أحدث المقالات

ترجمة: محمد حسن زراقط

هل ثمة ضرورة لوجود هدف للحياة؟ ولماذا؟ ــــــــ

& هل هناك ضرورة تقضي بأن يكون للحياة الإنسانية هدف؟ ولماذا؟

^ أعواني: أودّ قبل الإجابة عن هذا السؤال وغيره من الأسئلة اللاحقة الوقوف هنيهة عند كلمة «الحياة» لتقديم تصور واضح عن معنى هذه المفردة؛ نظراً لما لهذا التصور الواضح من أهمية في تقديم الجواب عن السؤال الأصلي.

تحمل كلمة «الحياة» معاني عدة يحسن الوقوف عليها ومراجعة كتب اللغة والمعاجم والموسوعات بشأنها، لكن اثنين من معانيها لهما ربط بمحل كلامنا؛ ولذلك سوف نحاول الوقوف عندهما وهما: الحياة بالمعنى البيولوجي أي بمعنى العيش, والآخر الحياة المعنوية التي ينظر فيها إلى معنى ينسجم مع الوجود الإنساني وحقيقته، وهي الحياة التي تكون مسرحاً لتحقيق الكمالات الكامنة في الإنسان التي تخرج من حالة القوة إلى حالة الفعل.

وحول المعنى الأول يشار إلى أن الحياة البيولوجية فيها ما يشترك مع سائر الكائنات الحية، بمعنى أن الإنسان يعيش كما تعيش سائر الحيوانات, لكن جامعية الوجود الإنساني وسعته لا تسمح بمقارنة حياته بحياة الحيوان. من هنا تتنوع هذه الحياة على ضوء كثير من الأمور المكتنفة بها من أنواع الأغذية والأطعمة التي تمثل عمادها المادي, إلى ما ينبت على ضفاف الحياة الإنسانية من علوم ومعارف كل ذلك يضفي على هذه الحياة رونقاً خاصاً يحملها ويسير بها إلى الأمام. وأثر العلوم على أنواعها مشهود عبر التاريخ، وهو في عصرنا هذا أوضح وأكثر جلاء؛ حيث شهد النصف الثاني من القرن العشرين ـ بل قبله بقليل ـ ثورةً علمية صناعية طبعت كل جوانب الحياة بطابع العلم والرفاه ما يسمح لنا بالقول: إن الحياة الإنسانية لا يمكن قياسها ومقارنتها بالحياة الحيوانية وإن اشتركتا في السمة البيولوجية.

المعنى الآخر للحياة هو الحياة المعنوية، والحياة من حيث الأصل الإلهي في وجود الإنسان. وهذا المعنى يختلف كثيراً عن المعنى الأول وهو الذي يحظى باهتمام الأديان والفلسفة والعرفان. ولكل من المعنيين ضدٌّ هو «الموت». فالحياة البيولوجية يقابلها موت الجسد, والحياة المعنوية يقابلها الموت والهلاك المعنويان. وكذلك لكل من هاتين الحياتين بداية وولادة، تبدأ الحياة الجسدية بولادة البدن، وتبدأ الحياة المعنوية بالولادة الثانية للروح؛ وعلى هذا المعنى الأخير يحمل قول النبي عيسى×: «من لم يولد مرتين لن يدخل ملكوت السموات».

بعد هذه المقدمة لا بد من القول في جواب السؤال الأول: إن كلاً من معنيي الحياة يقتضي هدفاً، والتجربة الإنسانية عبر التاريخ شاهد صدق على هذا المدعى, كما أن الحياة المعاصرة تثبت أن الحياة المادية لا تستمر من دون هدف، والحياة المعنوية أكثر احتياجاً لهذا الهدف وأشد اقتضاءً لـه.

لغنهاوزن: أشير قبل تقديم الجواب إلى أنّ عنوان اقتراحكم مضلّل إلى حد ما؛ لأنه يساوي بين هدف الحياة ومعناها، ولا شك في وجود فرق بين المعنيين؛ فعندما نتحدث عن الهدف ننظر إلى الحياة نظرة غائية, ولأجل تحقيق هذا الأمر لابد من البحث حول الإنسان، ويعد ذلك نستطيع تحديد غايته. ولنفترض أن غاية الإنسان هي اكتساب الكمال وهنا يمكن البحث حول طبيعة هذه الكمالات وتحديد ماهيتها ومدى قدرة الإنسان على الوصول إليها، ونتعرف بعد ذلك على قدرة كل من العقل والفلسفة والأدلة النقلية على تحديدها. وعلى أي حال ما أدعيه هو أن هناك فرقاً كبيراً بين سؤال: هل للحياة الإنسانية غاية وهدف؟ وسؤال: ما هو معنى الحياة (The Meaning of Life)؟

على الأقل حسب ما أعرفه من اللغات الأوروبية؛ ليكون للحياة معنى لابد أولاً من معرفة معناها, ولكن لا تشترط المعرفة بالهدف والغاية ليكون للحياة غاية وهدفاً. فالغاية أمر واقعي حقيقي مستقل عن الذهن وثابت سواء وجد ذهن يعقله ويدركه أم لم يوجد، وليس المعنى كذلك بل هو مرتهن بوعي الإنسان لـه. بل إن الفرق بين الهدف والمعنى أعمق من ذلك بكثير, بمعنى أننا لا يمكننا القول: إذا فهم أحدهم هدف الحياة وعرفه فإن حياته تصبح ذات معنى. ومن جهة أخرى يتوقف معنى الحياة على ربط أقسام الحياة وأجزائها ببعضها كما ترتبط أجزاء القصة الواحدة. كما يمكن القول من دون تردد: ليس كل من يقرأ رواية تكون بالنسبة لـه ذات معنى، فربما يقرأها ولا يفهم معناها فتبدو لـه مملّةً مضجرة. والحياة كذلك أيضاً، حتى تكون حياة شخص ما ذات معنى لابد من أن يفهم هذه الحياة في سطوحها ومستوياتها المتعددة وعليه أن يفهم دوره في العائلة والمجتمع ودوره في الجماعة الدينية التي ينتمي إليها. ويظهر معنى الحياة عندما لا نفكّك هذه السطوح والمستويات بعضها عن بعضها الآخر؛ وذلك لأن لكل منها تأثيره في غيره وارتباطه به.

وعلى أي حال وبناءً على ما تقدم كله نقول: إذا كان المراد من كون الحياة ذات هدف هو كونها ذات غاية، فيكون ذلك تعبيراً آخر عمّا يسمى في الفكر الإسلامي «لقاء الله». وأما إذا كان المراد من الهدف هو معنى الحياة، فلا شك في أن كثيراً من الناس لا يفقهون لحياتهم معنى, ولا يربطون بين مستويات حياتهم وسطوحها؛ وعليه فربما يكون لأحدهم هدف من حياته هو جمع المال والكدّ في تحصيله، لكن لا يضفي هذا الهدف على الحياة الروحية معنى؛ ولذلك نجد مثل هذا الشخص ضَجِراً يشعر بالخواء والفراغ ولا يروي المال لصحراء روحه القاحلة عطشاً.

ملكيان: إذا كان المراد من «اللزوم» في السؤال هو الضرورة المنطقية فليس من الضروري بالمعنى المنطقي أن يكون للحياة الإنسانية هدف، سواء في ذلك الحياة بالمعنى الفردي أو الحياة بمعنى طريقة العيش؛ وذلك لأن مفهوم الحياة غير الهادفة ليس مفهوماً متهافتاً أو مشتملاً على تناقض. وإذا كان المراد من «اللزوم» معناه الأخلاقي فإن فلاسفة الأخلاق لهم جوابان مختلفان بعضهم يثبت وبعضهم لا يرى ذلك أمراً لازماً. وأنا أعتقد أيضاً أن الجواب هو النفي؛ فإنه لم يقم أيّ دليل يثبت أنّ على الإنسان ـ بحكم الأخلاق ـ أن يجعل حياته في خدمة هدف محدّد (هذا إذا فرضنا إمكان ارتهان الحياة لهدف واحد). وإذا كان السؤال يرمي إلى شيء آخر وهو: أليس من الأسلم على المستوى النفسي والروحي أن يكون للحياة هدف واضح؟ فإن الجواب هو بالإيجاب؛ لأنه من المحتمل أن الأنسب بالصحة النفسية والسلامة الروحية أن يكون للحياة هدف كبير وغاية قصوى.

وعلى أي حال، سواء أجبنا بالإيجاب أم بالنفي عن السؤال حول هادفية الحياة, لابد من الحذر في تحديد مفهوم «الحياة» كي لا نقع في الاشتباه المقولي category mistake كما يسميه جيلبرت ريل Gilbert Ryle؛ أي علينا أن نبحث في مفهوم “الحياة” بحد ذاته لنحدّد إلى أي مقولة من المقولات ينتمي، حيث لا شك في أن “الحياة” ليست من المقولات الشخصية Individual Things أو بحسب أرسطو ليست من الجواهر Substances, وليست كذلك من الخواص والمقولات الخاصة Properties. ولكن هل هي من الأمور النسبية relations أو من الوقائع Events, أو من مقولة الوضع والحال States of Affairs أو من المقولات الكمية Aggregates…؟ هل الحياة من المفاهيم الاعتبارية التي تطلق على مجموعة من الحالات States أو مجموعة من الأفعال Acts أو مجموعة من الروابط والعلاقات Relation ships؟ وهكذا يظهر أن المعرفة الدقيقة والواضحة بهذه المقولات وبعد ذلك تحديد موقع الحياة من ناحية وجودية أنطولوجية, يسمح لنا بتقديم جواب واضح ودقيق للسؤال.

وكذلك, لا بد من تحديد المراد من الحياة: فهل المراد هو الحياة الإنسانية وغير الإنسانية, أم الحياة الإنسانية وحدها, أم حياة فرد خاص بعينه؟

وأخيراً, لا ينبغي الغفلة عن أن الحياة ـ كائنة ما كانت ـ ليست كائناً واعياً ذا علم وإرادة حتى يكون لها هدف؛ وبناء عليه فهل المراد هو «هدف الحياة» أو «هدف الكائن الحي» أو هدف الله من خلقه الحياة أو هدفه من منحه الحياة للأفراد الأحياء.

 

هل هدف الحياة أمر يكتشفه الإنسان أم يخترعه؟ ــــــــ

& هل يمكن اكتشاف الهدف من الحياة أم لا بد من وضعه واختراعه؟ وبعبارة أخرى الإنسان يكتشف المعنى ويفهمه أم يجعله؟

^ لغنهاوزن: إذا كان المراد من الهدف هو الغاية الواقعية للحياة الإنسانية، فمن الواضح أن هذا أمر يُكتشف وليس أمراً قابلاً للجعل. ولكن حتى تكتسب الحياة الخاصة معناها لابد من وضع الهدف المكتشف نصب العين, وعليه فليس دور الإنسان في اكتشافه لهدف الحياة انفعالياً محضاً, ويبرز التأثير الإنساني في تحديد معنى الحياة عندما نسأل: هل الإنسان يكتشف الهدف أم يجعله ويخترعه؟ أضف إلى ذلك أن الهدف شيء والمعنى شيء آخر، ولابد من العثور عليه. وينبغي أن يكون للمعنى أهمية أكثر من الخيار الشخصي المحض, فعندما نطالع كتاباً ونشعر بأن المعنى الذي أدركناه من الكتاب هو ذلك المعنى الذي أضفيناه نحن على الكتاب, عندها لا يمكننا القول بصدق: إننا فهمنا الكتاب كما هو. والكلام عينه يقال عن الحياة؛ فإنها تصبح ذات معنى عندما لا يكون هذا المعنى مخترعاً ومجعولاً.

ملكيان: الجواب عن هذا السؤال مرتبط بمرادنا من مفهوم “هدف الحياة”؛

1 ـ فإذا آمنّا بأن الوجود الإلهي وجود شخصي Individuated, عندها يمكن القول: لابد من وجود هدف دفع الله لمنح الحياة. بناء على هذا الفرض يكون هدف الحياة أمراً اكتشافياً؛ أي لهذا الهدف وجود متحقق منفصل عن الذهن يمكن اكتشافه سواء وفقنا لذلك أم لم يسعفنا الحظ لاكتشافه. وبعبارة أخرى: إن الهدف أمر قابل للكشف بالقوة سواء اكتشف أم لم يكتشف, على أي حال ليس بوسع الإنسان جعله واختراعه.

2 ـ لكن إذا لم نؤمن بوجود الله أو آمنا بوجوده ولكن لم نعتقد بأنه وجود شخصي أو آمنا بشخصانيته ولكن لم نؤنسنه, ففي الحالات الثلاث هذه لا مجال للحديث عن هدف من خلق الحياة فضلاً عن الحديث حول قابلية هذا الهدف للاكتشاف أو الجعل.

3 ـ وإذا كان المراد من «هدف الحياة» هو هدف صاحب الحياة والكائن الحي, في هذه الحالة أظن أن هذا الكائن الحي إذا كان يؤمن بوجود إلهي متشخص مؤنسن خالق للحياة, وكذلك إذا كان يؤمن بوجوب التطابق بين هدفه من الحياة وهدف الخالق من خلقها, ففي هذه الحالة وعند اجتماع هذه الشروط يكون هدف الحياة أمراً جعلياً لا اكتشافياً. وكذلك إذا فقدت جميع هذه الشروط فلن يكون الهدف قابلاً للاكتشاف بل لابد للإنسان من اختراع هدف يسعى نحوه ويصبو إليه.

4 ـ هذا, ولكن إذا اعتقدنا بأن الحياة لها معنى يكتشف فلابد من تحديد المصادر المساعدة في هذا الاكتشاف، هل هي الكتب الدينية أم قوى الإدراك الإنساني المعروفة؟ وكذلك إذا آمنّا بأن معنى الحياة هو أمر يخلقه الإنسان ويضفيه على الحياة، فلابد كذلك من تحديد طرائق إضفاء هذا المعنى على الحياة, وعلى أيّ حال فهذا أمر آخر لا يبدو أن سؤالكم يصوّب نحوه.

5 ـ وإذا كان المراد من «هدف الحياة» هو الأمر الذي يجعله الكائن الحي هدفاً لحياته، ففي هذه الحالة لابد من الإقرار والإيمان بأنه أمر اكتشافي وإذا كان من يحاول اكتشافه هو الشخص نفسه فطريقة الاكتشاف هي التحليل الذاتي Self-analysis والاستبطان Introspection.

6 ـ وإذا كان المقصود هو اكتشاف هدف الآخرين من حياتهم فالطريقة هي المشاهدة والتجربة وفي الحالين لا بد من اعتماد المنهج التجريبي.

في جميع الحالات التي يكون البحث فيها عن هدف صاحب الحياة من حياته, سواء في ذلك الهدف الكائن أم الهدف الذي ينبغي أن يكون, في جميع هذه الحالات لابد من الالتفات إلى أمر في غاية الأهمية وهو تحديد صاحب الهدف، هل هو هدف أجزاء الحياة وأبعادها أم الحياة بنحو كلي عام؟ وبعبارة أخرى: هل يمكن التفكيك بين الأهداف المتعددة لأجزاء الحياة الإنسانية وهدف الحياة ككل, أم أنّ هدف الحياة ككل هو هدف الأجزاء مجتمعة؟ وما يدفعني إلى هذا التساؤل هو الالتفات إلى أن الحياة ـ ضمن أي مقولة اندرجت ـ هي من الأمور ذات الامتداد. أضف إلى ذلك أن الحياة ليست مفهوماً متجانس الأجزاء Homogeneous فبعض نواحيها من صنف الحالات وبعضها من الأفعال وبعضها الآخر من الروابط وهكذا… ولا شك في أن بعض هذه الأمور لا تصلح لينسب لها الهدف. وعلى أي حال ما لا يشك في هادفيته هو الأفعال الإرادية الاختيارية, وإن أمكن التشكيك في بعض الجوانب الأخرى.

أعواني: الإنسان بمعنى من المعاني مانحُ المعنى للوجود، وبمعنى آخر مكتشف لهذا المعنى. والمقصود من إعطاء المعنى هو أن الإنسان يواجه العالم ويفسره، والعالم كالمرآة يتضمن معاني غير متناهية ولكنه لا قدرة لـه على إدراكها وفهمها, والإنسان بما أنه نسخة جامعة للوجود يحتوي الكثير من حقائق الوجود وكمالاته ويعيها ويدركها في الوقت عينه. وهذا العلم والوعي الموجود عند الإنسان هو الذي يميزه عن غيره ويضعه في مقابل العالم ويعطيه قابلية الفهم والإدراك؛ وبهذا يقوم بإضفاء المعنى على الوجود.

من جهة أخرى، يكتشف الإنسان هذه المعاني الوجودية وليس لـه قدرة على جعلها واختراعها؛ وذلك لأن أصل وجوده مجعول من قبل غيره، فكيف يستطيع خلق معاني الوجود، فضلاً عن أن الله ليس جاعل المعاني؛ وذلك لأن المعاني تعود في أصلها إلى الأسماء والصفات الإلهية وهذه بدورها تعود إلى الذات, ومن المعلوم أن الذات الإلهية والصفات والأسماء ليست أموراً قابلة للجعل.

هل للبشر هدفٌ أم أهداف متعدّدة؟ ــــــــ

&هل يسعى كل أفراد الإنسان خلف هدف واحد أو أهداف مشتركة، أم أن لكل فرد أو جماعة هدفهم أو أهدافهم الخاصة بهم؟ وعلى الفرض الأول ما هو ذلك الهدف المشترك؟

^ ملكيان: لابد من اعتماد المنهج التاريخي ـ التجريبي للجواب عن هذا السؤال؛ أي الطريقة المتاحة الوحيدة هي الرجوع إلى أفراد الإنسان لنلاحظ هل هناك هدف واحد أو أهداف موحّدة تجمعهم أم أن لكل منهم هدفه الذي يسعى إليه؟ وفي الوقت نفسه يتوقف الجواب عن هذا السؤال على طبيعة الهدف وهل هو انتزاعي مجرد Abstract أم ملموس ومحسوس Concrete؟ فكلما كان المفهوم أو المفاهيم الحاكية عن الهدف أكثر انتزاعية وأشد إغراقاً في التجريد كان الجواب: نعم، إن لأفراد الإنسان هدف أو أهداف موحدة. والعكس صحيح أيضاً فكلما اقتربنا من الحس وابتعدنا عن التجريد كلما برز تنوع الأهداف وتعددها. مثلاً: بشكل من الأشكال يصح القول: إن كل أفراد الجنس البشري يسعون إلى هدف واحد هو: «السعي للوصول إلى الحالة التي يرون أنها الأمثل لهم». وهذا كلام صحيح، ولكن وحدة الهدف هذه تتلاشى عندما نمعن النظر في ما يسميه هؤلاء «الحالة الأمثل». وبعبارة أخرى: كلما أغرقنا في الصورية Formal كلما بهتت ألوان تعدد الأهداف واتجهت نحو الوحدة, وكلما اقتربنا من البعد المادي Material كلما برز الاختلاف وتعددت الأهداف. وختاماً أرى عدم إمكان إعطاء جواب محدد لهذا السؤال, بل الأمر مرهون بمدى التجريد أو المادية المعتمدين في استخلاص الأهداف.

من جهة أخرى، يمكن القول: إن ما يتحكم بوحدة الهدف هو الطبيعة المشتركة بين بني الإنسان, وما يوجب تعدده هو الاختلاف والتنوع ضمن هذه الطبيعة المشتركة، وما يؤدي إلى التنوع مجموعة من العوامل النفسية والوراثية وغيرها كالتربية والتعليم والبيئة التي يعيش في كنفها الفرد ولا ننسى التقاليد والعادات التي تطبعه بطابعها كذلك.

أعواني: كل الاحتمالات المطروحة في السؤال ممكنة بل واقعة بحسب ما تحكي التجربة الإنسانية عبر التاريخ. وأما إذا أصرّ أحدنا على البحث عن هدف مشترك يسعى كل الناس للوصول إليه، فلا نجد إلا «السعادة» هدفاً فرداً لا يرغب عنه أحد وتهوي إليه أفئدة الخلق جميعاً بالرغم من الاختلاف في مصداق السعادة وربما في حدود مفهومها.

لغنهاوزن: لنفرض أن شخصاً أو جماعة ترى أن السعادة تكمن في المال والماديات, وجماعة أخرى ترى السعادة في الفوز برضا الله. في هذه الحالة هل يصح القول: إن لهؤلاء هدفين؟ إن كلا الطرفين لهما هدف واحد هو السعادة, ولكن تصور أحدهما عن السعادة يختلف عن تصور الآخرين لها. لأرسطو مقولة مشهورة هي: «للناس جميعاً هدف واحد مشترك» ويسمي هذا الهدف «يودامونيا» ولكن هذا الموقف الأرسطي ليس محل إجماع، وهو يسهب في كتابه: «الأخلاق إلى نيقوماخوس» في وصف «يودامونيا» ويعدد شروط هذا المفهوم, ولكنه لا يرى أنه المفهوم المرادف للذة. وقد استخدم التراجمة العرب عند ترجمتهم لمصطلح «يودامونيا» كلمة «سعادة» بوصفها معادلاً عربياً لهذا المصطلح الأرسطي, ولكن لكلمة “سعادة” حمولة دينية وبينها وبين «يودامونيا» أرسطو فرقاً واختلافاً. مثلاً: يضرب أرسطو الأمثلة فيقول: إن من يصاب بالكوارث الطبيعية كالزلازل والبراكين وغيرها يفقد «يودامونيا» حتى لو كان إنساناً فاضلاً. وفي المقابل تقضي تعاليمنا الدينية بأن كل المصائب لو اجتمعت على الإنسان الفاضل المتدين لا تخدش سعادته المعنوية. وعليه فهل يمكن الإيمان بوحدة الهدف بين أرسطو والفلاسفة المسلمين؟!

ربما يمكن الجواب بالإيجاب من بعض الجهات؛ وذلك لما بين «يودامونيا» أرسطو وسعادة الفلاسفة المسلمين من وجوه شبه ونقاط اشتراك، وهذه المشتركات هي التي سمحت لهم بترجمة ذلك المفهوم الأرسطي إلى السعادة. ولكن التدقيق والنظر إلى الفوارق يكبح جماح الرغبة بوحدة الهدف بين الطرفين. وعليه فإنّ الحكم بالوحدة والتنوع تابع للإجمال والتفصيل الذي يحكم نظرتنا إلى الهدف.

هل وجود الله شرط هادفية الحياة؟ ـــــــ

&هل يمثل وجود الله أو الحياة بعد الموت شرطاً لازماً لهادفية الحياة؟

^أعواني: يرتبط جواب هذا السؤال بشكل وثيق بمرادنا من الحياة؛ فهل المراد هو الحياة البيولوجية أم الحياة ببعدها المعنوي؟ في الحالة الأولى أي في حالة حصر الحياة بالحياة الدنيا، فإن الاعتقاد بوجود الله أو الحياة بعد الموت سوف يدخل في دائرة الإنكار أو سوف يحفظ بشكله الاسمي اللفظي. ولا شك في أن حصر الحياة ببعدها المادي يؤدي إلى ضيق الصدر وعبثية العالم وفقدان المعنى وعلى حدّ قول سعدي الشيرازي: «لا يملأ العين الضيقة لرجل الدنيا إلا القناعة أو تراب القبر». وأما الحياة المعنوية من دون الاعتقاد بوجود الله فهي أمر غير ممكن من الأساس.

لغنهاوزن: كلا؛ لأن التجربة التاريخية للإنسانية تكشف عن وجود أفراد وجماعات لا تؤمن بوجود الله ولا تعتقد بالحياة بعد الموت، ومع ذلك كان لهؤلاء أهدافهم, ولكن الكلام هو في هذه النقطة هل يحقّ لنا الاعتقاد في حق من يخالفنا بأنه يسير من دون بوصلة تهديه؟! لابد من الالتفات إلى وجود أهداف عدة يختار كل فرد أو جماعة واحداً منها، وهي التي تؤدي إلى الاختلاف بين الناس, ولا يصحّ القول بوجود هدف واحد إلا إذا كنا نتحدث من موقع أنطولوجي فلسفي ينظر إلى الهدف الذي أراده الله للإنسان. وبعبارة أخرى: هناك هدف واحد هو الله {إِنَّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} وهذا الهدف يسير إليه الإنسان بدافع الفطرة ومقتضيات الخلقة، ولكن عندما يكون الحديث عن أهداف يختارها المرء بمحض إرادته واختياره, فلا مجال للحديث عن الوحدة ولا ضرورة لاشتراط الإيمان بالله والحياة بعد الموت.

ملكيان: إذا كان المراد من هادفية الحياة هو الهدف الذي يختاره الفرد لحياة، فلا ضرورة تقتضي وجود الاعتقاد بالله أو الحياة بعد الموت, ودليل هذا المدعى ما نشاهده من وجود أفراد أو جماعات لا يملكون هذين المعتقدين، ومع ذلك نجد لهم أهدافاً يجعلونها نصب أعينهم سواء وصلوا إليها أم لم يصلوا. لا يحق لنا أن ننكر وجود الهدف عند من يريد إلغاء الرق أو حفظ البيئة أو نشر الاشتراكية لمجرد أنه لا يؤمن بالله أو الحياة بعد الموت.

وإذا كان المراد من الهدف هو هدف الخالق من الخلق، فهنا لا شك في كون الإيمان بوجود الله شرطاً لازماً لهذه الهادفية بل وكافياً, ولا ضرورة لوجود الحياة بعد الموت. وبعبارة أخرى: بناء على ما مرّ من عدم كون الحياة موجوداً واعياً ذا شعور, فلابد من صرف الحديث عن هدف الحياة إلى الحديث عن هدف خالقها وغرضه الذي أراد تحقيقه من فعله. وذلك الموجود يرى إلى الحياة بوصفها جزءاً من تصميم أكبر، أو بوصفها خطوة في سبيل الوصول إلى التحقق الكامل لذلك التصور النهائي. وعليه، يكون وجود ذلك الموجود المريد شرطاً لازماً وكافياً لتحقق ذلك الهدف ولا حاجة بعده إلى أيّ شرط آخر حتى الحياة بعد الموت.

نعم, لأجل تحقق هادفية الحياة بالمعنى الذي أشرنا إليه لابد من أن تقع الحياة ضمن نسيج أشمل ليكون لها دور ونصيب في ذلك النسيج, وبلسان فلسفي نقول: ينبغي أن تكون جزءاً من كل. وهذا الكل هو من تصميم ذلك الموجود الذي تعبر عنه الأديان بـ “الله”. والمقدمة التي يعتمد عليها هذا التصور هي الاعتقاد بعدم كون الحياة موجوداً واعياً، نعم وجد من أفرط في نظرته إلى الحياة واعتقد بجوهريتها (كونها جوهراً) وآمن بكونها موجوداً واعياً, وإذا آمنا بهذا التصور المتطرف فلابد لنا من الاعتقاد بعدم اشتراط هادفية الحياة بالاعتقاد وبوجود الله فضلاً عن الإيمان بالحياة بعد الموت.

وعلى أي حال, إذا تجاوزنا مسألة هادفية الحياة فهناك أمر آخر جدير بالبحث وهو قيمة الحياة؛ فقد وُجِدَ في هذا المجال من قال بجدية وتأكيد: إن وجود الله أو الحياة بعد الموت هو الشرط اللازم لتكون الحياة ذات قيمة. والمراد من «قيمة الحياة» التي هي أحد معاني «كون الحياة ذات معنى», أن الحياة أمر مُجدٍ, بمعنى أن ما يترتب عليها من نفع وفائدة إذا قيس بأضرارها ومشاكلها يربو الأول على الأخير. والسؤال الذي يفرض نفسه حول هذه النقطة، هو: هل أن ما يرجع علينا من نفع ومصالح نتيجة حياتنا أهم وأرجح من التكاليف التي نتكبّدها؟

علّق بعض الفلاسفة وعلماء الإلهيات الجوابَ هنا بـ “نعم” على وجود الله ووجود الحياة بعد الموت، وإلا فإن الجواب هو النفي, وهذا هو المقصود من اشتراط “قيمة الحياة” بوجود الله والحياة بعد الموت.

ولتفصيل ذلك يمكن طرح تصورات مختلفة في هذا المجال:

1 ـ تشترط قيمة الحياة بأحد الأمرين: وجود الله أو وجود الحياة بعد الموت, ولا يشترط وجودهما معاً.

2 ـ وجود الله وحده هو الشرط اللازم والحياة بعد الموت ليست شرطاً لازماً ولا كافياً.

3 ـ وجود الله شرط كافٍ ووجود الحياة بعد الموت شرط كاف أيضاً.

4 ـ وجود الله شرطٌ كافٍ ووجود الحياة بعد الموت ليس شرطاً لازماً ولا كافياً.

5 ـ وجود الله شرطٌ لازم وكافٍ. وأما الحياة بعد الموت فليست شرطاً لا كافياً ولا لازماً.

6 ـ وجود الله ليس شرطاً لازماً ولا كافياً. وأما الحياة بعد الموت فهي شرط لازم فقط.

7 ـ وجود الله ليس شرطاً لازماً ولا كافياً. وأما الحياة بعد الموت فهي شرط كاف.

8 ـ وجود الله ليس شرطاً لازماً ولا كافياً. وأما الحياة بعد الموت فهي شرط لازم وكاف أيضاً.

9 ـ وجود كلا الأمرين لازم وكافٍ.

وتشخيص الرأي الصحيح من هذه الآراء أمر صعب يحتاج إلى تفصيل وبخاصة أن سؤالكم عن هادفية الحياة وليس عن هذا الأمر؛ لذلك فإني أصرف النظر عن الدفاع عن الرأي الذي أختاره وأتبنّاه.

العلاقة بين معرفة غرض الخلق ومعرفة هدف الحياة! ـــــــ

&هل يمكن تحديد هدف الحياة والعلم به من دون معرفة الغرض من الخلق؟ ولماذا؟

^ لغنهاوزن: أعتقد أن معرفتنا بالهدف من الحياة لا تتوقف على المعرفة بغرض الله من الخلق،بل يكفي أن يأمر الله بطريقة محددة للعيش ليتضح معنى الحياة على ضوء الوحي والأحاديث الواردة عن المعصومين.

ملكيان: إذا كان المراد من الهدف هو هدف الفرد أو الأفراد من حياتهم، فمن الواضح عدم توقف معرفة تلك الأهداف على معرفة هدف الله من الخلق؛ وذلك لما تقدم من كون معرفة هذه الأهداف مبنية على منهج الملاحظة والمشاهدة.

وإذا كان المراد من الهدف هو الهدف الذي ينبغي أن يكون، فهنا إذا كان الحديث عن الأشخاص الذين يؤمنون بالله ويرون طاعته واجبة عليهم, تصبح معرفة غرض الله من الخلق ضرورية لتحديد الهدف الذي يستحق أن يسعى هؤلاء للوصول إليه. وأما عند غير هؤلاء فلا توقف.

أعواني: أعتقد بأنه لا يمكن؛ وذلك لأن الإنسان هو الموجود الذي يتساءل عن الوجود وأجوبة هذه الأسئلة هي التي تفتح في وجهه طريق المعرفة. وليست هذه الأسئلة التي يطرحها الإنسان على درجة واحدة من الأهمية والاعتبار؛ حيث إن الأجوبة الأساس التي تمثل الركيزة الأولى لغيرها من المعارف هي الأهم. مثلاً: الشاعر العارف الإيراني يشير في البيت الآتي إلى ثلاثة من الأسئلة الأساسية:

من أين أتيت؟ ولماذا كان المجيء؟ والى أين الرحيل في غاية المطاف؟

وهذه الأسئلة التي يشير إليها هي: مبدأ الوجود، وعلته، وغايته بعد الموت. ومن الواضح أن السؤال عن غرض الله من خلق العالم أو الإنسان بالتحديد من الأسئلة الأساسية التي يساعد الجواب الصحيح عنها على اختيار الهدف الصحيح للحياة.

 

العلاقة بين هدف الحياة والنظام الأخلاقي ـــــــ

&ما هي العلاقة بين هدف الحياة والنظام الأخلاقي؟

^ ملكيان: أيّ نظام أخلاقي هو وسيلة وطريق للوصول إلى هدف أو مجموعة من الأهداف المقترحة. وكل نظام أخلاقي يرى إلى أيّ فعل من الأفعال على أنه فضيلة أو رذيلة, واجب أو غير واجب, صواب أو خطأ, وتتحدد أهمية هذه الأفعال وتوصيفاتها على ضوء تأثيرها في الوصول إلى الهدف أو مجموعة الأهداف المنشودة, من خلال دعوى هذا النظام أن هذه الأفعال أو الحالات تعيق أو تسرع وصول الإنسان إلى الأهداف الأخلاقية التي يؤمن بها هذا النظام.

من جهة أخرى، يمكن للنظام الأخلاقي أن يصوب أو يخطئ بعض الأهداف التي يختارها المرء لحياته؛ فكل نظام أخلاقي يمنع ـ تصريحاً أو تلويحاً ـ من اعتماد بعض الأهداف ويدعو في المقابل إلى تبني مجموعة من الأهداف التي يراها مقبولة ومناسبة لتسخير الحياة من أجلها.

من جهة ثالثة، يمكن أن يكون الالتزام بنظام أخلاقي ما هدفاً لبعض الأشخاص, فقد كانوا وما زالوا أولئك الذين يرون في الفضيلة أو الكمال الأخلاقي هدفاً لحياتهم. مثل هؤلاء الذين يسمون في علم الخلاق Moral Perfectionists ليس لهم هدف في الحياة سوى تحقيق الفضائل الأخلاقية في ذواتهم, والطريق الوحيد للوصول إلى هذا الهدف هو الالتزام بالنظام الأخلاقي الموصل إلى الفضائل المتبناة. هذا إذا غضضنا الطرف عن أولئك الذين يشتركون مع جوزيف باتلر Joseph Butler الأسقف وفيلسوف الأخلاق البريطاني، في نظريته القائلة بأن جعل الوصول إلى الكمال هدفاً هو بعينه عائق عن الوصول إلى ذلك الهدف. فهو وأمثاله يرون أن رغبة الشخص بأن يكون محبوباً مثلاً يمنع الآخرين من محبته وربما كان من لا يلتفت إلى هذا أكثر محبوبية منه, والكلام عينه يقال عن الفضيلة والكمال الأخلاقي.

أعواني: الأحكام الأخلاقية تكتسب معناها من تفسيرنا للحياة ومن الغاية التي نتصورها لها. فإذا كنا نفهم من الحياة معناها البيولوجي فحسب, عندها ستكون الأحكام الأخلاقية هي تلك الأحكام الهادفة إلى تنظيم العلاقات الفردية والاجتماعية والسياسية, ولن يكون للأحكام الأخلاقية ـ بناء على هذه النظرة ـ حقيقة واقعية، بل حقيقتها تكمن في اعتبارها والتوافق عليها. ومن ثمّ هي قابلة للتغيير والتبديل من زمن إلى زمن ومن وضع لآخر.

وأما على أساس الحياة المعنوية المستلزمة للولادة الروحية الثانية, فإن الأخلاق والأحكام الأخلاقية المبنية على الفضيلة هي أساس هذه الحياة وأصلها. وبالتالي مقتضى هذه الرؤية هو أن الوصول إلى المراتب في سلّم الحياة المعنوية موقوف على اكتساب الفضائل والتحلّي بالأخلاق الإلهية.

لغنهاوزن: هناك مثل مشهور في اللغة الإنجليزية هو: Virtue is its own reward وحاصل ما يعنيه هو: إن الفضيلة كمال وهدف وليست طريقاً ووسيلة إلى محلّ آخر.

الفلسفة اليونانية والأديان ـ سواء اليهودية والمسيحية والإسلام ـ يؤمنون جميعاً بوجود رباط وثيق بين الأخلاق وبين هدف الحياة, ولكن عندما ندقق في هذه الدعوى العامة نجد اختلافاً في النظرة بين هذه الأطر المذكورة. مثلاً يرى أرسطو ـ كما تقدم ـ أن الفضيلة شرط لازم للوصول إلى الهدف لكنّه ليس كافياً, بينما في الدين نجد أن النظرة ترنو إلى ما هو أبعد من الحياة الدنيا.

 

هل للأديان هدف واحد أم تختلف الأهداف بينها؟ ـــــــ

&هل تتفق الأديان في ما بينها على هدف واحد للحياة، أم أن كل دين أو مجموعة أديان تهدف إلى شيء محدد خاص بها؟ وبناء على وحدة الهدف فما هو؟

^ أعواني: أعتقد أن الأديان جميعاً تحدد للحياة هدفاً واحداً؛ حيث تهتم جميعها بالحياة المعنوية والولادة الروحية الثانية عن طريق تحقق المعرفة والمحبة والفضيلة بأشكالها الحقيقية. هذا بالرغم من وجود فوارق في طبيعة هذا الاهتمام وأشكاله؛ فالأديان جميعها تقرأ الأصول الثلاثة: المحبة والمعرفة والمخافة, وترى وجود تلازم في ما بينها, إلا أن بعض الأديان يرجح أحد هذه الأصول على غيرها, أضف إلى ذلك اختلافها في النظرة إلى الحياة المادية؛ فالمسيحية باهتمامها بالرهبانية وإصرارها على الولادة الثانية ترسل الحياة المادية إلى الظلّ, بينما نرى أن نظرة الإسلام ـ دين الاعتدال ـ إلى الحياة الدنيا مختلفة؛ حيث يرى فيها فيضاً إلهياً وتجلياً من تجليات الذات الإلهية، ويربط بينها وبين الآخرة بشكل متوازن ويعطي لكل منهما حقه بالاهتمام.

لغنهاوزن: بشكل عام وإجمالي, نعم, لكن إذا نظرنا بشكل تفصيلي فإن الجواب بالنفي؛ وذلك أن الأديان جميعاً تدّعي حيازتها برنامجاً ومنهجاً لتكامل الإنسان ولكن عندما ندخل إلى التفاصيل نرى فوارق بين هذه المناهج. سئل الدالاي لاما مرةً: هل يمكن أن يكون المرء مسيحياً وبوذياً في وقت واحد؟ فأجاب: إلى مرحلة معينة نعم، يمكن أن يجمع بين الديانتين ولكن بعد الترقي إلى مراحل أعلى لابد من الاختيار بين المسيحية والبوذية؛ ذلك أن الأهداف والغايات تختلف.

ويرى عرفاء اليهود أن الهدف الأسمى للإنسان في سيره نحو الله هو التعلق به, بينما نرى عرفاء المسيحية والإسلام يتحدثون عن الاتصال بالله والاتحاد به, ويعبر المسلمون منهم بـ «لقاء الله» والمسيحيون يستخدمون كلمة «الرؤيا المقدسة» Beatific Vision, وفي الديانات الصينية كلمة «انسجام» وفي الهندية يستفاد من كلمة «موكشا» بمعنى الانعتاق من دورة التناسخ؛ وبناء عليه، فإن دعوى أن هذه التعبيرات تهدف إلى غرض واحد وتشير إلى حقيقة واحدة ما هي إلا تعمية على الحقيقة, فما يسعى إليه المسيحي ويرجوه لا يُبحث عنه في دين آخر, فالمسيحي لا يؤمن بالتناسخ حتى يبحث عن “موشكا” إلا إذا قلنا: إن لهذه الكلمات دلالات مجازية وما نفهمه منها مختلف عن الحقيقة. فهذا شيء آخر. وأعتقد أن الصحيح هو الإيمان باختلاف الأهداف بين دين وآخر بعضها صحيح وبعضها خاطئ, وبعضها يقبل الجمع وبعضها لا يقبله.

ملكيان: أكرّر في الجواب عن هذا السؤال ما قلته في جواب السؤال الثالث؛ أي أن الجواب بالإثبات أو النفي مرهون بدرجة الانتزاعية التي نصوغ المفاهيم على أساسها. فمن جهة يمكن القول: إن الأديان جميعاً تهدف إلى أمر واحد هو السعادة الأبدية أو الخلاص والانعتاق من عالم المادة والماديات, أو التحول الروحي Spiritual (لا التحول النفساني Psychological) أو غير ذلك… والمطروح في هذه العبارات هو هدف واحد يصدق على جميع الأديان, ولكنه هدف واحد مبني على درجة عالية من التجريد, وهكذا عندما نسأل عن هذه السعادة الأبدية أو غيرها من التعبيرات التي أشرنا إليها يبدو الاختلاف واضحاً؛ سواء على مستوى المفاهيم والتصورات لهذه الكلمات أم على مستوى المصاديق, ويصل هذا الاختلاف إلى حد يسمح لنا بالقول: إن لكل دين هدفه الخاص الذي لا يشاركه فيه غيره. إذاً كلما فارقنا التجريد ونزلنا إلى عالم الواقع والفعل يبرز الاختلاف ويتضح. مثلاً: في الأديان الإبراهيمية ربما يمكن القول: إن المقصود من السعادة الأبدية هو لقاء الله، أما في الأديان الشرقية كالبوذية مثلاً فلا حديث عن لقاء الله حيث تتجسّد السعادة الأبدية بالنرفانا.

نعم، لا شك في أن الأديان عموماً تنظر إلى الحياة من ما فوق الطبيعة؛ أي تطرح أهداف الحياة ضمن نسيج يمثل وجود الله والحياة بعد الموت لحمته وسداه؛ بحيث يصعب تحقيق ـ إن لم نقل يستحيل ـ الوصول إلى أهداف الحياة من غير الإيمان بالله أو اليوم الآخر. وبعبارة أخرى: لا ينجينا من «العدمية» Nihilism والعبثية سوى الإيمان بالله، ورأوا الإيمان بالحياة بعد الموت.

(*) أما د. غلام رضا أعواني، فهو أستاذ الفلسفة الغربية في جامعة طهران، وكانت له حوارات عدّة مع المستشرق هنري كوربان؛ وأما د. مصطفى ملكيان، فهو أستاذ جامعي بارز، وأحد أكبر منظري الإصلاح الديني في إيران، يحمل نزعةً إيمانية لا تركّز على مفردات العقيدة بقدر مبدأ العلاقة الروحية مع الله، يسمّيها الاتجاه المعنوي، له قراءات نقدية على نظرية القبض والبسط لسروش، ومترجم عن اللغات الأجنبية؛ وأما الدكتور محمد لغنهاوزن، فهو باحث أمريكي مسلم، وأستاذ في جامعة الإمام الخميني في إيران.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً