرحمن‏ بن‏ كثير الهاشمي‏: غمز أصحابنا عليه، وقالوا: كان يضع الحديث([9]).

وقال أيضاً: عليّ‏ بن‏ حسان‏ بن كثير الهاشمي‏ ضعيفٌ جدّاً، ذكره بعض أصحابنا في الغلاة، فاسد الاعتقاد. له كتاب تفسير الباطن، تخليطٌ كلّه([10]).

وقال ابن الغضائري: غالٍ، ضعيف([11]).

ونقل الكشّي عن ابن فضّال أنّه كذّاب([12]).

والرواية الرابعة مرسلةٌ، وكذا الخامسة؛ لعدم ذكر إسناد ابن شهرآشوب إلى أبي الفضل بن خيرانة و برّة بنت أميّة الخزاعي، مع أنّ أبا الفضل بن خيرانة و برّة بنت أميّة لم يوثَّقا.

وأمّا السادسة فضعيفةٌ؛ تارةً لأنّها مرسلة؛ لجهالة إسناد الأسترآبادي إلى محمد بن العبّاس؛ وأخرى لعدم وثاقة إبراهيم بن يوسف العبديّ و إبراهيم بن صالح.

أضِفْ إلى ذلك أنّ هذه الأخبار لم تذكر في كتابٍ مشهور. فهذه الأخبار ضعيفةٌ سنداً ومصدراً.

فالقول بأنه صحّ في الأخبار أنه لم يرضع من غير ثدي أمّه فاطمة÷ وإبهام رسول الله|([13]) فيه ما لا يخفى.

2ـ إن متون هذه الروايات مضطربةٌ في نفسها.

فقد ورد في الرواية الأولى والرابعة أنّه كان يؤتى به النبيّ| فيضع إبهامه في فيه فيمصّ منها، ولكنْ ورد في الروايات الثانية والثالثة والخامسة والسادسة أنّه كان رسول الله| يأتيه في كلّ يومٍ فيضع لسانه في فم الحسين×.

كما ورد في الرواية الرابعة أنه اعتلّت فاطمة÷ لمّا ولدت الحسين، وجفّ لبنها، فطلب رسول الله مرضعاً فلم يَجِدْ، ولكنْ ورد في الرواية الخامسة أنه قال النبيّ|: لا ترضعيه حتّى أجيء إليك.

فكيف يمكن الاطمئنان بصدور هذه الروايات مع هذا الاضطراب؟!

3ـ إن هذه الأخبار ـ مع الغضّ عن ضعف أسنادها واضطراب متونها ـ لا تعدو كونها خبرَ واحدٍ، وخبر الواحد ـ كما قال كثيرٌ من فقهاء الشيعة، بل ادّعي عليه الإجماع([14]) أيضاً ـ لا يمكن الركون إليه في المباحث الاعتقادية؛ لأنّه لا يوجب العلم والعمل، بل الركون إليه في الفقه أيضاً محلّ كلام؛ لما يذهب إليه بعض الأعلام، كالسيد الروحاني([15]).

4ـ إنّ هذه الأخبار مخالفةٌ لما ورد في التاريخ، من أن عبد الله بن يقطر كان رضيع سيد الشهداء×. قال الشيخ الطوسي: عبد الله بن يقطر: رضيعه×([16]).

هذا، وقد قال الشيخ السماوي: كانت أمّه حاضنةً للحسين، كأمّ قيس بن ذريح للحسن، ولم يكن رضع عندها، ولكنّه يسمى رضيعاً له؛ لحضانة أمّه له([17]).

ولكنّ هذا التوجيه ـ مع كونه مخالفاً لمعنى الرضيع لغةً، كما لا يخفى ـ لم يذكر في أيّ مصدرٍ تاريخي. فالشيخ السماوي متفرِّدٌ بهذا التوجيه، فلا يمكن الركون إليه، مع عدم مساعدة اللغة والتاريخ عليه.

5ـ قد ورد في كثيرٍ من مصادر التاريخ والرجال والنَّسَب والسيرة أنّ أمّ الفضل، زوجة العبّاس بن عبد المطّلب أرضعت سيّد الشهداء×. كما قد ذكر قثم بن العبّاس بعنوان: (أخو سيّد الشهداء× من الرضاعة).

فعن ابن عبّاس، عن أمّ الفضل قالت: دخل عليَّ رسول الله|، وأنا أرضع الحسين بن عليّ بلبن ابنٍ كان يقال له: قثم([18]).

وقال العمري النسّابة: قال أبو عليّ الموضح النسّابة: والحسين يكنّى أبا عبد الله… وأرضعته أمّ الفضل، زوجة عمّ أبيه العبّاس، بلبن قثم بن العبّاس بن عبد المطّلب([19]).

وقال ابن عنبة النسّابة: أرضعته أمّ الفضل، زوجة العبّاس بن عبد المطّلب، بلبن قثم بن العباس([20]).

وروى ابن عساكر، مسنداً عن سماك، عن أمّ الفضل بنت الحارث، أنها رأت في ما يرى النائم أن عضواً من أعضاء النبيّ| في بيتي، قالت: فقصصتها على النبيّ|، فقال: خيراً رأيتِ، تلد فاطمة غلاماً، فترضعيه بلبن قثم، قالت: فولدت فاطمة غلاماً، فسمّاه النبيّ| حسيناً، ودفعه إلى أمّ الفضل، وكانت ترضعه بلبن قثم([21]).

وقد ورد مثله في كثيرٍ من المصادر([22]).

وقال الذهبي: قثم بن العبّاس بن عبد المطّلب بن هاشم الهاشميّ، ابن عمّ النبيّﷺ، وأخو الفضل وعبد الله وعبيد الله وكثير. وأمّه هي أمّ الفضل، لبابة بنت الحارث الهلالية… وكان أخا الحسين بن عليّ من الرضاعة([23]).

هذا، وقد ورد في بعض المصادر أنّ أم الفضل أرضعت حَسَناً([24]). إلاّ أنّ الصواب «الحسين»؛ فإنّه وإنْ ورد في بعض المصادر «الحَسَن»، إلا أنّه ورد هذا النصّ في مصدرٍ آخر ـ نقلاً عن هذه المصادر ـ، وبسندٍ واحد، وفيه: «الحسين»([25]).

ثمّ إنّه قد ورد في بعض مصادر الشيعة أن التي أرضعت حسيناً× هي أمّ أيمن؛ فقد روى الصدوق، عن أبيه& قال: حدَّثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي، عن محمد بن عيسى وأبي إسحاق النهاوندي، عن عبد الله بن حمّاد قال: حدَّثنا عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله× قال: أقبل جيران أمّ أيمن إلى رسول الله|، فقالوا: يا رسول الله، إن أمّ أيمن لم تنَمْ البارحة من البكاء، لم تزَلْ تبكي حتّى أصبحَتْ، قال: فبعث رسول الله| إلى أمّ أيمن، فجاءته، فقال لها: يا أمّ أيمن، لا أبكى الله عينيك، إن جيرانك أتَوْني وأخبروني أنك لم تزالي الليل تبكين أجمع، فلا أبكى الله عينيك، ما الذي أبكاك؟ قالت: يا رسول الله، رأيت رؤيا عظيمةً شديدة، فلم أزَلْ أبكي الليل أجمع، فقال لها رسول الله|: فقصِّيها على رسول الله؛ فإنّ الله ورسوله أعلم، فقالت: تعظم عليَّ أن أتكلَّم بها، فقال لها: إن الرؤيا ليست على ما تُرى، فقصِّيها على رسول الله، قالت: رأيتُ في ليلتي هذه كأنّ بعض أعضائك ملقىً في بيتي، فقال لها رسول الله|: نامت عينُك يا أمّ أيمن، تلد فاطمة الحسين، فتربِّينه وتلينه، فيكون بعض أعضائي في بيتك([26]).

وقريبٌ منه في بعض مصادر أخرى([27]).

وهذه الرواية، وإنْ كانت تنفعنا في المقام؛ حيث جاء فيها: إن امرأةً أرضعت سيّد الشهداء×، ولكنْ لا يمكن قبولها؛ فإنها ـ مضافاً إلى ضعف سندها، وكونها من أخبار الآحاد التي لا توجب علماً ولا عملاً ـ مخالفةٌ لما ورد في كثير من المصادر ـ كما مرّ ـ، بل ومصادر الإمامية أيضاً تؤيِّد ما مرّ من أن التي أرضعت حسيناً× هي أمّ الفضل([28]).

6ـ إن عدم رضاع سيّد الشهداء× من أمّه فاطمة÷، ولا من أيّ امرأةٍ أخرى، أمرٌ تفرَّد به بعض روايات الشيعة، مع أنّه أمرٌ عجيب في نفسه، ولا يمكن إخفاؤه، بل ـ كما هو معروفٌ ـ لو كان لبان، ولكنْ لم تذكر هذه الروايات ولو بصيغة التمريض، وبلا تسمية قائله، بل حتّى في عداد الروايات الموضوعة والمختلقة في مصادر أهل السنّة، بل لم يذكر في كثيرٍ من مصادر أعلام الإمامية، التي هي في حياة سيّد الشهداء× وسيرته، كالإرشاد للشيخ المفيد، وكشف الغمة للإربلي، بل والخصيبي الغالي في هدايته.

وعليه إنّ ما ورد في بعض الروايات من أن سيّد الشهداء× لم يرضع من أمّه فاطمة÷، ولا من أيّ امرأةٍ أخرى، لا يمكن الاعتماد عليها، بل هو مخالفٌ للتاريخ الصحيح، فلا يبعد الحكم على الروايات المذكورة بأنها من الأخبار الموضوعة من ناحية الغلاة.

الهوامش

(*) باحثٌ متخصِّصٌ في مجال علم الكلام والرجال.

([1]) الكافي ‏1: 464 ـ 465، ح4، باب مولد الحسين بن عليّ.

([2]) كامل الزيارات: 56 ـ 57، ح4.

([3]) كامل الزيارات: 57، ذيل ح4.

([4]) الكافي ‏1: 465، ذيل ح4، باب مولد الحسين بن عليّ.

([5]) علل الشرائع ‏1: 205 ـ 206، ح3.

([6]) مناقب آل أبي طالب ‏4: 50.

([7]) المصدر نفسه.

([8]) انظر: رجال النجاشي، الرقم 277.

([9]) رجال النجاشي، الرقم 621.

([10]) رجال النجاشي، الرقم 660.

([11]) رجال ابن الغضائري: 77، الرقم 88.

([12]) انظر: رجال الكشّي، الرقم 851.

([13]) انظر: إبصار العين: 93.

([14]) الباب الحادي عشر: 3 ـ 4. لاحِظْ أيضاً: عدّة الأصول: 2: 730 ـ 731؛ معارج الأصول: 199؛ الألفية: 38؛ المقاصد العليّة: 21؛ مناهج الأحكام: 294؛ الفصول: 416.

([15]) منتقى الأصول: 4: 300.

([16]) انظر: رجال الطوسي، الرقم 1006.

([17]) إبصار العين: 93.

([18]) المستدرك 3: 180. وانظر أيضاً: المستدرك 3: 176 ـ 177.

([19]) المجدي في أنساب الطالبيين: 13 .

([20]) عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب: 191.

([21]) تاريخ مدينة دمشق 14: 114.

([22]) انظر تهذيب الكمال 6: 397 ـ 398؛ بغية الطلب في تاريخ حلب 6: 2565 ـ 2566؛ البداية والنهاية 6: 258.

([23]) سير أعلام النبلاء 3: 440، الرقم 82.

([24]) انظر المعجم الكبير 3: 23، ح2541؛ أسد الغابة 2: 10؛ الذرية الطاهرة النبوية: 106، ح109.

([25]) انظر مسند أحمد بن حنبل 6: 339، وفيه: الحسن، وقارنه مع: تاريخ مدينة دمشق 14: 196 ـ 197؛ البداية والنهاية 6: 258؛ وفيهما: الحسين.

([26]) الأمالي: 142، ح144.

([27]) انظر روضة الواعظين: 154 ـ 155؛ مناقب آل أبي طالب 3: 226.

([28]) انظر الإرشاد 2: 129؛ دلائل الإمامة: 179؛ تاج المواليد: 85؛ إعلام الورى بأعلام الهدى 1: 426؛ اللهوف: 14؛ كشف الغمّة 2: 7.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً