أحدث المقالات

عرضٌ ونقد في المنهج

الشيخ أحمد بن عبد الجبار السميّن(*)

 

(a)      مقدمة

عرفت الإنسانية العمل الموسوعي قديماً. فمنذ أيام الإغريقيين كانت البدايات الأولى للموسوعات العلمية. ففي «القرن الرابع قبل الميلاد قام أرسطو بمحاولة تُعدّ من أولى المحاولات في التاريخ، حيث جمع المعرفة البشرية الموجودة في زمانه، ووضعها في سلسلة من الكتب، مع أفكاره الخاصة عن كثير من الموضوعات»(1). لذلك أُطلق على أرسطو لقب «أبو الموسوعيين»؛ لريادته العمل الموسوعي.

تتالت بعد ذلك الموسوعات على المستوى العالمي، وصار لكل شعب موسوعته الخاصة، التي يستوعب فيها أكبر مساحة ممكنة من المعرفة البشرية الضخمة.

وكلمة موسوعة (Encyclopedia) «من الكلمات المحدثة في اللغة العربية، وهي مشتقّة من الفعل (وسع)، الذي يدل على الشمول والكثرة…

أمّا كلمة (Encyclopedia) الإنجليزية… فقد جاءت من اللغة اليونانية، وتعني في الأصل التعليم العام المتنوّع الجيّد…»(2).

يمكن تعريف الموسوعة بشكلٍ عامّ ـ كما في الموسوعة العربية العالمية ـ بأنّها: كتاب أو مجموعة من الكتب تشتمل على معلومات عن الناس والأماكن والأحداث والأشياء، مرتّبة ترتيباً ألفبائياً أو موضوعياً(3).

تُنوّع الموسوعات إلى نوعين:

الأول: الموسوعات العامة. وتتناول مجالات كثيرة من مجالات المعرفة.

الثانية: الموسوعات الخاصة. وتدرس مجالاً معيّناً، وتكون متخصصة فيه، وتقدّم معلومات معمّقة حوله(4).

وأحد ألوان الموسوعات الخاصة هو الموسوعات الفقهية، التي أوّل ما عرفها العالم الإسلامي مع موسوعة جمال عبد الناصر(1386هـ)، والموسوعة الفقهية الكويتية (1386هـ)، التي تعتبر الأشهر والأشمل من الموسوعات الفقهية. وصدرت مؤخّراً موسوعة في الفقه الشيعي الاثني عشري، وهي موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت^(1423هـ). والموسوعات الآنفة الذكر تقوم بها وتشرف عليها مؤسَّسات علمية متخصَّصة في الفقه الإسلامي، ما جعلها موسوعات شاملة ومستوعبة للكثير من الموضوعات الفقهية.

هنا سأطالع موسوعة صدرت مؤخَّراً، وهي «موسوعة الآراء الفقهية»، للسيد هاشم السلمان، والتي طبع منها حتى الآن أربعة مجلّدات في بعض موضوعات الحجّ. وقد عُرّفت الموسوعة بأنّها «أسلوب جديد لاستكشاف الآراء الاتفاقية والخلافية والمشهورة عند الإمامية، من القرن الرابع إلى الخامس عشر الهجري».

هذا التعريف للموسوعة اشتمل على ثلاثة مصطلحات لها دورٌ في استنباط الحكم الشرعي، وهي: الآراء الاتفاقية؛ والخلافية؛ والمشهورة.وسأقف معها وقفة سريعة.

1ـ الآراء الاتفاقية والخلافية: يمكن أن توظَّف في بحث الإجماع، على بعض مبانيه، كما إذا بنى الفقيه على أنّ حجية الإجماع لكاشفيته عن رأي المشرّع عن طريق الحدس، فإن للآراء المخالفة دورٌ في نقض الإجماع. فلو اتفق أهل عصر واحد على رأيٍ ما، وخالفهم فيه مَنْ تقدّم عليهم، فإن هذا الإجماع لا يكشف لنا عن أن ما وصل إلى أهل ذلك العصر قد تلقّوه من رئيسهم وإمامهم(5).

وكذلك إذا بُنِي على كاشفية الإجماع عن طريق حساب الاحتمالات، فإن اتفاق آراء الفقهاء المتقدّمين يساعد على كشف الإجماع عن رأي المشرّع، بالإضافة لعوامل أخرى (6).

2.ـ الشهرة: وهي في الفقه الشيعي على ثلاثة أنواع: الشهرة الروائية؛ والشهرة العملية؛ والشهرة الفتوائية. ومن الواضح أن المراد من الشهرة هنا هي ثالث الشهرات، والتي يريد بها علماء الأصول «انتشار الفتوى المعيّنة بين الفقهاء وشيوعها بدرجة دون الإجماع»(7)، من دون أن يكون لهم عليها دليلٌ، ولو كان ضعيفاً.

وقد وقع خلاف بين الأصوليين في حجّية هذه الشهرة، ومدى الاعتماد عليها كمستند للحكم الشرعي؛ فذهب قسم من الفقهاء إلى حجّيتها مطلقاً، ولم يفرّقوا في هذه الشهرة بين كونها قد وقعت بين القدماء من الفقهاء أو غيرهم من المتأخرين؛ ولكن قسماً آخر لم يقبلوا حجّيتها مطلقاً، وفرّق قسم ثالث في الحجيّة بين الشهرة بين القدماء وأصحاب الأئمة، وهذه حجّة، ويُعتمد عليها، وبين الشهرة بين المتأخرين، وقد نفوا عنها الحجّية (8).

(b)     السمات العامة للمنهج

المقصود من كلمة منهج هنا ما يقابلها بالإنجليزية (Method). ويُقصد بها ـ باختصار شديد ـ: طريقة البحث، أو طريقة البحث الموصلة إلى المطلوب(9).

ومنه يمكن إيضاح المنهج أو طريقة البحث الذي سارت عليه الموسوعة؛ للوصول إلى أهدافها التي رُسمت من قبل، بالتالي:

1ـ افتُتحت الموسوعة بثلاث مقدّمات تبيّن منهجها وانتماءها:

   الأولى: مقدّمة تعريفية وتأريخية، تحت عنوان (نظرة في الفقه الإمامي).وقد تناول المؤلف بعض المبادئ التصورية لعلم الفقه، فذكر فيها: تعريف علم الفقه (الفقه في اللغة والاصطلاح، موضوع علم الفقه، فائدة علم الفقه، أدلة الفقه الإمامي)، ونشأته وتطوّره (عصر التشريع، عصر الاجتهاد والتقليد، مراحل تطوّر الفقه الإمامي)، وعملية استنباط الحكم الشرعي (تعريف الاستنباط، مرحلية الاستنباط في الفقه الإمامي، مَنْ هو الفقيه؟، أسباب اختلاف الفقهاء، أثر الآراء الفقهية في عملية الاستنباط)، وتراث الفقه الإمامي (أهمّية حفظ التراث، وسائل حفظ التراث، نماذج من مصادر الفقه الإمامي).

وتبرز ضرورة هذه المقدّمات في إعطاء القارئ تصوّرات حول العلم، وبيئته التي نشأ فيها، والتطوّرات التي طرأت عليه، فهي الخلفية المعرفية لأيّ علم، والتي تلقي بظلالها على معطياته في كثير من الأحيان.

وقد تراجع حضور هذه المبادئ أو المقدّمات في الوسط الفقهي، بعد أن كانت من المقدّمات الأساسية للكثير من المصنَّفات. وكنماذج على ذلك: للقارئ أن يراجع مقدّمات الكتب التالية: ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، للشهيد الأول(786هـ)؛ والمعتبر في شرح المختصر، للمحقِّق الحلّي(676هـ)؛ والأقطاب الفقهية على مذهب الإمامية، لابن أبي جمهور الأحسائي(ق9هـ)، وغيرها.

الثانية: التعريف بالموسوعة. فقد ذكر خمس نقاط تهدف لها الموسوعة، وآليات الاستفادة منها، والمصطلحات والرموز المستعملة فيها.

الثالثة: مقدمات باب الحجّ: تعريف الحجّ (في اللغة والاصطلاح)، ووجوب الحجّ، وبعض ما ورد في فضل الحجّ، وآلية العمل في هذا الباب.

وفي هذه المقدمة ـ أيضاً ـ حدَّد طبقات الفقهاء الذين اعتُمدت آراؤهم في الموسوعة، وقسّمهم إلى ثلاث طبقات، وهو التقسيم المتّبع في الفقه الإمامي:

1ـ طبقة المتقدِّمين: وفيها ثلاثة عشر فقيهاً.وقد امتدّت لقرنين تقريباً، من القرن الرابع الهجري، مع الشيخ الحسن بن أبي عقيل(329هـ)، وحتى نهايات القرن السادس، مع السيد حمزة بن زهرة الحلبيّ(585هـ).

2ـ طبقة المتأخِّرين: وفيها أحد عشر فقيهاً. ومدّتها أربعة قرون، تبدأ من نهايات القرن السادس الهجري عند الشيخ ابن إدريس الحلّي(588هـ)، إلى بدايات القرن العاشر الهجري، عند مفلح بن حسين بن رشيد(900هـ).

3ـ طبقة متأخِّري المتأخِّرين: وفيها ثمانية وثلاثون فقيهاً. وتمتد إلى خمسة قرون، تبدأ من أواسط القرن العاشر الهجري، بالمحقِّق الكركي علي بن الحسين(940هـ)، إلى هذا القرن الخامس عشر الهجري، مع الشيخ محمد أمين زين الدين(1419هـ).

2ـ قُسّمت مادة الموسوعة إلى مجموعة من المسائل، نظير ما هو رائجٌ  في الرسائل العملية. وتُبنى هذه المسائل على إيجاز العبارة، وخلوّها عن أيّ استدلال، فهي تمثل النتيجة النهائية التي يريدها الفقيه.

هكذا نهجت الموسوعة في عرض موضوعات باب الحجّ. فجزؤها الأول مقسّم إلى مقصدين:

المقصد الأول: في مقدّمات الحجّ، وهي: وجوب الحجّ،  وفوريّته، والرفقة.

المقصد الثاني: في شرائط وجوب الحجّ. وقد تناول منها الشرط الأوّل، وهو البلوغ.

والجزء الثاني تناول الشرط الثاني من شروط الحجّ، وهو العقل، والشرط الثالث، وهو الاستطاعة.

والجزء الثالث تضمَّن بيان أحكام عامة في شرط الاستطاعة.

أمّا الجزء الرابع فقد تضمَّن إكمال الأحكام العامة.

في داخل كل عنوان من هذه العناوين يذكر مسائل ذلك العنوان. فمثلاً: في وجوب الحجّ: المسألة 1/1: وجوب الحج مرّة واحدة في العمر(10). وهكذا بقيّة الأجزاء الأربعة التي بلغ عدد مسائلها مائة وثمانية وثلاثون مسألة.

إنّ هذه الطريقة التي اعتمدها المؤلّف في ترتيب موسوعته هي إحدى طريقين لترتيب الموسوعات. وهذه الطريقة قائمة على الترتيب بحسب الموضوعات إلى فصول وأبواب و…، كما هو مألوفٌ في الكتب، ويكون كلّ موضوع في جزء أو مجموعة من الأجزاء.

والطريقة الأخرى الترتيب بحسب الحروف الألفبائية، وذلك باستخراج المصطلحات الأساسية للمادة العلمية، وعرضها ألفبائياً، كما هو مألوف في أغلب الموسوعات. ولعل أهم ما يميِّز الطريقة الثانية عن أختها أنّها أسهل في الوصول إلى المطلوب من المعلومات.

3ـ مدخل المسألة. وفيه يتمّ عرض استدلال مبسَّط للمسألة، بعيداً عن التفصيلات المذكورة في الكتب الفقهية الموسّعة، وكما عبّر المؤلّف: «…بحيث تتجاوز المختصّين، الذين غالباً ما يؤمّون الكتب والموسوعات الفقهية التخصُّصية، لتشمل متوسطي الثقافة الفقهية…»(11). وبهذا تعطي الموسوعة فائدة لأصحاب البدايات الفقهية، في نفس الوقت التي تعطيها لأصحاب التخصُّص الفقهي.

4ـ رصد أوّل من ذكر المسألة في المصادر الفقهية. وهذه ميزة أساسية اهتمّت بها الموسوعة. وهذا يصبّ في تأريخ الموضوعات. ولعلها من الكتب القلائل التي اهتمّت به. فمثلاً: في مسألة استحباب إحجاج الصبي غير المميز والصبية يقول: «تأريخ المسألة: الظاهر أنّ الشيخ الطوسي أوّل من ذكر هذه المسألة»(12).

5ـ سرد آراء الفقهاء في مختلف الطبقات، فيأتي على طبقة المتقدّمين، ويذكر نصوص مَنْ كان له رأيٌ في المسألة، وبعدها يحصي عدد الموافقين وعدد المخالفين، وعدد مَنْ لم يكن له رأيٌ فيها، والنتيجة النهائية في هذه الطبقة. وعلى نفس هذه الطريقة في طبقة المتأخِّرين ومتأخِّري المتأخِّرين.

وبعد ذكر آراء الطبقات الثلاث يخرج بالنتيجة النهائية لمجموع هذه الطبقات: عدد الموافقين، والمخالفين، ومَنْ لم يذكروها، والمتردِّدين فيها، ثم النتيجة النهائية من كل ذلك.

وقد أجادت الموسوعة في أعطاء نتيجة لمجمل الآراء في الطبقات الثلاث، ونتيجة لكل طبقة، حتى يكون الباحث على بيّنة من حركة المسألة عبر الطبقات.

6ـ خُتم كلّ جزء من الأجزاء الأربعة بخلاصة للمسائل، يذكر فيها كل مسألة، والخلاصة النهائية فيها. مثلاً: يقول: «المسألة 3/2: بقاء الفورية إنْ لم يحجّ في العام الأول.

تأريخ المسألة: الظاهر أن الشيخ الطوسي& أوّل من ذكر المسألة.

مجموع الآراء الموافقة تصريحاً: سبعة وثلاثون.

مجموع الذين لم يذكروا المسألة: خمسة وعشرون.

النتيجة النهائية: كلّ من ذكر المسألة ذهب إلى بقاء الفورية إنْ لم يحجّ في العام الأوّل»(13).

7ـ وفي الخاتمة أيضاً ترجم للفقهاء الذين وردت أسماؤهم في كلّ جزء، مرتِّباً ذلك على حروف المعجم.

(c)      وقفات مع الموسوعة

1ـ بدأت الموسوعة بالحجّ، كبابٍ من الأبواب الفقهية، في حين أنّ هذا الباب ـ بحسب التقسيم الفقهي المألوف ـ لا يعدّ الأول من أبواب الفقه.ولم يذكر المؤلِّف لنا سبب هذه البداية، وما هي الخصوصية التي دعته إلى اختيار باب الحجّ الطويل ليفتتح به موسوعته؟!

والظاهر من عنوان الموسوعة «موسوعة الآراء الفقهية» أنّها موسوعة شاملة لكل المادة الفقهية عند الإمامية، ولو كانت خاصّة بموضوع الحجّ فقط لكان من المناسب الإشارة إلى ذلك في العنوان الأساس للموسوعة.

2ـيلاحظ على مقدّمة الموسوعة، التي عُنونت بـ (نظرة في الفقه الإمامي)، أنّها لم تعطِ تصوّراً عن الفقه الإمامي عبر التحليل والمقارنة والاستنتاج، وإنّما كان اعتماد المؤلِّف على تصوّرات آخرين سبقوه، من دون أن تبرز فيها رؤيته الخاصة حول الموضوع المطروح. ولكي تتَّضح الفكرة أكثر وأكثر أذكر بأنموذجٍ لذلك: في تعريفه لعلم الفقه في الاصطلاح، بعد أن عرض التحوُّل الدلالي لكلمة الفقه، نقلاً عن مقدمة تحقيق كتاب تذكرة الفقهاء، جاء بتعريفين لعلم الفقه: أحدهما: تعريف الشيخ المفيد(413هـ) في «المسائل العويصة»، والآخر: للعلاّمة الحلّي(726هـ) في «تحرير الأحكام». واكتفى بعرضهما، دون أيّة دراسة لهما، أو نقدهما، أو تبيان لنقاط قوّتيهما، حتى يعطي التعريف الذي يرتئيه صاحب الموسوعة، أو لا أقلّ الترجيح بين التعريفين اللذين ذكرهما.

ومثال آخر لذلك: في حديثه عن مراحل تطوّر الفقه الإمامي قسَّمه إلى ثمانية أدوار، وهي: تدوين وتأسيس الفقه، والتطوّر بالفقه، والجمود والتقليد، والنهوض، والرشد والنمو، والتصحيح، والاعتدال، والتكامل.

وهذا العرض لتطوُّر الفقه الشيعي ملخَّصٌ عن مقدمة جامع المقاصد، ومقدمة موسوعة طبقات الفقهاء، كما ذكر هو. وهنا يرِد ما قلتُه فيما سابق، وهو خلوّ هذا التلخيص من النقد والتقييم والملاحظة وإعطاء وجهة نظر في تطوّر الفقه عند الإمامية، إضافة إلى ما في هذه العرض من إيجازٍ قد يصل إلى حرمان هذا الفقه الواسع والعميق حقّه من الدراسة والعرض، خصوصاً كتقديم لموسوعة بهذا الحجم والسعة.

3ـ الطريقة التي اعتمدها المؤلّف في عرض المادة الفقهية، وهي الترتيب الموضوعي ـ وهي إحدى طرق ترتيب الموسوعات كما ذكرتُ آنفاً ـ، فيها الكثير من الإيجابيات، إلا أنّها تعتمد على ثقافة القارئ الفقهية، ووضوح الخارطة الفقهية عنده. فليس من السهل على مَنْ لا يمتلك هذا الوضوح معرفة إحدى الجزئيات الفقهية. فمثلاً: حتى يتعرّف القارئ على الآراء الفقهية في (إجزاء حجّ مَنْ استقر عليه الحجّ إذا مات بعد الإحرام ودخول الحرم) ينبغي له أن يكون على معرفة بموقع هذه المسألة في باب الحجّ، وأنّها في شرط الاستطاعة.

فلو أنّ الموسوعة رتّبت ترتيباً ألفبائياً لكان من السهل الوصول إلى المطلوب. وهذا يتمّ ـ بشكل مجمل ـ باستخلاص المصطلحات الأساسية في باب الحجّ وعرض كلّ ما يرتبط بذلك المصطلح من أحكام وآراء.

ولعل السبب الذي حدا الكاتب لاستعمال الترتيب الموضوعي، مع ما ذكرناه من ملاحظة عليه، أنّ الموسوعة دوّنت في أساسها للمتخصِّصين في علم الفقه وأصحاب الثقافة المتوسطة فيه، والذين يستطيعون الاستفادة من الطريقة الموضوعية. نعم يمكن أن يُجمع بين الطريقتين عبر إرداف الموسوعة بفهرست ألفبائي للموضوعات.

4ـ حتى يحصّل المؤلِّف آراء الفقهاء في كل مسألة تعرّض لها كان يأتي بنصّ كلام كل فقيه من كتابه. وقد اعتبرهذا إحدى مميزات موسوعته، حتى يختصر على الباحث الرجوع إلى المصدر الأمّ(14).

لا أجد فائدة من ذكر هذه النصوص؛ لأن غرض الباحث من الموسوعة هو الحصول على نتيجة نهائية للآراء الموافقة والمخالفة والمشهورة بين الفقهاء، ولن يستغني عن الرجوع إلى المصادر الأمّ؛ لمعرفة الاستدلال الذي أوصل الفقيه إلى نتيجته التي ذهب إليها.

فلو اقتصر على ذكر أسماء الموافقين والمخالفين و…، دون ذكر نصوص كلامهم، واكتفى بالإشارة إلى المصدر، حتى يرجع الباحث إلى ما يريد أن يرجع إليه، لكانت أبعد عن التطويل.

هذه هي أبرز المعالم التي قرأتُها في موسوعة الآراء الفقهية، التي نأمل أن يُكتب لها إكمال ما تبقّى من أجزائها؛ خدمة للفقه والفقهاء؛ لتسهم في جلاء شيء من الحقيقة الخافية عنّا.

 

(d)     بقي أن أقول

سيلاحظ المطّلع على مصادر الفقه الشيعي الإمامي الثراء في مادّته. فللتراكمات التي عاشها هذا الفقه دورٌ في تشكيله. فلو أردنا أن نؤرّخ له فسنضطر إلى الرجوع إلى العصر النبوي، حيث تشكّلت نواة بنيته الأساسية، ومن بعده عصر أئمة أهل البيت^، ابتداءً بما روي عن الإمام علي× وانتهاءًبالتوقيعات الصادرة عن الإمام المهدي محمد بن الحسن×، مع التركيز على الفترة الزمنية الأكثر تأثيراً على هذا الفقه، وهي إمامة الصادقين محمد بن علي الباقر وابنه جعفر الصادق‘. وهذا التأثير راجع إلى الظرف السياسي والفكري الذي مرّا به، دون سائر الأئمة. ومن أهم إفرازات هذه المرحلة نشوء الطبقة الأولى من فقهاء هذا الفقه أو هذه المدرسة وهم الرواة المعروفون من أصحاب الأئمة، كزرارة بن أعين، وأبان بن تغلب، وجابر بن يزيد الجعفي، ومحمد بن مسلم الطائفي، وغيرهم، لينفتح بعدها باب فقهاء عصر الغيبتين: الكبرى؛ والصغرى، ويستمر عطاء هذا الفقه حتى يومنا هذا.

هذا الفقه، الذي تكوّن عبر مراحله المتعاقبة، أنتج الكثير من المصادر والمؤلّفات، التي حوت الكثير من الأفكار والرؤى؛ لمعالجة واقع ما يعيشه المسلم في كل حياته. هذا الفقه لم يُتَحْ له الظهور في الأوساط العالمية بصورة علنية، ليطرح بكل جرأة حلوله التي يتبنّاها تجاه ما تعيشه البشرية من مشكلات على الصعد المختلفة، السياسية والاجتماعية الاقتصادية و…. ولعلّ للظروف التي أحاطتبمذهب الإمامية الدور الأساس في انزواء فقهه. وفي اعتقادنا فإن هذه الظروف لم تكن وحدها المانع من ظهور الفقه إلى العلن، بل هناك عوامل أخرى في نفس تكوين هذا الفقه ساعدت على هذا الانزواء، منها: اللغة، والأسلوب، اللذان كُتب بهما الفقه الإسلامي بشكل عامّ. ولعل فقه المذاهب، التي تُبنِّيت من قِبل الحكومات، تجاوز بعض هذه المشكلة؛ لدخول مشرّعين آخرين غير الفقهاء في سَنّ القوانين والأنظمة لإدارة الدولة الحديثة.

قد نجد بعض العذر لهيمنة هذه اللغة والأسلوب على الفقه. فكل المصادر الأساسية لهذا الفقه كُتبت بهما، ومن الطبيعي أن تهيمنا عليه. وليس كل الفقهاء يمتلك القدرة والجرأة على الخروج عن المألوف منهما. ولا أدعو هنا للإعراض بشكل كامل عنهما، فلكلّ علمٍ لغته وأسلوبه الخاصّ به، والذي يعتقد أصحابه أنه الأسلم والأدقّ في إيصال مقاصده. فالاقتصاديون لهم لغتهم وأسلوبهم، والحقوقيون كذلك، والاجتماعيون مثلهم، وغيرهم من أصحاب الفروع المعرفية. والفقهاء ليسوا بدعاً من ذلك، ولكن لأننا نريد أن نطرح فقهنا كمصدر من مصادر التشريع على المستوى العالمي ينبغي لنا طرح الفقه بصورة يستطيع غير الفقهاء التعامل معه. فما الضير في أن تُكتب موسوعة فقهيّة بلغة قانونية توظّف فيها مصطلحاته وتعابيره وأسلوبه، أو بلغة اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو حقوقية وغيرها من الأساليب الحديثة؟! فهذا لن يُخرج الفقه عن فقهيّته، بل سيعزِّز حضوره في الحقول المعرفية الأخرى، التي تلتقي معه في الهدف.

وهنا لا نُغفل بعض التجارب في هذا الميدان، ومنها: تجربة السيد محمد باقر الصدر(1400هـ) في كتابه «اقتصادنا»، الذي استطاع أن يخرج بصورة عن المذهب الاقتصادي في الإسلام؛ وكذلك تجربة الدستور الأساسي للجمهورية الإسلامية في إيران، وهو عبارة عن صياغة قانونية للفقه الشيعي في إدارة الدولة الحديثة؛ وغيرهما من تجارب لا تحضرني الآن.

فرسالة الفقه تتجاوز إدارة الفرد أو الجماعة الضيّقة، لتصل إلى المنافسة الحضارية.

الهوامش

_________________

  • الموسوعة العربية العالمية 24: 436، مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1419هـ.
  • المصدر السابق: 430.
  • المصدر السابق: 429.
  • للتوسُّع لاحظ: الموسوعة العربية العالمية 24: 429 وما بعدها.
  • محمد رضا المظفر، أصول الفقه: 463، تحقيق: عباس الزارعي، مكتب الإعلام الإسلامي، الطبعة الثالثة، 1426هـ.
  • محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول 3: 163، مركز الأبحاث والدراسات التخصُّصية للشهيد الصدر، الطبعة الخامسة، 1428هـ.
  • المصدر نفسه.
  • للمزيد حول هذا الموضوع لاحظ: محمد صنقور، المعجم الأصولي 2: 238 ـ 239، منشورات نقش، الطبعة الثانية، 1426هـ.
  • عبدالهادي الفضلي، أصول البحث: 51، مؤسسة دار الكتاب الإسلامي.
  • هاشم السلمان، موسوعة الآراء الفقهية 1: 67، المؤسسة الإسلامية للبحوث والمعلومات، الطبعة الأولى، 1430هـ.
  • المصدر السابق 1: 74.
  • المصدر السابق 1: 180.
  • المصدر السابق 1: 318.
  • المصدر السابق 1: 46.

(*) أستاذ في الحوزة العلمية، من المملكة العربية السعودية.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً