أحدث المقالات

الشيخ نبيل يونس(*)

المؤلِّف الثائر

من السطور الأولى في الكتاب يلتمس القارئ بوضوحٍ ملامحَ الحزن والقلق؛ حزن المؤلِّف على حال هذه الأمّة المشتَّتة المتمزِّقة، وقلقه على مستقبل المسلمين الضبابي والملغوم بقنابل فتاوى القطيعة، التي تمزِّق جسد الأمّة إلى أشلاء وأجزاء متناثرة. نعم، هذا هو حال العلاّمة الشيخ حسين الخشن، كحال سائر العلماء الربّانيين والمؤمنين المخلصين القلقين على الإسلام والمسلمين.

ولكنّ المؤلِّف الثائر لم يستسلم لهذا الواقع المرير، ولم يكتَفِ بإطلاق الخطابات المخدِّرة والكلمات المجامِلة، بل انتفض وتمرّد، وثار على كلّ فتاوى التكفير والتضليل والتفسيق التي تبيح لعن المسلم الآخر وسبَّه وشتمه، والتي تهيّئ جوّاً من التباغض والتناحر بين المسلمين؛ فقام وأعاد دراسة كلّ الأدلة التي تنتج هذه الفتاوى، مبيِّناً الثغرات العلمية الموجودة فيها.

خطّة القراءة

ولأنّ الكتاب واقعٌ في مجلدين، يبلغ عدد صفحاتهما تقريب الألف ورقة، كان لا بُدَّ من كتابة قراءةٍ عنه، بل لا بُدَّ من كتابة عدّة قراءاتٍ؛ وذلك كي تقرب المسافة بينه وبين القرّاء، ويُمهّد للباحثين طريق الدخول إليه، واستكشاف مضمونه.

ولن تكتفي هذه القراءة، التي بين أيديكم، بالكشف عن العناوين وأبحاث الكتاب، بل ستحاول الكلام عمّا أتى به المؤلِّف من جديدٍ، وفي ما ناقش فيه العلماء والفقهاء القدماء والمعاصرين؛ لأنّ في الكتاب مناقشاتٍ غنيّةً، وآراء مميّزة في كلّ المجالات، في العقيدة والفقه والتاريخ وغيرها، التي حاول فيها المؤلِّف كسر جدار الجمود الفكري، وإحداث فجوةٍ عميقة يطلّ عبرها الباحثون إلى ساحاتٍ جديدة في الفكر الإسلامي.

والقراءة التي بين أيديكم تنقسم إلى قسمين:

الأوّل: جولة على عناوين الكتاب.

الثاني: تسليط الضوء على بعض المناقشات الفكريّة المميّزة.

القسم الأوّل: جولةٌ على عناوين الكتاب

لا بُدَّ أن نشير أوّلاً إلى أنّ الكتاب مؤلَّف من: ثلاثة أبواب؛ ومقدّمة.

والباب الأول مقسَّم إلى ستّة محاور؛ بينما ينقسم الباب الثاني إلى خمسة محاور؛ وأمّا الباب الثالث فيتألَّف من ستّة محاور. وكلّ محور مقسّم إلى فصولٍ عدّة.

 نبدأ من مقدّمة الكتاب، حيث طرح المؤلِّف نقاطاً مهمّة، وتنبيهات عديدة، تكشف عن بعض الأخطاء المنهجية العامّة التي وقع فيها بعضُ الفقهاء.

ومن التنبيهات المذكورة:

1ـ «التعرُّف على الآخر من مصادره»: فلا يكفي أن يتعرّف الشيعي على معتقدات السنّي من كتب الشيعة، ولا يكفي أن يتعرف السنّي على معتقدات الشيعي من كتب السنّة. ولا يكفي أيضاً التمسُّك بمصادر غير أساسية، كمَنْ يبحث عن نقطةٍ سوداء هنا وهناك ليسجِّلها في صفحة الآخر. الحقُّ هو أن نتعرَّف على بعضنا بالطريقة الصحيحة.

2ـ والتنبيه الثاني هو ضرورة الاعتراف بخطورة القطيعة الموجودة بين المذاهب؛ لأنّ الاستسهال والاستخفاف بها ـ كما حصل مع بعض الفقهاء ـ يشكِّل عاملاً سلبياً ومضرّاً للعاملين في سبيل الوحدة؛ فإنّ القطيعة إذا لم تُدْرَس بعمقها وامتدادها الموجود تاريخياً وسياسياً وعقائدياً وفقهياً ونفسياً واجتماعياً ستُصاب كلّ دعوات الوحدة والتقريب بالفشل، ولن تنتج حلاًّ.

3ـ ومن النقاط المهمة التي أشار إليها المصنِّف أيضاً التمسُّك بالقرآن الكريم، بما يشكِّله من ضامنٍ ومُلْهِمٍ لإدارة النزاعات والخلافات. وهذا الأمر يستوجب على علماء المسلمين أن يخطوا بكلّ جرأةٍ إلى إعادة دراسة العقائد والمسائل الكلامية؛ لأنّ «المشكلة في عمقها وجوهرها مشكلةٌ كلامية، وليست فقهية». ويكفينا حديث «الفرقة الناجية» كأوّل مسمارٍ في نعش الوحدة الإسلامية.

الباب الأوّل: وفيه نقَّح المؤلِّف العناوين التالية: المسلم، المؤمن، المستضعف، المنافق، الناصبي، والمغالي.

وفي الفصل الأوّل: بدأ المؤلِّف بدراسة تعريف «المسلم»، وتنقيح عنوان «الكافر». وأجاب على السؤال: هل السنّي الذي لا يؤمن بولاية أهل البيت^ مسلمٌ أم كافر؟ بعد أن حكم بعض الفقهاء بكفره؛ استناداً إلى فهمهم الخاصّ لبعض روايات الأئمة^.

عَرَض المؤلِّف أدلة القائلين بكفره، ومنها: الروايات التي تسمِّ الآخر «بالكفر»، وقارن فيما بينها من جهة استعمال هذه الكلمة. فبيَّن التفاوت في الاستخدام، والتنوُّع في المراد؛ فليس كلُّ «كافر» هو خارجٌ عن الإسلام، إنما هناك مراتب من «الكفر» تجتمع مع الإسلام، وأغلب هذه الروايات تستخدم مصطلح «الكفر» المقابل للإيمان، وليس المقابل للإسلام.

في الفصل الثاني: يعرِّج المؤلِّف إلى الحديث عن «المؤمن»، ليسأل سؤالاً مهمّاً: ما المقصود من مصطلح «المؤمن» أو «الذين آمنوا» الوارد في القرآن، وفي روايات الرسول| والأئمّة من أهل البيت^؟ هل المقصود به هو الشيعي فقط، كما ذهب إليه الكثيرون من الفقهاء؟

   واستعرض المؤلِّف الآيات القرآنية، مع تتبُّعٍ دقيق لكلمة «مؤمن»، ليصل إلى نتيجةٍ حاسمة أنّ «المؤمن» في القرآن يشمل كلّ مسلمٍ آمن بالله تعالى ورسوله|.

   أمّا الروايات، فمع التسليم بأنّ الأئمة ـ أحياناً ـ استعملوا كلمة «المؤمن» في الدائرة المذهبيّة الخاصّة، ولكنّ هذا لا يلغي المعنى القرآني لها؛ فالرسول| والأئمّة^ لا يخالفون القرآن الكريم في خطاباتهم، وإذا كان هناك من استثناءٍ فلا بُدَّ من وجود قرينةٍ تحدِّد المعنى المراد، وإلاّ يكون مقصودهم من «المؤمن» المعنى القرآني العامّ.

   في الفصل الثالث: يصل الكلام إلى المستضعف، وهو عنوانٌ حسّاس جدّاً؛ لأنّ الاستضعاف يُعطي «معذوريّة» للمستضعفين، وذلك بنصّ القرآن الكريم. والسؤال المهمّ الذي يُطرَح هنا: هل يمكن اعتبار المسلم الآخر «مستضعفاً»، وبالتالي يكون معذوراً في عدم ولايته للأئمّة^؟

   رفض بعض الفقهاء هذا الاعتبار؛ لأنّ المستضعف ينطبق على الأولاد والنساء والعَجَزة الذين لا حيلة لهم، ولا يستطيعون الهجرة والوصول إلى دار الحقّ؛ ليؤمنوا؛ أمّا المسلم الآخر فمن المؤكَّد أنّه ليس بمستضعفٍ، ولطالما كان السنّي ـ وهو النموذج الأبرز للآخر المذهبي ـ الطرف القويّ في كلّ الأنظمة والخلافات الإسلامية عبر التاريخ، فلا مانع من وصوله إلى المذهب الحقّ سوى تقصيره أو جحوده، ولا وجه للقول بمعذوريّته.

   ولكنّ للمؤلِّف رأياً آخر في الاستضعاف، مفادُه أنّ الاستضعاف في العمق يرجع إلى الاستضعاف الفكري والثقافي، وليس إلى الاستضعاف البَدَني أو المادّي. فصحيحٌ أنّ ضعف البدن وقلة المال يمنعان المسلمين من الهجرة؛ للوصول إلى دار المعرفة، ولكنْ قد يوجد موانع أخرى، غير الاستضعاف البدني، تحول دون وصول المسلم إلى الحقيقة. وأبرز هذه الموانع: أن لا يحتمل الإنسان فساد عقيدته، وبالتالي لن يجد ما يدفعه للبحث عن الحقيقة. ومن المعلوم أنّ غالبية المسلمين من الإخوة السنّة وغيرهم ـ فضلاً عن غير المسلمين ـ يعتقدون بصحّة ما هم عليه، ولا يحتملون خلاف ذلك؛ وهذا من أكبر الموانع من البحث عن الحقيقة، وبذلك يصدق عليهم عنوان الاستضعاف.

   أمّا الفصل الرابع فهو بحث المنافق، وله أهمّيةٌ كبيرة في مقامنا؛ لأنّ بعض الفقهاء حكموا على المسلم الآخر بالنفاق، وبنَوْا على هذا الأمر سلسلةً من الرؤى العقدية والأحكام الفقهية.

ودليلُهم على هذا النفاق هو البغض الذي يكنُّه المسلم الآخر تجاه أتباع المذهب الشيعي؛ لأنّ الشيعة يعتقدون بولاية وحبّ الإمام عليّ×، فيلزم من بغض الآخر لهم بغضُ الإمام نفسه. وكما هو ثابتٌ عن الرسول| فإنّ بغض عليٍّ× علامةٌ على النفاق.

   توقّف الكاتب عند أدلّة هؤلاء، ودقَّق في هذه الدعوى؛ لأنّ كلّ المسلمين يحبّون عليّاً×، ولا يبغضون شيعته بسبب ولايتهم له×، إنما هو بغضٌ ـ إنْ وُجِد ـ دنيويّ وسياسي.

   ولم يكتَفِ المؤلِّف بمعالجة هذه النقطة فحَسْب، بل تنظَّر في أحكام المنافق في الفقه الإسلامي. فالمشهور أنّ المنافق له أحكامٌ خاصّة، وهذه الأحكام شكّلت حصانةً له في المجتمع الإسلامي، مع علم المسلمين أنّه منافقٌ. والشاهدُ على ذلك سيرة رسول الله|.

لكنّ المؤلِّف لم يرتَضِ هذه الرؤية الفقهية؛ فإنّ لزمن الرسول| خصوصيّته الرسالية، والتي استدعَتْ هذا التعامل الخاصّ مع المنافقين. أمّا في زماننا فلو علمنا أنّ هناك شخصاً يبطن الكفر، ولا يؤمن بالإسلام، وتأكَّدنا أنّه يكذب بما يعلنه من اعتقادٍ، فيجب أن لا يُتعامل معه كمسلمٍ، وأن لا تكون له حصانةٌ تُعينُه على بثّ نفاقه وكيد المكائد للمسلمين.

   وفي الفصل الخامس: يطلّ على القارئ العنوانُ الأبرزُ والأخطر في عملية التكفير، وهو «الناصبيّ»؛ لأنّ فتوى مشهور الفقهاء هو «كفر» الناصبيّ؛ وذلك اعتماداً على رواياتٍ صحيحة وصريحة. وإذا كان عنوان «النصب» ينطبق على كلّ مَنْ لم يُوالِ الأئمة^ ـ كما ادّعاه بعضُ فقهاء الشيعة ـ فهذا يعني أنّ أهل السنّة كلّهم كفّارٌ!

   وشبيهه في الخطورة عنوان «المغالي»، ويأتي في الفصل السادس؛ فإنّ المغالي عند مشهور الفقهاء كافر، تَبَعاً لأدلّةٍ قويّة. وإذا كان عنوان «الغلوّ» يشمل الشيعة ـ كما ادّعاه بعضُ فقهاء السنّة ـ فهذا يعني أنّ الشيعة كلّهم كفّارٌ!

   وهكذا، يدّعي كلٌّ من السنّة والشيعة كفرَ الآخر؛ فالسنّي كافرٌ باعتباره ناصبياً، والشيعي كافرٌ باعتباره مغالياً!

أمّا بالنسبة لعنوان «الناصبيّ» الوارد في الروايات فقد قام المؤلِّف بتنقيح الاستعمالات المتنوِّعة له والاستخدمات المتفاوتة على لسان الأئمّة^. وبعد عرضٍ مفصَّل للروايات يتّضح أنّ القدر المتيقَّن من معنى الناصبي هو الذي ينصب «العداء الدينيّ» للأئمة^، مع الاستعداد لمحاربتهم^. وهذا الفرد كان في زمن الأئمة^ نادراً، فما بالك في زماننا! وهل هناك سنّي واحدٌ يدّعي أو يتجرّأ ويقول: إنّه يبغض الإمام عليّاً× أو الحسنين’ أو الصادقين’…؟ الجواب بكلّ تأكيدٍ: لا. وإنْ وُجد فسوف يتبرّأ منه أهل السنّة أنفسهم.

   أمّا الغلوّ فقد شرَّح المؤلِّف مفهوم «الغلوّ» إلى مستوياته كلّها، وميَّز بين الغلوّ المستوجب للكفر والآخر الذي يجتمع مع الإسلام. وهل هناك شيعيٌّ يدَّعي عبادة الأئمّة^ ـ والعياذ بالله ـ أو يؤمن بالتفويض المستقلّ؟! طبعاً لا.

   وهكذا ينتهي الباب الأول، والقارئ يملك رؤيةً واضحة عن أخيه المسلم. فالمسلم، مهما كان مذهبه، إذا استقام على جادّة الشريعة يكون مؤمناً. وإذا لم يعتقد بولاية أهل البيت^، فهو معذورٌ عند الله تعالى؛ لأنّه إمّا قاصر لم يحتمل فساد مذهبه؛ أو مستضعف منعه مانعٌ من الوصول إلى الحقيقة؛ أو مجتهدٌ قاطع بصحّة ما توصّل إليه. أمّا العالم الجاحد، وهو الفرد النادر، فليس معذوراً قطعاً. وأمّا النواصب والغلاة فهم موجودون، ولكنّهم بالتأكيد ليسوا من السنّة والشيعة.

الباب الثاني: وفيه يدرس المؤلِّفُ القواعدَ الفقهية التي تنظّم علاقة المسلمين مع بعضهم البعض، ومع غير المسلمين أيضاً. وهي خمس قواعد.

القاعدة الأولى: «حرمة الدم والمال والعِرْض». وخلاصة الكلام: إنّ القاعدة تشمل المسلم الآخر؛ لأنّ موضوعها هو حرمة دم «المسلم» وماله وعِرْضه. وقد سبق للمؤلِّف أن نقَّح عنوان «المسلم» في الباب الأول، وأثبت شمول هذا العنوان للآخر المذهبي، السنّي تحديداً.

   هذا صحيحٌ بالمبدأ. ولكنّ المؤلِّف لم يكتَفِ بإثبات حرمة الدم والمال والعِرْض لكلّ مسلمٍ، بل ذهب بعيداً لإثبات حرمتها لكلّ إنسان، مهما كان دينه، باستثناء ما لو كان محارِباً معتدياً على حرمة الأبرياء.

وسيتلمّس القارئ الجهد المبذول من قِبَل المؤلِّف في إثبات ذلك، وفي إيجاد نصوصٍ تعطي عنوان «الإنسان» هذه الحرمة، طبعاً بالتعاضد مع حكم «العقل» بقبح الظلم، والذي لا تقبل أحكامه التخصيص.

   القاعدة الثانية: «أصالة الصحّة في عمل الآخر»، وهي تحكم بصحّة عقيدة المسلم الآخر، وكذلك تحكم بصحّة معاملاته، وحمله دائماً على الأحسن. وهي قاعدةٌ مشهورة، وثابتة بالأدلّة الصحيحة. والأهمّ في المقام أنّ المؤلِّف أزال كلّ ما يمكن أن يتوهَّم أو يُشكِّك في «إسلام» الآخر المذهبيّ، وبذلك تنطبق القاعدة على كلّ المسلمين، ويحكم بصحّة أعمالهم العبادية والمعاملاتية.

والقاعدة الثالثة هي: «الإلزام» وأخواتها، كقاعدة «مَنْ دان بدين قومٍ لزمته أحكامهم»؛ و«المقاصّة بالمثل»، حيث اعتمد مشهور الفقهاء عليها لإمضاء معاملات المسلم الآخر؛ فإنّ طلاق السنّي وزواجه مثلاً، واللذين لا يستوفيان شروط المذهب الإماميّ، يتمّ إلزامُ المعتقِد بهما، وإنْ لم تثبت صحّتهما واقعاً؛ وذلك من باب التسهيل على الشيعيّ في التعامل مع الآخر، وإعطائه نوعاً من التميُّز.

ناقش المؤلِّف تفسير المشهور، ودقَّق في أدلّة هذه القواعد، ليرجعها ـ بعد التدقيق ـ إلى قاعدةٍ عقلائية واحدة، وهي التعامل مع الآخر بحَسَب أحكام دينه. هكذا يتعامل العقلاء عند الاختلاف في وجهات النظر بين الشعوب. وأدلّة هذه القواعد قاصرةٌ عن إثبات أكثر من ذلك. فالقضية ليست بهدف إعطاء تميُّز لمسلمٍ على آخر، بل هي بقصد تنظيم حياة البشر في ظلّ الاختلافات وتعدُّد المنظومات الفكرية والقانونية.

والبحث العلمي هنا يصطدم بمعضلةٍ، وهي: إذا لم تكن هذه الأعمال مستوفيةً للشروط الواقعية فكيف نصحِّحها، وخاصةً أنّ تصحيحها قد يوقعنا بمفهوم «التصويب»؟ أجاب بعضُ الفقهاء بأنّ هذه الأعمال غيرُ صحيحةٍ واقعاً، ولكنْ يُتعامَل معها كأنّها صحيحة، أي على نحو الحكم الظاهري عند الشكّ في الحكم.

وقد تنظَّر المؤلف في المسألة. وبعد رفضه لمسألة «التصويب»، ورفضه إدراج صحّة أعمال الآخر ضمن الأحكام الظاهرية، توصَّل إلى نتيجةٍ مفادها أنّ كل هذه الأعمال صحيحةٌ واقعاً، ولكنْ على نحو الصحّة الثانوية؛ أي إنّ المشرِّع الإسلامي لديه رتبتان من الصحّة: الصحّة الأوّلية للأعمال المستوفية للشروط؛ والصحّة الثانوية للأعمال التي يأتي بها الإنسان بحَسَب معتقده الذي يؤمن بصحّته، ولا يشكّ في فساده. أمّا إذا علم الإنسان بفساد مذهبه، وتبصَّر إلى المذهب الحقّ، فسيكون عليه أن يأتي بالشروط الواقعية.

القاعدة الرابعة: «التقيّة». وقد تكلَّم عنها المؤلِّف تفصيلاً، من تاريخيتها وعقلائيتها، وعدم اختصاصها بالشيعة، وأصالتها القرآنية، إلى أن وصل إلى نقطة الإجزاء، وسأل: هل العبادة التي وقعت تحت عنوان التقية، والتي توافق عبادة المتَّقى منهم، وتخالف الشروط الواقعية، هل هي مجزئةٌ أم يجب إعادتها؟ الجواب: إنها مجزئةٌ.

 القاعدة الخامسة: وبها ختم المصنِّف هذا الباب، وهي: «بطلان أعمال المسلم الآخر». وقد بحثها المؤلِّف بكلّ موضوعيةٍ، مستعرِضاً الروايات الصحيحة في عدم قبول عمل مَنْ لم يُوالِ أهل البيت^.  ولكنّ عدم قبول العمل أخروياً ـ إنْ تمّ ـ لا يلزم منه عدم صحّة العمل فقهياً. وهنا ناقش المؤلِّف هذه المسألة بكلّ دقّةٍ.

ثم عَقَد فقرةً خاصّة بعنوان: أعمال غير المسلمين، وتنظَّر في عبادات «أهل الكتاب»، محاولاً زلزلة الأدلّة التي بُنيَتْ لإثبات عدم قبول أعمالهم، وخاصّةً من جهة النيّة، نيّة العبادة لله تعالى، ليؤكِّد إمكانية صدور هذه النيّة من غير المسلم، اعتماداً على صريح القرآن الكريم.

الباب الثالث: وفيه يدرس المؤلِّف فتاوى القطيعة، الفتاوى التي تجيز سبَّ المسلم الآخر ولعنَه وشتمَه، الفتاوى التي تمنع من احترام أموات الآخرين، وتغسيلِهم والصلاةِ عليهم، الفتاوى التي لا تقبل شهادةَ الآخر، والتي تحرِّم ذبيحتَه والتزاوجَ منه والصلاةَ وراءه!

المحور الأوّل: وقد عقده المؤلِّف لبحث الفتاوى التي تتّصل بكرامة المسلم الآخر وحرمته المعنوية، كـ «الغيبة والسبّ واللعن».

أما «الغيبة والسبّ واللعن» فبعد أن نقَّح المصنِّف ـ في الباب الأوّل ـ هوية المسلم الآخر، وأكَّد أنّ الآخر ليس كافراً خارجاً عن الإسلام، بل هو «أخ» أو «مؤمن» أو «مستضعف»، يصبح من الواضح إثبات حرمة الغيبة واللعن والسبّ في حقِّه؛ وذلك أنّ لسان الأدلّة المحرِّمة ـ بأغلبها ـ تنصبّ على عنوان «المسلم» أو «المؤمن».

ومع ذلك عمَّق المؤلِّف عملية الاستدلال، وحاول إثبات حرمة هتك «العِرْض» لكلّ إنسان، تَبَعاً للكرامة الإلهيّة التي نصّ عليها القرآن: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ وغيرها من الأدلّة المتينة، آخذاً بهَدْي العقل، والذي لا تقبل أحكامه التخصيص والاستثناء بين إنسانٍ وآخر. ثمّ سلَّط الضوء على بعض الثغرات الموجودة في أدلّة الفقهاء.

في بحث اللعن ميَّز المصنِّف بين اللعن الإنشائي واللعن الإخباري الصادرَيْن من المولى. فإذا صدر إخبارٌ من المولى بلعن شخصٍ أو عنوانٍ معيَّن فهذا لا يلازمه جواز اللعن من العبد إنشاءً. أمّا صدور اللعن الإنشائي من المولى فإنه وإنْ لازمه جواز اللعن إنشاءً، ولكنّ الملاحظ أنّ أكثر اللعن في النصوص انصبّ على العناوين، وليس الأفراد، وهي ملاحظةٌ قد لا يلتفت إليها الكثيرون.

فإنّ إنشاء اللعن بحقّ بعض العناوين، كالظالمين والمفسدين والضالين والكافرين وغيرها من العناوين، ليس فيه إشكالٌ، كما هو واضحٌ.

أمّا إنشاء اللعن بحقّ الآخر المذهبي، أو بحقّ غير المسلم، أو مطلق إنسان، فهو محلّ إشكالٍ؛ لأنّ هناك احتمالاً قويّاً لعدم استحقاق هذا الإنسان للعقاب؛ بسبب توبته قبل الموت مثلاً؛ أو لمعذوريّته، وهو احتمالٌ وارد في غالبية الناس. وفي هذه الحالة قد تُرَدّ اللعنةُ على صاحبها، كما صرَّحت الروايات الصحيحة.

   وفي بحث السبّ ناقش المؤلِّف ما طرحه البعض من ورود السبّ في الآيات، وعلى لسان المعصومين الطاهرين. ثم فرَّق بدقّةٍ بين كلمة «الحمار» ـ مثلاً ـ الواردة في القرآن الكريم وكلمة «الحمار» الصادرة من الإنسان بحقّ أخيه الإنسان؛ فإنّ الكلمة في المقام الثاني تشتمل على قصد النقيصة من الآخر وهتك عِرْضه، وهي سبٌّ؛ أمّا في القرآن الكريم فالآيات في صدد توصيف واقعٍ حقيقي، وتبيان المشتركات بين أفعال بعض البشر وأفعال هذا المخلوق «الحمار»، الذي لا يعي ما يحمل من كتبٍ وأسفار.

   والجدير ذكرُه أيضاً أنّ من الأخطاء المنهجية مقايسة أفعالنا بأفعال الله تعالى، فليس كلّ ما يفعله الله تعالى يجوز لنا فعله؛ فإنّ الله تعالى يبتلي عبادَه بالمرض مثلاً فهل يحقّ لنا أن نسبِّب الأمراض للآخرين، تحت عنوان: الاقتداء بالله تعالى؟! بكلّ تأكيدٍ: لا.

   وفي بحث الغيبة ترك المؤلِّف بصمةً لامعة في مسألة تقييم الروايات، وخاصّة تلك التي تنسب إلى المعصومين الدعوةَ إلى غيبة الآخر وسبِّه والإيقاع به! هنا، توقَّف المؤلِّف، وشكَّك في صدور هذه الروايات، التي تدعو إلى خُلُقٍ ذميم، يأباه الإسلام والعقل والفطرة السليمة.

   في المحور الثاني: يناقش المؤلِّف الفتاوى التي تحطّ من الأهليّة الدينية للآخر، أهليّته للصلاة جماعةً بالمسلمين، وأن يقوم برفع الأذان، وأن يُغسَّل ميته ويُصلّى عليه.

بدأ المؤلِّف بنقاش فتوى بطلان الصلاة وراء الآخر المسلم، وسعى جاهداً لحشد الأدلّة من القرآن والروايات لإيجاد أصلٍ لفظيّ عامّ يحكم بصحّة الصلاة جماعةً وراء «المسلم»، ونجح في ذلك؛ لأنّ الآيات مطلقةٌ، والروايات تحدّثت عن عناوين عامّة، مثل: جماعة أمّتي، وجماعة المسلمين، وغيرها من العناوين.

   ثمّ ناقش المؤلِّف أدلة البطلان التي أوردها بعض الفقهاء، كبطلان عبادة الآخر، وفسقه وظلمه وكفره، وغيرها من العناوين، التي تمّ تفنيدها في الباب الأوّل.

أمّا بعض الروايات الصريحة الدالّة على بطلان جماعة الآخر فحملها المصنِّف على التدبيرية، في محاولةٍ من الإمام× لإبعاد الشيعة عن جماعة بعض رموز الفساد.

وتكفي دليلاً على صحّة الصلاة جماعةً خلف المسلم غير الإماميّ صلاةُ الإمام عليّ× والإمامين الحسنين’ خلف الآخرين.

والجدير ذكرُه هنا هو أهمّية اطّلاع القارئ على فقرة: «الصلاة مداراةٌ»، والتي تحثّ على المشاركة في جماعات المسلمين؛ صوناً للوحدة، وتشديداً لعضد المسلمين.

وبالنسبة للأذان توصَّل المؤلِّف، بعد عرض الروايات، إلى أنّ أذان المسلم الآخر مجزئٌ، مع تتميم ما نقص منه.

أمّا بالنسبة لتغسيل الميت غير الشيعي فإنّ أدلة وجوب التغسيل تشمله؛ لأنّها منصبّةٌ على عنوان «المسلم». أمّا أدلة عدم الوجوب أو الحرمة أو الكراهة فكلُّها باطلةٌ؛ لاعتمادها على ما تمّ تفنيده في الباب الأوّل، من تفسيق الآخر وتكفيره والانتقاص من كرامته.

وسيرة المتشرِّعة خيرُ شاهدٍ على ذلك؛ فقد كان أصحاب الأئمة^ يغسِّلون أقاربهم غير الموالين، إضافةً إلى كون المسألة من الأمور الابتلائية، ولو كان التغسيل حراماً لبان وانتشر.

ثم يصل بنا الكلام إلى الصلاة على أموات المسلمين من غير الموالين. وبعد تأكيد المؤلِّف على وجوب الصلاة عليهم؛ من خلال الأدلة اللفظية العامّة الشاملة لكلّ مسلمٍ، وتفنيد كلّ الفتاوى المحرِّمة، المعتمدة على الأدلة الباطلة، كتفسيق الآخر وكفره وظلمه، يصل البحث إلى عدد الركعات الواجبة.

وبكل تأنٍّ ودقّةٍ عرض المؤلِّف الروايات المختلفة في نقل عدد التكبيرات التي كان يأتي بها المعصومون على الأموات. وقد تمكَّن المصنِّف من التمييز بين أربع تكبيرات وخمس وسبع، وإنشاء أصلٍ لفظيّ عامّ بوجوب خمس تكبيرات، لتنحصر الأربع في المنافق، وحمل رواية السبع على رأيٍ فقهيّ قريب، يحكم بجواز التخيير في عدد التكبيرات.

أمّا الدعاء على الآخر المسلم، والذي قال به بعضُ الفقهاء، فهو في نظر المؤلِّف قولٌ مردود، ومحصورٌ برموز الفساد؛ وذلك استناداً إلى مناقشةٍ دقيقة في فهم الروايات التي ادُّعي دلالتُها على جواز أو وجوب الدعاء على الآخر.

المحور الثالث من هذا الباب مختصٌّ بالأهلية القانونية للمسلم الآخر، يعني قبول شهادة الآخر وأهليّته للتصدّي للإفتاء والقضاء.

لم يكتَفِ المؤلِّف بنقاش الأدلة المانعة من قبول هذه الشهادة، بل غاص إلى جوهر الشهادة وبنيانها الأساسي، باعتبارها من المسائل العقلائية التنظيمية، وليست تعبُّدية صِرْفة، وصولاً إلى القول بأنّ العقلاء لا يشترطون في الشاهد سوى الثقة بالنقل، ودقّة الحواس في نقل الحادثة المشاهَدة. ثم تعرَّض المؤلِّف لبعض الروايات التي تخبر بجواز الاعتماد على شهادة الناصبيّ، فضلاً عن الآخر غير الناصبيّ.

 أما الرأي الفقهيّ المانع من أهليّة الآخر للتصدّي للإفتاء والقضاء فأرجعه المؤلِّف إلى الأسباب السياسية والاجتماعية التاريخية، وما حملت من تراكماتٍ مليئة بالشحناء والبغضاء بين المسلمين، إضافةً إلى ما جرى من تضخيم دَوْر المفتي، وجعله من المناصب القيادية العالية، التي لا يعتليها إلاّ ثلّة قليلة من الفقهاء، في ظروف اجتماعية فرضَتْ على الموالين تحصين أنفسهم من الآخرين.

فإذا زالت هذه الأسباب فلا يبقى مانعٌ من تصدّي الآخر غير الموالي لمنصب الإفتاء والقضاء، إذا حكم طبقاً لمذهب أهل البيت^.

في المحور الرابع يقتحم المؤلِّف مسألةً اجتماعية ماليّة مهمّة جدّاً، وهي: مصرف الزكاة، ويسأل: هل صحيحٌ أنّ الآخر المسلم لا يستحقّ شيئاً من الزكاة؟

يبدأ المؤلِّف بعرض الروايات المتعارضة فيما بينها؛ بين مؤيِّدة لاستحقاق الآخر للزكاة؛ وأخرى مانعة لذلك. ثم يستهدي المصنِّف إلى روايةٍ صحيحة، تجمع بين الأخبار، وتحسم الخلاف، من خلال التمييز بين تكليف الفرد ووظيفة الإمام، أي الدولة.

وهنا شرع المصنِّف بالتنظير للسياسة المالية للدولة الإسلامية، وهي سياسة قائمة على العدل والمساواة، وتحقيق الاستقرار المالي والأمني للمجتمع المتنوّع. وإلى هذا الأمر يشير مصرف «المؤلَّفة قلوبهم»، الذي شرَّعه الإسلام ضمن سياسةٍ مالية ذكية.

والمحوران الخامس والسادس الأخيران خصّصهما المؤلِّف للبحث حول حلّية ذبيحة الآخر المسلم، وحلّية التزاوج منه.

أمّا حلّية ذبيحة الآخر فقد حمل المؤلِّف الروايات المحرِّمة لذلك على نوعٍ من التدبيرية؛ وذلك أنّ الإمام×؛ ومن جهة كونه حاكماً وقائداً، أراد حماية المجتمع الخاصّ الموالي من بعض التيّارات الضالّة والمضلّة، فحذَّرهم من أكل لحوم هذه الجماعات. ثم ذهب المؤلِّف بعيداً في البحث، ليستقرب حلّية ذبيحة كلّ إنسانٍ يذكر اسم الله تعالى أثناء الذبح، ولو كان من غير المسلمين.

وبالنسبة للتزاوج من الآخر، وبعد التمسُّك بسيرة المتشرِّعة، التي لم تتردَّد في القيام بهذا الزواج، ارتقى المؤلِّف إلى سيرة الأئمّة^، واستدلّ بالروايات الصحيحة التي تخبرنا بزواج الأئمّة^ من ناصبياتٍ، وتزويج بناتهم من غير الموالين.

القسم الثاني: تسليط الضوء على بعض المناقشات الفكرية

ممّا يمتاز به كتاب «فقه العلاقة مع الآخر المذهبي» هو احتواؤه على النكات العلمية والمناقشات الفكرية الكثيرة؛ فقد قام المؤلِّف بجهدٍ كبير في جمع الآراء والأدلة، ومناقشتها بكلّ دقّةٍ ومنهجية وموضوعية. وقد تمكَّن من ترك بصمته الخاصّة في كلّ رأيٍ يطرحه، سواء وافقه أم نقده.

ومَنْ يراجع فهرس «فوائد علمية» سيجد أكثر من ثمانين عنواناً لمسائل علمية هامّة، من مجالاتٍ فكرية مختلفة، من مجال العقيدة والفقه والتاريخ والقرآن والأصول واللغة…

وقد تمّ اختيار بعض تلك العناوين لعرضها في هذا البحث، مع الإشارة إلى أنّ ما عُرِض هنا لا يغني القارئ من مراجعة هذه الفوائد، والاطّلاع على قوّة الكاتب وموضوعيته في المناقشة والتأييد أو النقد والتفنيد.

في قضايا الفكر والعقيدة

1ـ مشروع «الأئمّة (عليهم السلام)» لكلّ المسلمين، وليس للموالين فقط

ذهب بعض العلماء إلى اعتبار الآخر المذهبيّ شخصاً محارِباً للأئمة^، باعتبار أنّه سيكون مستعدّاً لمحاربة الإمام المهديّ# عند الظهور، وبذلك يُعَدّ محارباً لمشروع الأئمّة^، ولو استعداداً. ودليلُ هذا الاعتبار هو أنّ المهديّ# سيوضِّح الحقائق، ويغيِّر ما أُبْدِع في الدين، وسيؤدّي ذلك إلى النيل من الرموز الدينية والفقهية لأتباع المذاهب الإسلامية الأخرى، عندها سينتفض الآخر المذهبيّ ليدافع عن رموزه، وسيقف في وجه الإمام# معارضاً ومحارباً.

ناقش المؤلِّف هذه الفرضية، والتي هي مَحْضُ فرضية، واعتبرها مخالفةً لمشروع الأئمّة^؛ إذ مَنْ قال: إنّ المهديّ# ـ باعتباره صاحب مشروع هداية ـ لن يراعي في خطابه مشاعر القوم؟! ومَنْ قال: إنّه# سيقوم بحملة تشهيرٍ بحقّ الخلفاء وفقهاء الآخرين؟! ولماذا نصوِّر دائماً مشروع المهديّ# أنّه مشروعُ ذمٍّ وقتل وانتقام وسفك للدماء؟!

وهنا سأل المؤلِّف، مستنكراً: «أرأيتم لو أنّ إمام زماننا# خرج من غيبته، وبادر إلى محاربة الظالمين، وأعلن رفع راية الدفاع عن المظلومين والمستضعفين، وتحقيق أحلام الفقراء والمساكين، وقُيِّض له أن يخاطب الجمهور الإسلامي بمشروعه، وزُوِّد ـ كما نعتقد ـ ببعض الألطاف الإلهيّة التي تؤكِّد صدقيّته، فهل سيقف المسلمون من أتباع المذاهب الأخرى في وجهه، ويعادونه، وينصبون له الحرب؟! إنّ هذا غيرُ معلومٍ وغيرُ مظنونٍ. أجل، بناءً على التصوُّر الذي تعكسه بعض الأخبار الضعيفة، من أنه× سيبادر فور خروجه إلى نبش قبر الشيخين، ويصلبهما على جذوع النخل، فهذا العمل سيستفزّ المسلمين السنّة وغيرهم، ورُبَما عادوه وحاربوه. لكنّ هذا ممّا لا يمكن القبول به؛ إذ ليس الإمام× نبّاشاً للقبور، ليخرج أجساد أشخاصٍ من غير المعلوم أصلاً أن جثثهم باقيةٌ على ما هي عليه، بعد مرور مئات السنوات على دفنها»([1]).

 

2ـ الفرق بين صحة العمل وقبوله في ميزان الآخرة

ذهب بعض الفقهاء إلى أنّ الأعمال العبادية للآخر المذهبي باطلةٌ وغير مقبولةٍ في الآخرة؛ وذلك اعتماداً على رواياتٍ عديدة دلَّتْ على عدم قبول أعمال مَنْ لم يُوالِ أهل البيت^ في ميزان الآخرة.

وبعد مناقشة المؤلِّف لدلالة الروايات على بطلان عبادات الآخرين غير الموالين، والتي حملها على المخالف الجاحد، دون القاصر المستضعف، وهو حال أغلب المسلمين، دقَّق الكاتب بين مسألتين: مسألة قبول العمل؛ ومسألة بطلان العمل. وبيَّن أنّه لا ملازمة بين الأمرين، فما دلّ على الأوّل ـ على فرض تماميته ـ لا يدلّ على الثاني. وعليه لا يمكن استفادة عدم صحّة أعمال الآخر من الروايات الحاكية عن عدم القبول. وقال: «والذي يبدو أنّ المستند الأساس للمسألتين واحدٌ، وهو الأخبار الواردة عن الأئمة^، والتي استفادوا منها البطلان وعدم القبول. واللافت أننا لم نجد مَنْ نبَّه هنا إلى التفريق بين المسألتين، بل أرسلوا مسألة بطلان العمل إرسال المسلَّمات»([2]).

3ـ اللعن وتشويه مذهب أهل البيت (عليهم السلام)

لا يخفى أنّ بعض العلماء يجيزون لعن رموز الآخر المذهبيّ، بل البعض منهم يوجب ذلك؛ باعتباره يمثِّل براءةً من أعداء أهل البيت^، وكما قيل: البراء أصل الولاء.

وبعد نقاشٍ طويل ومفصَّل من الكاتب في مسألة «اللعن»، وقد أفرد فصلاً خاصّاً من ستين صفحة تقريباً لدراسة كلّ أدلة اللعن، توصَّل إلى عدم جواز لعن المسلم، ولم يستبعد حرمة ذلك لكلّ إنسانٍ.

وعلى فرض التسليم بجواز لعن مَنْ ثبت ظلمه المباشِر للأئمّة^، تساءل المؤلِّف عن المصلحة المرجوّة من هذا اللعن، وما يجرّ ذلك من الويلات على هذه الأمّة، ثم تمسَّك بالعنوان الثانوي الحاكم على العنوان الأوّلي، فقال: «وفي زماننا هذا نلاحظ أنّ أكبر شبهةٍ أو دعايةٍ تُثار ضدّ أتباع مذهب أهل البيت^، وتوجب نفرة سائر المسلمين عنهم، هي أنهم يسبّون أو يلعنون الصحابة. وإنّ الشواهد تؤكِّد بما لا يَدَع مجالاً للشكّ أنّ هذه الكلمات الانفعالية واللامسؤولة، والتي تنال من بعض الرموز المحترمة عند بعض المذاهب الإسلامية، تشكِّل أكبر حاجز دون وصول فكر أهل البيت^ إلى سائر المسلمين، وتحول دون انفتاح هؤلاء على مدرسة أهل البيت^، ولا سيَّما أنّه قد يعطي انطباعاً بأنّ أئمة أهل البيت^ هم مَنْ أمروا أتباعهم بذلك، ما يكدِّر قلوب الآخرين تجاههم^. ولا رَيْبَ أنّ ارتكاب الإنسان الشيعي لما يوجب صدّ الناس عن أهل البيت^ هو من كبائر الذنوب، ولو كان صاحبه يظنّ أو يعتقد أنّه يُحْسِن صنعاً…

وفي ضوء ذلك يتّضح أنّ لعن رموز المذاهب والطوائف الأخرى لو كان جائزاً بالعنوان الأوّلي فهو محرّمٌ؛ لانطباق العناوين الثانوية المشار إليها عليه، وهي أن يجرّ ذلك إلى لعن أئمة العدل والهدى، أو يؤدّي إلى إثارة الشحناء والضغينة والفتنة، أو يوجب هتك صورة المذهب»([3]).

فوائد في مسائل «علم أصول الفقه»

 1ـ الاعتماد على روايات الآحاد لإثبات قضايا العقيدة

دقَّق المؤلِّف في مسألة تكفير الآخر، وكشَفَ النقاب عن الخلل المنهجي الواقع في بعض أدلّة الفقهاء، وما جرى من خلط بين المنهج الفقهي والعقدي؛ فتارةً نبحث عن التكفير في المجال عقدي؛ وتارةً أخرى نبحث عن أحكام التكفير في المجال الفقهي، وكلٌّ من المجالين يتطلَّب منهجاً خاصاً، ونوعية أدلّة محدّدة.

في المجال العقدي، حيث يتمّ تكفير الآخر، وإخراجه عن الإسلام، يتطلَّب البحث أدلّةً يقينية، بحيث لا تكفي روايات الآحاد، ولو كانت صحيحةً، فضلاً عن كونها ضعيفةً. أمّا في المجال الفقهي، حيث تُبحث أحكام التكفير، فهي لا تتطلَّب أدلّةً يقينية، ويكفي فيها ما يورث العلم التعبُّدي.

والمشكلة المنهجية التي وقع فيها بعض الفقهاء أنّهم أثبتوا «كفر» الآخر المذهبي بأدلّةٍ لا تصلح لإثبات أمورٍ عقدية، فتعاملوا مع مسألة التكفير بأدواتٍ فقهية.

قال الكاتب: «إنّه لا يمكننا الاعتماد على أخبار الآحاد في إثبات قضايا العقيدة. ومسألةُ التكفير هي مسألةٌ عقدية أو ـ في الحدّ الأدنى ـ لها امتداداتٌ عقديّة، فضلاً عن امتداداتها وتأثيراتها الشرعية الخطيرة، لجهة إخراج الشخص عن الاجتماع الإسلاميّ، ونزع الهوية الإسلامية عنه، والتعامل معه معاملة الكافرين. وأمثال هذه القضايا إما تتطلّب دليلاً يقينياً أو مورثاً للاطمئنان على وجهٍ، ولا يمكن إثباتها استناداً إلى الأدلة الظنّية»([4]).

 2ـ إشكالية الاستدلال بسيرة المتشرِّعة في عرض السيرة العقلائية

لم يكتَفِ المؤلِّف بمناقشة الأدلة، وكشف الخلل المنهجي الحاصل، بل دقَّق ـ حيث يلزم الأمر ـ في ماهية الأدلّة وترتيبها. وخاصّةً أنّ الاستدلال بالسيرتين العقلائية والمتشرِّعية منتشرٌ في الأبحاث، وعليها المعتَمَد في كثير من المسائل.

ومن الأمور التي وقع فيها الخلط هو الاستدلال بالسيرتين معاً، في عرض بعضهما البعض. وهنا توقَّف المؤلِّف، وبيَّن الخلل في هذا الاستدلال، فقال: «إنّ ضمَّ الاستدلال بسيرة المتشرِّعة إلى الاستدلال بسيرة العقلاء لا يخلو من إشكالٍ، وحاصله: أنّه إذا كانت سيرة العقلاء منعقدةً على ذلك، وهي كذلك، فإنّ هذا يعني أنّ المتشرِّعة في الأرجح إنما جَرَوْا على ذلك بدافعٍ من مرتكزاتهم العقلائية، وليس المتشرِّعية، فلا يصحّ الاستدلال بسيرة المتشرِّعة في عرض الاستدلال بسيرة العقلاء. وهذه الملاحظة عامّةٌ وسيّالة»([5]).

 

3ـ حجِّية «الضرورة» المتشكِّلة في زمنٍ متأخِّر

من الأمور الملفتة في نطاق استدلالات الفقهاء هو التمسُّك بعنوان «الضرورة الفقهية». وقد كثُرَتْ جدّاً دعاوى الضرورة، وبتنا نجد مئات الأحكام والمسائل التي تمّ إدراجها تحت عنوان: «ضروري الدين»، أو «ضروري المذهب». وبذلك يتمّ إغلاق باب النقاش؛ لأنّ الضروريّ هو البديهيّ، وهو ما لا يحتاج إلى كثير عناءٍ في حشد الأدلّة، فضلاً عن المناقشة ومحاولة التشكيك فيها.

ومن المعلوم أنّ هناك نوعين من «الضرورة الفقهية»: نوعاً تشكَّل في عصر النصّ؛ ونوعاً آخر تشكَّل بعد عصر النصّ. والنوع الأوّل لا كلام فيه بعد ثبوته؛ لأنّ وجود صاحب النصّ كفيلٌ بشرعية الضرورة. أمّا النوع الثاني، والحاصل بعد عصر النصّ، فقد يكون نتيجة فتوى معينة صادرة من مجموعة فقهاء كبار، بحيث تُهاب مناقشتُهم في دليلهم، وبذلك تلبس الفتوى رداء الضرورة؛ أو قد تكون مسألةً فكرية توصّل إليها عالمٌ جليل، وتمّ أخذُها أخذ المسلَّمات؛ جرّاء وضع سياسي أو مذهبي معيَّن فرضَتْه ظروف تاريخية.

والمشكلة هي في تقديم الضرورتين كمسلَّمتين، لا نقاش فيهما، دون تمييز ما تشكَّل في عصر النصّ وما تشكَّل بعده. قال المؤلِّف: «الفارق بين الضرورتين ـ الضرورة المتشكِّلة في عصر النصّ والضرورة المتشكِّلة بعد عصر النصّ ـ يكمن في أنّ الضرورة المتكوِّنة في عصر النصّ غالباً ما تكون وليدة البيان الشرعي، من خلال تأكيد المشرِّع على أهمّية القضية التي انعقدت الضرورة عليها. وهكذا الضرورة المقاربة لعصر النصّ. أما الضرورة المتكوِّنة بعيداً عن عصر النصّ فهي قد تخضع أكثر من غيرها لاعتباراتٍ لا علاقة لها بالدين أو النصّ، وإنما لها علاقة بعوامل أخرى، اجتماعية أو سياسية أو غيرها. وعلى سبيل المثال: إنّ هيمنة الفتوى أو الفكرة على الذهن العامّ، وعدم وضعها موضع التداول الاجتهادي، سيجعل من الصعوبة بمكان تجرُّؤ أحدٍ على إبداء الرأي المخالف فيها، ولا سيَّما في حال تبنّي تلك الفتوى أو الفكرة من قِبَل بعض الشخصيات التي تملك قداسةً لدى الرأي العامّ، ما يعني ضرورة التأنّي قبل إطلاق دعاوى الضرورة أو ترتيب أحكامها»([6]).

فوائد في تفسير القرآن الكريم

1ـ إطلاق «الإيمان» على البُغاة ممَّنْ حارب الإمام عليّاً (عليه السلام)

إنّ المشهور بين مفكِّري الإمامية وفقهائهم أنّ عنوان «الإيمان» ينطبق فقط على الموالي لأهل البيت^، وأمّا مَنْ لا يواليهم^ فهو ليس مؤمناً. لذلك اشتهر استخدام مصطلح «المؤمن» في الرسائل العملية للفقهاء كإشارةٍ إلى الشيعي.

ناقش المؤلِّف هذا الأمر، وعرض الآيات والروايات التي تستخدم عنوان «المؤمن». وبعد مناقشة أدلّة القائلين بحصر «الإيمان» بالموالي، توصَّل المؤلِّف إلى نتيجةٍ حاصلها: إنّ عنوان «المؤمن» عامٌّ، يشمل كلّ المسلمين المؤمنين بالله ورسوله| والملتزمين بتعاليم الإسلام، على تفاوتٍ بين شخصٍ وآخر، ومجتمعٍ وآخر.

وفي سياق المناقشة تعرَّض الكاتب لبعض الروايات التي تطلق على البُغاة، الذين حاربوا الإمام عليّاً×، عنوان «الإيمان»، وهي رواياتٌ مصداقيّة، تحدِّد المقصود من لفظ «طَائِفَتَانِ» الوارد في الآية الكريمة: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ﴾ (الحجرات: 9). والروايات تطبِّق الطائفتين على حرب صفّين، فيكون أهل الشام الذين حاربوا وبغوا على الإمام× طائفةً من المؤمنين.

وبكلّ موضوعيةٍ درس الكاتب سند ودلالة الروايات، وقال: «قد اشتهرت كلمة رسول الله|: «يا عمار، تقتلك الفئة الباغية»، في إشارةٍ إلى الآية الكريمة، ما يعني دخول جماعة أهل الشام في إطلاق الآية. ومن الواضح أنّ إطلاق وصف الإيمان على الذين قاتلوا عليّاً× إنّما هو بلحاظ إيمانهم الظاهري المرادِف للإسلام. ففي مناقب ابن شهرآشوب، بعد ذكر الآية، قال: «والباغي مَنْ خرج على الإمام، فافترض قتال أهل البغي كما افترض قتال المشركين. وأما اسم الإيمان عليهم فكقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ﴾ (النساء: 136)، أي الذين أظهروا الإيمان بألسنتهم آمِنوا بقلوبكم. وقيل لزين العابدين×: إنّ جدَّك كان يقول: «إخواننا بغوا علينا»، فقال: «أما تقرأ كتاب الله: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً﴾ (هود: 50؛ الأعراف: 65)، فهم مثلهم، أنجاه الله والذين معه، وأهلك عاداً بالريح العقيم»»([7]).

2ـ الأخوّة في القرآن تشمل كلّ إنسان مطلقاً

لقد استخدم الإسلام عنوان «الأخ» في خطابه وتبيان أحكامه، وحرَّم غيبة الأخ وإيذاءه، ودعا إلى القِيَم الإنسانية، وشدّ الروابط بين البشر؛ باعتبارهم إخواناً في الإنسانية أو الدين.

ومع الأسف، وقع الخلاف بين فقهاء المذاهب في تفسير كلمة «أخ»، وكلٌّ منهم حصر الأخوّة في دائرته الطائفية الضيقة، وباتت الأحكام التي موضوعها «الأخ» تُطبَّق على فئةٍ خاصّة من المسلمين، وكأنّ الإسلام جاء لعددٍ محدود من الناس، دون غيرهم.

انتفض المؤلِّف على هذه الفوضى الثقافية والعصبوية المذهبية، وأعاد دراسة لفظ «الأخ» الوارد في لسان النصّ. وبكلّ دقّةٍ ومنهجية أثبت رحابة دلالة النصّ الإسلامي، وأنّ الدين اعتبر كلّ البشر إخواناً، وأنّ الأذيّة محرَّمة على الكلّ.

فقال: ثمّة احتمال «أنّ الأخ لا يُراد به خصوص المؤمن أو المسلم، وإنما مطلق المُغتاب (بمعنى المفعول)، أيّاً كان مذهبه أو دينه؛ إذ استخدام لفظ الأخ تكفي فيه أدنى ملابسة، ولو بأن يكون الطرف الثاني في تناوله بالغيبة، فالأخوّة مقولةٌ نِسْبيّة، ولها مستويات؛ فهناك الأخ في الدين والأخ في المذهب والأخ في النَّسَب والأخ في الرضاعة والأخ في السفر. ومن هنا ورد في القرآن الكريم إطلاق لفظ الأخ على مَنْ كذّب بدعوة نبيِّه المُرْسَل إليهم، قال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ﴾ (ق: 12 ـ 13)؛ ونظيره قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ﴾ (الشعراء: 106)، وقوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ﴾ (الشعراء: 124)، وقوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ﴾ (الشعراء: 142)، وقوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلاَ تَتَّقُونَ﴾ (الشعراء: 161)، وقوله تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً﴾ (العنكبوت: 36)، إلى غير ذلك من الآيات المباركة، التي أطلق فيها لفظ الأخوّة بين هؤلاء الأنبياء^ وبين قومهم، مع أنّهم كانوا كافرين برُسُلهم. فكون النبيّ× منهم ومرسَلاً إليهم وساعياً إلى هدايتهم ومهتمّاً لأمرهم جعله قريباً منهم، وصحح إطلاق لفظ «الأخ» عليه، ما يعني أنّه ليس شرطاً في صحّة إطلاق لفظ الأخ أن يكون ثمّة أخوّةٌ حقيقية في الإيمان، ولا في النسب…».

ثم أضاف المؤلِّف: «وهذا قريبٌ ممّا يُقال في موضوع الصُّحْبة، حيث يكفي فيها المرافقة أو الاجتماع في مكانٍ واحد، أو أدنى علقةٍ بين الطرفين، فيُقال: فلان صاحبك، قال تعالى: ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾ (التكوير: 22)، وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾ (سبأ: 46).

ولا ينافيه قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات: 12)؛ لأنّ ثبوت الأخوّة بين المؤمنين بلحاظ الدين لا يلغي ثبوته في الدوائر الأخرى، باعتباراتٍ أخرى»([8]).

فوائد في قضايا الفقه وقواعده

1ـ الإقرار بصحّة زواج وطلاق أتباع الشرائع الوضعية

من الأمور الجَدَلية التي تحتاج إلى أجوبةٍ حاسمة من الفقهاء المسلمين، من ناحية شرعيتها وعدمها، هو ما يُسمّى بـ (الزواج المدني وطلاقه)؛ وخاصّة إذا أقدم عليه بعض المسلمين أو الكتابيين ممَّنْ ينتسبون إلى شرائع سماوية.

وعلى عادته تصدّى المؤلِّف لهذا الأمر، ونقَّح المسألة بكلّ تفريعاتها وصورها. ومّما قاله: «الصورة الثانية: أن يُقدم الكتابيّ أو غيره ممَّنْ له منظومة أحوال شخصية ـ بصرف النظر عن موقفنا منها ـ على تنظيم أحواله الشخصية وفق منظومةٍ أخرى لا علاقة لها بدينه، رافضاً تنظيم علاقاته على أساس ما يقتضيه دينه، كما لو تزوَّج على أساس الزواج المدني الشائع اليوم في بلاد الغرب، حيث يرتبط بزوجةٍ على أساس القانون المدني، ملتزماً بمفاعيله، ثمّ يُقْدِم على الطلاق وفقاً لهذا القانون. ولا يبعد أنّ طلاقه المدني سيكون مقبولاً ونافذاً؛ والوجه في ذلك أنّ هذا دينٌ يدين به قومٌ من الناس، فيكون داخلاً تحت عموم أو إطلاق قاعدة: «مَنْ دان بدين قومٍ لزمَتْه أحكامهم». والدينُ في المقام، بحَسَب المستفاد من سياق الروايات، هو بمعنى المذهب الذي يتَّخذه الإنسان مرجعيةً لتنظيم أموره وشؤون حياته، زواجاً وطلاقاً وميراثاً وغيرها، بحيث يتبنّاه ويدين به، لا من موقع الهوى، بل من موقع الالتزام العملي والتباني الاجتماعي، وليس المقصود به خصوص الدين السماوي»([9]).

2ـ الحمل على التدبيرية أَوْلى من الحمل على التقية

في بحث الصلاة خلف رموز الظالمين ذهب جُلُّ الفقهاء إلى القول بأنّ صلاة الأئمّة^ تلك كانت على نحو التقيّة، تقية من السلطات الغاشمة حينذاك. ولكنّ إشكالاتٍ كثيرةً لم يُجِبْ عنها هؤلاء الفقهاء، والتي تترتَّب على حمل الصلاة على التقية، ومنها: أنّه لم يُعْلَم أنّ الأئمّة^ كانوا يعيدون هذه الصلاة، مع فقدانها لشروطٍ كثيرة، وخاصّة أنّ التقية لا تُشرِّع العمل المتَّقى به، فكيف يمكن تصحيح هذه الصلاة؟!

قام المؤلِّف بدراسة هذا الأمر، وقدَّم تصوُّراً أكثر انسجاماً مع مبادئ الشريعة، فقال: «إذا دار الأمر بين الجمعين المتقدِّمين، وهما: حمل النهي على التدبيرية؛ وحمل الأمر بالصلاة خلفهم على التقيّة، فترجَّح التدبيرية؛ وذلك لأنّ التدبيريّة في النهي أكثر انسجاماً مع الحكم بصحّة الصلاة خلفهم وإجزائها، كما سنذكر لاحقاً؛ فإنّ الصلاة خلفهم إذا كانت باطلةً بالعنوان الأوّلي، ومع ذلك يحكم بصحّتها في حالات التقيّة أو المداراة، والتي يُراد منها حفظ وحدة الأمّة، فهذا سوف يجعلنا أمام مفارقةٍ، وهي أنّ التقية حالةُ ضرورةٍ، والضرورةُ؛ لكونها تقدَّر بقَدَرها، ترفع الحكم التكليفي فقط، ولا تصحِّح الصلاة، فتجوز الصلاة خلفهم تقيّةً وحفظاً للنفس، ولكنها لا تكون مجزئةً، فيلزم إعادتها.

وبعبارةٍ أخرى: التقيّة تقتضي أداء صورة الصلاة، وليس صحّتها والاكتفاء بها، وعليه إذا كنّا سوف نحكم بإجزاء الصلاة، مع كونها في بعض الأحيان فاقدةً لبعض الأركان أو الشروط غير المغتَفَرة والداخلة في استثناء قاعدة «لا تُعاد»، كما سيأتي، فسوف تَقِلُّ فائدةُ النهي عن الصلاة ما دامت الصلاة صحيحةً، ولا تلزم إعادتها. والقول: إنّ الحكم بعدم لزوم الإعادة في صورة التقيّة هو للتوسعة على المؤمنين؛ لأنّ في الإعادة حَرَجاً شديداً، ولا سيَّما في حالة استمرار التقية، ليس بأَوْلى من الحكم بالصحّة بالعنوان الأوّلي، مع حمل الأخبار على التدبيرية، الذي لا يقتضي الفساد. ناهيك عن أنّ نفي الحَرَج إنّما يقتضي إناطة الأمر بكون الإعادة حَرَجيّة، لا أن تُنفى الإعادة مطلقاً.

وبكلمةٍ أخرى: إنّ الحمل على التقيّة مع الالتزام بصحّة الصلاة؛ استناداً إلى الروايات الدالّة على صحتها، يعني حمل الحكم بالإجزاء على التعبُّد، مع كون الصلاة غير مستجمعةٍ للشرائط. والحملُ على التعبُّد بعيدٌ، فيكون حمل النهي على التدبيرية هو الأرجح؛ لأنّ النهي الولايتي لا يستلزم البطلان»([10]).

فوائد في قضايا اللغة والمصطلحات

من هم «العامة»؟

ورد في روايات الأئمّة^ مصطلح «العامّة». و«العامّة» هم الذين لا يعترفون بولاية الإمام الربّانية، مقابل «الخاصّة» العارفين بالإمام× والمؤمنين بولايته.

والسؤال المطروح هو: هل كان الأئمّة^ يلجأون إلى التقية مخافةً من كلّ العامّة أم أنّ التقية كانت من فئةٍ محدّدة من العامّة، وهي السلطات الحاكمة الظالمة التي تتربَّص بهم^ وبشيعتهم؟

هذا التفصيل مهمٌّ جدّاً في عملية فهم الروايات، وخاصّةً عند تطبيق معيار «مخالفة العامّة» في تحديد ما صدر عنهم^ على نحو التقية أو غيرها من الأنحاء. مثلاً: إذا فرضنا أنّ «الشافعيّ» هو من «العامّة» المقصودين في الروايات عندها يُحْمَل كلّ ما صدر عن الأئمّة^ موافقاً لفتاوى الشافعي على نحو التقيّة، ويُؤخَذ بما خالفه.

لكنْ في الأمر إشكالٌ، وهو: أليس الشافعي والحنبلي وغيرهم من الفقهاء متأخِّرين عن زمن الإمام الصادق×، فكيف كان يتّقي آراءهم؟!

من هنا، قام المؤلِّف بتنقيح مصطلح «العامّة»، وسلّط الضوء على هؤلاء الذين شكَّلوا تهديداً مباشراً للأئمّة^، وكانت لهم آثارهم الدموية في الساحة الإسلامية، ما ألجأ الأئمة^ إلى استخدام التقية. واستشهد المؤلِّف بكلام السيد الحكيم&، فقال: «الذي يظهر من كلمات الفقهاء أنّ المراد بالعامّة هم عامّة مَنْ يصطلح عليهم بأهل السنّة؛ بينما يرى بعض الأعلام رأياً آخر، وهو أنه «ليس المراد بالعامّة في الصحيحة وأمثالها أولئك الأئمّة الذين عُرفوا بعد حينٍ بأئمّة المذاهب الأربعة وأتباعهم؛ لأنّ هؤلاء الأئمّة ما كان بعضهم على عهد الإمام الصادق×، كالشافعي، وابن حنبل، والذين كانوا على عهده ما كان لهم ذلك الشأن، بحيث يكوِّنون رأياً عامّاً ليصحّ إطلاق لفظ العامّة عليهم وعلى أتباعهم.

وعامّة الناس من السنّة لم تجمع كلمتهم عليهم ـ بواسطة السلطة ـ إلاّ في عصور متأخِّرة جدّاً عن عصر الإمام الصادق×، حيث أبطل (الظاهر بيبرس البندقداري) غيرها من المذاهب في مصر، وقصرها عليها، ومنه انتشرت في بقية الأمصار. وعلى هذا، فإنّ كلمة الإمام الصادق× لم توجَّه إلاّ إلى أولئك الكذّابين من أذناب الحكام، فقهاء ومحدِّثين، ممَّنْ يستسيغون الكذب والدسّ؛ مراعاةً لعواطفهم وميولهم السياسية وغيرها».

والوجه في ما ذكره السيد تقي الحكيم هو أنّ هؤلاء هم مَنْ يُتَّقى منهم، دون سواهم من الفقهاء، الذين لا يمثِّلون امتداداً للسلطة، ولا يندرجون في وعّاظها وفقهائها.

وهذا التفسير للعامّة ـ لو تمّ القبول به ـ فإنّه سوف يغيِّر كثيراً من نتائج الاستدلال، كما لا يخفى»([11]).

إنّ الكتاب مليءٌ بالمناقشات الفكرية الغنيّة والعميقة. وقد اقتصرنا على ما ذكرناه؛ كي لا يطول البحث…

الهوامش

(*) كاتبٌ في الفكر الإسلاميّ. من لبنان.

([1]) فقه العلاقة مع الآخر المذهبي، قراءةٌ في فتاوى القطيعة 1: 171.

([2]) المصدر السابق 1: 328.

([3]) المصدر السابق 2: 177.

([4]) المصدر السابق 1: 80.

([5]) المصدر السابق 1: 271.

([6]) المصدر السابق 1: 104.

([7]) المصدر السابق 1: 113.

([8]) المصدر السابق 2: 93.

([9]) المصدر السابق 1: 301.

([10]) المصدر السابق 2: 221.

([11]) المصدر السابق 1: 322.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً