أحدث المقالات

 

حيدر حبّ الله

تمهيد ــــــ

ظلّ نهج التعامل مع القضية الدينيّة متنوّعاً عبر التاريخ البشري، بتنوّع طاقات الإنسان الذاتيّة من جهةٍ؛ وحاجاته من جهةٍ ثانية، فتنوّع الطاقات يكمن في طاقة العقل وطاقة الروح، وتنوّع الحاجات يكمن في حاجات المادّة وحاجات المعنى وحاجات الاجتماع البشري. وبتنوّع هذه الأمور وجدنا تجلّياتٍ لمناهج متعدّدة في التعامل مع القضيّة الدينيّة المركزيّة، خاصّة مسألة (الله) والوجود المتعالي.

وعبر التاريخ:

تارةً حكمت التيارات العقلانيّة والعقليّة الفهم الديني، مع الفلسفة المشّائيّة الإسلاميّة والمدارس الاعتزالية الكلاميّة على المقلب الإسلامي؛ ومع اللاهوت الطبيعي لتوما الأكويني(1274م) وامتداداته في الكاثوليكيّة إلى عصرنا الحاضر، مع التوماوية الجديدة وغيرها، على المقلب المسيحي.

وأخرى حكمت النزعات الصوفية والعرفانية، وطغت على المشهد الإسلامي، عبر الطرق الصوفيّة المتنوّعة والغزيرة القائمة إلى يومنا هذا، وعبر النزعات الأفلاطونيّة القديمة والمُحْدَثة التي تغذّت دينيّاً أيضاً على تطلّعات القديس أغسطين(430م)، لتصل مع مايستر إيكهارت(1328م) وأمثاله إلى مبلغها.

لكنّ عصر النهضة وما أعقبه من الثورة العلميّة، ثم عصر التنوير، فرض وضعاً مختلفاً وجادّاً جدّاً هذه المرّة في العالم الغربي والمسيحي. فالعقل الذي كان أداةً لخدمة الدين واللاهوت غدا اليوم متحرِّراً منهما، فهو عقلٌ قائم بنفسه، يملك جرأة المعرفة وحماسة النقد، ولم يعُدْ محتاجاً إلى مسبقات دينيّة ومفروضات قبليّة وحييّة ولاهوتيّة، بل هو يرفض ويتمنّع عن وضع محدِّدات له، تسمح له بالحركة حيناً، وتمنعه عنها حيناً آخر.

لقد بدأ العقل يخرج شيئاً فشيئاً من إطار اللاهوت نحو بناء كيانٍ قائم مستقلّ له. ورغم أنّ هذا الخروج بدأ تدريجياً، ولم يظهر في البداية على شكل تمرُّد حقيقي على الدين، لكنّه سرعان ما تحوّل إلى أمرٍ واقع يقف على النقيض من الدين نفسه، بمعنى أنّه بات يهدِّد المفاهيم الدينيّة في النتائج التي توصّل إليها.

في هذا العصر، ظهر سورين كيركجارد/كيركغور (1813 ـ 1855م) وسط نزاع العقل والإيمان، ليقدّم مقاربة مختلفة هذه المرّة لتناول القضية الدينيّة. لقد وقفت الفلسفة الوجودية الإيمانية لكيركجارد تماماً في مقابل الفلسفة العقلية الانتزاعيّة الهيجليّة من جهة (رغم تأثُّره بهيجل)، وفي مقابل الفلسفة العقلية المدرسية لتوما الأكويني من جهةٍ ثانية. ولكي يؤسِّس رؤيته هذه سعى لفكّ العلاقة بين الإيمان والعقل النظري، ليعتبر ـ كما سنرى ـ أنّ بناء الإيمان على العقل النظري والمعرفة الفلسفيّة والتاريخية هو خطأ كبير، ومن ثمّ يلزم إعادة بناء الإيمان على قواعد أخرى في الإنسان وهويّته وذاته، وعدم تطويل المسافة لبلوغ الحقيقة الوجوديّة بالغرق في المفاهيم ومعطيات العقل التي تقوم بتشظية الحقيقة وتجزئتها بما يفضي إلى موتها وتلاشيها. فعندما يريد العقل أن يدرك الحقيقة فهو مقهورٌ على تجزئتها وتفكيكها، ليحوِّلها إلى سلسلةٍ من المفاهيم والتصوّرات والمفردات والقضايا المركّبة. وهذه التجزئة تُفْقِد الحقيقة هويّتها الاتصالية الاتحاديّة. ولهذا نادت المدرسة الرومانطيقيّة في القرنين الثامن والتاسع عشر بوضع حدٍّ لإفراط عقل التنوير في تناول الحقيقة، ومنح الإحساس دَوْراً في الاتصال بها بما هي وحدة واحدة.

الإيمان بين الهويّة المخارجة والمداخلة (الآفاقيّة والأنفسيّة) ــــــ

نقطة الارتكاز في تصوُّرات كيركجارد عن الإيمان([1]) تكمن في الهويّة الداخلية والخارجيّة له. ففيما تتّجه الفلسفات الدينيّة واللاهوت نحو التعاطي مع الإيمان ومتعلّقه بوصفه قضيّة خبريّة، ونوعاً من الوجود المخارج للذات الإنسانيّة، يُراد إثباته أو نفيه، يذهب كيركجارد نحو الهويّة الأنفسيّة للإيمان. وبهذا تكون رؤية كيركجارد مكوّنة من عنصرين:

1ـ عنصر سلبيّ طارد لكلّ أشكال الهويّة الخارجيّة للإيمان، ومن ثمّ إبطال الأدلّة الآفاقيّة التي أُقيمت لإثبات الإيمان عبر العقل أو التاريخ. وهو بهذا يفصل بين الإيمان والتاريخ، وهي القضيّة الأكثر إشكاليّةً في الفكر الديني المسيحي منذ عصر الأنوار.

2ـ عنصر إيجابيّ جاذب، وهو إعادة تشييد الإيمان على هويّة داخليّة فرديّة قائمة على التصميم والمخاطرة واتخاذ القرار الباطني. فالتأمّل الباطني في الذات الإنسانيّة والصعود المعنوي هو الذي يحقِّق الإيمان. وبهذا تتكوَّن الوجوديّة الإيمانيّة عند كيركجارد، في مقابل الوجوديّة الملحدة لمثل جان بول سارتر(1980م).

في العنصر السلبي، يرفض كيركجارد البحث عن حقّانية المسيحيّة، بينما في العنصر الإيجابي يركِّز على كيفيّة صيرورة الإنسان مسيحيّاً، فهو مهتمٌّ بالكيفيّة ولون الإيمان وهويّته وكينونته الباطنيّة، وليس مهتمّاً بالحقيقة الخارجيّة.

العنصر السلبي وإيمانيّة كيركجارد ــــــ

يذهب كيركجارد إلى أنّ بناء الإيمان على الأدلّة المخارجة هو جهدٌ عبثي وغير منتج، بل يراه مناقضاً لهويّة الإيمان، وناقضاً له ولكينونته. فالإيمان لا يأتي من تحصيل اليقين عبر العلم البشري؛ لأنّ المعطيات العلمية لا تتمكّن من إثبات الله سبحانه. والتاريخ والفلسفة والعلم عناصر غير منتجة لليقين، في الوقت الذي لا يمكن للإيمان إذا بُني على اليقين أن يكون موجوداً مع هذه العلوم.

إنّ الحقائق المخارجة أو الآفاقيّة قد تكون فلسفيّةً؛ وقد تكون تاريخيّة. والأديان التاريخيّة ـ مثل المسيحيّة ـ لا يمكنها الانفصال عن التاريخ، ومن ثم فالحقيقة المخارجة هي جزءٌ لا يتجزّأ منها. ورغم ذلك نجد كيركجارد غير مهووس بالمعرفة العقليّة والتاريخيّة؛ لأنّها من وجهة نظره لا تقدِّم لي شيئاً في حياتي، فما فائدة أن أكتشف كلّ المعلومات والحقائق دون أن يترك ذلك تأثيراً في حياتي؟([2]).

هذا هو سؤال كيركجارد في مقابل شغف الهيجليّة التي كانت سائدة في عصره بالتحليل الغارق في المثاليّة الانتزاعيّة العقليّة. إنّ كيركجارد يريد فلسفةً تجد العواطفُ والمشاعر والأحاسيس فيها موطأ قدم، وليس فلسفةً جافّة لا تقدر سوى على مخاطبة العقل بالأرقام والجمل والكلمات الصارمة… إنّ فلسفة هيجل(1831م) ـ ومثلها كثير من الفلسفات ـ درست كلّ شيء، لكنّها نسيت الإنسانَ الفرد، لقد ذهبت بالإنسان بكثير من الكليّة والعموميّة، ودرسته في وجوده الكلّياني، لكنّها نسيت الإنسان في وجوده الجزئي الشخصي، بل حتّى الفيلسوف نفسه فكَّرَ ـ بما هو فردٌ ـ بكلّ شيء سوى بنفسه… هذا هو قلق مفكّرٍ وجودي (Existentialist)، مثل: كيركجارد.

والأمر الأخطر بالنسبة لكيركجارد هو أنّ الأنظمة الفلسفيّة والعلميّة أنظمة قاهرة، تقدّم لنا العالم والوجود بشكلٍ صارم ميكانيكي مهيب. والإنسان وسط هذا النظام الكلّي المهول لا يعود يشعر بذاته المختارة والمريدة… إنّ تلاشي الإرادة هو خطر كبير يهدّد عقليّةً وجودية، مثل: كيركجارد؛ لأنّ الإرادة والاختيار هما جوهر التفكير الوجودي في العالم.

إنّ أوّل خطوة يخطوها كيركجارد هي في إنكار الهوية الخبريّة للإيمان، بمعنى أنّ متعلّق الإيمان ليس قضيّةً ما، مثل: صلب المسيح، بل هو حقيقةٌ خارجيّة بذاته، وبنية علائقيّة تعيد إنتاج صاحبها في ذاته وهويّته. وعبر هذا السبيل يقوم كيركجارد ـ كما يرى الدكتور حسن يوسف([3]) ـ بالفصل بين الفكر والوجود، فالوجود لا يتّصل بالفكر، ولا نصل إليه عبره، بل يتّصل بأمرٍ آخر داخل الذات الإنسانيّة.

لماذا فصل كيركجارد نفسَه عن الأدلة التاريخيّة؟ وما الذي دفعه إلى ذلك؟ ــــــ

إنّ التأمّل في أعمال كيركجارد يعطي أنّه توصّل إلى عجز الأدلّة التاريخيّة عن إثبات المسيحيّة، ومن ثمّ فبناء المسيحيّة على التاريخ بوصفه دليلاً مخارجاً آفاقيّاً سيُمنى بالفشل. والسبب الذي يدفع شخصاً مثل: كيركجارد للفرار من المجال التاريخي للمسيحيّة، وكلّ المجال الفلسفي العقلي العالمي، هو غياب الذات الفرديّة في هذه الأنظمة؛ لأنّ الحقيقة فيها خارجة عن الذات الإنسانيّة، بينما يريد كيركجارد أن يعيد إنتاج الحقيقة والإيمان من داخل الذات الإنسانيّة. فكلّما كانت الحقيقة خارج الذات كان الغرق فيها ابتعاداً عن الذات واغتراباً.

إنّ تأمُّلية وأنفسية كيركجارد تريد للحقيقة أن تصبح قضيّةً معاشة في حياة الفرد، وليست قضيّة مدركة فقط. وعيش الحقيقة لا يكون سوى بتحوُّلها إلى أمرٍ أنفسيّ داخليّ ذاتيّ؛ لأنّ أيّ ثنائية بين الذات والحقيقة سيعني فقدان خاصّية العيش والممارسة، فليس المهمّ أن أعرف ما هي الأخلاق، بل المهمّ أن أعيشها. والعيش هو ـ عند كيركجارد ـ ما يحقِّق الهوية الوجودية الحقيقيّة للإنسان.

لقد قدَّم كيركجارد هنا ثلاثة أدلّة لتبرير تخلّيه عن التفكير الآفاقي في الدين، وهي:

أـ برهان التقريب والتخمين ــــــ

يعتقد كيركجارد أنّ الدراسات التاريخية لو كانت تنتج اليقين لرُبَما ـ جَدَلاً ـ كان بالإمكان بناء الإيمان عليها، لكنّ التاريخيات لا تنتج يقيناً، بل غاية ما هنالك هو إنتاجها للظنّ والتقريب والتخمين.

بهذا البرهان يتّضح جليّاً حجم تأثير حركة النقد التاريخي، وخاصّة على مستوى الكتاب المقدّس، التي انطلقت مع مثل: باروخ اسبينوزا(1677م)…، حجم تأثيرها على تفكير كيركجارد، فقد وصلت هذه الحركة إليه فاقدةً الثقة بالتاريخ، وبشكلٍ مركّز التاريخ النقلي (في مقابل التاريخ المحسوس المتمثِّل بالحفريّات والآثار)، ومن ثمّ لا يمكن بناء المعرفة على أساس التاريخ؛ لأنّ التاريخ لا يخلو من الاحتمالات المتعدِّدة، ومن فقر المعلومات، وغير ذلك، ممّا يعيق قدرتنا على الوصول إلى يقينٍ فيه، بل غاية ما في الأمر هو الظنّ والتخمين والترجيح.

إذن الوعي التاريخي في عصر الحداثة أرخى بثقله على كيركجارد، ليسهِّل عليه التضحية بالدرس التاريخي عموماً، ويقوّي من عزيمته في فكّ الاتصال بين الإيمان والتاريخ.

ب ـ برهان التعليق والإرجاء ــــــ

هذا المستوى من مقاربة الموضوع التاريخي لا يقف عنده كيركجارد، بل يذهب أبعد من ذلك حين يعتبر أنّ اليقين التاريخي لا يمكنه أن يبني إيماناً؛ لأنّ بناء الإيمان على اليقين التاريخي معناه أنّ أيّ تشكيكٍ تاريخيّ حقيقي في وثاقة الكتب المقدَّسة سوف يعني زوال الإيمان! وكأنّ كيركجارد يعتبر أنّ الإيمان يجب أن يُبنى بطريقة لا يمكن معها أن يزول، وبناؤه على البحث التاريخي ولو أنتج يقيناً معناه بناؤه على أمرٍ معلّق، فالعلوم في طور التطور والتكامل بشكلٍ مستمرّ، سواء في ذلك التجربيّات أم الرياضيّات أم التاريخيّات، وهذا التطوّر المتواصل ـ طولاً وعرضاً، نقداً وإبراماً ـ يكشف عن أنّ العلم البشري لا يمكن أن يكون قطعيّاً ونهائيّاً.

ولنعُدْ مرّةً أخرى إلى مفهوم الإيمان عند كيركجارد، لنجد أنّه التزامٌ كامل غير محدود ولا نهاية له بأمرٍ ما. فإذا كانت بنية العقل النظري للبشر عبر العلوم المختلفة تقع في حال من السياليّة الدائمة، وتجديد الرؤية وإعادة النظر، فهذا معناه بناء الإيمان على مخاطرة التعليق والإرجاء. فليس هناك إيمانٌ نهائي في هذه الحال، بل إيمانٌ مرتبط ومرتهن لتطوّرات العلوم، ومنجزات العقل النظري للبشر، ومصير المعرفة.

إنّ كيركجارد يعتبر هنا أنّ بناء الإيمان على هذه التجربة المعرفيّة البشريّة سوف تضعه على قائمة الانتظار؛ لأنّ انتهاء الباحث من كلّ المقدّمات اللازمة في مختلف العلوم، والتي تؤثّر على تكوّن الحقيقة الإيمانيّة، يحتاج إلى عمرٍ كامل، بل أعمار، فكيف يمكن أن نترك الإيمان على لائحة الانتظار حتّى تنتهي تلك الرحلة، التي لا نعلم هل تنتهي أصلاً أو لا؟!

لماذا يبدو كيركجارد قلقاً من هذا التأخير؟ ولماذا تُراه مستعجلاً لتحصيل الإيمان؟

يتساءل بعض الباحثين: أليس من الأفضل لنا أن نؤخِّر الإيمان حتّى نبنيَه على أسس علميّة متينة؟ فهل العجلة أصلٌ في الإيمان، أو الاستحكام هو الأساس؟ ويلتمس هذا الباحث من كلمات كيركجارد الجواب، وهو أنّ الإيمان والسعادة الأبديّة مهمّةٌ لدرجة أنّها لا تحتمل التأخير!!([4]).

إنّ هذا الكلام يعني أنّ القضية عند كيركجارد بلغت حدّاً بحيث لا نملك معه فسحة من الوقت، فلسنا في سعةٍ، بل نحن في ضيقٍ، ومَنْ يكون في ضيقٍ من الخطأ أن يعتمد استراتيجيّةً بعيدة المدى، بل عليه أن يضع خطّةً سريعة يصل إلى نتائجها في أقرب وقتٍ ممكن. والتشييد المخارج الآفاقي لا يحتوي على مقوّمات خطّة من هذا النوع، من وجهة نظر كيركجارد.

تصوَّرْ أنّ تطوراً في العلوم فرض سؤالاً يتّصل بإحدى مقدّمات إثبات القضيّة الدينية. إنّ الباحث المؤمن عليه هنا أن يرجع إلى الوراء قهراً، لينظر في هذا المستجدّ، ويحقّق في الأمر. إنّ ذلك يعني بالضرورة أنّ عليه أن يتخلّى ـ ولو فترة التحقيق هذه ـ عن إيمانه؛ كي يقوم بالنظر في مقدّمات هذا الإيمان، أفهل يمكن أن يكون هذا الإيمان مقبولاً عند الله؟ هل هو إيمانٌ كامل دائم خالٍ من الحدود؟

والفرق بين بعض النزعات الإسلاميّة وبين رؤية كيركجارد هنا، وفق رأي بعض الباحثين، هو أنّ الإيمانيّين المسلمين كانوا يشكِّكون في إمكانات العقل، ويعتمدون على الشهود والتجربة الروحيّة؛ بينما نجد أنّ تركيز كيركجارد على التاريخ بوصفه أبرز معلم من معالم الديانة الآفاقيّة. والسبب كما يرى هذا الباحث هو أنّ الجوهر المسيحيّ قائم على قضيّة الصلب، فكلّ بِنْية اللاهوت المسيحيّ تقوم على هذا المفهوم. والصلب حدثٌ في التاريخ، ولا يمكن تخطّيه. لهذا يركِّز كيركجارد في نقوده على الدراسات التاريخيّة، ومدى قدرتها على مساعدتنا في الوصول إلى يقين بالحقيقة التاريخيّة، لأجل بناء الإيمان على هذا اليقين([5]).

ج ـ برهان الحماسة والهيجان والمخاطرة ــــــ

رأينا في البرهانين السابقين كيف أنّ كيركجارد أراد أن يفصل بين الإيمان والعقل، وخاصّةً العقل التاريخي. لكنّه في هذا البرهان الثالث يرفع من وتيرة التشدُّد، فيذهب نحو إيجاد خصومة بين الإيمان والعقل. فهناك فرقٌ بين أن تذهب بالإيمان خارج إطار التعقيل، كما وافق على ذلك حتّى توما الأكويني في بعض القضايا الإيمانيّة، كالتجسُّد، وتحمَّس لذلك أكثر جون كالفن(1564م)، وبين أن تأخذه نحو مخاصمة وتصادم مع العقل.

إنّ كيركجارد يرفع وتيرة الأمر نحو هذه المرحلة، ليقترب ـ وفق رأي بعض الباحثين المعاصرين([6]) ـ من توجُّهات بولس الرسول(64 أو 67م) من جهةٍ أولى، وترتليان/ترتليانوس(220م) من جهةٍ ثانية.

لكنْ كيف بلغت تأمُّلات كيركجارد هذا المستوى؟

إنّ كيركجارد، كما رأيناه دوماً، يأخذ تعريفاً ومفهوماً خاصّاً للإيمان، ثم يقوم بقراءة جميع الأشياء ضمن هذا التعريف. ولكي نفهم كيركجارد من الضروري فهم فهمه للإيمان. إنّه يرى أنّ من أخصّ خصائص الإيمان هو الحماسة المطلقة من جهةٍ؛ والقلق المطلق من جهةٍ ثانية. فالتديُّن هو هذه المخاطرة الرهيبة؛ لأنّ المتديِّن هو الذي ينتمي لدينٍ انتماءً حماسيّاً، يجعله مستعدّاً للتضحية بكلّ شيءٍ. والتاريخ المسيحي الأوّل (عصور الاضطهاد والشهادة) وحياة القدّيسين شاهدُ ذلك كلّه.

انطلاقاً من هذه النقطة، يصبح اليقين بذاته منافياً للإيمان. وهو ما يبدو غير مفهومٍ من طروحات كيركجارد. فلماذا يكون اليقين منافياً للإيمان، وبالتَّبَع فكلّ العلوم المنتجة لليقين تكون كذلك؟!

إنّ كيركجارد يعتبر أنّ الإيمان عنفوانٌ مطلق، واقتحامٌ مطلق للمخاطر. فإذا قيل لك: ارْمِ نفسك من هذا المكان، وأنت في عتمة الليل لا تعرف ماذا يوجد في الأسفل، فإنّ التزامك اللامحدود بالأمر هو إيمانٌ حقيقيّ. لكنْ لو انكشف لك أنّ في الأسفل أطناناً من القطن التي تحميك من الاصطدام بالأرض فإنّ رمي نفسك لن يكون فيه أيّ خاصّية إيمانية وحماسية إطلاقاً. إنّ الحماسة الإيمانية لا تكون في حال الطمأنينة، بل في حال المخاطرة. والمؤمن هو مَنْ يملك هذا المستوى من العطاء الإيماني؛ ليبقى حيّاً بالأمل، لا بالمعرفة. وهذا يعني أنّ اليقين الآتي من العلوم سوف يقتل هذه المخاطرة. ولهذا يرى كيركجارد أنّ الذين يحتاجون للبراهين الدينيّة هم أولئك الذين خسروا الإيمان الحقيقي، وبلغ بهم الأمر أدنى مراتب التديُّن؛ أمّا أولئك الذي يملكون هذا الإيمان فإنّهم ينجذبون دون تفكيرٍ أبداً، بل بتصميمٍ روحيّ باطنيّ وجوديّ.

هذا هو مفهوم كيركجارد أيضاً عن التجربة الإبراهيميّة في مسألة ذبح نبيّ الله إبراهيم الخليل× لولده، والتي ورد الحديث عنها في العهد القديم وفي القرآن الكريم معاً. إنّ إبراهيم كان مؤمناً حقيقيّاً؛ لأنّ الإيمان هو هذه المخاطرة في اللامعقول، أو هو هذه التبعيّة المطلقة اللامحدودة، وفقاً للتسمية الإسلاميّة للكلمة إذا صحّ التعبير. وما كان يمكن للتجربة الإبراهيميّة أن تنجح لو كان الإيمان مُعَقْلَنَاً، من وجهة نظر كيركجارد. وبهذا نحن بحاجةٍ للاعقلانيّة في بناء الإيمان؛ بغية نجاح التجربة.

وقفاتٌ مع كيركجارد ــــــ

لعلّه يمكنني أن أقدّم بعض المداخلات الاستفهاميّة على تصوُّرات كيركجارد في تعاطيه السلبيّ مع اليقين والأدلّة المخارجة في موضوع الإيمان.

1ـ مخاطر نفي التعقيل أو (الإيمان بين السلامة والخرافة) ــــــ

المداخلة الأولى: اعتبر كيركجارد أنّ المحافظة على الإيمان المطلق ضرورة. وبناء على هذه القاعدة اتّخذ مواقف من العلوم والتاريخ والفلسفة والعقل واليقين النظري. لكنّ السؤال الأهمّ: لماذا يجب علينا أن نأخذ بالإيمان المطلق؟ وبتعبيرٍ آخر: لماذا الإيمان؟

يبدو من كيركجارد أنّ الإيمان ساحة ثالثة عليا في الحياة البشريّة، تتسامى عن ساحة اللذّة والحسّانيّة، وساحة الأخلاق والنظم القانونيّة. وهذا يعني أنّ الإيمان بوجوده الحقيقي في الذات الفرديّة هو غاية لهذه الذات. وهذا الفهم منسجمٌ جدّاً مع وجوديّة كيركجارد؛ لأنّ تحقيق الهويّة الإنسانيّة لا يكون عنده إلاّ بتحقيق هذه الساحة الثالثة المسمّاة بالدين أو الإيمان.

ولهذا رُبَما لا يكون متعلّق الإيمان مهمّاً عند كيركجارد، بل الفعل الإيماني الباطني هو المهمّ. وانطلاقاً من ذلك تتفتّح تعدُّدية كيركجارد عندما يعتبر أنّ المسيحي الذي يدعو الله الواحد ليس بالضرورة أفضل من المشرك الذي يدعو غير الله؛ فالعبرة ليست بمَنْ يتمّ توجيه الدعاء إليه، بل بمستوى فعل الدعاء بوصفه تجربة باطنية إنسانيّة عميقة.

إذا كان الأمر كذلك فلماذا يُقحم كيركجارد السعادة الأبديّة؟ بل لو تخطَّينا هذه الفكرة هنا فنحن نسأل كيركجارد عن المخاطر التي قد تنجم عن الخطأ في تحييد متعلّق الإيمان؟ فلو اعتقد الإنسان بألوهيّة الصنم فهل لا توجد أيّ مخاطر أو سلبيات راجعة عليه؟ وهل الفعل الإيماني يرجع على الإنسان بالخير دوماً، وخاصّة لو أخذنا مفهوم السعادة الأبديّة؟ وهل يمكن مقاربة موضوع من هذا القبيل بالفعل الإيماني نفسه أو لا بُدَّ من مقاربته بالعقل والتاريخ والحقيقة الخارجيّة أيضاً؟

من هنا، يبدو لنا بليز باسكال(1662م) أكثر جدّيةً وواقعيّة من كيركجارد؛ فباسكال في مقاربته المشهورة يعتبر أنّ قضيّة (الله) إذا لم تثبت أو يتمّ نفيها فهي مشكوكةٌ، والخطوة السليمة في التعامل مع هذا المشكوك هو البناء عليه، لا إلغاؤه؛ لأنّ المخاطر الناجمة عن إلغائه في الحياة، لو فرض أنّه واقعاً موجودٌ، هي أكبرُ بكثير من المخاطر الآتية من وراء الأخذ به، ولو فرض أنّه غير موجود. إنّ باسكال يتعامل هنا مع واقع خارجي برؤية عملانيّة؛ بينما كيركجارد يفصلنا عن الواقع الخارجي، ويحوّلنا كرجل معلّق في الفضاء!

هذا ما يجرّنا إلى مقارنة بين كيركجارد والمفكِّر الإيماني المعاصر جون بيشوب (John Bishop حيث يعتبر بيشوب أنّ ترك التفسير الإيماني ورفض ممارسة تبرير عقلاني للإيمان سوف يورِّطنا في الخرافة والأسطورة. فتبرير الإيمان ضروريٌّ؛ لأجل صيانته من الخطأ([7]). وهذا معنى أنّ بيشوب ووليام جيمز(1910م) يعتبران أنّ الإيمان الذي يواجه الشواهد الموجودة غير صحيح. فمخالفة المغامرة الإيمانية للشواهد القائمة يجعل الإيمان في خطر.

وروح فكرة بيشوب مستقاة من وليام جيمز، حيث يرى أنّه من الناحية الأخلاقية يمكن توظيف الموضوع (p) بشكلٍ أخلاقي، حتّى لو لم يثبت وجوده أو عدم وجوده في الخارج، وذلك بشرطين:

1ـ أن يكون اختيار (p) اختياراً أصيلاً.

2ـ أن لا يقوم على هذا الاختيار سلوكٌ قائم على قرارات مبنيّة على أسس عقليّة. فلا يمكنني أن أمارس فعلاً قائماً على أسس عقلية انطلاقاً من هذا الموضوع (p)([8]).

ومرجع هذا كلّه إلى أنّ الإنسان ـ كما يقول كليفورد ـ مسؤولٌ أخلاقيّاً عن الإيمان الخاطئ، وليس متحرِّراً من هذا الالتزام الأخلاقي بحجّة المغامرة أو المخاطرة الإيمانيّة.

2ـ كيركجارد ومخاطرة العلاقة بين الإيمان والسلوك ــــــ

المداخلة الثانية: لا يمكن لكيركجارد أن يفصل الإيمان عن السلوك، فالإيمان يؤثِّر تأثيراً واضحاً في شكل سلوك الإنسان، وليس من المعقول أن نفصل الإيمان عن الحياة اليومية للفرد في علاقته بذاته وبالله وبالإنسان والطبيعة. وسواء كان هذا التأثير مباشراً أم غير مباشر، لكنّه قائم على أيّ حال. وهنا إذا لم نخضع الإيمان لشكلٍ من أشكال التبرير الأخلاقي، وهو نوعٌ من التعقيل، فإنّنا نكون قد وضعنا السلوك الإنساني في خطر الممارسة الخاطئة، بل وحتّى غير الأخلاقيّة!

هل يمكن لكيركجارد أن يفصل رؤيته الإيمانية عن موقفه الناقد اللاذع للكنيسة الدانماركيّة اللوثريّة التي كانت في زمانه؟ لقد كتب كيركجارد العديد من الكتب في نقد الكنيسة، وتمّ اعتباره كافراً مرتدّاً، وكانت هجماته المتبادلة مع الكنيسة مشهودةً واضحة اشتدّت في أواخر حياته. لقد اعتقد كيركجارد بأنّ الكنيسة غير قابلة للإصلاح، بل لا بُدَّ من هدمها وإعادة تشكيل الكنيسة المسيحيّة من جديد. لقد كان نقده للكنيسة جزءاً من إيمانه، وكان قضيّةً إيمانية بالنسبة إليه. لقد نقل لنا التاريخ أنّ كيركجارد رفض استقبال أخيه القسيس (بيتر) الذي أراد زيارته في مرضه الأخير، الذي أقعده في المستشفى أربعين يوماً. أليس لذلك علاقة وتأثير وتأثُّر بإيمانه؟!

إنّ موقف كيركجارد من الكنيسة نابعٌ من موقفه من فرديّة الإيمان، وأنّه تجربةٌ ذاتيّة إراديّة مع الله، ومعاناة حقيقيّة تجاهه؛ لأنّ الإنسان المسيحي عند كيركجارد هو الإنسان الذي يعاني. كما أنّ موقفه من الكنيسة نابعٌ من قناعته بأنّ البُعْد الاحتفالي الطقوسي بالدين هو عملية تضليليّة بامتيازٍ، وهي نحرٌ للحقيقة الوجودية للدين في داخل الفرد المختار([9]). واختيارُ الفرد في الفلسفة الوجوديّة الإيمانية لكيركجارد له تأثيرٌ عظيم على موقفه من الانتماء المسيحي التلقائي للمسيحيّة بمجرّد ولادة الإنسان في مجتمع مسيحي، حيث يُعتبر كنسيّاً جزءاً من الكنيسة. فالإيمان (فعل وجودي فردي، وليس إجراءات إنسانيّة تقوم بها الجماعة لإثبات وجود الله عبر الأدلّة الطقوسية والإيمانيّة)([10]).

هذا كلُّه يؤكّد أنّ الإيمان يترك أثراً على السلوك والمواقف. فإذا لم يكن يملك تبريراً أخلاقيّاً، أو على الأقلّ لا يملك ما يؤكّد مناقضة هذا الإيمان للواقع، فكيف له أن يخاطر بإيمان يعيد تشكيل أخلاقيّاته وسلوكيّاته ونمط عيشه بما قد يؤدّي إلى تورّطه في ما ينافي الأخلاق نفسها؟! هذا الأمر يجب التوقُّف عنده.

3ـ المسيحيّة، من العينيّة إلى وثاقة الإيمان ــــــ

المداخلة الثالثة: يبدو من كيركجارد أنّه لا ينفي الحقيقة العينية للمسيحيّة (الله ـ الإنسان)، لكنّه لا يمكن معرفتها بالعقل النظري، بل بالتوجُّه الوجودي. وهذا موضوع يرجع إلى فضاء عميق تاريخيّاً. وربما تكون لعمانوئيل كانط(1804م) تأثيرات واضحة على كيركجارد فيه؛ فالإيمان عند كيركجارد سابقٌ على الفهم، وليس العكس. وهذه نزعةٌ مشهورة في التراث الديني عموماً، وحولها جَدَلٌ كبير في المسيحية منذ القدّيس آنسلم(1109م) ومَنْ قَبْله؛ لأنّ الإيمان هو الذي يخلع الستار بيني وبين الحقيقة، لا أنّه يبدأ بعد خلع هذا الستار([11]).

السؤال الاستفهامي هنا هو: إذا نفى كيركجارد الحقيقة العينيّة للمسيحيّة ـ ولأيّ دينٍ آخر ـ فلا نناقشه في هذه المداخلة، لكنّه إذا اعتقد بالحقيقة العينيّة لها فإنّ الذي خاض مغامرة الإيمان، وانكشفت له الحقيقة حقّاً وبالفعل، لا شأن لنا به، والسؤال: ما الذي يجب أن يقوم به الذي لم يخُضْ التجربة بعد؟ من الطبيعي أنّ كيركجارد سوف يطالبه بخوضها، وعدم تضييع الوقت بالتفكير الآفاقي المخارج. لكنّ كيركجارد لم يقُلْ لنا كيف تأكَّد بأنّها هي الحقيقة العينيّة؟ وكيف عرف أنّ تجربته الباطنيّة متماهية مع الحقيقة العينيّة، وليست باقية في داخل ذاته، ولا عينيّة لها سوى ذاتها بوصفها حالة نفسيّة؟ وبعبارةٍ أخرى: ما هو التبرير الذي يمكن أن يقدِّمه كيركجارد ليؤكِّد لنا أنّ التجربة الأنفسية يقينيّة، بعد أن أثبت لنا أنّ التجربة الآفاقية غير يقينيّة؟!

ربما اعتبر كيركجارد أنّه لا مجال للنقاش في قيمة التجربة الأنفسيّة، ولو بتصوُّر أنّ الحقيقة فيها حاضرة، بما يشبه مفهوم الشهود المعنوي الحقيقي في العرفان الإسلامي. لكنّ تحقّق الإنسان بهذا الشهود إذا أعطى حقيقةً حضوريّة لا مجال للنقاش فيها؛ لكنّ السؤال يبقى في علامات وصولي لهذا الشهود، فهل أنّ مسيرة التجربة الشهودية غير قابلة لوقوع الإنسان في الخطأ، ثم تصوّر أنّه يعيش تجربة حضوريّة؟

وما ينتج عن تساؤلنا هذا هو أنّ سلوك الطريق الشهودي لا يتحرَّر تماماً من مشاكل سلوك الطريق العقلي، فإذا كان العقل لو استقام لأوصل للحقيقة افتراضيّاً فإنّ العقل في تجربته العملية لا يوجد ما يؤكّد أنّه استقام عند تنشيطه، وأنّه لا يقع في مشاكل ولو بفعل مؤثّرات خارجيّة. وهكذا الحال في الشهود، فإذا كانت هناك حقيقة شهوديّة حضورية غير حضور النفس عند صاحبها، فإنّ الصورة الافتراضية لهذا الموضوع لا تنفي أنّ الذين يخوضون التجربة قد يقعون في أخطاء، بحيث يخيَّل إليهم ما ليس بشهود شهوداً، وما ليس بحقيقةٍ حقيقة. كيف يمكن تجاوز هذه المشكلة؟ وإذا قلتَ لي بأنّ الحقيقة الشهوديّة لم يصل هؤلاء إليها فإنّني أقول لك بأنّ الحقيقة العقلية لم يصِلْ إليها الناس بتجاربهم التفكيريّة، بل أخطأوها، دون أن يعني ذلك هَدْماً لقيمة التفكير العقلي والتاريخي، بل الدراسات التاريخيّة إذا لم تتمكَّن من إثبات التاريخ فهذا لا يعني أنّها غير متطابقة في الجملة مع الحقيقة التاريخيّة.

ما أُريد أن أصل إليه هو أنّ هواجس كيركجارد القائمة على كيفيّة التديّن، وعلى معايشة الإيمان، يمكن لها أن تجتمع مع سؤال التفكير في الموضوع الإيماني. وإذا كان بناء الإيمان على العقل يضعه في مهبّ مخاطرة فقدان الإيمان، فإنّ بناء الإيمان على التجربة الذاتية (التصميم) يضعه في مهبّ مخاطرة لا عينيّة الإيمان. وإذا كان كيركجارد يريد نفي حصريّة الوصول إلى الحقيقة بالعقل، فاتحاً طريقاً آخر، فهذا لا يعني أنّ العقل لم يعُدْ طريقاً لها.

ما أُريد أكثر أن أركِّز عليه هو أنّ استغلال كيركجارد لعناصر الضعف في بينة اكتشاف الحقيقة عقليّاً لا يعني أنّ بنية اكتشافها شهوديّاً وحضوريّاً لا تعاني هي الأخرى من مشكلة، فقد تُركت هذه المساحة دون تفكير، فيما ظلَّت سياط النقد ومباضع الجراحة متوجِّهة نحو التجربة والحسّ والعقل بوصفها مصادر أو سبلاً للمعرفة.

إنّ تركيز كيركجارد على الحقيقة الوجودية للمسيحية، وليس الحقيقة الخبرية أو المعلوماتية، ليس أمراً مرفوضاً؛ لكنّ السؤال الأبرز هو في مَدَيات الحصول على التجربة الوجودية الصادقة دون ممارسة تأمُّل عقلي وتاريخي… ليس أمام كيركجارد من سبيلٍ لتفسير المسيحيّة سوى بأنّها التجربة الذاتية لا غير، ومن ثم لا توجد حقيقة عينيّة غير المشاعر التي يخوضها الفرد. وهذا يعني أنّ المشاعر هي الدين العيني. وحيث لا تفترق فلا فرق بين المسيحية والإسلام والبوذية وغير ذلك. وبهذا يفرض تساؤلٌ نفسه: لماذا البحث عن المسيحيّة أصلاً؟ بل لماذا الحديث عن الله والسعادة الأبديّة والصليب وغير ذلك؟ بل ما الفرق بين الإيمان الديني وبين السلوك العرفاني المنفصل عن الله تماماً، مثل: بعض تيّارات (العرفان بدون الله) في العصر الحديث؟

كلمةٌ أخيرة: فرديّة الإيمان والإحساس الروحيّ بالآخرين ــــــ

ليس من شكٍّ في أنّ المحاولة المختلفة التي قام بها كيركجارد في فهم الإيمان في عمقه الوجودي الفردي تركت تأثيراً كبيراً على الدين في الغرب، وأعادت فهم الظواهر الإيمانيّة، وتقويم السلوكيّات الدينية على مستوى الفرد والجماعة. بل تركت جهود كيركجارد تأثيرها على العلوم الإنسانيّة. وكما يقول المفكِّر ريتشارد بورك هوفر: إنّه (ينبغي عدم التقليل من شأن كيركجارد، والمناخ الذي هيّأه لعلم النفس، وما انبثق من رَحِمِه من نظريّات ودراسات، وطرائق بحث في التحليل والطبّ النفسي في القرن العشرين…)([12]).

ومن تأثيرات تفكير كيركجارد عزل الدين عن الحياة العامّة، وفقده قدرته على التأثير الاجتماعي. ولهذا يُبدي الدكتور الألماني جوترفرايد كونزلن ـ وهو يتكلَّم عن خصخصة الدين ـ امتعاضَه من المآلات التي وصل إليها الدين في الغرب، بخسارته قدرته على التأثير، بل فقد دَوْره كقوّةٍ موجّهة للحياة بشكلٍ عامّ، على حدّ تعبير ماكس فيبر(1920م)، الأمر الذي أدّى إلى الفصل النهائي بين المعتقدات الدينيّة والحقوق المدنيّة([13]). وهذا يعني أنّ التأثيرات الإيجابيّة لتفكير كيركجارد في داخل النفس الفرديّة الإنسانيّة تضعنا أمام انحسارٍ، بل شبه تلاشٍ عجيب للدين من الحياة العامّة، ومن ثمّ فنحن أمام زوال كلّ السياقات الاجتماعوسياسيّة، التي يمكنها أن توفِّر للفرد اندفاعه نحو التجربة الدينيّة؛ وذلك بسبب هيمنة العلمانية ـ بما فيها نزعتها الأخلاقيّة ـ، التي سمح لها بأن تكون قوّة موجّهة في الاجتماع البشري، بينما رفض الدين أن يكون كذلك.

وعليه، فإذا أردنا أن نسير في إطار إحساس الفرد بالآخرين، وفي سياقٍ إنسانيّ، فهل يحقّ لمثل كيركجارد أن يخرج الدين من السياق الاجتماعي، فيفقد الفرد انبعاث طاقته الإيمانية الكامنة؟ وهل إذا تركنا اللادينية تتحرّك في سياق اجتماعي، ورفضنا تحويل الدين إلى منظومةٍ اجتماعيّة، نكون قد ضمنّا ـ من موقع الإحساس الإنساني ـ سلامة الحياة الروحيّة للأفراد أو لا؟

لسنا نختلف مع كيركجارد في ضرورة تغيير شكل الحضور الاجتماعي والسياسي للدين، وفي إفراطيّة الطقوسية الاحتفاليّة التي غيَّبت الهويّة الحقيقيّة للإنسان المتديّن لصالح هويّة مغلوطة مستَلَبة، وأنّ تجربة الألفيّتين الماضيتين في المسيحيّة واليهوديّة والإسلام باتت تتطلَّب إعادة النظر في شكل حماية الوجود الاجتماعي للدين، دون اللجوء إلى تنميط الدين وسلبه هويّته الباطنيّة المعنويّة للفرد. لكنّ الغرق في فردانيّة الدين لن ينتج سوى تفتيت السياقات المحيطة المساهمة في بعث الروح الإيمانية في الأفراد. وليس أمام كيركجارد هنا إلاّ أن يقول ـ كما قالت البروتستانتيّة الكالفينية في القرن السادس عشر الميلادي ـ بنظريّة التقدير الإلهي المسبق، والانتخاب الإلهي للأفراد الصالحين والفاسدين: (السعيد سعيدٌ في بطن أمّه؛ والشقيّ شقيٌّ في بطن أمّه).

الهوامش


([1]) أودّ الإشارة منذ البداية إلى أنّ الأفكار الأساسيّة التي نقلناها عن كيركجارد في هذا المقال ترجع إلى مادّتين:

أـ دراسته المترجمة إلى اللغة الفارسيّة على يد الدكتور مصطفى ملكيان، تحت عنوان: أنفسي بودن حقيقت است، والمنشورة في: مجلة نقد ونظر، العددان 3 ـ 4: 62 ـ 81، إيران، صيف عام 1995م.

ب ـ الدراسة التي كتبها روبرت مري هيو آدامز، وترجمها مصطفى ملكيان أيضاً، ونشرت تحت عنوان: أدله كرکگور بر ضد استدلال آفاقي در دين، ونشرت في: مجلة نقد نظر، العددان 3 ـ 4: 82 ـ 103.

وأيضاً حول تصوّراته في نقد التعقيل الديني راجع: يحيى نصرتي ومحسن رحيمي غازاني، عقل وإيمان أز ديدگاه سورن کرکگور: 149 ـ 209، نشر پژوهشگاه علوم وفرهنگ إسلامي، إيران، ط1، 2016م.

([2]) انظر: نعيمه پورمحمدي، الإيمان عند كيركيغارد، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العددان 51 ـ 52: 161، السنة السادسة عشرة، صيف وخريف عام 2012م.

([3]) انظر: حسن يوسف، فلسفة الدين عند كيركجارد: 49 ـ 53، نشر مكتبة دار الكلمة، القاهرة، ط1، 2001م.

([4]) انظر: رضا أكبري، إيمان گروي (نظريات كرکگور ويتنگشتاين وبلانتينجا): 34، نشر پژوهشگاه فرهنگ وعلوم إسلامي، إيران، ط2، 2007م.

([5]) انظر: رضا أكبري، إيمان گروي: 35 ـ 36.

([6]) انظر: المصدر السابق: 39.

([7]) انظر: محسن جوادي وشيماء الشهرستاني، تحليل النـزعة الإيمانية عند جون بيشوب، مجلّة قضايا إسلاميّة معاصرة، العددان 49 ـ 50: 271، السنة السادسة عشرة، شتاء وربيع 2012م.

([8]) انظر: المصدر السابق: 272، 273.

([9]) انظر موقف كيركجارد من الكنيسة في: نعيمة پورمحمدي، إيمان وأخلاق مقايسه رويكرد إلاهيات كرکگور وأشاعره متقدّم: 33 ـ 45، نشر دانشگاه أديان ومذاهب، إيران، ط1، 2011م.

([10]) قحطان جاسم، سورن كيرکگورد في نقد الدين الجماهيري: 50، منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف، لبنان، ط1، 2015م.

([11]) انظر: نعيمة پورمحمدي، الإيمان عند كيركيغارد، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العددان 51 ـ 52: 165 ـ 166.

([12]) ريتشارد بورك هوفر، سورن كيرکگورد وحضور الذات في وهاد الوجود، ترجمة: أسامة الشحماني، مجلّة قضايا إسلاميّة معاصرة، العددان 55 ـ 56: 55.

([13]) جوترفرايد كونزلن، مأزق المسيحيّة والعلمانيّة في أوروبا (شهادة ألمانيّة): 25 ـ 28، تقديم وتعليق: محمد عمارة، ضمن سلسلة التنوير الإسلامي، الرقم 44، نشر دار نهضة مصر للطباعة، ط1، 1999م.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً