أحدث المقالات

 مطالعة ونقد

ـ القسم الثالث ـ

د. الشيخ محمد جعفر علمي(*)

ترجمة: صالح البدراوي

(a)      دراسة نظرية فضل الرحمن

كل ما سبق يمثل أسلوبه المختار لتجديد منهج الاجتهاد. أسلوب فضل الرحمن هذا، والذي سنشير إليه في الجزء الختامي لهذه المقالة، حظي بترحيب واسع من قبل أوساط المثقفين الحداثويين، كما لاقى ترحيباً واسعاً في مختلف البلدان، وخاصة في أندونيسيا وتركيا. كما أن الكثير من المجدِّدين الذين يعيشون في البلدان الأوروبية وإنجلترا يستعينون بأسلوبه في التحليل التاريخي للأحكام الإسلامية في مؤلَّفاتهم وكتاباتهم.

الأمر الذي يلاحظ جيّداً في مؤلَّفات وآثار فضل الرحمن هو أنه مسلم مؤمن بدينه، كان في صدد العثور على مخرج للمعضلات الاجتماعية، والأسئلة والإشكالات المثارة بما يتناسب مع أوضاع وظروف عصرنا المختلفة عن القرون الماضية، بدافع من حرصه وحمله لهموم دينه. من الملاحظات الجديرة بالاهتمام في آرائه هو الاهتمام بعصمة النبي الأكرم’، والتأكيد على ضرورة إعادة فتح باب الاجتهاد في الفقه، وتحذيراته المتكرِّرة من خطر العلمانية، وكذلك الفصل بين الذاتيات والعرضيات في الدين، أو القواعد والأصول الثابتة والأمور المتغيرة في دائرة الشريعة. يُعدّ التأكيد على عصمة النبي الأكرم اعترافاً بأن كل ما جاء في القرآن الكريم وأحاديث النبي الأكرم وسيرته العطرة يتمتع بالصدق والحقّ. من هنا يُلاحظ أن فضل الرحمن جعل دائرة تفسيره الجديد للدين محدودة بنطاق الأحكام الاجتماعية للشريعة، وليس جميع التعاليم الدينية بما في ذلك العقائد، والتعاليم الدينية المرتبطة بعوالم الغيب، وكذلك الأحكام العبادية، كالصلاة والصوم والحج…إلخ. بالإضافة إلى ذلك فإن جهوده في تقديم الحلول ـ على أساس المبادئ الإسلامية ـ لبعض المعضلات الاجتماعية التي تعصف بمختلف المجتمعات الإسلامية ـ بغض النظر عن صحّة هذه الحلول أو خطأها ـ تُعدّ في حدّ ذاتها من النقاط الإيجابية الأخرى للجهود الفكرية لفضل الرحمن.

ومع ذلك فإن جهده الفكري هذا محلّ شكوك حقيقية من عدة جهات صغيرة وكبيرة، وسنشير إليها في نهاية المقالة.

(b)     حدوث القرآن وقدمه والثبات والتغيير في الأحكام

إن أحد الأسس الكلامية التي استخدمت من قبل فضل الرحمن؛ لإثبات نظريته، هو موضوعة حدوث القرآن وقدمه. فهو يرى أن القرآن الكريم؛ بما أنه حادث، فأحكامه تاريخية، ولا يمكن أن تتَّسم بالثبات. إن ربط موضوع الثبات والتغيير بمسألة حدوث القرآن وقدمه يُعدّ هو الآخر خطأً فاحشاً في نظرية فضل الرحمن. إنّ موضوع حدوث القرآن وقدمه من المواضيع الفرعية لموضوع أسماء الله وصفاته؛ إذ بعد إثبات الذات المقدَّسة لله سبحانه وتعالى ووحدانيته يتم الانتقال في الكلام والفلسفة الإسلامية إلى موضوع أسماء الله وصفاته، بما في ذلك الأسماء الذاتية والفعلية. وهنا يوجد اختلاف في الرأي بين الفريقين الرئيسيين للمتكلِّمين السنّة: الأشاعرة؛ والمعتزلة. فالأشاعرة يقولون بقدم الأسماء الذاتية، ولكنهم لم ينجحوا في تبيين كيفية ارتباط الأسماء الذاتية بالحق تعالى؛ بسبب ضعفهم النظري، ولذا قالوا بقدمها إلى جانب قدم الذات المقدسة لله سبحانه وتعالى. وفي الجهة المقابلة فإن المعتزلة، الذين كانوا لا يملكون أيضاً القدرة على توضيح كيفية ارتباط الأسماء الذاتية بالذات، وكانوا يقولون من ناحية أخرى بأن القدم هو مناط عدم الاحتياج للعلة، اعتبروا نظرية الأشاعرة منافية لتوحيد الحق تعالى، وقالوا ضمن إنكارهم لقِدم أسماء الذات: إن الذات الإلهية هي نائب مناب الذوات صاحبة العلم والقدرة والحياة، دون أن تكون ـ مثل هذه الصفات ـ ثابتة لله سبحانه في الواقع والظرف الخارج، أو أن تكون قابلة للحمل على الذات المقدَّسة لله تعالى على نحو الحقيقة.

وبالإضافة إلى الاختلاف المذكور فإن إحدى الصفات الأخرى المختلف عليها بين هذين الفريقين هي صفة الكلام. وفي هذا الصدد قال المعتزلة بأن الكلام هو فعل من الأفعال الإلهية؛ وقال الأشاعرة بأن الكلام من الصفات الذاتية. ورأي الأشاعرة في هذا الخصوص هو نفس رأي أهل الحديث؛ إذ انبرى أهل الحديث في القرن الهجري الثالث إلى القول بأن الكلام هو من الصفات الذاتية، ليخالفوا بذلك رأي المعتزلة، الذين كانوا يتمتَّعون آنذاك بحماية السلطة السياسية لهم. وأدت هذه المسألة إلى مواجهة أهل الحديث بكلّ قوة، حيث تعرف تلك المرحلة في تاريخ الأفكار الكلامية الإسلامية بمرحلة المحنة. وفي الفترات اللاحقة تبنّى الاشاعرة نفس هذه النظرية. وبشيوع المذهب الأشعري بين السنّة خرجت هذه النظرية على شكل النظرية الرسمية للسنّة في هذا الخصوص، بالرغم من أنها خرجت عن شكلها المتطرِّف، من خلال التعديلات التي أجريت عليها من قبل المفكِّرين الأشاعرة، بطرح مسألة الكلام النفسي، وعاد معناها بالتالي إلى صفة العلم. وعلى أية حال فالكلام الإلهي، سواءٌ كان من صفات الذات أو من صفات الفعل، وفي الموضوع الذي هو قيد دراستنا، سواءٌ كان القرآن الكريم حادثاً أو قديماً، كل ذلك لا علاقة له بكون الأحكام القرآنية تاريخية أو غير تاريخية، ولا يوجد أيّ ارتباط بين القرآن الكريم فيما إذا كان حادثاً فيجب أن تكون أحكامه تبعاً لذلك تاريخية أو إذا كان القرآن قديماً فأحكامه يجب أن تكون أزلية كذلك. كما أن الشيعة يقولون في هذه المسألة بحدوث القرآن وعدم تاريخية أحكامه. وكمثال على ذلك: يقول الشيخ الطوسي& في كتاب «الخلاف»: إذا أقسم أحد الأشخاص بالقرآن أو بإحدى سوره فلا يترتَّب أثر شرعي على هذا القسم، ومخالفته لا تستلزم الكفارة. دليل شيخ الطائفة في ذلك أن القسم بغير الله تعالى لا ينعقد؛ لأن كلام الله هو غير الله تعالى، ولا يمثل ولو صفة من الصفات الذاتية لله تعالى. ويشير في المسألة 12 إلى الاختلاف الموجود في هذا الباب، ويوضِّح قائلاً: إن كلام الله هو فعل الله، ولذلك فهو محدث. ويضيف قائلاً: إن الشيعة يتحفَّظون على القول بأن كلام الله مخلوق؛ لأن لفظة مخلوق تُوهِم بأن القرآن الكريم ليس بكلام الله. والأدلة التي يذكرها شيخ الطائفة في خصوص كون القرآن الكريم محدثاً عبارة عن الآية الكريمة، من قوله تعالى: ﴿مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاّ اسْتَمَعُوهُ (الأنبياء: 2)، والآيات التي تؤكِّد على عربية القرآن الكريم، من قبيل: قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً (الزخرف: 3)، وقوله تعالى: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (الشعراء: 195). وبما أن العربية أمر محدث يجب أن يكون القرآن كذلك محدثاً. الآيات التي من هذا القبيل، والتي تصرِّح بكيفية تنزيل القرآن الكريم، هي من الأدلّة الأخرى لدى شيخ الطائفة على كون القرآن الكريم محدثاً. ومن الضروري الالتفات إلى النقطة التالية: إذا كان قد جاء في الروايات الواردة عن الأئمة الأطهار^، في معرض الإجابة عن هذا السؤال: هل أن القرآن مخلوق أم غير مخلوق؟ أن القرآن لا مخلوق ولا غير مخلوق، من المحتمل أن القول بخلق القرآن يدل في تلك الأيام على أنه منحول ـ أو من صنع البشرـ. ومن هذه الروايات رواية وردت عن الإمام الصادق×، وذكرها في كتاب الخلاف في نفس هذا الموضوع: «فإنه سئل× عن القرآن؟ فقال: لا خالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله تعالى ووحيه وتنزيله»([1]). وفي رواية أخرى عنه× تمّ توضيح هذه النقطة بشكل أوضح، مع تأييد القول بأن القرآن محدث، وفي نفس الوقت أنه غير مخلوق. وجاء في هذه الرواية ما يلي: عن عبد الرحيم قال: كتبت على يدي عبد الملك بن أعين إلى أبي عبد الله×: جعلت فداك، اختلف الناس في القرآن، فزعم قوم أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وقال آخرون: كلام الله مخلوق، فكتب×: القرآن كلام الله، محدث غير مخلوق، وغير أزليّ مع الله تعالى ذكره، وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، كان الله عزّ وجلّ ولا شيء غير الله معروف ولا مجهول، كان عزّ وجلّ ولا متكلِّم، ولا مريد، ولا متحرِّك، ولا فاعل، جلّ وعزّ ربنا، فجميع هذه الصفات محدثة غير حدوث الفعل منه، عزّ وجلّ ربنا، والقرآن كلام الله غير مخلوق([2]).

والظاهر أن منشأ الخطأ في التلازم بين حدوث القرآن وقدمه وتاريخية أحكامه أو أزليتها هو قول فقهاء السنة: إن أزلية الأحكام القرآنية يعود إلى قدمها. وكان السؤال التالي مطروحاً في القرن الهجري الثاني: هل يمكن نسخ القرآن الكريم بالسنّة أم لا؟ وما زال هذا السؤال خاضعاً للبحث والمناقشة إلى وقتنا الحاضر، في موضوع أصول الفقه، تحت عنوان نسخ القرآن بالسنّة. وعلى أية حال تحدَّث عددٌ من فقهاء السنّة في تلك الأيام، ومنهم: أحمد بن حنبل ـ في إحدى الأقوال المنسوبة له ـ، عن رفض فكرة نسخ القرآن بالسنّة. والظاهر أن إحدى استدلالاتهم كانت بشأن هذا الموضوع الكلامي حول قدم القرآن، وكانوا يستدلون على النحو التالي: إن القرآن الكريم؛ بما أنه قديم، لا يمكن نسخه بالسنّة([3]). وعلى أية حال فإن هذا التعليل الخاطئ مازال محطّ استدلال بقيّة المجدِّدين المسلمين([4]) حتّى اليوم([5]). وفي المقابل قام جمع آخر؛ استناداً لهذا التعليل، بنفي إمكانية نسخ القرآن بالسنّة([6]).

(c)      الوحي والبساطة وتفصيل آيات القرآن

التفسير الذي يقول به فضل الرحمن عن الوحي وألفاظ القرآن الكريم يراه في الواقع نتاجاً للظروف التاريخية لعصر النبي الأكرم’ وانعكاساً لها. ولطالما تكرر ذكر هذا المفهوم في آثار المجدِّدين الدينيين ومؤلَّفاتهم، قبل وبعد فضل الرحمن أيضاً. ومع ذلك لا بد أن نقول: إنه لا يلاحظ بين أحاديثهم شيءٌ سوى إبداع الاحتمال. وكل ظاهرة يمكن تفسيرها بأشكال وصور مختلفة. ولكن مجرد إبداع الاحتمال لا يدلّ على صحة هذه التفاسير. التفسير الصحيح يجب أن ينطوي على خصائص مختلفة، ومن جملتها: أن يتمتَّع بحالة الانسجام مع المعارف أو المعارف الدينية الأخرى، ويتوافق أيضاً مع الأصول القطعية العقلائية. هذا الحديث نقوله للذين يؤمنون بالبديهيات الأولية، التصورية منها أو التصديقية؛ ولكن إذا كان هناك مَنْ ينكر هذه المسألة فلن يبقى مجال للتفاهم والنقاش والحوار معه. وفي خصوص نظرية فضل الرحمن، وفي ما يتعلق بالقرآن الكريم، يجب أن نقول أيضاً: إن هذه النظرية تتعارض مع ما تصرِّح به آيات القرآن الكريم، وتخالفها؛ إذ إن تقييد الآيات الكريمة، من قبيل: قوله تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى (النجم: 3 ـ 4)، بالمرحلة البسيطة لها؛ بقرينة «النطق» الواردة في الآية الكريمة، يأتي خلافاً لمنطوق الآية الصريح. أضف إلى ذلك فإن العديد من الآيات التي تشير إلى القرآن الكريم بعنوان الكتاب المنزل من قبل الله تعالى على النبي الأكرم’ تدل على أن مقام تفصيل آيات القرآن الكريم هو الآخر من عند الله سبحانه وتعالى. إن إحدى الآيات التي تدل على هذا الأمر بكل صراحة هي الآية الكريمة في بداية سورة هود المباركة، من قوله تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، إذ جاء في هذه الآية المباركة أن مقام الإحكام والبساطة، وكذلك مقام الشرح وتفصيل آيات القرآن الكريم، إنما هو من عند الله سبحانه وتعالى، وليس من قبل النبي الأكرم’. كما أن العديد من الأحاديث الواردة في هذا الخصوص تنص على أن ألفاظ القرآن الكريم ليست نابعة من ذهن النبي الأكرم’، بل هي عين الوحي الإلهي.

(d)     خلود الأحكام

لقد تم إثبات مسألة خلود أحكام القرآن الكريم وبقائها هو الآخر بمختلف الأدلة؛ إذ إن أيّاً من هذه الأدلة لم يرِدْ ذكره في آثار فضل الرحمن ومؤلَّفاته. ولو أجرينا تصنيفاً عاماً للأحكام الإسلامية نجد أنها تقسَّم من حيث السعة وشمولها للمكلَّفين إلى مجموعتين: الأولى: هي الأحكام المحدَّدة بشكل قطعي على أنها ذات جنبة شخصية أو تاريخية، ومقيَّدة بزمان خاصّ. وبعبارة أخرى: إنها على شكل قضية شخصية، أو قضية خارجية. وعلى سبيل المثال: يمكن أن نشير إلى الموارد التالية: الأحكام التي كانت من مختصّات شخص النبي الأكرم’، أو الأئمة الأطهار^([7])، أو الأحكام المرتبطة بزمان ومكان خاصّين، من قبيل: نهي النبي الأكرم’ عن أكل الحصان أو البغل، حيث كان يرتبط ذلك بغزوة خيبر، ويتسبَّب بضعف إمكانات المسلمين، أو من قبيل: التوضيح الذي أعطاه أمير المؤمنين× لأمر النبي الأكرم’ بتخضيب محاسن كبار السنّ من المسلمين في صدر الإسلام؛ لكي لا يتم الخلط بين المسلمين واليهود، الذين كانوا لا يخضّبون شعرهم طبقاً لعاداتهم، ولكي لا يبدوا ضعفاء أمامهم([8]).

الثانية: هي الأحكام التي يكون واضحاً بشكل قطعي أنها الأحكام التي صدرت بصورة عامة ولجميع الأزمنة والأماكن. وبعبارة أخرى: الحكم الذي يصدر بصورة قضية حقيقية، من قبيل: الخطابات القرآنية التي تشرّع حكماً عاماً لجميع المؤمنين، بدون أيّ قيد مكاني أو زماني، كقوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا…﴾، أو الآية الكريمة في سورة الأنعام: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (الأنعام: 19). وعلى أية حال ففي الحالات التي يكون فيها الحكم محدداً بشكل قاطع ومؤكد لن يكون هناك أي خلاف بين طرفي النزاع. وتكمن المشكلة في الحالات التي لا يبدو فيها بشكل قطعيّ أن هناك حكماً قد صدر على نحو القضية الحقيقية، أو على نحو القضية الشخصية أو الخارجية. ويقوم الأصوليون في هذه الحالات بالتأسيس للقاعدة التالية، وهي: إن الأصل في مقام التشريع هو في كون الحكم المراد حقيقياً أو أزليّاً، كما هو الحال في قضايا العلوم المختلفة أيضاً([9]). وبعبارة أخرى: انطلاقاً من أن الدين الإسلامي هو آخر الأديان الإلهية، وأن القرآن الكريم هو آخر الكتب والقوانين الإلهية التي نزلت لهداية الناس، فقد جاءت القوانين فيه، وكذلك على لسان النبي الأكرم’، أبدية، وهي ليست محدودة بزمن النبي الأكرم’([10]). وبالإضافة إلى ذلك إذا كان هناك مَنْ يقول بأن الخطابات الشرعية ذات صفة خارجية، مثل: قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا…، ونظائر ذلك، ويقولون بأن زمنها يقتصر على زمن النبي الأكرم، أو أن الخطابات الشرعية لا تشمل الأفراد الذين لم يكونوا موجودين في زمن النبي الأكرم([11])ـ كما هو عليه المرحوم الميرزا القمي ـ، فإنه سيتم كذلك إثبات صفة العمومية الزمانية للأحكام بحكم قاعدة اشتراك الأحكام بين الحاضرين والغائبين. وفي ما يتعلق بالأدلة والوثائق الخاصة بقاعدة الاشتراك بالاستصحاب فإن الأمر الجاري بين عامة المسلمين، القائم على أساس الاشتراك في الأحكام بين جميع الأجيال، وكذلك اتفاق الفقهاء وإجماعهم القطعي على اشتراك الأحكام بين المكلفين في جميع الأوقات والأماكن، قد تم الاستدلال عليه([12]).

بالإضافة إلى ذلك أشير في العديد من الروايات ـ التي تُعدّ هي الأخرى من ضمن وثائق وأسانيد قاعدة الاشتراك ـ إلى أزلية الأحكام، وعدم اختصاصها بزمن النبي الأكرم’. ومنها: الرواية التي وردت في أبواب الجهاد من كتاب «وسائل الشيعة» نقلاً عن «الكافي» للكليني: عن أبي عبد الله:…ولا يُؤمر بالمعروف مَنْ قد أمر أن يؤمر به، ولا يُنهى عن المنكر مَنْ قد أمر أن ينهى عنه. فمَنْ كان قد تمَّت فيه شرائط الله عزّ وجلّ التي قد وصف بها أهلها من أصحاب النبي، وهو مظلوم، فهو مأذون له في الجهاد كما أذن لهم؛ لأن حكم الله عزّ وجلّ في الأولين والآخرين وفرائضه عليهم سواء، إلا من علة أو حادث يكون، والأولون والآخرون أيضاً في منع الحوادث شركاء، والفرائض عليهم واحدة، يسأل الآخرون من أداء الفرائض عما يسأل عنه الأولون، ويحاسبون عمّا به يحاسبون([13]).

وكذلك الرواية النبوية المرسلة التي تقول: حكمي على الواحد حكمي على الجماعة([14]).

وكذلك رواية الإمام الصادق× التي يصرح فيها بأبدية الأحكام: عن زرارة: سألت أبا عبد الله× عن الحلال والحرام؟ فقال: حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرام محمد حرام أبداً إلى يوم القيامة، لا يكون غيره، ولا يجيء غيره. وقال: قال علي×: ما أحدٌ ابتدع بدعة إلا ترك بها سنّة([15]).

الملاحظة الجديرة بالتأمل في خصوص هذه الرواية أن الكليني ذكر هذه الرواية في باب البدع والرأي والمقاييس. وهو يشير إلى أن هذه الرواية جاءت بشكل ضمني في مقابل القائلين باستخدام القياس، وفي أن التمسك بالقياس لا يسمح بتوسيع دائرة الأحكام أو تضييقها. والرواية الأخرى التي تمّ الاستناد إليها في هذا الباب منقولة عن الإمام الرضا×: عن محمد بن زيد الطبري، قال: كنت قائماً عند رأس الرضا× بخراسان، وعنده عدة من بني هاشم، وفيهم إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي، فقال: يا إسحاق، بلغني أن الناس يقولون أنا نزعم أن الناس عبيد لنا. لا، وقرابتي من رسول الله’ ما قلتُه قطّ، ولا سمعتُ أحداً من آبائي قاله، ولا بلغني عن أحدٍ من آبائي أنّه قاله، ولكني أقول: الناس عبيد لنا في الطاعة، مَوالٍ لنا في الدين، فليبلغ الشاهد الغائب([16]).

والرواية الأخرى التي تم الاستناد إليها في هذا الشأن وردت عن الإمام الباقر×: عن أبي جعفر× قال: قال رسول الله’: أوصي الشاهد من أمتي والغائب منهم ومَنْ في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة أن يصل الرحم وإنْ كانت منه على مسيرة سنة؛ فإن ذلك من الدين([17]).

وكما نلاحظ فإن هذه الرواية تنصّ على أزلية الأحكام وأبديّتها. وتجدر الإشارة إلى أنه أثير إشكال على هذه الرواية بأنّها تتعلَّق بصلة الرحم فقط. ولكن يمكن الإجابة عن هذا الإشكال بالقول: إن صلة الرحم لا خصوصية لها بين الأحكام. والحقيقة أن النبي الأكرم طبَّق الحكم العام لأزلية الأحكام على مصداق خاصّ. وبعبارة أخرى: الحكم باشتراك جميع المكلَّفين في حكم من الأحكام يبيِّن في الواقع اشتراكهم في جميع الأحكام. وانطلاقاً من أن مجموع هذه الروايات، مع الحالات الأخرى المشابهة لها، هي في حدّ التواتر المعنوي يمكن الجزم بصدور البعض منها. وبعبارة أخرى: إذا كان البعض من هذه الروايات يعاني من مشكلة السند فإنها بمجموعها توجب القطع في كل الأحوال([18]).

وبناءً على ما قيل حتى الآن فإن دائرة الأحكام الخارجية محدودة بالحالات التي يوجد في شأنها نصّ خاصّ على أنها خارجية. إن الأمر الذي حظي بأهمية فائقة في هذا البحث، ويستحق المزيد من ذلك، هو إجراء الدراسات والأبحاث بشأن وجود معايير أشمل وأكثر عمومية، ليصبح بالإمكان الحكم على أساسها على قضية ما بأنها خارجية.

(e)      جعل الدين أمراً عرفياً

أشرنا سابقاً إلى أن هدف فضل الرحمن من طرح الأسلوب المتقدِّم هو تحديث وتجديد منهج الاجتهاد في الفقه. وحسب ما يراه فإن هذا الأسلوب هو المخرج الوحيد للهروب من الوقوع في ورطة العلمانية. ومع ذلك يجب أن نقول: رغم أن جميع الأمثلة التي جاء بها فضل الرحمن كانت في نطاق الأحكام الاجتماعية، وأن هدفه كان يتمثَّل بإيجاد مخرج لتطبيق أحكام الدين بما يتناسب ومتطلبات الزمان، فإن دائرة هذا الأسلوب ليست محدودة بالأحكام الاجتماعية للقرآن الكريم. وعلى سبيل المثال: في حالة تطبيق هذا المنهج يمكن القول: إن أداء الصلاة باللغة العربية هو نتاج الثقافة والمجتمع الموجود في زمن النبي الأكرم’. ولو أن الرسول بُعث برسالته في مجتمع آخر لكانت الصلاة تؤدى كذلك بلغة ذلك المجتمع. وبالتالي فإن الحكم بأداء الصلاة باللغة العربية هو حكم تاريخي ومؤقَّت، ولا توجد أية ضرورة الآن لكي تؤدى الصلاة باللغة العربية في أيامنا هذه، حيث يوجد الإسلام الآن في العديد من البلدان وبمختلف اللغات. وبعبارة أخرى: عربية الصلاة كان من ضمن أعراض الإسلام. وعليه انطلاقاً من أن مراد الدين من العبادة يتمحور حول إظهار العبودية أمام الله تعالى فلا حاجة لأدائها باللغة العربية، وخاصةً بالنسبة للذين لا يمتلكون القدرة على التحدُّث بهذه اللغة. هذا التعبير استخدم مراراً من قبل الحداثويين في تركيا في زمن أتاتورك، ولا يزال يستخدم حتى الآن من قبل القائلين بأن القرآن تاريخي([19]). وكذا الحال بالنسبة إلى الصلوات الخمس، والصوم، والحج، وجميع الأحكام الإسلامية الأخرى. وبعبارة أشمل: تصبح الشريعة برمّتها ذات جنبة تاريخية. وبالتالي يمكن القول: إن الأساس الذي يقوم عليه هذا المنهج لم يؤدِّ إلى تجديد وتحديث الاجتهاد، بل ختم الاجتهاد وأنزله إلى مستوى مجموعة من الأحكام العقلية أو الفطرية. وخلاصة القول: إنه بغضّ النظر عن الإشكالات الواردة على هذا المنهج في نطاق الأحكام فلا يوجد أي دليل على بقاء دائرة هذا المنهج ـ في حالة الموافقة عليه ـ محدودة بنطاق الأحكام الاجتماعية للشريعة، بل في حالة الموافقة على القول بأن القرآن تاريخي فسيشمل ذلك جميع التعاليم القرآنية، وتتغير الرؤية الكونية للقرآن الكريم إلى رؤية كونية أسطورية تتناسب مع الثقافة المتداولة في صدر الإسلام؛ إذ إن هذه النتيجة مذكورة بكل صراحة في آثار ومؤلَّفات البعض الآخر من المجدِّدين([20]).

(f)       تحديث الاجتهاد بتحديث القياس

يصرِّح فضل الرحمن في العديد من المواقف أن منهجه يهدف في الواقع إلى تجديد القياس. وتوضيح ذلك: إن أحد الأصول المستخدمة في المذهب الحنفي والشافعي والمالكي؛ للحصول على الحكم اللازم للموضوعات الجديدة، هو قياسها مع الحالات التي تمّ تبيين حكمها بكل وضوح في الشريعة. وقيل في تعريف القياس: «هو إثبات حكم في محلّ بعلّة؛ لثبوته في محل آخر بتلك العلة»([21]). ويعود السبب في كثرة استخدام القياس لدى السنّة إلى مواجهة الظروف والأوضاع المتباينة لتطبيق الأحكام من جهة، وكذلك المسائل الجديدة من جهة أخرى؛ إذ تسبَّبت هذه المسألة، إلى جانب إعراضهم عن الأئمة الأطهار^، والكنوز العظيمة لمذهب أهل بيت العصمة والطهارة، بتمسُّكهم بالقياس لتبيين أحكام الموضوعات المختلفة والمتنوِّعة. وقد أدى التمسك بالقياس في الموضوعات المختلفة، بدعوى عدم وجود نصّ عامّ يدلّ على تعدّي الحكم إلى الحالات غير المنصوص عليها، إلى عدم خضوع القياس لضابطة معينة، وإلى أن يواجه الفقهاء السنّة صعوبات متعدِّدة، وأن يفتي كلّ واحد منهم بظنه على نحوٍ ما في كل حالة تعرض أمامه. وآلت هذه المسألة إلى شيوع حالة من الفوضى، وظهور المدارس الفقهية المختلفة في المدينة ومكة والعراق والشام وغيرها، في القرنين الأول والثاني للهجرة. وسعى فضل الرحمن، وهو يعترف بهذه الفوضى الناجمة عن التمسك بالقياس([22])، من خلال طرحه للأسلوب المذكور، إلى تنظيم وضبط عملية القياس([23]). وأهم الأركان الأربعة للقياس ـ الأصل والفرع والعلة والحكم ـ هو العلة، أي الجهة المشتركة القائمة بين الأصل والفرع. وبسبب وجود هذه العلة المشتركة سيسري الحكم أيضاً من الأصل إلى الفرع في حالة إثباته. وقد كانت جهود فضل الرحمن تهدف في الواقع للتوصل إلى أسلوب لكشف المناط من الأحكام الشرعية، بطرحه للأسلوب المذكور، والتي لا تعني برأيه شيئاً آخر غير تلك الأهداف والمبادئ الدينية العامة.

يُعدّ قول فضل الرحمن بأن الأحكام تتبع المصالح والمفاسد والمبادئ العامة أو أهداف الدين، وكما سيأتي ذكره في الجزء اللاحق ـ من نقاط القوة في نظريته، غير أن الضعف يكمن في تشخيص مصاديق هذه المبادئ العامة، والتي لم يتمّ تحديد طريقة معينة لتشخيصها في نظرية فضل الرحمن. وتوضيح ذلك: إنه لو تم تحديد علة الحكم في إحدى الحالات بشكل قطعي ـ وبعبارة أخرى: لو كان الحكم منصوص العلة ـ يمكن الذهاب إلى توسيع دائرة الحكم وبسطه على الحالات التي تكون العلة فيها موجودة، أو الإفتاء برفع الحكم في الحالات والمواضيع التي تكون فاقدة لتلك العلة. ولكن مع ذلك فقد انبرى فضل الرحمن في بعض الحالات إلى الكشف عن علة الحكم عن طريق الحدس والظن ـ كما يلاحظ ذلك في الأمثلة التي ذكرت سابقاً ­ـ، وانزلق إلى ورطة القياس ـ كباقي فقهاء السنة ـ، وأثيرت على هذا الأسلوب نفس الإشكالات التي أثيرت من قبل الأئمة الأطهار^ وفقهاء الشيعة على منهج القياس بشكل كامل.

(g)      الاختلاف بين التمسك بالأصول العامة والقياس

الملاحظة المهمة التي يجب أن تؤخذ بنظر الاعتبار هنا هي اختلاف العمل بالأصول العامة والقياس في استنباط الأحكام الشرعية. وهذه المسألة هي التي كان نصيبها الإهمال من قبل فضل الرحمن؛ إذ لم يتمكن من أن يقدِّم فصلاً واضحاً بين هذين الأمرين. ففي القياس يصار عادةً إلى استخدام الظن لوضع علة للحكم في حالة عدم وجود دليل منصوص، ولكن في الأصول العامة لا وجود للظنّ في إيجاد علة للحكم، بل العمل بالقطع هو المستخدم، على العكس من القياس.

يتمثل دور الأصول العامة في الاستنباط في العلاقة المباشرة بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ونفس الأمر. ومسألة تبعية الأحكام الشرعية للمصالح النفس أمرية مقبولة لدى جمهور الأصوليين؛ إذ لا يمكن أن يكون فعل ما قبيحاً ومع ذلك يأمر الله سبحانه وتعالى به، وبالعكس أن ينهى الله تعالى عن فعل حسن. وبعبارة أخرى: إن جميع أوامر الله العالم القادر الحكيم ونواهيه هي على أساس المصالح والمفاسد النفس أمرية، وعلى هذا الأساس فإن الأصول العامة في الشريعة الإسلامية، مثل: مبدأ العدالة: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ (الحديد: 25)، وقاعدة لا ضرر: «لا ضرر ولا ضرار»([24])، وقاعدة حفظ النفس: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (البقرة: 195)، وقاعدة صون المجتمع الإسلامي والمحافظة عليه: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ (الأنفال: 60)، وأمثال ذلك، حظيت بالقبول من قبل الشارع المقدس، سواءٌ من باب الإرشاد بحكم العقل أو توضيح أحد القواعد الدينية العامة. وبالتالي فإن كل حكم من الأحكام يكشف عن وجود المصالح العامة والأصول المبدئية في كل حكم منها بشكل آني، وبعبارة أخرى: ستكشف عن أن هذه الأهداف أو المقاصد أو المبادئ يجب أن تجري مجرى الروح السارية في جسد جميع الفتاوى والآراء الفقهية. وعلى سبيل المثال: يمكن أن نذكر الكثير من الأحكام التي يمكن أن تتغير تحت تأثير هذه الأصول والظروف الخاصة للمكلَّف. كما هو الحال في الصلاة، فرغم أهميتها الاستثنائية في الشريعة يسمح الشارع بعدم أداء القيام والقعود والسجود في حالة وجود الضرر؛ أو في الصيام في حالة الضرر أو الخوف من الضرر فإن تكليف المكلَّف هو الامتناع عن الصوم. والنموذج الآخر هو مبدأ الحفاظ على الإسلام، وبسط العدالة، ودور الولي الفقيه الذي حظي بالاهتمام من قبل الإمام الخميني&. يتحدث الإمام الخميني في كتاب البيـع حول هذا الموضوع فيقول: وكيف كان بعدما علم بالضرورة، ومرت الإشارة إليه، من أن في الإسلام تشكيلات وحكومة بجميع شؤونها، لم يبقَ شكٌّ في أن الفقيه لا يكون حصناً للإسلام ـ كسور البلد ـ إلا بأن يكون حافظاً لجميع الشؤون، من بسط العدالة وإجراء الحدود وسد الثغور وأخذ الخراجات والضرائب وصرفها في مصالح المسلمين ونصب الولاة في الأصقاع، وإلا فصرف الأحكام ليس بإسلام. بل يمكن أن يقال: الإسلام هو الحكومة بشؤونها، والأحكام قوانين الإسلام، وهي شأن من شؤونها، بل الأحكام مطلوبات بالعرض، وأمور آلية لإجرائها وبسط العدالة، فكون الفقيه حصناً للإسلام كحصن سور المدينة لها لا معنى له إلا كونه والياً، له نحو ما لرسول الله وللأئمة صلوات الله عليهم أجمعين من الولاية على جميع الأمور السلطانية([25]).

ومع ذلك فإن بيان مصاديق هذه الأصول العامة العقلية أو الشرعية في بعض المجالات، وكيفية تطبيقها على مختلف الحالات، أمرٌ خارج عن دائرة عمل الفقيه. ففي مسألة حفظ النفس ـ مثلاً ـ القاعدة العامة هي في الابتعاد عن أي عمل قد يؤدي إلى تعرض النفس البشرية للخطر. إنّ توضيح هذه القاعدة العامة، سواءٌ جاء بعنوان إحدى المستقلاّت العقلية، التي تم التأكيد عليها كذلك في القرآن والحديث من باب الإرشاد بحكم العقل، أو بنفس الشكل الذي سبق أن قلناه كقاعدة دينية، هو من عمل الفقيه واختصاصه. أما بالنسبة لتعيين مصاديق هذا الأمر فلا هو من اختصاص الفقيه، ولا يمكن للفقيه أن يحيط بها أيضاً؛ نظراً لكثرة مصاديقه. وبتعبير آخر، وهو المستخدم في أصول الفقه: إنه في القضايا الحقيقية ـ وعلى العكس من القضايا الخارجية ـ يقع تطبيق موضوع الحكم على مصاديقه وأفراده على عاتق المكلَّف نفسه، وما يراه هو([26]). وهنا يمكن للعلوم المختلفة القيام بتعيين مصاديق هذا الحكم العام والأزلي لحفظ النفس وتوضيح حدوده القصوى. والمراد بالحدّ الأقصى ـ وليس الحد الأدنى ـ للدين هو أن الأحكام موضَّحة بشكل كامل؛ إما بذكر جزئياتها؛ أو بذكر أصولها العامة. ففي الحالات التي يتمّ فيها توضيح جزئيات الأحكام بشكل مفصَّل على المكلف أداؤها، وفي الحالات التي تكون القواعد العامة فيها مبيَّنة فإن على المكلف أولاً القيام بتعيين مصاديق تلك القاعدة العامة، ومن ثم العمل بتلك المصاديق.

وهناك تفسير آخر لمفهوم الحد الأقصى والأدنى للدين وهو أن ما جاء في الدين يكفي لتحقيق سعادة الإنسان، ولا حاجة للرجوع إلى العلوم الجديدة. ففي مسألة حفظ النفس ـ مثلاً ـ إذا عمل المكلَّف بأحكام الطهارة الشرعية فإن هذا المقدار يكفي، ولا حاجة لاستخدام المطهِّرات والمعقِّمات، كالصابون وأشباه ذلك. هذا المستوى من الفهم ناجم عن الخلط بين الطهارة الشرعية والقاعدة العامة لحفظ النفس؛ لأن استخدام المواد المطهِّرة عند انتشار الأمراض السارية والمعدية يصبح واجباً بصفته أحد مصاديق حفظ النفس، وفي نفس الوقت فإن استخدام هذه الموادّ وغسل البدن بها لا يجزي عن الطهارة الشرعية. كما أن الطهارة الشرعية لا تجزي هي الأخرى عن الوجوب الشرعي لاستخدام هذه المواد.

الأصول العامة للدين، من قبيل: مبدأ العدالة، ومبدأ حفظ النظام، ومبدأ حفظ النفس، وأمثال ذلك، يمكن أن يصبح لها مصاديق متعدِّدة بمرور الوقت. والعمل بتلك المصاديق كل حسب زمانه سيكون واجباً هو الآخر. ولكن تجدر الإشارة إلى أن هذه الأصول، وبناء على أساس الموافقة عليها كأصول عقلية عامّة، تحظى كذلك بموافقة الشارع المقدَّس لها من باب الملازمة، تعود بأجمعها إلى القاعدة البديهية القائلة بحسن العدل وقبح الظلم، والتي تُعدّ الأساس لجميع مسائل الحكمة العملية([27]). كما أن تعيين المصاديق في ظلّ تلك الأصول العامة تُعدّ هي الأخرى من واجبات المكلَّفين. وإذا كنا نلاحظ في المواضيع المتعلِّقة بالأحكام العبادية، وكذلك بعض الأحكام الاجتماعية ـ كالزواج والطلاق والخمس والزكاة ـ، أن أحكامها مبيَّنة بشكل تفصيلي، مع ذكر الجزئيات، فلأن العقل البشري غير قادر على توضيح الأحكام التفصيلية لهذه المواضيع. وبعبارة أخرى: إن مناط الأحكام لا يمكن التوصل إليه بشكل كامل من قبل العقل، ولو لم يتم شرح هذه الأحكام بشكل تفصيلي لم يكن للعقل البشري من طريق إلى ذلك. فبالنسبة إلى عدد ركعات الصلاة ـ مثلاً ـ، وعدد أيام الصيام، وغيرها، نجد أن الحدّ الأقصى لعمل العقل في هذه الأمور يصل إلى مرحلة إثبات حسن العبادة، ووجوب شكر المنعم، أما التطرُّق إلى بيان كيفية أداء هذه العبادة أو العبادات، وبأيّ شكل يجب أداؤها، فهو خارج عن حدود تفهُّم العقل وإحاطته بها.

المسألة الأخرى التي تمّ الاهتمام بها في نظرية فضل الرحمن ضمن الحركة الثانية هي ضرورة الاستفادة من العلوم البشرية الأخرى، كالطب والاقتصاد وعلم الاجتماع وعلم النفس ونظائر ذلك، في تعيين مصاديق الأصول العامة والمبدئية للدين. ورغم موافقة بعض المجدِّدين ودعمهم لهذا الأسلوب فإنّهم يرون أنه بمثابة السير على خطى علمنة الدين. وهذا التفسير يأتي هو الآخر على خلفية عدم الاهتمام بدور العقل، وكذلك مكانة الأصول العامة، في الاجتهاد. وتوضيح ذلك: بما أن العقل يمثِّل أحد مصادر الاجتهاد، ومعنى المصدر هو أن العقل، على نحو الموجبة الجزئية([28])، وفي بعض الموارد، يكون قادراً على تشخيص حسن الأفعال والأمور وقبحها. هذه الموارد عبارة عن سلسلة من المبادئ العامة التي في حال إيجابيتها ـ الحسن العقلي ـ إما أن تعود إلى كمال النفس، كالعلم والشجاعة، أو أن العقل يدرك أن فيها مصلحة نوعية؛ لأنه كما يدرك حسن العدل في الحفاظ على النظام وبقاء النوع الإنساني ففي الحالة السلبية ـ القبح العقلي ـ يكون العقل قادراً على إدراك قبح الجهل أو الظلم بهذا الشكل أيضاً([29]). وبعد إثبات هذه الأصول يأتي دور تطبيقها على مصاديقها، وتوضيح المسائل والحالات التي تقع مصداقاً للعدالة أو الظلم. في هذه المرحلة، وفي الموارد المختلفة، سيأتي دور الاستفادة من العلوم المختلفة؛ للقيام بالتشخيص الدقيق للواجب والتكليف. وبالتالي يمكن القول: إن الاستفادة من العلوم المختلفة لا يعني علمنة الدين، بل عين العمل بالتكليف الديني. وعلى سبيل المثال: لو أن أحداً كان مستطيعاً بحكم العقل أداء فريضة الحج، وكان يجب عليه أن يبادر إلى القيام بإجراءات تسجيل الأسماء والتلقيح وتهيئة الجواز وبقية المقدمات اللازمة للحج، فإنه سيعاقب في حالة تقصيره في هذه الأمور، والتي ستؤدي في النهاية إلى ترك الحج ـ سواء بالنسبة إلى الحجّ فقط أو بالنسبة إلى مقدمات الحج كذلك، بناءً على كلا الرأيين القائلين بالوجوب الشرعي لمقدمة الواجب أو بعدم الوجوب الشرعي له ـ، وليس بوسع أحد أن يتذرَّع بأنّني قمت بترك التلقيح لأنه لم يكن معروفاً في الشريعة، ولذلك لا يمكنه الذهاب إلى الحج، وسوف لن تترتب عليه العقوبة  ـ حتى في ترك فريضة الحج ـ. وبعبارة أخرى: لعبت مقدمات الحج هي الأخرى دوراً في الامتثال للأمر الإلهي، واكتسبت طابعاً دينياً بما يتطابق وظروف كلّ زمان. وبنفس هذا الشكل يجب القيام بالاستفادة من أنواع العلوم والأساليب التي تتناسب والظروف المحيطة في أوانه، وفي حالة التقصير وإلحاق الضرر بالنظام والمجتمع الإسلامي سوف تتم معاقبة مَنْ ارتكب ذلك. أو لغرض المحافظة على النفس، وهو من المبادئ الإسلامية العامة، بات من الثابت وجوب القيام بإجراء الدراسات والأبحاث في مختلف الاختصاصات والفروع الطبية؛ لتحقيق هذا الأمر، أو انطلاقاً من المبدأ العام في الحفاظ على المجتمع الإسلامي من ضرر الأعداء يصبح من الثابت وجوب الاستعداد والتهيؤ الدفاعي بأشكاله المختلفة. وكان مصداق هذا الاستعداد في زمن النبي الأكرم’ متمثِّلاً بإعداد رباط الخيل، وفي زماننا الحالي سيكون في إطار الوسائل الدفاعية الجديدة. ومن هنا فإن الاستفادة من العلوم البشرية لا يعني التحرك في المسار العرفي ـ كما سبق أن ذكرنا ـ، بل سيكون بمعنى الجهد الأكثر علمية ودقة على طريق تحديد التكليف الشرعي للمكلَّفين.

(h)     السنّة عامل التغيير في السنّة

ما يستفاد من آثار فضل الرحمن وكتاباته أن الأمر الذي قاده باتجاه طرح نظريته المتقدمة هو الشعور بالحاجة الذي كان يشعر به في شأن إجراء التغيير والتطور في الأحكام الإسلامية وفقاً لظروف العصر الجديد. وقد سبق أن قلنا: إنه كان لفضل الرحمن موقفٌ سلبيٌّ تجاه العلمانية، معتبراً إياها فكرة إلحادية بذاتها، ومعادية لجميع المقدسات والقيم الدينية([30])، ويرى أن ضعف الأساليب الاجتهادية هي السبب وراء إقبال المجتمعات الإسلامية على العلمانية([31]). هذا الوازع وإن كان وازعاً محترماً، وجاء استجابةً لحاجة المجتمع الإسلامي له، ولكن بسبب ضعف الأسس الاجتهادية للسنّة في الإجابة عن الحوادث الواقعة من جهة، وغلق باب الاجتهاد لدى السنّة من جهة أخرى ـ وكما تمت الإشارة إلى ذلك آنفاً ـ، فقد ساقه ذلك باتجاهٍ تسبَّب في استهدافه لأساس الدين من حيث لا يعلم، بجعله القرآن أمراً تاريخياً. وبالرغم من كل ذلك لا بد من القول: إنه توجد في الفقه السنّي كذلك بعض الأسس والقواعد التي لو استخدمت طاقاتها من قبل الفقهاء السنّة كما يجب وينبغي لما اتجه فضل الرحمن وغيره من المجدِّدين، الذين كانوا يبحثون عن إيجاد حالة من التغيير والتطور في الأحكام الاجتماعية، نحو نظرية جعل الدين أمراً تاريخياً. كما هو الحال في الفقه الشيعي؛ إذ إن هذه الاحتياجات الاجتماعية حظيت بالاهتمام اللازم، وتم تبيين أحكامها الشرعية بنفس الأدوات الفقهية التقليدية، اعتماداً على الكنوز والذخائر الروائية الواردة عن الأئمة الأطهار^ من جهة، وبقاء باب الاجتهاد مفتوحاً من جهة أخرى. وتمثِّل التغييرات التي تم إدخالها على القوانين المتعلِّقة بحقوق الأسرة، من قبيل: وضع الشروط ضمن عقد الزواج، والحاجة إلى الإذن بالطلاق من قبل المحكمة، والخدمات المصرفية، وتبديل بعض العقود، من قبيل: المضاربة، بدلاً عن القرض الربوي، والمطبَّق حالياً من قبل المصارف العالمية غير الإسلامية أيضاً؛ بهدف استقطاب رؤوس أموال المسلمين، وكذلك التغييرات الحاصلة على القوانين الجزائية، ومنها: تعليقها المحدود أو غير المحدود، تمثِّل نماذج لهذا الأمر.

هذا الأسلوب هو الأسلوب الثالث الذي عبَّر عنه فضل الرحمن بعبارة: «تغيير السنّة بسلاح السنّة»، بنفس الشكل الذي تمت الإشارة إليه في موضوع السبل المتعدِّدة لتعامل المسلمين مع الحداثة، واعتبرها غير فاعلة. ويبدو أن هذا الأسلوب، وعلى العكس مما يراه فضل الرحمن، لا يعدّ غير فاعل، بل إنه أفضل أسلوب وأكثرها فاعلية لإحداث التغيير في السنّة. وروح هذا الأسلوب كامنة في النقطة التالية، وهي أنه تظهر بالتدريج، وخلال الظروف والأوضاع المختلفة، وبالتعبير الهرمنوطيقي له: تظهر في المراحل التاريخية المتعددة أمام الإنسان، أسئلة جديدة، وإن أفضل أسلوب لإيجاد إجابة شرعية عن هذه الأسئلة هو في الرجوع إلى القرآن والسنّة والروايات، والأخذ بأحكامها الخاصة، وبأصولها العامة والمبدئية. وفي هذه الحالة فقط يمكن الاطمئنان والوثوق بالحجّية الشرعية للجواب المستحصل. كما أن هذا الأسلوب يعدّ أفضل أسلوب فاعل وعملي لإيجاد التغيير في السنّة. ويمكن أحياناً، بل يجب تغيير بعض الحالات من الأحكام بما يتناسب والمسائل الجديدة ـ بسبب تغيير خصائص موضوعها ـ، اعتماداً على هذا الأسلوب. كما تمّ اعتماد هذا الأسلوب بشكل كامل من قبل الأوساط الإسلامية؛ بسبب استناده إلى المصادر الأساسية للشريعة، ولن يواجه ردود أفعال معينة. إلا أن ذلك ليس بمعنى إعطاء نفس الإجابات السابقة للأسئلة الجديدة، بل كما تمّ توضيح ذلك آنفاً، حتى الموضوع الذي كان له في السابق حكمٌ معيَّنٌ يمكنه في الظروف المتغيِّرة للعصر الجديد أن يكتسب حكماً جديداً بعد عرضه على القرآن والسنّة. وكمثال بسيط على ذلك: يمكن الإشارة إلى الحكم المتعلِّق بحرمة بيع الدم الذي كان يعمل به في العهود الماضية، ولكن بمرور الوقت وبظهور الأساليب الجديدة للاستفادة المشروعة والمحلَّلة منه أفتى الفقهاء بحلّية الاستفادة منه في هذه الحالات. إلا أن جميع الموضوعات والمسائل الجديدة ليست بهذه البساطة. وبالنظر لتعقيدات الموضوعات واحتمالها لعدة وجوه في الظروف الراهنة ستكتسب قهراً المزيد من التعقيدات، ولا بد من إخضاع موضوع الحكم للمزيد من التدقيق والتمحيص قبل وضع الحكم المناسب له. إن أحد أوجه الخلط الشائعة هنا هو الخلط بين مقام فهم الحكم ومرحلة تطبيقه. فلو كان الملاك في الفهم واستظهار الحكم هو الفهم العرفي ففي مقام التطبيق ليس كذلك، بل لا بد من القيام بالتطبيق بالدقة العقلية. وحسب تعبير الإمام الخميني&: الزمان والمكان هما العنصران المؤثِّران في الاجتهاد. المسألة التي كان لها في السابق حكمٌ ما من الممكن في الظاهر أن تأخذ حكماً جديداً في العلاقات الحاكمة على سياسة أحد الأنظمة والمجتمع والاقتصاد؛ بمعنى أنه من خلال المعرفة الدقيقة للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لذلك الموضوع الأول، الذي يبدو في الظاهر أنه لم يختلف عن القديم، أصبح في الواقع موضوعاً جديداً يتطلب قهراً حكماً جديداً([32]).

ويقول الإمام الخميني في السياق ذاته، ردّاً على الإشكال المثار على فتواه بحلّية الشطرنج، ما يلي: بناء على تعليق سماحتكم تصرف الزكاة للفقراء وفي سائر الوجوه التي مر ذكرها، والآن وقد بلغت وجوه صرفه أكثر بمئات المرات فلا سبيل لذلك. والرهان في السباق والرماية يختص بالقوس والنشاب وسباق الخيل وأمثال ذلك مما كان يستخدم في الحروب سابقاً، واليوم كذلك يستخدم في نفس تلك الموارد. كما أن المنازل والمساجد يجب أن لا نقوم بتخريبها في أعمال إنشاء الشوارع التي نحتاجها لحل المشاكل المرورية والحفاظ على أرواح آلاف الناس وأمثال ذلك. وعموماً فإنه بناءً على فهم سماحتكم للأخبار والروايات يجب أن تزول المدنية الجديدة تماماً، ويعود الناس للسكنى في الأكواخ أو العيش في الصحراء إلى الأبد([33]).

إن أحد الإشكالات المثارة على هذا الأسلوب ـ والتي نقلها فضل الرحمن أيضاً، وأيدها ـ أن هذا الأسلوب يفضي إلى الفوضى واللغط في استنباط الأحكام، وسيقوم كل فقيه لدى الإجابة عن المسائل المختلفة بتوضيح أمرٍ ما بناءً على استنتاجه ورأيه، بحيث يختلف مع آراء بقية الفقهاء. وعلى الرغم من ذلك لا بد من القول: إن مشكلة تباين الآراء لن يتم القضاء عليها حتى على أساس الرأي القائل بتاريخية الشريعة. وعلى سبيل المثال: لو قال قائل: إن حكم حصة ابن الابن من الإرث المعادلة لضعف حصة ابن الأخت هو حكم تاريخي، ويرتبط بظروف العالم القديم وأحواله، ولا ينسجم في الوقت الحاضر مع مبدأ العدالة، مع ذلك لا يمكن أن نستنتج من هذه المقدِّمات كيفية الصيغة التي يجب أن يصار إليها في الوقت الحاضر. إن أبسط الفرضيات هي التساوي، ولكن يمكن أن نسأل: لِمَ لا تكون حصة البنات ضعف حصة البنين، أو واحد ونصف، أو 2/3 من حصة البنين؛ ذلك أن أيّاً من هذه النسب يمكن تبريرها على أساس مختلف نماذج التحليلات الاقتصادية والاجتماعية. وبعبارة أخرى: الاتفاق العام والشامل ـ على العكس من قواعد الإسلام العامة ـ على المقدار الذي يجب أن تكون عليه حصة كل فرد من الورثة غير موجود. وهذه المسألة هي نفسها التي وضَّحها الفقهاء مراراً بأن مناطات الأحكام خارجة عن حدود فهم العقل لها. والمراد أن اختلاف الرأي لا يمكنه بالنتيجة أن يكون دليلا ملزماً على بطلان الأسلوب المستخدم، وإلاّ فإن نفس أسلوب التحليل التاريخي للشريعة سيكون هو الآخر محكوماً بالبطلان.

وعلى أية حال طالما بقي هذا الاختلاف في الآراء الفقهية ضمن النطاق الشخصي للأفراد فإن كلّ واحد منهم سيكون مكلَّفاً باتّباع رأيه أو رأي مقلَّده ـ في فترة غيبة الإمام المعصوم ـ. وللحد من الهرج والمرج في المجتمع في نطاق الأحكام الاجتماعية لا مفرّ من إيجاد آليةٍ أو مخرجٍ ما يحول دون هذه الفوضى. إن العمل بفتاوى الولي الفقيه، أو القانون الناجم عن رأي مؤسسة واحدة أو عدّة مؤسسات ـ كمجلس الشورى، ومجلس صيانة الدستور، وكذلك مجمع تشخيص مصلحة النظام ـ يمثل الآلية المستخدمة في إيران. وتحديد الآلية والأسلوب اللازم للحدّ من هذه الفوضى في هذا المجال ليس له نموذج سابق. وبعبارة أخرى: يمكن أن يكون لتطبيقه على الحالة؛ استناداً للتجربة البشرية، أو ما يعتمده العقلاء، وكذلك الأصول العامة، مصاديق مختلفة بمرور الوقت. كما يمكن أن تكون التجربة المحدودة على مدى 30 سنة الماضية شاهداً حيّاً على هذا الادعاء، وكيف أنه تمّ بتأسيس مجلس الشورى الإسلامي، وكذلك مجلس صيانة الدستور، تعريف آلية لوضع القوانين، ولكن بعد مرور عدّة سنوات، والوصول إلى طريق مسدود، ومواجهة العقد القانونية، أقدم الإمام الخميني& على تأسيس مجمع تشخيص مصلحة النظام. وهذه الأساليب، وكيفية إكمالها، تتّضحان فقط في بوتقة الزمن والتجارب المتكررة وحالات المد والجزر والأفعال وردود الأفعال المختلفة.

(i)        تأثير فضل الرحمن على المجدِّدين من بعده

لاقت نظرية فضل الرحمن بشأن تاريخية الأحكام الإسلامية ترحيباً واسعاً من لدن المجدِّدين المسلمين، وتُنوقلت آراؤه في مختلف البلدان عن طريق تلامذته. ففي أندونيسيا يعدّ نور خالص مجيد أحد أبرز شخصيات التجديد الفكري لذلك البلد خلال السنوات الماضية، وهو أحد تلامذة فضل الرحمن. ومن خصائصه تأييده للبروليتاريا. كما أنه بطرحه شعار Islam yes، Islamic political parties no  كان يدافع عن فصل الإسلام عن الفعاليات السياسية الحزبية. وتوفّي نور خالص مجيد عن عمر ناهز 66 عاماً، في آب 2006م.

أمينة ودود ـ وهي الآن أستاذة الدراسات الإسلامية في جامعة Virginia Commonwealth University ـ من الذين اعتبروا نظرية فضل الرحمن نموذجاً. وعندما قامت بتأليف كتاب([34]) «Quran and Woman»  انبرت لإثبات أن الكثير من حالات التباين بين أحكام النساء والرجال في الإسلام ذات جنبة تاريخية. وبعبارة أخرى: لا تتعلق بالوقت الحاضر. وقامت أمينة ودود في عام 2005م بإمامة صلاة الجماعة للنساء والرجال في مدينة نيويورك، وأثارت في ذلك الوقت الكثير من الجدل والأنظار حول هذا الأمر.

كما أن المجدِّدين المسلمين في إيران ـ وعلى الرغم من اختلاف بيئة نظرية فضل الرحمن المتمثِّلة بفقه السنّة مع بيئة الخطاب الإسلامي في إيران القائمة على أساس مذهب أهل البيت^ ـ قاموا ـ وعلى أساس هذا النموذج ـ بإعادة تفسير الأحكام أولاً، وبعد أن واجهوا الردود الرصينة والقوية قاموا في المرحلة التالية بتحليل التعاليم الإسلامية بمختلف أبعادها.

الهوامش

(*) دكتوراه في فلسفة الدين من جامعة برمنغهام، وعضو الهيئة العلمية لجامعة باقر العلوم×، مستشار رئيس جامعة المصطفى’ العالمية لشؤون البحث العلمي، من إيران.

([1]) الطوسي، الخلاف 6: 118 ـ 122.

([2]) العلامة المجلسي، بحار الأنوار 89 : 118.

)[3] (Watt, The Formative Period of Islamic Thought, p. 179.

([4]) نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن: 117 ـ 134، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1998م.

([5]) لعل الالتفات إلى النقطة التالية لا يخلو من فائدة، وهي أنه توجد بعض أوجه الشبه بين آراء فضل الرحمن بشأن القرآن الكريم والمسيحية والإنجيل. ففي سبتمبر من عام 2005م اشترك البابا بنديكت السادس عشر في مؤتمر حول الإسلام. وكانت إحدى المواضيع المطروحة في هذا الملتقى آراء فضل الرحمن، وأسلوبه المقترح لتطبيق الإسلام في الظروف الراهنة، أو تجديده، فقال البابا بنديكت بشأن آراء فضل الرحمن متعجِّباً: «هذا الأسلوب ينطوي على مشكلة أساسية، وهي أن الله تعالى وطبقاً للتعاليم الإسلامية أعطى كلامه للنبي محمد’. ولكن هذا الكلام قديم، وليس بكلام النبي محمد’. وهذا الكلام سيبقى إلى الأبد كما هو. إذاً لا توجد أية إمكانية لتطبيقه أو تفسيره بما يتطابق والظروف الجديدة الراهنة. هذا التباين الجوهري يجعل الإسلام مختلفاً تماماً عن المسيحية واليهودية. ففي هذين الدينين يكون الله تعالى قد عمل من خلال مخلوقاته، و[النصوص الدينية لهذين الدينين] ليست كلام الله فقط، بل هي كلام عيسى أيضاً. وليست كلام الله فقط، بل كلام مارك [أحد كتّاب الأناجيل الأربعة]. استخدم الله تعالى عباده الذين خلقهم وألهمهم ليقولوا كلامه للناس. بإمكان المسيح واليهود أن يجعلوا ما يرونه حسناً في سنّتهم نموذجاً للعمل به. وبتعبير آخر: هناك منطق باطني في إنجيل المسيحيين يسمح، بل ويطلب، من المسيحيين أن يجعلوه متطابقاً مع الظروف الجديدة، ويصار إلى العمل به».

Daniel Pipes، the New York Sun، Jan 17, 2006.

([6]) تطرق الدكتور محمد عابد الجابري في مقالة له تحت عنوان «عملية جمع القرآن… إشكالات في مصادر السنة»، في صحيفة الاتحاد الإماراتية، بتاريخ 10 أكتوبر 2006م، إلى دراسة الروايات التاريخية على أساس مصادر السنّة. ويشير فيها إلى مسألة نسخ البعض من آيات القرآن الكريم بآيات أخرى. وفي معرض الرد عليه تطرق الدكتور طه العلواني ـ رئيس المجلس الفقهي لشمال أمريكا ـ، في مقالة مفصَّلة، إلى نقد آراء الجابري، ومنها: تعارض القول بقدم القرآن مع النسخ. وكتب يقول: القرآن كلام الله ـ تعالى ـ قديم غير مخلوق. وأخطر المعارك الفكرية التي وقعت في تاريخنا تلك المعركة التي مازالت آثارها عالقة في تراثنا الفكري، وهي التي عرفت بمعركة «خلق القرآن»، يوم ذهب المعتزلة إلى القول بالخلق، وخالفتهم الأمة ـ كلها ـ في توكيد قدم القرآن المجيد، وإطلاقه، ونفي تاريخانيته، وأنه كلامه ـ تعالى ـ غير مخلوق. ولقد دفع بعض علماء الأمة حياتهم ثمناً لذلك، ودفع بعضهم حريتهم في هذه المعركة. ولم يسأل المسرفون في دعاوى «النسخ» أنفسهم حول مدى قيمة أو أهمية هذه القضية إذا قيل بالنسخ، خاصّة نسخ التلاوة، وكيف يستقيم لهم القول بالنسخ والقول بقدم القرآن المجيد في وقت واحد؟ إنها عقلية التجزئة، تقول القول، وتتجاوز لوازمه المنطقية، أو تتغافل عنها؛ لعدم الخضوع لمنهج صارم يضبط حركة العقل الإسلامي وهو يقرأ الخطاب القرآني. والعجب من الأشاعرة ومَنْ إليهم من القائلين «بالكلام النفسي» كيف يتقبلون القول «بنظرية النسخ»، ويروِّجون لها، مع القول «بالكلام النفسي»، الذي اعتمدوه لتوكيد صفة القرآن المجيد الأساسية، ألا وهي «القدم»، مقابل القول «بخلق القرآن»، الذي تبنَّتْه المعتزلة؟! فإن القدر المشترك بين سائر معاني النسخ التي ذكروها «الرفع والبيان والنقل والإزالة والتبديل والإبطال وما إليها» وغيرها إنما هو «التغيير». ففي كل تلك المعاني تغيير ما. وهذا يتنافى مع القول بـ «قدم القرآن» باعتباره كلام الله ـ تعالى ـ، وصفة من صفات ذاته العلية لا يقبل التغيير. والفوائد والحكم التي ذكروها للنسخ لا تكفي للتخلص من هذا الإشكال، فإما القول بقدم القرآن، وآنذاك لا بد من نفي النسخ كلّياً بسائر معانيه، أو تحويل كلّ ما ادُّعي وقوع النسخ فيه إلى أمور أخرى يمكن أن تشكِّل أدوات لفهم المجتهد، لا أحكاماً تسري على الخطاب القرآني، ولا تتناقض واتصافه بـ «القدم»، كأن يعتبر النصان المتعارضان أو المتعادلان ـ في ذهن المجتهد ـ من قبيل: عام وخاص، فيخصَّص العام بالخاص، أو يقيَّد المطلق بالمقّيد، أو يبَّين المجمل بالمبيّن، أو نحو ذلك، مما لا يعدّ تغييراً، ولا يخلّ بصفة القدم، أو يعارضها.

([7]) أشير في كتب المتأخرين الفقهية إلى هذه الموارد تحت عنوان «خصائص النبي»، ومنهم: المحقق الحلي، شرائع الإسلام كتاب النكاح، في خصائص النبي 2 : 497، طهران، استقلال، 1409هـ؛ العلامة الحلي، تحرير الأحكام كتاب النكاح، في خصائص النبي 3 : 396، قم، مؤسسة الإمام الصادق×، 1420هـ.

([8]) الهندي، كنـز العمال 6 : 670، الحديث رقم 17328، بيروت، الرسالة، 1989م.

([9]) الكاظمي، فوائد الأصول 1 : 148، قم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين.

([10]) المصدر نفسه: 170 ـ 178 و276 ـ 280.

([11]) القمي، قوانين الأصول 1: 131 و229.

([12]) الكاظمي، فوائد الأصول 1: 549؛ البجنوردي، القواعد الفقهية 2: 53 ـ 69، قم، الهادي، 1419هـ.

([13]) العاملي، وسائل الشيعة 11: 23، باب 9 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه، ح1.

([14]) الغزالي، المستصفى في علم الأصول: 235، بيروت، دار الكتب العلمية، 1417هـ؛ وابن جمهور الإحسائي، عوالي اللآلي 2: 98؛ والمجلسي، بحار الأنوار 2: 272.

([15]) الكليني، الكافي 1: 58؛ وكذلك الحر العاملي، وسائل الشيعة 18: 128، باب 12 من أبواب صفات القاضي، ح47.

([16]) المصدر نفسه 1: 187، باب فرض طاعة الأئمة، ح10، و1: 291، باب ما نص الله عزّ وجلّ على الأئمة واحداً فواحداً.

([17]) المصدر السابق 2: 151، باب صلة الرحم، ح5.

([18]) البجنوردي، القواعد الفقهية 2: 62.

)[19] (Nasr Abu Zayd، Reformation of Islamic thought، Amsterdam : Amsterdam University Press,2006, p 19.

([20]) أبو زيد،  نقد الخطاب الديني: 212 ـ 215، القاهرة، سينا للنشر، 1994م.

([21]) المظفر، أصول الفقه 2 : 168.

([22]) Fazlur Rahman، “Islam : Legacy and Contemporary Challenge”, p. 242

([23]) Fazlur Rahman, ” Methodology of Islamic Law”, p. 223

([24]) الكليني، الكافي 5: 292.

([25]) الإمام الخميني، كتاب البيع 2: 470 ـ 471.

([26]) الخوئي، أجود التقريرات 1: 476.

([27]) المراد بالحكمة العملية تلك القضايا والأحكام المتعلقة بنطاق العمل، وما يجب وما لا يجب. في مقابل القضايا والأحكام التي تعود لدائرة الذهنيات، وتسمى بالحكمة النظرية. هذين القسمين يعودان كذلك إلى دائرة العقل النظري. العقل هنا بمعنى القدرة وقوة الفهم، في مقابل قدرة العقل العملي، والذي يأتي بمعنى القدرة والقوة على العمل (الخواجة نصير الدين الطوسي، شرح الإشارات والتنبيهات 2: 352؛ صدر المتألهين، الأسفار الأربعة 4: 116 ـ 117).

([28]) الكاظمي، فوائد الأصول 3 :.

([29])الكاظمي، فوائد الأصول 3: 57 ـ 62، مبحث «المستقلات العقلية»؛ المظفر، أصول الفقه 1: 223 ـ 224، مبحث «أسباب حكم العقل العملي بالحسن والقبح».

([30]) Fazlur Rahman, Islam and Modernity, p. 15.

([31]) Fazlur Rahman, Islam and Modernity, p.29.

([32]) الإمام الخميني، صحيفة النور 21: 98.

([33]) المصدر نفسه 21: 34.

([34]) Wadud,  Amina, Quran and Woman : Reding the Sacred Text from a Woman Perspective، New York : Oxford University Press, 1999.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً