أحدث المقالات

دراسة تأصيلية تجديدية في ضوء القرآن والسنة والمقاصد

ـ القسم الأول ـ

د. يحيى رضا جاد(*)

 

مقدمة

معلومٌ مشتهرٌ تنازُعُ الناس من قديم في أمر الغناء والموسيقى تحليلاً وتحريماً، ولذلك انتدبتُ نفسي لدراسة هذه القضية من كافة جوانبها؛ بالنظر ـ المتسلح بالمنهجية وعلوم الآلة ـ في الكتاب والسنة والأنفس والآفاق، فكان هذا البحث الذي يقبض القارئ الكريم بيديه على صفحاته.

ها أنا ذا أضع بين يدي القارئ ـ بنوعيه المتخصص والعام ـ ثمرةَ تفكُّرٍ وتدبُّرٍ دام ـ بحثاً وقراءة واجتهاداً ـ بضع سنوات([1]) في موضوع الغناء والموسيقى ـ بكافة جوانبه وأبعاده ـ. وأيّة مقارنةٍ، سريعة أو متأنية، فاحصة أو خاطفة، بين (ما كُتب في ذات الموضوع قديماً وحديثاً) و(هذا البحث) ستوضح ـ بما لا يدع مجالاً لأيّ ارتياب ـ مدى جدّة وعمق وأصالة ومتانة الطرح الذي طرحتُ؛ إنْ في المنهجية، أو في الاستقراء، أو في التحليل، أو في الاجتهاد والاستدلال، أو في المناقشات الواردة. هكذا أزعم، وهكذا سوَّلتْ لي نفسي أن أدَّعي، والمقارنة هي الفيصلُ والحَكَمُ([2]).

وكلُّ فكرةٍ أو اجتهاد أو رأي أو دليل استفدتُه من غيري نبَّهتُ على ذلك، حتى وإن نقَّحتُ الدليل أو الفكرة، أو حرَّرتُها، أو أصَّلتُ لها، أو عدَّلتُ فيها، أو أضفتُ إليها، أو استدركتُ عليها ضبطاً لها؛ فمن بركة العلم نسبةُ القول إلى قائله ومَن استُفِيد منه([3]). وما لم أنبه عليه ـ وهو كثير بحمد الله وفضله ـ فهو لي جملةً وتفصيلاً ـ سواءٌ وُجِد مَنْ وافقني فيه أو لم يوجد ـ.

تنبيه

لقد تردَّدتْ مذاهب العلماء في موضوع بحثي هذا على أقاويلَ كثيرةٍ تردُّداً واسعاً، ولم أجعل من شرط بحثي هذا الإتيانَ على قائليها أو نصوصِ عباراتهم؛ إذ الذي يعنيني ـ بعد وقوفي على اتجاهات العلماء وأدلتهم في الموضوع ـ تحريرُ الحكم من دليله، فلم أهدر شيئاً من أدلة مَنْ أَخرج الحكم عن الإباحة ـ التي انتهى إليها اجتهادي، كما ستراه مفصلاً في البحث ـ بأية صورةٍ من الصور ـ سواءٌ ما وقفتُ منها عليه أو ما استنبطتُه لهم ـ.

 

أولاً: مقدمات منهجية

1ـ لا يجوز الاحتجاج بالحديث الضعيف([4])، ولا يحلّ بناء الأحكام عليه

لا نزاع في أن الحديث عن النبي| دين، فإذا أُثبِت حكمٌ ما في مسألة ما بناءً على حديث تُدَّعى نسبته إليه| دون اعتبار صحة تلك النسبة من عدمها فذلك خطرٌ عظيم؛ لأنه:

1ـ كذبٌ على النبي|. وهذا من أكبر الكبائر، بغضّ النظر عن باب ذلك الكذب: في مسألة لها أصل أو ليس لها أصل، أو في باب إنشاء حكم جديد أو بيان فضيلةِ شيءٍ ثابت؛ لأنك في جميع الأحوال تنسب إلى رسول الله| ما لم يثبت أنه قاله، وهذا هو عين الكذب. وقد قال|: «يا أيها الناس، إياكم وكثرة الحديث عني. من قال عليّ فلا يقولن إلا حقّاً أو صدقاً؛ فمَنْ قال عليّ ما لم أقُلْ فليتبوأ مقعده من النار»([5]).

2ـ تشريعٌ لما لم يأذن به الله بالدعاوى الباطلة والظنون المرجوحة. يقول تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (النحل: 116ـ 117)، ويقول تعالى: ﴿وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (الأنعام: 140).

2ـ لا يجوز تقوية الحديث بتعدُّد الطرق الضعيفة

لقد راجت ـ للأسف ـ الكثير من الأحاديث الضعيفة ـ وخاصة عند المتأخرين ـ؛ بسبب شيوع القول بأن تعدد الطرق الضعيفة يقوّي بعضها بعضاً. وهذا أمر في غاية الخطورة، وعلى خلافه أئمة الحديث المتقدمون الجهابذة العمالقة؛ إذ رووا عن عبد الرحمن بن مهدي: «إذا روينا عن النبي| في الحلال والحرام والأحكام شدَّدنا في الأسانيد، وانتقدنا الرجال؛ وإذا روينا في فضائل الأعمال تساهلنا في الأسانيد»([6]). وكذلك روي عن الإمام أحمد بالنص([7]). ويقول ـ بحقّ ـ سفيان الثوري: «لا تأخذوا العلم (أي الأحاديث) في الحلال والحرام إلا من الرؤساء المشهورين بالعلم، الذين يعرفون الزيادة والنقصان، ولا بأس بما سوى ذلك [أي في غير الحلال والحرام] من المشايخ»([8]). فكيف يدعي البعض أن أئمة الحديث المتقدمين يثبتون حديثاً بمجموع طرقه الضعيفة، في حين أن هؤلاء الأئمة لا يأخذون في الحلال والحرام إلا من «الرؤساء المشهورين بالعلم»؟! وهل يتفق ذلك مع ما روي عنهم بأنهم «يشددون في أسانيد الحلال والحرام»، فهل من التشديد تصحيحُ الحديث بتعدُّد طرقه الضعيفة؟!

وخلاصة القول: إنه لا يصحّ أن نثبت حديثاً عن رسول الله| إلا إذا جاء بإسناد متصل مسلسل بالرواة الثقات، دون رواية الضعفاء والمجروحين. فالحديث عن رسول الله| لا ينبغي أن يُحدَّث به إلا عن ثقة. يقول|: «مَنْ حدَّث عني حديثاً وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين». وظاهر هذا الخبر الصحيح يدلّ على أن مَنْ روى عن النبي| حديثاً هو شاكٌّ فيه أصحيح هو أم غير صحيح يكون كاذباً.

وعلى ذلك نقول: إذا جاء حديث على خلاف ما اشترطنا لم نلتفت إليه، بل لم نعمل به، وخاصةً إذا كان هذا الحديث المزعوم معارضاً لقواطع الأدلة أو صحيحها من القرآن والسنة والمقاصد؛ لأننا إنما أمرنا بقبول شهادة العدل الثقة الثبت دون غيره من الناس([9]).

3ـ قول الصحابي ليس بحجّة في دين الله

لا شك في أن مذاهب أفراد الصحابة رضوان الله عليهم أعلى منزلةً من مذاهب مَنْ بعدَهم، ولكن يجب أن يُعلَم أنه لا حجة في رأيٍ من جهة جلالة صاحبه؛ فإنما الحجة في الدليل. ولذلك وجدنا الصحابة أنفسَهم عند اختلافهم يردّون على بعضهم البعض بالكتاب والسنة، لا بالرجوع إلى آراء وأقوال أنفسهم.

4ـ ما تعمّ به البلوى في حياة الرسول| لا يصح تصور خفاء حكم الشرع فيه([10])

ما من تصرف أو شيء لا يكاد الناس ينفكون عن ملابستهم له، أو حاجتهم إليه، أو تعرضهم له، إلا وقد جاء في الشرع حكمه واضحاً بيناً جلياً معلوماً؛ إذ مثل تلك الأمور لا يمكن أن يُترك حكمها للاجتهاد، لتختلف فيه الأنظار، وإنما عموم الحاجة والبلوى يوجب أن تكون تلك الأمور محسومة حسماً لا جدال فيه ولا خفاء ولا ظن([11]).

 

5ـ الذرائع المفضية إلى الحرام ـ في ما كان معهوداً في زمن التشريع ـ تكفلت الشريعة بضبط بابها([12])

فكل ما مات النبي| عنه وبابه مفتوح لا يملك أحدٌ سدّه أو إغلاقه. وقد وقعت رغم ذلك تجاوزات كثيرة في تاريخ الفقه باسم (سدّ الذرائع)؛ فأصيب بعض الفقهاء بالإسراف في (سدّ الذريعة)؛ فكلما رأوا شيئاً تجاوز فيه الناس حدّ المأذون أو قدر المشروع قالوا: نحسم مادة الفساد، فنمنع من كل شيء يوصل إلى ذلك الشيء، مما أدى إلى تشويه صورة الإسلام، وجَعْل أمّته وراء جميع الأمم في كل أسباب الحياة.

والحقّ أن «خروج كثيرٍ من الناس بالغناء والموسيقى عن حدّ المباح فيها لا يُبطل أصل حكمها، إنما يُنكَر من صنيعهم ما تجاوزوا به القدرَ المشروع، ولا يجوز أن يُجعل تغير الزمان أو سوء الاستعمال ذريعةً لتحريم المباح، وإلاّ لحرمنا على الناس طيبات ـ لا تدخل تحت حصر ـ قد أحلت لهم.

وإيقافُ الناس على أصل حكم الشرع أبرأ لذمة العالِم وإن وافق هوىً عند صاحب شهوة؛ فإن الإثم لا يأتي من جهة فعل الحلال [أو المباح]، وإنما من الوقوع في الحرام»([13]).

وأحبّ أن أنبّه هنا ـ في اختصارٍ ودون دخولٍ في التفاصيل؛ لما سيأتي بيانه بعدُ ـ إلى أن تحريم المباح استناداً لمبدأ سدّ الذريعة يُشترط فيه ثلاثة شروط([14]):

1ـ أن يؤدي المباح إلى مفسدة قطعية محققة، أو مفسدة يغلب وقوعها، لا متوهَّمة، ولا قليلة الحدوث.

2ـ أن تكون تلك المفسدة أرجح من المصلحة المرجوّة، وليس مجرد مفسدة مرجوحة.

3ـ أن لا يكون المنع ـ بعد توفُّر الشرطين السابقين ـ تحريماً قاطعاً، بل هو بين الكراهة والتحريم حسبَ درجة المفسدة.

6ـ أقصى ما يدل عليه مجرد ترك النبي| لشيء هو كراهة هذا المتروك، لا تحريمه

فضلاً عن أن هذه الكراهة قد تكون كراهة دينية مخصوصة بالنبي|، وقد تكون غير مخصوصة، وقد تكون كراهة جبلية عادية.

فإن كانت الأولى فلا يصح الاقتداء بالنبي| فيها؛ لأنها أمر خاصٌّ به دون بقية الناس.

وإن كانت الثانية فالأصل فيها استحباب الاقتداء به فيها، لا الوجوب.

وإن كانت الثالثة فالأصل فيها أنها ليست تشريعاً للأمة، وإنما مَرَدُّ الأمر للأذواق والعادات والتقاليد.

 

ثانياً: تعريفات الغناء([15])

1ـ يقول الخطابي: كل من رفع صوته بشيء، ووالى به مرة بعد أخرى، فصوته عند العرب غناء. وأكثره في ما شاق من صوت أو شجا من نغمة ولحن. ولذلك قيل: غنَّت الحمامة، وتغنّى الطائر.  قال مجنون ليلى:

ألا قاتل الله الحمامة غدوةً على الغصن ماذا هيجت حين غنت

وقال آخر:

تغنى الطائران بين سلمى على غصنين من غرب وبان

2ـ وفي المعجم الوسيط: «الغناء هو التطريب والترنم بالكلام الموزون وغيره».

والخلاصة أن الغناء صوتٌ يُوَالَى به مرة بعد مرة بتلحين وتطريب، فيدخل فيه الصفير والتصفيق، بل هو كصوت لا يختصّ بالكائنات الحية فقط، بل إن أصوات الموسيقى تسمّى (غناءً)، وآلاتها تسمّى (آلات الغناء).

وخلاصة الخلاصة أن الغناء هو ما طُرِّبَ به (أي ما أحدث طرباً) من الصوت، سواءٌ كان مصدر هذا الصوت الإنسان أو الطير أو الآلات.

الموسيقى([16])

في المعجم الوسيط: (الموسيقى) لفظٌ يوناني يُطلق على فنون العزف على آلات الطرب.

و(علم الموسيقى) علمٌ يُبحث فيه عن أصول النغم من حيث تأتلف أو تتنافر، وأحوال الأزمنة المتخللة بينها؛ لِيُعلَم كيف يُؤلَّف اللحن.

المعازف([17])

1ـ عَزَفَ الشيءُ أي صَوَّتَ (أي أحدث صوتاً)، يقال: عزفت الريح، وعزفت القوس.

2ـ عزف فلان: أي لعب بالمِعزَف.

3ـ والمعازف جمع مِعزَف ومِعزَفة، وهي آلة الطرب، كالعود والطنبور والمزهر والرباب والمزمور والدفّ. إذاً فالمعازف هي الآلات التي يُلعَبُ بها بالضرب عليها (كالدف والطبل والعود والقانون والبيانو) أو بالنفخ فيها (كالمزمار والبوق والناي واليراع)؛ لإحداث أصوات ملحنة متناسبة متناسقة شجية.

4ـ وقد ذكر العرب (الدفّ) كثيراً، وعيَّنوه بالتمثيل دون غيره من المعازف؛ لكثرة استعمالهم له، ولغلبته على ما كان موجوداً عندهم من سائر المعازف، ولسهولة اقتنائه وصناعته. فضلاً عن أن الدفّ ـ كما قال بعض علماء الموسيقى القدامى ـ آلة كاملة تحكم على سائر المعازف، وتفتقر إليه جميع آلات الطرب؛ إذ به يُعرَفُ مدى صحة الضرب وسقمه. فضلاً عن أنه لا تتبين النقرات الخفاف والثقال إلاّ به، وهو الذي يُوصِل ويَقطع، وكل ملهاة لا يحضرها الدفّ ـ كما قالوا ـ فهي ضعيفة القوة([18])([19]).

ثالثاً: مقدمات تأصيلية لمسألة الغناء والموسيقى

1ـ إنها قضية (عادية)، لا (تعبدية)، والأصل في العادات الإباحة والحلّ ـ كما هو مقرَّر في أصول الفقه ـ؛ يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً (البقرة: 29)؛ وما كان الله تعالى ليخلق لنا الأشياء ثم يحرمها علينا، إنما يحرم علينا الخبيث والضار، ولا تحريم إلا بنصٍّ، أو معناه، صحيح صريح؛ لقوله تعالى: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْه (الأنعام: 119). فما سُكِتَ عنه، أو لم يَرِد فيه نص صحيح صريح، أو لم يندرج في معناه، فهو عفو، لا يجوز تحريمه البتة، رحمةً من الله بنا غيرَ نسيان؛ فإن الله لم يكن لينسى شيئاً، حاشاه؛ ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً (مريم: 64).

فأين هو الناقل عن هذه الإباحة في مسألتنا محل البحث حتى نذهب إليه؟! ليبرزه لنا مَنْ يجده. والحقّ أنه لن يجده أبداً؛ إذ لم يوجد نصٌّ، أو معناه، في ما انتهى إليه اجتهادنا وبعد استفراغ الوسع والطاقة في البحث والتنقيب والنظر، صحيحٌ صريحٌ يفيد حرمة الغناء والموسيقى، بل قد وجدنا القرآن والسنة ـ بنصوصهما ومقرّراتهما ـ والمعقول على خلاف ما ادُّعي من التحريم، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.

2ـ إن أصل حكم الشرع في سماع الأصوات الحسنة ـ سواءٌ كان مصدر الصوت إنساناً أو طائراً أو آلة ـ هو الإباحة. وما نطق الشرع فيه بحكم سوى ذلك فلعلة خارجة عن حسنه لذاته، كإيجابه سماع القرآن والإنصات له؛ لعلة التعبد، ولكونه كلام الله، فهو خير السماع وأحلى وأجلّ ما يمكن أن تصغي إليه أذن، وكإيجابه القيام بالأذان؛ لما في ذلك من إظهار شعائر الإسلام، والتنبيه على دخول وقت الصلاة، وكإيجاب أو ندب سماع الذكر والعلم؛ لما في ذلك من فوائد عظيمة جمة، وكتحريمه النياحة على الميت؛ لما في ذلك من الاعتراض على أمر الله، والإشعار بعدم الرضا بقدره سبحانه، وكتحريمه التكسر والميوعة في الكلام؛ لما فيه من نشرٍ للفتنة والرذيلة والتحلل والإباحية.

وقولي بأن الأصل هو الإباحة ليس مبنيّاً على فراغ، ولكنه مبنيّ على عدد من الأسس المحكمة، فوقَ ما ورد في المقدمة التأصيلية الأولى، ومنها:

1ـ قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ (الأعراف: 32). والصوت الحسن جمالٌ وزينة، والطيبُ منه حُبُّه واستماعه أمر فطري، وتأثيره في السامع له لا يمكن أن ينكره أحد.

2ـ قوله تعالى: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ (الأعراف: 157). فلا حرام في الإسلام إلا للخبيث الضار، سواءٌ كان خبثه وضرره مادياً أو معنوياً، فردياً أو اجتماعياً، آنياً أو مستقبلياً. ولا شيء في الصوت الحسن ـ ومنه بالطبع الغناء والموسيقى؛ لما فيهما من حسن لا ينكره عاقل ـ إلا أنه من طيبات الدنيا التي تستلذّها الأنفس، وتستطيبها العقول، وتستحسنها الفطر، وتشتهيها الأسماع؛ فهو لذّة الأذن كما أن الطعام الهنيء لذّة المعدة، والمنظر الجميل لذّة العين، والرائحة الذكية لذّة الأنف.

ثم إن الصوت ـ بالنظر إلى كل مُستلَذٍّ ومُستعذَبٍ منه ـ يعود إلى الأصل في اللذة والاستعذاب، وهو (إدراك الملائم للطبع الإنساني والفطرة البشرية). وهذا هو معنى (الطيبات)، أي ما تستطيبه النفس وتلتذّ به من مطعوم ومشروب ومشموم وملبوس ومرئي ومسموع، وغير ذلك مما يجد له الإنسان أثراً طيباً في نفسه، به يهدأ، وبه يرتاح، وبه ينشط، وبه تسكن جوارحه، فتراه منشرح الصدر منبسط الأسارير.

3ـ قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (لقمان: 19). وهو يدلّ بمفهومه على مدح الأصوات الحسنة والطيبة، بل والموزونة. وليس هناك شك في أن الغناء والموسيقى من ذلك؛ لأن مفهوم (الصوت) يشملها قطعاً ويقيناً.

4ـ إن حب الغناء والموسيقى ـ كنوعٍ من الأصوات الحسنة ـ (فطرةٌ إنسانية) و(طبيعةٌ بشرية)؛ لأن الصوت الجميل الحسن ـ ومنه الغناء والموسيقى ـ مُرَاد السمع، ومرتع النفس، وربيع القلب، ومسلاة الكئيب، وأنس الوحيد. ثم إن للصوت الحسن تأثيراً محسوساً في تليين الطباع، واسترواح النفوس، وجلاء الهموم، وتخفيف الأحزان، وتعميق الوجدان. كما أن له أثراً ملموساً ـ وغيرَ منكور ـ على عطاء الإنسان وتحصيله وإسهامه في الأعمال البدنية والعقلية.

وكما أن العطلة معينة على العمل فكذلك اللهو ـ والغناء والموسيقى واللعب والترفيه ـ معين على الجدّ؛ لأنه دواء القلوب من الإعياء والملل، ومنقذها من جفاف الحياة وقسوة الاستمرار في الشغل.

ثم إن لله سبحانه وتعالى سرّاً في مناسبة النغمات الموزونة للنفس الإنسانية، حتى إنها لتؤثِّر فيها تأثيراً عجيباً؛ فمن الأصوات ما يُفرح، ومنها ما يُحزن، ومنها ما يُنوِّم، ومنها ما يُضحك، ومنها ما يُطرب، ومنها ما يَستخرج من أعضاء الإنسان ـ كاليد والرجل والرأس ـ حركات على وزنها. ولذلك قيل ـ في كلمات ظريفة ـ: «من لم يحركه الربيع وأزهاره، والعود وأوتاره، فهو فاسد المزاج، ليس له علاج»([20]). و«من لم يتأثر برقيق الأشعار، تُتلَى بلسان الأوتار، على شطآن الأنهار، في ظلال الأشجار؛ فذلك جِلفُ الطبع حمار»([21]).

إن حبّ الغناء والموسيقى ليس فطرةً إنسانية وبشرية فحسب، بل هو أيضاً فطرة كونية:

فنحن نشاهد الرضيع في مهده يُسكته الصوت الطيب والنغمات الموزونة عن بكائه.

ونشاهد الجمل ـ وهو الحيوان الأعجمي ـ يتأثر بالحداء ـ وهو نوع من الغناء ـ تأثّراً يستخف معه الأحمال والأثقال، ويستقصر بسببه المسافات الطوال، فترى الإبل تمد أعناقها، وتصغي ناصبةً آذانها، وتسرع سيرها حتى تتزعزع عليها أحمالها.

وحتى الأبقار عند سماعها للموسيقى تدر ـ في لين وسهولة ويسر ـ كميات وفيرة من الألبان التي تتميز بقيمة غذائية عالية.

بل وحتى النباتات تتأثر بالموسيقى، فالحقول التي وُضعت في جو موسيقي، حيث زُوِّدت الحقول ـ في التجارب العلمية العملية ـ بأجهزة صوتية قوية يصدر عنها موسيقى، أعطت محصولاً أكثر جودةً من المحاصيل التي نمت بدون موسيقى. كما ثبت أن الزهور تزداد نضارتها وتفتحها على أنغام الموسيقى، وتنقبض شيئاً ما عند سكوتها.

وما قلوب البشر ـ ونفوسهم وأرواحهم ـ بأقلّ من إحساس الحيوانات والبهائم والطيور والنباتات والأزهار، بل إن الإنسان بطبعه عاقلٌ، ذكيّ، متحضِّر، مرهف الإحساس، وله وجدان وعاطفة لا تتمتع بها تلك المخلوقات.

كيف لا يكون حبّ الموسيقى ـ بعد كل ذلك ـ فطرةً إنسانية وبشرية وكونية؟! كيف لا وللموسيقى على الأجنة أبلغ الأثر في تكوينها العصبي والنفسي والوجداني؛ حيث تؤدي إلى تهدئة ملحوظة في ضربات قلبه، وتغيرات هرمونية من شأنها وقايته من الأمراض العصبية والنفسية، ومن عيوب النطق والعجز عن التعلم واكتساب المعرفة والمهارات عندما يولد، بالإضافة إلى انخفاض نسبة تشوهات الأجنة انخفاضاً ملحوظاً؟!

كيف لا وللموسيقى أبلغ الأثر على الأطفال؛ فلقد ثبت أن 94% من حديثي الولادة يسكتون عن البكاء ويستغرقون في النوم فور سماعهم للموسيقى التي كانوا يسمعونها وهم أجنّة؟! ثبت أيضاً أن سماعهم بوجه عام يؤدي إلى رفع مستوى الذكاء والإبداع والتحصيل الذهني.

كيف لا وللموسيقى أبلغ الأثر على الإنسان البالغ الصحيح السليم المعافى؛ فسماعه لها يُحدِث تغيرات فسيولوجية تتمثل في زيادة القدرة على تحمل متاعب العمل وضغوط الحياة؛ وتنشيط الحواس والدورة الدموية والعضلات؛ وتحفيز عمليات هضم الطعام وامتصاصه، والتخلُّص من المواد الضارة؛ وتبعث على الهدوء والطمأنينة والسكينة؛ وتساعد على إفراز (الإندروفينات)، وهي مواد كيميائية طبيعية لها فعالية في تسكين الألم، والتغلب على الأرق والقلق، وإحداث النشوة، وتنشيط الجهاز المناعي ومقاومة الميكروبات؛ وتقلل من إفراز الجسم لهرمونات الإجهاد، ممّا يؤدي إلى هدوء الأعصاب، وتقليل توتُّر العضلات، وتقليل احتمالات الإصابة بأمراض القلب والشرايين؛ وتهدّئ معدل التنفُّس، وتخفض معدل ضربات القلب ومستوى ضغط الدم؛ فضلاً عن تنشيط مراكز الذاكرة بالمخ؟!

كيف لا وللموسيقى فوائد جمة ونتائج إيجابية ملحوظة في علاج عدد كبير من الأمراض([22]) ـ كعلاج أساسي أو كعلاج مساعد وتكميلي في كثير من الأحيان ـ، كالأرق والقلق والاكتئاب والفصام والشلل الرعاش والصرع والبارانويا، والربو الشعبي والبرد والصداع وأمراض القلب وضغط الدم ومتاعب سن اليأس، والحروق والتئام الجروح وتسكين آلام الظهر والمفاصل، والمساعدة في علاج بعض أمراض العيون ومرضى السكر، وتخفيف الأعراض الجانبية الناتجة عن استعمال العلاج الكيميائي لمعالجة السرطان، وإحداث تأثيرات إيجابية أثناء الحمل ـ بتقليل مضاعفاته ـ والولادة ـ بتخفيف الألم والقلق ـ وتقليل فترة الولادة نفسها، بشرط سماع الموسيقى لمدة 4 أسابيع بدءاً من الشهر الثامن للحمل([23])؟!

أبعد كل هذا ينكر المنكرون أن يكون حب الصوت الحسن والموزون ـ من غناء وموسيقى ـ (أمراً فطرياً) و(سنة كونية)؟!

وبناءً على ما تقدم جميعه نقول: إذا كان حب الغناء والموسيقى فطرة وغريزة ـ كما أوضحنا وسنوضح بالأدلة المحكمة من كتاب الله المسطور وكتاب الكون المنظور ـ فـ «هل جاء الدين لمحاربة الفطر والغرائز ومصادرتها والتنكيل بها ـ كما يدعي المحرِّمون؛ بتحريمهم للسماع ـ أم جاء لتقريرها وتهذيبها والسمو بها وتوجيهها التوجيه القويم السليم لتُستخدم في ما يَرقى بالإنسان معنوياً ومادياً؟!

إن الأنبياء إنما بُعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بتبديلها وتغييرها. والشريعة إنما جاءت بتعاليمها لتوجه الإنسان ـ في مقتضيات الفطرة والغريزة ـ إلى الحدّ الأوسط. فهي لم تنزل لانتزاع غريزة حب المال، وإنما نزلت بتعديلها على الوجه الذي لا جشع فيه ولا إسراف ولا تقتير. وهي لم تنزل كذلك لانتزاع غريزة الحزن، وإنما نزلت بتعديلها على الوجه الذي لا هلع فيه ولا جزع ولا إياس من رحمة الله. كما لم تنزل لانتزاع غريزة حب المناظر الطيبة والمسموعات المستلذّة، وإنما نزلت بتهذيبها وتعديلها على وجه لا ضرر فيه ولا شرّ.

وهكذا تقف الشريعة بالنسبة إلى سائر الغرائز موقف الاعتدال والقصد والتنظيم وكبح الجماح عن الحدّ الذي يُنسي الإنسان واجباته، أو يفسد عليه أخلاقه، أو يحول بينه وبين أعمال أخرى ألزم وأوجب. وقفت موقف الاعتدال والتنظيم، لا الإفراط ولا التفريط، ولا الإماتة ولا الانتزاع. فما أعظمها وأكرمها من شريعة»([24])!!

إن الشريعة الإسلامية قد أضفت على الصوت الحسن ثناءً حسناً، بل أفصحت عن طلبها واستحسانها واستحبابها له في أقدس كلام وأطهر مقام؛ وذلك بحثّها على التغني بالقرآن الكريم، وعلى التغني بالأذان؛ لأن النفوس بطبعها تستلذّ بالأصوات الحسنة، بل إن الشريعة ما حثت على التغني بالقرآن إلا لأجل أثر الصوت الحسن في النفس.

أما الأذان فقد قال|: «…قم مع بلال فأَلْقِ عليه ما رأيت، فليؤذِّن به؛ فإنه أندى [وأمدُّ] صوتاً منك»([25]). وفي عودته| من غزوة حنين سمع أناساً يؤذِّنون بالصلاة؛ تقليداً لمؤذِّن رسول الله| واستهزاءً بالمسلمين، فقال|: «قد سمعتُ في هؤلاء تأذين إنسان حسن الصوت»، فأرسل إليهم النبي|، وقال لصاحب الصوت الحسن: «تعالَ»، فأجلسه بين يديه، ومسح على ناصيته، وبَرَّك عليه ثلاث مرات، ثم قال|: «اذهب فأذِّن عند البيت الحرام»، وعلَّمه الأذان([26]).

وأما القرآن فقد قال|: «زينوا القرآن بأصواتكم([27])؛ فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً»([28]). وقال|: «ليس منّا مَنْ لم يتغنَّ بالقرآن»([29]). وقال|: «ما أَذِنَ الله لشيءٍ ما أَذِن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن»([30]). وعن عائشة أنها قالت: «أبطأتُ على عهد رسول الله| ليلةً بعد العشاء، ثم جئتُ، فقال: «أين كنتِ؟»، قلتُ: كنتُ أستمع قراءة رجل من أصحابك لم أسمع مثلَ قراءته وصوته من أحد، قالت: فقام| وقمتُ معه حتى استمَع له، ثم التفت إليَّ فقال: «هذا سالم مولى أبي حذيفة، الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا»([31]).

ومن هنا تعلم أن الإسلام قد راعى ميل الإنسان ـ بحكم فطرته ـ لسماع الصوت الحسن، وأدرك ما له من أثرٍ عليه، فحثَّ على التغني بالأذان والقرآن؛ لينسجما مع النفوس؛ فإن للصوت الحسن تفاعلاً عجيباً وغريباً مع النفوس والأرواح، حث يسري في الجسم، ويجري في العروق؛ فتصفو له النفس، ويرتاح له القلب، وتهتز له الجوارح. انظر وتأمل ما للتغني بالقرآن من أثرٍ في جلب الخشوع والسكون والأنس بالله، وما للترنم بعبارات الذكر والشكر للمنعِم من أثرٍ يلامس المشاعر الباطنة، وما للإنشاد بالشعر الجميل في الحكمة والعلم والأدب وحب الخير من شدّ للقلوب إلى العمل، وما لسماع الغناء والموسيقى وأصوات البلابل والعصافير من مَجلَبةٍ للسكن والهدوء وراحة البال والفكر.

قال النبي| لأبي موسى الأشعري عندما سمع قراءته: «لقد أوتيتَ مزماراً من مزامير آل داوود»([32]).

وعن أبي هريرة أنه قال: دخل رسول الله| المسجد، فسمع قراءة رجل، فقال: «مَنْ هذا؟»، فقيل: عبد الله بن قيس، فقال»: «لقد أوتي هذا من مزامير آل داوود»([33]).

والمقصود من هذه الأحاديث مدحُ هذين الصحابيين في حسن صوتهما بالقرآن، وأن صوتهما يشبه حسنُهُ حُسنَ أصوات المزامير، فشبه| هذه بتلك؛ بجامع الحسن المؤثِّر في القلوب والنفوس. والنبي| يستحيل أن يُشبِّه ما أحبّه بما أبغضه وحرّمه وقضى بخبثه وشيطانيته ـ والمخالِف يزعم أن النبي| يبغض الغناء والمعازف ويحرِّمهما ـ.

إن تشبيه النفيس بالخسيس من سوء الأدب، كما أن تشبيه الحلال بالحرام لا يجوز، وحاشا رسول الله| أن يفعل شيئاً من ذلك.

والشاهد من هذا أن الأصوات الموزونة الخارجة من آلات المعازف طيّبةٌ في الأسماع، حسنةٌ في العقول، ومن أجل ذلك استعملها النبي| كـ (مقاييس) للأصوات الحسنة المحبوبة ـ ولو كانت محرّمةً لما استعملها كمقاييس على الإطلاق كما سيأتي توضيحه إن شاء الله ـ، حيث شبَّه الصوتَ الحسن في قراءة القرآن بصوت المزامير؛ لحسن صوت قارئ القرآن وحلاوة نغمته.

وها هو ذا التابعي الجليل الكبير أبو عثمان النهدي يقول ـ مستخدماً نفس أسلوب النبي| السابق ـ: «ما سمعتُ مزماراً ولا طنبوراً ولا صنجاً أحسن من صوت أبي موسى، إن كان ليصلي بنا فنودّ أنه قرأ البقرة؛ من حسن صوته»([34]). فكأن أبا عثمان يقول: سمعتُ أحلى الأنغام الموسيقية من أحلى آلات المعازف، فكان صوت أبي موسى بالقرآن أحلى منها وأعذب. فشبَّه صوتَ أبي موسى بأصوات الآلات؛ بجامع الحسن المؤثِّر في القلوب والنفوس.

إن لذة النظر في المبصرات الجميلة، كالماء والخضرة والوجه الحسن وسائر الألوان الجميلة. وذلك في مقابل ما يُكرَهُ من المبصرات القبيحة والألوان غير المنسقة.

كما أن لذة الشم في الروائح العطرة والطيبة. وذلك في مقابل الروائح النتنة والمستكرهة.

كما أن لذّة التذوق في الطعوم اللذيذة، كالحلاوة والحموضة. وذلك في مقابل المرارة المستبشعة.

كما أن لذة اللمس في النعومة واللين. وذلك في مقابل الخشونة.

كما أن لذة العقل في العلم والمعرفة. وذلك في مقابل الجهل والبلادة.

كما أن لذة السمع في سماع الأصوات الطيبة والرقيقة والمنشطة للفكر والوجدان، كسماع القرآن والأذان والتواشيح والحداء والغناء وصوت العصفور والعندليب والمعزف وكل آلة لها صوت مستساغ. وذلك في مقابل نهيق الحمار ونباح الكلب ونعيق البوم والغربان([35]).

فلا معنى ـ بناءً على ما سبق من توضيح ـ لأن تستمتع العين بالمناظر الجميلة، والأنف بطيبات الروائح من مسك وعنبر وورد، واللسان بالمطعومات الحلوة، واليد بالملموسات الناعمة واللينة، والعقل بالعلم والمعرفة، لا معنى لأن تستمتع كل تلك الحواس والأعضاء بذلك ولا تستمتع الأذن بالطيب من الأصوات، سواءٌ كان هذا الصوت صادراً من إنسان أو من آلة أو من طائر أو حيوان؛ إذ «لا معنى على الإطلاق للاستمتاع بصوت الهزاز والبلبل دون صوت الآلات ـ التي هي تقليد من الإنسان لصنع الله في الطبيعة ـ. وإذا جاز سماعُ صوتٍ غُفْلٍ (كصوت العصفور) فلِمَ نحرِّم سماع صوت موزون صادرٍ من آلة، مصحوباً أو غير مصحوب بكلامٍ يُفهَم منه الحكمة والمعاني الجميلة. هذا صريح العقل الذي يستحيل أن تأتي الشريعة بخلافه!

إن العندليب والعصفور ـ وغيرهما من الطيور ـ لها أصوات موزونة متناسبة المطالع والمقاطع؛ لذلك يستلذ بسماعها الإنسان. فهي موسيقى ربانية، فلماذا نحرِّمها إذا قلدها الإنسان وهو يحاكي ما فطر الله عليه بعض خلقه؟! فإنما وُضعت الموسيقى ونغماتها على أصوات هذه الطيور؛ تشبيهاً للصنعة بالخِلقة، وما من شيء توصل إليه علماء هذا العصر وأهل الصناعة إلى تصويره أو ابتكاره إلا وهو مأخوذ ـ في الغالب ـ من الخِلقة التي بَدَعَها الله تعالى»([36]).

ونخلص من هذا إلى أن الموسيقى يستحيل أن تحرم لمجرد كونها صوتاً طيباً موزوناً مستلَذّاً، وإلا فلنحرّم سماع أصوات الطيور لمجرد كونها أصواتاً طيبةً موزونةً مستلذّة!!

إن اللذة بسماع الأصوات هي سبب إقبال النفوس عليها واشتغالها بها، سواءٌ كانت قرآناً أو أذاناً أو غناءً أو موسيقى؛ فالأصوات الحسنة مؤثرة في العقول والأذهان، وفاعلة في الطباع والأمزجة، بما لا يخفى إدراكه في واقع الحياة.

ولذلك فالأصل في السماع هو الحلّ؛ جرياً على الفطرة؛ إذ الإسلام دين الفطرة. واللذة بذلك مشروعة في أصلها؛ لموافقة الطبيعة الإنسانية.

إن سماع الأصوات ـ أيّاً كان مصدرها ـ لا يمكن أن يحرم بمجرد كونه (صوتَ آلة) أو (صوتَ إنسان) أو (صوتَ طائر أو حيوان)، وإنما يحرم الصوت إذا صاحبه عارض تحريم أو اقترن بمنكر؛ كما لو استُعين به على محرَّم، أو اتُّخذ وسيلةً إلى الحرام، أو ألهى عن واجب لا يحتمل التأخير.

رابعاً: أدلة المحرِّمين من القرآن الكريم، ومناقشتها

الدليل الأول: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ (لقمان: 6). وقالوا بأن لهو الحديث هو الغناء والمعازف.

المناقشة

1ـ اللهو في اللغة هو كلّ شيء شغلك عن شيء [فقد ألهاك]. وعلى ذلك يدخل فيه الحق والباطل، والحلال والحرام.

2ـ (اللهو) في الآية لم يأتِ مطلقاً، بل جاء بالإضافة إلى (الحديث). فخرج بهذا القيد كلّ لهو لا يوصف بكونه حديثاً، فلا يصحّ على الإطلاق أن يكون معنى (لهو الحديث) المعازف والآلات الموسيقية. بل الصحيح أن (لهو الحديث) عامٌّ في كلّ (كلامٍ) يُتلهّى به، كالغناء والقصص والأساطير والأشعار، وغير ذلك مما يُتَلهَّى به من (الكلام).

3ـ الآية لم تعلِّق أيّ حكم على مجرد شراء لهو الحديث، بل علقت الوعيد الشديد والعذاب المهين على شراء لهوالحديث بقصد الإضلال عن سبيل الله والصدّ عن دينه واتّخاذه هزواً. فأين هذا ممَّن يشتري لهو الحديث بمعزل عن هذا المقصد؟! ومن ذا الذي يحرِّم شراء حكاية أو قصة أو ديوان شعر أو شريط أغنية ليتسلّى به بقراءته أو سماعه ويروِّح بها عن نفسه؟!([37]).

4ـ من أمحل المحال أن يكون (لهو الحديث) هو الغناء والمعازف ـ كما يدَّعي المحرِّمون ـ ثم يقول النبي| لعائشة: «أما كان معكم من (لهو)؛ فإن الأنصار يعجبهم (اللهو)»([38])!!

5ـ والخلاصة أن الآية لم تذمّ (مجرد) اشتراء اللهو، وإنما تذم من يشتريه لـ (يُضِلَّ) عن سبيل الله ودينه، ويصدَّ عن شريعته، ويسخر بها ويتّخذها هزواً.

 

الدليل الثاني: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (القصص: 55). وقالوا بأن الغناء من اللغو، فوجب الإعراض عنه.

المناقشة

1ـ اللغو في أصل اللغة هو الكلام الذي لا فائدة منه، فلا ينفعك إذا سمعته، ولا يضرّك عدم سماعه. فهل يصح بعد هذا البيان أن نقول بأن الغناء لغوٌ؟! ليس كل غناءٍ لغواً، كما أنه ليس كل كلام لغواً، بل إن من الغناء والكلام ـ من حكايات وقصص وشعر…إلخ ـ ما يؤخذ منه الحكمة والأدب والعلم. ولنفترض جدلاً أننا لا نأخذ من الغناء أيّاً من ذلك، وإنما هو مجرد الاستماع إلى صوت حلو طيب شجي، فهل في ذلك حرمة أو حتى شبه حرمة؟!. مَنْ نوى بالاستماع إلى الغناء ـ ولو لم يفده ذلك حكمةً أو علماً ـ ترويح نفسه ليقوى على طاعة الله عزّ وجلّ وينشط نفسه فهو مطيع محسن، وفعله هذا من الحقّ؛ ومَنْ لم ينوِ طاعةً ولا معصية ففعله هذا لغو معفوّ عنه، وذلك كخروج الإنسان إلى حديقته متنزِّهاً، وقعوده على باب داره متفرِّجاً، وغير ذلك من سائر الأفعال ـ وجميعها يستحيل أن يحرِّمها عاقل، فكيف بواهب العقل ـ!!

2ـ الجهل ـ ﴿لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ـ في اللغة هو الطيش والسفه والتعدي بغير حقّ. وهو أيضاً عدم المعرفة. وهذا المفهوم للجهل لا يتناسب مع ما يدّعيه المحرِّمون بأن اللغو في الآية هو الكلام الذي لا فائدة منه؛ لأن مَنْ يأتي بكلام لا فائدة منه ـ لا ينفع سامعه ولا يضره تركه ـ يستحيل أن يُوصَف لغةً بـ (الجاهل)؛ لأنه إنما أتى فعلاً مباحاً، ومَنْ يفعل المباح لا يوصف بالجهل، فضلاً عن أن يُطلَق عليه أنه (جاهل). وبناءً على ذلك فإن المقصود باللغو في الآية ـ حتى يستقيم معناها، ويناسب آخِرَها أوّلُها ـ سفه القول من سبٍّ وشتمٍ واستهزاءٍ ونحو ذلك من الكفار، يتعرَّضون به للمؤمنين.

3ـ فمعنى الآية: وإذا سمع عباد الله المؤمنون الباطلَ، من سبّ وشتم واستهزاء من الجاهلين، انصرفوا عن الإتيان بمثله تنزُّهاً وترفُّعاً، وقالوا: لنا أعمالنا الحقة، من إيمانٍ بالله وعبادةٍ له، لا نحيد عنها، ولكم أعمالكم الباطلة، من كفرٍ بالله وشركٍ به وسبٍّ وشتمٍ لنا واستهزاءٍ بنا وبديننا، ووزرها عليكم، لا نشارككم في الإتيان بها؛ لأننا لا نريد صحبة الجاهلين الطائشين السفهاء، متعدّي الحق والصواب إلى الباطل والخطأ.

فاللغو في الآية هو لغو الكفار المعرضين عن الحق. وهم المرادون بالجاهلين؛ ذلك أن لغوهم كان لسبّ المؤمنين وإيذائهم بالقول، والتشويش به على سماع المؤمنين للذكر والقرآن.

ويتأكد لك صحة تفسيري هذا من خلال قراءتك للسياق الذي وردت فيه الآية (القصص: 46 ـ 57)؛ حيث إنه مقابلةٌ بين صفات عباد الله وحزبه المؤمنين به وصفات الكفار عبدة الأوثان وأتباع حزب الشيطان والخسران.

إن هذه الآية الكريمة من نفس باب قوله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً (الفرقان: 63). وجميع ذلك يذكِّرني بقول الإمام الشافعي:

إذا نطق السفيه فلا تجبه
فإن كلَّمتَه فرَّجتَ عنه
فخيرٌ من إجابته السكوتُ
وإن خلَّيتَه كمداً يموتُ

الدليل الثالث: ﴿وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً (الفرقان: 72). وقالوا بأن (الزور) هو الغناء والموسيقى.

المناقشة

1ـ الزور لغةً هو كل ما خالف الحقّ. فحصرُهُ في (الغناء) قول عاطل باطل مخالفٌ للسان العربي.

2ـ فمعنى الآية ـ التي جاءت في سياق ذكر صفات المؤمنين كما أوضحنا قبل سطور في نهاية مناقشتنا للدليل الثاني ـ: والذين لا يحضرون كل ما خالف الحقّ من باطل وبهتان وزور وإثم، وإذا مروا ـ مصادفةً ـ باللئام ـ في مجال اللغو والزور والكلام الباطل الذي يصادم الحق ـ فإنهم لا يلتفتون إليهم، بل لا يشاركون معهم.

الدليل الرابع: ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً (الإسراء: 64). وقالوا بأن (صوتك) في الآية هو الغناء والمعازف.

المناقشة

1ـ إن الله تعالى يقول لإبليس: واستفزز من بني آدم من استطعت ـ أن تستفزه وتستنهضه للانضمام إليك ـ بصوتك. فلم يخص الله من ذلك صوتاً دون صوت؛ فصوتُه هو كلُّ داعٍ يدعو إلى معصية الله ومخالفة شريعته ودينه.

فالصوت هنا (بذاته) ليس موضع الذمّ، وإنما ذمُّه واستقباحُه لكونه يُستخدَم في الدعوة إلى الشيطان وحزبه. فالأصوات ـ ولا ريب في أن منها الغناء والمعازف ـ لا ينالها الذمّ إلا أن تكون وسيلةً شيطانية تُستخدَم في الدعوة إلى معصية الله والفسوق عن أمره ونهجه. أما إذا استُخدِمت في غير ذلك فإن الآية لم تتعرض لذلك على الإطلاق، لا باللفظ ولا بالفحوى.

وتأمل معي ـ فضلاً عن ذلك ـ بقية الآية: ﴿وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ﴾؛ فهاهنا لا وجه مطلقاً لتعليق الذمّ بالخيل أو بالأرجل؛ فالذم هنا إنما هو معلّقٌ باستخدام الخيل والأرجل في معصية الله. ومثل ذلك يقال في (الأصوات)، بلا شكّ ولا فرق.

2ـ فمعنى الآية: واستفزز من بني آدم من استطعت، واخدعهم بوسوستك وصوتك الشرير ـ سواءٌ كان هذا الصوتُ من جنودك من الأبالسة أمثالك، أو من جنودك من شياطين الإنس ـ وبكلّ ما تستطيع من قوة وإغراء ووسائل شيطانية.

فالمقصود هنا أن يقال لإبليس: اشحذ كلّ أسلحتك لإضلال بني آدم، واجمع عليهم ما تقدر عليه من كيدك وجندك، ولكنْ اعلم بأنك لن تستطيع أن تضلّ المخلصين منهم أبداً.

الدليل الخامس: ﴿أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنتُمْ سَامِدُونَ (النجم: 59 ـ 61). وقالوا بأن (السمود) هو الغناء؛ وهو محرَّمٌ؛ لأن الله عاب على الكفار الغناء في هذه الآية.

المناقشة

1ـ (سَمَدَ) في اللغة غفل وسها. أو لها ولعب. أو رفع رأسه ونصب صدره. إذاً فالسمود يفيد إما الغفلة أو اللهو أو التكبر. وهذه الصفات الثلاثة يصح أن يوصف بها الكفار؛ فهم بين غافل عن تدبر القرآن، ولاهٍ عن سماعه، ومتكبِّرٍ عليه. أما تخصيص (السمود) بالغناء وقصره عليه فهذا من أفحش الخطأ؛ فما الغناء إلا (وسيلة) من وسائل الكفار التي يستخدمونها في التشويش على مَنْ يسمع القرآن، وفي شغل الناس وصدّهم عنه([39])؛ يقول تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ (فصلت: 26).

2ـ لنفترض جدلاً أن المقصود حصراً هو الغناء فكان ماذا؟! إن الآية إنما تنعي على الكفار أنهم كانوا إذا دُعُوا إلى القرآن أعرضوا عنه بلهوهم ولعبهم؛ فإنهم كانوا إذا سمعوا القرآن تغنَّوْا ولعبوا حتى لا يسمعوا. فأين هذا من استماع (المسلم) للغناء والموسيقى ترويحاً عن النفس وترفيهاً وتجديداً للنشاط؟!

3ـ إن معنى الآية: يا أيها الكفار، أفمن هذا القرآن تعجبون؛ إنكاراً وتكذيباً، وتضحكون؛ سخريةً واستهزاءً، ولا تبكون؛ خشيةً من الله وخوفاً من عذابه، وأنتم عن القرآن متكبِّرون وغافلون ولاهون ولاعبون ومشتغلون بأشياء أخرى، حيث إن الكفار ـ كما سبق التوضيح ـ كانوا إذا سمعوا القرآن يُتلى تغنوْا ولعبوا حتى لا يسمعوا.

4ـ إذا كان الغناء محرّماً بنص الآية ـ كما هو منطق المحرِّمين ـ فإنه يجب عليهم أن يحرموا (الضحك) و(عدم البكاء)؛ لأن الآية تشتمل عليه ﴿تَضْحَكونَ ولا تَبْكُونَ﴾!! فإن قالوا بأن هذا مخصوص بالضحك على المسلمين، وأن المقصود به هو الاستهزاء بالقرآن والاستخفاف به، قلتُ: فما كان (ضحكهم) ضحكاً (مجرَّداً)، ولا كان (غناؤهم) غناءً (مجرَّداً)، وإنما المقصود بضحكهم وغنائهم هو الاستهزاء بالإسلام والصدّ عنه وعن القرآن، حيث يضحكون على القرآن ويستهزئون به، ويغنون ويلهون ويلعبون عنده!! ([40]).

الدليل السادس: ﴿وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (الأنفال: 35). وقالوا بأن الله عاب على المشركين المكاء والتصدية ـ وهما الصفير والتصفيق ـ، وذمّهم على ذلك، ولو كان جائزاً ما ذمّهم عليه. والغناء والموسيقى أشدُّ في أصواتها من الصفير والتصفيق، فهما أولى بالتحريم والذمّ.

المناقشة

1ـ إن الله تعالى لم يعِبْ أو يذمّ الصفير والتصفيق لذاتهما، وإنما عاب على المشركين أن جعلوهما صفةً لصلاتهم عند المسجد الحرام. فلقد ذمّ الله تعالى (تعبُّدهم) ـ (صلاتهم) ـ بالتصفير والتصفيق، كما هو واضح في نصّ الآية.

إن الصلاة خشوع وخضوع وعبادةٌ لله تعالى، واستحضارٌ لعظمته وجلاله. ولكن كفار قريش ما كانت صلاتهم إلا تصفيراً وتصفيقاً. فكيف يتفق هذا (اللهو واللعب) مع مقام (العبادة) لله و(الخشوع) و(الخضوع) له سبحانه؟! إن الله ينعي عليهم عدم قيامهم بالعبادة الحقّة والصلاة المطلوبة.

فمعنى الآية: لمّا كانت صلاتكم من قبيل اللهو واللعب فذوقوا العذاب الأليم المعدّ لكم؛ بسبب كفركم وشرككم وابتداعكم في العبادة، وعدم خضوعكم لأمر الله.

2ـ إن للتصفير والتصفيق مقاصد أربعة: التنبيه، اللهو والإطراب، التقدير والاستحسان والإعجاب، التعبد. وما ذمّ الله شيئاً من هذه المقاصد إلا المقصد الأخير، كما شرحنا في النقطة السابقة.

ـ يتبع ـ

الهوامش

__________________________

(*) أستاذ وباحث في علوم الشريعة الإسلامية، ومتخصّص في الدراسات الفقهية، له عدّة مؤلفات، من مصر.

([1]) لا تستغربنَّ ذلك؛ فأَحَبُّ الموضوعات عندي تَلْقَى مني التأجيلَ بعد التأجيل؛ لأن توفية الكلام فيها يستغرق الوقت الطويل؛ فأنا أقصد إلى (صفاء الرؤية) حين أكتب، ومن ثم أؤثر الانتظارَ والتريث حتى يتبدى لي (مجالُ الحقيقة) في ما أبحث عنه، على أن (فترةَ الصمت) تلك تجعل الكتابَ الظاهرَ على إثرها ثقيلاً في ميزان النظر، مستحقاً للحفاوة من البشر، وقبل كلِّ ذلك وفوقه مستحقاً لجزيل الثواب من الله؛ إذ قد أُخْلِص العملُ فيه.

لا تستغربنَّ ذلك؛ فالكتبُ والبحوثُ كالثمار، تحتاج لوقتٍ كافٍ حتى تنضج.

([2]) هذا لا يعني ـ مطلقاً، وبأيّ وجه من الوجوه ـ أن المؤلفات السابقة على بحثي ـ قديمها وحديثها ـ لا قيمة لها، وكيف يُدَّعى ذلك؟! الحق أن بعضها بالنسبة لي كان أشبه بـ (كاسحات الثلوج)، وأن بعضها الآخر كان أشبه بـ (أسوار عكا) ـ على ما فيها جميعاً من أمور آخذها عليها أو أختلف معها فيها ـ. وكلا الأمرين ـ (كاسحات الثلوج) و(أسوارِ عكا)؛ (الفتوحات) و(السدود) ـ مفيدٌ لأي باحث عن الحق والحقيقة، مادام متجرداً في طلبهما، ومتسلحاً بالمنهجية، ومُعمِلاً عقله وفكره؛ ناظراً في مصادر الأدلة نظرةً اجتهاديةً ذاتية مستقلة، ومستفيداً ـ في ذات الوقت ـ من التراث العلمي المتراكم في الموضوع محلّ البحث.

([3]) ومن جميل أقوال الإمام الجليل سفيان الثوري ـ في ما قرأتُ له قديماً ـ: «إن نسبة الفائدة إلى مفيدها من الصدقِ في العلم وشكرِه ، وإن السكوت عن ذلك مِن الكذب في العلم وكفرِه».

([4]) فضلاً عن أنه لا يجوز ـ عندي ـ توثيق راوٍ معين لمجرد أنه روى عنه أربعة أو خمسة ثقات. فمجرد الرواية عن شخص لا يعني ولا يفيد ـ لا شرعاً ولا عقلاً، وإنما هي ظنون لا تسمن ولا تغني من جوع ـ التوثيق، إلا إذا كان الراوي لا يُحدث عن أحد إلا بعد التوثق منه ـ وهذا قليل في الرواة، ومعروف محصور مَنْ كان يقوم بذلك ـ فهذا توثيقٌ للمرويّ عنه ولا شك.

ولتوثيق الرواة ـ كما هو معلوم ـ شقان: «العدالة» و«الضبط». وإن سلَّمنا ـ تسامحاً وتنـزُّلاً ـ بثبوت «العدالة» لراوٍ لمجرد أنْ قد روى عنه عدد من الثقات ـ وإلا فما هي أحوال الراوي: متى وُلد؟ وفي أي بلد؟ وكيف هو في الدين والأمانة والعقل والمروءة والتحفظ؟ ومتى شرع في الطلب؟ ومتى سمع؟ ومع مَن سمع؟ وكيف كتابه إن كان يحدث منه؟ ومَن هم شيوخه؟ وما هي أحوالهم؟ وبلدانهم؟ ووفياتهم؟ وأوقات تحديثهم؟ وعاداتهم في التحديث؟ ـ فلا يمكن بحال أن نسلم بثبوت «الضبط» لمجرد السبب السابق؛ إذ لا يثبُتُ «الضبط» للراوي حتى يُختبَر حديثُه فيثبُتَ حفظُه (ما هي مرويات الناس ـ وخاصة الثقات ـ عن شيوخه؟ وما هي مروياته هو عنهم؟ ثم تُعرَض مروياته على مروياتهم؟ وهل يتوافق ما يرويه مع قواعد الدين وأصوله ومقرراته؟ وهل هو متيقظ فطن لا يستخفّه بادر ظن حتى يستوفي النظر والتثبت؟ أم يقبل التلقين؟ أم هو مُخَلِّط؟ أم قد اختلط؟ إلى غير ذلك ممّا يطول شرحه). قارن مع مقدمة تحقيق العلامة عبد الرحمن المُعلَّمي اليماني لكتاب «الجرح والتعديل»، لابن أبي حاتم الرازي، المجلد الأول، صفحات ب، ج.

([5]) رواه أحمد وابن ماجة. وهو حديث صحيح.

([6]) أخرجه الحاكم في المستدرك 1: 490. ولا تعترضن عليَّ بضعف سنده؛ فإنما يهمّنا معناه ومغزاه. وإن رُمتَ صحة السند فإليك هذا: يقول ـ بحق ـ الإمام ابن مهدي : «لا ينبغي للرجل أن يشغل نفسه بكتابة أحاديث الضعاف، فإن أقل ما فيه أن يفوته بقدر ما يكتب من حديث أهل الضعف أن يفوته من حديث الثقات». أخرجه يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ 3: 141 بسند صحيح. قلتُ: إذا كان هذا في مجرد كتابتها وروايتها فكيف بالتقوية بها، بل الاحتجاج! ويقول ـ بحق أيضاً ـ الإمام يحيى بن سعيد القطان: «لا تنظروا إلى الحديث، ولكن انظروا إلى الإسناد، فإن صح الإسناد، وإلا فلا تغتروا بالحديث إذا لم يصح الإسناد» (سير أعلام النبلاء 9: 188).

([7]) أخرجه الخطيب البغدادي في الكفاية: 134.

([8]) ابن رجب الحنبلي، شرح علل الترمذي 2: 72 ـ 74.

([9]) إن تقوية الطريق الضعيف بمثله لا تجدي ولا تفيد؛ إذ هي كمعاونة المقعد (أو المريض) للمريض! وما يُستفاد من رواية الضعفاء إلا ما فيه إضعاف للناس! وما يُستفاد من رواية الهلكى إلا ما فيه هلاك للناس! وإنما يُوثَقُ في رواية الضعيف إذا جاءت روايته على وفاق رواية الثقات، أما إذا جاءت على وفاق مَن هو مِثله أو أضعف فلا عبرة بها، ولا التفات إليها؛ لأن هذا يدل على نكارتها؛ لتفرد الضعفاء بها عن المحدث الثقة دون أصحابه الثقات.

وسيأتي زيادةُ تفصيلٍ خطيرٍ في ذلك الأمر ـ تحت عنوان : فائدة استطرادية ـ في الهامش الأول الوارد عند ذكر «الدليل الأول» لمحرِّمي الغناء والموسيقى من السنة النبوية المشرفة.

ولنا في هذا الموضوع بحث لا يزال في طور الإعداد بعنوان : «هل يصح تقوية الحديث بتعدد الطرق الضعيفة؟».

([10]) مستفاد من أستاذنا الجديع.

([11]) تأمل هذا في مسألتنا (الغناء والموسيقى)؛ فليس فيها حديث واحد صحيح واضحٌ في التحريم ـ مع عموم البلوى بها في الجاهلية والإسلام ـ، بل فيها ما يؤيد الإباحة من أحاديث صحيحةٍ محكمةٍ واضحة الدلالة.

لقد كان الغناء والموسيقى أمراً شائعاً لدى العرب والعجم، قبل الإسلام وبعده، وللناس به ولعٌ وتعلقٌ، وله سوق رائجة، وإن كان للدين موقف في منعه فلا بد أن يكون واضحاً وحاسماً، تقوم به الحجة وينقطع العذر. وهذا لم يوجد، بل وُجد عكسه ـ كما سيأتي تفصيلاً إن شاء الله ـ.

([12]) سيأتي لموضوع سد الذريعة مزيدُ بيانٍ في ثامناً: استدلال المحرِّمين بقاعدة سد الذرائع ومناقشتهم.

([13]) مستفاد من أستاذنا الجديع، بتصرف بسيط.

([14]) انظر: العلامة عبد الحليم أبو شقة، تحرير المرأة في عصر الرسالة 3: 188ـ 189.

([15]) الخطابي، غريب الحديث؛ لسان العرب 15: 139؛ المعجم الوسيط 2: 689.

([16]) المعجم الوسيط 2: 927.

([17]) المعجم الوسيط 2: 620؛ تاج العروس 6: 197ـ 198؛ الذهبي، سير أعلام النبلاء 21: 158.

([18]) انظر: القاموس المحيط 3: 141؛ تاج العروس 6: 108؛ إحياء علوم الدين 2: 251، 260؛ د. سالم علي الثقفي، أحكام الغناء والمعازف: 124؛ الإدفوي، الإمتاع بأحكام السماع: ورقة 253 من المخطوطة، وهي في المكتبة الأزهرية: أدب (462)، (7058) أباظة. وقد استفدنا هذا النقل من مخطوطة الإدفوي من كتاب د. سالم الثقفي أيضاً.

وسائر (آلات الغناء) التي لم تكن معروفةً على عهد النبوة يصح ـ بل يجب؛ لدخولها في المدلول اللغوي للكلمة ـ إطلاق لفظ (المعازف) عليها؛ كما يصح ـ بل يجب؛ لذات السبب السابق ـ إطلاق لفظ (الخمر) على سائر (المسكرات) التي حدثت بعد عصر النبوة.

([19]) وأقول ـ مع رشيد رضا، بتصرف ـ: لو جاء في الكتاب أو صحيح السنة نص صريح في تحريم المعازف لكان أول ما يتبادر إلى فهم الصحابة منه تحريم ما كان ذائعًا في عصرهم ـ وعصر النبوة ـ منه كالدف، ثم يُلحَق به غير الذائع وغير المعروف عندهم بعموم اللفظ (إذا كان الوضع اللغوي يساعد على ذلك) أو بطريق النظر والقياس (إذا اتّحدت العلة). وكل ذلك لم يحدث، بل حدث عكسه ـ كما سيأتي تفصيل جميع ذلك في البحث الذي بين يديك ـ.

([20]) إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي.

([21]) محمود شلتوت الفتاوى، ناقلاً العبارة عن شيخ الأزهر السابق حسن العطار.

([22]) حتى أن تاريخنا الإسلامي قد شهد ـ منذ العباسيين ـ أوقافاً للموسيقى التي تُعزَف للمرضى في البيمارستانات (أي المستشفيات بالتعبير القديم).

([23]) للتفصيل انظر:

ـ د. عز الدين الدنشاري، علاج بلا دواء: 107ـ 120، ديسمبر 2001م، كتاب الهلال الطبي، دار الهلال ـ القاهرة.

ـ دون كامبل Don Campbell، تأثير موتزارت The Mozart effect؛ حيث بين فيه تأثير الموسيقى الكلاسيكية بوجه عام، وموسيقى موتزارت بوجه خاص، كما استعرض فيه الكثير من البحوث والدراسات العلمية التي أجريت حول التأثير الطبي للموسيقى في الولايات المتحدة الأمريكية.

 ـClinical Medicine، P. 406، 6th edition، 2005، Oxford Press

 ـwww.musictherapy.org

ـ يحيى رضا جاد، الفوائد الطبية للموسيقى، مقال ما يزال مخطوطاً لم يُنشر بعد، مصادره هي المذكورة آنفاً.

ولاحظ أن كل كلامنا الوارد في المتن ـ عدا الفقرة الأخيرة ـ منصبٌّ على بيان أثر الموسيقى على الإنسان الصحيح السليم، مما يؤكد على أن حب الموسيقى أمر فطري قد جُبلنا عليه، وإلا لما تجاوب جسم الإنسان السليم معها، فتأمل.

وهذا بخلاف الموسيقى المثيرة المهيجة، بما تستثيره في سامعيها من حركات بهلوانية جنونية رعناء، كالموسيقى التي نراها الآن مقترنةً بالأغاني الغربية المعاصرة، كموسيقى (الديسكو)، وموسيقى فرق (الهيبز) الغربية، وأمثالها من الموسيقى المثيرة المهيجة التي تحول مستمعيها إلى قطيع هائج من القرود يقفز يميناً وشمالاً، مع خلاعة ومجون ورعونة وخفة تُخرِج عن حدّ الاعتدال، وتهبط بالكهول إلى التصابي، وبالعقلاء إلى مرتبة المجانين!!

فمثل هذه الموسيقى لا شك في أنها مذمومة ومستقبحة في العقول، والفطرة البشرية السليمة تمج سماع هذه الموسيقى وتنفر منها؛ لشذوذها وعدم ملاءمتها للطباع والنفوس المجبولة على الميل إلى سماع الألحان الجميلة واستعذاب الأنغام الراقية التي تسمو بالإنسان وبأحاسيسه ووجدانه ومشاعره، لا التي تهبط به إلى مرتبة المجانين والقرود وذوات الأربع.

والنفس السوية لا تستلذها، والعقول لا تستطيبها، والفطر لا تستحسنها، والأسماع لا تشتهيها. وما كان كذلك فهو ليس من (الطيبات)، بل من (الخبائث). وهي ليست مندرجةً ـ بأية حالٍ من الأحوال ـ تحت مفهوم (الصوت الحسن)، الذي أضفت الشريعة الإسلامية عليه ثناءً حسناً كما سنوضح بعد قليل؛ لعدم ملاءمتها للطبع الإنساني.

إضافةً إلى ثبوت ضرر هذه الموسيقى الصاخبة على الإنسان، أقصد الضرر المادي الطبي؛ لما تسببه من زيادةٍ في ضربات قلب الجنين (إن استمعت لها الأم الحامل)، واضطرابٍ في وظائف أعضائه. كما تساعد على حدوث تشوهات للأجنة. كما تزيد ـ في الإنسان العادي الطبيعي غير المريض ـ معدلات التنفس، وضربات القلب، وضغط الدم، وتثير الأعصاب، وتزيد توتر العضلات، كما تزيد من إفراز الجسم للأدرينالين والكورتيزون، مما يساعد على حدوث تصلب الشرايين، وارتفاع مستوى الكوليستيرول، والسكر، وضغط الدم، وإضعاف جهاز المناعة، بالإضافة إلى مساهمتها في إحداث قرحة الاثنا عشر، وحرقان المعدة، وعسر الهضم، والصداع، والدوخة.

كل تلك الأضرار تثبت ـ بما يمحو كل شك أو ارتياب ـ أن تلك الموسيقى الصاخبة المهيجة المثيرة مناقضةٌ للفطرة التي فطر الله الناس عليها، وإلا لَمَا كان منها ضرر!

فهل يبقى بعد هذا البيانِ قولٌ؟!

ما أعذب موسيقانا الشرقية العربية الأصيلة: صفاءٌ، وجاذبية سمعيةٌ، وجمالُ إيقاعٍ، ورقّةُ أنغامٍ. إنها شجنٌ عذبٌ، يجد له الإنسان أثراً طيباً في نفسه، به يهدأ، وبه يرتاح، وبه ينشط، وبه تسكن جوارحه، فتراه منشرح الصدر، منبسط الأسارير.

شتّان ما بين الحالين والنوعين!!

والخلاصة أنَّ كلَّ صوتٍ منكر حساً ـ أو شرعاً ـ ليس بطيبٍ يُستلذُّ.

([24]) أصل فكرة هذه الفقرة مستفاد ـ بتصرُّف؛ تنقيحاً للعبارة وتحريراً لها وزيادة عليها وحذفاً منها ـ من فتوى شلتوت المتعلقة بالغناء والموسيقى، ومجموع فتاوى ابن تيمية، وكتاب القرضاوي في الغناء والموسيقى.

([25]) أخرجه أبو داود (499)؛ والترمذي (189)، والزيادة له. وصحَّحه الألباني.

([26]) أخرجه النسائي (633)؛ وصحَّحه الألباني.

([27]) أي لأن الكلام الحسن يزداد حُسناً وزينةً بالصوت الحسن.

([28]) أخرجه أحمد؛ والنسائي (1015)؛ وابن ماجة (1342)؛ والدارمي؛ والحاكم، والزيادة لهما؛ وصحَّحه الألباني في لصحيحة (771).

([29]) أخرجه البخاري.

([30]) متفق عليه.

([31]) أخرجه ابن ماجة (1338)؛ وصحَّحه الألباني. وهو كما قال.

([32]) متفق عليه.

([33]) أخرجه مسلم؛ وابن ماجة (1341).

([34]) أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن؛ والبخاري في خلق أفعال العباد: 121 رقم (290). كلاهما بسند صحيح.

([35]) أصل فكرة السطور التسعة السابقة مستفاد ـ بتصرف؛ تنقيحاً وتحريراً وإضافةً وحذفاً ـ من إحياء أبي حامد الغزالي، ومقدمة ابن خلدون، وفتوى شلتوت المتعلقة بالغناء والموسيقى، وكتابَيْ سالم علي الثقفي والقرضاوي في الغناء والموسيقى.

([36]) أصل فكرة هذه الفقرة مستفاد ـ بتصرف؛ تنقيحاً وتحريراً وإضافةً وحذفاً ـ من إحياء أبي حامد الغزالي، وكتب عمارة والقرضاوي في الغناء والموسيقى، حيث تابعاه فيها.

([37]) وبناءً على ذلك فمن ذا الذي يحرم الغناء الطيب بكلمات رصينة وبليغة وصوت عذب؛ ترويحاً عن النفوس وجلاءً للهموم؟!

([38]) سيأتيك قريباً تخريج هذا الحديث الصحيح.

([39]) ولذلك قال ابن عباس في معنى سامدون: «هو الغناء؛ كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا. وهي بلغة أهل اليمن؛ يقول اليماني إذا تغنى: أسمد». أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2: 255؛ والطبري في تفسيره 27: 82، بإسنادين: أحدهما صحيح؛ والآخَر حسن.

([40]) فإنما كان لضحكهم وغنائهم (قصدٌ جنائي)، بالتعبير القانوني المعاصر!!

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً