أحدث المقالات

د. الشيخ مهدي الكاظمي(*)

ترجمة: سرمد علي

المقدّمة

ليس هناك من شَكٍّ في أن حياة الإمام علي بن موسى الرضا× قد شهدت مختلف الأبعاد والمنعطفات، ومن بين أهم تلك الأبعاد هو البُعْد الثقافي والعلمي المتمثِّل في الدفاع عن حياض العقائد الإسلامية وصيانتها في مواجهة الأعاصير العاتية المقبلة من قِبَل مختلف المدارس والمذاهب التي كانت تستهدف أصول وفروع الإسلام في ظروف خاصة من عصر الإمام الرضا×. فبعد أن استولى بنو العباس على السلطة، رافعين شعار «الرضا من آل محمد»([1])، وهو الشعار الثابت والحازم لمختلف الثورات الإسلامية والشعبية ضدّ بني أمية، سارعوا إلى كشف اللثام عن النوايا الحقيقية التي كانوا يضمرونها، وما إن تمكّنوا من ترسيخ دعائم حكمهم حتى مارسوا أضعاف ما سبق لبني أمية أن مارسوه من القمع والاستبداد ضدّ خصومهم، الأمر الذي أثار حفيظة الجماهير مجدّداً، وسرعان ما أخذت مختلف المناطق والمدن الإسلامية تشهد ثورات شعبية متعدّدة (ولا سيَّما من قِبَل العلويين). ومن هنا عندما وصل المأمون إلى السلطة، حيث كان يتمتع برؤيةٍ سياسية قوية، فقد عمد إلى نقل عاصمة الدولة العباسية من بغداد إلى قلب خراسان، التي كانت تمثل مركز تلك الثورات؛ ليتمكن بذلك من التغلُّب على هذه الثورات من خلال الترهيب والترغيب، وأن يكون شاهداً على الأوضاع عن كثب. وحيث كان يرى جميع الأنظار شاخصة في تلك المرحلة إلى الإمام عليّ بن موسى الرضا× فقد حمله على المجيء إلى خراسان تحت ذريعة استلام منصب ولاية العهد، فيضمن بذلك رصد نشاطه وتحرّكاته من جهةٍ، ويضفي المشروعية الظاهرية على حكمه من جهةٍ أخرى.

1ـ الشرائط الثقافية الخاصة التي كانت تسود المجتمع الإسلامي في العصر العباسي

لقد أدّت طبيعة الإسلام المحبّة لطلب العلم ـ بالتوازي مع التقدّم والنجاح السياسي والديني في مختلف بلدان العالم ـ إلى استيراد علوم وأفكار تلك البلدان وإدخالها إلى المجتمع الإسلامي، حيث تمّت ترجمة الكتب العلمية، ابتداء من اليونانية وحتّى القبطية، ومن الهندية وصولاً إلى الفارسية والرومية، إلى اللغة العربية التي كانت هي اللغة الإسلامية الرسمية في حينها. وقد بدأت حركة ترجمة الآثار العلمية للآخرين منذ أواخر الدولة الأموية، واستمرّت في المرحلة العباسية ـ ولا سيَّما في عهد هاون الرشيد والمأمون، حيث بلغت ذروتها ـ، كما هو الحال في العصر الراهن، حيث بلغ اتساع رقعة البلدان الإسلامية غايته القصوى على طول تاريخ الرقيّ الإسلامي([2]). وممّا قاله ابن النديم في هذا الشأن: «إن المأمون كان بينه وبين ملك الروم مراسلات، وقد استظهر عليه المأمون؛ فكتب إلى ملك الروم يسأله الإذن في إنفاذ ما هو يختار من العلوم القديمة المخزونة المدّخرة ببلد الروم، فأجاب إلى ذلك بعد امتناع، فأخرج المأمون لذلك جماعةً، منهم: الحجاج بن مطر، وابن البطريق، وسلما صاحب بيت الحكمة وغيرهم، فأخذوا ممّا وجدوا ما اختاروا، فلما حملوه إليه أمرهم بنقله، فنقل»([3]). وهناك مَنْ فسّر سبب إقبال المأمون على ترجمة الآثار الأجنبية بأنه كان بداعي الحصول على المكانة السياسية، من طريق استمالة آراء المفكِّرين في المجتمع الإسلامي إلى صفّه، لما في ذلك من الأثر البالغ على تعزيز وتثبيت أركان حكمه([4]).

بَيْدَ أن الذي كان يدعو إلى القلق هو أن هذه المجموعة من المترجمين كانت تحتوي على بعض الأشخاص المتعصّبين من أتباع المذاهب الأخرى، من الزرادشتيين والصابئة والنصارى، حيث قاموا بترجمة الآثار العلمية الأجنبية من اللغات اليونانية والفارسية والسريانية والهندية وغيرها ونقلها إلى اللغة العربية، وبذلك تسلّلت المعتقدات الخرافية والمنحرفة وغير الإسلامية في تضاعيف هذه الكتب، التي بدت العلمية على ظاهرها، فوجدت طريقها إلى الأوساط الإسلامية، وانتشرت بين مجموعة من الشباب الغرّ والساذج انتشار النار في الهشيم([5]). وفي ظلّ هذه الظروف الفكرية الخاصة، كان الإمام عليّ بن موسى الرضا× قد أشخص إلى خراسان، ليتولى منصب ولاية العهد، تحت ضغط وإصرار من قبل المأمون العباسي. وبعد أن حمل المأمون الإمام الرضا× على المجيء إلى خراسان، وإجباره على قبول ولاية العهد، بدأ يعقد جلسات بحث ومناظرة واسعة، وكان يدعو كبار العلماء في ذلك العصر من المسلمين وغير المسلمين إلى الحضور في تلك الجلسات. وقد كان العنوان الظاهري لهذه الجلسات هو إثبات المقام العلمي الرفيع للإمام الرضا×، وتفوّقه في مختلف العلوم والدين الإسلامي. بَيْدَ أن الذي كان يضمره المأمون في واقع الأمر هو تصغير شأن الإمام وإسقاطه في أنظار عامّة الناس، ولا سيَّما أولئك الذين يضمرون المودّة والمحبة لمقام أهل البيت^؛ ظناً منه أن الإمام الرضا لا ترقى حدود علمه إلى أبعد من بيان بعض المسائل البسيطة من القرآن الكريم والسنّة الشريفة، وأنه لا يملك نصيباً من فنون العلم والاستدلال. والشاهد على هذا المدّعى رواية ينقلها الشيخ الصدوق على الشكل التالي: «قدم سليمان المروزي متكلّم خراسان على المأمون، فأكرمه ووصله، ثم قال له: إن ابن عمي عليّ بن موسى الرضا’ قدم عليَّ من الحجاز، وهو يحبّ الكلام وأصحابه، فلا عليك أن تصير إلينا يوم التروية([6])؛ لمناظرته، فقال سليمان: يا أمير المؤمنين، إني أكره أن أسال مثله في مجلسك في جماعة من بني هاشم، فينتقص عند القوم إذا كلّمني، ولا يجوز الاستقصاء عليه، قال المأمون: إنما وجهت إليه لمعرفتي بقوّتك، وليس مرادي إلاّ أن تقطعه عن حجّة واحدة فقط، فقال سليمان: حسبك يا أمير المؤمنين، اجمع بيني وبينه، وخلِّني والذمّ»([7]). وكما جاء في تتمّة هذه الرواية فإن الإمام الرضا× قد سدّ جميع المنافذ في ذلك المجلس على سليمان المروزي، وأثبت عجزه وضعفه على الملأ. وحيث كان الإمام على علمٍ بغاية المأمون من تلك الدعوة قال في موضعٍ آخر: «إذا سمع [أي المأمون] احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم، وعلى أهل الزبور بزبورهم، وعلى الصابئين بعبرانيتهم، وعلى أهل الهرابذة بفارسيتهم، وعلى أهل الروم بروميتهم، وعلى أصحاب المقالات بلغاتهم، فإذا قطعت كلّ صنف، ودحضت حجته، وترك مقالته ورجع إلى قولي، علم المأمون الموضع الذي هو سبيله ليس بمستحقّ له، فعند ذلك يكون الندامة، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم»([8]).

وهناك مَنْ ذكر دوافع أخرى لعقد هذا النوع من الجلسات، ومن بينها: حصر الشخصية السامية والمرموقة للإمام الرضا× في البُعْد العلمي فقط، وإبعاده عن ممارسة السياسة، وإشغال الناس والأروقة العلمية بموضوع هذه المناظرات، والغفلة عن النشاط السياسي الذي كان يمارسه المأمون العباسي([9]).

2ـ مناظرات الإمام الرضا (عليه السلام) مع علماء الأديان

لقد كان للإمام عليّ بن موسى الرضا× الكثير من المناظرات مع علماء مختلف الأديان والمذاهب الأخرى.

وفي ما يلي نذكر عناوين تسعٍ من أهمّ تلك المناظرات، وهي:

1ـ المناظرة مع الجاثليق([10]).

2ـ المناظرة مع رأس الجالوت([11]).

3ـ المناظرة مع هربز الأكبر([12]).

4ـ المناظرة مع عمران الصابي([13]).

وقد أقيمت هذه المناظرات الأربعة في مجلسٍ واحد، وبحضور المأمون وعدد من العلماء والوجوه في خراسان.

5ـ المناظرة الأولى مع أبي قرّة المسيحي([14]).

6ـ المناظرة الثانية مع أبي قرّة المسيحي([15]).

7ـ المناظرة مع الجاثليق في البصرة([16]).

8ـ المناظرة مع مسيحيٍّ من أهل السند في البصرة([17]).

9ـ المناظرة مع الجاثليق في الكوفة([18]).

إن أهم مناظرة من هذه المناظرات هي تلك المناظرة التي عقدت بطلبٍ من المأمون في مدينة مَرْو. وفي هذا المقال نسعى إلى النظر في نصّ هذه الرواية. وبالنظر إلى أهمّية المسائل التي طرحها الإمام الرضا× في مناظرته مع العالمين (المسيحي واليهودي) سوف نعمل على دراسة هذا الجانب من المناظرة.

3ـ مناظرة الإمام الرضا (عليه السلام) مع الجاثليق ورأس الجالوت في مَرْو

عندما دخل الإمام عليّ بن موسى الرضا× على المأمون التفت المأمون إلى وزيره الخاص الفضل بن سهل، وأمره أن يوجِّه دعوةً إلى أتباع المذاهب المختلفة، من أمثال: الجاثليق، ورأس الجالوت، ورؤساء الصابئة، والهربز الأكبر (الزعيم الديني الأكبر للزرادشتيين)، ونسطاس الرومي (العالم النصراني الكبير)، إلى الحضور والاستماع إلى كلام الإمام×، واستماع الإمام إلى كلامهم. قال النوفلي: «فلما دخل الرضا× قام المأمون وقام محمد بن جعفر وجميع بني هاشم، فما زالوا وقوفاً والرضا جالسٌ مع المأمون، حتّى أمرهم بالجلوس، فجلسوا، فلم يزل المأمون مقبلاً عليه يحدِّثه ساعة، ثم التفت إلى الجاثليق، فقال: يا جاثليق، هذا ابن عمّي عليّ بن موسى بن جعفر، وهو من ولد فاطمة بنت نبيّنا، وابن عليّ بن أبي طالب (صلوات الله عليهم)، فأحبّ أن تكلِّمه أو تحاجّه وتنصفه، فقال الجاثليق: يا أمير المؤمنين، كيف أحاجّ رجلاً يحتج عليّ بكتابٍ أنا منكره، ونبيّ لا أؤمن به؟

أـ المناظرة الأولى: المناظرة مع الجاثليق

فقال له الرضا×: يا نصراني، فإنْ احتججتُ عليك بإنجيلك أتقرّ به؟ قال: الجاثليق: وهل أقدر على رفع ما نطق الإنجيل؟! نعم والله أقرّ به على رغم أنفي، فقال له الرضا×: سَلْ عمّا بدا لك، واسمع الجواب.

1ـ الفقرة الأولى

فقال الجاثليق: ما تقول في نبوّة عيسى وكتابه، هل تنكر منهما شيئاً؟ قال الرضا: أنا مقرّ بنبوة عيسى وكتابه، وما بشر به أمّته، وأقرّت به الحواريون، وكافر بنبوة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوة محمد| وبكتابه، ولم يبشّر به أمته، قال الجاثليق: أليس إنما نقطع الأحكام بشاهدَيْ عدل؟ قال×: بلى، قال: فأقِمْ شاهدين من غير أهل ملّتك على نبوّة محمد| ممَّنْ لا تنكره النصرانية، وسَلْنا مثل ذلك من غير أهل ملّتنا، قال الرضا×: الآن جئت بالنصفة يا نصراني، ألا تقبل منّي العدل المقدم عند المسيح عيسى ابن مريم×؟ قال الجاثليق: ومَنْ هذا العدل؟ سمِّه لي، قال: ما تقول في يوحنا الديلمي؟ قال: بخ بخ، ذكرت أحبّ الناس إلى المسيح، قال: فأقسمت عليك هل نطق الإنجيل أن يوحنا قال: إنما المسيح أخبرني بدين محمد العربي، وبشّرني به أنه يكون من بعده، فبشرت به الحواريين، فآمنوا به، قال الجاثليق: قد ذكر ذلك يوحنا عن المسيح، وبشر بنبوّة رجلٍ وبأهل بيته ووصيّه، ولم يلخص متى يكون ذلك؟ ولم يُسَمِّ لنا القوم فنعرفهم، قال الرضا×: فإنْ جئناك بمَنْ يقرأ الأنجيل فتلا عليك ذكر محمد وأهل بيته وأمّته، أتؤمن به؟ قال: سديداً، قال الرضا× لنسطاس الرومي: كيف حفظك للسفر الثالث من الإنجيل؟ قال: ما أحفظني له، ثمّ التفت الى رأس الجالوت فقال: ألستَ تقرأ الإنجيل؟ قال: بلى لعمري، قال: فخُذْ عليّ السفر، فإنْ كان فيه ذكر محمد وأهل بيته وأمّته فاشهدوا لي، وإنْ لم يكن فيه ذكره فلا تشهدوا لي، ثم قرأ× السفر الثالث حتّى بلغ ذكر النبيّ| وقف، ثم قال: يا نصراني، إني أسألك بحقّ المسيح وأمّه أتعلم أني عالمٌ بالإنجيل؟ قال: نعم، ثمّ تلا علينا ذكر محمد وأهل بيته وأمته، ثم قال: ما تقول يا نصراني؟ هذا قول عيسى مريم×، فإنْ كذّبت بما ينطق به الإنجيل فقد كذّبت موسى وعيسى’، ومتى أنكرت هذا الذكر وجب عليك القتل؛ لأنك تكون قد كفرت بربّك ونبيك وبكتابك. قال الجاثليق: لا أنكر ما قد بان لي في الإنجيل، وإني لمقرٌّ به، قال الرضا×: اشهدوا على إقراره، ثم قال: يا جاثليق، سَلْ عمّا بدا لك.

2ـ الفقرة الثانية

قال الجاثليق: أخبرني عن حواريّي عيسى ابن مريم× كم كان عدّتهم؟ وعن علماء الإنجيل كم كانوا؟ قال الرضا×: على الخبير سقطت. أما الحواريون فكانوا اثني عشر رجلاً، وكان أعلمهم وأفضلهم ألوقا (لوقا)، وأما علماء النصارى فكانوا ثلاثه رجال: يوحنا الأكبر بـ (أج)، ويوحنا بـ (قرقيسيا)، ويوحنا الديلمي بـ (رجاز)، وعنده كان ذكر النبيّ|، وذكر أهل بيته وأمته، وهو الذي بشّر أمة عيسى وبني إسرائيل به.

3ـ الفقرة الثالثة

ثم قال له: يا نصراني، والله إنا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمد|، وما ننقم على عيساكم شيئاً إلاّ ضعفه وقلّة صيامه وصلاته، قال الجاثليق: أفسدت والله علمك، وضعفت أمرك، وما كنت ظننت إلاّ أنك أعلم أهل الإسلام، قال الرضا×: وكيف ذاك؟ قال الجاثليق: من قولك: إن عيسى كان ضعيفاً قليل الصيام قليل الصلاة، وما أفطر عيسى يوماً قطّ، ولا نام بليلٍ قطّ، وما زال صائم الدهر وقائم الليل، قال الرضا×: فلمَنْ كان يصوم ويصلّي؟! قال: فخرس الجاثليق، وانقطع [لأن اعترافه بعبودية عيسى ابن مريم لله يتنافى مع القول بألوهيته].

4ـ الفقرة الرابعة

قال الرضا×: يا نصراني، أسألك عن مسألةٍ، قال: سَلْ، فإنْ كان عندي علمها أجبتُك، قال الرضا×: ما أنكرت أن عيسى× كان يحيي الموتى بإذن الله عزَّ وجلَّ، قال الجاثليق: أنكرت ذلك من أجل أن مَنْ أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص فهو ربٌّ مستحقّ لأن يعبد، قال الرضا×: فإن اليسع قد صنع مثل صنع عيسى×، مشى على الماء وأحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص، فلم تتّخذه أمّته ربّاً، ولم يعبده أحدٌ من دون الله عزَّ وجلَّ، ولقد صنع حزقيل النبيّ× مثل ما صنع عيسى ابن مريم، فأحيا خمسة وثلاثين ألف رجل من بعد موتهم بستّين سنة، ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال له: يا رأس الجالوت، أتجد هؤلاء في شباب بني إسرائيل في التوراة، اختارهم بخت نصر من سبي بني إسرائيل حين غزا بيت المقدس، ثم انصرف بهم إلى بابل، فأرسله الله عزَّ وجلَّ إليهم فأحياهم. هذا في التوراة لا يدفعه إلاّ كافرٌ منكم. قال رأس الجالوت: قد سمعنا به وعرفناه، قال: صدقت، ثم قال: يا يهودي، خُذْ عليّ هذا السفر من التوراة، فتلا× علينا من التوراة آيات، فأقبل اليهودي يترجّج لقراءته ويتعجّب! ثم أقبل على النصراني، فقال: يا نصراني، أفهؤلاء كانوا قبل عيسى أم عيسى كان قبلهم؟ قال: بل كانوا قبله، فقال الرضا×: لقد اجتمعت قريش على رسول الله| فسألوه أن يحيي لهم موتاهم، فوجَّه معهم عليّ بن أبي طالب×، فقال له: اذهب إلى الجبّانة، فنادِ بأسماء هؤلاء الرهط الذين يسألون عنهم بأعلى صوتك: يا فلان ويا فلان ويا فلان، يقول لكم محمد رسول الله|: قوموا بإذن الله عزَّ وجلَّ، فقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم، فأقبلت قريش تسألهم عن أمورهم، ثم أخبروهم أن محمداً بُعث نبياً، فقالوا: وَدَدْنا أنّا أدركناه فنؤمن به، ولقد أبرأ الأكمه والأبرص والمجانين، وكلَّمته البهائم والطير والجنّ والشياطين ولم نتّخذه ربّاً من دون الله عزَّ وجلَّ، ولم ننكر لأحدٍ من هؤلاء فضلهم، فمتى اتّخذتم عيسى ربّاً جاز لكم أن تتخذوا اليسع وحزقيل ربّاً؛ لأنهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى ابن مريم×، من إحياء الموتى وغيره! وإن قوماً من بني إسرائيل خرجوا من بلادهم من الطاعون، وهم ألوف؛ حذر الموت، فأماتهم الله في ساعة واحدة، فعمد أهل تلك القرية فحظروا عليهم حظيرة، فلم يزالوا فيها حتّى نخرت عظامهم وصاروا رميماً، فمرّ بهم نبيٌّ من أنبياء بني إسرائيل فتعجّب منهم ومن كثره العظام البالية، فأوحى الله عزَّ وجلَّ إليه: أتحبّ أن أحييهم لك فتنذرهم؟ قال: نعم يا ربّ، فأوحى الله عزَّ وجلَّ إليه أن نادهم، فقال: أيتها العظام البالية، قومي بإذن الله عزَّ وجلَّ، فقاموا أحياء أجمعون ينفضون التراب عن رؤوسهم. ثم إبراهيم خليل الرحمن× حين أخذ الطير فقطّعهن قطعاً، ثم وضع على كل جبل منهنّ جزءاً، ثم ناداهنّ فأقبلْنَ سعياً إليه. ثم موسى بن عمران× وأصحابه السبعون الذين اختارهم صاروا معه إلى الجبل، فقالوا له: إنك قد رأيت الله سبحانه، فأرناه كما رأيته، فقال لهم: إني لم أَرَه، فقالوا: لن نؤمن حتّى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا عن آخرهم، وبقي موسى وحيداً، فقال: يا ربِّ، اخترتُ سبعين رجلاً من بني إسرائيل، فجئت بهم، وأرجع وحدي، فكيف يصدِّقني قومي بما أخبرهم به؟! فلو شئت أهلكتهم من قبلُ وإيّاي أتهلكنا بما فعل السفهاء منّا؟ فأحياهم الله عزَّ وجلَّ من بعد موتهم. وكلّ شيء ذكرته لك من هذا لا تقدر على دفعه؛ لأن التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قد نطقت به، فإنْ كان كلّ مَنْ أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص والمجانين يتّخذ ربّاً من دون الله فاتّخذ هؤلاء كلّهم أرباباً، ما تقول يا يهوديّ؟! فقال الجاثليق: القول قولك، ولا إله إلا الله.

5ـ الفقرة الخامسة

ثم التفت إلى رأس الجالوت، فقال: يا يهوديّ، أقبل عليّ أسألك بالعشر الآيات التي أنزلت على موسى بن عمران×، هل تجد في التوراة مكتوباً بنبأ محمد| وأمته: إذا جاءت الأمة الأخيرة، أتباع راكب البعير، يسبحون الربّ جدّاً جدّاً تسبيحاً جديداً في الكنائس الجدد، فليفرغ بنو إسرائيل إليهم وإلى ملكهم، لتطمئن قلوبهم، فإن بأيديهم سيوفاً ينتقمون بها من الأمم الكافرة في أقطار الأرض. أهكذا هو في التوراة مكتوب؟ قال رأس الجالوت: نعم، إنا لنجده كذلك، ثم قال للجاثليق: يا نصراني، كيف علمك بكتاب شعيا×؟ قال: أعرفه حرفاً حرفاً، قال لهما: أتعرفان هذا من كلامه: يا قوم، إني رأيتُ صورة راكب الحمار لابساً جلابيب النور، ورأيت راكب البعير ضوءاً مثل ضوء القمر، فقالا: قد قال ذلك شعيا×، قال الرضا×: يا نصرانيّ، هل تعرف في الإنجيل قول عيسى×: إني ذاهب إلى ربّكم وربّي، والبارقليطا جاء هو الذي يشهد لي بالحقّ، كما شهدت، وهو الذي يفسِّر لكم كل شيء، وهو الذي يبدأ فضائح الأمم، وهو الذي يكسر عمود الكفر، فقال الجاثليق: ما ذكرت شيئاً من الإنجيل إلاّ ونحن مقرّون به، فقال: أتجد هذا الإنجيل ثابتاً يا جاثليق؟ قال: نعم.

6ـ الفقرة السادسة

قال الرضا×: يا جاثليق، ألا تخبرني عن الإنجيل الأوّل حين افتقدتموه عند مَنْ وجدتموه، ومَنْ وضع لكم هذا الإنجيل؟ فقال له: ما افتقدنا الإنجيل إلاّ يوماً واحداً، حتى وجدناه غضّاً طريّاً، فأخرجه إلينا يوحنا ومتّى، فقال له الرضا×: ما أقلّ معرفتك بسنن الإنجيل وعلمائه! فإنْ كان هذا كما تزعم فلِمَ اختلفتم في الإنجيل؟! وإنما وقع الاختلاف في هذا الإنجيل الذي في أياديكم اليوم، فلو كان على العهد الأول لم تختلفوا فيه، ولكنّي مفيدك علم ذلك. اعلَمْ أنه لما افتقد الإنجيل الأول اجتمعت النصارى إلى علمائهم، فقالوا لهم: قتل عيسى ابن مريم×، وافتقدنا الإنجيل، وأنتم العلماء، فما عندكم؟ فقال لهم ألوقا ومرقابوس: إن الإنجيل في صدورنا، ونحن نخرجه إليكم سفراً سفراً في كلّ أحد، فلا تحزنوا عليه، ولا تخلوا الكنائس، فإنا سنتلوه عليكم في كلّ أحد سفراً سفراً، حتّى نجمعه كلّه. فقعد ألوقا ومرقابوس ويوحنا ومتّى، فوضعوا لكم هذا الإنجيل، بعدما افتقدتم الإنجيل الأول، وإنما كان هؤلاء الأربعة تلاميذ تلاميذ الأوّلين، أعلمت ذلك؟ فقال الجاثليق: أما هذا فلم أعلمه، وقد علمتُه الآن، وبان لي من فضل علمك بالإنجيل، وسمعتُ أشياء ممّا علمته شهد قلبي أنها حقّ، فاستزدتُ كثيراً من الفهم، فقال له الرضا×: فكيف شهادة هؤلاء عندك؟ قال: جائزة، هؤلاء علماء الإنجيل، وكل ما شهدوا به فهو حقٌّ.

7ـ الفقرة السابعة

قال الرضا× للمأمون ومَنْ حضره من أهل بيته ومن غيره: اشهدوا عليه، قالوا: قد شهدنا، ثم قال×: للجاثليق: بحقّ الابن وأمه هل تعلم أن متّى قال: «إن المسيح هو ابن داوود بن إبراهيم بن إسحاق بن يعقوب بن يهوذا بن حضرون»([19])؛ فقال مرقابوس في نسبة عيسى ابن مريم×: إنه كلمة الله أحلّها في جسد الآدمي، فصارت إنساناً؛ وقال ألوقا: إن عيسى ابن مريم× وأمه كانا إنسانين من لحمٍ ودم، فدخل فيها الروح القدس. ثم إنك تقول من شهادة عيسى على نفسه حقّاً أقول لكم: يا معشر الحواريين إنه لا يصعد إلى السماء إلاّ مَنْ نزل منها، إلاّ راكب البعير خاتم الأنبياء، فإنه يصعد إلى السماء وينزل. فما تقول في هذا القول؟ قال الجاثليق: هذا قول عيسى، لا ننكره، قال الرضا×: فما تقول في شهاده ألوقا ومرقابوس ومتّى على عيسى وما نسبوه إليه؟ قال الجاثليق: كذبوا على عيسى، فقال: الرضا×: يا قوم، أليس قد زكّاهم وشهد أنهم علماء الإنجيل وقولهم حقٌّ؟ فقال الجاثليق: يا عالم المسلمين، أحب أن تعفيني من أمر هؤلاء، قال الرضا×: فإنا قد فعلنا، سَلْ يا نصرانيّ عمّا بدا لك، قال الجاثليق: ليسألك غيري، فلا وحقّ المسيح ما ظننتُ أن في علماء المسلمين مثلك.

ب ـ المناظرة الثانية: المناظرة مع رأس الجالوت

فالتفت الرضا× إلى رأس الجالوت، فقال له: تسألني أو أسألك؟ فقال: بل أسألك، ولستُ أقبل منك حجّةً إلا من التوراة أو من الإنجيل أو من زبور داوود أو بما في صحف إبراهيم وموسى، قال الرضا×: لا تقبل منّي حجّةً إلاّ بما تنطق به التوراة على لسان موسى بن عمران والإنجيل على لسان عيسى ابن مريم والزبور على لسان داوود.

1ـ الفقرة الثامنة

فقال رأس الجالوت: من أين تثبت نبوة محمد|؟ قال الرضا×: شهد بنبوته موسى بن عمران وعيسى ابن مريم وداوود خليفه الله عزَّ وجلَّ في الأرض، فقال له: ثبِّتْ قول موسى بن عمران، فقال له الرضا×: هل تعلم يا يهودي أن موسى أوصى بني إسرائيل؟ فقال لهم: «إنه سيأتيكم نبيٌّ من إخوانكم، فيه فصدقوا، ومنه فاسمعوا»([20])، فهل تعلم أن لبني إسرائيل إخوة غير ولد إسماعيل إنْ كنت تعرف قرابة إسرائيل من إسماعيل، والسبب الذي بينهما من قِبَل إبراهيم×؟ فقال رأس الجالوت: هذا قول موسى لا ندفعه، فقال له الرضا×: هل جاءكم من إخوة بني إسرائيل نبي غير محمد|؟ قال: لا، قال الرضا×: أَوَليس قد صحّ هذا عندكم؟ قال: نعم، ولكنّي أحبّ أن تصحّحه إليّ من التوراة؟ فقال له الرضا×: هل تنكر أن التوراة تقول لكم: جاء النور من قبل طور سيناء، وأضاء لنا من جبل ساعير، واستعلن علينا من جبل فاران؟([21])، قال رأس الجالوت: أعرف هذه الكلمات، وما أعرف تفسيرها، قال الرضا×: أنا أخبرك به؛ أما قوله: جاء النور من قبل طور سيناء فذلك وحيُ الله تبارك وتعالى الذي أنزله على موسى بن عمران× على جبل طور سيناء؛ وأما قوله: وأضاء لنا من جبل ساعير فهو الجبل الذي أوحى الله عزَّ وجلَّ إلى عيسى ابن مريم× وهو عليه؛ وأما قوله: واستعلن علينا من جبل فاران فذلك جبلٌ من جبال مكّة بينه وبينها يوم. وقال شعياء النبيّ×، في ما تقول أنت وأصحابك في التوراة: رأيت راكبين أضاء لهما الأرض؛ أحدهما على حمار؛ والآخر على جمل، فمَنْ راكب الحمار؟ ومَنْ راكب الجمل؟ قال رأس الجالوت: لا أعرفهما، فخبِّرني بهما، قال: أما راكب الحمار فعيسى×، وأما راكب الجمل فمحمد|، أتنكر هذا من التوراة؟ قال: لا، ما أنكره، ثم قال الرضا×: هل تعرف حبقوق النبيّ×؟ قال: نعم، إني به لعارف، قال: فإنه قال، وكتابكم ينطق به: «جاء الله تعالى بالبيان من جبل فاران، وامتلأت السموات من تسبيح أحمد وأمّته، يحمل خيله في البحر كما يحمل في البرّ، يأتينا بكتاب جديد بعد خراب بيت المقدس»([22]) (يعني بالكتاب الفرقان [القرآن])، أتعرف هذا وتؤمن به؟ قال رأس الجالوت: قد قال ذلك حبقوق النبيّ×، ولا ننكر قوله، قال الرضا×: فقد قال داوود في زبوره، وأنت تقرأه: اللهم ابعث مقيم السنّة بعد الفترة، فهل تعرف نبياً أقام السنّة بعد الفترة غير محمد|؟ قال رأس الجالوت: هذا قول داوود، نعرفه ولا ننكره، ولكنْ عنى بذلك عيسى، وأيّامه هي الفترة، قال له الرضا×: جهلت أن عيسى× لم يخالف السنّة، وكان موافقاً لسنّة التوراة، حتّى رفعه الله إليه، وفي الإنجيل مكتوبٌ: «إن ابن البرّة ذاهب، والبارقليطا جاء من بعده، وهو الذي يحفظ الآصار، ويفسر لكم كل شيء، ويشهد لي كما شهدتُ له أنا. جئتكم بالأمثال، وهو يأتيكم بالتأويل»([23])، أتؤمن بهذا في الإنجيل؟ قال: نعم.

2ـ الفقرة التاسعة

فقال له الرضا×: يا رأس الجالوت، أسألك عن نبيك موسى بن عمران×، فقال: سَلْ، قال: ما الحجّة على أن موسى ثبتت نبوته؟ قال اليهودي: إنه جاء بما لم يجئ به أحدٌ من الأنبياء قبله، قال له: مثل ماذا؟ قال: مثل فلق البحر، وقلبه العصا حيّةً تسعى، وضربه الحجر فانفجرت منه العيون، وإخراجه يده بيضاء للناظرين، وعلاماته لا يقدر الخلق على مثلها، قال له الرضا×: صدقت في أنه كانت حجّته على نبوته أنه جاء بما لا يقدر الخلق على مثله، أفليس كلّ مَنْ ادّعى أنه نبيٌّ ثم جاء بما لا يقدر الخلق على مثله وجب عليكم تصديقه؟! قال: لا؛ لأن موسى× لم يكن له نظيرٌ لمكانه من ربّه وقربه منه، ولا يجب علينا الإقرار بنبوة مَنْ ادّعاها حتّى يأتي من الإعلام بمثل ما جاء به، فقال الرضا×: فكيف أقررتم بالأنبياء الذين كانوا قبل موسى×، ولم يفلقوا البحر، ولم يفجروا من الحجر اثني عشرة عيناً، ولم يخرجوا أيديهم مثل إخراج موسى يده بيضاء، ولم يقلبوا العصا حيّةً تسعى؟ قال اليهودي [وهنا غيّر رأس الجالوت كلامه المتقدّم]: قد خبرتك أنه متى ما جاؤوا على نبوتهم من الآيات بما لا يقدر الخلق على مثله، ولو جاؤوا بما يجيء به موسى، أو كان على غير ما جاء به موسى، وجب تصديقهم، قال له الرضا×: يا رأس الجالوت، فما يمنعك من الإقرار بعيسى ابن مريم وقد كان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير ثمّ ينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله تعالى؟ قال رأس الجالوت: يقال: إنه فعل ذلك ولم نشهَدْه، قال الرضا×: أرأيت ما جاء به موسى من الآيات، شاهدته؟ أليس إنما جاءت الأخبار من ثقات أصحاب موسى أنه فعل ذلك؟ قال: بلى، قال: فكذلك أيضاً أتتكم الأخبار المتواترة بما فعل عيسى ابن مريم×، فكيف صدقتم بموسى ولم تصدِّقوا بعيسى؟ فلم يَجِدْ جواباً، قال الرضا×: وكذلك أمر محمد|، وما جاء به، وأمر كلّ نبي بعثه الله. ومن آياته أنه كان يتيماً فقيراً راعياً أجيراً، لم يتعلَّم كتاباً ولم يختلف إلى معلِّم، ثم جاء بالقرآن الذي فيه قصص الأنبياء^ وأخبارهم حرفاً حرفاً، وأخبار مَنْ مضى ومَنْ بقي إلى يوم القيامة، ثم كان يخبرهم بأسرارهم وما يعملون في بيوتهم، وجاء بآياتٍ كثيرة لا تحصى، قال رأس الجالوت: لم يصحّ عندنا خبر عيسى، ولا خبر محمد|، ولا يجوز لنا أن نقرّ لهما بما لا يصحّ، قال الرضا×: فالشاهد الذي شهد لعيسى ولمحمد| شاهدُ زورٍ؟ فلم يَجِدْ جواباً.

ج ـ نظرة على هذه الرواية

وفي مستهل دراستنا لهذه الرواية لا بُدَّ أن نلقي نظرة على سندها.

إن الذي نقل هذه الرواية هو الشيخ الصدوق في كتابَيْه (عيون أخبار الرضا×) و(التوحيد)، وأما المصادر الأخرى فإنما اعتمدت في نقل هذه الرواية على هذين المصدرين. وقد ذكر الشيخ الصدوق سنده إلى هذه الرواية على النحو التالي: «حدَّثنا أبو محمد جعفر بن عليّ بن أحمد الفقيه القمّي ثم الإيلاقي ـ رضي الله عنه ـ قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن عليّ بن صدقة القمّي قال: حدَّثنا أبو عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الأنصاري الكجي قال: حدَّثني مَنْ سمع الحسن بن محمد النوفلي ثمّ الهاشمي يقول:…».

وبذلك يكون رجال سند هذه الرواية هم كلٌّ من:

1ـ أبو محمد جعفر بن عليّ بن أحمد الفقيه القمّي ثم الإيلاقي

وهو أستاذ الشيخ الصدوق، لم يَرِدْ توثيقٌ بحقّه في المصادر الرجالية([24])، ولكنْ حيث قال الشيخ الصدوق في حقّه: «رضي الله عنه» يثبت أنه ممدوحٌ عنده في الحدّ الأدنى.

2ـ أبو محمد الحسن بن محمد بن عليّ بن صدقة القمّي

لم يَرِدْ عنه أيّ شيء في المصادر الرجالية. ولم تنقل عنه المصادر الحديثية سوى روايتين: إحداهما: مناظرة الإمام الرضا× مع علماء الأديان في مَرْو (وهي الرواية المتقدّمة)؛ والأخرى: مناظرة الإمام الرضا× مع سليمان المروزي([25]).

3ـ أبو عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الأنصاري الكجي

لم يَرِدْ عنه شيء في المصادر الرجالية، والرواية الوحيدة المنقولة عنه في الكتب الروائية هي هذه الرواية([26]).

4ـ مَنْ سمع الحسن بن محمد النوفلي ثمّ الهاشمي

هذا العنوان يثبت أن هذه الرواية مرسلة.

5ـ الحسن بن محمد النوفلي ثمّ الهاشمي

لم يَرِدْ له ذكرٌ في المصادر الرجالية، ولا نجد له في المصادر الحديثية سوى ثلاث روايات فقط([27]).

وبذلك تكون هذه الرواية ـ بالإضافة إلى إرسالها ـ ضعيفة السند.

نصّ الرواية

إن نصّ هذه الرواية يحتوي بشكلٍ عام على العديد من مواطن الإبهام والغموض، بالإضافة إلى الأخطاء العلمية والتاريخية، والنقص في المحتوى. ويبدو أن ناقل هذه المناظرة الوحيد (الحسن بن محمد النوفلي) لم يتمكّن من مواكبة المناظرة ونقل جميع المسائل والموضوعات المتبادلة بين الإمام الرضا× والعالمين (المسيحي واليهودي) بشكلٍ كامل. يضاف إلى ذلك أنه لم يكن ـ على ما يبدو ـ متخصّصاً في علم الأديان، ومن هنا فقد وقع في الكثير من الأخطاء وسوء الفهم عند نقله لمضامين المناظرة. ولذلك من المناسب هنا أن نعمل على دراسة محتوى ومضمون مناظرة الإمام الرضا× مع الجاثليق ورأس الجالوت بشكلٍ دقيق. وسوف نتناول الموارد الإشكالية في هذه المناظرة تحت العناوين الأربعة الرئيسة التالية:

1ـ مواطن الإبهام والغموض.

2ـ الأخطاء العلمية.

3ـ التناقض الداخلي في الرواية.

4ـ الإشكالات غير الواردة.

1ـ مواطن الإبهام والغموض

عند دراستنا لهذه المناظرة نواجه الكثير من مواطن الغموض التي تجعل فهم الرواية مشكلاً:

أـ عدم ذكر أصل النص في موارد الاستشهاد بالكتاب المقدّس

لقد استشهد الإمام× في مواطن متعددة من هذه المناظرة بنصّ الإنجيل أو التوراة. وقد ذكر النوفلي في بعض هذه الموارد نصّ الإنجيل أو التوراة، ويمكن العثور على شيء منه في الكتاب المقدّس الراهن. ولكنْ في بعض الموارد الأخرى لا نجد في نصّ الإنجيل أو التوراة أيّ إشارة إلى تلك الموارد التي استشهد بها الإمام×، في حين أنها يمكن ـ بالالتفات إلى مضمونها ـ أن تكون على درجةٍ كبيرة من الأهمّية.

ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أنه في الفقرة الأولى من المناظرة يذكر الراوي أن الإمام× يبيِّن للجاثليق ورأس الجالوت ذكر اسم النبيّ الأكرم وأهل بيته في الكتاب المقدّس، ولكنْ رغم أهمّية هذا الأمر، وإقرار هذين العالمين (اليهودي والمسيحي)، لا توجد أيّ إشارة أو إحالة إلى النصّ الذي يحتوي على هذه الأسماء. إن أهمية هذا الجزء من المناظرة لا يخفى على أحدٍ؛ إذ إن إشارة الراوي إلى نصّ الكتاب المقدّس، مع بيان المصدر والإحالة إليه، تساعد المسلمين في إثبات أحقّيتهم في مواجهة اليهود والمسيحيين إلى حدٍّ كبير. هذا، في حين أن الراوي يذكر موارد أخرى من الكتاب المقدّس استشهد بها الإمام× أيضاً، ولكنّه مع ذلك يشير إلى موضعها ويحيل إلى مصدرها رغم قلّة أهمّيتها بالقياس إلى هذه البشارة!

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لو أن هذا الاسم الذي ذكره الإمام الرضا× كان موجوداً في الكتاب المقدّس حقّاً، وإن الجاثليق ـ طبقاً لادّعاء الراوي ـ قد أقرّ بوجوده، لا تعود هناك من حاجةٍ إلى مواصلة المناظرة؛ إذ إن إقرار الجاثليق بوجود اسم النبيّ وأهل بيته في الكتاب المقدّس يعني الاعتراف بأحقّية الخصم، ومعه لا تكون هناك ضرورةٌ من الناحية الفنية إلى متابعة المناظرة. ولكنْ على الرغم من إقرار الجاثليق بكثرة علم ومعرفة الإمام الرضا بالإنجيل نجده في الفقرة الثانية يسأله عن عدد الحواريين وعلماء الإنجيل! في حين أنه بعد الإخفاق في الخطوة الأولى من هذه المناظرة، والاعتراف بسعة علم الإمام ومعرفته بالكتاب المقدّس، لا يبدو قيام الجاثليق في الخطوة الثانية بطرح مثل هذا السؤال الساذج والسطحي على الإمام أمراً منطقياً.

ب ـ عدم بيان طريقة الاستدلال بالكلمات المستند إليها في نصّ المناظرة

نشاهد في العديد من الموارد أنه بعد أن يستدلّ الإمام لبيان مراده بموضعٍ من الإنجيل أو التوراة، رغم عدم وضوح طريقة دلالة ذلك الموضع على المراد، لا توجد أيّ إشارة إلى كيفية الاستدلال بتلك الفقرة. وبعد ذلك نلاحظ أن الجاثليق يقرّ بما يقوله الإمام، دون مطالبته ببيان كيفية الاستدلال. فحتّى لو سلَّمنا بأن كيفية الاستدلال كانت واضحة للجاثليق كان بإمكانه كسب الوقت في المناظرة لصالحه من خلال مطالبة الإمام ببيان كيفية استدلاله بتلك المواضع على مراده. ومن ذلك أن الإمام في الفقرة الخامسة ـ على سبيل المثال ـ يستدلّ بكلام أشعيا القائل: «إني رأيت صورة راكب الحمار لابساً جلابيب النور، ورأيت راكب البعير ضوءاً مثل ضوء القمر»، وبعد ذلك يستند إلى كلامٍ للسيد المسيح× في الإنجيل يقول: «إني ذاهبٌ إلى ربكم وربي، والبارقليطا هو الذي يشهد لي بالحقّ، كما شهدتُ له، وهو الذي يفسّر لكم كلّ شيء». وبعد استشهاد الإمام× يقرّ الجاثليق بوجود هاتين الفقرتين، وينتهي الكلام عند هذا الحدّ، في حين أن دلالة هاتين الفقرتين على مراد الإمام غير واضحة، ولا سيَّما أن هناك الكثير من الكلام حول دلالة كلمة «بارقليطا»؛ وهذا يعني أن هذه الكلمة غير صريحة في البشارة بظهور النبيّ الأكرم. وعليه لم يتّضح الأمر الذي اعترف به الجاثليق في هذا المورد أساساً، وما الذي كان الإمام الرضا× بصدد إثباته.

ج ـ طريقة تأليف الإنجيل، وإقرار الإمام بصحّته

في الفقرة السادسة يشير الإمام الرضا× إلى فقدان الإنجيل، ثم قال: إن الإنجيل الراهن من تأليف بعض الحواريين، من أمثال: لوقا ويوحنا. وبالالتفات إلى أن الحواريين ـ طبقاً لبعض المصادر الإسلامية([28]) ـ باستثناء (يهوذا الإسخريوطي)([29]) هم من الراسخين في الإيمان يكون هذا الكلام من الإمام الرضا× إقراراً ضمنيّاً بصحة المضامين الموجودة في الإنجيل؛ لأنه قد جمعه وألَّفه الحواريون بأنفسهم. ومع الالتفات إلى انعقاد حلقة هذه المناظرة في حدود القرن العاشر للميلاد([30]) فإن الإنجيل الراهن لا يختلف عن الإنجيل الذي كان متوفّراً في تلك الفترة، وبذلك يكون الإمام الرضا× قد أيَّد صحّة الإنجيل الراهن أيضاً.

كما أنه لا بُدَّ من الالتفات إلى أنه طبقاً لتاريخ تأليف الإنجيل بعد القرن الأول للميلاد (حوالي عام 120م) ـ من قبيل: إنجيل توما، وإنجيل برنابا، وإنجيل مريم المجدلية ـ أخذت المسيحية في منتصف القرن الثاني للميلاد تفكّر بتقنين الإنجيل بالتدريج، حتّى أقرّت الأناجيل الراهنة في نهاية القرن الرابع للميلاد تحت عنوان العهد الجديد. من هنا فإن التوضيح الذي يقدِّمه الإمام إلى الجاثليق في ما يتعلق بتأليف الكتاب المقدَّس يتعارض مع التاريخ الرسمي للكتاب المقدَّس. ولو سلَّمنا صحّة الرواية وصحة هذا النقل كان على الجاثليق ـ في الحدّ الأدنى ـ أن يعترض على هذا الكلام، ويذكر التاريخ الرسمي للإنجيل في ذات المناظرة؛ لأن هذا هو المطلوب من إقامة المناظرة بين الأطراف المتخالفة في الآراء، وليس الإقرار بمدَّعيات الخصم حتّى إذا كانت متعارضة مع العقيدة الرسمية للشخص المناظر.

د ـ اعترافاتٌ مبهمة

في الفقرة السابعة يستشهد الإمام الرضا× بأربع مواضع من الإنجيل، وهي:

ـ كلام متّى: «المسيح هو ابن داوود بن إبراهيم بن إسحاق بن يعقوب بن يهوذا بن حضرون».

ـ كلام مرقابوس [مرقس]: «إنه كلمة الله أحلّها في جسد الآدمي، فصارت إنساناً».

ـ كلام ألوقا [لوقا]: «إن عيسى ابن مريم× وأمه كانا إنسانين من لحمٍ ودم، فدخل فيها الروح القدس».

ـ كلام السيد المسيح عيسى: «يا معشر الحواريين، إنه لا يصعد إلى السماء إلاّ مَنْ نزل منها، إلاّ راكب البعير خاتم الأنبياء، فإنه يصعد إلى السماء وينزل».

ثم جعل الإمام الرضا× القول الرابع في تعارض مع الأقوال الثلاثة الأولى، إلى الحدّ الذي اضطرّ معه الجاثليق ـ رغم إقراره السابق ـ إلى تكذيب متى ومرقابوس [مرقس] وألوقا [لوقا]. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هو التناقض القائم بين هذه النصوص؟! إذ إن العبارات الثلاثة الأولى تثبت بشرية السيد المسيح، والعبارة الرابعة تتحدث بشأن نبوءة بظهور نبيٍّ في آخر الزمان. يبدو أن الرواية في هذا الموضع تشتمل على غموضٍ وإبهام؛ إذ لم توضِّح ما الذي دعا الجاثليق إلى تكذيب متّى ومرقابوس [مرقس] وألوقا [لوقا]؟ إن الاحتمال الوحيد الذي يمكن لنا أن نحتمله هنا هو أن يكون الإمام الرضا× قد ذكر كلاماً آخر عن السيد المسيح يثبت فيه ألوهيّته بشكلٍ يتناقض مع العبارات الثلاثة الأولى، بَيْدَ أن الراوي لم يتمكّن من نقل الرواية بشكلٍ صحيح.

هـ ـ البشارة بظهور نبيّ الإسلام

وفي الفقرة الثامنة من هذه المناظرة، وفي الخطاب الموجّه إلى رأس الجالوت، استند الإمام الرضا× إلى عبارةٍ من الزبور تقول: «اللهم ابعث مقيم السنّة بعد الفترة»، ثم ذكر الإمام× أن المقصود من هذا الكلام هو نبيّ الإسلام. بَيْدَ أن رأس الجالوت طبّق هذا الكلام على السيد المسيح عيسى، وأجابه الإمام× بأن عيسى إنما واصل مسيرة التوراة، ولم يأتِ بدينٍ جديد، ولذلك حيث كان نبيّ الإسلام هو الذي جاء بالدين الجديد فيجب أن يكون هو المقصود بذلك الكلام، دون النبيّ عيسى×.

وهنا يَرِدُ إشكالان:

أوّلاً: إن اليهود يؤمنون بظهور مسيحٍ يُعيد إلى بني إسرائيل عزّتهم. ويكمن الاختلاف بين المسيحيين واليهود في أن المسيحيين يرَوْن أن عيسى هو المسيح الموعود، بينما ينكر اليهود ذلك، ومن هنا صاروا بصدد قتله. وعليه كيف يمكن لرأس الجالوت أن يفسِّر نبوءة النبيّ داوود بعيسى ابن مريم، في حين أنه صرَّح بعدم اعتقاده بنبوّته مراراً وتكراراً؟

وثانياً: إن مفردة «الإحياء» في المعاجم اللغوية تعني إعادة الميّت إلى الحياة، وليس خلق كائنٍ جديد من العدم. وإن الشريعة التي جاء بها السيد المسيح عيسى هي استمرار للشريعة التوراتية (مع اختلافٍ يسير). وفي الحقيقة إن الشعار الذي رفعه النبيّ عيسى× هو العودة إلى الشريعة التوراتية والعمل بها، ولذلك نشاهد في مواضع متعدّدة من الإنجيل أن أهمّ اعتراض للنبي عيسى× على الفرّيسين والصدوقين هو انتهاكهم للشريعة التوراتية وعدم احترامهم لها. إلاّ أن الشريعة التي جاء بها نبيّ الإسلام كانت شريعةً جديدة لا علاقة لها بشأن الشريعة التوراتية. ومن خلال التدقيق في رسالة النبيّ عيسى× ورسالة نبيّ الإسلام| ندرك أن النبي عيسى× هو الذي عمل على إحياء شريعة التوراة، وليس نبيّ الإسلام.

ثم واصل الإمام الرضا× استدلاله في إثبات مدّعاه من خلال الاستناد إلى فقرة من الإنجيل، وهي: «إن ابن البرّة ذاهب، والبارقليطا جاء من بعده، وهو الذي يحفظ الآصار، ويفسِّر لكم كلّ شيء، ويشهد لي كما شهدت له أنا. جئتكم بالأمثال، وهو يأتيكم بالتأويل». إن طريقة استدلال الإمام الرضا× بهذه الفقرة ظاهرةٌ في أن فهم هذا الموضع يساعد في فهم استدلاله بكلام النبيّ داوود× في الزبور. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا:

أوّلاً: لا يُرى ترابطٌ بين عبارات هذا النصّ؛ فهو تارةً يتحدّث عن مجيء مَنْ يعمل على إحياء الشريعة؛ وفي موضعٍ آخر عن مجيء بارقليطا بعد النبيّ عيسى×. فما هو الدليل الذي أقامه الإمام الرضا× على القول بأن البارقليطا هنا هو مَنْ قام بإحياء شريعة التوراة؟ لماذا نجد في بداية هذه الرواية إشارةً غامضة إلى استدلال الإمام الرضا× بالزبور، ثم بالإنجيل، لنواجه بعد ذلك إقرار رأس الجالوت؟ إن كلام الإمام× هنا وكيفية استدلاله بالإنجيل من الغموض بحيث يُثار بإزاء إقرار رأس الجالوت السؤال التالي: ما هو الكلام الذي قيل هنا وأدّى إلى إقرار واعتراف رأس الجالوت؟

وثانياً: على الرغم من شهرة تفسير الـ «بارقليطا» بين المسلمين بأنه «محمود ومحمد»، وأنه يرمز إلى نبي الإسلام، إلاّ أن هذا الظهور ليس من القوّة بحيث لا نحتاج في إثباته إلى استدلال. لقد حمل المسيحيون هذه الكلمة على «الروح القدس»، واستدلوا على هذا المدّعى. وعليه فإن مجرّد ذكر هذا الاسم ـ في مثل هذه المناظرة الهامّة جدّاً ـ دون الإشارة إلى كيفية الاستدلال به لا يقدِّم شيئاً للمستدلّ.

وثالثاً: كما تقدَّم أن أشرنا فإن رأس الجالوت لم يكن سوى شخصٍ يهودي، ولن يمكن لمثله أن يؤمن بأيّ شكلٍ من الأشكال بظهور النبيّ عيسى، ولا بكتاب اسمه الإنجيل، وعليه كيف يستند الإمام لإثبات مدّعاه في مواجهة هذا العالم اليهودي بكلام النبيّ عيسى× وكتاب الإنجيل؟!

2ـ الإشكالات العلمية

إن من بين المشاكل التي نشاهدها في هذه الرواية بعض الإشكالات العلمية الواردة عليها، والتي سنشير إليها في ما يلي:

أـ كلام يوحنا الديلمي

في مستهلّ المناظرة يعلن الإمام الرضا× للجاثليق أنه بصدد إثبات نبوّة النبيّ محمد| من كلام يوحنا الديلمي، ثم أخذ الإمام الرضا× ـ بناء على ما نقله الراوي ـ ينقل فقرات من الإنجيل الثالث. وعلى أساس تبويب الكتاب المقدّس يقع إنجيل يوحنا في التسلسل الرابع للأناجيل الأربعة، وليس هو الإنجيل الثالث.

ب ـ أقرب الحواريين إلى عيسى المسيح (عليه السلام)

في الفقرة الثانية يرى الإمام الرضا× أن عدد الحواريين هو اثنا عشر شخصاً، وأن أعلمهم هو ألوقا [لوقا]، وأما يوحنا (صاحب إنجيل يوحنا) فلم يعتبره من الحواريين، بل اعتبره واحداً من علماء الإنجيل.

وهنا لا بُدَّ من الإشارة إلى بعض الأمور:

أوّلاً: لقد ذكر إنجيل متّى أسماء الحواريين صراحة [وليس من بينهم لوقا]، وعليه لا يُعَدّ ألوقا [لوقا] من الحواريين، وإنما هو من تلاميذ الحواريين. وبذلك يكون كلام الإمام الرضا× هنا مخالفاً لصريح كلام الإنجيل، وكان من الطبيعي أن يعترض الجاثليق على كلام الإمام الرضا في هذا الشأن.

ثانياً: إن الإمام الرضا× في الفقرة السادسة لا يكتفي بعدم اعتبار ألوقا وثلاثة أشخاص آخرين من كُتّاب الأناجيل من الحواريين فحَسْب، بل يعتبرهم من تلاميذ تلاميذ المسيح، ولا يخفى أن هذا يمثِّل تناقضاً واضحاً لما ورد من أنه يعتبر ألوقا [لوقا] هو الأعلم من بين الحواريين.

ثالثاً: إن المصادر الإسلامية قد أشارت إلى شمعون الصفا (بطرس) بوصفه وصيّ النبيّ عيسى×. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن النبي الأكرم| قال: «فلما أراد الله أن يرفعه [أي عيسى×] أوحى إليه أن استودع نور الله وحكمته وعلم كتابه شمعون بن حمون الصفا»([31]). وفي روايةٍ أخرى عن النبيّ الأكرم| أنه قال لعليّ×: «يا عليّ، أنت مني بمنزلة هبة الله من آدم، وبمنزلة سام من نوح، وبمنزلة إسحاق من إبراهيم، وبمنزلة هارون من موسى، وبمنزلة شمعون من عيسى، إلاّ أنه لا نبيّ بعدي»([32]). وعليه فقد كان لشمعون بعد النبيّ عيسى× مقام الوصية، فكيف يمكن تصوُّر أن يكون هناك مَنْ هو أفضل وأعلم منه بين الحواريين؟ وإذا كان الأمر كذلك فإن الشخص المفضول لا يمكن أن يكون حجّةً على مَنْ هو أفضل منه.

ج ـ يوم المسيحيين المقدّس

أشار الإمام الرضا× في الفقرة السادسة إلى أن المسيحيين الأوائل، ومن بينهم الحواريين، كانوا يجتمعون في أيام الآحاد لإقامة مراسمهم الدينية.

ولكنْ يجب الالتفات إلى أن المسيحية الأولى لم تكن كياناً منفصلاً عن المجتمع اليهودي، ولذلك فإن المسيحيين الأوائل كانوا يقومون بالشعائر الدينية على طبق التعاليم اليهودية. وفي الحقيقة لم يكن هناك في بداية الأمر فرقٌ بين اليهودية والمسيحية الأولى إلاّ في الإيمان بظهور المسيح الموعود وعدم ظهوره. ومن هنا كان المسيحيون يقيمون مراسمهم الدينية في أيام السبت من الأسبوع. إلاّ أنهم أخذوا لاحقاً، وبالتدريج في القرن…، يميِّزون أنفسهم من اليهود، وخصَّصوا يوم الأحد لممارسة عباداتهم. وعليه فبالنسبة إلى التاريخ الذي يشير إليه الإمام الرضا (قبل إعادة كتابة الأناجيل) كانت المراسم الدينية للمسيحيين تُقام في أيام السبت، دون الأحد.

د ـ نسب النبي عيسى (عليه السلام)

في الفقرة السابعة ينقل الراوي عن الإمام الرضا× نسب النبيّ عيسى من إنجيل متّى، قائلاً: «إن المسيح هو ابن داوود بن إبراهيم بن إسحاق بن يعقوب بن يهوذا بن حضرون».

وعلى هذا الأساس يكون إسحاق النبيّ والد النبيّ إبراهيم، ويكون يعقوب والد إسحاق، ويهوذا والد يعقوب، وحضرون والد يهوذا! وهذا بدوره مخالفٌ للمسلَّمات التاريخية أيضاً. لا شَكَّ في أن النبي إبراهيم× كان له ولدان، وهما: (إسماعيل) و(إسحاق). وقد نشأ هذا الخطأ والخلط من أن عبارة إنجيل متى تقول: «كتاب ميلاد يسوع المسيح بن داوود بن إبراهيم، إبراهيم وَلَدَ إسحاق، وإسحاق وَلَدَ يعقوب، ويعقوب وَلَدَ يهوذا وإخوته، ويهوذا وَلَدَ فارص وزارح من ثامار، وفارس وَلَدَ حصرون، وحصرون وَلَدَ أرام»([33]).

يبدو أن أحد رواة هذه الرواية أراد في هذا الموضع أن ينقل نصّ عبارة الإنجيل بعينه، ولكنّه لم يدقِّق في العبارة جيّداً، وخلط بين الأسماء، ووضع أسماء الآباء في موضع أسماء الأبناء.

هـ ـ اليهود وإنكارهم للنبي عيسى والإنجيل

إن من بين مشاكل هذه الرواية اضطرابها من حيث رأي واعتقاد رأس الجالوت بالنبي عيسى المسيح×. فعلى الرغم من أن اليهود بأجمعهم لا يؤمنون بظهور النبي عيسى المسيح، ونزول الإنجيل، بل ويعتبرون عيسى شخصاً كاذباً ومفترياً ـ والعياذ بالله ـ، كما يجمع المسيحيون واليهود على أن عيسى قد قتل على أيدي اليهود، وعلى الرغم من الإشارة المتكرّرة من رأس الجالوت في نهاية المناظرة إلى أنه لا يعتقد ولا يؤمن بعيسى المسيح، ولا يعتبر الحجّية للإنجيل (حيث ينكر ظهور معجزات على يد السيد المسيح عيسى؛ بسبب عدم توفّر الأدلة القطعية على ذلك)، نجد في بعض فقرات هذه المناظرة أن رأس الجالوت يطالب الإمام الرضا× أكثر من مرّةٍ أن يأتيه ببيّنةٍ من الإنجيل وكلام النبيّ عيسى×، وكان الإمام الرضا× يلبي طلب الجالوت، ويثبت مدّعاه لرأس الجالوت بعباراتٍ من الإنجيل. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن رأس الجالوت يقول للإمام الرضا× في بداية المناظرة: «ولستُ أقبل منك حجّةً إلاّ من التوراة أو من الإنجيل [الذي لا يؤمن به بحَسَب الفرض] أو من زبور داوود أو بما في صحف إبراهيم وموسى». وقد قبل الإمام الرضا× بدَوْره هذا الشرط، وقال لرأس الجالوت: «لا تقبل منّي حجّةً إلا بما تنطق به التوراة على لسان موسى بن عمران، والإنجيل على لسان عيسى ابن مريم، والزبور على لسان داوود».

أما ما ورد في الفقرة الثامنة، حيث يعمد رأس الجالوت إلى تطبيق نبوءة النبيّ داوود× بشأن ظهور مَنْ يحيي الشريعة على النبيّ عيسى×! فيجب التدقيق هنا بأن هذا المجلس كان عبارةً عن مناظرة بالغة الخطورة؛ إذ حضرها جماعةٌ من كبار علماء اليهود في مواجهة كبار علماء المسلمين، وإن أيّ تراجع أو انتكاسة يمنى بها أيّ واحد من الطرفين في تلك المناظرة يعني اندحاراً وسقوطاً لذلك الدين الذي ينتمي إليه، ومن هنا لا نجد موضعاً من الإعراب للمناظرة بين عالمٍ يهودي وعالمٍ مسلم حول كلام النبيّ عيسى والإنجيل؛ لأن هذا يشبه تماماً أن يتحاور عالم شيعي مع عالم سنّي؛ لكي يثبت كلّ واحدٍ منهما مذهبه، ويجعلان من العقيدة البهائية محوراً للنقاش والحوار فيما بينهما!

و ـ النبي عيسى (عليه السلام) شخصية ثنائية

في الفقرة الثالثة عمد الإمام الرضا× إلى إثارة موضوع بالغ الحساسية والأهمّية، حيث يُشير إلى تأليه السيد المسيح. فبعد أن استدرج الجاثليق إلى الاعتراف بأن عيسى× كان مثابراً على العبادة يتوجّه إليه بالسؤال، قائلاً: مَنْ هو المعبود الذي كان يعبده عيسى؟! فإنه إنْ كان يعبد الله فالإله عند المسيحيين هو النبيّ عيسى نفسه، ولا معنى لأن يقوم الإله بعبادة نفسه. وقد روى النوفلي هنا أن الجاثليق ظلّ ساكتاً، ولم يَجِدْ جواباً.

ولكنْ يبدو أن هذا الإشكال غير وارد على الاعتقاد بتأليه المسيح؛ وذلك لأن المسيحية ترى شخصية ثنائية للسيد المسيح، أو بعبارةٍ أخرى: هناك شخصيتان للسيد المسيح: إحداهما: الشخصية الإلهية التي تمثِّل الأقنوم الثاني من الأقانيم الثلاثة، والشخصية الأخرى: هي الشخصية الإنسانية التي حلّت وتبلورت في البتول مريم العذراء÷، ثم جاءت بواسطتها إلى هذه الدنيا. وقد ابتكرت المسيحية هاتين الشخصيتين للسيد المسيح؛ كي لا يَرِدَ الإشكال المذكور عليها، وبذلك يكون السيد المسيح في بُعْده الأرضي عابداً للإله بأقانيمه الثلاثة.

النتائج

يبدو أن الراوي الذي نقل هذه المناظرة؛ حيث لم يكن على دراية بعلم الأديان، لم يتمكَّن من استيعاب الأبحاث والمسائل المتبادلة بين المتحاورين في هذه المناظرة بشكلٍ كامل. كما ربما أمكن لنا أن نحتمل بأن الضعف العلمي قد أدّى بالراوي إلى نسيان بعض أهمّ محاور هذه المناظرة، ولم يتمكن من نقلها بشكلٍ صحيح. ومن هنا نلاحظ أنه رغم نقله نصّ عبارات الإنجيل والتوراة في بعض الموارد التي يستند فيها الإمام الرضا×، إلاّ أنه يتجاهل الإحالة في بعض الموارد الأخرى الأكثر أهمّية (من قبيل: ما نجده في بداية المناظرة، حيث يصرّح الإمام الرضا× بوجود اسم النبيّ وأهل بيته في الإنجيل، وعلى الرغم من الأهمّية البالغة لهذه المسألة، إلاّ أنه لم يتمكّن من الإحالة إلى المصدر المشتمل على ذكر هذه الأسماء من الإنجيل). كما أنه يرتكب بعض الأخطاء في نقله لموارد أخرى من التوراة والإنجيل (كما في بيان نسب عيسى×)، ولا نجد له في الكثير من الموارد أثراً في الكتاب المقدّس الراهن.

يبدو أن علينا أن نعزو جميع هذه الإشكالات إلى ضعف الراوي أو الرواة الذين تكفَّلوا بنقل هذه المناظرة الهامّة والخطيرة. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن الإمام الرضا× في نهاية الفقرة الرابعة وبعدها يقيم إجاباتٍ نقضية على القول بألوهية السيد المسيح، ويخاطب الجاثليق بـ «يا يهوديّ»! وهذا الخطأ الفاحش وأمثاله يثبت عدم دقّة الراوي (وهو بالمناسبة مجهول الحال) أو الرواة بعده (ولم يَرِدْ ذكر اسمه في الرواية، وبذلك تكون هذه الرواية مرسلةً بحَسَب المصطلح الروائي)، الأمر الذي يؤدي إلى ضعفها من الناحية العلمية، واضطرابها من الناحية المضمونية، وبالتالي فإن هذا الأمر يثبت عدم اعتبارها.

الهوامش

(*) كاتبٌ وأستاذٌ في الحوزة العلميّة، ومدير حوزة الأطهار في قم. متخصِّصٌ في مجال الأديان الإبراهيميّة.

([1]) انظر: تاريخ ابن خلدون 3: 152 و310 و381، دار الفكر، ط2، بيروت، 1408هـ ـ 1988م.

([2]) انظر: جوستاف لوبون، تمدّن إسلام وعرب: 209 (مترجم إلى اللغة الفارسية).

([3]) ابن النديم، الفهرست: 353.

([4]) سلسلة آثار المؤتمر العالمي الثاني للإمام الرضا× 2: 430 ـ 431 (مقالة مناظرات الإمام التاريخية) (مصدر فارسي).

([5]) انظر: طه حسين، آيينه إسلام: 266، ترجمه إلى الفارسية: الدكتور آيتي.

([6]) وهو اليوم الثامن من شهر ذي الحجة. وهناك مَنْ يحتمل أن اختيار هذا اليوم بالذات كان بداعي حضور أكبر عدد ممكن من العلماء.

([7]) الصدوق، عيون أخبار الرضا× 1: 179.

([8]) المصدر السابق 2: 156.

([9]) انظر: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، سلسلة آثار المؤتمر العالمي الثاني للإمام الرضا× 1: 438 ـ 439 (مقالة مناظرات تاريخي إمام) (مصدر فارسي).

([10]) الجاثليق لفظ يوناني لكبير علماء النصارى في العالم الإسلامي، وكان يتمّ تعيينه من قبل البطريركية الأنطاكية. ويبدو أن الجاثليق معرّب لـ (كاثوليك).

([11]) رأس الجالوت معرَّب (راش جالوتا)، وهو لقبٌ خاصّ بعلماء وكبار اليهود.

([12]) هربز الأكبر لقب خاصّ بكبير الزرادشتيين، ويعني القائد والزعيم الديني الأكبر.

([13]) من علماء الصابئة، وهي فرقة تنتسب إلى يحيى بن زكريا. ولا يزال هناك بقيةٌ منهم تعيش في الأهواز والمناطق الجنوبية من العراق.

([14]) انظر: الصدوق، عيون أخبار الرضا× 2: 230.

([15]) انظر: ابن شهرآشوب المازندراني، المناقب 4: 351؛ المجلسي، بحار الأنوار 10: 349.

([16]) انظر: قطب الدين الراوندي، الخرائج 1: 343؛ المجلسي، بحار الأنوار 49: 75.

([17]) انظر: الراوندي، الخرائج 1: 347؛ المجلسي، بحار الأنوار 49: 77.

([18]) انظر: الراوندي، الخرائج 1: 349؛ المجلسي، بحار الأنوار 49: 79.

([19]) يبدو أن في ذلك إشارة إلى إنجيل متى، الإصحاح الأول، الفقرة 1 ـ 3: (كتاب ميلاد يسوع المسيح بن داوود بن إبراهيم، إبراهيم ولد إسحاق، وإسحاق ولد يعقوب، ويعقوب ولد يهوذا وإخوته، ويهوذا ولد فارص وزارح من ثامار، وفارس ولد حصرون، وحصرون ولد أرام).

([20]) يبدو أنه إشارة إلى سفر التثنية، الإصحاح 18، الفقرة 17 ـ 18: (يقيم لك الربّ إلهك نبياً من وسطك من إخوتك، مثلي له تسمعون… أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلّمهم بكلّ ما أوصيه به).

([21]) يبدو أنه إشارة إلى ما في سفر التثنية، الإصحاح 33، الفقرة 2: (جاء الربّ من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس، وعن يمينه نار شريعة لهم).

([22]) يبدو أنه يشير إلى سفر حبقوق، الإصحاح 3، الفقرة 3 ـ 4: (الله جاء من تيمان، والقدوس من جبل فاران سلاه. جلاله غطّى السماوات، والأرض امتلأت من تسبيحه. وكان لمعان كالنور. له من يده شعاع، وهناك استتار قدرته).

([23]) يبدو أنه إشارة إلى إنجيل يوحنا، الإصحاح 15، الفقرة 26 ـ 27: (ومتى جاء المعزّي الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحقّ الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي. وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معي من الابتداء).

([24]) انظر: رجال الطوسي: 418، باب ذكر الأسماء…، باب الجيم.

([25]) انظر: الصدوق، عيون أخبار الرضا× 1: 154 و179؛ الصدوق، التوحيد: 417 و441.

([26]) انظر: الصدوق، عيون أخبار الرضا× 1: 154 و179؛ الصدوق، التوحيد: 417 و441.

([27]) انظر: الصدوق، عيون أخبار الرضا× 1: 154 و179؛ الصدوق، التوحيد: 417 و441؛ مهج الدعوات: 184.

([28]) انظر: عبد الكريم الخطيب، التفسير القرآني للقرآن 14: 929.

([29]) انظر: عبد القادر ملا حويش آل غازي، بيان المعاني 3: 187، ط1، دمشق ـ سوريا، 1382هـ.

([30]) بالالتفات إلى تاريخ رحيل الإمام الرضا× في عام 203هـ يجب أن تكون تلك المناظرة ـ إذا كان لها من أصل ـ قد حدثت في بداية القرن التاسع للميلاد. المعرِّب.

([31]) المجلسي، بحار الأنوار 14: 335.

([32]) المصدر السابق 29: 79.

([33]) إنجيل متّى، الإصحاح 1، الفقرة 1 ـ 3.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً