أحدث المقالات

تمهيد:

مدرسة النجف الأشرف في طليعة المدارس التي ازدهرت فيها الحركة العلمية واشتهرت بعلمائها ونشاطاتهم الفكرية، وهي مدينة العبقريات والتاريخ؛ إذ تخرّج من لدن زمان شيخ الطائفة الطوسي إلى عصرنا الحاضر آلاف العلماء الأفذاذ وزعماء الفقه الإسلامي وأئمة الأصول والحديث والتفسير، وفي مقدّمتهم المرجع الديني الأعلى للعالم الإسلامي وزعيم الطائفة سيدنا الأستاذ الأعظم سماحة آية الله العظمى السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي (1992م).

فقد كان بحقّ رجل العلم والتاريخ والفكر، وتمثالاً للعدالة والاستقامة بلا منازع، وكانت فيه قدسيّة كبيرة ونفسية سامية مزوّدة بملكات فاضلة وصفات حميدة وطاقات ذاتية قلّ نظيرها، وكان مخلصاً في عمله مجدّاً مثابراً، لا تحرّكه العواصف ولا العواطف يمنةً ويسرة، ولا تزعزعه المشاكل والصعاب مهما كان لونها، ومن صفاء روحه وورعه وتقواه عدم إشغال باله إلاّ بمحاسبة نفسه أمام الله تعالى، وعدم اهتمامه بما قيل أو يُقال في حقّه؛ فقد رافقتُه قرابة خمسة وثلاثين عاماً، فما رأيته ولا سمعته قطّ تجرّأ على أحد، أو انتقص من آخر، وليس هذا إلاّ دليلاً على سموّ النفس ورفعة التقوى.

أمّا ما يتعلق بأفكاره وآرائه، فقد جمع عمق الفكرة إلى سلامة الذوق ودقّة النظر، جمالَ البيان والتعبير، وكانت لديه موهبة رائعة ومقدرة علمية عالية، ففي عهده تجلّت الحركة العلمية النابضة بالأفكار والآراء وهو قُطب رحاها، فكان بعيد الغور، عميق الأثر، يعرف كيف يتصرّف في المسائل العويصة والقواعد المعقّدة ـ نظرياً وتطبيقياً ـ من مختلف الجهات، وكانت مهارته العلمية ونبوغه الفكريّ باديان من خلال عرض المسائل الصعبة الغامضة عليه وكيفية تلقّيه لها، وسرعة انتقاله إلى نكاتها ورموزها ودقائقها، واستيعابه لمختلف نواحيها، ومن ثم الاتيان بحلّ دقيق وجوابٍ متقن رصين، وذلك بأسلوبٍ جذاب بليغ، وعرض شائق رفيع، وذوق أدبي سليم، حيث كان مسيطراً على المسائل مهما كان نوعها ودرجتها من التعقيد، فكان العلم ينحدر من منبره ويفور من معدنه فوران الماء من منبعه والطيب من مسكه.

وكانت له اليد الطولى في الجدل والنقاش، فقد أبدى مقدرةً عالية ومهارة فنية فائقة بجودة إدراكه ودقّة استيعابه المسائل من جوانبها كافّة، المثبتة والنافية، وكيفية اقتحامها وردّها على الخصم والخروج عنها، فلذا كلّما ردّت عليه المسألة ردّها بأسلوب آخر، وهذا لا يكشف إلاّ عن ذهنيته النقّادة وقدرته العلمية، وأنه مجهّز بطاقات غزيرة من العلم والذكاء الحادّ.

من هنا، ينبغي أن يُقال في حقّه: إن مقام ثبوته أقوى وأرقى من مقام إثباته، رغم أن علوّ مقام إثباته قد أصبح جليّاً وظاهراً كظهور الشمس في رابعة النهار، وخير دليل على ما أقوله مواظبة العلماء والفضلاء على دروسه ومحاضراته في الحوزة العلمية الكبرى في النجف الأشرف، واشتياقهم لحضور أبحاثه وهضم أفكاره، فقد تخرّج على يديه جمهرة كبيرة من أعلام الفضل وفطاحل العلم وقادة الفكر ورموز الإبداع الذين بيدهم اليوم زمام الدراسات العليا في الفقه والأصول في الحوزات العلمية في أرجاء العالم الإسلامي، حيث تدور أبحاثهم حول أفكاره القيّمة وآرائه الدقيقة، ونظرياته العميقة، أصوليّاً وفقهياً، نظرياً وتطبيقياً، دورانَ الأرض حول نفسها، فحسبه فخراً هذا الثمر العظيم والنتاج الجبّار.

زيادةً على ذلك، لا يمكن لمثله أن يقف عند هذا الحدّ، بل سار إلى الأمام بخطواتٍ حثيثة، ودخل ميدان الإبداع مفجّراً ينابيعه، فأبدع أفكاراً متألّقة ونظريات حديثة في الأبحاث الأصولية والفقهية.

وأقدّم هنا ـ على سبيل المثال ـ مجموعةً من إبداعاته وبلورة أفكاره في هذين المجالين، كمّاً وكيفاً.

نماذج من إبدعات المحقّق الخوئي:

نظرية التعهّد ومسألة الوضع اللغوي

حيث كانت مسألة الوضع من أهم المسائل الاجتماعية في كلّ مجتمع عقلائي منذ نشوء الإنسان على وجه الكرة الأرضية، على أساس أن الإنسان منذ بداية نشوئه كان بحاجة إلى استخدام ظاهرة اللغة في حياته وسيلةً للتفاهم مع الآخرين وإبراز مقاصده ونقلها إليهم، وبما أن حياة الإنسان قد تطوّرت وتكاملت وتعمّقت عصراً بعد عصر وتوسّعت قرناً بعد آخر من مختلف جهاتها، فبطبيعة الحال يتطلب الأمر تطور ظاهرة اللغة وتكاملها وتوسعها بما يناسب ذلك؛ لأنهما مترابطان بترابطٍ متبادل.

ولمّا رأى السيد الخوئي أن الوضع في ضوء تفسير المشهور لا ينسجم مع مكانة هذه المسألة وأهميّتها لدى العقلاء أبدى نظريةً جديدة متكاملة كمّاً وكيفاً، وهي نظرية التعهّد على أساس أنّها بنفسها نظرية عقلائية تتناسب مع مكانة هذه المسألة، وتتميّز عن غيرها بما يلي:

أولاً: إنها عبارة عن التلازم بين اللفظ الخاص والمعنى المخصوص المحقّق للدلالة بقضية شرطيّة يتعهّد بها العقلاء في كلّ مجتمع على طول التاريخ، وطرفاها: النطق باللفظ، وقصد إفهام المعنى؛ وعلى أساسه ينفي المحقق الخوئي وجودَ أيّ داعٍ آخر للنطق باللفظ سوى قصد الإفهام.

ثانياً: ان الدلالة الناتجة عن الوضع على أساس هذه النظرية دلالةٌ تصديقية عقلائية، لا تصوّرية محضة؛ لأن اللفظ يكشف ـ بعد التعهّد المذكور ـ كشفاً تصديقياً عن قصد المتكلم لإفهام المعنى، وأمّا الدلالة التصوّرية بين اللفظ والمعنى فهي لا تستند إلى الوضع بالمعنى المذكور، بل هي نتيجٌ للأنس الذهني بينهما.

ثالثاً: إنّ كلّ مستعملٍ يصبح واضعاً حقيقةً في ضوء هذه النظرية؛ لأنّ الوضع عبارة عن التعهّد، والفرض تعهّد كلّ مستعملٍ بأن لا ينطق باللفظ إلاّ عند إرادة إفهام معنى خاص قائم بنفسه.

نظرية الإبراز ومسألة الإنشاء

حيث كان التفسير المشهور للإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ، رآه السيد الخوئي ناقصاً غير تام؛ فأبدى نظريةً جديدة تناسب مكانة المسألة وأهميّتها لدى العقلاء وآثارها الاجتماعية أيضاً، وهي نظرية الإبراز، أي أن الإنشاء عبارة عن إبراز الأمر الاعتباري النفساني بمُبرزٍ ما في الخارج من قولٍ أو فعل، وتتميّز هذه النظرية عن نظرية الإيجاد بأن الأولى مدلولٌ تصديقيّ للفظ، والثانية مدلول تصوّري، وتترتّب على هذه النظرية آثار مهمة:

الأثر الأول: إن مدلول الأوامر والنواهي على أساس هذه النظرية عبارة عن إبراز الأمر الاعتباري النفساني، دون الوجوب والحرمة، فإن الحاكم بهما في مواردهما هو العقل بملاك صدورهما من المولى بعنوان المولويّة، إذا لم تكن قرينة على الترخيص.

الأثر الثاني: إمكان الالتزام بالشرط المتأخّر على أساس أنّ الحكم الشرعي في ضوء هذه النظرية أمر اعتباري لا واقع موضوعيّ له، ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار، وعليه فلا مانع من اعتباره مشروطاً بشرطٍ متأخر، كما يعتبره مشروطاً بشرطٍ مقارن.

الأثر الثالث: عدم المضادّة بين الأحكام الشرعية بأنفسها وذواتها؛ لأنها أمور اعتباريّة لا واقع لها حتى تتصوّر المضادّة بينها، فتنحصر المضادّة بين ملاكاتها في مرحلة الملاك، وبينها في مرحلة الامتثال، أمّا في مرحلة الجعل فلا.

الأثر الرابع: تقتضي هذه النظرية عدم اعتبار كون المبرِز لفظاً أو صيغةً خاصة، فإن كان ذلك فهو بحاجة إلى دليل، وإلاّ فمقتضى القاعدة كفاية كون المبرِز إشارةً أو فعلاً، بينما مقتضى نظرية المشهور اعتبار اللفظ، وأمّا كفاية غير اللفظ فهي بحاجة إلى دليل، فإن قام دليل على الكفاية كالسيرة أو نحوها فهو، وإلاّ فيكفي.

نظرية التحصيص ومسألة وضع الحروف

بعد انتقاده سائر النظريات في هذه المسألة، الواحدة تلو الأخرى، انتقاداً موضوعياً، أبدع الإمام الخوئي نظريّة التحصيص فيها، وتعني أنّ الحروف موضوعةٌ للدلالة على إرادة تفهيم تحصيص المفاهيم الإسمية وتضييقها، وتتميّز هذه النظرية عن تلك النظريات في أنّ مدلول الحروف في ضوئها يكون تصديقياً لا تصوّرياً فحسب، وأمّا في ضوء سائر النظريات فهو تصوّري لا تصديقي، ولذلك تعتبر هذه النظرية من حلقات نظرية التعهّد، وترتبط بها ارتباطاً وثيقاً.

نظرية عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية مطلقاً

رفض الإمام الخوئي جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية حتى لو كانت جزئيةً، على خلاف نظريّة المشهور، التي ترى جريانه فيها مطلقاً، وقد قام بإبداع هذه النظرية عبر التفاتةٍ كريمة منه إلى مسألةٍ دقيقة تبرّرها، وهي أن الاستصحاب في الشبهات الحكمية معارضٌ باستصحاب عدم سعة الجعل، فيسقط من جهة المعارضة.

من هنا، غيّرت هذه النظرية مجرى تاريخ الاستصحاب في الشبهات الحكمية، وتركت لذلك تأثيرات كبيرة على أبواب الفقه كافّة.

نظرية التعارض ومسألة الواجبات الضمنيّة

عمد مشهور الأصوليين هنا إلى تطبيق قواعد باب المزاحمة، وذلك فيما إذا لم يتمكّن المكلّف من الجمع بين اثنين منها، لكن السيد الخوئي انتقد هذه النظرية مبدياً نظريةً أخرى، وهي نظرية التعارض فيما إذا لم يتمكّن المكلّف من الجمع بين الواجبين الضمنيّين، على أساس أن الأمر الأوّل قد سقط جزماً بسقوط متعلّقه، وعليه فإذا قام دليلٌ على جعل أمر آخر كما في باب الصلاة، فإن عيّن متعلقه فهو، وإلاّ فمردّد بين الفاقد لهذا الجزء أو ذاك، وعليه تقع المعارضة بين إطلاق دليلي الجزءين.

زيادة في أقسام الاستصحاب

أبدع الإمام الخوئي قسماً رابعاً من أقسام استصحاب الكلّي في مقابل المشهور؛ حيث حصروا أقسامه في ثلاثة، ولهذا الأمر آثار عملية في أبواب الفقه.

نقد نظرية الشهرة الفتوائية على مستوى الجبر والوهن

المعروف بين الأصوليين أنّ الشهرة الفتوائية إذا قامت على خلاف رواية معتبرة، وكانت الرواية في متناول أيديهم، فإنّها تكشف عن عدم حجيّتها وخروجها عن دليل الاعتبار، وإن كانت مستندةً إلى رواية ضعيفة فيها، فإنّها تكشف عن حجيّتها وصدورها عن المعصوم %، وقد جرى عملهم على أساس هذه النظرية في ممارساتهم الاستنباطية والتطبيقيّة في المسائل الفقهية على طول التاريخ.

أمّا الأستاذ الخوئي، فطرح ـ انطلاقاً من نبوغه الفكري ـ نظريةً جديدة أكثر شموليّةً ودقّةً وعمقاً، وذلك في ضوء نقطتين: إحداهما بمثابة منع الصغرى، والأخرى بمثابة منع الكبرى.

أمّا الأولى، فلأنّ الشهرة الفتوائية في المسألة التي تصلح أن تكون جابرةً فيها تارةً لنقاط ضعف الرواية، وكاسرةً تارة أخرى لنقاط قوّتها، هي الشهرة الفتوائية عند الفقهاء المتقدّمين المقاربين ـ عصراً ـ لزمان أصحاب الأئمة ( وحملة الأحاديث، لا الفقهاء المتأخّرين؛ حيث لا قيمة للشهرة بينهم، إلاّ أنّه لا طريق لنا قطّ إلى إحراز إعراض
المتقدّمين عن رواية في مسألةٍ ما، على الرغم من صحّتها، واستنادهم إلى رواية فيها على الرغم من ضعفها؛ لأن الطريق إلى ذلك منحصرٌ بالرجوع إلى كتبهم، بأن يكون لكلّ واحدٍ منهم كتاب استدلالي في الفقه ويكون واصلاً إلينا يداً بيد، والمفروض عدم
وجود كتاب منهم كذلك عندنا، أو أنه كان ولكنه لم يصل إلينا؛ فإذاً لا أصل لهذه النظرية.

وأمّا الثانية، فلأنّ الشهرة الفتوائية ليست حجّةً بنفسها، وعليه فأقصى ما تفيده التأثير بالكشف ـ ظنّاً ـ عن صدور الرواية إذا كانت مستندةً إليها، وعن عدم صدورها إذا كانت مخالفةً لها، لكنه من الواضح عدم إناطة حجيّة الأخبار بالظنّ بالصدور، بل هي منوطة بالوثوق النوعي، ولا ينافيه الظنّ الشخصي بعدم الصدور، ولذلك تختلف هذه النظرية عن نظرية المشهور اختلافاً جوهرياً، وتترتب عليها آثار مهمة في عملية التطبيق والاستنباط في أبواب الفقه المختلفة.

نظرية انفصال الإطلاق عن الدلالة اللفظية

ذهب الإمام الخوئي إلى نظرية خاصّة في مسألة الإطلاق، فاعتقد أنّ الإطلاق غير داخل في مدلول اللفظ؛ بل الحاكم به إنما هو العقل ببركة مقدّمات الحكمة، فيكون في نهاية المطاف مدلولاً لتلك المقدّمات، فلا يكون لفظاً وكلاماً حتى يكون كتاباً أو سنّة، بل هو دلالة ناشئة عن السكوت في مقام البيان.

وتترتّب على هذه النظرية نتائج:

النتيجة الأولى: إن الرواية المخالفة لإطلاق الكتاب لا تكون مشمولةً لما دلّ من النصوص على أنّ المخالف للكتاب زخرف أو باطل، حيث لا ينطبق عليها عنوان المخالف له، على أساس أن الإطلاق ليس مدلولاً للفظ لكي يكون المخالف له مخالفاً للكتاب، بل هو مخالفٌ لحكم العقل.

النتيجة الثانية: إن الروايتين المتعارضتين إذا كانت إحداهما موافقةً لإطلاق الكتاب والأخرى مخالفة له، لا تكونان مشمولتين لما دلّ على ترجيح الموافق للكتاب على المخالف له، على أساس أن إطلاق الكتاب ليس من الكتاب، فلا يكون الموافق له موافقاً للكتاب لكي يكون مشمولاً له.

النتيجة الثالثة: إن التعارض بين الروايتين إذا كان بالإطلاق فلا مجال للرجوع إلى مرجّحات باب المعارضة، بل لا موضوع لذلك؛ فإنّ ما دلّ من النصوص على الترجيح بها إنما هو في مورد تكون المعارضة فيه بين مدلوليهما لفظاً، وأمّا إذا لم تكن معارضةٌ بينهما، بل كانت بين إطلاقيهما، فلا تصدق المعارضة بين الروايتين، لكي تكون مشمولةً لتلك النصوص، ولهذا يسقط كلا الإطلاقين معاً من جهة المعارضة في المسألة، فالمرجع هو العامّ الفوقاني إن كان، وإلاّ فالأصل العملي.

مسألة الاستصحاب

بنى الأصوليون على أن الاستصحاب إذا كانت حجيّته على أساس الروايات، فيكون أصلاً عمليّاً، أمّا السيد الأستاذ الخوئي فأكّد ـ في وجهة نظر خاصّة ـ على أنّ الاستصحاب أمارة على الرغم من أن حجيته كانت على أساس الروايات، وليس أصلاً عمليّاً، غاية الأمر أن أماريّته تقع في طول سائر الأمارات لا في عرضها، ومن هنا تتقدم عليه الأمارات كافّة.

وقد ذهب الإمام الخوئي إلى هذا الرأي على أساس أنّ مفاد أدلّة حجية الاستصحاب هو التعبّد ببقاء اليقين السابق في ظرف الشك، لا التعبّد بالعمل بالشك في ظرفه، وفرق بين التعبيرين؛ حيث الأوّل تعبير عرفي عن موقع الاستصحاب كأمارة، فيما الثاني تعبير عرفي عن موقعه كأصل عملي، وأمّا كونه من أضعف الأمارات فهو بملاك أنّ التعبّد ببقاء اليقين السابق في ظرف الشك تعبّد عملي لا حكائي.

نظرية مثبتات الأمارات والأصول

المعروف بين الأصوليين أن مثبتات الأمارات حجّة دون مثبتات الأصول، بلا فرق في ذلك بين أنواع الأمارات.

أمّا الإمام الخوئي، فقدّم تحليلاً رأى فيه أنّ الموضوع لا يقع اعتباطاً بل يقوم على أساس، وهو أنّ الأمارات حيث تنظر إلى الواقع وتحكي عنه، نرى أنّها كما تحكي عن مدلولاتها المطابقية تحكي أيضاً عن مدلولاتها الالتزامية بالواسطة على أساس الملازمة بينهما ثبوتاً واثباتاً، على خلاف الحال في الأصول العملية، حيث لا تنظر إلى الواقع، ولهذا لا تثبت إلاّ مدلولاتها المطابقية في مقام الظاهر دون لوازمها.

وعلى أساس ذلك يظهر أنّ حجية مثبتات الأمارات ليست من لوازم أماريتّها، بل من لوازم حكايتها عن الواقع، وعليه فلابدّ من التفريق بين أنواع الأمارات أيضاً، فما يكون لسانه لسان الحكاية عن الواقع والنظر إليه، تكون مثبتاته حجّةً، أمّا ما لا يكون كذلك فلا تغدو مداليله الالتزامية حجة، كالاستصحاب، وقاعدتي الفراغ والتجاوز، وأصالة الصحّة ونحو ذلك، فتكون حال هذه الامارات حال الأصول العمليّة، بلا فرق بينهما من هذه الناحية، وعليه لا تتميّز الأمارات عن الأصول بذلك.

نظريّة المعيار في تمييز المسألة الأصولية

رأى الإمام الخوئي أنّ انتماء مسألةٍ ما إلى أصول الفقه رهينٌ بوجود الخلاف وإبداء النظر والرأي فيها؛ فإذا كانت المسألة مسلّمةً واضحة لدى الكلّ درجةً لم يعد فيه مجال لإبداء نظر أو رأي فيها، لم تكن أصولية؛ لأنّ علم الأصول وضع لتحديد النظريات العامة، من هنا كان الأصول نظرياً والفقه تطبيقياً، فتكون نسبته إليه كنسبة المنطق العام إلى سائر العلوم.

وعلى أساس ذلك، ذكر الأستاذ الخوئي أن مبحث حجية الظواهر ليس من المسائل الأصولية، وكذلك أصالة الطهارة في الشبهات الحكمية؛ ذلك أنّ المسألتين من المسائل المسلّمة الواضحة عند الجميع، بدرجةٍ لا مجال معها لإبداء النظر وإعمال الرأي، ولهذا لم ينطبق عليهما ضابط المسألة الأصوليّة ومعيارها.

نظريّة السلب الجزئي في مفهوم الوصف

بنى الإمام الخوئي على دلالة القيد في القضية على المفهوم، لكن لا بمعنى دلالته على انتفاء سنخ الحكم بانتفائه، بل بمعنى أنه يدلّ على أنّ موضوع الحكم في القضية ليس هو الطبيعي على نحو الإطلاق، بل حصّة خاصّة منه، على أساس أنّه لو لم يدلّ على ذلك لكان لغواً محضاً، فيكون وسطاً بين القول بمفهوم القيد والقول بعدمه، وتترتب على ذلك آثار في المسائل الفقهية.

*     *     *

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً