أحدث المقالات

د. رضا أكبري(*)

أ. عبّاس علي منصوري(**)

ترجمة: وسيم حيدر

مقدّمةٌ

إن عصمة الأنبياء من المسائل التي تناولها المتكلِّمون والمفسِّرون بالبحث والنقاش، وقد اختلفوا فيما بينهم في حدودها وأبعادها.

وقد حظيَتْ هذه المسألة كذلك باهتمام صدر المتألِّهين، حيث تناولها بالبحث في مختلف مؤلَّفاته، ولا سيَّما تفسيره للقرآن الكريم.

وحيث يُعَدّ صدر المتألِّهين أحد كبار الفلاسفة، وكان له بالغ التأثير على آراء ونظريّات المتأخِّرين عنه؛ ومن ناحيةٍ أخرى لم يتمّ تدوين آرائه الكلاميّة بشكلٍ مستقلّ إلى الآن، نجد من المناسب والضروريّ أن نبحث رؤيته حول إحدى أهمّ المسائل الكلامية، ونعني بها عصمة الأنبياء.

ومن الجدير بالذكر أننا في هذه المقالة ـ كما يبدو من عنوانها ـ سوف نسعى إلى تجنُّب التعميمات، ولذلك سوف نقتصر على مجرَّد بحث رؤية صدر المتألِّهين بشأن عصمة الأنبياء من الذنوب، ولن نتعرَّض إلى رأيه بشأن عصمة الأنبياء من الخطأ والزَّلَل. وإذا ورد في هذا الشأن إثارة بعض النقاط في هذه المقالة فسوف يكون ذلك من باب الاستطراد، لا أكثر. والأبحاث التي نستعرضها في هذه المقالة عبارةٌ عن:

1ـ أسلوب بحث صدر المتألِّهين في مسألة العصمة.

2ـ مفهوم العصمة من وجهة نظر صدر المتألِّهين، والتي تحتوي في داخلها كيفية تحقُّق العصمة من وجهة نظره أيضاً.

3ـ تقسيمات العصمة من وجهة نظر صدر المتألِّهين.

4ـ نظرية صدر المتألِّهين بشأن محدوديّة العصمة.

5ـ أدلة صدر المتألِّهين في إثبات عصمة الأنبياء.

6ـ أسلوب صدر المتألِّهين في تفسير الآيات التي تمسَّك بها المخالفون للعصمة.

1ـ أسلوب الملاّ صدرا في بحث مسألة العصمة

لم يتعرَّض صدر المتألِّهين إلى موضوع عصمة الأنبياء في أيٍّ من كتبه الفلسفية، لا في بابٍ مستقلٍّ، ولا ضمن بحثٍ خاصّ. وكان جُلُّ بحثه في هذا الباب يقتصر على رؤيته التفسيرية لتلك الطائفة من الآيات القرآنية التي قد توهم القول بعدم عصمة الأنبياء.

إن ملاحظة التعاريف التي يقدِّمها صدر المتألِّهين، في تضاعيف مؤلَّفاته، في ما يتعلَّق بمفهوم العصمة([1])، وكذلك الأدلّة التي ذكرها في إثبات عصمة الأنبياء، تثبت أن اهتمامه بهذه المسألة كان ذا صبغةٍ كلاميّة أكثر من اعتماده فيها على المباني الفلسفية، وإنْ كان بالإمكان مشاهدة جذورٍ لمبانيه الفلسفية أيضاً في بعض الموارد، من قبيل: تشكيك الوجود، وبساطة الوجود.

إن أكثر الأبحاث التي طرحها صدر المتألِّهين بشأن عصمة الأنبياء إنما تَرِدُ في مقام تفسير الآيات الخاصّة بالنبيّ آدم× في سورة البقرة([2])؛ فإنه على هامش هذه الآيات، ومن خلال تقديم تقسيم للذنوب والقبائح المتوهَّم صدورُها عن الأنبياء، عمد إلى استعراض آراء المتكلِّمين والمذاهب الكلاميّة المختلفة في مسألة العصمة، وعمد إلى نقدها، وبيان آرائه ضمن تضاعيفها.

إن الذي ذكره صدر المتألِّهين بشأن عصمة الأنبياء يشمل مفهوم العصمة، وأقسامها، وأدلّتها، وكيفيتها، الأمر الذي يثبت أنه كان يمتلك رؤيةً جامعة وشاملة لمختلف أبعاد العصمة.

كما أن النظر في أبحاث صدر المتألِّهين يثبت أنه، بالإضافة إلى النقاط الإيجابية، كانت لديه في الوقت نفسه رؤيةٌ ناقدة في هذه المسألة أيضاً، وهذا يعني أنه أورد رؤيته، ودافع عنها، كما ذكر آراء الآخرين، وتعرَّض لمناقشتها ونقدها.

وعلى هذا الأساس، يمكن الادّعاء في مقام استخلاص النتائج أنه قد لجأ في أسلوبه إلى التلفيق بين الأساليب الوصفيّة والتحليليّة والنقديّة.

2ـ مفهوم العصمة عند صدر المتألِّهين

من خلال الرجوع إلى المسائل التي يتعرَّض لها صدر المتألِّهين بشأن تعريف العصمة تقع أمامنا ثلاثة تعاريف، تبدو مختلفةً بحَسَب الظاهر.

وفي ما يلي نعمل على بيانها وإيضاحها:

أـ تسخير القوّة الواهمة وإخضاعها لسلطة العقل

إن العصمة هبةٌ إلهيّة، يختصّ بها الله عباده المخلصون، وبواسطتها يتمّ تسخير القوّة الواهمة ـ التي تلبّي دعوة الشيطان، ولا يمكن لنوع العقل الإنساني أن يتغلَّب عليها ـ، وإخضاعها لسلطة العقل([3]).

بيان ذلك: يلتفت صدر المتألِّهين في خصوص تأثُّر الإنسان بالشيطان إلى ناحيتين، وهما: الناحية الفاعلية؛ والناحية القابلية. وإن فهم المعنى الأخير للعصمة رَهْنٌ بفهم بيانه وشرحه لناحية القابليّة، أو تأثُّر الإنسان بالشيطان. يقول صدر المتألِّهين: إن قصور القوى الإدراكية بين أكثر الناس، وتَبَعاً لذلك عجز هذه القوى في المعارضة والجهاد ضدّ جنود الشيطان وأتباعه ـ بمعنى القوى الشهويّة والغضبيّة ـ، وكذلك سائر القوى الأخرى، ولا سيَّما القوّة الواهمة، يؤدِّي إلى تأثُّر الناس بالشيطان. وعلى هذا الأساس فإن العصمة تعني تقوية القوى الإدراكية للإنسان، وتَبَعاً لذلك تعزيز هذه القوى في معارضة ومواجهة جنود الشيطان وأتباعه في البدن.

إن هذا التعريف هو إعادةُ صياغةٍ لما ذكره صدر المتألِّهين بشأن العصمة في معرض بيان كيفيّة تأثير الشيطان على قلب الإنسان، والتي أوردها في قسمٍ من كتابه في تفسير القرآن الكريم. وأما أصل عبارته في هذا الشأن فهي: «وأما من جانب القابل فلقصور القوى الداركة لأكثر الناس وضعفها عن المعارضة والمدافعة والمجاهدة مع جنوده وأحزابه من القوى، لا سيَّما (الوَهْمية)، إلاّ مَنْ عصمه الله من عباده المخلصين، الذين أيَّدهم الله بالعقل القويم، وهداهم إلى الصراط المستقيم: ﴿أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (المجادلة: 22)؛ وذلك لأجل تسخيرهم قواهم البَدَنيّة، وخصوصاً الوَهْميّة، التي هي أحد أعداء الله، المجيبة لدعوة الشيطان، إذا لم يسخِّره العقل المهتدي بنور رحمة الرحمان»([4]).

إن ملاحظة هذا التعريف تضع بين أيدينا نقاطاً متعدِّدة، نجملها فيما يلي:

أـ إن العصمة هبةٌ إلهيّة.

ب ـ إن الله يمنح هذه الهبة لعباده المخلصين. وبعبارةٍ أخرى: إن شرط الحصول على هذه الهبة الإلهيّة هو الإخلاص في عبادة الله.

ج ـ إن اهتمام صدر المتألِّهين بقوّة الوَهْم يثبت أنه ـ بالإضافة إلى النواحي العملية ـ يرى أن النواحي النظريّة والمعرفيّة للإنسان تلعب دَوْراً في عدم العصمة أيضاً، وهذا الدَّوْر هو الذي تضطلع به القوّة الواهمة.

د ـ إن الحديث عن الشيطان في هذا التعريف يثبت هذه الحقيقة، وهي أنه في ارتكاب المعصية ـ بالإضافة إلى الإنسان ـ يكون هناك حضورٌ للعامل الخارجيّ، المتمثِّل بالشيطان أيضاً.

هـ ـ يشير استعمال عبارة «دعوة الشيطان» في هذا التعريف إلى أن صدر المتألِّهين يرى أن دَوْر الشيطان في ارتكاب المعصية يقتصر على مجرّد الدعوة، دون أن يكون هناك أيّ إجبارٍ أو إكراهٍ من قِبَله.

و ـ يُعبِّر استعمال عبارة «المجيبة» في هذا التعريف عن أن صدر المتألِّهين قد أعطى للإنسان دَوْراً فاعليّاً في المعصية. وإن لدى الإنسان أبعاداً متنوِّعة يمكن أن تأخذ هذه الاستجابة على عاتقها، ويرى صدر المتألِّهين أن القوّة الواهمة هي التي لها شأنيّة هذه الاستجابة.

ز ـ إن مراد صدر المتألِّهين من استجابة القوّة الواهمة لدعوة الشيطان هو أن هذه القوّة ـ خلافاً للقوّة العاقلة ـ تحكم على أن تكون نتيجتها على الصعيد العمليّ هي عدم تحقُّق العصمة.

ح ـ يمتلك الإنسان جميع القوى؛ من أجل السيطرة على القوّة الواهمة من قِبَل العقل بمَدَدٍ من الله. رُبَما أمكن أن نستنبط من هذه النقطة الجوهرية، التي يذكرها صدر المتألِّهين، أنه يرى أن المجتمع الإنساني لولا الرعاية الإلهية يتحوَّل إلى مجتمع حيواني، ورُبَما أضلّ من ذلك؛ حيث يقوم الإنسان بجميع أنواع التصرُّفات استجابةً لنداء القوّة الواهمة، بخلاف القوّة العاقلة.

ط ـ إن نعمة العصمة ـ بالالتفات إلى النقطة «ج» ـ تعني تقوية وتعزيز القوّة العاقلة، بحيث إن القوة الواهمة تطيع العقل. وعلى هذا الأساس فإن الشرط المعرفي للعصمة يكمن في إطاعة القوّة الواهمة للقوّة العاقلة لدى الإنسان.

ي ـ لم يُشِرْ صدر المتألِّهين إلى الأبعاد العمليّة في ارتكاب المعصية، وكذلك الأبعاد العمليّة في عدم ارتكاب المعصية. ورُبَما كان السبب في ذلك ناشئاً من الأهمِّية الأكبر للأبعاد النظريّة في ما يتعلَّق بالذنوب والمعاصي، من وجهة نظر صدر المتألِّهين.

ك ـ لم يتمّ في هذا التعريف بيان أقسام الذنوب، وتَبَعاً لذلك لم نتبيَّن ما هي أقسام العصمة من وجهة نظر صدر المتألِّهين. ولكنّ هذا التعريف يعطينا النموذج التالي:

وكما ذكَرْنا سابقاً في الفقرة «ي» في هذه الصيغة، فإن دَوْر البُعْد العملي لارتكاب الذنب، وتَبَعاً لذلك دَوْر البُعْد العمليّ للإنسان، كامنٌ في تحقُّق العصمة. يرى صدر المتألِّهين ـ مثل الفلاسفة الذين سبقوه، من أمثال: ابن سينا ـ أن القوى العاملة في الإنسان تنقسم إلى ما يلي([5]):

1ـ القوّة الباعثة: إن هذه القوّة تعمل على خلق الحافز للحركة، ولذلك فإنها تعتبر العلّة الغائيّة للحركة. وإن هذه القوّة تتعامل بشكلٍ وثيق مع قوّة الخيال؛ فكلّما انطبعَتْ صورة الشيء المحبوب أو المبغوض في قوّة الخيال فإن هذه الصورة المتخيَّلة سوف تعمل على تحفيز القوّة المحرِّكة. ولهذه القوّة قسمان:

أـ القوة الشهويّة: بعد الخيال تصبح هذه القوّةُ منشأً لتحريك النفس نحو الاقتراب من الأمور التي تكون ضروريّةً أو نافعةً لبقاء البدن.

ب ـ القوّة الغضبيّة: بعد تخيُّل الأمور المضرّة للشخص تغدو هذه القوّة منشأً لإيجاد الحركة من أجل دفعها.

2ـ القوّة الفاعلية المحرِّكة: تنتشر هذه القوّة في جميع أعضاء وعضلات البَدَن، وهي التي تتكفَّل بمهمة تحريك العضلات. وهذه الحركة على أنواع:

أـ حالة الجَذْب: تنقبض العضلات، والروابط التي تربطها بالعظام، والأوتار العصبية الموجودة في العضو، وتتجمَّع نحو الموضع الذي تدخل منه القوّة المحرِّكة، وبعبارةٍ أخرى: تحصل لها حالة الجَذْب.

ب ـ حالة الاسترخاء: تحصل في بعض الموارد حالةٌ من الاسترخاء والخمول في العضلات، بحيث تتحرَّر بشكلٍ كامل. وفي هذه الحالة تقلّ المقاومة في مقابل العوامل الخارجية.

ج ـ حالة السحب: تتعرَّض العضلات والأربطة والأوتار العصبية إلى نوعٍ من الانبساط، بحيث تبتعد عن مبدأ القوّة، ويحصل لها حالةٌ من الانسحاب والامتداد.

إن هذه التوضيحات تفيد أن هاتين القوتين في كلّ معصيةٍ تتبعان حكماً صادراً عن القوّة الواهمة، خلافاً للقوّة العاقلة. وتَبَعاً لذلك سوف يكون معنى العصمة عبارةً عن أداء هاتين القوّتين على أساس الحكم الصادر عن القوّة العاقلة.

إن لصدر المتألِّهين في كتاب (المبدأ والمعاد) عبارةً يُظهر مضمونها دَوْر القوّة الغضبيّة والشهويّة أيضاً؛ إذ يقول: «وجه تأثيره في نفوس الآدميّين بالشرّ، أما….. من جانب القابل فلقصور القوى الدرّاكة لأكثر الناس وضعفها عن المعارضة والمجاهدة مع جنود الشياطين وأعوانه، من القوى الشهويّة والغضبيّة وغيرهما، لا سيَّما الوَهْميّة، إلاّ مَنْ عصمه الله من عباده المخلصين، الذين أيَّدهم الله بالعقل، وهداهم إلى الصراط المستقيم»([6]).

وكما هو ملحوظٌ فإن دَوْر الناحية العملية لصدور المعصية ـ أي: القوّة الغضبية والشهوية ـ مذكورٌ في هذه العبارة بشكلٍ صريح. وقد تحدَّث صدر المتألِّهين في هذه العبارة ـ بالإضافة إلى القوة الوَهْمية، التي أعطاها الدَوْر الرئيس مجدّداً ـ عن القوّة الغضبيّة والقوّة الشهويّة أيضاً.

إن إعادة صياغة تعريف العصمة من هذه العبارة لا تختلف عن التعريف الأوّل كثيراً، ولكنّها تسمح لنا بالعمل على بيان نموذجنا بشكلٍ أكمل.

ب ـ خلوّ النفس وتجرُّدها من الرذائل

إن العصمة عبارةٌ عن خلوّ النفس وتجرُّدها من الصفات البشريّة المرذولة، والمتفرِّعة والمتشعِّبة بأجمعها عن قوّة الوَهْم؛ بمَدَدٍ من الله([7]).

وهناك في هذا التعريف عددٌ من النقاط التي يمكن ملاحظتها، وهي:

أـ العصمة محمولٌ يُحْمَل على نفس الإنسان. فهل هذا المحمول بالنسبة إلى نفس الإنسان المعصوم محمولٌ ذاتيّ أو عَرَضي؟ إن عبارة صدر المتألِّهين في هذا الموضع مبهمةٌ. وعليه لا يتّضح من التعريف المتقدِّم ما إذا كانت العصمة بالنسبة إلى الإنسان المعصوم أمراً ذاتيّاً أو عَرَضيّاً.

ب ـ إن العصمة تعني خلوّ وتجرُّد النفس من الصفات المرذولة.

ج ـ إن الصفات المرذولة تنشأ بأجمعها من قوّة الوَهْم.

د ـ إن ذِكْر عنوان القوّة الواهمة يثبت دَوْر الأبعاد النظريّة للنفس في تحقُّق المعصية.

هـ ـ لا بُدَّ من توفُّر المَدَد الإلهيّ في تحقُّق خلوّ النفس وتجرُّدها من الصفات المرذولة.

و ـ كذلك لم يتمّ الالتفات هنا كثيراً إلى الناحية العمليّة من تحقُّق المعصية أيضاً، ويعود سببه إلى الأهمِّية الأكبر للأبعاد النظريّة، في مقام المقارنة مع الأبعاد العمليّة في فعل الإنسان، من وجهة نظر صدر المتألِّهين.

ز ـ لقد تحدَّث صدر المتألِّهين عن الرذيلة بشكلٍ عامّ وغير مقيَّد. وحيث يرى صدر المتألِّهين أن الرذيلة تعني الأعمّ من الرذيلة المرتبطة بالعمل والنظر([8]) فإن العصمة، التي تمّ التعريف بها هي الأخرى، سوف تعني الأعمّ من العصمة العمليّة والنظريّة أيضاً. ويمكن الإشارة إلى الجهل المركَّب كأحد الرذائل النظريّة. ولذلك نحصل من هذا التعريف على العصمة من الجهل المركَّب أيضاً.

ج ـ جوهرٌ إلهيّ باطنيّ

إن العصمة عبارةٌ عن جوهرٍ إلهيّ يبرز في الباطن، ويقوى الإنسان بسببه على قصد الخير والابتعاد عن الشرّ، حتّى يتحقَّق هذا الجوهر الإلهيّ في باطن الإنسان بوصفه مانعاً غير محسوسٍ([9]).

يحتوي هذا التعريف ـ كالتعريفين السابقين ـ على جملة نقاطٍ، ونجملها بدَوْرنا في ما يلي:

أـ إن استخدام كلمة «الجوهر» يثبت أن صدر المتألِّهين لا يعتبر العصمة وصفاً عارضاً على النفس، بل يعتبرها مقوِّمةً لوجود الإنسان المعصوم. وبالنظر إلى رأي صدر المتألِّهين في خصوص القول بتشكيك الوجود، الذي يعني القول بمراتب الوجود، وكذلك الالتفات إلى بساطة الوجود، يتّضح إحجام صدر المتألِّهين عن اعتباره العصمة وصفاً، ويكون هذا الإحجام مقبولاً بشكلٍ كامل.

ب ـ إن استعمال كلمة «الإلهيّ» يدلّ على أن العصمة هبةٌ من الله سبحانه وتعالى.

ج ـ إن عبارة «يقوى به الإنسان» تشير إلى أن الهبة الإلهيّة تؤدّي ـ من خلال إخضاع إرادة الإنسان ورغبته لتأثيرها، وتقوية هذه الرغبة والإرادة ـ إلى الابتعاد عن المعصية.

د ـ إن الاستفادة المتزامنة من تعبير الخير والشرّ تثبت أن الابتعاد عن الشرّ يحتوي في الوقت نفسه على قصد الخيرات أيضاً. إن الشخص المعصوم الذي يبتعد عن الشرور يقصد الخيرات أيضاً.

هـ ـ أدَّتْ الاستفادة من تعبير الخير والشرّ في هذه العبارة إلى أن يتبادر من هذا التعريف خصوص العصمة من الذنوب، دون العصمة من أمورٍ أخرى، من قبيل: الاشتباه والخطأ. وبطبيعة الحال، فإنه؛ بالنظر إلى مساوقة الشرّ والعدم في فلسفة صدر المتألِّهين([10])، وأن هناك حضوراً للأمر العَدَميّ في كلّ اشتباهٍ وخطأ([11])، رُبَما أمكن الادّعاء بأن هذا التعريف يشمل الموارد المذكورة أيضاً.

و ـ إن استعمال عبارة: «حتّى يصير هذا الجوهر الإلهيّ كمانعٍ من باطنه غير محسوس» يُثبت أن نعمة العصمة الإلهيّة، التي تؤدّي إلى تقوية الشخص في الابتعاد عن الشرّ، تعمل بوصفها مانعاً ورادعاً. إن هذا العنصر الرادع أمرٌ داخليّ وغيرُ محسوسٍ. في بعض الموارد قد يكون هناك قانونٌ يكون هو السبب في الابتعاد عن الشرّ، وأما العصمة فهي تعمل بوصفها رادعاً داخليّاً، وهي أقوى بدرجاتٍ من الروادع الخارجية.

ز ـ يبدو أن استعمال كلمة «يصير» يشير إلى شدّة هذه النعمة الإلهيّة في رؤية صدر المتألِّهين. وبطبيعة الحال يجب علينا هنا أن نتجنَّب الخلط بين عدم كون العصمة، بمعنى الابتعاد عن المعاصي والذنوب، أمراً متدرِّجاً وبين كون هذه النعمة؛ باعتبارٍ آخر، أمراً تشكيكيّاً، بمعنى أن الشخص المعصوم يستطيع من خلال اشتداد هذه النعمة والموهبة الإلهيّة أن يتجنَّب اقتراف ما لا يُعَدّ ذنباً من الأمور غير المناسبة أيضاً. وبعبارةٍ أخرى: إن بعض المعصومين الذين تشتدّ عندهم هذه العصمة والنعمة الإلهيّة لا يرتكبون حتّى ما كان من قبيل: ترك الأَوْلى.

من خلال ضمّ هذه التعاريف إلى بعضها، وحذف وجوه الاشتراك فيما بينها، يمكن تعريف العصمة ـ من وجهة نظر صدر المتألِّهين ـ على النحو التالي:

إن العصمة هبةٌ ونعمةٌ جوهرية يُنْعِم بها الله على عباده المخلصين، وهي عبارةٌ عن اشتداد قوّة العقل؛ من أجل تسخير قوّة الوَهْم، التي هي منشأ الصفات البشرية المرذولة، بحيث يكون الانتصار في مقام معارضة هذه القوّة من نصيب قوّة العقل. وإن لازم هذا الانتصار هو رفض دعوة الشيطان، واستقواء الإنسان على قصد الخير والابتعاد عن الشرّ. إن هذه الموهبة في مورد الابتعاد عن الشرّ تعمل بوصفها رادعاً باطنيّاً غير محسوسٍ.

يبدو أنه بالإمكان، من خلال هذا التعريف ـ الذي هو جامعٌ بين التعاريف المتقدِّمة ـ، أن نذكر للعصمة عدداً من العناصر، التي يمكن إجمالها بما يلي: عنصر منح العصمة؛ وعنصر أسلوب تحقُّق العصمة؛ وعنصر أسلوب أداء العصمة؛ وعنصر متعلَّق العصمة.

ويمكن بيان هذه العناصر والخصائص المرتبطة بكلٍّ منها على النحو التالي:

يمكن فهم نقطةٍ جوهرية من النموذج المفهوميّ لصدر المتألِّهين بشأن عصمة الأنبياء من الذنوب. إن العصمة في نموذج صدر المتألِّهين ليست أمراً خفيّاً لا يمكن للعقل البشريّ أن يفهمه، بل هي موهبةٌ ونعمةٌ إلهيّة، تعمل بواسطة اشتداد القوى الإدراكية، بحيث تجعل قوى الإنسان مطيعةً لقوّته العاقلة([12]).

ومن الجدير بالذكر أن دَوْر موهبة العصمة في هذا النموذج من قِبَل الله شديد الوضوح بالنسبة إلى صدر المتألِّهين. إن لصدر المتألِّهين، في موضعٍ من تفسيره، في معرض توضيح مراتب الهداية الإلهيّة، نقطةً تبيِّن الشأن الهامّ لاعتبار العصمة موهبةً ونعمةً إلهيّة، وذلك حيث يقول: «وللهدى ثلاث مراتب: الأولى: معرفة طريق الخير والشرّ…؛ المرتبة الثانية: هي التي يمدّ الله بها العبد حالاً بعد حالٍ، وهي ثمرة المجاهدة…؛ والمرتبة الثالثة: وراء الثانية، وهي النور الذي يشرق في عالم الولاية بعد كمال المجاهدة، فيهتدى بها إلى ما لا يهتدى إليه بالعقل…، وهو الهدى المطلق»([13]).

إن هذه العبارة تثبت أن مقام الهداية المطلقة، التي تحصل بنور العصمة، أبعد من قدرة العقل، وأنها تُعْطَى إلى الإنسان من قِبَل الله سبحانه وتعالى. كما يُستفاد من عبارة صدر المتألِّهين هذه نقطةٌ أخرى أيضاً، وهي: على الرغم من أن حصول العصمة أمرٌ إلهيّ، إلاّ أن الإنسان هو الذي يخلق الأرضية لاكتسابها. ومن الواضح هنا أن مقام العصمة إنما يحصل بعد مجاهدةٍ كاملة، ورُبَما أمكن القول: إنها عبارةٌ أخرى عن الإخلاص.

كما أن هذا التعريف يبرز أهمِّية رأي صدر المتألِّهين بشأن النَّفْس في فهم العصمة أيضاً. إن لقوّة العقل دَوْراً في تحقُّق العصمة، كما أن لقوّة الوَهْم دَوْراً محوريّاً في ارتكاب المعصية. وهاتان القوّتان هما من قوى النَّفْس، وقد تمّ الاهتمام بهما في معرفة النَّفْس عند صدر المتألِّهين.

كذلك لا ينبغي تجاهل آراء صدر المتألِّهين بشأن حُسْن الأفعال وقُبْحها، وشأن الوجود المعرفي الذي يقول به صدر المتألِّهين؛ فإن لكلّ عملٍ صائب أو معصيةٍ تأثيراً أنطولوجيّاً على وجود الإنسان، ويترك أثره على مسار الحركة الوجودية للإنسان([14]).

3ـ أقسام العصمة في نظر الملاّ صدرا

لقد ذكر صدر المتألِّهين تقسيماً جامعاً للذنوب المتوهَّم صدورُها عن الأنبياء، الأمر الذي وفَّر الأرضية المناسبة لبيان نظريته في مبحث الأبعاد المختلفة لعصمة الأنبياء. لقد قسَّم صدر المتألِّهين الذنوب المتوهَّم صدورُها عن الأنبياء من ثلاث حيثيّات، وذلك على النحو التالي:

أـ بلحاظ زمان صدور المعصية (قبل البعثة أو بعدها)

تنقسم الذنوب المتوهَّم صدورُها من هذه الحيثية إلى قسمين، وهما: الذنوب قبل البعثة؛ والذنوب بعد البعثة.

ب ـ بلحاظ وجود قصد الفاعل لارتكاب الذنب

تنقسم الذنوب المتوهَّم صدورُها من هذه الحيّثية إلى قسمين أيضاً، وهما: الذنوب المتعمَّدة؛ والذنوب التي تصدر عن سَهْوٍ أو نسيان.

ج ـ بلحاظ التنافي أو عدمه مع الغاية من البعثة

يشمل تقسيم صدر المتألِّهين من هذه الحيثية الأقسام التالية:

1ـ القبائح التي تتنافى مع الغاية من الرسالة، من قبيل: الكفر.

2ـ القبائح التي لا تتنافى مع الغاية من الرسالة، من قبيل: غير الكفر من الذنوب.

وينقسم هذا القسم الأخير إلى قسمين، وهما: الكبائر؛ والصغائر.

كما تنقسم الصغائر إلى: منفِّرةٍ، مثل: سرقة لقمة الطعام من يد اليتيم؛ وغير منفِّرةٍ، من قبيل: القصد إلى ارتكاب الذنب.

4ـ نظرية صدر المتألِّهين بشأن محدوديّة العصمة

وبعد هذا التقسيم يتعرَّض صدر المتألِّهين إلى تقرير الآراء المذكورة في هذه المسألة، ولكنّه لا يذكر رأيه المختار بشكلٍ مباشر وجامعٍ أبداً، وإنما يكتفي بذكر رأيه ضمن بيان أدلّة إثبات ضرورة العصمة، وضمن تأويل الآيات التي تمسَّك بها المخالفون للقول بالعصمة فقط.

ولكنْ يمكن تبويب رأيه بما يتطابق مع التقسيم التالي:

أـ العصمة من حيث زمن العصمة من الذنب: يرى صدر المتألِّهين أن عصمة الأنبياء تشمل ما بعد البعثة وما قبلها. فإنه عند تفسير بعض الآيات المُوهِمة لصدور الذنب عن الأنبياء يعمد إلى حملها على ترك الأَوْلى، ولا يرتضي الرأي الذي يقيِّد صدور الذنب عن الأنبياء بما قبل البعثة([15]).

ب ـ العصمة من حيث قصد الفاعل إلى ارتكاب المعصية: يرى صدر المتألِّهين أن الأنبياء معصومون من الذنوب التي تنافي الدعوة والرسالة، سواء في ذلك الذنوب التي تصدر عن عَمْدٍ أو سَهْوٍ، بَيْدَ أنه يرى أن القول بإمكان تحقُّق المعصية الكبيرة سَهْواً أو نسياناً قبل البعثة، أو الصغيرة غير المنفِّرة سَهْواً أو عَمْداً، بحثٌ اجتهاديٌّ([16]). كما أنه في تفسير الآيات المرتبطة بالنبيّ آدم ينسب النسيان إلى النبيّ آدم× صراحةً([17]).

ج ـ العصمة من حيث مقارنة الذنب إلى الغاية من الرسالة: كما ذكَرْنا سابقاً، في التقسيم الثالث للذنوب، فقد كان للذنوب من هذه الزاوية تقسيماتٌ متعدِّدة. وفي ما يلي نبيِّن رأي صدر المتألِّهين بشأن كلٍّ من هذه الأنواع للذنوب:

1ـ يرى صدر المتألِّهين أن الأنبياء معصومون من جميع أنواع الذنوب المنافية للهدف والغاية من الدعوة والرسالة. وقد ذكر إجماع الأمّة كدليلٍ على ذلك([18]). ومن الواضح، بطبيعة الحال، أن الإجماع لا موطن له في المسائل الاعتقاديّة، وليس صدر المتألِّهين بغافلٍ عن هذه المسألة. وعلى هذا الأساس، يبدو أن مراد صدر المتألِّهين من الإجماع هو أن كلّ شخصٍ يعلم بداهةً أن الذنب المنافي لهدف الرسالة لا يمكن أن يصدر عن النبيّ، وهذه المسألة من الوضوح بحيث إنها لا تحتاج إلى استدلالٍ.

2ـ يرى صدر المتألِّهين أن الأنبياء معصومون من الكفر والشرك. وهذه المسألة متَّفقٌ عليها بين مختلف الفِرَق الكلاميّة، وإن صدر المتألهين ملتفتٌ إلى هذا الأمر([19]).

3ـ يرى صدر المتألِّهين استحالة صدور الذنوب الكبيرة عن النبيّ عمداً، سواء بعد البعثة أو قبلها، ولكنّه يرى عدم كفاية الأدلّة المذكورة لنفي الذنوب الكبيرة الصادرة سَهْواً([20])؛ فإنه، بعد بيان أدلّة إثبات العصمة، ذكر وجه عدم كفاية بعضها، مع ذكر أدلّة المخالفين([21]).

4ـ يرى صدر المتألِّهين أن الأنبياء معصومون من الذنوب الصغيرة المنفِّرة، سواء بعد البعثة أو قبلها، ولكنّه يرى عدم كفاية الأدلّة المذكورة على نفي الذنوب الصغيرة غير المنفِّرة([22]).

 

5ـ أدلّة صدر المتألِّهين على إثبات عصمة الأنبياء

لقد ذكر صدر المتألِّهين عشرة أدلّةٍ على إثبات عصمة الأنبياء. ولكنْ قبل الدخول في بيان هذه الأدلّة لا بُدَّ من التذكير بنقطتين:

النقطة الأولى: إن الأدلّة التي يذكرها صدر المتألِّهين لإثبات عصمة الأنبياء تقوم على مقدّماتٍ مأخوذةٍ من النصوص المقدَّسة؛ بمعنى أن الكبرى أو الصغرى في جميع هذه الأدلّة مأخوذةٌ من القرآن الكريم.

النقطة الثانية: لقد كان صدر المتألِّهين في بيان هذه الأدلة متأثِّراً بالفخر الرازي؛ والشاهد على ذلك أن جميع الأدلّة العشرة، التي ذكرها صدر المتألِّهين، موجودةٌ ضمن الأدلّة الخمسة عشرة التي ذكرها الفخر الرازي؛ لإثبات وجوب عصمة الأنبياء أيضاً([23]).

ويمكن بيان النسبة بين أدلّة صدر المتألِّهين وأدلّة الفخر الرازي عبر الجدول التالي:

وفي ما يلي نذكر بياناً مختصراً لهذه الأدلّة:

1ـ لو لم يكن الأنبياء معصومين لكان اتّباعهم حراماً، ولكنّ الآية 31 من سورة آل عمران تثبت وجوب التَّبَعيّة للأنبياء^.

ومن الجدير بالذكر أن صدر المتألِّهين في هذا الاستدلال لم يبيِّن الوجه في لزوم الارتباط بين المقدَّم والتالي. ورُبَما اعتمد في ذلك على بداهته بالنسبة إلى مخاطَبه المسلم.

2ـ لو لم يكن الأنبياء معصومين لكانت شهادتهم في أمور الدنيا مردودةً ومرفوضةً؛ بحكم الآية 6 من سورة الحجرات، وإذا كانت شهادتهم الدنيوية مردودةً تكون شهادتهم في الأمور الدينيّة مردودةً؛ بالأولويّة.

ورغم أن صدر المتألِّهين لم يذكر وجه الأولويّة في استدلاله، فإنه رُبَما أمكن القول: إن وجه الأولويّة يكمن في الأهمِّية المضاعَفة لأمور الدين في إسعاد البشر، بالمقارنة مع الأمور الدنيويّة. وإنما لم يُشِرْ صدرُ المتألِّهين إلى ذلك؛ لوضوحه.

3ـ لو لم يكن الأنبياء معصومين لوجب منعهم وردعهم؛ لعموم وإطلاق أدلّة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في حين أن زجر وإيذاء الأنبياء حرامٌ؛ بالإجماع؛ وطبقاً للآية 57 من سورة الأحزاب أيضاً.

4ـ لو لم يكن الأنبياء معصومين لاستحقّوا العذاب والطعن واللعن والذمّ؛ وذلك بحكم الآية 23 من سورة الجنّ، والآية 18 من سورة هود، والآية 2 من سورة الصفّ، والآية 44 من سورة البقرة، في حين أن الأنبياء منزَّهون ومبرَّأون من جميع هذه الأمور؛ بالإجماع([24]). ثم إن هذه الأمور من أكبر المنفِّرات التي تكون سبباً في ابتعاد وتفرُّق الناس عن الأنبياء.

ويبدو أنه ليس مراد صدر المتألِّهين من الإجماع هنا الإجماع المصطلح في علم أصول الفقه، وإنما مراده هو البداهة؛ بمعنى أن براءة الأنبياء من الطعن واللعن والذمّ أمرٌ بديهيّ؛ إذ لو لم يكونوا كذلك لزم منه نقض الغرض من إرسال الرُّسُل. ورُبَما كان صدر المتألِّهين في هذا المورد في مقام الجَدَل مع الخَصْم (المخالف لعصمة الأنبياء)، وإن مراده من الإجماع هو المشهورات؛ بمعنى أن براءة الأنبياء من الطعن واللعن والذمّ من جملة المشهورات.

5ـ لو لم يكن الأنبياء معصومين لكانوا من الظالمين، وطبقاً للآية 124 من سورة البقرة لن يكونوا مستحقّين لعهد النبوّة والإمامة.

وأيضاً لم يبيِّن صدر المتألِّهين لزوم الارتباط بين المقدَّم والتالي في هذا الاستدلال. ويبدو أن ذلك باعتبار وجه التلازم بين المقدَّم والتالي واضحاً بالنسبة إلى المخاطَب المطَّلع على أدبيّات القرآن الكريم، ولذلك لم يجِدْ نفسه بحاجةٍ إلى بيان ما هو واضحٌ للمخاطَب؛ لأن الظالم يُطلق في القرآن الكريم على مختلف الأفراد، ومن بينهم الظالم لنفسه، بمعنى أن الذي يتجاوز الحدود الإلهيّة بارتكاب المعاصي يكون ظالماً لنفسه([25]).

6ـ لو لم يكن الأنبياء معصومين لم يكونوا ـ بحكم الآية 82 من سورة ص ـ من المُخْلَصين، بل سوف يكون من أتباع الشيطان، بَيْدَ أن التالي باطلٌ؛ بالإجماع؛ وبناءً على الآية 46 من سورة ص؛ والآية 24 من سورة يوسف، أيضاً.

7ـ لو لم يكن الأنبياء معصومين لزم من ذلك أن يكون الأنبياء من حزب الشيطان؛ لأن حزب الشيطان هم الذين يقومون بما يُرضي الشيطان (أي المعاصي)، بَيْدَ أن التالي قطعيُّ البطلان.

8ـ لو لم يكن الأنبياء معصومين لزم من ذلك أن لا يكونوا في زمرة المسارعين في الخيرات والمصطَفَين الأخيار؛ إذ لا خير في المعاصي، والتالي ـ طبقاً للآية 47 من سورة ص، والآية 75 من سورة الحجّ، والآية 33 من سورة آل عمران، والآية 130 من سورة البقرة، والآية 144 من سورة الأعراف، والآية 46 من سورة ص ـ باطلٌ. ثمّ إنه بناءً على عموم لفظ «الخير»، وإطلاق لفظ «المصطَفَين الأخيار» ـ في قوله تعالى: ﴿يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ (آل عمران: 114)([26])، و﴿وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ﴾ (ص: 47) ـ يدلّ على أن الأنبياء كانوا من الأخيار في جميع الأمور، وهذا يتنافى مع صدور الذنب عنهم.

9ـ بالنظر إلى أن الأنبياء^ أفضل من الملائكة، والملائكة ـ بناءً على الآية 6 من سورة التحريم ـ معصومون من المعاصي والذنوب، يلزم من ذلك أن يكون مَنْ هو أفضل منهم ـ وهم الأنبياء ـ معصوماً من ارتكاب المعاصي والذنوب؛ بالأولوية([27]).

10ـ إن الأنبياء ـ طبقاً للآية 124 من سورة البقرة ـ قادةُ الناس وأئمّتهم. والإمام هو الذي يُقْتَدى به. ولذلك لو صدر الذنب عنهم وجب الاقتداء بهم في المعاصي، وهذا يتناقض مع غاية الرسالة.

6ـ الأسلوب الصدرائي في تفسير الدليل القرآني لمنكري العصمة

يذهب صدر المتألِّهين إلى الاعتقاد بأن الآيات التي يُتوهَّم منها عدم عصمة الأنبياء، وصدور القبائح عنهم، يجب حملها على ترك الأَوْلى، وأن كلّ تفسيرٍ يحافظ بشكلٍ أكبر على قاعدة عصمة الأنبياء يكون هو الأَوْلى.

وعبارته في تفسير الآية 35 من سورة البقرة ما يلي: «وكلّ مذهبٍ أفضى إلى انحفاظ عصمتهم كان أَوْلى».

وقال في معرض بيان الآيات التي تمسَّك بها القائلون بعدم عصمة الأنبياء: والجواب الإجمالي هو أن كلّ موردٍ يتمّ نقله على شكل روايات الآحاد مرفوضٌ، وكلّ ما ينقل بشكلٍ متواترٍ أو منصوصٍ حمل على ترك الأَوْلى، كما هو مقبولٌ عندنا [أي الإماميّة]([28]).

ثمّ عمد بعد ذلك، في مقام الجواب التفصيلي، إلى حمل الكثير من الموارد (الآيات المرتبطة بالنبيّ الأكرم|، والنبيّ موسى×، والنبيّ سليمان×) على ترك الأَوْلى([29]).

النتيجة

حظيَتْ عصمةُ الأنبياء من الذنوب باهتمام صدر المتألِّهين، غير أنه لم يتعرَّض لبحث مسألة العصمة بشكلٍ مستقلّ في أيٍّ من كتبه الفلسفيّة؛ ورُبَما كان هذا عائداً إلى اعتباره العصمة هبةً من الله سبحانه وتعالى. ورُبَما لهذا السبب وردَتْ أكثر أبحاثه المرتبطة بالعصمة في تفسيره.

إن لصدر المتألِّهين في ما يتعلَّق بتعريف العصمة عباراتٍ متفاوتةً. ولكنْ على الرغم من اختلافها الظاهريّ، يمكن إرجاعها إلى تعريفٍ واحدٍ جامع. إن ما ذكره صدر المتألِّهين بشأن مفهوم العصمة يقرِّبنا من رأيه حول العدالة، مع فارق أن المعصوم يحصل على مَلَكة العصمة كموهبةٍ ونعمةٍ من الله سبحانه وتعالى.

وقد ذهب صدر المتألِّهين في ما يتعلَّق بزمن العصمة إلى الاعتقاد بعصمة الأنبياء من الكفر والشرك قبل الرسالة وبعدها.

كما أنه يعتقد بعصمة الأنبياء من ارتكاب جميع أنواع الذنوب، سواء ما يصدر عَمْداً أو سَهْواً، وفي دائرة الذنوب التي تنافي الدعوة والرسالة أيضاً.

ويذهب صدر المتألِّهين إلى القول بعدم كفاية الأدلّة المذكورة لنفي الكبائر التي تصدر سَهْواً، والصغائر غير المنفِّرة؛ والأدلّة المذكورة لإثبات عدم جواز النسيان، بل إنه قد نسب النسيان إلى الأنبياء في معرض تأويل بعض الآيات.

وقد ذكر صدر المتألِّهين ـ متأثِّراً بالفخر الرازي ـ عشرة أدلّةٍ على إثبات عصمة الأنبياء. وتقوم هذه الأدلّة على مقدِّماتٍ مأخوذةٍ من النصوص الدينيّة.

إن العصمة من وجهة نظر صدر المتألِّهين هبةٌ إلهيّة ومقامٌ إلهيّ، لا يمكن لنوع البشر أن يحصل عليه بنفسه، إلاّ بنصرٍ وتأييد من الله سبحانه وتعالى.

وقد حمل صدر المتألِّهين الآيات التي يُتوهَّم منها عدم عصمة الأنبياء على ترك الأَوْلى. وإن ملاكه في ترجيح التفاسير المرتبطة بهذه الآيات هو أولويّة التفاسير التي لا تتعارض مع قاعدة عصمة الأنبياء.

الهوامش

(*) أستاذٌ مساعِدٌ في قسم الكلام والفلسفة الإسلاميّة في جامعة الإمام الصادق× في طهران ـ إيران.

(**) طالبٌ في مرحلة الماجستير في قسم الفلسفة والكلام الإسلاميّ في جامعة الإمام الصادق×.

([1]) سوف نتناول هذا البحث في سياق هذه المقالة بالتفصيل.

([2]) في فصلٍ بعنوان (في بيان عصمة الأنبياء^ وما ذكر فيها على طريقة المتكلِّمين). (انظر: محمد بن إبراهيم الشيرازي (صدر المتألِّهين)، تفسير القرآن الكريم 3: 111، انتشارات بيدار، قم، 1366هـ.ش).

([3]) انظر: صدر المتألِّهين، كسر الأصنام الجاهلية: 231، نشر: بنياد حكمت صدرا (مؤسّسة حكمة صدر المتألِّهين)، طهران، 1381هـ.ش؛ صدر المتألِّهين، تفسير القرآن الكريم 5: 224.

([4]) صدر المتألِّهين، تفسير القرآن الكريم 5: 224.

([5]) انظر على سبيل المثال: صدر المتألِّهين، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة 8: 54 ـ 55، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1981م.

([6]) صدر المتألِّهين، تفسير القرآن الكريم 5: 224. وانظر أيضاً: صدر المتألِّهين، المبدأ والمعاد، جمعية الحكمة والفلسفة في إيران، طهران، 1354هـ.ش.

([7]) انظر: صدر المتألِّهين، تفسير القرآن الكريم 5: 229.

([8]) انظر على سبيل المثال: صدر المتألِّهين، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة 9: 180؛ 4: 115 ـ 116، 457؛ 9: 333.

([9]) وإليك نصُّ عبارته في هذا الشأن: «هي عبارةٌ عن جوهرٍ إلهيّ، يسنح في الباطن، يقوى به الإنسان على تحرّي الخير، وتجنُّب الشرّ، حتى يصير كمانعٍ من باطنه غير محسوس». (صدر المتألِّهين، تفسير القرآن الكريم 1: 132).

([10]) انظر على سبيل المثال: صدر المتألِّهين، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، 8: 341.

([11]) إن لصدر المتألِّهين في كتاب الأسفار الأربعة تحليلاً جديراً بالاهتمام والملاحظة حول الخطأ. (انظر: صدر المتألِّهين، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة 2: 173).

([12]) كما أن العلاّمة الطباطبائي في تعريف العصمة قد التفت إلى أهمِّية ومكانة العنصر المعرفيّ، بل وعمد إلى شرحه وتوضيحه بشكلٍ أكبر من صدر المتألِّهين. (انظر: العلاّمة محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 5: 78، في تفسير الآية 113 من سورة النساء).

([13]) صدر المتألِّهين، تفسير القرآن الكريم 1: 131.

([14]) في خصوص رأي صدر المتألِّهين حول حُسْن الأفعال وقُبْحها هناك مقالاتٌ قيِّمة منشورة في مجلة (نامه حكمت [رسالة الحكمة])، بقلم: الدكتور حسين هوشنگي وأحمد رضا أحمدي داراني. (انظر: حسين هوشنگي وأحمد رضا أحمدي داراني، دين وحُسْن وقُبْح در أنديشه إي ملاّ صدرا (الدين والحُسْن والقُبْح في رؤية صدر المتألِّهين)، مجلة رسالة الحكمة، العدد 12: 33 ـ 51، ربيع وصيف عام 1389هـ.ش). (مصدر فارسي).

([15]) انظر، على سبيل المثال: صدر المتألِّهين، تفسير القرآن الكريم 3: 115 ـ 119.

([16]) انظر: المصدر السابق 3: 115، 125.

([17]) انظر: المصدر السابق 3: 117.

([18]) انظر: المصدر السابق 3: 111.

([19]) انظر، على سبيل المثال: المصدر السابق 3: 112.

([20]) انظر: المصدر السابق 3: 115.

([21]) انظر: المصدر السابق.

([22]) انظر: المصدر السابق.

([23]) انظر: فخر الدين الرازي، عصمة الأنبياء: 10 ـ 15، مطبعة الشهيد، منشورات النجفي، قم، 1406هـ،؛ فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب 3: 456، في تفسير الآية 36 من سورة البقرة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1420هـ.

([24]) من الجدير ذكره أن السيد المرتضى علم الهدى قد استدلّ بذات هذا البرهان على إثبات عصمة الأنبياء المطلقة، واستدلاله في هذا الشأن على النحو التالي: إن فاعل كلّ ذنبٍ مستحقٌّ للذمّ والعقاب، وحيث إن الأنبياء مبرّأون من الذمّ والعقاب، فإنهم معصومون من جميع أنواع الذنوب. (انظر: الشريف المرتضى، تنـزيه الأنبياء: 15، دار الأضواء، بيروت، 1409هـ).

([25]) انظر: الطلاق: 1.

([26]) وكذلك: الأنبياء: 90؛ المؤمنون: 61.

([27]) لقد تحدَّث صدر المتألِّهين عن أفضلية الأنبياء على الملائكة بالتفصيل. (انظر: صدر المتألِّهين، تفسير القرآن الكريم 3: 50).

([28]) المصدر السابق 3: 115.

([29]) انظر، على سبيل المثال: المصدر السابق 3: 119، 121 ـ 122.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً