أحدث المقالات

فكرة بوذية مرفوضة

أ. حميد رضا مظاهري يتربي(*)

ترجمة: السيد حسن الهاشمي

سروش ومفارقة الطروحات والمستوى العلمي ـــــــ

منذ سنوات والدكتور سروش يردد أموراً مبهمة وغير مفهومة بشكل جيد، ويبدو أن الأفكار التي يطرحها بشأن الإسلام جديدة، ولم يسبقه إليها غيره.

إن ما يثير دهشتي هو أن المستوى العلمي لسروش أكبر من أن يتورّط في سوء فهم حول هذه المسائل، كالبحث في خلق القرآن، والذي بحثه المسلمون منذ القدم، إلا أن أساس الموضوع كان شيئاً آخر، حيث كان الكلام يدور حول القرآن، وهل هو مخلوق لله أو هو أزلي؟ ورواياتنا المروية عن أئمتنا^ تقول بخلق القرآن من قبل الله، وأما كونه من صنع النبي فهو بديهي البطلان، وقد أقيمت لذلك أدلة واضحة في علم الكلام، ولست بوارد التعرض لها هنا.

إذا تم بيان الكلام بشكل منطقي أمكن التساؤل عن انعكاساته المنطقية، وأما إذا أطلق الكلام على عواهنه، ومن دون أن يصبّ في إطار علمي، فلن يمكن التكهن بانعكاساته إلا من قبل المتكلم نفسه، وأما لو تابع شخص هذه الأقوال منطقياً فإن الأمر ينتهي به إلى إنكار حجية الوحي والنبوة، والخروج من الإسلام، بل ومن كل دين. ونحن نقطع بأنه لا يريد الوصول إلى هذه النتائج، وعلى مستوى معرفتي فقد كان شخصاً متديناً.

بعض العقائد الباطلة نتيجة بُعد نفسي ـــــــ

يحدث أحياناً ـ كنتيجة لبعض المشاكل والكوارث ـ أن يختل الاتزان الذهني. وقد شهدنا لذلك أمثلة بين طلاب الجامعات والأساتذة الكبار، من ذلك أن أحد الأساتذة المحترمين والمتدينين، والذي كان على درجة علمية فريدة، فقد ابنه في حادثة سير، فبقي لفترة طويلة في صراع نفسي، أدى به إلى التشكيك في عدل الله ورحمته الواسعة، فلم تكن آراؤه منطقية، ولكنها تعود في جذورها إلى خلفية نفسية وعاطفية، وبعد مضي فترة ـ وبسبب ما يتمتع به من إيمان قلبي وتواضع في مراجعة علماء الدين ـ تخلّص من شكوكه، وعاد أكثر أيماناً من ذي قبل، حتى أجد في نفسي رغبة في الاقتداء بصلاته.

تأثر سروش بالبوذية ـــــــ

بعد أن ذاقت المجتمعات الغربية ويلات الإلحاد والبعد عن الدين والمعنويات كثرت التيارات العرفانية المنبثقة عن البوذية وغيرها من الديانات القديمة الأخرى، وبدأ الغربيون بالعودة إلى أحضان الدين، وقد أبدى الكثير منهم ميلاً نحو القراءة الجديدة عن البوذية، حيث لا وجود فيها للاعتقاد بالله والوحي والنبوة، ويتلخص الأمر في الإنسان، وأن بإمكان كلّ شخص أن يكون (بوذا)، وأن بلوغ قمة المعنوية والروحية يعود إلى تجربة إنسانية محضة، وأن الإنسان إنما يصل إلى النور والوعي المعنوي من قبل نفسه، وليس من قبل حقيقة أقوى وأفضل وراء شخصيته الباطنة.

إن الخصيصة البارزة للبوذية، والتي مكنتها من أن تفتح لنفسها منفذاً إلى الحضارة الغربية، هي محورية الإنسان، ويبدو أن هناك في إيران من أخذ يبدي ميلاً نحو هذه الاتجاه، وفي هذا الاتجاه ينبثق العرفان من نفس الإنسان، فهو كل شيء، وليس الله الذي هو الأول والآخر والظاهر والباطن.

لست أدري ما هو منشأ كلامه القائل: <إن هذا الإلهام ينبثق من نفس النبي، وإن نفس كل فردٍ هي نفس إلهية>، ولكن هناك تشابه كبير بينه وبين الأفكار البوذية والبوذية الحديثة. إن الإسلام يرى للإنسان روحاً إلهية تمكنه ـ من خلال الإيمان والعمل الصالح ـ من إعادة هذه النفحة الإلهية والنور الإلهي إلى أصله. وفي هذه العودة يغدو الإنسان مرآة لأنوار الحق، ويؤمن بعدميته، ويرى كلّ الوجود لله، ويرى نفسه مغموراً بعلمه ونوره ورحمته وقدرته اللامتناهية، ويدرك أن كل شيءٍ من الله، بما في ذلك وجود الإنسان نفسه، ويقرّ بعبوديته المطلقة لله تبارك وتعالى.

يرى العرفان الإسلامي أن تجاوز النفس والوصول والاتصال بالحقيقة العليا هو المصدر للعلوم العرفانية، وأن كل مَنْ يتحرّر من أسر هواه يقترب من أصل الوجود والكمال بمقدار درجة تحرره، وتزداد إدراكاته العرفانية. وإن العرفاء يسمون هذه المدركات، التي هي نوع من انكشاف الغيب، بالنبوة، فالنبوّة من الإنباء وبلوغ حقيقة الخبر، وأدرك العرفاء أن الانكشاف التام الذي حصل عليه النبي محمد’ يختلف عن الانكشاف الحاصل لسائر العرفاء والسالكين، ومن هنا فرّقوا بين النبوة التشريعية، التي يختصّ بها رسول الله’، والسالكين، ومعيار الانكشاف الإنبائي هو الكشف المحمدي، ومن هنا قالوا: <كل استنتاج باطني مخالف للشريعة المحمدية هو استنتاج شيطاني وباطل>.

فقدان دعوى بشرية القرآن للامتداد التاريخي في الموروث الإسلامي ـــــــ

وعليه لا يستند الكلام المتقدّم إلى أي مستند في التاريخ الإسلامي الفكري، كما انه ليس إبداعاً علمياً منطقياً مستدلاً يعتدّ به، مضافاً إلى انه لا يعدّ كشفاً وشهوداً وفقاً للميثولوجيا العرفانية؛ وذلك لأن أبسط طالب يعلم أن الله قد حفظ كتابة من أن تطاله يد الإنسان، ولو كان ذلك الإنسان بحجم النبي الأكرم’، قال تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾.

وفي ما يتعلق بالتفوق العلمي للنبي الأكرم’ على أهل زمانه نقول: في العرفان الذي يبلغ الاتصال فيه بالله حدّ النبوّة، بل وحتى الإمامة، يتجرد الإنسان فيه من جميع الأهواء النفسية، ويتحول إلى كتلة من العلم الإلهي اللامتناهي، وما علوم عصرنا عن الكون إلا بمقدار ورقة في محيط العلم الإلهي. إن جزءاً كبيراً من علوم عصرنا لا تعدو كونها نظريات سيثبت المستقبل بطلانها، وإن المقدار المنكشف من الواقع قد سبق بيانه في العلم الإلهي، وجرى على ألسنة المعصومين^، حيث إن علمهم من علم الله، ونورهم من نور الله. إن كلام رسول الله وحي، وإن كلام المعصومين ـ بتبع النبي ـ ينبع من الوحي الإلهي، ولا يقولون شيئاً من عند أنفسهم؛ لأنّ كل ما للعبد إنما هو من الله وإليه.

حاجة الإنسان إلى الوحي والنبوة ـــــــ

 رغم تمتع الإنسان بروح إلهية، ولذلك تدعوه فطرته إلى الانحياز لله، نجد أن الله خلقه مختاراً، وجعل من النفس الإنسانية معتركاً يتنازعه الملائكة التي تدعوه إلى الخير والشيطان الذي يدعوه إلى الشر، وقد تغلب النبي برحمة الله على الشيطان، وقد منّ الله بهذه النعمة على العالمين، قال تعالى: ((كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)) وإن الارتباط بالوحي والنبوّة يؤدي إلى غلبة العقل وملاك الخير على شيطان النفس.

إن حبل القرآن الذي يتم التمسك به من خلال اللجوء إلى إدراك معانيه التي بينها أهل البيت^ لا يوضِّح الطريق إلى الله فحسب، وإنما يسير به في ذلك الطريق قدماً حتى بلوغ الغاية، وإن الذين ينتصرون في هذا المعترك الداخلي، ويغدو وجودهم مفعماً بنور الله وعلمه، سيتدفق القرآن الكريم من وجودهم، ويتجلى كلام الله الذي هو معشوقهم في مرآة قلوبهم، وإن الذين شاهدوا صاحب هذا الكلام بعين يقينهم يدركون أكثر من غيرهم أن هذا إنما هو كلام الله، ويبدأون بالانتهال من معين معانيه الإلهية اللامتناهية، ويشاهدون فيه كل لحظة إطلالة جديدة لمحبوبهم الأزلي، ومن هنا قال الإمام علي×: <لقد تجلى الله في كلامه>.

______________________________________

(*) باحث في مؤسسة (فرهنگ وأنديشه إسلامي) للدراسات والأبحاث.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً