أحدث المقالات

أين هم الوسطيون الشيعة اليوم؟!

حيدر حب الله*

في كل أمةٍ، بل لدى كلّ جماعة، اختلاف في وجهات النظر والآراء، وهذه علامة البشرية، وسمة الضعف في بني آدم، لا تُنكر ولا تحارب.. هي معنا مذ خلقنا، ويبدو أنّها ستبقى إلى يوم يبعث الله العباد.

1 ـ والشيعة جزءٌ من الكيان البشري، لا ينفصلون عنه ولا يتخارجون، ومن الطبيعي جداً أن نجد داخل الجسم الشيعي الكبير الذي يضمّ ـ فيما يقال ـ المئات من الملايين من بني الإنسان اليوم.. نجد تنوّعاً في فهم الحياة، ودرس التراث، ووعي الواقع، ورسم الأولويات، وتحديد المنهج، وتنضيد مفردات المعرفة العقدية، والشرعية، والأخلاقية و..

تعبير حيّ هذا المشهدُ عن إنسانية الجماعة، وعفويتها البشرية، وليس من ضير أبداً أن ينقسم المجتمع الشيعي، وتختلف الآراء فيه، مسيرةٌ لطالما عاشتها البشرية ضمن وتائر تبدو اليوم في تصاعد أكثر فأكثر.

2 ـ لكن حال المسلمين اليوم في اختلافهم ليس هو الحال الطبيعي للاختلاف، وكذا الأمر في حال الطائفة الشيعية منهم، فالاختلاف ـ هنا ـ مظهرٌ من مظاهر العنف الفكري والاجتماعي و..، كلّ طائفة داخل هذا المذهب الشيعي مصرّة على إقصاء الآخر واغتياله فكرياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً و.. أما منطق التخوين فهو حقيقة يشهد على استخدامها مرورٌ عابر على انقسام الرأي الداخلي في هذه الطائفة.

فتيارٌ يتّهم الآخر بالجهل، والحماقة، والرجعية، والتخلّف، والاستغباء و.. فيما يحسب نفسه على الوعي، والمعاصرة، والحداثة، والمنطق، والمنهج و..، وآخر يتّهم غيره بالمؤامرة، والخيانة، والتعامل مع العدو، ومدّ يد العون للخارج، والتكالب على تحصيل الشهرة والاسم، فينتقد الدين ليبلغ مقاصده الذاتية، الدنيئة، الخسيئة، المنحطّة، كأن اتهام الآخر هكذا فيه من مظاهر التطهير للذات ما فيه، ومن أشكال التعويض ما فيه أيضاً.

وتيار ثالث يتهم الآخرين بالتنكّر للتراث، وتصفيته، وتدنيسه، بل والنزو عليه لمصالح دنيئة، سافلة، كأن في ذلك إحساساً بإسقاط الحمل عن الكاهل، لنعيش التراث، ونريح الذات من صدمات الواقع، فما من عقلٍ أسهل من العقل المستقيل.

هذا الانقسام حقيقةٌ واقعة لا محالة في الحياة الشيعية المعاصرة، بل وفي مجمل الحياة الإسلامية.

3 ـ نحن اليوم ـ وقبل اليوم ـ على مفترق طرق، وقد أكّد لنا القرن العشرين ـ بأحداثه الصاخبة ـ أن سياسة الغالب والمغلوب، الموجود والمعدوم، لا نفع من ورائها، ولا مرتجى منها أبداً، فتلك الأيام تتداول بين بني البشر، يوم لهذا ويوم لذاك.

وقد لاحظنا في رصدنا للمشهد الشيعي: العربي، والإيراني، والأفغاني و.. لاحظنا انشطاراً داخل التيارات نفسها، ففي هذا الانقسام الفئوي الحاد بدا نوع من اللاتمايز، أو دعنا نقول: نوع من التداخل بين الفئات والجماعات الشيعية، فالانقسام الفكري بهذه الشاكلة قد لا يفرز انفصالاً دقيقاً في المجتمع، كما يفعله وجود الأحزاب السياسية المنظمة عادةً، لهذا نجد تداخلاً، وربما أحياناً نجد نوعاً من اللاوضوح في تمييز أجزاء الصورة، تماماً كما يقال اليوم عن عدم وجود فواصل حادّة بين التيارين: المحافظ، والإصلاحي في المجتمع الإيراني، كما هي وجهة نظر بعض الباحثين المهتمّين، ليس آخرهم رئيس مجلس الشورى الإسلامي في إيران الدكتور حداد عادل.

هل يمكن أن نستفيد من هذا التواشج داخل الجماعات الشيعية لخلق نظام ردع داخلي، يحول دون مزيد من الارتكاس والانقسام والتشرذم؟ أساساً، ماذا يعني هذا النوع من الانقسام المتداخل من ناحية سيسيولوجية وسياسية و..؟

4 ـ إنّ ما نقدّره لهذه الظاهرة ـ سبباً أو نتيجةً ـ وجود تيار معتدل، داخل التيارات جميعها، وهذا التيار المعتدل هو الذي جعلنا نشعر بأن وضوحاً في الانقسام حاسماً لم يتحقّق بعد، رغم كل انقسام الرأي، والسؤال من هو هذا التيار المعتدل؟ وماذا يمكنه أن يفعل؟

لا يمتاز هذا التيار المعتدل برؤية موحّدة لفهم الدين، لكنه يمتاز بقدرة على التواصل مع الآخر، وهذه النقطة هي المدخل الذي نريد توظيفة هنا،فهناك جماعات لا تحسن فنّ الاستماع، ولا تملك حاسّة سمعٍ أساساً، أي أنّها غير مستعدّة حتى لمنح الآخر فرصة الكلام لتسمعه وتنظر ما عنده، ووجود فئات معتدلة تجيد الاستماع، وتمهر التواصل مع الآخر، فرصة ذهبية لإعادة خلق مناخ جديد.

لكن المشكلة الأساسية في الحياة الشيعية اليوم، أن هذا الفريق المعتدل من الأطراف كافّة يعاني داخل جماعته من التهميش المتعمّد، إنه محدود الصلاحيات، يعيش قدراً من الاحتياط في آرائه؛ كي لا يهمّش أكثر داخل جماعته، أو يحسب على الفريق الآخر، من هنا، يُحكِم المتشدّدون في التيارات كافّة بالمقوَد، ويحرّكون المتغيرات تبعاً لهم وتصّوراتهم، فالتشدّد عندهم رمز الوفاء للفكرة، والتعصّب لديهم سمة الإخلاص لها..

هذا هو الواقع الذي يربك بعض الشيء حركة التعاون، والاعتدال، والوسطية بين الأطراف الشيعية المتنافسة، لكن أعتقد أن بالإمكان تشكيل قوّة ضغط جديدة، لا تهدف إلى تأسيس تيار جديد أبداً، بقدر ما تهدف إلى جعل الجماعات تشعر بإيجابية تعاونها.

الفكرة التي نريد التأكيد عليها هي أن يقوم المعتدلون داخل التيارات كافّة بتنشيط التواصل فيما بينهم، ومدّ جسور الاتصال المحكمة، لتكوين عناصر تدفع ناحية التقارب، ولا أقل ناحية رفع حالة الخصام المعلن والسافر ما بين الجماعات المختلفة.

إن قيام التيار المعتدل داخل الجماعات بتقوية ذاته وإقناع الفريق الآخر داخل فئته بجدوى الخطوة التي يقوم بها يسدّ الطريق على المتشدّدين والمتعصّبين، ويحول دون إمساكهم بزمام الأمور كلّها، على التيارات المعتدلة أن تعرف أنّ بيدها بعض عناصر القوّة لفتح صفحة جديدة بين الأطراف.

وإذا استطاع القطاع المعتدل أن يكون قوّة ضاغطة، فمن شأنه أن يدين إجراءات العسف الظالم كلّها، كما أن قدرة هذا التيار على تحقيق مصالح الجماعات سوف تعطيه شرعية العمل أكثر فأكثر، فإذا نجح هذا التيار في إجراء تفاوض داخلي للسماح لكلّ طرف باختراق الطرف الآخر، فإنه سوف يملك ـ عقب ذلك ـ شرعية وجوده داخل جماعته، كونه استطاع تحقيق أهدافها، لا أقلّ بعضاً منها، وكونه نجح في التوصّل إلى اتفاقات تستطيع حفظ مصالح جماعته..

وإذا استطاع الفرقاء المعتدلون تعميم لغة الاعتدال أمكنهم خلق ثقافة داخل كياناتهم الخاصّة، لهذا على كلّ فريق أن يقدّم للطرف الآخر تنازلات، ذلك أن هذه التنازلات سوف تحسب ـ على المدى البعيد ـ فرصةً للمطالبة بتنازلات من الطرف الآخر أيضاً، مما سيحقق مكاسب متبادلة، ويزيد في إحراج الجماعات المتشدّدة داخل كلّ فريق.

إن هذا العقل البراغماتي الذي يمكن أن يسيرّ حركة المعتدلين الشيعة، يمكنه أن يحقق نتائج كبيرة، لكن أمامه عقبات لا تحصى.

5 ـ أوّل خطوة يفترض أن يقوم بها هذا التيار هي الدعوة لملتقى أو مؤتمر يجمع رموزه، ويتم فيه تبادل الآراء حول هذا المشروع، للخروج من بعض أشكال المأزق الداخلي، إن الاجتماع في ملتقى يمكنه أن يرسم صورةً أكثر وضوحاً وتفصيليةً عن خطّة عمل يفترض أن تقوم بها هذه الحركة، وعلى المعتدلين أن يطمحوا ـ عبر ذلك ـ للهيمنة على مقاليد السلطة في جماعاتهم، وأن لا يقنعوا فقط بإيجاد توازن أو تواصل ما يلبث أن يكون تبريراً يخدم مصالح الجماعات المتطرّفة أو الأكثر تطرّفاً.

6 ـ لكن يجب على المعتدلين الوسطيين أن لا يسعوا ـ قدر الإمكان ـ لإثارة حفيظة التيار الآخر، وهذه نقطة جديرة، وفي الوقت عينه سيف ذو حدين، فعادةً ما نرى الحركات التغييرية الهادفة للإصلاح تقع في شَرَك أحد مشكلين:  إمّا حرق المراحل والقفز فوق النار، وهو ما يؤدي ـ أحياناً كثيرة ـ إلى صدام عنيف، قد يفضي إلى إخفاق، أو المراعاة والمداراة الزائدة عن الحدّ الطبيعي، بحجة العمل التكتيكي والمراحلي، فيضيع الوقت بانتظار الفرج، وتهدر الفرص، وينمو التغييري على الخوف والرهبة والحذر والقلق والاكتئاب و.. فتموت تجربته كذلك، غايته أن موت التجربة في النحو الأول يكون فجائياً شرساً عنيفاً، أما في النحو الثاني فيكون بطيئاً غاصّاً أليماً مكموماً..

لهذا على الوسطية الشيعية أن تحاذر المنحيين معاً، وعليها أن لا تراعي ـ زائداً عن الحدّ ـ أصحاب الحساسية المرضية العالية، وعليها أيضاً أن لا تغدو حركة نفاق، كأنها حركة جواسيس تتحرك كخفافيش الليل، فهذا ما لا يليق، ولا يجوز، في شرع الله ودينه، ولا في منطق الأخلاق والأمانة.

7 ـ ويبقى الموضوع الرئيس من وراء هذه الخطوة المقترحة، وهو أن تكون الرسالة رسالة الاعتدال، وأن ننشر لسان التفاهم، وأن نجعل لغة الودّ والوسطية والإنصاف والاعتراف والاحترام والتقدير و.. هي اللغة التي تفرض نفسها على سجالاتنا، يجب أن نصل إلى مرحلة ينتهي فيها اجتماعياً وثقافياً وأخلاقياً كلّ من يقدم على استخدام لغةٍ أخرى في الداخل الإسلامي، إلاّ عند الضرورات القاهرة، يجب أن نصل إلى مرحلة ينتحر فيها من يستخدم أدبيات مختلفة، فنجعل لغتنا المنشودة لغة الصالونات الفكرية والثقافية، ولغة الصحافة والإعلام، ولغة الخطابة والمنبر، ولغة الحوار والجدال، لا ما نشاهده اليوم من لغة العنف والإرهاب والقمع والتقزيم والإقصاء و..

ألم يأن الأوان لخطوة، تأخذ مداها لتوحيد صفوفنا، فماذا نفعنا كلّ هذا التمزق؟! فلنستيقظ للنظر: ماذا جنينا في معاركنا الداخلية؟ ثم نعيد الكرّة لننظر ماذا جنى الغرب؟ وماذا أخذ منا؟

إذا أريد لهذا المشروع كلّه أن يسمّى انقلاباً أبيض فليسمّ، لكنه ضرورة لفكّ الطوق المضروب بالتأكيد على معتدلي الجماعات كافّة، فقد آن لهم أن يلتئموا ويعلنوا رفضهم لهذه الهيمنة المتطرّفة، ويطالبوا بحقّهم في النفوذ والسلطة بمعناها الواسع.

فيا أيّها المعتدلون الشيعة! أيها الوسطيون! أيّها الذين تئنّون من وطأة الهيمنة القمعية داخل جماعاتكم! اكسروا الخوف الكامن فيكم! وحطّموا هذا الرهاب! واعلموا أنكم قادرون على أن تملكوا شرعيتكم داخل فئاتكم أكثر فأكثر! توكّلوا على الله! ولتكن نواياكم مرضاته! ولا تفكّروا في المصالح الخاصة، ولا الفئوية! ولا تطلبوا الشهرة أو الدنيا بعملكم هذا! فما كان لله ينمو.

>فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ< الرعد: 17.

 ________________________________

(*) نشر هذا المقال في العدد الثالث، من مجلة نصوص معاصرة، في بيروت، صيف عام 2005م.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً