أحدث المقالات

أين أصبحت اللغة العربية؟!

ـ الحلقة الثانية ـ

 

ج ـ وفي هذا المسار أيضاً ظهر ما يمكن وصفه أكثر المفاهيم التباساً، وهو مفهوم (الدقّة) في الفقه نفسه وعلاقتها باللغة والفهم العرفي؛ وأبدأ الحديث هنا من نصّ رائع للإمام الخميني يقول فيه متحدثاً عن العلوم التي تهمّ عملية الاستنباط: «ومنها: الأنس بالمحاورات العرفية وفهم الموضوعات العرفية، مما جرت محاورة الكتاب والسنّة على طبقها، والاحتراز عن الخلط بين دقائق العلوم والعقليات الرقيقة وبين المعاني العرفية العادية؛ فإنه كثيراً ما يقع الخطأ لأجله، كما يتفق كثيراً لبعض المشتغلين بدقائق العلوم ـ حتى أصول الفقه بالمعنى الرائج في أعصارنا ـ الخلط بين المعاني العرفية السوقية الرائجة بين أهل المحاورة المبنيّ عليها الكتاب والسنّة، والدقائق الخارجة عن فهم العرف. بل قد يوقع الخلط لبعضهم بين الاصطلاحات الرائجة في العلوم الفلسفية أو الأدق منها، وبين المعاني العرفية، في خلاف الواقع لأجله» (أنظر: الاجتهاد والتقليد: 9 ـ 10).

هذا النصّ مهم جداً في سياق تطبيقه والتعاطي الإيجابي مع تفاعله الميداني، وإلا فهو من الناحية النظرية واضح في المدارس الكبرى لعلم أصول الفقه الإسلامي؛ لأن علماء الأصول والاجتهاد يعترفون بأن المهم هو الفهم والظهور العرفي للكلام الموجود في الكتاب والسنّة، فهم يقرّون بمرجعية العرف اللغوي والاجتماعي العربي بوصفه حَكَماً في هذا المضمار، في الجملة، لكن المشكلة ليست في النظرية، ولهذا ألمح السيد الخميني في نصّه المتقدم إلى مشكلات تطبيقية لهذا الوضع، وهذا بالضبط ما نبحثه هنا.

وإذا تأملنا في الممارسات الاجتهادية الإسلامية، وجدنا الكثير من الأمثلة على وجود فهم غير عرفي وقع فيه بعض العلماء على مستوى التطبيق من حيث لا يقصدون، والتعرّض لأمثلة يخرجنا عن طاقة هذه الكلمات الموجزة؛ لأن هناك العديد من الأمثلة على مستوى فهم النص وعلى مستوى ملاحظة تطبيقات النص؛ وطبعاً هذا أمرٌ يختلف تقييمه ـ على مستوى النماذج ـ من شخص لآخر، فمثلاً الرواية تقول بأن الرجل إذا لم يقرب زوجته أكثر من أربعة أشهر وتركها كان آثماً (وسائل الشيعة 20: 140)؛ وهنا بدل أن نفهم المقاربة ـ عدم الترك الجنسي ـ بمعناها الطبيعي بين الناس، فسّرت بمجرد إدخال الحشفة ولو للحظة؛ والرواية تقول بأن صلاة الوتيرة تكون بعد صلاة العشاء الآخرة (على سبيل المثال: وسائل الشيعة 4: 47، 48، 51 و..)، ونحن فسّرناها بالبعدية التي تشمل ما قبل منتصف الليل، أو طلوع الفجر في النهار التالي ولو بلحظات، مع أنه لو قال لك شخص: سآتيك بعد العشاء الآخرة فصلى العشاء الآخرة في أوّل وقتها، ثم أتاك قبيل الفجر محتجاً بما قال، لسخرت منه، وهكذا لم يفهم بعض الفقهاء وجوب الخمس إذا حوّل إلى حسابك في البنك مبلغ مالي ولو كان مليون دولار؛ لأنك لم تقبض بيدك (صراط النجاة 2: 163، 171)، إلى غيرها من عشرات الأمثلة التي قد يكون سببها أحياناً القراءة الحرفية للنص، وأحياناً بطريقة تحليلٍ فلسفي، وأخرى الغياب عن المدلول المناخي والاجتماعي للنص لصالح الاستغراق في المدلول اللغوي الصرف، وثالثة عدم مواكبة التحوّلات المصداقية والميدانية للمفهوم عينه في مناخات جديدة تختلف عن المناخ التاريخي، بحيث يتورّط الباحث في الفقه بما يمكن تسميته: الاستنساخ الحرفي للتاريخ، ورابعة بالخلط بين المصطلحات واللغة العلمية التي ظهرت فيما بعد وبين لغة الكتاب والسنّة، وهو ما له مصاديق كثيرة مثل كلمات: العلم، اليقين، الظن، الشك، القلب، العقل، الروح، النفس، الجهاد، الإمام، الحكمة، المؤمن، العارف، الفقه، الفقيه و…

إن ممارسة الحرفية في فهم النصوص في مجال الروايات ينافي ـ عندما يخرج عن الحدّ العرفي ـ ظاهرة النقل بالمعنى في الروايات، وهي ظاهرة درسناها مفصّلاً في موضعه، وأثبتنا أنه لا دليل على النقل الحرفي للأحاديث إلا بشاهد وقرينة، فإذا كانت الرواية من صنع الراوي، فيما مضمونها من إفادات النبي أو الإمام، فأيّ معنى للغرق الزائد عن الحدّ الطبيعي في تفاصيل التعابير والكلمات، فيما المفترض أن يخضع هذا الأمر لمدى فقاهة الراوي وعلمه، بحيث يلعب علمه دوراً في دقة تعبيره عن القيود والتفاصيل؟! وليست أمانة الراوي لوحدها هنا كافية للالتزام بهذا التدقيق؛ لأننا لا نشكّك في أمانته، وإنّما في قدرته الذهنية واللفظية ـ ما دام النقل بالمعنى ـ على الوفاء بتمام حيثيات الجواب الذي صدر من المعصوم، وتفصيل الكلام يرجع فيه لمحلّه.

وربما في هذا السياق أيضاً، الظاهرة الحرفية في مجال الأصول العملية أيضاً، والتي تتجلّى في الأخذ بالصيغة المطلقة لنظرية الأصل المثبت، فهذه النظرية صحيحة في الجملة؛ لكن الإفراط في تطبيقها لا ينسجم إلا مع طريقة تفكير فلسفية وليست عرفية،فلا أظن العرف البعيد عن الذهنية الفلسفية العقلية الهندسية الرائجة في بعض الأوساط يلتفت أو يفهم أن استصحاب عدم وجود الحاجب لا يثبت وصول الماء إلى البشرة في الوضوء والغسل؛ لأنّه أصل مثبت (لاحظ للاطلاع: مصباح الأصول 3: 151، وكتاب الطهارة 4: 86 ـ 87، والفياض، تعاليق مبسوطة 1: 297 و..) ، كما لا معنى للغَرَق في التمييز بين كرية الماء على نحو مفاد كان التامة وكان الماء كراً على نحو مفاد كان الناقصة، حتى أمنع عن الاستصحاب في هذا المورد لإثبات الآخر؛ لأنه من الأصل المثبت، كما ذكروا في الأصول (أنظر كنموذج له إشارة: مستمسك العروة الوثقى 1: 423؛ وحقائق الأصول 2: 426 و..).

إن هذه الطريقة في التعامل مع النصوص أو مع تطبيقاتها هي التي ساهمت ـ رغم أن الفقهاء أثبتوا للإنصاف جدارة عالية في الفهم العرفي وتطبيقاته ـ في خلق نماذج لفقه تكثر فيه الامتيازات بين الشيء ولوازمه الطبيعية، مما صعّب من فرص خلق فقه نظرية أمام مثل السيد الصدر والذين أتوا بعده.

وإذا أراد الباحث في الفقه أن يكون عرفياً أكثر في تعاطيه مع النصوص أو تطبيقاتها المصداقية السيّالة، فيقترح عليه أمران:

أحدهما: إعادة عيش اللغة في تراكيبها وحياتها القديمة، ليس لغة الكتب الفكرية للمسلمين، وإنّما اللغات العادية التي يحصل عليها الإنسان من تتبع كتب التاريخ والشعر والنثر والقصص والحكايا، وليس فقط كتب الكلام والفقه والفلسفة والأصول القديمة .. لأن هذه الكتب هي كتب النخبة؛ ونحن لا نريد أن يأنس ذهننا ـ فقط ـ بكتب النخبة، بل نريد ما يوصلنا إلى التعاطي العفوي للغة في الشارع وفي الحياة اليومية، حيث خاطبت أكثر النصوص عامّة الناس أيضاً، فليس من المعيب أن يهتم مرجع معاصر بكتاب «الأغاني»، كما سمعنا من بعضهم التعييب عليه في ذلك، بل هذه مفخرة لهذا المرجع أنه ـ مع عدم كونه عربياً ـ لم يقتصر على العيش مع كتب النحو والصرف و.. التي تعلّم الإنسان الكثير عن اللغة العربية، بل واصل مسيره لكي يطلع على روح اللغة وبساطتها العفوية اليومية، فهذه نقطة امتياز (له) لا (عليه).

من هنا، ندعو بكل صدق ومحبة إدارة الحوزة العلمية والجامعة الدينية ـ أينما كانت ـ أن تطلق مشروع إعادة إحياء اللغة العربية الحيّة النابضة، عبر تغييرات جذرية في نظام التعليم اللغوي؛ لأن أنظمة تعليم اللغة في الكثير من المعاهد الدينية أنظمة نظرية يستخدم فيها الطالب قدرة التعقل والحفظ، ولا يدرس اللغة العربية كما يدرس أو ـ بتعبير أدق ـ يتعلّم اللغة الأم؛ لهذا نجد علماء فطاحل في اللغة نفسها وفي جداول الصرف والتصريف، لكنهم غير قادرين على عيش اللغة ولا على النطق بها، وهذا ذنب نظام التعليم أكثر من أن يكون مشكلةً عند هذا الفرد أو ذاك.

وفي هذا السياق المنشّط للغة العربية بجمالياتها ورونقها، تكمن الحاجة لتغيير بعض الكتب الدراسية في الحوزات مثل كتاب «كفاية الأصول» للمحقق الخراساني، ونحن هنا لا ننظر لهذا الكتاب وأمثاله من المنظار الذي اعتاد الدارسون لقضية المناهج في الحوزات أن ينظروا إليه منه؛ بل من منظار التركيبة اللغوية، فالطالب يعيش عدّة سنوات مع هذا الكتاب وغيره، فيتأثر بتركيبه للجمل والفقرات، بل واستخدامه للكلمات بطريقة خاصّة، فيحصل خلل ما في ذوقه اللغويّ العربي. وقد يجادلني الكثيرون فيما أقوله هنا، لكنني أقترح حَكَماً محايداً خبيراً باللغة العربية شاعراً وأديباً أو صاحب نثر عربي أصيل، لتعرض عليه هذه الكتب ويقول لنا: هل تساعد على تجويد الذوق للطالب أم على إحداث خلل في هذا الذوق؟ وأذكر هنا قصّة تنقل عن بعض فقهاء (آل ياسين) في النجف من أنه ترك بعد أيام من شروعه في درس الكفاية، هذا الدرس؛ وعندما انتقده الطلاب على عدم حضوره الدرس وعابوا عليه، أجابهم ـ فيما ينقل ـ بأنه رجل شاعر ذواق للغة والأدب ولا يريد أن يخرّب أو يتلف ذوقه الأدبي بمثل هذه التراكيب والنصوص، والحق معه ـ بنسبة كبيرة ـ فالمهم عندي أن أقرأ القرآن والسنّة، وغيرهما مقدّمة لهما، فلا يصحّ أن تعطى المقدّمة أولوية في بنيتها اللفظية على ذي المقدّمة. ولا أدعو هنا لجعل الكتب العلمية كتباً أدبية أو شعرية كما قد يتصوّر بعضنا، بل لجعل النثر عربياً بالمعنى الحقيقي للكلمة؛ ولسنا نستغرب أن يكون بعض غير العرب أكثر أنساً ـ كما سمعنا منهم ـ بلغة «الكفاية» من لغة «حلقات» السيد الصدر؛ لأن هذا شيء طبيعي يؤكّد فكرتنا التي أشرنا إليها أعلاه.

نقول هذا كلّه، والله الشاهد على أننا لا نريد التنقيص من شأن أحد، لكننا نرى، ويوافقنا كل إخوتنا العاملين في حقل العلوم الدينية، أن المعرفة الدينية نفسها وسلامة سبل الوصول إليها أهم بكثير من هذا العالم أو ذاك، أو هذا الكتاب أو ذاك؛ أو هذا المنهج أو ذاك، فلندع الحساسية جانباً، ولنتشاور ونتدارس، وهناك في المؤسسة الدينية العديد من الناشطين في مجال اللغة العربية والحمد لله، فلماذا لا يتشاور هؤلاء الأساتذة الكرام لوضع حلّ لهذه القضية؟ ولماذا لا يكون عندنا منهج لغة سليم أو أكثر سلامة من المنهج النظري الذي نتبعه والذي تعود بعض كتبه إلى قرابة ثمانمائة عام من الزمن؟! فليجلس هؤلاء المختصّون وليقدموا اقتراحاتهم بهذا الصدد، ونحن على يقين بأن العديد من القيمين على شؤون الحوزات والمعاهد الدينية سيتقبلون هذا الأمر، بحكم وعيهم وغيرتهم على هذا الدين، والحمد لله.

ليس المهم في العلوم العربية مجرّد وعيها وفهمها، بل الغاية منها ـ كما يقول الإمام محمد عبده (1905م) رائد حركة الإصلاح في مناهج التربية والتعليم ـ : «أن يبلغ المرء بالتعلّم مبلغاً كان عليه العربيّ بالسليقة» (أنظر: الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده 3: 156).

ثانيهما: أن يتواصل الباحث في الفقه مع حياة الناس العاديين: في السوق، والمدرسة، والعمل، والإدارة، والشارع و… ليرى كيف يتفاهمون، لأن الجوّ العلمي الخاصّ له طريقة خاصّة في التفاهم أحياناً؛ ولهذا يغلب عليه فهمٌ خاصّ للكلام، نتيجة الخلط بين الأمور العادية والقضايا العلمية كما أشار الإمام الخميني،أو الخلط بين الأمور الحقيقية والأمور الاعتبارية كما يراه العلامة الطباطبائي، فيفهم طريقة الإطلاق والعموم في الجمل بطريقة أقرب إلى نظام الموجبة الكلية المنطقية، فيما العرف كثيراً ما يطلق أو يعمم ويريد ما نسميه: الموجبة الأكثرية، وقد بحثنا هذا الأمر في محلّه، وسبب عدم تقبّل هذه الفكرة قد يكون هذا العيش الطويل في نظام لغة النخبة التي هي عموماً لغة دقيقة حاسمة ومحدّدة الأطراف، على خلاف نظام لغة العامّة من الناس ـ إذا جاز التعبير ـ فهي لغة محدّبة تقوم على التسامح والتساهل في التعبير، بصرف النظر عن المضمون، فلا ملازمة بين عرفية وعوامية التعبير وبين سطحية المضمون، فالأنبياء والأوصياء استخدموا اللغة العرفية، دون أن يكون المضمون سطحياً إطلاقاً.

إنّ العيش في لغة الشارع والسوق مهم جداً،إلى جانب لغة النخبة، ليعرف الفقيه طرائق البيان العرفية،وطرائق فهم التطبيق وليس أن يسمع بوجود طرائق بل يعيشها بنفسه، ولهذا ينقل عن بعض المراجع الكبار المتوفى في القرن العشرين، أنه كان في بعض المواضع يطلب بعض أهل السوق ليسألهم كيف يفهمون هذا التعبير أو ذاك؟ وماذا يفهم عندهم من إطلاق المعاملة هنا أو هناك؟ بدل أن يحلّل لوحده على طريقة الأصل أو القدر المتيقن أو ما شابه ذلك، فهذه الطريقة التي تنقل عن هذا المرجع الكبير طريقة مثلى بحقًّ في فهم النصوص وفهم تطبيقاتها الميدانية أيضاً .

وأختم كلامي هنا ـ والحديث يطول جداً ـ بكلام رائع للشيخ محمد رضا النجفي الإصفهاني (1362هـ) ـ أستاذ الإمام الخميني ـ حين يقول في مباحثه الأصولية ما نصّه: «بلغني أن بعض فضلاء العجم اطّلع على أجزاء من هذا الكتاب، فقرّظه أبلغ تقريظ، وأثنى عليه أحسن الثناء، ولكنه انتقد عليه بعبارة فارسية محصلها: إن عبارته عريقة في العربية، لا تشبه متعارف الكتب الأصولية.

لك العتبى أيها الفاضل! فلك عليّ يدٌ لا أجحدها، ونعمة أشكرها، وذلك مني طبيعةٌ لا تطبّع، وجريٌ على ما تعوّدته لا تكلّف، وإني لم أتعوّد منذ نعومة الأظفار ومقتبل الشباب إلا هذا النمط من الكتابة. وصعبٌ على الإنسان ما لم يعود. على أن هذا عند ذوي الألباب لا يحطّ من قدر الكتاب، بل يزينه ولا يشينه، ويغلي قدره ولا يرخصه. وإذا محاسني التي أزهو بها صارت مثالب لي؛ فماذا أصنع؟! وشتان بين هذا الفاضل وبين أحد علماء العراق، وقد بلغني قوله فيه: هو أوّل كتاب في فنّ الأصول ملؤه دقائق عجمية، بعبارات عربية». (أنظر: وقاية الأذهان: 603).

وفي هذا النص منه (رحمه الله) الكثير من الدلالات المعبّرة!!

وبعد هذا كلّه؛ ألا تكون اللغة بالمعنى الذي ذكرناه عنصراً أساسياً في معايير الاجتهاد والمفاضلة والأعلمية؟!

 

ـ يتبع ـ

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً