أحدث المقالات

دراسة مقارنة في المحتملات التفسيرية

د. مجتبى إلهيان(*)

أ. حامد پور رستمي(**)

ترجمة: حسن مطر

مقدمة ــــــ

 (النطق) لغة يعني الكلام والإدراك، أما (الصمت) فيعني السكوت. ومن حيث المفهوم فإنّ لـ(نطق القرآن وصمته) معناه الخاص الذي يمكن الوصول إليه من خلال القرائن النقلية والعقلية والأدبية، وإذا نظرنا إلى هذا المعنى من زاوية رؤية الإمام علي بن أبي طالب×، وهو الناطق بالقرآن والقرآن الناطق، ستكون دراستنا أكثر إتقاناً.

إن دراسة موضوع (نطق القرآن) في نهج البلاغة تؤدي بنا إلى أربعة أنواع من النطق:

1ـ النطق اللفظي ـ الصوتي (أـ الحقيقي؛ ب ـ التقديري).

2ـ النطق المجازي ـ الاستعاري.

3ـ النطق الدلالي ـ المفهومي.

4ـ النطق التفسيري ـ التشريحي.

وجميع هذه الأنواع الأربعة تشترك في نقل نوع النداء والكلام إلى المخاطب، رغم تمايزها واختلافها من الناحية الكيفية والتطبيقية.

وتكمن ضرورة دراسة (نطق القرآن) في أننا من خلال إثبات النطق الدلالي ـ المفهومي، نتوصل إلى حجية ظواهر القرآن (المبنى المعرفي في التفسير)، ومن خلال إثبات النطق التفسيري ـ التشريحي نتوصل إلى التفسير الذاتي للقرآن (الأسلوب المعرفي في التفسير).

ومن جهة أخرى يمكننا من خلال الالتفات إلى أنواع (نطق القرآن) أن نستعرض (صمت القرآن) في ثلاثة أنحاء:

1ـ الصمت الحقيقي.

2ـ الصمت المجازي ـ الاستعاري.

3ـ الصمت الدلالي ـ المفهومي.

حيث يتم بيان مواضع سكوت القرآن في الأنحاء الثلاثة المتقدمة.

وقد سعت هذه المقالة، مضافاً إلى البحث في (نصوص نهج البلاغة)، إلى تعميق موضوع (نطق القرآن وصمته)، من خلال إقامة دراسة تطبيقية في آراء الشارحين لنهج البلاغة.

أهمية الموضوع وضرورته ــــــ

إن دراسة موضوع (نطق القرآن وصمته) تحظى بأهمية من ناحيتين:

 1ـ المبنى المعرفي.

 2ـ الأسلوب المعرفي.

أما من ناحية المبنى المعرفي: فاستناداً إلى المعنى الذي قدّم لـ(نطق القرآن وصمته) يمكن تكوين رؤية خاصة في ما يتعلق بخصائص وتطبيقات هذا الكتاب العظيم، وبما أن هذه الدراسة إنما تتم من خلال رؤية الإمام علي بن أبي طالب× يمكن للنتيجة الحاصلة أن تشكل خطوة متقنة في فهم القرآن وإدراك كنهه وتسليط الضوء على أبعاده الخفية؛ وذلك لأن الإمام علي× كان أفضل الصحابة وأكثرهم باعاً في تفسير القرآن، وإن الأحاديث النبوية المستفيضة حول ارتباط الإمام علي بالقرآن لا تبقي أي مجال للشك عند المنصفين([1]). وعليه فإن كلام علي× بشأن (نطق القرآن وصمته) يعدّ نافذة لمعرفة القرآن، والحجر الأساس الذي يلعب دوراً أساسياً في المباني التفسيرية وعلوم القرآن، فمثلاً: لو تم تثبيت النطق الدلالي للقرآن (نقل وإراءة مقاصد ومداليل القرآن إلى المخاطب) واعتباره من زاوية نهج البلاغة فإننا في الحقيقة سوف نتوصّل إلى تعزيز اعتبار القرآن وحجية ظواهره، وسيصار إلى توجه مناسب مع المبنى المذكور في تفسير القرآن.

وأما من ناحية الأسلوب المعرفي فإن اتخاذ نوع الأسلوب في فهم وتفسير القرآن وبنائه على عوامل من قبيل: قواعد التفسير([2]) كان على الدوام محط أنظار العلماء والمفسرين المتقدمين والمتأخرين، حيث إنّ اتخاذ أسلوب في تفسير القرآن يؤدي إلى الشدة والضعف، أو النفي والإثبات، بالنسبة إلى أمور مثل: قواعد التفسير، ومصادر التفسير، والعلوم التي يفتقر إليها التفسير، حتى يلجأ بعض المذاهب التفسيرية إلى تخطئة أسلوب المذاهب التفسيرية الأخرى واتهامها بالإفراط أو التفريط في فهم واستنباط الآيات، فمثلاً: في مذهب التفسير الروائي المحض لا يسمح بأية عملية اجتهادية في فهم وتفسير معنى آيات القرآن، ولذلك يكتفى فيه بذكر الروايات فقط([3]).

ومن جملة الأساليب التفسيرية المتنازع فيها أسلوب تفسير القرآن بالقرآن، وبما أن أحد وجوه نطق القرآن قد يكون ناظراً إلى موضوع تفسير القرآن بالقرآن تظهر أهمية ما لو استخرج موضوع ومفهوم (تفسير القرآن بالقرآن) من نهج البلاغة ومبحث (نطق القرآن) فيه. مضافاً إلى ذلك يمكن للدراسة التطبيقية لآراء المفسرين لموضوع (نطق القرآن) في خطب وكتب نهج البلاغة، ومنها الخطبة رقم مئة وثلاثة وثلاثين([4])، والتي تقول: «إن القرآن ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض»([5])، والبحث عن القرائن اللغوية والروائية والقرآنية، يمكن لهذه الدراسة أن تحظى بأهمية من هذه الناحية.

وعليه يكون لقبول أو رفض (النطق التفسيري للقرآن) في نهج البلاغة دور مهم في موضوع الأسلوب المعرفي لتفسير القرآن الكريم، ويمكنه تعزيز أو تضعيف نظرية التفسير الذاتي والموضوعي للقرآن.

تحليل المفردات ــــــ

قال ابن فارس (395هـ) في ذيل مفردة (نطق): «النون والطاء والقاف أصلان صحيحان: أحدهما: كلام أو ما أشبهه؛ والآخر: من الثياب»، وبطبيعة الحال فإنّ المعنى الثاني لا يدخل في بحثنا، ويتضح من عبارة «وما أشبهه» أن ابن فارس لا يرى (النطق) منحصراً في الكلام والتكلم الصوتي، وإنما يرى له معنىً أوسع، يظهر في المعاني الاصطلاحية لمفردة (نطق).

ثم أشار إلى نوع من النطق غير مفهوم عندنا، وقد مثّل له بقوله تعالى: {عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْر} الوارد في قصة النبي سليمان×، أي الكلام الذي هو من مقولة النطق غير المحسوس، وكان وسيلة التحاور بين النبي سليمان× والطيور([6]).

كما ذكر هذا اللغوي معنىً واحداً لمفردة (صمت)، وهو الدلالة على الإبهام والإغلاق([7]).

وبعبارة أخرى: إن روح المعاني الكامنة في مفردة (صمت) هي: الإبهام والإغلاق وعدم الوضوح، ومما يجدر ذكره أن هذا الجذر اللغوي يقع في قبال التكلم والنطق المحسوس والملفوظ، ولا يشمل جميع معاني (الصمت)؛ إذ يتم أحياناً في بعض موارد (الصمت) بيان مفاهيم ومعاني ومقاصد مفعمة بالمعرفة والوضوح، كما قال الإمام علي× في وصف أهل البيت^ في قوله: «هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم، وصمتهم عن منطقهم، وظاهرهم عن باطنهم»([8])، أي إن صمت وسكوت أهل البيت^ ـ كمنطقهم وبيانهم ـ فيه إيضاح وإضاءة وقد وصف× النبي‘ بقوله: «.. كلامه بيان، وصمته لسان»([9])، والذي يشير إلى انتقال المعرفة والعلم في صمت النبي الأكرم‘. والملفت للنظر أن أمير المؤمنين علي× شبه الأذلة من عبّاد الدنيا ـ رغم امتلاكهم للقوة الناطقة ـ بالبكم([10])، ومن جهة أخرى يرى القرآن برغم ظاهره الصامت (ناطقاً)([11]).

استكشاف المفاهيم ــــــ

أ ـ نطق القرآن ــــــ

يمكن دراسة مفهوم (نطق القرآن) في نهج البلاغة من أربع زوايا عامة: 1ـ اللفظي والصوتي؛ 2ــ المجازي والاستعاري؛ 3ــ الدلالي والمفهومي؛ 4ــ التفسيري والتشريحي.

ومن الجدير بالذكر أن وجه الاشتراك في جميع هذه العناوين المتقدمة يكمن في حقيقة (الانتقال وإراءة المراد والمقصود من العالي إلى الداني). وبعبارة أخرى: إن القدر المتيقن من المعاني الأربعة المذكورة أن هناك معنىً يتم نقله، وبالالتفات إلى المعاني المختلفة لنطق القرآن فإن كل معنىً يحظى بخصوصية وكيفية وسعة وعمق خاص. وقد سعينا في عملية استخراج معاني ومفاهيم نطق وصمت القرآن إلى أن يكون الأسلوب الأصلي المتبع هو تفسير نهج البلاغة موضوعياً، وأن يتم ضمن البحث دراسة آراء مفسري نهج البلاغة على نحو تطبيقي.

وبعد هذه المقدمة نشرع في دراسة المعاني الأربعة لنطق القرآن.

1ـ المعنى اللفظي والصوتي ــــــ

وهذا المعنى من النطق معروف وشائع، يستعمله جميع الناس، وإن من أبرز مشخصاته أداء الحروف وخلق الأصوات أثناء التكلم، ويمكن تصوير هذا المعنى من النطق بالنسبة إلى القرآن الكريم في حالتين: 1ـ حقيقية؛ 2ـ تقديرية.

ولا شك في أن المعنى الأول، وهو النطق اللفظي الحقيقي، منتفٍ بالنسبة إلى القرآن، ومخالف للتجربة والعقل والنقل، وأن عبارة (لن ينطق) في قوله×: «ذلك القرآن فاستنطقوه، ولن ينطق» ناظرة إلى هذا النوع من النطق([12]).

وعليه لا يمكن نقل معنى ومراد القرآن بواسطة أداء الحروف وخلق الأصوات، وعلى الأقل لا يمكن ذلك في الحالة الاعتيادية وعالم الإمكان.

وأما المعنى الثاني، فالمراد منه نطق القرآن الذي يقدر فيه الرجال والعلماء، وبعبارة أخرى: أن يكون (نطق القرآن) بواسطة رجال وعلماء يتكلمون بلسان القرآن، ويبينون معارفه وحقائقه، فإن هذا النوع من النطق يتم من خلال أداء الحروف والكلمات وبشكل لفظي وصوتي، ويمكن العثور على هذا المعنى من النطق في الخطبة مئة وخمس وعشرين من نهج البلاغة، حيث قال الإمام× في واقعة التحكيم صراحة: «إنا لم نحكِّم الرجال، وإنما حكَّمنا القرآن، هذا القرآن إنما هو خط مستور بين الدفتين، لا ينطق بلسان، ولا بد له من ترجمان، وإنما ينطق عنه الرجال»، إذاً لا بد للقرآن من ترجمان ينطق باسم القرآن ويبين معارفه وأحكامه، وقد قال مؤلف منهاج البراعة في معنى الترجمان: «ترجم فلان اللفظ العربي وغيره: إذا فسَّره بلسان آخر»([13]). وقال ابن أبي الحديد المعتزلي (656هـ) في هامش هذه الخطبة الشريفة في تفسير الترجمان: «التَّرجُمان، بفتح التاء وضم الجيم، هو مفسر اللغة بلسان آخر»([14]).

كما فسّر في مفردات نهج البلاغة بمعنى (المفسّر)([15]).

وعليه يكون ترجمان القرآن هو الذي يبين القرآن ويفسّره بلغة بسيطة وواضحة.

وقال العلامة الجعفري ضمن شرحه لقصة التحكيم في بيان الكلام المتقدم: «إذاً كان سبب الرضا بتحكيم الرجال أن القرآن، وهو كتاب مدوّن، لا يمكنه أن يفسِّر ويوضِّح نفسه، ويجب أن يبادر إلى تفسيره رجال علماء أتقياء مخلصون»([16]). إن القسم الثاني من كلام العلامة، وإن كان ناظراً إلى نطق القرآن بواسطة الرجال، ولا إشكال فيه، إلا أن القسم الأول إذا أريد بشكل مطلق فلا يخلو من الإشكال؛ لأنّ القرآن يمكنه أن يكون في بعض المواضع مفسِّراً لآياته، وهذا لا يتنافى مع تفسير القرآن من قبل العلماء الراسخين في العلم، كما سنشير إلى ذلك في ما يأتي. ومن الجدير ذكره أن العلامة ذهب في موضع آخر من شرحه إلى أن هناك مراتب من القرآن قابلة للفهم والاستنباط، وأشار في هذا المجال إلى حديث الثقلين([17]).

وقد أفاد ابن ميثم البحراني (679 هـ)، شارح نهج البلاغة الشهير، بأن فلسفة وحاجة القرآن إلى ترجمان تكمن في بيان مقاصده([18]). كما ذهب في موضع آخر من شرحه إلى أن المصداق الكامل والأتم لترجمان القرآن هو الإمام علي بن أبي طالب×([19]). كما أشار إلى هذا المعنى في الخطبة 158 من نهج البلاغة، حيث قال: «ذلك القرآن فاستنطقوه، ولن ينطق، ولكن أخبركم عنه، ألا إنَّ فيه علم ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم ما بينكم»، فقد أشار الإمام× في هذه الخطبة أولاً إلى الشكل الأول من نطق القرآن، وهو النطق اللفظي الحقيقي، وقد نفاه من رأس، ثم تطرق إلى الشكل الثاني من النطق، وهو نطق القرآن بواسطة الرجال، وعرَّف نفسه باعتباره المصداق البارز للناطقين بآيات القرآن الكريمة، حيث تكلم عن القرآن وبيّن آياته وفسّرها، وفي الحقيقة يجب استعراض هذا الكلام العلوي في الخطبة 128، حيث يقول: «.. ولا بد من ترجمان، وإنما ينطق عنه الرجال».

وهناك الكثير من الروايات التي رويت عن النبي الأكرم‘ في الجوامع الروائية لدى الفريقين في أفضلية علي بن أبي طالب× في تفسير القرآن، واستيعاب معارفه وحقائقه، ويمكن الإشارة من بينها إلى الحديث النبوي القائل: «إن الله عز وجل أنزل عَلَيّ القرآن، وهو الذي من خالفه ضلّ، ومن ابتغى علمه عند غير عَلِيٍّ هلك»([20]). إن هذه الرواية لا تدل على حصر الموضوع (في ظواهر القرآن)، ويمكن الوصول إلى مراتب من معارف القرآن عن طريق المفسِّرين الصادقين في مذهب أهل البيت^.

وأما دراسة آراء الشارحين لنهج البلاغة شأن قوله: «ذلك القرآن فاستنطقوه، ولن ينطق، ولكن أخبركم عنه» فتحكي عن قاسم مشترك مفاده أن النطق اللفظي والصوتي للقرآن إنما يكون من قبل أولئك الذين يفسرون القرآن تفسيراً صحيحاً، وعلى رأسهم علي بن أبي طالب×.

إن ابن أبي الحديد المعتزلي (656 هـ)، رغم أسلوبه المعهود في شرح المطالب بالتفصيل، قد اختار عدم التعليق على هذه الكلمات، خصوصاً عبارة «ولكن أخبركم عنه»([21])، إلا أن الشارح البحراني قال: «قد أمر الإمام باستنطاق القرآن، وفسرّ ذلك بالاستماع إلى المعارف القرآنية عن لسانه، وقد دحض الأوهام والأفكار الجانحة إلى طلب نطق القرآن بقوله: «فلن ينطق»»([22]). وعليه ذهب ابن ميثم إلى أن نطق القرآن هو نطق علي بن أبي طالب عنه، والوصول إلى فهم المعارف القرآنية من الإمام×.

وقد ذكر الميرزا حبيب الله الخوئي (القرن الهجري الرابع عشر)، صاحب منهاج البراعة أنّه «يحتمل أن يكون المراد من قوله: «فاستنطقوه» الاستفهام عن مضامين القرآن، ودرك حقائقه ودقائقه، وما يشتمل عليه من الأحكام في الحلال والحرام، ولكن في الحقيقة لا يمكن فهم القرآن من القرآن نفسه؛ وذلك لاشتماله على المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ، والظاهر والباطن، والتنزيل والتأويل، إلى غير ذلك. كما أشار إلى ذلك الإمام× نفسه بقوله: (ولن ينطق)، أي إن الإنسان لوحده لا يتمكن من فهم القرآن وإدراك معانيه، وإنما يحتاج إلى ترجمان (مفسِّر)، وقد أشار× في الختام، بقوله: «ولكن أخبركم عنه»، إلى أنه هو وحده ذلك الترجمان والقيم والمفسر لمعاني القرآن وظواهره وبواطنه([23]).

ينبغي القول: إذا كان المراد من هذا الكلام نفي مطلق حجية ظواهر القرآن، وأنه ليس بالإمكان فهم واستنباط الآيات دون الرجوع إلى أحاديث المعصومين^، فهذه النظرية تواجه الكثير من المخالفين المدعومين بأدلة كثيرة على بطلانها.

بالإضافة إلى أن هناك شواهد وقرائن في نهج البلاغة تثبت إمكان فهم الآيات وحجيتها، وسنتعرض إليها في ما يأتي.

أما العلامة الجعفري في شرحه على هامش الخطبة مئة وثمانية وخمسين، فقد ذكر عدة احتمالات بشأن هذه الخطبة ضمن رده لكلام الميرزا حبيب الله الخوئي، وهي:

1ـ اعتبارية دلالة الآيات وكلمات القرآن على معانيه (قطعي الصدور، وظني الدلالة).

2ـ إن فهم القرآن إنما يمكن من خلال تفسير المعصوم وتأويله، بشهادة قوله: «أخبركم عنه».

3ـ إن فهم جميع حقائق القرآن وأسراره لا يتأتّى إلا من قبل المعصومين^([24]).

 ويذهب إلى أن مراد الإمام علي× من قوله: «واستنطقوه، ولن ينطق، ولكن أخبركم عنه» هو الاحتمال الثالث، أي إن بيان المعصوم× هو الذي يقودنا إلى فهم جميع حقائق القرآن وأسراره، لا أن جميع أجزاء أو مراتب القرآن غير قابلة للفهم، وذهب إلى أن حديث الثقلين أفضل شاهد على رأيه.

وذهب التستري (الشوشتري) إلى أن المراد من «فاستنطقوه» طلب النطق المعنوي (طلب المعنى والمفهوم)، وفسَّر «ولن ينطق» بالنطق الظاهري البشري، وقال بشأن «أخبركم عنه»: «يخبر عن التوراة والإنجيل والزبور كما يخبر عن القرآن»([25])، مما يدل على إمكان الاستفهام عن المعارف والحقائق من القرآن، ومن جهة أخرى يحفظ الشأن الخاص لاستنطاق القرآن من قبل الإمام علي×.

وقال الحسيني الشيرازي في توضيح نهج البلاغة: (فاستنطقوه) أي اطلبوا أن ينطق لكم، ولكنه (لن ينطق) نطقاً باللسان، وإنما النطق بمعنى بيان القصص والمعارف والأحكام، (ولكن أخبركم عنه) أي عن (القرآن وكيفية إرشاده)([26]).

كما لم ينكر صاحب «في ظلال نهج البلاغة» إمكان التدبر والتفكير في آيات القرآن وفهمها، بيد أنه ذهب إلى أن معرفة هدف القرآن وحقيقة كنهه منوطة ببيان مَنْ عنده علم الكتاب، وهو الإمام علي بن أبي طالب×([27]).

وعليه فإن جميع كلمات وآراء الشارحين ناظرة إلى نطق القرآن الذي يتم عبر الرجال، وهم العلماء المختصون في القرآن، وهو النوع الثاني من أنواع النطق اللفظي ـ الصوتي.

2ـ النطق المجازي والاستعاري ــــــ

يمكن طرح هذا النوع من نطق القرآن بشكل استعاري ومجازي.

توضيح ذلك: إننا قلنا باستحالة النوع الأول من النطق اللفظي والصوتي الذي كان حقيقياً، وهنا نتحدث حول النطق المجازي (غير الحقيقي)، والذي يمكن دراسته من حيث الفنون والصناعة الأدبية، مثل: صناعة التشخيص، ونظائرها.

وقد عُرِّف المجاز في علم البلاغة بأنه اللفظ المستعمل في غير المعنى الموضوع له (المعنى الأصلي والحقيقي) مع قرينةٍ تحدِّد المراد، وأن يكون لها علاقة وارتباط بالمعنى الحقيقي (الموضوع له)([28]).

وينقسم المجاز إلى مرسل، وذلك إذا لم تكن العلاقة بينه وبين المعنى الحقيقي هي المشابهة، وإلى غير المرسل (الاستعاري)، والذي تكون فيه العلاقة هي المشابهة، كما ذهب التفتازاني إلى ذلك.

ومن الجدير بالذكر أن المجاز في تقسيم آخر ينقسم إلى نوعين: الأول: هو المجاز اللغوي؛ والآخر: هو المجاز العقلي. والمجاز اللغوي هو المجاز في الكلمة واللغة؛ والمجاز العقلي في الكلام أي في الإسناد، وبما أن محل البحث هنا هو المجاز اللغوي ودراسة ألفاظ (النطق) و(الناطق) فسنكتفي بتعريف وبيان المجاز اللغوي وأقسامه.

وفي هذه المقدمة نستعرض الخطبة 183: «فالقرآن آمر زاجر، وصامت ناطق»، ولا شك في أنه ليس من «الناطق» النطق بالمعنى الأول، الذي هو النطق اللفظي والصوتي، والذي كان حقيقياً، بل هو من باب (المجاز)؛ وذلك لكونه مستعملاً في غير معناه الحقيقي، أو في غير المعنى الموضوع له؛ وإنه في الحقيقة نوع من (المجاز اللغوي)، وقد ذهب الميرزا حبيب الله الخوئي إلى أن هذه العبارة من باب الاستعارة التبعية أو المكنِّية([29]).

توضيح ذلك: إن الاستعارة تنقسم ـ من حيث كون لفظ المستعار جامداً أو مشتقاً ـ إلى أصلية وتبعية، وبما أن (الناطق)، أي (اللفظ المستعار)، مشتق كانت الاستعارة تبعية. أما الاستعارة من حيث ذكر المستعار له أو المستعار منه فتنقسم على الترتيب إلى المكِّنية والتصريحية، والذي يتم تحليله ودراسته في عبارة (فالقرآن صامت ناطق) هو (نطق القرآن).

وهنا شبه القرآن (المشبه أو المستعار له) بكائن ناطق (المشبه به أو المستعار منه)، وهو الإنسان، واستعير منه أحد لوازمه، وهو النطق. وفي الحقيقة إن الذي نلاحظه في عبارة (نطق القرآن) هو المستعار له (المشبه) وأحد لوازم المستعار منه (المشبه به)، وهي خصوصية الاستعارة المكنِّية، وعليه نكون هنا قد نسبنا نطقاً مجازياً إلى القرآن الكريم، وهو النوع الثاني من النطق، وقد استعمل لفظ (الناطق) في غير معناه الموضوع له.

كما يمكن اعتبار الكلام المتقدم من خلال عبارة «فالقرآن الناطق»، وليس (نطق القرآن)، من الاستعارة التصريحية، شريطة أخذ الناطق بمعنى المفهِّم أو المبيِّن، الذي شبه فيه المستعار له (المفهِّم أو المبيِّن) بـ (الناطق) (المستعار منه أو المشبه به)، وأن تكون بين المفهِّم والناطق علاقة المشابهة (كالمشابهة في إيصال المراد)، وقد استعير هنا بدلاً من لفظ المفهِّم لفظ (الناطق)، ومن خلال ذكر المستعار منه نحصل على استعارة تصريحية.

ولو اختار الذوق الأدبي علاقة أخرى غير المشابهة كانت العبارة المتقدمة داخلة في مقولة المجاز المرسل، فمثلاً: يمكن جعل العلاقة القائمة بين المفهِّم (المعنى الحقيقي) والناطق (المعنى المجازي) علاقة السببيّة، بمعنى جعل النطق سبباً للفهم والإدراك، وقد جعل (النطق) في العبارة المتقدّمة سبباً و(الفهم) مسبباً.

وتعتبر الخطبة 133: «كتاب الله بين أظهركم، ناطق لا يعيى لسانه» من الخطب التي يمكننا أن نفهم منها النطق المجازي في القرآن، وهناك من أشار إلى كون المجاز فيها مرسلاً، ووجد أن علاقة اللزوم فيها أنسب، واعتبر أن الفهم والدلالة لازم للنطق، أي جعل من (نطق) القرآن ملزوماً و(الفهم والدلالة) لازماً([30]).

 ومما يجدر ذكره أن بالإمكان ملاحظة استعارة تصريحية في عبارة «كتاب الله بين أظهركم، ناطق لا يعيى لسانه..»، ولو ذكر في استعارة المستعار منه (المشبه به) وأحد لوازمه أو ملائماته كانت الاستعارة التصريحية ترشيحية، وفي العبارة المذكورة ورد لفظ «ناطق» (المستعار منه) بمعنى الدالّ والمبيِّن (المستعار له)، حيث حذف المستعار له وذكر المستعار منه (المشبه به)، وذكر لازم من لوازم وملائمات المستعار منه، وهو (اللسان)، وبذلك حصلنا على استعارة تصريحية ترشيحية، أي (المستعار منه (الناطق) مع لازم المستعار منه (اللسان)، مما يدل على النطق المجازي للقرآن الكريم. واحتمل بعض أن المراد من (الناطق) هو النفس الشريفة للإمام×، أي إنه استعمل كلمة (الناطق) وأراد بها نفسه، وعندها تكون الاستعارة تصريحية تجريدية (أي مجردة من ذكر لوازم وملائمات المشبه والمشبه به، وقد استعمل النطق واللسان في معناهما الحقيقي([31]).

 إلا أن هذا الاحتمال ـ مع غض الطرف عن السياق ـ، وإن كان قريباً، إلا أنه من دون الالتفات إلى المعنى العام للعبارة يبدو غريباً، إلا إذا حملنا عبارة (كتاب الله) ونظائرها على الإمام علي بن أبي طالب×، وعندها نحتاج إلى قرينة مناسبة.

 

3ـ النطق الدلالي والمفهومي ــــــ

من معاني نطق القرآن أن هذا الكتاب العظيم ينقل مداليله ومفاهيمه إلى المخاطب وكأنه يتحدث إليه؛ وذلك لما تشتمل عليه الكتابة من مفهوم ومقصود خاص، وقد قال ابن ميثم البحراني: «إن المكتوب يعبر عن المقصود، كما أن الناطق كذلك»([32]).

 ومن الجدير ذكره أن النطق الدلالي لا يختص بالألفاظ، بل إن لظواهر العالم وعجائب الخلق نوع نطق وتكلم مع الناس، يدركون من خلاله وجود خالق حكيم وعظيم وعالم، حيث جاء في نهج البلاغة: «… وأرانا من ملكوت قدرته وعجائب ما نطقت به آثار حكمته..»([33])، وهذا النطق في الحقيقة هو النطق الدلالي لسفر التكوين الذي أملاهُ تعالى، وبعبارة أخرى: إن ظواهر العالم وودائع الكون قد نطقت بحكمته تعالى.

قسَّم علماء المنطق الدلالة اللفظية إلى ثلاثة أقسام: المطابقية، والتضمنية، والالتزامية. وفي الدلالة المطابقية يدل اللفظ على معناه بالمطابقة، كدلالة لفظ الكتاب، ودلالة لفظ الإنسان، على تمام معناهما؛ وأما في الدلالة التضمنية فإن اللفظ يدل على جزء معناه، كدلالة لفظ الكتاب على بعض أجزائه، كالأوراق، أو الغلاف مثلاً؛ وأما في الدلالة الالتزامية فإن اللفظ يدل على معنى خارج عن الموضوع له؛ وذلك لوجود تلازم وارتباط بين المعنى الموضوع له اللفظ وذلك المعنى الخارجي، كدلالة لفظ (الدواة) على (القلم)، بحيث لو قيل لشخص: أحضر الدواة سيحضر معها القلم أيضاً، وما ذلك إلا لدلالة لفظ الدواة على القلم بالدلالة الالتزامية([34]).

لا شك في أن ألفاظ القرآن الكريم تحتوي على جميع أنواع هذه الدلالات الثلاث المتقدمة، وتدل على معاني ومفاهيم خاصة، وتقيم نوعاً من الحوار والتكلم مع المخاطب من خلالها، وهذا هو النطق الدلالي للقرآن الذي أشير له في نهج البلاغة.

أرى أن من معاني نطق القرآن دلالته على معاني الآيات ومفاهيمها، وهو أمر واضح تمت الإشارة له بشكل علمي وعملي في الأقوال والآثار، وأما كون هذه المعاني مرشحة للاستنباط النظري والاحتجاج العملي فهو أمر آخر، خضع لمناقشة المفسرين، وازدحمت فيه آراء المحققين.

إن موضوع (حجية ظواهر القرآن في نهج البلاغة)، وإن كان بحاجة إلى مجال آخر، ولكن لمناسبته مع البحث نتطرق إلى ذكر بعض مسائله، قال الإمام علي× في الخطبة 183: «القرآن آمر زاجر، وصامت ناطق، حجة الله على خلقه».

إن هذه الخطبة التي عرّفت القرآن بوصفه صامتاً ناطقاً، وأنه حجة الله على الخلق، يمكن أن تثبت حجية ظواهر القرآن؛ وذلك لأن أصالة الظهور (كون الأصل في فهم المعاني هو ظاهر العبارات، وأن أي قيد زائد في العبارة بحاجة إلى قرينة) في الكلام العلوي تثبت لنا حقيقة مفادها أنّ تعاليم القرآن يمكن فهمها من خلال القرآن فقط، وأن لهذا الفهم والإدراك حجية؛ لأنّ الله تعالى قد جعل الحجية لها، والقدر المتيقَّن هو أن نقول: إن بعض آيات القرآن قابلة للاستنباط والاستدلال، وأنها حجة، إذا لم نقل بذلك في جميع ظواهر القرآن ودلالاته.

قال السيد الحسيني الشيرازي في ذيل هذه الخطبة: «صامت» لا يتكلم بلفظ، «ناطق» ببيان الأحكام، «حجة الله على الخلق» فإن الله يحتجّ على الخلق بالقرآن، يقول لهم: هلا عملتم بعدما بينت لكم في القرآن»([35]).

وقال الإمام علي× في موضع آخر من نهج البلاغة: «وما جالس هذا القرآن أحدٌ إلا قام عنه بزيادة أو نقصان، زيادة في هدىً، أو نقصان من عمىً»([36]).

ولا شك في أن زيادة الهداية ونقصان الضلالة أمر من مقولة العلم واليقين، وهو حجة على المكلفين. وبعبارة أخرى: إن الهداية إنما تكون بعد حصول العلم والفهم الصحيح لآيات القرآن، ولو لم يكن هذا الفهم والاستنباط النظري من القرآن معتبراً لما كان للهداية معنىً. وقد أضاف الإمام في هذه الخطبة قائلاً: «…واستدلوه على ربكم، واستنصحوه على أنفسكم، واتهموا عليه آراءكم، واستغشوا فيه أهواءكم»، أي إن القرآن يمكنه أن يكون معياراً وملاكاً معتبراً للاستدلال والاستنباط في العقائد، وميزاناً متقناً في رفض أو قبول الآراء والأفكار ومختلف إرادات الناس، وذلك لإمكان تمييز الأفكار الباطلة المنبثقة من الأهواء النفسية بواسطة القرآن، ولا يعني هذا سوى حجية ظواهر القرآن، ومما يجدر ذكره أن جملة «واستدلّوه على ربكم» من باب تبيين الموضوع دون تعيينه، أي إنّ حجية الاستدلال والاستنباط بالقرآن لا تنحصر في مباحث التوحيد ومعرفة الصانع، بل تشمل سائر البحوث الأخرى، كالنبوة،والمعاد، والإمامة، والسياسة، وغير ذلك، ونلاحظ النطق الدلالي والمفهومي للقرآن في هذه المسائل.

ويمكن لنظرة متأمّلة في روايات العرض على الكتاب، وخاصة تلك التي تبين سبب إثارة هذا الموضوع من قبل رسول الله‘، أن تلقي ضوءاً على موضوع بحثنا، فقد نقل صاحب قرب الإسناد عن النبي‘ قوله: «سيكذب عليَّ كاذبٌ كما كذب على من كان قبلي، فما جاءكم عني من حديث وافق كتاب الله فهو حديثي، وما خالف كتاب الله فليس من حديثي»([37])، وهذا الحديث يحتوي على أمرين:

 1ـ إن القرآن معيار ومحك لتقييم الروايات، فلا بد أن تكون ظواهره حجة.

 2ـ لابد من عرض جميع الأحاديث، وفي جميع الأصول، على القرآن، من دون اختصاص بالظروف أو الأزمنة الخاصة، من قبيل: وقوع التعارض بين الروايات، وأمثال ذلك.

كما أوضح النبي الأكرم‘ المعيار المتقدم لعدم وقوع الأمة الإسلامية في محذور اختلاط الأحاديث الصحيحة بالسقيمة، مما يدل على حجية ظواهر القرآن مطلقاً وفي جميع الأحوال.

ومن جهة أخرى هناك عبارة في نهج البلاغة تدل على أن العرض على القرآن الكريم؛ بغية معرفة صحيح الحديث من سقيمه، لا يختصّ بالأحاديث فقط، بل يشمل جميع الأمور الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والقضائية، فقد جاء في الخطبة 75 قوله: «..أنا حجيج المارقين، وخصيم المرتابين، وعلى كتاب الله تعرض الأمثال، وبما في الصدور تجازى العباد».

وبالالتفات إلى أن أداة التعريف في كلمة (الأمثال) تفيد استغراق الجنس والعموم يمكن القول: إن جميع الأمثال (من الوقائع أو الشبهات أو المتشابهات) يجب عرضها على القرآن. ومن جهة أخرى فإن مناخ وسبب الخطبة يرتبط بالأحداث السياسية والاجتماعية، واتهام الإمام× بقتل عثمان، والاحتجاجات التي قام بها الإمام في مواجهة مختلف الجماعات، ومنها: المارقين، وقد صرح الإمام بعد ذلك بأن أفضل السبل للخروج من هذه الأزمات هو العرض على كتاب الله([38]).

كما اتفق شارحو نهج البلاغة، في ذيل هذه الخطبة، على وجوب عرض جميع الشبهات على كتاب الله، وأن القرآن ميزان صالح لقياس الحق والباطل([39]).

وعليه يمكن معرفة آيات القرآن واستنباطها والحكم على أساسها؛ لأن الإمام× يقول في وصف أصحابه الأوفياء: «أوه على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه..»([40]).

وجميع هذه الشواهد المذكورة تؤكِّد على اعتبار وحجية ظواهر القرآن.

وقال صاحب تفسير التسنيم في هذا الشأن: «إن القرآن الكريم مستقل في أصل الحجية، وفي بيان الخطوط العامة لمعارف الدين، أي إن حجيته ذاتية ويقبل التفسير موضوعياً، وإن كانت الأفكار الخارجية تسهم؛ بوصفها مبدءاً قابلاً، في فهم القرآن، وإن الذين خوطبوا بالقرآن لا يحتاجون في فهم ظواهره لأكثر من العلوم الأساسية المؤثِّرة في فهم القرآن، وضمير لم تحجبه ظلمات الذنوب».

ثم أشار إلى أدلته على حجية ظواهر القرآن واستقلاله في بيان معارفه([41]).

وعليه فإن أحد معاني نطق القرآن هو عرض ونقل مداليله ومفاهيمه ومقاصده والتي تصدر من العالي إلى الداني وتحظى بحجية، وإن لم تشتمل على جميع الآيات وجميع مراتب فهمها.

 وأرى أن أغلب النزاع القائم بين الأصوليين والأخباريين في بحث حجية ظواهر القرآن لفظية، ويمكن الجمع بين أدلتهم؛ لأن شطراً من الآيات القرآنية عقلية، يمكن إدراكها واستنباطها والوصول إلى مقاصدها ومعانيها (حجية الظواهر)، ولكن هناك أيضاً آيات لا تنال بالعقل، ولا يمكن فهمها والاحتجاج بها إلا بتفسير وبيان من المعصوم× (عدم حجية الظواهر)، فقد ورد عن الإمام علي بن أبي طالب× قوله: «إن الله قسّم كلامه ثلاثة أقسام؛ فجعل قسماً منه يعرفه العالم والجاهل؛ وقسماً لا يعرفه إلا من صفا ذهنه، ولطف حسّه، وصحّ تمييزه، ممّن شرح الله صدره للإسلام؛ وقسماً لا يعلمه إلا الله وملائكته والراسخون في العلم»([42]).

وجاء في مقدمة تفسير التبيان للشيخ الطوسي (460هـ)، وهو أحد كبار وطلائع الأصوليين: إن آيات من قبيل {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}، أو الحديث القائل «إني مخلِّف فيكم الثقلين: كتاب الله؛ وعترتي أهل بيتي»، تُفيد حجية ظواهر القرآن على غرار حجية العترة؛ إذ كيف تثبت الحجية لما لا يمكن فهمه وتدبّره؟ فلما كان من الممكن فهم ظواهر القرآن كانت حجة لا محالة، كما أن روايات العرض دليل آخر على هذا المدَّعى، ثم عمد إلى تقسيم معاني القرآن إلى أربعة أقسام:

1ـ ما يختص الله بعلمه، ولا يجوز لغيره تكلّف معرفته.

2ـ ما يطابق ظاهرة معناه، ويمكن لكل عربي فهمه.

3ـ ما يكون مجملاً فيحتاج إلى شرح وتفصيل، كقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاة}، حيث بيَّن النبي‘ عدد الركعات في كل واحدة منها.

4ـ ما يكون مشتركاً لفظياً، ولا يمكن تحديد المعنى المراد لله تعالى إلا من قبل المعصوم×([43]).

 ويمكن تقسيم كلام الشيخ إلى قسمين رئيسين:

1ـ الآيات العقلية التي لا يتوقف فهمها على بيان المعصوم×.

2ـ الآيات التي لا يكون للعقل مسرح في إدراكها واستنباطها، ولا بد فيها من الرجوع إلى أحاديث المعصومين^، ولا تثبت الحجية لها إلا بعد بيان المعصوم×.

وقد أيد الشيخ يوسف البحراني (1186ق) ـ وهو من الأخباريين ـ هذا الكلام، قائلاً: «إن كلام الشيخ صحيح بشكل كامل، وبيان لجميع الروايات الواردة في حجية ظواهر القرآن»([44]).

وهذا الكلام من المحدِّث البحراني يدل على ذهابه إلى القول بحجية بعض ظواهر القرآن قبل بيان المعصوم×، ولا يرى ضرورة لتوسيع هذا النوع من الخلافات.

وقد ذهب الأستاذ معرفت ــ ضمن نقله كلام الشيخ والمحدِّث ـ إلى أن هذه الاختلافات لفظية، ويمكن الجمع بينها([45]).

وعليه فإن حجية ظواهر القرآن مقبولة باعتبار، وغير مقبولة باعتبار آخر، ويمكن الجمع بين عبارات نهج البلاغة من قبيل قوله: «لا تخاصمهم بالقرآن؛ فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه»([46])، وقوله: «كفى بالكتاب حجيجاً وخصيماً»([47])، وقوله: «على كتاب الله تعرض الأمثال»، ولا يكون بينها تعارض أو تنافٍ.

وخلاصة القول: في النطق الدلالي والمفهومي للقرآن الكريم يتم نقل المفاهيم والمداليل إلى المخاطب، حتى يشعر المخاطب عند تلاوته والتدبّر فيه وكأنه يحاوره، ومن جهة أخرى فإن بعض هذه المفاهيم والمداليل الانتقالية تثبت لها الحجية بشكل مستقل، ويمكن الحكم على أساسها، ولكن في البعض الآخر لا تثبت الحجية لظواهر القرآن إلا بعد بيان المعصوم×.

4 ـ النطق التفسيري للقرآن ـــــ

بعد بيان النطق اللفظي الصوتي، والنطق المجازي الاستعاري، والنطق الدلالي المفهومي، ندخل في بحث النطق التفسيري للقرآن من منظار نهج البلاغة.

جاء في الخطبة 133 قوله×: «كتاب الله تبصرون به، وتنطقون به، وتسمعون به، وينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، ولا يختلف في الله، ولا يخالف بصاحبه عن الله».

وهناك أمران في هذه الكلمات يوضِّحان موضوع (التفسير الذاتي للقرآن):

الأول: كما تقدم في النطق الدلالي ـ المفهومي فإن أحد معاني النطق هو انتقال المفهوم والمدلول، ويمكن جعل كلمة (ينطق) في العبارة المتقدمة بمعنى (يدلّ) أو (يبيّن). ومن جهة أخرى لم ترد كلمة (ينطق) لوحدها، بل وردت في ضمن قوله: «ينطق بعضه ببعض»، فيكون مفاد العبارة: إن بعض القرآن يُبيّن بعضه الآخر، وبعبارة أخرى: إن كلمة (ينطق) مع (بعضه ببعض) تدلان على النطق التفسيري.

الثاني: يمكننا ـ سواءٌ أخذنا حرف (الباء) في كلمة (ببعض) بمعنى البدل أم التبعيض([48])ـ اعتبار المراد من الكلام المتقدم هو تفسير وتبيين الآيات بآيات أخرى، أي إما أن نقول: إن بعض الآيات االقرآنية تنطق بدلاً عن البعض الآخر من الآيات، بأن تدل الباء على البدلية، أو يمكن أن يكون المعنى: إن بعض الآيات القرآنية تتحدث عن بعضها الآخر، وذلك فيما لو كانت (الباء) تدلّ على التبعيض.

وكذلك في «يشهد بعضه على بعض»، بالالتفات إلى معنى (الاستعلاء) في كلمة (على)([49])، يمكن الحكم بشهادة بعض الآيات على الآيات الأخرى. وعلى كل حال فإن الخطبة 133 يمكنها أن تدل على تفسير القرآن بالقرآن.

وهناك في الخطبة الأولى من نهج البلاغة قرينة واضحة تبيّن المراد من (النطق) و(الشهادة) في الخطبة 133. وقد اختص شطر من الخطبة الأولى بالحديث حول القرآن، وتعرضت إلى موارد من علوم القرآن، ثم ذكر الإمام× شأناً تفسيرياً للقرآن، حيث قال: «كتاب ربكم فيكم، مبيناً حلاله وحرامه، وفرائضه وفضائله، وناسخه ومنسوخه، ورخصه وعزائمه، وخاصّه وعامّه، مفسِّراً مجمله (جمله)، ومبيِّناً غوامضه».

وقد ذكر بعض الشارحين، مثل: الرواندي (القرن السادس)([50])، وعز الدين الآملي (القرن التاسع)([51])، في ذيل هذه الخطبة شواهد من القرآن الكريم تدل على تفسير القرآن بالقرآن.

وهناك من يرى إرجاع كلمة «مفسِّراً» إلى النبي‘.

ولكن ينبغي القول في الجواب: إن شطراً من تفسير آيات القرآن من قبل النبي‘ قد تم من خلال إرجاعه إلى آيات القرآن الأخرى، وما قام به النبي‘ ليس سوى بيان التفسير الذاتي للآيات القرآنية، وتفسير بعضها للبعض الآخر، وبعبارة أخرى: كان النبي‘ عند بيان بعض الآيات يذكر للناس آيات أخرى نزلت في مقام تبيين الآيات المتقدمة، مثلاً: قال الرواندي (القرن السادس) في شرح قوله×: «مفسراً جمله ومبيناً غوامضه»: «أما قوله: «مفسراً جمله» فكقوله: {أَقيمُوا الصَّلاة}، ثم قال: {فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} (الروم: 17 ـ 18)، وقد فسر في هذه الآية ما أُجمل هناك، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (الطلاق: 1)، ثم فسر كيفية طلاق الحامل بقوله: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (الطلاق: 4) وأما قوله: مُبيِّناً غوامضه فكقوله: {وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ} (البقرة: 179)، ثم بيَّن بقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}، (البقرة: 194)، وكآيات المواريث وأشباهها..([52]).

وتدل هذه العبارات على أن الرواندي كان يرى أن بعض آيات القرآن تتكفل تفسير غيرها من الآيات، وأنه يؤمن بالتفسير الموضوعي، لأنه يرى أن فاعل أفعال من قبيل (قال) و(فسّر) و(بيّن) هو القرآن الكريم، وليس النبي الأكرم‘.

وأرى أن القرائن المتوفرة في الخطبة الأولى من نهج البلاغة لا تدل على انتساب تبيين وتفسير الآيات إلى النبي‘، وإنما تنسب هذه الوظيفة إلى القرآن الكريم؛ إذ يمكن بيان كلام الإمام× على النحو الآتي: إن النبي الأكرم‘ كسائر من سبقه من الأنبياء، وقد خلف فيكم ما خلفت الأنبياء في أممها، ومنها: كتاب ربكم فيكم، مبيناً حلاله وحرامه، وفرائضه وفضائله..، مفسراً مجمله، ومبيناً غوامضه..، ومن غير الضروري جعل النبي الأكرم‘ هو المراد من قوله: «مفسراً» و«مبيناً». بل يبدو أن جعل القرآن هو المقصود أنسب بسياق النصّ وبنيته العامة.

وقد مال المحققون والمترجمون الكبار، من أمثال: الشهيدي، والطالقاني، والجعفري، والفقيهي، ومكارم الشيرازي، في ترجماتهم إلى ترجيح هذا المعنى، ولم يتعرضوا لتفسير وتبيين آيات القرآن من قبل النبي‘. وهناك أمر آخر الآخر وهو أنني لا أستبعد إمكان (التقطيع) في هذا الموضوع من الخطبة الأولى؛ وذلك لأن الشريف الرضي قد صرح بنفسه في مقدمة نهج البلاغة أنه عمد إلى انتقاء واختيار باقة من كلمات الإمام علي بن أبي طالب×، ولم ينقل الخطب بحذافيرها، والذي فرض عليه ذلك هو مراعاة الناحية البلاغية، ومن الطبيعي في صورة التقطيع أن يتعرض مفهوم ومدلول النص إلى الإبهام والغموض. ولم يسلك شارحو نهج البلاغة طريقاً واحداً في هذا المضمار، فلو أخذنا عبارة: «كتاب ربكم، مبيناً حلاله وحرامه، وفرائضه وفضائله، وناسخه ومنسوخه»، كجزءٍ أول، وعبارة: «مفسراً جمله، ومبيناً غوامضه» كجزءٍ ثانٍ، أمكن بيان أراء الشرّاح على هذا النحو.

وقد رأى الميرزا حبيب الله الخوئي انتساب كلا الجزئين إلى القرآن، أي إن القرآن مبيِّنٌ لحلاله وحرامه، وفرائضه وفضائله، ومفسِّرٌ مجمله، ومبيِّنٌ غوامضه([53]).

وقد نسب الشوشتري مجموع الكلام إلى القرآن الكريم والنبي‘، ويرى لكلا الثقلين سهم في تفسير وتبيين الآيات القرآنية([54]).

بينما ينسب الحسيني الشيرازي الجزء الأول إلى القرآن الكريم، والجزء الثاني إلى النبي‘([55]).

وقال الروغني القزويني في هذا الشأن: (الكتاب) بدل من (ما)، و(مبيناً) منصوب على الحالية، أو بصيغة اسم الفاعل، وعليه يكون ذو الحال ضمير (خلف)، أي النبي‘، أو اسم المفعول، وذو الحال هو الكتاب، وبعد ذكره هذين الاحتمالين بشأن الجزء الأول يرى في الجزء الثاني انتساب التفسير والتبيين إلى النبي‘ وأهل بيته^([56]).

وقال ابن ميثم البحراني بعد توضيح طويل: «إن جميع هذه الخصائص التي ينسبها الإمام× إلى القرآن بمعنى أن القرآن مشتمل على جميع هذه الخصائص، وبما أن هذه المفاهيم بحاجة إلى توضيح فإن النبي‘ يضطلع بهذهِ الوظيفة من خلال سنته الشريفة([57]).

إن موضوع تفسير القرآن بالقرآن أو ما يصطلح عليه بـ(النطق التفسيري للقرآن)، مضافاً إلى أنه مقتضى أسلوب الحوار العقلائي من حيث قواعد التفسير، فقد تم التأكيد عليه في الآيات والروايات أيضاً، ويعد من الأساليب التفسيرية لدى أهل البيت^..، فقد استند أئمة الدين في تفسير بعض آيات القرآن إلى آيات أخرى منه، وقد استفاد أتباع هذا المذهب التفسيري وبعض المفسِّرين في القرن الأول والثاني في آرائهم التفسيرية من هذا المصدر، الأمر الذي يشير إلى الماضي العريق لهذا المنهج. وقد ظهرت الاستفادة من آيات القرآن في التفسير بشكل كامل في التفاسير المنسوبة لابن عباس، وسعيد بن جبير، ومقاتل، ومجاهد، وعكرمة، وابن زيد. ومن باب المثال: قال عكرمة في تفسير قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} (الأنبياء: 30): كانت السماء والأرض رتقاً لا تخرجان شيئاً، فانفتحت السماء بالمطر، والأرض بالنبات، وهو قوله تعالى: {وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ}([58]).

إن النطق التفسيري للقرآن ينقسم إلى قسمين:

الأول: التصريحي، وهو الذي تدل فيه الآيات مباشرة على تفسير وتبيين آيات أخرى، وبعبارة أخرى: إن القارئ للقرآن يدرك أثناء تلاوة الآيات أنها مبينة ومفسرة لآيات أخرى من القرآن.

الثاني: التلميحي، وهو الذي لا يتسنى فيه لقارئ القرآن للوهلة الأولى أن يدرك الشأن التفسيري للآية، بل لا يدرك ذلك إلا بعد التدبر والعثور على القرائن وبعبارة أخرى: لابد من وسائط ولوازم للوصول إلى الشأن التفسيري للآية.

وبرغم أن هناك من الشراح، كابن ميثم البحراني (679ق)، من أرجع (مفسراً) في عبارة (مفسِّراً مجمله) في الخطبة الأولى إلى النبي‘ دون القرآن، فقد صرّح في موضع آخر من شرحه أنّ بعض آيات القرآن يفسِّر بعضها الآخر، فمثلاً: قال ابن ميثم في ذيل الخطبة 133: «.. ينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض..»: أي يفسر بعضُه بعضَه الآخر، كالمبيِّن المفسِّر للمجمل، والمقيِّد المبيِّن للمطلق، والمخصِّص المبيِّن للعام، ويُشهد بعضُه بعضَه، أي يستشهد ببعضه على أن المراد بعض آخر، وهو قريب من سابقه»([59])، أي إن قسماً من القرآن يفسر القسم الآخر، كالآيات المبيِّنة التي تفسّر المجملة، والمقيدة التي تبيِّن المطلقة، والآيات المخصِّصة التي تبيّن الآيات العامة. وكذلك شهادة بعض الآيات، أي إن بعض الآيات يشهد لبعض الآيات الأخرى، ويحدد المراد والمقصود من الآية السابقة.

وقال العلامة الجعفري في كتابه «القرآن في الإسلام» في شرح الكلام المتقدم: «إن الوحدة والتناسق، وعدم التناقض والاختلاف، في القرآن يستوجب أن تقوم بعض الآيات بدور المفسر والشاهد على غيرها من الآيات»، ثم يستعرض أمثلة وشواهد كثيرة على أسلوب تفسير القرآن بالقرآن([60]).

كما ذهب الشراح الآخرون لنهج البلاغة في ذيل الخطبة 133 إلى أن المراد من (ينطق) (يفسر)، أي إنهم ذهبوا إلى النطق التفسيري للقرآن، ولكننا نعرض عن ذكر أقوالهم تجنباً لإطالة الكلام، وننصح القارئ الكريم بمراجعة أقوالهم في مظانها.

وقد قال العلامة الطباطبائي حول أسلوب تفسير القرآن بالقرآن: «هناك في القرآن آيات تفسر آياتٍ أخرى، وإن دور النبي الأكرم‘ وأهل بيته^ في ما يتعلق بالقرآن هو دور المعلم المعصوم الذي لا يخطئ في تعليمه أبداً، وعليه لن يخالف تفسيرهم التفسير الذي نحصل عليه من خلال ضم بعض الآيات لبعضها الآخر»، ثم ذكر نماذج لأسلوب تفسير القرآن بالقرآن([61])، وعليه فإن أحد معاني نطق القرآن هو (النطق التفسيري) الناظر إلى (التفسير الموضوعي)، أو أسلوب تفسير القرآن بالقرآن.

 ب ـ صمت القرآن ــــــ

أرجع ابن فارس معنى (الصمت) إلى الإبهام والإغلاق([62])، إلا أن ابن منظور اختار معنى (السكوت)([63])، وهو في الحقيقة نوع من الإبهام الذي أشار إليه ابن فارس.

إن بيان المعنى الاصطلاحي لـ(نطق القرآن) يغنينا عن توضيح وتبيين معاني (صمت القرآن)، ولكن يمكننا الإشارة بشكل عام إلى ثلاثة معانٍ لصمت القرآن، وهي: 1ـ الصمت الحقيقي؛ 2ـ الصمت الاستعاري؛ 3ـ الصمت الدلالي والمفهومي.

1ـ الصمت الحقيقي ــــــ

إن هذا النوع من الصمت يقع في قبال النطق اللفظي ــ الصوتي المحسوس والملموس بشكل كامل، يعبّر عنه بالسكوت الظاهري للقرآن. ويمكن ملاحظة هذا المعنى من الصمت في كلمات من قبيل: «فالقرآن آمر زاجر، وصامت ناطق»([64])، و«ذلك القرآن فاستنطقوه، ولن ينطق»([65])، حيث إن المراد من كلمة (صامت) هو السكوت والصمت الحقيقي والطبيعي للقرآن، وإن عبارة «لن ينطق» تعني (يسكت) بمعنى السكوت اللفظي الدائم للقرآن.

 وقد ذكر الميرزا حبيب الله الخوئي في ما يتعلق بـ(الصامت الناطق): «لما كان القرآن عبارة عن مجموعة من الحروف والأصوات الصامتة فقد وصف بالصامت؛ لأن النطق يتأتى من خلال أدوات ووسائل معينة لا حظَّ للكلام والحروف فيها»([66]).

وقال الكيذري البيهقي في هذا الشأن: «صامت ناطق: أي مع سكوته ينطق بالحكمة([67]).

كما ذهب الحسيني الشيرازي إلى أن هذا النوع من الصمت هو عدم التلفظ بالكلمات والألفاظ([68]).

2ـ الصمت الاستعاري ــــــ

ذهب بعض الشراح إلى مجازية هذا النوع من الصمت في القرآن، مع توضيح أنهم رأوا الصمت بمعنى عدم النطق لشيء حقيقي، مثل القرآن الذي من شأنه النطق، وعليه لم يروا استعمال لفظ (الصامت) في القرآن حقيقياً، وذهبوا إلى مجازيته، وأن العلاقة القائمة هي المشابهة، أي أنهم شبهوا القرآن بكائن غير ناطق، واستعير من هذا المشبه به أحد لوازمه، وهو الصمت، وهو في الواقع من نوع الاستعارة التصريحية الترشيحية([69])، وعليه يمكن أن يكون الصمت الاستعاري أحد معاني (صمت القرآن)، ولا يخفى أن لفظ (الناطق) في النطق المجازي قد استعمل في غير المعنى الموضوع له، واستعمل لفظ (الصامت) في الصمت المجازي في غير المعنى الموضوع له أيضاً.

 

3ـ الصمت الدلالي والمفهومي ــــــ

يقع هذا النوع من الصمت في قبال النطق الدلالي والمفهومي، الذي تقدم بحثه في قسم أنواع النطق القرآني، وكما يمكن تصور أن النطق الدلالي والمفهومي للقرآن يعني نقل وعرض مفاهيم ومداليل القرآن يمكن القول في الصمت الدلالي بانتفاء هذا النقل والعرض. وبعبارة أخرى: إن الصمت الدلالي يقول: إن القرآن لوحده غير قادر على نقل وإراءة مقاصده ومعارفه، ولا يمكن نقل مفاهيمه إلا بواسطة أهل البيت^ وأتباع مدرستهم. ويجب القول هنا: هناك القليل من الآيات القرآنية المشتملة على هذا الصمت، ولم تتضمن مفهوماً ومعنىً غير السكوت، كالحروف المقطعة في بدايات بعض السور. وعلى كل حال فإن هذا الموضوع لا يصدق على القرآن عادة؛ إذ من خلال التدبر والتفكير في أكثر آيات القرآن يحصل القارئ على مداليل ومفاهيم القرآن، وإن كل آية تدل على معاني خاصة، وهو في الواقع نوع من النطق الدلالي، خصوصاً إذا تم الرجوع ــ عند البحث في آية ـ إلى آيات مشابهة أخرى في عملية جامعة من خلال القرائن المحفوفة بها، من جهة أخرى فإن عبارة: «ذلك القرآن فاستنطقوه، ولن ينطق..»([70]) تحكي عن أن القرآن، وإن لم يكن له نطق لفظي حقيقي، ولكن استنطاقه واستخراج معارفه وحقائقه مما يدل على نطقه الدلالي (دون الصمت الدلالي)، وإلا فليس هناك وجه لاستعمال باب (الاستفعال) لكلمة (استنطقوه). ومن هنا يمكن بيان العبارة المتقدمة على النحو الآتي: يجب عليكم أن تستفهموا القرآن الكريم، وذلك لأنه لا يحدثكم بنطق لفظي وصوتي أبداً.

ولكن في المجموع ومع تجنب الإفراط والتفريط يمكن الذهاب إلى كُلٍّ من النطق والصمت الدلالي في القرآن، وعدم نفي أيٍّ منهما بالمطلق؛ لأن موقف القرآن في بعض الآيات هو (الصمت)، وفي بعضها الآخر هو (النطق).

الهوامش

(*) أستاذ جامعي، وعضو الهيئة العلمية في جامعة طهران.

(**) باحث، يحضِّر الدكتوراه في مجال علوم القرآن والحديث، وعضو الهيئة العلمية في مؤسسة نهج البلاغة.

([1]) وهناك في هذا المجال شواهد كثيرة، ومن هذه الروايات النبويّة: «علي مع القرآن والقرآن مع علي»، مناقب أمير المؤمنين، تأليف محمد بن سليمان الكوفي 2: 616؛ مستدرك الحاكم النيسابوري 3: 124، و«إنّ عليّاً هو أخي… إنّ الله أنزل عليّ القرآن، ومن ابتغى علمه عند غير عليّ هلك»؛ أمالي الصدوق: 64، و«أنا مدينة العلم وعلي بابها»؛ فرائد السمطين، للجويني 2: 98؛ أو ما ورد عن الإمام علي نفسه في هذا الشأن، حيث قال: «فما نزلت على رسول الله آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها عليّ؛ فكتبتها بخطي، وعلمني تأويلها وتفسيرها، وناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وخاصها وعامها…»، الكافي، للكليني 7: 422؛ تفسير العياشي 1: 17؛ كما ورد عن ابن عباس، وهو الذي يلقَّب بالكثير من ألفاظ المدح، من قبيل: (ترجمان القرآن)، و(حبر الأمّة): «ما أخذت من تفسيرٍ فعن علي بن أبي طالب»، الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي 1: 35.

([2]) تخضع مصادر التفسير والعلوم ذات الصلة بالتفسير للشدة والضعف أو النفي والإثبات.

([3]) راجع كتاب: المذاهب التفسيرية، لمؤلفه: علي أكبر بابائي 1: 269 ــ 273.

([4]) اعتمدنا في بيان تسلسل الخطب والكتب وقصار الكلمات على نهج البلاغة لمحمد الدشتي.

([5]) نهج البلاغة، الخطبة 133.

([6]) ابن فارس، ذيل لفظ نَطَقَ.

([7]) المصدر السابق، ذيل مفردة صمت.

([8]) نهج البلاغة، الخطبة 147.

([9]) نهج البلاغة، الخطبة: 96.

([10]) نهج البلاغة،الخطبة: 108.

([11]) نهج البلاغة، الخطبة:183.

([12]) نهج البلاغة، الخطبة: 158.

([13]) قطب الدين الراوندي، منهاج البراعة 2: 41.

([14]) ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة: 104.

([15]) السيد علي أكبر القرشي، مفردات نهج البلاغة: 165.

([16]) محمد تقي الجعفري، شرح نهج البلاغة 22: 94.

([17]) المصدر السابق 26: 97.

([18]) ابن ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة، الخطبة 128، والخطبة 123.

([19]) ابن ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة 3: 273.

([20]) بحار الأنوار 38: 94.

([21]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 9: 217، الخطبة 159.

([22]) ابن ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة 3: 273.

([23]) المصدر السابق: الخطبة 157.

([24]) محمد تقي الجعفري، شرح نهج البلاغة 26: 97.

([25]) بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة 13: 73.

([26]) الشيرازي، توضيح نهج البلاغة 2: 417.

([27]) المصدر السابق 2: 419.

([28]) سعد الدين التفتازاني، شرح المختصر 2: 61.

([29]) حبيب الله الخوئي، منهاج البراعة 10: 281.

([30]) حبيب الله الخوئي، منهاج البراعة 8: 308.

([31]) راجع: كتاب ابن ميثم البحراني 3: 154، وحبيب الله الخوئي 8: 308.

([32]) البحراني، شرح نهج البلاغة 3: 154.

([33]) نهج البلاغة، الخطبة 91.

([34]) محمد رضا المظفر، المنطق 1: 38.

([35]) الشيرازي، توضيح نهج البلاغة 2: 107.

([36]) نهج البلاغة، الخطبة 176.

([37]) الحميري: 44.

([38]) راجع: ابن ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة 2: 207، الخطبة 72.

([39]) راجع كتاب أنصاريات 1: 207، الجعفري 11: 192؛الراوندي 1: 308؛السرخسي 1: 81.

([40]) الخطبة: 180.

([41]) راجع كتاب عبد الله الجوادي الآملي 1: 64 ــ 65.

([42]) الطبرسي، الاحتجاج 1: 581؛ ومحمد بن الحسن الحر العاملي، وسائل الشيعة 18: 143.

([43]) راجع: كتاب التبيان، للشيخ محمد بن الحسن الطوسي: 5 ـ 6.

([44]) يوسف البحراني 1: 32.

([45]) راجع: محمد هادي معرفت، التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب 1: 94 ــ 95.

([46]) نهج البلاغة، الكتاب 77.

([47]) نهج البلاغة، الخطبة 83.

([48]) راجع: كتاب عبد الله بن يوسف بن هشام: ص82 ـ 83.

([49]) راجع: ابن هشام: 123.

([50]) الراوندي، منهاج البراعة 1: 97.

([51]) عز الدين الآملي، شرح نهج البلاغة: 197.

([52]) راجع: كتاب قطب الدين الراوندي 1: 96 ـ 97.

([53]) حبيب الله الخوئي، منهاج البراعة 2: 185.

([54]) التستري، بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة 14: 5.

([55]) الشيرازي، توضيح نهج البلاغة 1: 42.

([56]) الروغني القزويني 1: 33.

([57]) البحراني، شرح نهج البلاغة 1: 219.

([58]) راجع: محمود الرجبي، منهج تفسير القرآن: 21 ــ 29.

([59]) ابن ميثم 3: 160.

([60]) راجع: كتاب القرآن في الإسلام، للجعفري 23: 253.

([61]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن: 60.

([62]) ابن فارس، مقاييس اللغة: 533.

([63]) لسان العرب 7: 400.

([64]) الخطبة 183.

([65]) الخطبة 133.

([66]) الخوئي، منهاج البراعة 10: 281، الخطبة 182.

([67]) الكيذري البيهقي 2: 123.

([68]) الشيرازي، توضيح نهج البلاغة 2: 107.

([69]) راجع: كتاب منهاج البراعة، لحبيب الله الخوئي 1: 281.

([70]) الخطبة 133.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً