أحدث المقالات

شكليّات البحث الفقهي

الشيخ الأسعد بن علي قيدارة(*)

 

 مقدّمة

طغى التوجه الأصولي الكلاسيكي على بحوث الاجتهاد، حتّى غدا الحديث عن مناهج الاستنباط غريباً بين أهل الفن والاختصاص أنفسهم، فما اعتادوا عليه في الفقه والأصول هو دراسة المسائل الفقهية والاستدلال عليها في الفرع الأول، وتنقيح القواعد والمسائل الأصولية في الفرع الثاني.

وتكرَّست النظرة التقليدية لعلم الأصول بما هو ركام من المسائل والقواعد التي يستعين بها الباحث في مقام الاستنباط.

لأجل ذلك كان لا بُدَّ من تقريب مفهوم مناهج الاستنباط، والتأكيد عليه في إطار التوجُّهات الجديدة لتطوير البحث الأصولي، وتحقيق النقلة المنشودة لعلم الأصول من تراكم عشوائي شبه منظّم للمسائل الأصولية إلى منهجٍ متكامل أو مناهج متكاملة للاستنباط.

 

 من أصول الفقه إلى علم مناهج الاستنباط

هذه النقلة تحقّق لعلم أصول الفقه هويته الحقيقية كمنطقٍ لعلم الفقه([1])، والتي للأسف أضاعها في مسار الاستغراق في الجزئيات، والتداخل مع مسائل وأغراض العلوم الأخرى، من كلامٍ وفلسفة ولغة…([2]).

ومناهج الاستنباط الفقهي هي الطرائق المنقّحة والضوابط المنهجية التي يلتزمها الفقيه في مقام استخراج الأحكام، والاستدلال عليها.

وبناء هذه المناهج هي مهمّة علم الأصول الأساسية، إلاّ أنه استغرق في التبرير المنطقي والفلسفي لمقولاته أكثر من تنقيحه لهذه المناهج والطرق.

ففي الأساس إن البحث عن مناهج الاستنباط هو بحث عن المسارات التطبيقية والضوابط المنهجية التي يلتزم بها والقواعد التي يراعيها في بلوغ منظومة الأحكام التي تنظّم حياة الناس، وتحقّق الغاية من وجودهم.

والبحث في مناهج الاستنباط له ثلاثة مستويات:

1ـ المستوى التاريخي.

2ـ المستوى المعرفي.

3ـ المستوى الاستشرافي.

ففي المستوى التاريخي تتمّ دراسة ما عرفته هذه المناهج من تطوّر، وأهم المحطات التاريخية التي مرَّت بها، والمنعرجات الحاسمة التي شهدتها المناهج على مستوى البحث الفقهي والأصولي.

وفي المستوى المعرفي يتمّ تنقيح المفاهيم والقضايا المتعلّقة بالجهاز المعرفي لعملية الاستنباط والمناهج الفقهية والأصولية.

أما المستوى الثالث فيتصدّى في بحث استشرافي لآفاق الاجتهاد، ومستقبليات مناهج الاستنباط، في ضوء التطوُّرات الراهنة والتراكمات التي حصلت في العهود الأخيرة خاصّة.

وهذه المقالة تعالج إحدى مفردات المستوى المعرفي (الثاني)، وهي «شكليات البحث الفقهي».

ويقصد بـ (شكليات البحث الفقهي) ما له علاقة بالجنبة الشكلية في هذا البحث، من تبويب أقسام الفقه، وتخريج للمسائل، وطرق عرضها، واللغة المستخدَمة في تقرير الأحكام.

وننقِّح هذه المفردة «شكليات البحث الفقهي» من خلال العناوين التالية:

أـ أشكال التصنيف الفقهي.

ب ـ لغة الفقه.

ج ـ تبويب الفقه.

د ـ تقنين الفقه.

وقد يتبادر إلى الذهن من مصطلح «شكليات البحث الفقهي» أنها قضايا هامشية، لا علاقة لها بجوهر عملية الاستنباط والاستدلال الفقهي. ولكنَّ هذا التبادر غير دقيق ومردودٌ من عدّة جهات:

أوّلاً: في مناهج البحث العلمي والأكاديمي هناك جانبان أساسيان لا يمكن التخلّي عن أحدهما: الشكل؛ والمضمون. وهذا التمييز بينهما لا يعني بالضرورة تفضيلاً أو ترجيحاً لأحدهما على الآخر، ولا يعني أيضاً الانفصال التامّ بينهما، بل كلاهما في خدمة المعرفة العلمية والوصول إلى الحقيقة، فلاحِظْ ذلك في ما نقح في دراسات مناهج البحث العلمي والأكاديمي!

ثانياً: ثبت بالتجربة أن الضوابط الشكلية في البحوث العلمية والأكاديمية تسهم في تنظيم المعلومات، وتقديمها في قالب يساعد القارئ على استيعابها والإحاطة بتفاصيلها، وبالتالي تُعين في تحقيق أهداف البحث. فمثلاً: الالتزام بشكليات البحث الأكاديمي من جهة التوثيق والترقيم والتهميش…إلخ لا ينعكس فقط على جمالية البحث، وحسن تنظيمه وتبويبه، بل يصون هذا الالتزام النتائج من الضياع، ويساعد على إيصالها للقارئ في أفضل صورةٍ ممكنة.

ثالثاً: إن عنوان لغة الفقه وتقنين الفقه يرتبطان جوهرياً ومباشرة بمناهج الاستنباط؛ لأنّهما يتعلَّقان بالأحكام في مرحلة تقرير الحكم. فللحكم ـ كما هو معلوم ـ أربع مراحل:

1ـ مرحلة الخطاب.

2ـ مرحلة الاستدلال.

3ـ مرحلة تقرير الحكم.

4ـ مرحلة الامتثال.

ففي مرحلة التقرير يصوغ الفقيه هذه الفتوى التي يعبِّر عنها بحكمٍ صريح أو احتياط.

وأما العنوانان الآخران: (أشكال التصنيف) و(تقسيم أبواب الفقه)، فهما وإنْ كانا لا يرتبطان مباشرةً بالاستدلال على الحكم وتقريره، إلاّ أنهما يتعلقان في النهاية بطريقة عرض الأبواب الفقهية، وتنظيم المعرفة الفقهية، وترتبطان بمناهج الاستنباط بطريقة غير مباشرة.

فالأشكال التصنيفية مهمّة؛ لأنها تحدِّد بدقّة نوع الدراسة الفقهية التي يتصدّى لها الباحث، ومستوى المعرفة الفقهية التي يتعاطى معها.

وطرائق التبويب في الواقع تعكس ذهنيّة الفقيه، ورؤيته لعلاقة الفقه بالواقع وبالحياة، وما هي المجالات التي يجب على الفقه أن يخوض فيها؟…إلخ. وهي في الأخير تعكس جانباً من المنهج الاستنباطي للفقيه.

 

أولاً: أشكال التصنيف الفقهي

في كل المجالات العلمية تتنوَّع مستويات عرض المعرفة، وكذلك أشكالها، بتنوع أغراض الباحث وغاياته، وتنوُّع المستويات العلمية للذين يتَّجه إليهم البحث.

ومن هنا ترى أنّه في كلّ العلوم يتنوّع التصنيف، ويتَّخذ صوراً عديدة يتشكَّل من خلالها المضمون العلمي.

ولا يشذّ الفقه عن سائر العلوم، فنرى التأليف يتَّخذ أشكالاً متعددة: مسائل، فقه استدلالي، فقه مقارن، قواعد فقهية…إلخ.

ويمكن أن نؤكد على بعدين أساسيين في تنوُّع الأشكال التصنيفية:

1ـ البعد البحثي.

2ـ البعد التعليمي.

ففي البُعْد البحثي:

1ـ يعكس الشكل التصنيفي الوجهة التي أولاها الباحث اهتمامه، وزاوية البحث التي ركز عليها. كما يكشف الشكل التصنيفي الجانب المعرفي الذي أراد أن يعمل فيه، وطبيعية الإضافات العلمية التي يريد أن يدوِّنها. فمَنْ يصنِّف في الفقه الاستدلالي تختلف غاياته عمَّنْ يكتب في قواعد الفقه، أو في فقه القرآن،…إلخ.

2ـ إن عدم إحاطة الباحث بأشكال التصنيف العلمي في أيّ مجال يعدّ نقصاً في التخصُّص. فالاختصاص العلمي في مجالٍ ما، وبلوغ الدرجات القصوى في هذا التخصُّص، يستوجبان امتلاك ناصية المعرفة في كلّ أشكالها بهذا المجال.

فمثلاً: إذا لم يكن هذا الباحث على اطلاع بما صنف في مجال الفقه من أعمال موسوعية أو معاجم فقهية سيفوِّت على نفسه فرصة الاستفادة من هذه الجهود العلمية المبذولة في تنظيم المعرفة الفقهية، وبالتالي سيهدر جهوداً كبيرة كان في غنى عنها لو استفاد من تلك الأعمال.

3ـ إن الشكل التصنيفي يعكس أحياناً وعي الباحث، ومدى اهتمامه بالمعرفة التخصصية في هذا المجال، والتفاته إلى مواطن النقص والجوانب التي تحتاجها الساحة من مؤلَّفات وأولويات الساحة. ففي الفقه ـ مثلاً ـ هو يدرك جيداً هل الأولوية لدراسة الفقه المقارن، أم للدراسة القانونية المقارنة، أم أن المعاجم الفقهية تشكِّل أولوية خاصة؟!

وربما امتلك بعض الباحثين من بُعْد النظر ودقّة البصيرة ما يدفعه إلى ابتكار أشكال تصنيفية جديدة لم يسبقه إليها أحد، وهذا قطعاً يطوِّر المعرفة الفقهية ومناهج البحث الفقهي.

أما في البُعْد الثاني (التعليمي) فهناك قضايا لا بُدَّ من الإشارة إليها:

1ـ الإهمال الكبير في دائرة التعليم الديني لهذا الموضوع، وعدم الاهتمام بأشكال التأليف والتصنيف وأنواعه ومجالاته. وقد قاد هذا الإهمال إلى أخطاء على مستوى مناهج التدريس. ففي الغالب يقصر التكوين العلمي للطالب في الفقه مثلاً على دراسة المسائل في مرحلة المقدّمات، والاستدلال في مرحلة السطوح، وهكذا اختزلت المعرفة الفقهية في المسائل مجرّدة، أو مع الدليل.

وهذا من الأخطاء الشائعة المطَّردة في المناهج الحوزوية وجامعات التعليم الديني، التي تعكس انطباعاً خاطئاً؛ بتضييعها للأضلاع المعرفية الأخرى للعلم: لغة العلم، المباني، المصطلحات، التصنيفات، المناهج([3])،…إلخ.

2ـ عدم التمييز بين المعرفة العلمية والمعرفة المدرسية، حيث يتمسك بالمتون القديمة كأساس في بناء الطالب، وهم في غفلة أن غرض العالِم يختلف عن غرض المدرِّس أو المعلِّم. والمقرَّر الدراسي لا ينفع أن يكون كتاباً علمياً صنَّفه صاحبه لعرض آرائه وتنقيح نتائج بحثه. كما أنه من غير المنطقي أن يكون الكتاب التعليمي منتزعاً من تاريخ العلم. فالكتاب المدرسي له خصوصياته التي تميِّزه عن غيره، في طريقة عرضه ولغته وتقسيمه وتبويبه للمباحث،…إلخ.

وهذا الخلط بين المعرفة العلمية والمعرفة المدرسية([4]) ناشئٌ من أسباب عدة، أهمها: عدم إيلاء تنوّع أشكال التصنيف الأهمّية التي يستحقّها في بناء الطالب، وإعداد المدرِّس أيضاً.

ومن الكتاب القلائل الذين اهتمّوا بهذا الجانب الدكتور عبد الهادي الفضلي&، فقد بحث هذا الموضوع في معرض حديثه عن مراجع الفقه الجعفري، لكنَّه اكتفى بإيراد خمسة أشكال تصنيفية:

أـ آيات الأحكام (فقه القرآن).

ب ـ أحاديث الأحكام (فقه الحديث).

ج ـ المراجع في الفتوى (المتون والرسائل العملية).

د ـ الفقه الاستدلالي.

هـ ـ الفقه الخلافي.

وساق تحت كلّ صنف عناوين كثيرة([5]).

وهناك أشكال تصنيفية أخرى لم يذكرها الدكتور الفضلي، لكنَّها مهمة، ولها مصاديق كثيرة في المكتبة الفقهية العامّة والخاصة. ولكننا؛ رَوْماً للاقتصار، نكتفي بذكر الأشكال فقط، دون النماذج.

ـ الأصول الفقهية: كتب الحديث المدوَّنة في حياة الأئمّة المتعلِّقة بالفقه والأحكام.

ـ المجلات والدوريّات الفقهية التخصُّصية.

ـ الموسوعات الفقهية.

ـ المعاجم الفقهية.

ـ الدراسات المقارنة (بين الفقه والقانون).

ـ تاريخ الفقه وطبقات الفقهاء.

ـ البيبليوغرافيا الفقهية.

ـ بحوث علم الاجتهاد([6]).

ـ كتب الاستفتاءات والحوارات الفقهية.

ـ التقريرات العلمية (تقريرات البحث الخارج).

ـ الكتب والمصنَّفات المدرسية: التي أعدَّت للمنهاج المدرسي في مختلف مراحل الدراسات الشرعية.

ـ المؤتمرات الفقهية.

 

ثانياً: لغة الفقه

لغة العلم ركنٌ أساس من أركان البحث، فهي القناة التي نبثّ عبرها أفكارنا إلى الآخر، وهي قبل ذلك التشكُّل الوجودي لرؤانا بدرجته من درجات التحقُّق.

ولغة أيّ علم لا بُدَّ أن تتناغم مع عصرها، مع مستوى المخاطب، مع المنهج وطرائق البحث، مع طبيعة الموضوعات ومجالاتها. وباختصار لا يمكن أن تنفصل اللغة عن تحوُّلات الزمان والمكان، وعن التطوُّرات المعرفيّة التي شهدها العلم.

إلاّ أنّ المتفحِّص في اللغة الفقهية يلاحظ أن اللغة في هذا المجال ظلَّت أسيرة الذهنية التقليدية، وسجينة تاريخ الفقه. وهذا أمرٌ طبيعي ما دام الفقه بأكمله لم يشهد تحوُّلاً جوهرياً في مسائله وقضاياه، وظلَّ أسير إشكالات الماضي وأسئلته.

فلغة المصنَّفات الفقهية الحديثة لا تبتعد عن لغة القدامى. ومَنْ له أدنى اطّلاع على الكتب التراثية يسجِّل هيمنة التراكيب والصيغ القديمة على أساليب الكتابة عند الفقهاء المعاصرين وبيانهم.

بل لم تَنْجُ من ذلك الرسائل العملية نفسها، والتي من المفروض أن تكون دليل الناس العاديّين؛ لمعرفة الأحكام وآراء مقلَّديهم.

فهذه الرسائل في الغالب «مطلسمة»، تحتاج إلى قاموس مصطلحات فقهية وأصولية، حيث يقف المتخصِّص في الفقه متحيِّراً إزاء بعض الفتاوى، فكيف بعموم الناس؟!

قد نجد مبرِّراً لهذا التعقيد اللغوي في الدراسات الاجتهادية التخصُّصية؛ لأن أفق البحث في تلك الدراسات يتطلَّب اختزال المعلومات، واستخدام مصطلحات دقيقة، وربما مناقشته نصوصاً تراثية كُتبت بلغة قديمة…، لكننا لا نرى مبرِّراً لذلك في الرسائل العملية وكتب الجمهور، التي تشكِّل محور التثقيف الفقهي الشعبي، وتعمل على الارتقاء بالثقافة الدينية للناس إلى مستويات أعلى. وهذا لن يتحقَّق إلاّ إذا خوطب هؤلاء الناس على قدر عقولهم.

إن عدم استحضار الفقيه في ذهنه، وبدقّة، مقتضيات شكل التصنيف الفقهي الذي يمارسه من جهةٍ، وطبيعة الجمهور الذي يتوجَّه إليه من جهةٍ أخرى، يجعله يستخدم مصطلحات لا صلة لجمهور القرّاء بها، كالأظهر، والأقوى، ولا يخلو من قوّة،…إلخ، مما يرتبط بالنظر الاجتهادي الفقهي، ويوحي بعدم بلوغ الفقيه مرحلة البتّ النهائي في الموضوع.

وقد يستخدم تراكيب توقع القارئ العادي في اشتباهات وأوهام، Sفإنّ قوله: (يستحب كذا وكذا) وقوله: (ذكروا من مستحبّات الصلاة كذا وكذا) لا يفرِّق آحاد الناس بينهما حين يدرجان في رسالةٍ عملية…، ولا يدري أن الصيغة الأولى تعني الإفتاء بالاستحباب، أما الثانية فلا تعني سوى نسبة الاستحباب إلى الفقهاء، دون تبنّيه… وعلى الطريقة نفسها عندما يُسأل الفقيه عن مسألةٍ فيجيب بالإتيان برجاء المطلوبية، ولكنَّه لا ينصّ على عدم الاستحبابR([7]).

ومن تجليات التعقيد استخدام وحدات قياس لا تمتّ لثقافة العصر ووحداته، والغريب إصرار الفقهاء على عدم تحويلها إلى وحدات يفهمها أهل هذا الزمان! فلا تزال معايير الدرهم والدينار والمثقال والفرسخ والكرّ والباع والصاع والوسق والقفيز… مستعملةً، دون تحويلها إلى ما يوازيها في الاستخدامات المعاصرة. ولا تزال الأمثلة أسيرة قوالب الفقه التراثي، فيمثِّلون بركوب الحمار والجمل عوض ركوب السيارة والطائرة…إلخ. وتقرَّب المسافات بغلوة سهم أو سهمين!

 

تبريراتٌ مرفوضة

يبرِّر البعض للفقهاء هذا الانغلاق على الأطر اللغوية القديمة باستغراقهم، ولسنوات طويلة، في دراسة الفقه القديم والمصنَّفات التراثية، وبالتالي فإن ذهنية الفقيه تتشكَّل بطريقة لا شعورية على نمط التراث الفقهي الأصولي، ويصعب التخلُّص من ذلك.

وهذا التبرير وإنْ كان في ظاهره يفسِّر الظاهرة تفسيراً جزئياً، ولكنه في جوهره يعمِّق أزمة العقل الفقهي، ويعطيها بُعْداً آخر، ألا وهو الخلط المريع بين تاريخ الفقه والفقه نفسه. فمَنْ قال: إن دور الفقيه الأساسي أن يستغرق في هذا التاريخ؟! نعم، إن الاجتهاد الفقهي وتكامل المعرفة الفقهية تقتضي قراءة التاريخ، واستيعاب التحولات الكبرى التي حصلت في تاريخ هذا العلم، لكنّ تاريخ الفقه شيءٌ وعلم الفقه شيءٌ آخر. ومصيبة الكثيرين اختزال الفقه في تاريخه.

وقد يبرِّر البعض الآخر الأمر بأن اللغة الفقهية بهذه المتانة والصلابة هي مظهر قوّة تَحُول دون السقوط في حبائل اللغة السائدة في وسائل الإعلام والتعليم والمواد الثقافية المتداولة، التي تعاني من تدنٍّ أدبي في بعض دوائرها.

ولكنّ استبعاد الفقيه لغة الثقافة والتعليم، وعدم الأخذ بتطوُّر الأساليب البيانية والبلاغية، لا يمكن اعتباره عامل قوّة، بل هذا يهدِّد أغراض الفقيه حين تتحوَّل المعرفة الفقهية إلى نصوص لا يفهمها إلاّ الأموات أو الدوائر التخصُّصية الضيِّقة! فالقوّة الحقّة ليست في استعراض الفقيه قدراته البيانية، ولا في السيطرة على الأسلوب الأدبي للتراث الفقهي، بل هي تكمن في قدرة العالم على تكييف المعرفة الفقهية مع ثقافة الناس وأفهامهم.

ويبرِّر فريقٌ ثالث هذا التوجُّه التراثي، ويراه أمراً مطلوباً؛ لأن المعارف الدينية لا بُدَّ أن تكون حِكْراً على فئةٍ معينة يؤول إليها العوام؛ ليستوضحوا ما أُبهم عليهم من معارف وأحكام.

وهذه دعوةٌ صريحة لقيام «إكليروس ديني» يحتكر فهم الدين وشرحه!

 

روّاد تبسيط اللغة الفقهية

ولا تخلو الساحة من روّاد على طريق تجديد اللغة الفقهية، وتبسيطها، وتقريب الثقافة الفقهية إلى مختلف الشرائح الاجتماعية. ومن أهمّ هذه الشخصيات الشيخ محمد جواد مغنية&، الذي واجه حين أصدر كتابه «فقه الإمام الصادق×» طعوناً واتهامات باطلة من بعض الأوساط الحوزوية المنغلقة والمتعصِّبة للغة القدامى ومناهجهم، رغم ما حقَّقه هذا الكتاب من اختراقٍ مهمّ للفقه الإمامي لساحات واسعة من المثقَّفين وغير المتديِّنين، الذين لولا ذلك الكتاب لم تُتَح لهم فرصة الانفتاح على هذه المدرسة الفقهية.

ولكنْ في المقابل ثمَّن بعض العلماء الواعين هذا الكتاب، والنقلة المنهجية التي أحدثها «الفهم الاجتماعي للنصّ»([8]). وهكذا انسجمت لغة الكتاب مع منهج الفهم العرفي في استنطاق النصوص، واعتبر أن الفقه الجعفري حصل من خلال هذا الكتاب المبدع صورة رائعة في الأسلوب والتعبير والبيان.

وعلى مستوى الرسائل العملية تعدّ «الفتاوى الواضحة» من المحاولات الرائدة في تبسيط اللغة الفقهية وتقريبها إلى أوسع قاعدة شعبية ممكنة. ويوضِّح صاحب الفتاوى هذا التوجُّه قائلاً: «فاللغة المستعملة تاريخياً في الرسائل العلمية كانت تتَّسق مع ظروف الأمة السابقة؛ إذ كان قرّاء الرسائل العملية مقصورين غالباً من علماء البلدان وطلبة العلوم المتفقهين؛ لأن الكثرة الكاثرة من أبناء الأمّة لم تكن متعلِّمة، وأما اليوم فقد أصبح عددٌ كبير من أبناء الأمّة قادراً على أن يقرأ، ويفهم ما يقرأ إذا كتب بلغه عصره، وفقاً لأساليب التعبير الحديث، فكان لا بُدَّ للمجتهد المرجِع أن يضع رسالته العملية للمقلِّدين وفقاً لذلك»([9]).

ولا شكَّ أن هذا التوجُّه أصيلٌ، ينسجم مع مقاصد القرآن الكريم، وطريقة الرسول| في التواصل مع الناس، والحديث معهم على قدر أفهامهم.

إن تطويع الفقه للغة العصر عملية تسهِّلها مرونة اللغة العربية، ووفرة مفرداتها ومترادفاتها، وإمكانيّاتها اللامحدودة للتحسين البلاغي والبديعي، ممّا يجعلها دوماً تزداد جمالاً وحيوية وجاذبية.

ولا بُدَّ من التنبيه إلى أن هذا الطرح «لا يدعو إلى استخدام لغة عربية مبتذلة، أو ميل إلى استخدام اللغات العامية المحلّية، فهذا يسيء إلى اللسان العربي، ويزيد الناس بُعْداً عن لغة القرآن الكريم، لغة التنزيل والتشريع، ولكنَّه طموح نحو استخدام المنهج اللغوي الانتقائي، حيث ننتقي من لغتنا الأسهل والأسرع فهماً، وتجنُّب التقعُّر في الكلام والانسجام في المفردات»([10]).

ثالثاً: تبويب الفقه

المسألة الثالثة من شكليات البحث الفقهي ـ كما تقترح هذه الدراسة ـ تتعلق بتبويب الفقه، وطرائق تقسيمه.

فمن المعلوم أن علم الفقه نشأ وترعرع في أحضان علم الحديث، وأنّ المصنَّفات الفقهية انبثقت أساساً من مادة الحديث. هذه القضية تفسر لنا أمرين مهمّين:

أوّلاً: إنّ أصول الأصحاب (أصحاب الأئمة^) كانت مصنَّفات في أبواب فقهية محدَّدة: كتاب الصلاة، كتاب الصيام، كتاب النكاح، كتاب المواريث. وكان الأصحاب في هذه الأصول يدوِّنون الروايات التي جمعوها عن الأئمة^ في هذه الموضوعات.

ثانياً: إنّ المصنَّفات الفقهية القريبة من عصر التشريع (النبيّ|) هي عبارة عن نصوص الأحاديث، وقد أسقطت عنها الأسانيد. وهذا حال الصدوقين مثلاً، «فألَّف لتحقيق هذا المنحى الشيخ عليّ بن بابويه رسالة إلى ابنه محمد الصدوق في الفتوى، والمعروفة بالرسالة وبالشرائع، ملتزماً فيها متن الحديث بلفظه، مع إسقاطه للسند. وعلى هذا المنوال ألَّف ابنه الشيخ الصدوق كتابَيْه (المقنع) و(الهداية)، حتَّى ذكر أن الأقدمين من الفقهاء إذا أعوزتهم النصوص الشرعية رجعوا إلى هذه الكتب»([11]).

وبالتالي لم تظهر مصنَّفات فقهية متكاملة الأجزاء تغطّي كلّ الأبواب، إلاّ في فترة متقدِّمة، مع فقهاء القرن الرابع للهجرة. ومن أوائل الفقهاء الذين جمعوا هذه الكتب، ورتَّبوها على النحو المتعارف، هو حمزة بن عبد العزيز الديلمي، الملقَّب بـ (سلاّر)(483هـ) في كتابه المراسم. فقد قسَّم الفقه إلى قسمة ثنائية: عبادات؛ ومعاملات. والمعاملات بدورها قسمها إلى: عقود؛ وأحكام. والأحكام إلى: جنايات؛ وغير جنايات. وكان مجموع أبواب الفقه عنده أربعة وخمسين باباً. وممّا امتاز به أنه بيَّن طريقة تقسيمه للفقه، وشرح أسس القِسْمة. يقول في مقدمة كتاب المراسم: «إن الرسوم الشرعية تنقسم إلى قسمين: عبادات؛ ومعاملات. فالعبادات تنقسم ستّة أقسام: طهارة، وصلاة، وصوم، وحجّ، واعتكاف، وزكاة؛ والمعاملات تنقسم قسمين: عقود، وأحكام. فالعقود: النكاح وما يتبعه، والبيوع وما يتبعها، والإجارات وأحكامها، والأيمان، والنَّذْر، والعتق، والتدبير، والمكاتبة، والرهون، والوديعة، والعارية، والمزارعة، والمساقاة، والضمانات، والكفالات، والحوالات، والوكالات، والوقوف، والصدقات، والهبات، والوصايا. وإنْ قيل: إن العقود التي هي الأيْمان والنذر إيقاعات دخل معها الطلاق، والعتاق وما في حكمها، وما عدا ذلك أحكامٌ. وهذا القسم يشتمل على كتب شتّى، نبيِّنها عند المصير إليها بعون الله تعالى وقوّته»([12]).

ومن بعده جاء تقسيم صاحب الشرائع المحقِّق الحلّي(676هـ)، الذي يوزِّع الأحكام الشرعية على أربعة أقسام: عبادات، عقود، إيقاعات، أحكام. في حين لم يفصِّل صاحب المراسم بوضوح بين العقود والإيقاعات.

ويحتوي قسم العبادات: الطهارة، الصلاة، الزكاة، الخمس، الصوم، الاعتكاف، الحجّ، العمرة، الجهاد، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ويتضمَّن قسم العقود: التجارة، الرهن، المفلس، الحجر، النكاح، الصلح، الشركة، المضاربة، المزارعة، المساقاة، الوديعة، العارية، الإجارة، الوكالة، الوقف، الصدقات، السكنى، الهبات، السبق والرماية، الوصاية، النكاح.

والإيقاعات: الطلاق، الخلع، المباراة، الظهار، الإيلاء، اللِّعان، العتق، التدبير، المكاتبة، الاستيلاد، الإقرار، الجعالة، الأيمان، النَّذْر.

أما قسم الأحكام فيتضمَّن: الصيد، الذباحة، الأطعمة والأشربة، الغصب، الشفعة، إحياء الموات، اللقطة، الفرائض، القضاء، الشهادات، الحدود والتعزيرات، القصاص، الديات.

ويشرح الشهيد الأول هذا التقسم الرباعي بقوله: ووجه الحصر أن الحكم الشرعي إما أن تكون غايته الآخرة، أو الغرض الأهمّ منه الدنيا. والأول العبادات، والثاني إما أن يحتاج إلى عبارة أو لا. والثاني الأحكام، والأوّل إما ان تكون العبارة فيه من اثنين تحقيقاً أو تقديراً، أو لا. والأول العقود، والثاني الإيقاعات([13]).

ولكنّ المتأخِّرين اكتفوا بتقسيم ثنائي: عبادات؛ ومعاملات، بلحاظ أن عنوان المعاملة يطلق على كلٍّ من الأقسام الثلاثة غير العبادات. فقد سمّى الفقهاء كلّ حكم شرعي يكون الغرض الأهمّ منه الدنيا، سواء لجلب المنفعة أو دفع الضرر، (معاملةً).

ورغم تشعُّب قضايا الحياة المعاصرة؛ نتيجة التطوُّر التقني والعلمي والصناعي، والطفرة المعلوماتية التي شهدها العصر، والثورات العلمية والاجتماعية والتنظيمية التي عرفها، فإن كتب الفقه ومصنَّفاته لم تتجاوز تقييم القدامى لأبواب الفقه، ولم تتخطَّ العناوين القديمة، ولم تدخل سوى تعديلات هامشية لا تؤثِّر بعمق في خريطة الفقه، وفي قسمته.

هذا الأمر عمَّق الهوة بين «الفقه» و«الحياة» ومتطلّبات العصر، بل هيمنت الصيغة القديمة لخريطة الفقه على الرسائل العملية التي كتبها المراجع والمجتهدون لمقلِّديهم، والتي يتوجَّب أن تكون أقرب إلى روح العصر وإيقاعه، إلاّ أنّ أغلب هذه الرسائل ـ وللأسف ـ اعتمدت التقسيم الثنائي التقليدي: عبادات؛ معاملات، وضمّت نفس الأبواب القديمة. وإنما تداركت النقص في أحسن الأحوال بإضافة ملحق بالمسائل المستحدَثة، وهي قضايا جديدة لا وجود لها في كتب الفقه القديمة، ومحلّ ابتلاء المكلف المعاصر، وكأنّ العصر ومشكلاته هو هامشٌ صغير على متن الماضي، الذي يظلّ الأصل والأساس.

ولكنّ هذه القراءة لا تغفل عن بعض المحاولات التجديدية لتقسيم الفقه. ومن أبرز هذه المحاولات ما طرحه الشهيد الصدر في رسالته العملية (الفتاوى الواضحة)، فهو يقول في مقدّمة رسالته: «وقد بدأت في هذه الرسالة العملية بالتقليد، فذكرنا أحكام التقليد، وأحكام الاجتهاد، والاحتياط، وتكلَّمنا بعد ذلك عن التكليف وشروطه، ثمَّ صنَّفنا الأحكام إلى أربعة أقسام:

القسم الأول: العبادات؛ القسم الثاني: الأموال، ويشتمل على الأموال العامة والأموال الخاصّة؛ القسم الثالث: السلوك الخاصّ؛ القسم الرابع: السلوك العامّ»([14]).

فالعبادات تشمل الطهارة والصلاة والصوم والاعتكاف والحجّ والعمرة والكفّارات.

والأموال العامّة يُراد بها كلّ مال مخصَّص لمصلحةٍ عامة، ويدخل ضمنها الزكاة والخمس، اللذان يدرجان عادةً في العبادات. ولكنْ لمّا كان الجانب المالي فيهما أبرز جعلهما الصَّدْر في هذا القسم، ويدخل في الأموال العامة الخراج والأنفال وغير ذلك.

والأموال الخاصّة يُراد بها كلّ مال للأفراد، ووزّع أحكام هذا القسم في بابين:

الأول: الأسباب الشرعية للتملك أو كسب الحقّ الخاصّ، سواء كان المال عيناً أو في الذمّة. ويدخل في هذا الباب: أحكام الإحياء والحيازة والصيد والذباحة والميراث والضمانات والغرامات، بما في ذلك بمقدار الضمان والحوالة والقرض والتأمين…إلخ.

الثاني: أحكام التصرُّف في المال، ويدخل في نطاق ذلك البيع والصلح والشركة والوقف والوصية، وغير ذلك من المعاملات والتصرُّفات.

والسلوك الخاصّ يُراد به كلّ سلوك شخصيّ للفرد، لا يتعلَّق بالمال، ولا يدخل في نطاق العبادات. وهذا سلوكٌ على نوعين:

الأوّل: ما يرتبط بتنظيم علاقات الرجل والمرأة، ويدخل فيه النكاح والطلاق والخلع والمباراة والظهار والإيلاء وغير ذلك.

الثاني: ما يرتبط بتنظيم السلوك الخاصّ في غير مجال العلاقة الزوجية، ويدخل فيه أحكام الأطعمة والأشربة والملابس والمساكن وآداب المعاشرة وأحكام النَّذْر واليمين والصيد والذباحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من الأحكام والمحرَّمات والواجبات.

والسلوك العامّ يُراد به سلوك وليّ الأمر في مجالات الحكم والقضاء والحرب ومختلف العلاقات الدولية، ويدخل فيه أحكام الولاية العامّة والقضاء والشهادات والحدود والجهاد وغير ذلك.

وشكَّل هذا التقسيم خطوة إلى الأمام في التبويب، تخطَّت الذهنية التقليدية، التي تجعل أكبر همِّها الأساس المنطقي في القسمة، بينما المطلوب مراعاته طبيعة الموضوع ومتطلّبات الحياة، وإلى أيّ مدى يغطّي هذا التقسيم جميع مفاصل الحياة.

ولكنّه لن يكون آخر المطاف. فمع تراكم محاولات التجديد في تقسيم الفقه أضحى الباحثون يدركون ضرورة مراعاة الحاجة إلى استيعاب الأحكام الشرعية مختلف مجالات الحياة و تشعُّباتها.

ومن هنا اقترح الدكتور عبد الهادي الفضلي& في كتابه دروس في فقه الإمامية تقسيماً آخر([15]):

أوّلاً: أحكام العبادات: ويندرج فيه: الطهارة، الصلاة، الصوم،…إلخ.

ثانياً: الأحكام الفردية: ويندرج فيها أمثال: أحكام التكلُّم، أحكام الاستماع، أحكام القراءة، أحكام اللباس، أحكام الزينة، الرياضة البدنية، أحكام النظر، أحكام الأكل والشرب، أحكام السكن، أحكام الالتزامات (النذر والعهد واليمين)….

ثالثاً: أحكام الأسرة: ويدخل فيها أمثال: الزواج، الطلاق، الخلع، المباراة، الظهار، الإيلاء، اللعان، الرضاع، الحضانة، التربية، النفقة، الولاية، الميراث.

رابعاً: الأحكام الاجتماعية: ويدخل فيها أمثال: الرقابة الاجتماعية (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، التكافل الاجتماعي، الأمور الحسبية من قبل عدول المؤمنين، المنشآت الاجتماعية الخيرية،…إلخ.

خامساً: أحكام الدولة: وفيه أمثال: رئاسة الدولة، الجهاز الحكومي، أجهزة الإدارة المحلية، الوظائف الاجتماعية للدولة، الدفاع، الجهاد،…إلخ.

سادساً: الحقوق المالية العامّة: أمثال الزكاة، الخمس، الكفّارات المالية، الصدقات العامّة، الأوقاف العامّة، ردّ المظالم، النذور المالية، التبرُّعات الخيرية، الأنفال، الخراج.

سابعاً: المعاملات الاقتصادية: التجارة، الزراعة، الصناعة، الملكية، الصرافة والمصارف، (البنوك) الشركات، المضاربة، القرض، الحوالة، الكفالة، الإجارة،… إلخ.

وتأثَّرت بعض التقسيمات المقترحة بالاتجاهات القانونية وتقسيماتها، فأدرجت في ضمن أبواب الفقه العناوين القانونية. ومن ذلك:

1ـ ما ذُكر في اقتراح تصنيف موضوعي لمدوّنة الفقه الإسلامي([16]): الشعائر، الأحوال الشخصية، المعاملات المدنية والتجارية، والتشريع الجزائي، نظام الحكم، القضاء والإجراءات والإثبات، الإدارة العامة، وغير ذلك…

2ـ محاولة السيد مصطفوي في كتابه (الأصول العامة لنظام التشريع، دراسة مقارنة بين الشريعة والقانون الوضعي)([17]). فعلى طريقة القانونيين يتحدَّث الباحث عن القانون العام والقانون الخاص في الشرع الإسلامي، ويقول: «يمثل القانون العام الإسلامي القواعد القانونية التي تحكم علاقة الحكم الإسلامي بغيره من الحكومات والدول، وتسمّى بالقانون الدولي العام الإسلامي. والقواعد القانونية التي تنظم العلاقات المتعلِّقة بحقّ الحاكم الإسلامي في المجتمع تسمّى بالقانون الداخلي العامّ الإسلامي، والقانون المالي الإسلامي، والقانون الجنائي الإسلامي، بقسمَيْه: الموضوعي؛ والشكلي»([18]).

ويوزع القانون الخاص الاسلامي إلى ثلاثة عناوين: فقه المعاملات المالية؛ وفقه الأحوال الشخصية؛ وفقه العمل والعامل([19]).

وهكذا تؤكِّد هذه الرؤى المتنوِّعة في تقسيم أبواب الفقه أنّ البحث عن تقسيم محكم للفقه يسهم في تكريس شمولية هذا العلم، ويساعد على تجسيد إحاطته بجميع مفاصلها، ومجاراته لنسق تطوُّرها، لم يتوقَّف ولن يتوقَّف.

 

 رابعاً: تقنين الفقه

المسألة الرابعة والأخيرة في شكليات البحث الفقهي، وإنْ تعلَّقت بصياغة النتاج الفقهي والأحكام الفقهية، لكنَّها ترتبط أيضاً جوهرياً بمسارات تطوُّر البحث الفقهي وضرورات الزمن وحاجة المجتمعات والحكومات إلى نظم تشريعية وقوانين مستوحاة من الفقه الإسلامي، ومنسجمة مع مقاصد الشريعة وأغراضها.

فما هو التقنين؟ وما سرّ الحاجة إليه؟ وما هي مزاياه؟ وما هي عيوبه؟ وما هي آفاق تقنين المادة الفقهية؟ وكيف يؤثِّر تقنين الفقه على مناهج الاستنباط؟

 

 تعريفه

عرف التقنين بأنه: «جمع أحكام المسائل في باب على هيئة مواد مرقمة، يقتصر في المسألة الواحدة على حكم واحد مختار من الآراء المختلفة التي قالها الفقهاء؛ وذلك ليسهل الأمر على القضاة في معرفة الحكم المختار، وتطبيقه وحده على الناس، دون بقية الآراء المخالفة للرأي المختار»([20]).

فالتقنين هو صبّ الفتاوى والأحكام العقلية في قالب مواد قانونية، وترتيبها ترتيباً محكماً، وصياغتها بعباراتٍ دقيقة واضحة، وتبويبها في أبواب وأرقام متسلسلة.

 

 مزاياه وعيوبه

انقسم الباحثون حول التقنين بين مؤيّد ومعارض. برَّر المدافعون موقفهم بذكر مزاياه وإيجابياته، وسلَّط المعارضون الضوء على سلبيّاته ومشاكله.

ومن مزاياه التي أكَّد عليها المؤيِّدون:

أـ سهولة التعرُّف على الأحكام بعد تدوينها في مدوّنة. «وفي هذا فائدة عظيمة للقضاة والمتقاضين وجميع المشتغلين بالقانون، بل وللجمهور؛ ليبني تصرُّفه على معرفة بالقانون الذي يحكم معاملاته»([21]).

ب ـ توحيد الأنظمة الحقوقية والتشريعات في البلد الواحد، وذلك عندما يكتمل إصدار اللوائح القانونية لكلّ فرعٍ من فروع القانون.

ج ـ تحويل الفقه الإسلامي من متون معقَّدة اللفظ والتراكيب وترجيحات وترددات متعدِّدة إلى قولٍ واحد.

د ـ التخفيف من حدّة الاختلافات الفقهية والاجتهادات الكثيرة في التطبيق.

هـ ـ تعميق الوحدة الوطنية والأمن الاجتماعي عندما تطبَّق هذه القوانين في البلد الواحد، وتحول بذلك دون تشرذم الناس وتشتُّتهم واختلال نظام عيشهم.

و ـ تطوير الدراسات الفقهية المقارنة والدراسات الفقهية القانونية المقارنة. فالتقنين يتطلَّب الانفتاح على كلّ المذاهب الفقهية، كما يستوجب المعرفة بالقانون وأساليبه ومصطلحاته وأقسام وفنون صياغته…إلخ.

ولكنّ التقنين لا يخلو من إشكالات تواجهه، ومن ذلك:

1ـ انغلاق بنود القانون على رأيٍ واحد، كما هو مقتضى التقنين، من شأنه أن يؤثِّر سلباً على حيوية الاجتهاد، وخاصّة إذا اعتمدنا على مذهبٍ فقهي واحد، كما هو حال بعض المدوّنات، كمجلّة الأحكام العدلية التي استندَتْ إلى المذهب الحنفي فقط.

2ـ إلزام أتباع المذاهب الأخرى أو مقلِّدي الفقهاء الآخرين برأيٍ خلاف مذهبهم أو مقلَّدهم في مقام العمل.

3ـ الجمود. فإلزام القضاة والناس عموماً بالتحاكم إلى البنود القانونية من شأنه أن يدفع الجميع نحو تقديس هذه البنود، وبالتالي جمودها، وعدم قدرتها على مواكبة تطوّرات المجتمع.

4ـ النقص. وهو ناشئٌ من استحاله إحاطة البنود القانونية بكلّ التفاصيل والوقائع. وقد أثبتت تجارب التقنين أنّها لم تستوعب كلّ مجالات الفقه ودروب الحياة. وسيأتي توضيح ذلك لاحقاً.

5ـ اصطدام التقنين بخصوصية الفقه الإسلامي الذي يتَّسم بالشمولية وتغطية جوانب عديدة في حياة الإنسان: عبادات، أخلاق، أحكام،…إلخ.

6ـ اكتفاء المتمسِّكين بالتقنين بالأحكام والمعاملات، وربما بجزء من الأخلاق، ومن جهةٍ أخرى قد يتوهَّمون أن دائرة الأحكام بالمعنى الأخصّ يمكن تقنينها، وبقطع النظر عن نظام العبادات والمنظومة الأخلاقية في الإسلام، فيكون القانون مشوَّهاً لا يعبِّر عن روح الإسلام وفلسفته.

7ـ خطورة شرعنة القوانين الوضعية. فبعض التجارب التقنينية وسَّعت دائرة «ما لا يخالف الشريعة الإسلامية»، فأضحَتْ تقبل بكلّ القوانين على أساس تلك القاعدة، وتنسبها إلى الشريعة الإسلامية، وتستند في الغالب إلى المصالح المُرْسَلة.

وهكذا تتحوَّل مشاريع التقنين بهذه الطريقة إلى تزويق للقوانين الغربية الفرنسية أو الألمانية أو السويسرية…، وختمها بختم «الشريعة الإسلامية».

إن القوانين الوضعية لها منطوقها، ولكنْ لها روحها، التي يجب أن لا نغفل عنها. ولا بُدَّ في عملية الاستفادة من التجارب القانونية التريُّث والالتفات إلى فلسفة التشريع الإسلامي ومقاصد الشريعة وغايات الخلق ورسالة الإنسان، كما تبيِّنها الرؤية الكونية التوحيدية.

هذه أهمّ العيوب التي ذكرها المعارضون لمبدأ التقنين. وهذه الاعتراضات وإنْ كان بعضها وجيهاً، لكنّ الكثير منها يمكن تجاوزه.

 

ضرورات التقنين

تقود النظرة الفاحصة إلى طبيعة الفقه الإسلامي، وما يتَّسم به من شمولية وواقعية ومرونة من جهةٍ، وما عرفته المجتمعات الإنسانية من تكاملٍ في الوعي وتطور في أنظمة الحياة وطرائق التواصل وأشكال التمدُّن… من جهةٍ أخرى، تقود هذه النظرة إلى حتمية التقنين. فالمسألة تخطَّتْ النقاش هل يجوز أم لا؟ إلى الوجوب والإلزام، كما يرى الشيخ محمد أبو زهرة، الذي يعتقد أن التقصير في هذا الموضوع يؤدّي أن يدخل بلادنا قانون أجنبيّ، لا ينبع من الإسلام، ولا يتَّفق معه([22]).

وتتأكَّد هذه الضرورة بملاحظة القضايا التالية:

أوّلاً: إن التشريع الإسلامي هو قانون للحياة في مختلف دروبها، وبالتالي تتوقف أسلمة الحياة على تدوين النظام الحقوقي العامّ، وعلى تحديد برامج إدارة شؤون الأفراد وشؤون الجماعات استناداً إلى الفقه ومصادره، من نصوص وأطراف وأخلاق وزمان ومكان …إلخ.

ثانياً: التحدّي الحضاري العظيم الذي تواجهه تجارب بعض المجتمعات الإسلامية. ومن ذلك تجربة الدولة الإسلامية في إيران، ومدى قدرتها على تقديم نموذج معاصر لنظام اجتماعي يعتمد على دستور مدوَّن ونظم قانونية تفصيلية تغطّي كل مفاصل الحياة، مستوحاة من جوهر الدين، ومتناغمة مع مصادر تشريعه.

ومن ذلك: ما أفرزته التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها بعض بلاد الوطن العربي، وولوج التيارات الإسلامية غمار السلطة. فهذه التيارات تواجه خطر الفشل في تقديم نموذج أصيل وواقعي من النظم والقوانين، ولن تستطيع أن تقنع الجماهير بما كانت تصنعه في الماضي من رفعٍ لشعارات فضفاضة: «القرآن شريعتنا»، «تطبيق الشريعة الإسلامية»، «القرآن دستورنا»،…إلخ؛ لأنها كانت في موقع المعارضة، أما اليوم فموقع السلطة يفرض عليها أن تقدِّم برامج تفصيلية لتلك الشعارات.

ثالثاً: إن عملية التقنين كفيلة بإعطاء الفقه دفعة قوية هو بأمسّ الحاجة إليها في هذا العصر، ليتخطى الانزواء والانطواء على هامش الحياة والتاريخ، ويقود الحياة والمجتمع، ويشكِّل الإطار المرجعي للعلاقات في كلّ المجالات السياسية والاقتصادية والإدارية والأسرية، وكذلك العلاقات الدولية.

رابعاً: ما تفرضه العلاقات الدولية والعلاقة مع الآخر من قوانين تكون أساس فضّ الخلافات وحلّ النزاعات. فعلى هذا الصعيد لا يمكن التعويل على الفتوى والتغافل عن التقنين.

يقول السيد حسن مرعشي: «نحن لا نستطيع أن نقول للغربيين إذا بدر خلافٌ بيننا وبينهم حول عقد معين: تعالَوْا إلى هذا السيِّد الجالس في قم، واحضروا عنده؛ لأنّنا نتّبع منهج الفتوى، ونستفيد منه. فهل يمكن أن تكون هذه الصيغة عملية أم أن الشيء العملي أن يصار إلى إيجاد مجموعة من القوانين والمقرَّرات العملية تقع مورد قبول الطرفين: نحن؛ وهم»([23]).

خامساً: الترجمة العملية لنظرية ولاية الفقيه، كأهمّ نظرية في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، تمرّ حتماً عبر التقنين وتنظيم هذه الولاية في دروب العلاقات ومجالات الحياة.

 

 تجارب التقنين

عرف تقنين الفقه تجارب عديدة. وربما بحث البعض لهذه التجارب عن جذور تاريخية عميقة، فاعتبر أنّ أمر الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور الإمامَ مالك بن أنس في سنة 163هـ أن يضع كتاباً جامعاً للأحكام يندرج في هذا السياق.

فقد جاء في خطابه «يا أبا عبد الله، ضَعْ هذا العلم ودوِّنْه، ودوِّنْ منه كتاباً، وتجنَّب فيه شدائد عبد الله بن عمر، ورخص عبد الله بن عباس، وشواذّ ابن مسعود. واقصد أواسط الأمور، وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة؛ لحمل الناس إنْ شاء الله على علمك وكتبك، ونبعثها في الأمصار، ونعهد إليهم أن لا يخالفوها، ولا يقضوا بسواها».

والظاهر أن هذا الأمر من الخليفة العباسي صدر من بعد أن نبَّهه بعضهم إلى خطورة الاختلافات العميقة بين الأمصار في الأحكام، ونصحه بتوحيد هذه الأحكام، وإلزام القضاة بها. وهكذا كان كتاب (الموطّأ)، لمالك بن أنس.

ويبدو أن محاولة اعتماد تشريع فقهي موحَّد لم تنجح، وظلّ تعدُّد المرجعيات الفقهية قائماً في الغالب، وإنْ سعَتْ بعض السلطات في التاريخ إلى حصره في مذاهب محدَّدة؛ للحيلولة دون التشتُّت والتشرذم، وحصر مجالات الخلاف والتنوع.

ولكنْ مع تقدُّم الزمان، وتطوُّر النظم والقوانين، ونموّ الخبرات الإنسانية، استشعر المسلمون أهمّية التقنين، فكانت عدّة محاولات:

ـ التقنين الجنائي الهندي سنة 1860م.

ـ مجلّة الأحكام العدلية: وهي من التجارب الرائدة في تقنين الفقه الإسلامي. صدرت بتاريخ 1869م، حيث كلفت الخلافة العثمانية مجموعة من الفقهاء أن ينظِّموا العلاقات المدنية على أساس الفقه الحنفي، وسمِّيت بالمجلة؛ لأنها صدرت بصيغة أبواب متتالية فيما بين سنة 1869 و1876م. وتتألف المجلّة من (1851) مادّة وزِّعت على (160) كتاباً.

ـ مرشد الحيران في معرفة أحوال الإنسان. وقد وضعه العلاّمة قدري باشا المصري، وطبع سنة 1890م، وهو يتعلَّق بالمعاملات.

ـ العدل والإنصاف في مشكلات الأوقاف، وهو من وضع قدري باشا في عام 1833م.

ـ الهبة والحجر الإيصاء والوصية والميراث: وهي أيضاً من وضع قدري باشا.

ـ قانون الأحوال الشخصية في مصر عام 1875م، وهو مستوحى من المذاهب الإسلامية المختلفة.

ـ مجلة الالتزامات والعقود التونسية: صدرت سنة 1906م، وهي محاولة تقنين الفقه المالكي جزئياً.

ـ مجلة الأحكام الشرعية على مذهب أحمد بن حنبل. أعدَّها الشيخ أحمد القاري عام 1346هـ، وتتألَّف من 2382 مادّة، أغلبها في المعاملات.

ولنتحدَّث بشيءٍ من التفصيل عن (مجلّة الأحكام العدلية).

 

 مجلّة الأحكام العدلية

تحتوي 16 كتاباً، وهي البيوع والإجارات والكفالة والحوالة والرهن والأمانات والهبة والغصب والإتلاف والحجر والإكراه والشفعة وأنواع الشركات والوكالة والصلح والإبراء والإقرار والدعوة والبينات والتحليف والقضاء. ووزعت هذه الكتب إلى أربعة وستين باباً. قسِّمت أكثر الأبواب إلى فصول، وبعض الفصول قسِّمت إلى مباحث. كما ضمَّت المجلة بعض الملاحق.

وما تحويه المجلة يقابل القانون المدني والدعاوى والبينات (وسائل الإثبات)، كما تعرَّضت لأصول التقاضي.

خلت المجلة من العبادات، كما أنها لم تتعرَّض للأحوال الشخصية والعقوبات.

ومن المفارقات أن الدولة العثمانية دفعت مشروع مجلة الأحكام العدلية في الوقت الذي بدأت تقتبس من النظم القانونية الأوروبية، وخاصّة الفرنسية، بعض القواعد القانونية تعدِّل بها الأحكام الشرعية، وانتهت بإحلال القوانين الفرنسية محلَّ الشريعة الإسلامية، حيث نقلت عنها قانون العقوبات الذي أصدرته سنه 1840م، وقانون التجارات الصادر سنة 1850م، وقانون الإجراءات المدنية الصادر سنة 1880م.

ولقد ظلَّت مجلّة الأحكام العدلية مطبقة في تركيا إلى سنة 1926م، حين استبدل بها القانون المدني التركي المنقول عن القانون السويسري.

وظلَّت مطبقة إلى فترات أطول في بعض البلاد العربية، كلبنان وسوريا والعراق والأردن.

وكتبت للمجلة شروح عديدة، منها:

ـ مرآة مجلة الأحكام العدلية، تأليف مسعود أفندي التركي. طبع بالأستانة عام 1881م. وهو شرحٌ باللغة العربية على المتن التركي للمجلة.

ـ درر الحكام في شرح مجلة الأحكام. وهو أكبر الشروح. تأليف علي حيدر….

ـ شرح المجلة، للمفتي خالد الأتاسي. طبع عام 1937م. وهو شرحٌ بدأ من أول كتاب البيوع (تاركاً القواعد إلى المادة 1700 من المجلة)، لكنَّ المنية لم تمهله لإتمام بقية المواد، وأتمَّ عمله ابنه محمد طاهر الأتاسي.

كما كتبت شروحٌ خاصّة بقواعد المجلة، ومن ذلك:

ـ شرح الشيخ عبد الستار القسطنطيني(1304هـ)، وقد شرح القواعد الكلية.

ـ شرح الأستاذ أحمد الزرقا الحلبي(1357هـ).

ومن الشروح الهامّة لمجلة الأحكام (تحرير المجلة)، تأليف الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء(1294ـ 1373هـ).

ولنتوقَّف عند هذا الشرح، وأبرز مميِّزاته:

أوّلاً: على ما يبدو هو الشرح الوحيد الذي عرض وجهة نظر المدرسة الإمامية مقارنة مع المذاهب الأخرى.

ثانياً: جودة البيان وسلاسة الأسلوب الذي امتاز به الشيخ في مؤلَّفاته.

ثالثاً: أبان الشيخ فيه متانة الفقه الجعفري ورصانته وقوّة حجّته، مع الالتزام باحترام آراء الآخرين، واتِّباعه الموضوعية في المناقشة وإبداء الملاحظات. وقد أفاد كثيراً في تعميق النقد الفقهي للمجلّة، وأغناها([24]).

رابعاً: عدم اكتفاء الشيخ بالقواعد الكلية التي جاءت في المجلة، بل أضاف ثلاثاً وعشرين قاعدة، وهي وإنْ كانت مبثوثة في كتب فقه الإمامية، إلاّ أن بعض هذه القواعد من مبتكرات الشيخ&.

خامساً: تدارك الشيخ ما فات المجلّة من أحكام الأحوال الشخصية. فقد ألحق بشرح مواد المجلّة موضوع أحكام الأحوال الشخصية. وقد أحاط فيه بعامّة أبواب الأحوال الشخصية على مستوى الفقه الإمامي على الأقلّ.

 

 تقنين الفقه في نظام الجمهوريّة الإسلامية الإيرانية

في تاريخ الفقه الإمامي لا نرصد تجارب كثيرة في تقنين الفقه، وهي في الغالب تعليقات على جهود فقهاء المدارس الأخرى، كما رأينا مع الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء وتحرير مجلة الأحكام العدلية، وكذلك تعليقة السيد إسماعيل الصدر على كتاب التشريع الجنائي الإسلامي لعبد القادر عودة؛ وبعض الصياغات لنصوص قضائية طبق المذهب الجعفري في لبنان، كمحاولة الشيخ محمد جواد مغنية والشيخ عبد الله نعمة….

لكنّ التوجُّه نحو التقنين في هذه المدرسة الفقهية تعمَّق بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران، والتحدِّيات الجدية التي واجهها الفقه الإمامي، والتي فرضها التحوُّل الكبير من فقه الفرد إلى فقه الدولة والمجتمع.

وهذا يؤكِّد أن غياب هذا التوجُّه لم يكن لنقصٍ في فقه الامامية، بل لأسباب تاريخية عاشها هذا الفقه، ممّا أدّى إلى انحساره عن قضايا إدارة المجتمع وتنظيم قوانين الحياة.

وتكمن أهمية هذه التجربة في الإضافة المهمّة لدستور الجمهورية الإسلامية، خاصّة على مستوى القانون الدستوري، وتقنين الأحكام الشرعية التي تنظِّم حقوق الشعب، وتنظِّم السلطات.

فقد نصّ الدستور في مادته الرابعة: «يجب أن تكون الموازين الإسلامية أساس جميع القوانين والقرارات المدنية والجزائية والمالية والاقتصادية والإدارية والثقافية والعسكرية وغيرها. وهذه المادة نافذة على جميع مواد الدستور والقوانين والقرارات الأخرى إطلاقاً وعموماً. ويتولّى الفقهاء في مجلس صيانة الدستور تشخيص ذلك».

وينصّ الدستور([25]) على تركيبة هذا المجلس، أيّ مجلس صيانة الدستور. فهو يتألَّف:

أوّلاً: من ستّة أعضاء من الفقهاء العدول العارفين بمقتضيات العصر وقضايا الساعة. ويختارهم القائد…

ثانياً: ستّة أعضاء من المسلمين من ذوي الاختصاص في مختلف فروع القانون. يرشِّحهم رئيس السلطة القضائية، ويصادق عليهم مجلس الشورى الإسلامي.

وتبيِّن المادّة الرابعة والتسعون آليّة المراقبة وتقرير مدى مطابقة ما يصادق عليه مجلس الشورى مع الموازين الإسلامية ومواد الدستور. وتنصّ المادة السادسة والتسعون أن تحديد عدم تعارض ما يصادق عليه مجلس الشورى مع أحكام الإسلام يتمّ بأغلبية الفقهاء في مجلس صيانة الدستور. أما تحديد عدم التعارض مع مواد الدستور فيتمّ بأكثرية جميع أعضائه.

فإسلامية القوانين لا تقتضي أن تمثل فتاوى جميع الفقهاء «وعدم وجود فتوى مرجع من المراجع لا يعني عدم الشرعية وفقدانها؛ بحكم أن شرعية القانون محرزة من خلال تعيين فقهاء عدول يتحلّون بالإيمان، ولهم وعيٌ بمسائل الزمان والمكان، حيث يقوم هؤلاء بممارسة حقّ الإشراف والنظارة على جميع القوانين التي يسنّها المجلس ويقرِّرها. فقهاء الدستور هؤلاء يُمْضُون من قرارات المجلس ما كان منها مطابقاً للشرع، أمّا ما جاء مخالفاً فيردّ. وهذه الصيغة تجمع ما بين مقتضيات الزمان وموازين الشرع»([26]).

ويؤكِّد الدستور أن القوانين المدوَّنة هي المرجع الأساس في حكم القضاء. ويمكن أن لا تغطي القوانين المدوَّنة أحكام كلّ الدعاوى، ففي هذه الحالة يرجع إلى الفقه الإسلامي والفتاوى المعتبرة. ففي كلّ الأحوال لا بُدَّ للقاضي من البتّ وإصدار الحكم.

تقول المادة السابعة والستّون بعد المائة: «على القاضي أن يسعى لاستخدام حكم كلّ دعوى من القوانين المدوَّنة، فإنْ لم يجد فعليه أن يصدر حكم القضية اعتماداً على المصادر الإسلامية المعتمدة أو الفتاوى المعتبرة. ولا يجوز للقاضي أن يتذرَّع بسكوت أو نقص أو إجمال أو تعارض القوانين المدوَّنة، فيمتنع عن الفصل في الدعوى وإصدار الحكم فيها».

إن جهود التقنين، وفي مختلف مدارس الفقه، لا بُدَّ أن تستمرّ، رغم ما عصف بها في بعض المنعرجات من خطوب من الداخل والخارج، فلقد عمَّقت تراجع النزعات الاستعمارية التي كرَّست مرجعية القانون الغربي، الذي عاد إلى العالم الإسلامي في قوالب جديدة بعد أن استثمر الرصيد الثريّ للفقه الإسلامي.

 

 ماذا بعد شكليّات البحث؟

في الختام نؤكِّد أن «شكليات البحث الفقهي» هي أحد عناوين المستوى المعرفي لمناهج الاستنباط، وليس أبرزها، فهناك عناوين أخرى في هذا المستوى لا تقلّ خطورة، كتنقيح مفهوم الاجتهاد، الثابت والمتغيِّر، الذاتية والموضوعية في الاجتهاد، النصّ والواقع، مقاصد الشريعة وملاك الأحكام….

ولقد أظهرت دراسة هذا العنوان عمق الأسئلة الكبرى التي تطرحها الموضوعات الأربعة لشكليات البحث الفقهي، وأنها تستحقّ أن تولى العناية الكافية… وإنّ إهمالها أو تجاوزها لن ينفع البحث الفقهي، بل قد يضرّه.

ولا تدَّعي الدراسة الإحاطة بكلّ إشكاليات البحث وأسئلته، ولكنها تؤسِّس لمعالجة شاملة للموضوع في نطاق النقلة المنشودة للبحث الأصولي من صيغته التقليدية إلى بحث حقيقي في مناهج الاستنباط، شكلاً ومضموناً. نرجو أن تتضافر جهود الباحثين لتحقيق هذه النقلة، الكفيلة وحدها بالتجديد الحقيقي والبنيوي للفقه ومنظومة الأحكام.

 

الهوامش

________________

(*) باحثٌ متخصِّص في الدراسات الشرعيّة. من تونس.

([1]) استخدم الشهيد الصدر في حلقات الأصول هذا التركيب في مقام بيان علاقة الفقه بالأصول، كما استخدم التركيب نفسه تقريباً د. مهدي فضل الله في عنوان كتابه حول علم الأصول، حيث سماه «الاجتهاد والمنطق الفقهي».

([2]) هناك دعوات كثيرة لتشذيب علم الأصول وتخليصه من الزوائد: انظر مثلاً محاولة السيد محسن الأمين(ر) في «حذف الفضول عن علم الأصول»؛ محاولة السيد عبد الأعلى السبزواري(ر) في «تهذيب الأصول» (مجلدين).

([3]) نقحنا في بحوث الكلام الجديد أنّ الأضلاع المعرفية لأيّ علمٍ تصل إلى اثني عشر ضلعاً، توزَّع على أربع مثلثات.

([4]) التفتت في العقود الأخيرة مؤسَّسات التعليم الديني والحوزات العلمية إلى هذا الخلط، فطفقت تعمل على إعداد مقرَّرات دراسية تقدّم المعرفة الفقهية والأصولية والكلامية…إلخ في شكل مدرسي.

([5]) انظر دروس في فقه الإمامية: 211 ـ 236.

([6]) إدراج هذا العنوان بشكلٍ مستقلّ يعكس توجّهها نحو مزيد من العناية بمباحث الاجتهاد، من حيث جهة تنقيح مضمونه، تراثه، تحصيله، تاريخه، معوّقاته، آفاقه، بما يتجاوز الأفق الذي يحكم هذه البحوث في الفقه الاستدلالي.

وقد يتطور هذا التوجه لتضمن هذه البحوث نواة لعلم قائم بذاته: «علم الاجتهاد».

([7]) حيدر حبّ الله، الاستفتاءات والرسائل العلمية، مجلة الاجتهاد والتجديد، العدد 5: 10، السنة الثانية، شتاء 2007.

([8]) انظر: دراسة الفهم الاجتماعي للنصّ في فقه الإمام الصادق، للشهيد محمد باقر الصدر.

([9]) محمد باقر الصدر، الفتاوى الواضحة: 96، ط8، دار التعارف، بيروت، 1993.

([10]) علي أحمد شريعتي، أزمة التفكير الإسلامي: 102، ط1، دار البشائر، دمشق، 2009.

([11]) عبد الهادي الفضلي، تاريخ التشريع الإسلامي: 238، ط1، دار الكتاب الإسلامي، 2006.

([12]) محسن الحسيني الأميني، المراسم العلوية في الأحكام النبوية: 3، مطبعة أمير، قم، 1414هـ.

([13]) في كتابه القواعد والفوائد.

([14]) الفتاوى الواضحة: 99.

([15]) المصدر السابق: 242، 243.

([16]) جمال الدين عطية ووهبة الزحيلي، تجديد الفقه الإسلامي: 76، ط1، دمشق، دار الفكر، 2002.

([17]) الإصدار رقم 23 من سلسلة الدراسات الحضارية لمركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، ط1، بيروت، 2008.

([18]) المصدر السابق: 31.

([19]) المصدر السابق: 138.

([20]) محمد حسن البنا، التقنين في مجلة الأحكام العدلية، مجلّة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية، المجلد 25، العدد الثاني: 746، 2009م.

([21]) أحمد زكي عبد البرّ، تقنين الفقه الإسلامي: 23، ط2، إدارة إحياء التراث الإسلامي، مصر 1986.

([22]) المصدر السابق: 4.

([23]) مجلة قضايا إسلامية، ندوة حول دور الزمان والمكان في الاجتهاد، العدد 4: 70، 1997.

([24]) محمد حسين كاشف الغطاء، تحرير المجلة: 39 (مقدّمة التحقيق)، ترجمة: محمد الساعدي، ط1، المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، 1432هـ.

([25]) المادة 96 من مواد دستور الجمهورية الإسلامية في إيران.

([26]) المصدر السابق: 70.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً