أحدث المقالات

مدخل ـــــــ

أثير بشدّة في العقود الأخيرة سؤال ملحّ حول الحاجة إلى الأخلاق، المعنويات والتعاليم الأخلاقية، وتعرّضت مفاهيم مثل: الحياة بأخلاق، والسلام، والتعاطف، والإيثار و.. لمناقشات جادّة، مع أنّ البشر كانوا دائماً يجيبون بشكل فطري عن مثل هذه الأسئلة المتعلّقة بفلسفة الأخلاق، وكان السابقون ـ وخاصّة العلماء القدماء ـ يتحدّثون بشكلٍ يؤكّد أن أحكام الدين وأصوله الأخلاقية على حقّ، ولم يكن أحد يتساءل عن ضرورة الالتزام بالدين والأخلاق والاعتقاد بهما؛ فأيّ سؤال من هذا النوع كان يعتبر للجميع أو الغالبية شبيهاً بالسؤال عن سبب رؤية الإنسان الأشياء بعينيه وسمعه لها بأذنيه و.. حتى وصل الأمر إلى حماية الملوك والأمراء أيضاً الدين بغية التقرّب للناس وكسب رضاهم وتأييدهم، وكذلك علماء الدين؛ حيث حظوا بمكانة مميزة عند الناس، معتمدين على قدرة الدين وتعاليمه وقيمه.

وبعبارة أخرى: لم يكن في الميدان مبارزٌ قوي ولا منافس صلب ولا لغةٌ حادة وفكرٌ جوّال، وكذلك لم يكن هناك <داروين> ولا <ماركس> ولا <هيوم> ولا <باركل>؛ لذا كان العلماء يتفرغون لدراسة الموضوعات الفرعية.

أما اليوم، فهناك شعور بمواجهة العقول والقلوب وخاصّة عند الشباب؛ حيث تُطرح التساؤلات على دعاة الأخلاق وفلسفتها، وتقع المسؤولية على كاهلهم، بما لا يمكن معه غضّ النظر عن الواقع القائم أو منع الآخرين من سماع الأسئلة الجديدة، فلا يمكن لأحدهم أن لا يسمع أو لا يتكلم حول الفلسفة الوجودية، والماركسية، والبراغماتية، وكلّهم يشتركون في منطق واحد، ألا وهو نسبية الأخلاق والقيم، وعدم إطلاقها ولا أصالتها ([1]).

وعليه، فهناك أزمة عميقة ومصيرية، فقد تكلّم علماء كبار ـ خاصةً في الغرب ـ وكتبوا الكثير حول الأخلاق وعلمها، وفلسفتها، وفلسفة علم الأخلاق، ووسط هذه الأزمة الكبرى نتساءل: أين هو موقع الحكماء المسلمين؟ وأين هي إجاباتهم؟ وما هي؟

ينبغي الإذعان بالحاجة اليوم إلى المعنويات والأخلاق والمفاهيم القيمية، وأنّ هذه الحاجة غدت ملموسةً بشكل أكبر لأسباب كثيرة، منها الاكتئاب، والاضطراب، والإنفصام.. وهي أمراض عصر الاتصالات وثورة المعلوماتية والتكنولوجيا، والمدنية الحديثة، وبممارسة عدم مبالاة بهذه الحاجة ستتكوّن مخاطر جدية تواجه مصير البشرية جمعاء.

وما ذكرناه، يوضح تعقيدات مباحث فلسفة الأخلاق وعلمها وفلسفة هذا العلم؛ إذ مع انتشار فكرة أصالة النسبية والترويج لها بقوّة، نواجه تحدّياً بنيوياً يقول: ماذا يعني الوصول إلى السعادة عن طريق اتباع القوانين الأخلاقية؟ ما معنى السعادة؟ كيف يمكن تفضيل نظام أخلاقي على آخر؟ وما هو معيار المقارنة والتقييم والتفضيل؟ وهل يمكن الوصول إلى معيار مشترك يقارب بين هذه التقييمات والأهداف والآمال؟ أم أن القضية أنّ هناك أشخاصاً معينين في ظروف خاصة ومكان وزمان محدّدين، يتوافقون على طريقة منظّمة مرحلية للتعامل فيما بينهم، مع إمكانية التعديل والتغيير؟ والأهم من هذا كله، هل صورة الفعل هي التي تملك القيمة، ومعيار المدح والذم، وليس ثمة عامل آخر يجعل الفعل الواحد حسناً وقبيحاً؟

ما هي الأخلاق؟! ـــــــ

الخُلُق ملكةُ النفس التي تستدعي صدور الأفعال عنها بسهولة ودون حاجة للتفكير والتمرين، فهي ـ أي الملكة ـ كيفية نفسانية بطيئة الزوال، ومع هذا القيد فإنّ <الحال> يخرج عن هذا التعريف؛ لأنّه كيفية نفسانية سريعة الزوال، وقيل: إنّ سبب وجود الخُلُق إما المزاج والطبيعة أو العادة والتمرين على القيام بفعل بطريقة خاصة أو التكلّف وتحمّل المشقة والصبر عليها حتى يتحوّل إلى ملكة، فيصدر من الإنسان بسهولة، حتى لو كان مخالفاً لمقتضى مزاجه.

واختلفوا في إمكان زوال الخلق وعدم إمكانه؛ فرأى فريق أنّ بعض الخُلق <طبيعيٌّ>؛ ولذلك فإنّ زواله محال، وبعضه غير طبيعي، بل ناتج عن أسباب خارجية؛ ولذلك يكون زواله ممكناً، والمرجح هو الرأي القائل بأنّه لا يوجد خُلق طبيعي أو مخالف للطبيعة، بل مع النظر لذات النفس نرى عندها قابلية كهذه أو استعداداً للاتصاف بإحدى هاتين الخصلتين المتضادتين، إما بسهولة إن وافق الأمر مزاجها، أو بصعوبة إن خالفه، وحجّة هؤلاء، أنّ كل خلق قابل للتغيير، و كل ماهو قابل للتغيير ليس طبيعياً ولا ذاتياً؛ وعليه فلا يوجد أيّ خُلق ذاتى أو طبيعي، فالصغرى وجدانيّةٌ والكبرى بديهيّة، لأنّ الشرير يصبح خيّراً بصُحبة الصالحين، والخيّر يغدو شريراً بصحبة الأشرار، ولأنّ التأديب له أثر عظيم في زوال الأخلاق، ولو كان غير ذلك لبطلت السياسات والشرائع والأديان؛ يقول الله تعالى: >قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا<، ويقول الرسول: <حسّنوا أخلاقكم>، و <بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق>.

أما حجّة الفريق الذي يعتقد بامتناع تبدل الأخلاق، فهي أنّ كل نظام أخلاقي تابع ـ بتمام أجزائه ـ للمزاج، والمزاج لا يتبدّل، وهذا الأمر لا ينفي اختلاف مزاج الشخص الواحد في المراحل العمرية المختلفة، كما يعتقد هؤلاء أنّ الحديث الشريف يؤيّد هذا المدعى؛ حيث يقول النبي: <الناس معادن كمعادن الذهب والفضة>، و <إذا سمعتم أنّ جبلاً زال عن مكانه فصدّقوه، وإذا سمعتم برجل زال عن خلقه فلا تصدّقوه، فإنه سيعود إلى ما جُبل عليه>([2]).

ويعتقد الأستاذ الشهيد مطهري بأنّ الأخلاق من أكثر الألفاظ <إشكالاً> واختلافاً، في إمكانية تعريفها؛ حيث لم يتفق العلماء على تعريفٍ واحد لها؛ فبعض العلماء يعتقد أن الأخلاق، والصفة الأخلاقية، أو التفكير الأخلاقي.. من الألفاظ التي لا تحتاج إلى تعريف، فكلمة الأخلاق رائجة في كلّ اللغات وعند كلّ الشعوب.

يرى صدر المتألهين الشيرازي أنّ الأخلاق تعني التعادل بين القوى أو الحدّ الوسط بينها، والحد الوسط يعني التسلّط واستيلاء العقل والروح على البدن بحدّه الأعلى، وعلى هذا فإن رأيه يُرجع جذر الأخلاق إلى العدالة والتعادل، وفي الواقع، فإنّ الأخلاق من مقولة الحرية (حرية العقل) بأحد المعاني، ومن مقولة حاكمية العقل بمعنى آخر، وسنفصل البحث في هذا الخصوص.

أمّا النراقي صاحب جامع السعادات فيعتقد أن الخُلق والأخلاق تتحصّل عن طريق حفظ اعتدال الفضائل([3]).

ويقول صدر المتألهين في كتاب <كسر أصنام الجاهلية>: إنّ تكرار الأفعال الشهوية والغضبية وكثرة الأعمال الجسمانية القبيحة، يوجب تعلّق النفس بالأمور الدنيوية والمادية، وجعلها تألف الظلمات الدامسة، وهو ما يمنع بصيرة العقل عن إدراك الحقائق العلمية، والذي تأتي منه السعادة الأخروية والبراءة من الشقاوة السرمدية؛ حيث يقول الله تعالى: >خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ<؛ لأنّ اشتغال النفس بالأمور الدنيوية يوجب انصرافها عن عالم القدس([4]).

الأخلاق: من أيّ المقولات هي؟؟ ـــــــ

يعتقد الحكماء أنّ الوجدان هو جذر الأخلاق، مع اعتقاد بعدم كونه حسّاً مستقلاً عن حسّ معرفة الله، وفي المقابل يذهب <كانط> إلى أنّ نداء الوجدان بوصفه تكليفاً معيّناً، ينبع من ضمير الإنسان نفسه، ويبيّن القرآن الكريم أنّ الوجدان والإلهامات الوجدانية كلّها ناشئة من فطرة معرفة الله عند الإنسان >فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا< (الشمس: 8).

ويرى الشهيد مطهري أنّ الأخلاق كالعبادة، فكما يمارس الإنسان عبادة الله بشكلٍ عفوي ومن خلال اللاوعي، فإنّه كذلك يتبع سلسلة من القوانين الإلهية بالطريقة نفسه، وعندما يتبدل اللاوعي عند الإنسان بالوعي ـ حيث جاء الأنبياء لأجل هذا ـ تصبح تمام أعمال الإنسان أخلاقيةً ومقدّسة، أي أنّ الأكل و.. يغدو عبادةً وخلقاً، >إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ< (الأنعام: 162)، وبهذا تكون النتيجة أنّ الأخلاق يمكن تبريرها والاستدلال عليها فقط في مذهب عبادة الله([5]).

فلسفة الأخلاق أم علم الأخلاق؟ ـــــــ

بغض النظر عن التعاريف المتعدّدة للمفاهيم السابقة، يمكننا أن نخلص إلى أن القدر المشترك لتعاريف علماء الإسلام يبيّن أن علم الأخلاق ـ بأصوله ومبادئه ـ يهدي الإنسان نحو أفضل مناهج السلوك والعمل، وأكثرها ثباتاً ـ العلم والعمل لا ينفصلان عن بعضهما أبداً ـ فالعلم والعمل لا يملكان اعتباراً إلا على أساس الأخلاق الحسنة، وكل من كان عنده معرفة أخلاقية يغدو مسؤولاً؛ وعليه يقسّم علم الأخلاق إلى فروع نظرية وعملية.

أمّا علم الأخلاق النظري، فهو العلم الذي يبحث في أساس وبنيان الخير وفكرة الفضيلة، بصرف النظر عن المصاديق والأفراد، كالبحث حول العبادة بما هي عبادة لا عن الصوم والصلاة.. ولهذا يسمّون علم الأخلاق النظري بفلسفة الأخلاق، بينما لا يُعنى علم الأخلاق العملي بمباحث الخير المطلق أو الفضائل، بل يعالج مصاديق الخير التي تنضوي في إطار الحواس، وكذلك الفضائل في عالم الواقع، كالوفاء وأداء الأمانة والإحسان إلى المعسرين.

وبناءً عليه؛ يغدو موضوع علم الأخلاق النظري هو <البضاعة> التي لا توجد في الخارج إلا بوجود أجزائها وأفرادها، فيما موضوع علم الأخلاق العملي هو المصاديق المحسوسة والعينية كالسخاء والشجاعة، مع الالتفات إلى أنّ علم الأخلاق النظري (فلسفة الأخلاق) ليس هدفاً بنفسه، بل هو مرحلة تقود الباحث إلى العمل والتطبيق.

وبشكل مختصر: العلم النظري للأخلاق بمنزلة المعرفة، فيما العلم العملي لها بمنزلة السلوك، والارتباط قائم بين الاثنين، ويرى الشيخ محمد جواد مغنية أنّ علم الأخلاق النظري يعدّ وسيلةً للعمل بمقتضيات القواعد الأخلاقية، كالعلاقة بين الإيمان والعمل الصالح([6]).

الأخلاق بين العقل والوجدان، وقفه مع نظرية كانط ـــــــ

ويقول الأستاذ مطهري: يعتقد قدماء الفلسفة الإسلامية أنّ أحكام العقل على قسمين: أحكام العقل العملي، وأحكام العقل النظري، أي أنّ قسماً من أعمال العقل هو إدراك الأشياء التي هي موجودة، واسمه العقل النظري، وقسماً آخر يُدرك الأمور التي ينبغي القيام بها، واسمه العقل العملي، وقد تركّزت فلسفة <كانط> على نقد العقل العملي والعقل النظري، وعن الصادر عنهما؛ ليصل <كانط> إلى أنّ العقل النظري لا يمتلك تأثيراً وفعلاً كبيراً، بل الأساس هو العقل العملي، والذي يصل إلى الوجدان.

يقول كانط: الوجدان أو العقل العملي سلسلة من الأحكام والقوانين، لم يصل البشر إليها عبر الحسّ والتجربة، بل هي جزء من طبيعة الإنسان وفطرته، فالصدق ـ مثلاً ـ أمرٌ موجود قبل أن يجرّبه البشر، وبالتالي فهو فطري يحمله الإنسان منذ الولادة، ولا يرتبط بالحس ولا بالتجربة، فالأمر بالصدق مطلقٌ ولا علاقة له بنتائج الأعمال، مثلاً، نحن نقول للآخر: كن صادقاً، وفيما بعد نقوم بالاستدلال على هذا الأمر بأن من يقول الصدق يصبح ثقةً عند الناس، ولا يضلّهم، إلى غير ذلك من الحسنات، كما نذكر نتائج للكذب، وهنا يقول كانط: لا علاقة للوجدان الأخلاقي بهذه النتائج، فالعقل هو الذي يُعنى بمتابعة المصلحة ويسعى إليها دوماً، وأحكامه دائماً مشروطة، أي أنه يأمر دائماً بما يكون محوره المصلحة والنفع، وعندما تنتفي هذه المصلحة يتراجع العقل ويأمر بعدم القيام بالعمل السابق الذي كان قد أمر به، وعندما يسمح الأخلاقيون أحياناً بالتصرّف خلاف الأصول الأخلاقية، فالسبب أنهم لم يريدوا أن يستلهموا من الوجدان ويتبعوه، بل يريدون الاحتكام للعقل الذي يأمر باتّباع المصلحة، لا إلى الوجدان؛ لأنّ الأخير يقول: كن صادقاً.. وحكمه هذا مطلق، أي كن صادقاً مهما حصل، ولو كانت النتائج مضرّةً لك، ولا تكن كاذباً حتى لو كانت هناك مصلحة من وراء هذا الكذب، تماماً كما يقول الشاعر حافظ الشيرازي.

ويضيف كانط بأن الإنسان جاء إلى هذه الدنيا مكلّفاً وحاملاً لهذه التكاليف الأخلاقية، فهناك قوّةٌ في داخله تُصدر له دائماً الأوامر، ولا يوجد أحدٌ في هذه الدنيا قام بعمل غير أخلاقي ولم يتجرّع طعم الندم على فعله([7]).

ويرى الدكتور مجتهدي، في نقده للرسالة الصغيرة <مشروع السلام الثابت> لكانط، والتي تعتبر ـ نوعاً ما ـ استمراراً منطقيّاً لمشروعه العام في فلسفته النقدية، أنّ فلسفة كانط، مع ما لديها من انسجام وقدرة داخلية، تعتبر أنّ الإنسان يتعرّف على القيم الأخلاقية الحاكمة على ما يمكن تسميته الوجدان، ثم يلتزم باتباعتها وإطاعتها، وهذا ما يعطي شكلاً من أشكال الفردية، ويبيّن كانط المسألة وكأن هناك استقلالاً تاماً لهذا الوجدان، وأنّه لا يوجد أيّ تأثير خارجي عليه، ولا حاجة له به، كما لا ينتظر أيّ أجر وثواب، حتى لو كان غير مادي، كالسعادة والرضا الداخلي.

وعلى كل حال، ففي هذا النظام القيمي المستقلّ، سواءً من جهة <الأساس المابعد الطبيعي للأخلاق>، أو من جهة <نقد العقل العملي>، لم يتمّ التوجّه ولا الالتفات للجانب الاجتماعي في سلوك الإنسان، مع أنه اعتبر أن الإنسانية إحدى الضوابط الأصلية للحكم التنجيزي للأخلاق، أي الحكم غير المشروط.. مع الإشارة بالطبع إلى أنّ كانط كان ينظر إلى الاستحكام الصوري للأحكام أكثر من نظره إلى محتواها وموارد إجرائها، فالأصول في الدرجة الأولى هي الأساس، لا المصاديق الجزئية التي يُحتمل أن تتبعها.

من هنا، لا يمكن نسيان أنّ النظام الأخلاقى لكانط له جانب فردي، ولا ينتج عنه بسهولة الضوابط اللازمة للعلاقة بين الأفراد تحت سقف الحياة الاجتماعية، ومن هذه الجهة مهما تكن الأصول الأخلاقية مقبولةً في حدّها الفردي ـ ولربما بسبب عدم إمكان تعميمها في الحياة الجمعية ـ ستبقى الحاجة ملحّةً لأصول وضوابط لا تأتي هذه المرّة من الداخل، ومن إلزامات الوجدان الفردي، بل هي أحكام ناشئة من ضرورة الحياة الجمعية، تُفرض علينا من الخارج، أي تلك الأصول التي تبيّن وفقها القوانين الحقوقية.

وتفتقد هذه القوانين ـ حيث لها وجهة اجتماعية خارجة عن الفرد ـ إلى الوُجهة غير المشروطة والتنجيزية للمقرّرات الأخلاقية، لكن في الوقت نفسه يوجد بينهما نوعٌ من النطاق المشترك أيضاً؛ فنحن إذاً أمام مفاهيم لها جانب أخلاقي، وفي الوقت نفسه لها جانب حقوقي من قبيل: الإلزام، والأمر المجاز، والأمر الممنوع، والتكليف، والعمل وغير ذلك؛ وهنا لا شك أننا أمام <شخص> لا أمام <فرد> في كلا الموردين، ففي فلسفة كانط، يختلف الشخص عن الفرد؛ فالشخص مسؤول بشكل كامل وملتزم بالقانون بشكل <كلّي> سواء الأخلاقي منه أو الحقوقي، وهو ـ عند كانط ـ فاعل يضع عمله في حسابه، أي أنه يتحمّل نتيجة أعماله وتصرفاته، وينبغى التأكيد هنا على أن الشخص الأخلاقي مسؤول أمام الأوامر الناشئة من داخله، أمّا الشخص الحقوقي فهو مسؤول أمام الأوامر القانونية التي تأتي من خارجه وعلى أساس <الحق>([8]).

أنماط التفكير الأخلاقي، أطروحة فرانكنا ـــــــ

أمّا الفيلسوف الأميركي فرانكنا، فيذكر ـ في متن درسي مشهورٍ له باسم <فلسفة الأخلاق>، وفي مقالات عديدة حول الأخلاق ـ ثلاثة أنواع من التفكير المتعلّق بالأخلاق بشكلٍ أو بأخر:

أ ـ التفكير القائم على توصيف الظاهرة الأخلاقية كأمرٍ واقع وغالباً ذي جنبةٍ تجربية، وهذا النوع من التفكير الأخلاقي له انتشار واسع وتأثير عالٍ على الأبحاث والدراسات المتنوّعة من علم الاناسة (الانثروبولوجيا) إلى علم النفس، فيما يتعلق بالعامل الأخلاقي، أي الإنسان.

ب ـ التفكير النمطي والمنهجي، والذي يُستخدم من أجل التوصّل الى ما هو حسن أو قبيح، وإلى الحالات المختلفة للإنسان، وتشمل دائرة هذا النوع من التفكير الأحكام الجزئية، مثل <من الجيد القيام بالعمل الفلاني في الساعة الفلانية>، وصولاً إلى <أنّ المعيار الجيد لأي عمل هو النفع والربح الذي يجنيه الإنسان منه>.

ج ـ التفكير التحليلي، وله بُعد ما وراء أخلاقي، ويبحث ـ دون أي تقييم وتبنّي لمعيار ما ـ في حُسن الأعمال وقبحها، بل يدرس المفاهيم المستخدمة في النصوص الأخلاقية، فمثلاً: ما هو معنى كلمة <جيدة> في الجملة المثالية: <العدالة جيدة>؟ وقسمٌ مهم من هذا التفكير هو ما وراء أخلاقي، وهناك أيضاً مباحث أخرى هامة مثال سؤالنا حول: كيف يمكن لنا أن نتعرّف على حُسن وقبح عمل ما؟، كما أنّ علم معرفة الأخلاق هو أيضاً جزء من الأبحاث ما وراء الأخلاقية، إضافةً إلى مثل تعريف المسؤولية الأخلاقية، وشروط تحققها كحرية الإرادة، وجميع هذه المباحث يعرف عادة بـ <ما وراء الأخلاق> (Meta-Ethics).

ونشير هنا الى وجود اختلاف في النطاق الذي تشمله مسائل فلسفة الأخلاق؛ حيث يعتقد بعضهم أنّ التأمل الفلسفي يدور حول الأخلاق؛ ولذا ينبغي اجتناب الدخول في المباحث الأخلاقية ذات الدرجة الأولى، وكذلك اجتناب اتخاذ موقف أخلاقي؛ وعليه يعتقدون بأنّ مسائل فلسفة الأخلاق ينبغي أن يكون لها طبيعة من الدرجة الثانية، حيث تكون محدودة فقط بمسائل ما وراء الأخلاق <النوع الثالث من التفكير الأخلاقي>، لكنّ نظرةً أكثر تقليديةً تعتبر أن دائرة مسائل فلسفة الأخلاق أكثر عموميةً من ذلك، وبعضهم يعدّ هذا النوع من التفكير المنهجي <النوع الثاني في تقسيم فرانكنا> جزءاً من مباحث فلسفة الأخلاق، كذلك نوع التفكير المنهجي الذي يهدف الوصول إلى أصل أصول القيم الأخلاقية، والذي يسمّى بالنظرية الأخلاقية (Ethical Theory)؛ فهو أيضاً جزء هام من فلسفة الأخلاق.

ولا شك هنا بأنّ الدخول في بحث الأحكام الأكثر جزئيةً أو حتى الأصول المتوسّطة للأخلاق لا يدخل في إطار عمل فلسفة الأخلاق، بل يُبحث هذا بشكل أكبر في فرع خاص من الأخلاق، والذي يدعى الأخلاق التطبيقية (Applied Ethics).

لقد اتّبع <فرانكنا> في كتابه هذا النظرة التقليدية المذكورة، حتى أنه اعتبر أنّ بعض المباحث المتعلّقة بالتفكير الأخلاقي من النوع الأول (والذي له تأثير على مباحث النظرية الأخلاقية أو ما وراء الأخلاق) جزءٌ من فلسفة الأخلاق، مثل (التمحور حول النفس في علم النفس)، ونظرية أصالة اللذة، التي تبحث في فطرة وجبلّة الإنسان لكنها ذات تأثير على اختياره للنظرية الأخلاقية الصحيحة([9]).

الأخلاق والمعايير ـــــــ

لقد غدت المصلحة أقصى أماني البشر اليوم، وهم إن كان يصلون عن طريق عقلهم النظري من معلوماتهم إلى المجهولات، فإنّ كلّ هذه المعطيات والمعلومات والمقدّمات التي تقودهم للمجهولات قد جاءت واستُلهمت من نظرتهم المصلحية هذه، أما في الإسلام، فإنّ تلازم الفكر اليقظ، أي الوجدان والنفس اللوّامة مع العقل النظري مهمّ جداً، وفلسفة الأخلاق تقوم على أساس هاتين القاعدتين (العقل النظري والوجدان)؛ حيث >عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ<؛ لأنّ الخير والفضيلة في الإسلام محبوبان في ذاتهما ومرغوبان ومطلوبان، ليس من جهة النفع الذي يجلبانه، وكذلك الشرّ أيضاً مذمومٌ وقبيح، ولو كان محلّ رغبة الأفراد، حيث <انظر ما قال ولا تنظر مَن قال>.

وبعبارة أخرى: إنّ الوجدان الطاهر نورٌ فطري يُظهر الحقيقة دون قياس وحجّة ومقدمات؛ ولذا سمّوه بـ <الذات الأخلاقية>، <الأخلاق الإنسانية> أو <قانون القلب>، والشخصية الحقيقية للإنسان إنّما تكتمل من خلال مؤلّفتين هما: العقل والوجدان([10]).

يذكر <فرانكنا> في الفصل الثاني من كتابه، أن المعايير الأخلاقية السائدة في المجتمع لا يمكنها أن تكون معاييرَ للصواب والخطأ؛ لأنها ـ أولاً ـ غير دقيقة، وغالباً ما تكثر فيها الاستثناءات التي لم يكن المعيارُ نفسه قد توقعها وتنبّه إليها، كما تتعارض ـ ثانياً ـ وأحياناً مع بعضها البعض؛ لتنتهي حيناً بأن تصبح نفسها غير أخلاقية ولا عادلة.

ويريد <فرانكنا> من خلال هذه الملاحظة أن يشير إلى لزوم دراسة معيار الأخلاق، ثم يضع مجموعة النظريات الأخلاقية التي تناولت موضوعة المعيار في مجموعتين أساسيتين: أصالة الغاية، وأصالة الوظيفة.

في نظرية أصالة الغاية، ترتبط القيم الأخلاقية لأيّ عمل بشكلٍ كامل بالقيم غير الأخلاقية التي ينجرّ إليها هذا العمل في النهاية، مثلاً <حُسن الصدق> يرتبط بأن يكون قول الصدق موجباً للأمن والثبات الاجتماعي، والذي هو بدوره خيرٌ ومطلوب للإنسان، لكنّه من نوع القيم غير الأخلاقية لحياته.

أما في النظريات الوظيفية، فإنّ القيمة الأخلاقية لعملٍ ما لا ترتبط فقط بالنتائج والآثار غير الأخلاقية له، بل ترتبط أكثر بوجوه العمل نفسه، كأن يكون توافقاً عمومياً أو مورداً للأمر الإلهي؛ وعليه ففائدة قول الصدق لا تنحصر في الفائدة العامّة للنظم والأمان، بل تتعدّى ذلك لتستبطن في مصير العمل نفسه أو في جعل العمل ووضعه بعنوان توافقٍ أو في الأمر به من قبل الله([11]).

السؤال الهام هنا: هل الدين وأنظمته الفلسفية هما معيار الأخلاق؟ أم أنّ علم الأخلاق العملي (الحكمة العملية) نفسه هو المعيار؟

على الرغم من عقيدة المؤمنين، بأن الوحي أحد مصادر علم الأخلاق، لكنّ هذه العقيدة لا تعني أنّه ليس علماً مستقلاً، أو أنه علمٌ ديني بحت([12]).

من هذا المنطلق، كان <علم الأخلاق العملي> محكّاً للصحّة والخطأ، وكان يقود المتحيّرين في مقابل الآراء والأفكار الفلسفية والتقاليد والعادات التي يدّعي كلّ منها أن نظامه الفكري هو الأتمّ والأفضل، ومن الطبيعي أن ديناً كالإسلام، والذي يصبّ كلّ اهتمامه وجهده على تقوية هذه المعايير، يستخدم علم الأخلاق العملي ويهتم بهذه المعايير، بل يجعلها خالدةً؛ حيث يقول الله تعالى: >فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً
وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ …
< (الرعد: 17).

وبهذا تبيّن أنه إذا كان الهدف من علم اللغة عصمة اللسان عن الوقوع في الخطأ في الكلام، وكان الهدف من علم المنطق صيانة الفكر عن الوقوع في الخطأ في الحكم والاستنتاج؛ فإنّ الهدف من علم الأخلاق أيضاً هو حفظ الإنسان عن الوقوع في الخطأ في السلوك والتصرّف؛ بحيث يخطو الإنسان في طريقٍ مستقيم بعيداً عن الهوى والتقليد الأعمى، وبكلمة واحدة: هدف كلّ علم ـ غير علم الأخلاق ـ الابتعاد عن الخطأ في القضايا المتعلّقة به، أما هدف علم الأخلاق فهو إيجاد مجتمع يقوم على أساس السعادة وسيادة العدل والأمن والتعاون لحفظ الحياة من الفساد والظلم، وكلّ ما من شأنه أن يسوق المجتمع نحو الشقاء والطغيان([13]).

من هذه الجهة، يتلازم كلّ حق أو واجب عملي يقع في إطار الأخلاق العملية، مع مفهوم الواجب؛ حيث يقع على الإنسان في مقابل كلّ حق تكليفٌ وواجب، فأكثر القدماء قسّموا التكليف أو الواجب إلى ثلاثة أنواع هي: 1ـ المسؤولية أمام الخالق تعالى. 2ـ المسؤولية أمام نفسه. 3ـ المسؤولية أمام المجتمع والآخرين([14]).

علم الأخلاق: الشرف والمكانة والمادّة والنطاق ـــــــ

ما هو مجال الأخلاق والتعاليم الأخلاقية؟ وهل أنّ علم الأخلاق أشرفُ العلوم؟

بما أنّ موضوع علم الأخلاق هو النفس الناطقة؛ فمن اللازم الإشارة إلى بحث النفس، أي ينبغي معرفة النفس أكثر؛ كونها صاحبة الخُلق؛ فالنفس تلك الجوهرة الملكوتية المجرّدة التي استخدمت الجسد لقضاء حاجاتها، وهي الإنسان وذاته، وتسمّى باعتبارات متنوّعة: الروح، العقل، القلب، ولها أربع قوى: قوة عقلية ملكية، قوة غضبية سبعية، قوة شهوية بهيمية، وقوة وهمية شيطانية، وشأن القوة الأولى إدراك حقائق الأمور والتمييز بين الخير والشرّ، والأمر بالأفعال الحسنة والنهي عن الصفات السيئة و.. ولكلّ قوة منها فوائد جمّة.. وكلّما غلبت القوة العاقلة بقية القوى سمّيت النفس مطمئنةً.. ويسمّي القرآن الكريم إصلاح النفس وقواها فلاحاً؛ حيث يقول: >قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا<([15])؛ فمن الواضح إذاً أنّ المقصود من النفس هنا ليس النفس الأمّارة التي قد أمرنا دائماً بمقاومتها، وهي ـ أي الأمّارة ـ غير النفس التي ذكرت بأسماء: الكريمة، العزيزة أو الذات الأصلية، أو الأنا الحقيقية، أو النفس اللوامة.

يعتقد الشهيد مطهري أنّ الجانب الكلّي والجمعي ـ وليس الفردي ـ هو المقصود <بالذات الأصلية>، والذي تحيا بها تمام الأخلاق المقدّسة عند الإنسان، >لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ<([16])؛ وعليه، فمعرفة النفس بجهة تحديد هاتين الذاتين المذكورتين سابقاً، ولأنّها مجموعة تمام الموجودات، وكلّ من عرف النفس فقد عرف كلّ الموجودات، وأعلى من ذلك فقد عرف روح الوجود؛ حيث يقول الرسول الأعظم2: <من عرف نفسه فقد عرف ربّه>، وكذلك أمير المؤمنين %: <عجبت لمن ينشد ضالّته ولا ينشد نفسه>، وكلام الإمام هذا يمكن أن يشرح أحوال الأشخاص الذين لا يهتمّون بالجزء الرئيس من وجودهم، ولا يحصّلون الملكات الحسنة عن طريق الحكمة العملية.

إذا كان وعاء التعاليم الأخلاقية هو تلك النفس، الروح، القلب أو العقل، وكان القلب الحقيقي أفضل أجزاء الإنسان، كما يعبّر الملاّ صدرا، ولا يكتمل إلا بالعلم والمعرفة، كما لا شك أنّ الباري تعالى هو أفضل المعلومات.. فإنّ كمال هذا الإنسان البسيط إنّما هو بالعلم بالله سبحانه، لا بالأكل والشرب وسائر الأفعال والانفعالات.. فإذاً، أفضل الناس هو الذي يصرف عمره في عمارة القلب، وذلك أيضاً عبر ذكر الله ومعرفته التي هي أفضل المعارف([17])، وبهذا سيكون علم الأخلاق أشرف العلوم؛ حيث يرجع شرف كلّ علم إلى موضوع ذلك العلم وغايته([18]).

إنّ معرفة النفس مقدّمةٌ للأخلاق ومعرفة الله؛ فينبغي للإنسان معرفة نفسه كي يعرف ماذا ينبغي أن يفعل في هذا العالم، وهذه الحياة، وفي معيشته الخاصة، وأيّ سلوك يتخذ، وليعرف حقيقة أخلاق نفسه وعملها([19]).

النفس والعقل والأخلاق في فلسفة الملا صدرا الشيرازي ـــــــ

يرى صدر المتألهين الشيرازي أنّ العقل هو ملاك الأخلاق، والعقل عنده هو العقلّ الحرّ الذي أشرنا إليه سابقاً، كما يعتقد أنّ جوهر الإنسان هو قوّته العاقلة، ويعتبر أن للعقل جانبين: أحدهما نظره للأعلى وبحثه عن الحقائق، والآخر للأسفل ومن خلاله يدبّر شؤون حياته، فإن أراد العقل أن يحكم بين كلّ القوى، بحيث لا تستطيع أيّ منها أن تتخطّاه، فالسبيل الوحيد أن يضعها في مقابل بعضها.

لقد كان صدر المتألّهين وأمثاله يعتبرون العدالة والحدّ الوسط، هما <المزاج العقلي>، فإذا كان الانسان متوسّطاً من ناحية الملكات، فإنّ حكم العقل سينفذ بشكل بسيط وسهل، وعندها لن يضايق الجسم الروحَ أبداً، والروح بدورها ستكتسب كمالاتها حينئذٍ.

لكن هل يمكن معرفة النفس والروح دون معونةٍ خارجية؟ يكتب صدر المتألهين: إنّ معرفة الروح من العلوم الصعبة، حيث إنّ علماء كباراً بقوا غافلين عنها، ولم يصلوا إليها على الرغم من قدراتهم الفكرية وأبحاثهم الكثيرة.. وبهذا الكلام فإنّ القدرة على التعرّف على الروح ينبغي أن تُستمد من أنوار المصباح النبوي وأنوار الوحي والرسالة والكتاب: كتاب الله وسنّة الأولياء العظام الذين نهلوا من مقام النبي الأكرم والأئمة السابقين([20])، ويقول حول النفس: إنّ النفس من حيث نفسيتها هي نار معنوية، نار الله الموقدة التي تطّلع على الأفئدة؛ ولذا خلقت من نفخة الصدور، فاذا نُفخ في الصور المستعدّ للاشتعال النفساني، تعلّقت بها شعلة ملكوتية نفسانية، والنفس بعد أن تستكمل وترتقى إلى مقام الروح، تصبح نوراً محضاً، ليس فيها أيّ ظلمة ولا أيّ اشتعال، وتغدو إلى مكان تنزلها إلى مقام الطبيعة <نور مؤصدة في عمد ممدّدة>([21]).

ويستدلّ صدر المتألهين على أنّ محل الحكمة هو تلك القوى المجرّدة، عن طريق تزاحم الصور الكثيرة في الجوهر المادي([22])، ومع الالتفات إلى نظريته في النفس وأنّها جسمانية الحدوث روحانية البقاء، يكون أقدر وأصلح استدلالاً من أيّ حكيم، بحيث يمكنه ربط الحكمة العملية بالنفس، وإثبات ظهور النفس عن طريق الملكات العالية بصورة نفس ملكية.. وبصورة نفس شيطانية([23]).

لقد أشير في القرآن في آيات عديدة إلى التقلّب والتحول في النفس وجوهرها: >يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ< و>إِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ..<، وعليه ينصح صدر المتألهين بشدّة بمجالسة الناصحين، وله حديث مفصّل في هذا المجال([24])؛ ليصل ـ بعد عرض عدّة مقدمات ـ إلى أنّ الأرواح التي تنضج بالفضل والعقل لا تهتمّ بنعم الجنة ولا حتى بالحور وغيرها، وكأنه يردد مع الشاعر حافظ الشيرازي:

<باع أبي (آدم) روضة الرضوان بحبتَي قمح

سأكون ولداً عاقاً إن لم أبعها بالشعير

والأسس السبعة التي وضعها مقدماتٍ للنتيجة المذكورة هي:

1ـ شيئية الشيء وحقيقته بالصورة لا بالمادة.

2ـ تشخّص أيّ شيء بوجوده الخاص، لا بالمشخصات والعوارض الخارجية.

3ـ النتيجة الحاصلة من الأساسين السابقين أنّ المُعَاد في المَعَاد هو عين ذلك الموجود المحسوس في عالم الطبيعة.

4ـ ما يراه الإنسان في ذلك العالم من أنواع النعم والعذاب ليس بالشيء المنفصل عن جوهر الذات، ولأن صور ذلك العالم أكثر ثباتاً ودواماً وقدرةً من الصور المادية المتجدّدة؛ فإنّ هذه الصور ليست من خارج عالم الروح، ولا ينبغي لأحد أن يسأل عن الجنة والنار: كيف هما؟ وأين؟.. لأنه قد عُلم أن الجنة والنار في عالم الروح وباطن هذا العالم.

5ـ عالم الآخرة خالدٌ ونعمُه لا تفنى.

6ـ اللذات والنعم تتناسب مع حجم الميول والشهوات؛ وبهذا يتضح أنّ القلب إن لم يتعلّق بذلك العالم، سيبقى محروماً من نعمه الخالدة؛ وعلى هذا الفرض، يمكن القول: إنّ منشأ الخير والشر والجزاء والعقاب والجنّة والنار في عالم الآخرة إنما هو ذات الإنسان، وليس خارجاً عنها؛ لأنها تنبع كلّها من النيات والتأملات والاعتقادات والأخلاق.

7ـ مبادئ هذه الأمور لن تنفصل عن الأشياء التي هي من الروح بحسب الوضع؛ لأن مفاد الأساس السادس كان أن جميع الأمور من الجنّة والنار إنما هو آثار الروح نفسها، ولا يمكن أن تكون منفصلةً عنها([25]).

<إعلم أنّ بعث المخلوقات يوم البعث يكون على أشكال متنوّعة، وذلك بحسب أعمالهم وملكاتهم… >وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ<([26]).

ويقسّم صدر المتألهين مراتب العقل النظري إلى: 1ـ عقل هيولاني. 2ـ عقل بالملكة. 3ـ عقل بالفعل. 4ـ عقل مستفاد. ويقول حول المرتبة الأخيرة: <تقوم النفس في هذه المرتبة باتصالها بالمبدأ الفعّال لها، وبمشاهدة المعقولات، ويغدو الإنسان عندها تمام العالم وصورته؛ ولذا فإنّ الغاية القصوى من إيجاد عالم <الكون> ومسكوناته هي خلقة الإنسان، وغاية خلقته هي مرتبة العقل المستفاد، أي مشاهدة المعقولات والاتصال بالملأ الأعلى>.

وكذلك يقسّم مراتب القوة العملية للإنسان بهذه الطريقة: 1 ـ تهذيب الظاهر عبر اتّباع القوانين الإلهية والشرائع النبوية. 2 ـ تهذيب الباطن وتطهير القلب من الملكات والأخلاق الرذيلة. 3 ـ تنوير النفس عن طريق الصور العلمية والصفات المرضية. 4 ـ فناء النفس عن نفسها وحصر النظر فقط في ملاحظة الربّ الأول وكبريائه، وللكاملين أسفار ومراحل أخرى([27]).

وآخر الكلام حول الحكمة العملية ومباني فلسفة الأخلاق عند صدر المتألهين جاء في كتابه <رسالة الأصول الثلاثة>: <أيها العزيز العالم والمتكلّم الراضي عن نفسه، إلى متى؟ إنزع خال الوحشة عن وجه الألفة، وانفض غبار الكدر عن لقاء الوفاء، وكن مع أصحاب الوفا وأهل الصفا في مقام العتاب والجفا، وانزع عنك لباس التلبيس والريا وقباء الحيلة>.

لقد صيغت <رسالة الأصول الثلاثة> بشكل نثري جذاب ذي مضمون عال عن الحكمة العملية، قام صدر المتألهين من خلالها ببيان الصفات غير الأخلاقية لأهل الظاهر، وأيضاً ببيان العلم الحقيقي، ورأى أن الحجاب الموهوم للدنيا لا يمكن أن يرتفع عن أعين علماء أهل الظاهر كي تتجلّى لهم الحقيقة، ذاكراً ثلاثة أصول في الحقيقة (كمُهلكات للنفس) عند أرباب البصيرة ورؤساء الشياطين: <الأصل الأول هو الجهل بمعرفة النفس التي هي حقيقة الإنسان> في الواقع إن الحكمة العملية عند صدر المتألهين هي نوع من معرفة الذات والإيمان بالآخرة والمعرفة بالحشر، ونشر الأرواح والأجساد، ومن لم يعرف نفسه فلن يعرف الله، فإذاً من ليس عنده معرفة نفس، فليس عنده نفس ولا وجود لها؛ لأنّ وجود الإنسان هي عين النور والحضور والشعور>.

<الأصل الثاني حبّ الجاه والمال والميل للشهوات واللذة وسائر التعلّقات الحيوانية للنفس، والتي تجمع كلّ حبّ الدنيا>. <الأصل الثالث هو تسويلات النفس الأمّارة وتدليسات الشيطان المكّار واللعين الذي يصوّر القبح حسناً والحسن قبحاً، ويعدّ المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وجلّ عمله ترويج الحديث الباطل، وتزيين العمل غير الصالح، والتلبيس والتمويه بالمكر والحيلة.. >، ثم يتعرّض الكاتب إلى مفاسد الإعراض عن معرفة النفس والعلم بالمعاد.

وفي فصل آخر، يشير إلى مفاسد اتّباع الشهوات الدنيوية: <أيها العابد للصورة الغافل، كلّ ما قد قيل كان من باب النصيحة وسلامة القلب من آفات الغضب والحقد والغيظ والحسد، وكان شفقةً عليك وليس عداوةً أو خصومة لك>.

وبهذا يكون قد شرح ـ بشكل غير مباشر ـ طريقة النصيحة المشفقة، وعلاج النفس هو أيضاً من المسائل التي يتعرّض لها صدر المتألهين: <إن وجدت بأنّ هذه الآفات الثلاث أو بعضها في باطنك، فاعلم أنك مريض النفس واسْعَ في علاج هذه الأمراض>.

ثم يقوم ببيان العلم الصحيح: <وهو العلم الذي يكون هو الهدف الأصلي والكمال الصحيح والموجب للقرب من الحقّ تعالى، والعلم مكاشفة. وفائدة العمل التصفية وتهذيب الظاهر والباطن. وفائدة تهذيب الباطن حضور صور العلوم الحقيقية، وهذا ما يُستدل من القرآن والحديث وكلمات الأولياء والعرفاء على الوجه الأتمّ>، ثم يذيّل هذه الرسالة بأشعار من نظمه وأشعار لآخرين([28]).

*   *     *

 

الهوامش

(*) أستاذة مساعدة في قسم الفلسفة والكلام الإسلامي في جامعة طهران .

[1] ــــ محمد جواد مغنية، فلسفة الأخلاق في الإسلام: 30.

[2] ــــ محمد مهدي النراقي، جامع السعادات: 55.

[3] ــــ المصدر نفسه: 128.

[4] ــــ الملا صدرا، كسر أصنام الجاهلية: 99.

[5] ــــ مطهري، فلسفة الأخلاق: 113، انتشارات صدرا، إيران.

[6] ــــ مغنية، فلسفة الأخلاق في الإسلام: 62.

[7] ــــ مطهري، فلسفة الأخلاق: 36 ـ 37.

[8] ــــ نقد نامه همايش أسماء، الكتاب الأول: 3.

[9] ــــ المصدر نفسه، الكتاب الثاني: 77 ـ 78.

[10] ــــ مغنية، فلسفة الأخلاق في الإسلام: 74.

[11] ــــ نقدنامه همايش أسماء، الكتاب الثاني: 79.

[12] ــــ محمد جواد مغنية، فلسفة الأخلاق في الإسلام: 15.

[13] ــــ المصدر نفسه.

[14] ــــ المصدر نفسه: 205.

[15] ــــ محمد مهدى النراقي، جامع السعادات: 61 ـ 62؛ وملا صدرا، الأسفار الأربعة 8: 57.

[16] ــــ مطهري، فلسفة الأخلاق: 94 ـ 95، نشر 15 خرداد، 1362هـ ش/1983م.

[17] ــــ الملا صدرا، كسر أصنام الجاهلية: 20.

[18] ــــ محمد مهدى النراقي، جامع السعادات: 59.

[19] ــــ مطهري، فلسفة الأخلاق: 154.

[20] ــــ الملا صدرا، العرشية: 40.

[21] ــــ الملا صدرا، الشواهد الربوبية: 198.

[22] ــــ المصدر نفسه: 214، 215.

[23] ــــ المصدر نفسه: 222؛ والملا صدرا، الأسفار الأربعة 8: 348، الباب السابع، الفصل الثاني.

[24] ــــ الشواهد الربوبية: 230، 231.

[25] ــــ الملا صدرا، العرشية: 78 ـ 81.

[26] ــــ الملا صدرا، المظاهر الإلهية: 88.

[27] ــــ الشواهد الربوبية: 202، 208.

[28] ــــ الملا صدرا، رسالة الأصول الثلاثة: 46، 93.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً