أحدث المقالات

مطالعة ونقد

ـ القسم الأول ـ

د. الشيخ محمد جعفر علمي(*)

ترجمة: صالح البدراوي

تمهيد

وضعت التطورات العلمية والسياسية والاجتماعية الواسعة، التي بدأت منذ عدة قرون خلت في مختلف المجتمعات، وخاصة البلدان الغربية منها، وما زالت مستمرة حتى اليوم، وضعت تساؤلات متنوعة وفي مختلف الميادين أمام المفكِّرين. ومن هذا المنطلق انبرى السيد فضل الرحمن، وهو أحد المفكرين المسلمين، لإيجاد إجابات عن هذه التساؤلات، على أساس الكتاب والسنّة. ولعل من أهمها كيفية تلاؤم العقائد والقيم والأحكام الدينية مع التطورات التي أشرنا إليها. وبناء على ذلك فقد جاءت الدراسات المرتبطة بإعادة صياغة الفكر الديني، وكيفية تفعيل الدين في الظروف المغايرة لما كانت عليه الأيام الخالية، لتشكل إحدى محاور دراساته، التي كان لها دورٌ مؤثِّرٌ في بلورة القضايا التي تعرف باسم «النزعة الدينية التجديدية». وقد قمنا في هذه المقالة بدراسة أسس نظريته في إعادة صياغة الاجتهاد في الدين، ونقدها.

فضل الرحمن، السيرة الذاتية

ولد فضل الرحمن في 21 أيلول سنة 1919م في باكستان. كان والده مولانا شهاب الدين من علماء الدين، وقد أكمل دراساته الدينية في مدارس ديوبند([1]). وأكمل فضل الرحمن دراسته الدينية في الفقه والحديث والتفسير والكلام والفلسفة لدى والده، وبإشرافه. كما أكمل دراسته الجامعية في جامعة البنجاب في مدينة لاهور، حتى نال الماجستير في الأدب العربي سنة 1932م. وبعد ثلاث سنوات من النشاط العلمي والأبحاث في نفس هذه الجامعة ذهب في عام 1946م ـ أي قبل سنة واحدة من تأسيس باكستان ـ إلى جامعة أوكسفورد، وأنهى رسالته الجامعية، تحت عنوان: «فلسفة ابن سينا»، سنة 1949. وبعد أن أنهى تحصيله الدراسي أخذ يدرّس الفلسفة الإسلامية والأدب الفارسي في جامعة دورهام، من سنة 1950م إلى سنة 1958م. ثم أخذ يعمل في حقلي التدريس والأبحاث في معهد الدراسات الإسلامية في جامعة ميكيل الكندية لمدة ثلاث سنوات. والتحق في عام 1961م بمعهد الدراسات الإسلامية، بدعوة من الجنرال أيوب خان، وتم تنصيبه رئيساً لهذه المؤسسة بعد عام واحد من التحاقه بها. ثم قام فضل الرحمن بتبيين آرائه في خصوص كيفية مواجهة الحداثة والتجديد، ومدى تطابق الأحكام السياسية والاجتماعية والاقتصادية للإسلام مع العالم الجديد، عن طريق كتابة العديد من المقالات، وتأليف كتابه «الإسلام». وترك باكستان متوجِّهاً إلى أمريكا على خلفية انتقادات شديدة من قبل عدّة من العلماء، ومنهم: أبو الأعلى المودودي، لآراء فضل الرحمن، والتي انتهت بتحريم كتاب«الإسلام»، وتهديده بالاغتيال([2]). وبعد فترة قصيرة على مزاولته لنشاطه في جامعة UCLA ذهب إلى جامعة شيكاغو عام 1969م؛ لمواصلة أبحاثه وللتدريس، وبقي فيها حتى آخر عمره، في (26 تموز 1988م)([3]).

فضل الرحمن ومعهد الدراسات الإسلامية 

تزامناً مع الفترة الأولى لسنوات إقامة فضل الرحمن الطويلة في الغرب، والتي طويت في بريطانيا وكندا، تعرضت باكستان، التي كانت قد تأسست لتوّها، لجملة من التغييرات والتحولات الفكرية والاجتماعية الواسعة. وجاء تأسيس باكستان على أساس الإسلام، وحظيت قضية كيفية إدارة البلاد على أساس الأحكام الإسلامية بالبحث والتمحيص والمناقشات المستفيضة منذ بدء التأسيس. فمن جهة كان العلماء وعامة الناس يريدون إدارة البلاد على أساس الأحكام الإسلامية، وعندما يواجهون أية مسألة ينطلقون للبحث عن إيجاد حلٍّ لها في المصادر الإسلامية. وفي المقابل كان المجدِّدون ينظرون بعين الريبة والشك لهذه القضية. وهذه القضية كانت موجودة كذلك في بقية البلدان الإسلامية. ويمكن ملاحظتها بصورة واسعة؛ ذلك أن أكثر هذه البلدان حصلت على استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية وإلى أوائل عقد الستينات، وكانت بصدد إعادة صياغة بنيتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على أساس الدين الإسلامي([4]). وعلى أية حال حملت التجاذبات القائمة بين هذين التيارين الجنرال أيوب خان، الذي سيطر على زمام الحكم في باكسان في أول انقلاب عسكري عام 1958م، على البحث عن حل يضع نهاية لهذه المعضلة، من خلال فكرة تأسيس «معهد الدراسات الإسلامية»، والقيام بالدراسات الإستراتيجية في هذا المعهد. وقد كانت لهذا المعهد أربعة أهداف إستراتيجية، وهي:

1ـ تعريف الثوابت الإسلامية بشكل معقول وليبرالي، مع التأكيد على المبادئ الإسلامية الثابتة، كالأخوة Brotherhood، والتسامح Tolerance،  والعدالة الاجتماعية.

2ـ تفسير التعاليم الإسلامية بالنحو الذي يظهر سجيتها الفاعلة في ميادين التطورات العقلية والعلمية للعالم المتحضِّر.

3ـ القيام بالدراسات والأبحاث في مجال المنجزات التي حقَّقها الدين الإسلامي في ميادين الفكر والعلم والثقافة، بحيث يتمكَّن المسلمون من الحصول مجدَّداً على مكانة سامية في هذا المعترك.

4ـ التنظيم والتشجيع على الأبحاث في مجال تاريخ الإسلام، والفلسفة، والفقه، والأصول([5]).

لقد كان هدف أيوب خان من تأسيس هذا المعهد ـ كما يعبِّر عن ذلك فضل الرحمن ـ أن يقوم المعهد بتقديم السبل العملية للسياسات الدينية، على النحو الذي تكون فيه متطابقة مع الأصول والأسس الإسلامية من جهة، وموضَّحة بشكل يمكن تطبيقها في الظروف المتغيِّرة للعالم المتحضِّر من جهة أخرى([6]). وقد اختار أيوب خان، الذي كان متأثِّراً هو الآخر بقضية المجدِّدين، فضلَ الرحمن لرئاسة المعهد.

وقد شكَّل هذا التعيين نقطة تحوُّل في الحياة الفكرية لفضل الرحمن. ولو لم يتمّ اختياره لهذا المنصب، وأكمل تحصيله الدراسي في الأدب والفلسفة الإسلامية، فربما كان سيبقى يواصل نشاطاته في هذه الميادين النظرية حتى آخر سنيّ عمره، إلا أن هذا التعيين، والقضايا التي برزت أمام فضل الرحمن خلال فترة رئاسته، فتحت فصلاً جديداً في حياته الفكرية، وجعلته ينشغل بالتعاطي معه حتى آخر عمره. وهذا الميدان ـ كما سبقت الإشارة إليه ـ هو كيف يمكن توضيح الأحكام الإسلامية بالشكل الذي تكون فيه ممكنة التطبيق في الظروف المتغيِّرة للعالم الجديد، واكتشافاته العلمية والفلسفية، في نفس الوقت الذي نحافظ فيه على إيماننا بالثوابت الإسلامية. هذا السؤال بشكله هذا ـ أي ضمن حدود الأحكام الاجتماعية ـ وبشكل أعمّ ـ بما يشمل الأحكام الفردية والرؤية الكونية والعقائد الإسلامية ـ قد شغل أذهان الكثير من المفكِّرين بمذاهبهم ومشاربهم المختلفة، من التقليديين والحداثويين. وما تزال مناقشاته النظرية مستمرة حتى الآن بين أصحاب الرأي. وعلى الرغم من أن الجهد النظري للرحمن كان متمركزاً حول الأحكام الاجتماعية للإسلام، إلا أنّ تأثير المنهج الذي اختاره لم يكن محدوداً في هذا الإطار، بل نال ترحيباً واسعاً من قبل الجيل اللاحق للمثقَّفين في البلدان الإسلامية، وتم تعميمه على الميادين الإسلامية الأخرى.

كانت التوجيهات الإستراتيجية لفضل الرحمن، خلال مدة رئاسته لمعهد الدراسات الإسلامية، تشمل مسائل مختلفة، من قبيل: القوانين المتعلقة بالأسرة، الحدود الإسلامية، الفوائد المصرفية، والزكاة، و… وقد كان بإمكانها أن توفِّر الأرضيات النظرية والأفكار اللازمة أمام الحكومة الباكستانية؛ بهدف إقرار القوانين الجديدة. إن آراء فضل الرحمن هذه هي التي دعت معارضيه إلى توسيع دائرة معارضتهم له، والتي أدَّت في النهاية إلى استقالته، أو بالأحرى إقالته من منصبه.

وتشمل سلسلة مؤلَّفات فضل الرحمن مواضيع مختلفة. ففي مجال الفلسفة، فضلاً عن أطروحته في الدكتوراه، والتي كانت حول ابن سينا، ونشرت بشكل منفصل([7])، يُعَدُّ أول من انبرى للتعريف بالملا صدرا والحكمة المتعالية، بتأليفه كتاباً مستقلاً تحت عنوان: «فلسفة الملا صدرا» باللغة الإنگليزية([8]). وبالإضافة إلى هذين النتاجين يمكن ذكر مقالته الموسومة «الحدوث الدهري»([9])، والتي يتطرق فيها إلى توضيح هذه المسألة الفلسفية من وجهة نظر مير داماد.

وفي الكلام كان فضل الرحمن من المنتقدين للأشاعرة. فهو ينتقد أصولهم الكلامية، من قبيل: القول بالجبر، أو معارضتهم للعقل، وخصوصاً إنكارهم الحسن والقبح العقليين، ويصرح قائلاً: إن رؤية الأشاعرة هذه، التي تنسب أعمال الإنسان إليه مجازاً، وتعتبر الإنسان غير مسؤول في الحقيقة عن أعماله، تُعَدُّ تفسيراً خاطئاً للقرآن الكريم. وفي المقابل يدافع فضل الرحمن عن نظرية الحسن والقبح العقلي، والقول بحدوث القرآن، التي طرحت من قبل المعتزلة، ويؤيِّد مواقفهم([10]). ومع ذلك تشكل أصول تفسير القرآن والحديث، ونقد الحديث، ومسألة كيفية إحداث التغيير في فهم النصوص الإسلامية، وبشكل مختصر الاجتهاد في الاجتهاد، الجانب الرئيس في أعمال فضل الرحمن.

فضل الرحمن وتلقّي المسلمين صدمة الحداثة

المسألة الأهم التي تلاحظ بشكل رئيس في أعمال فضل الرحمن في هذا الجانب هي مسألة كيفية المواجهة بين الإسلام والحداثة. وقد اختصّ أفضل كتاب من كتب فضل الرحمن، والقسم الأعظم من مقالاته التي كتبها، بهذه المسألة. ويصرِّح فضل الرحمن في موارد مختلفة أن ظهور الآراء الجديدة في ميدان العلاقات الاجتماعية، والتي منشؤها ظهور الآراء الجديدة تجاه الإنسان والعالم والتحولات الاجتماعية الجديدة، خلَّفت ردود أفعال مختلفة بين المفكرين الإسلاميين، إلى المستوى الذي قام فيه فريق من المسلمين بتبرير البعض من الآراء الرئيسة والأسس الاجتماعية للعالم المتحضِّر، وقبولها، وانبرى فريق آخر لإنكار الحداثة جملةً وتفصيلاً([11]).

قسَّم فضل الرحمن، في مقالة له بعنوان: Islamic Modernism: Its Scope، Method and Alternatives، مواقف الذين وافقوا على إيجاد التغيير في التفكير الديني من حيث المبدأ، وخاصة في دائرة الأحكام الاجتماعية، إلى ستة مجموعات:

الأولى: وهي تضم الذين تحفَّظوا على القيام بأي نوع من أنواع المشاركة النظرية في هذه المناقشة، واختاروا طريق السكوت، على الرغم من قبولهم بهذه المسألة من حيث المبدأ؛ بسبب وجود المصاعب الثقافية والاجتماعية أو السياسية في هذا المجال.

الثانية: وهم الذين يعانون من الازدواجية الفكرية، ويؤيِّدون كلا طرفي هذا النزاع الفكري. كما أن الذين يوافقون على فكرة التغيير من حيث المبدأ، ولكنهم يتظاهرون بمخالفة التغيير؛ بسبب مكانتهم الاجتماعية، يلحقون بهذه المجموعة أيضاً.

الثالثة: وهم الذين لجأوا إلى السنّة؛ لإيجاد التغيير، وهم بصدد إيجاد التغيير عن طريق الأساليب التي تحظى بقبول السنّة وموافقتها. وعلى سبيل المثال: يقومون بتأييد آرائهم من خلال الروايات التي تدعم آراءهم. ومشكلة هذا الأسلوب لإحداث التغيير برأي فضل الرحمن يكمن في أن هذا الفعل يعني في الواقع ذهاب هذا الفريق إلى الحرب بنفس أسلحة المنكرين لعملية التغيير والإصلاح. والمؤكَّد أن المنتصرين في هذه الحرب ليسوا هم القائلون بإجراء التغيير في الأحكام؛ لأن الوضع الحالي للفقه هو نتاج أكثر من اثني عشر قرناً من جهود الفقهاء. ومن المؤكَّد أنه لا يمكن أن نتوقَّع إحداث التغيير والتحوُّل الجادّ والحقيقي من خلال التمسك والوفاء للأساليب التقليدية. والمقترح الآخر للخروج من هذه المعضلة يكمن في السماح باتّباع آراء جميع فقهاء المذاهب الإسلامية المختلفة. وعلى أساس هذا المقترح ـ وأساسه في مصر، ويعبرون عنه بلفظ «التلفيق» ـ يمكن الرجوع في المسائل التي تواجهنا إلى الآراء الفقهية للمذاهب الأربعة، والأخذ بالأكثر تناسباً وانسجاماً مع الظروف الراهنة. ولا يُعَدُّ هذا الأسلوب ـ برأي فضل الرحمن ـ  حلاًّ لمعضلة الدين والحداثة؛ لأنه لا يبحث عن حل المسائل الجديدة في الاجتهاد الجديد، بل في الآراء السابقة([12]).

الرابعة: وهي تعتمد الحل الذي يعبر عنه فضل الرحمن بعنوان Partialist and / or the Link method. هذه المجموعة، التي توافق على التغيير من حيث المبدأ، ترجح إجراء التغييرات التدريجية في الأحكام الإسلامية في بعض المجالات الخاصة ذات الاستعداد اللازم لذلك على إحداث التغيير دفعة واحدة في جميع أبعاد وأبواب الأحكام. وحسب رأي فضل الرحمن فإن هذا الإجراء لا يؤدي إلى حل المشكلة؛ لأن ذلك يعني أولاً:  التعاطي مع المسألة بشكل منفرد، وعدم إعطاء حلّ شامل لها؛ وثانياً: انطلاقاً من أن التغييرات الناجمة عن الحداثة تتوالى بشكل مستمرّ فإن هذا الأسلوب سيؤول في النهاية إلى نوع من علمنة المؤسَّسات والقوانين الاجتماعية، وبالتالي وضع الإسلام جانباً ـ كما لاحظنا ذلك في منهج التقليديين، وكذلك الإصلاحيين ـ.

الخامسة: ويتمثّل الأسلوب الخامس في المواجهة مع الحداثة ـ برأي فضل الرحمن ـ في الإقدام على اجتهاد شامل جامع، عن طريق إعادة قراءة الموروث السابق لمواجهة العالم المعاصر. وسوف نقوم لاحقاً بالتطرُّق إلى ذكر حلوله، ومقترحاته، وطبيعة هذا الاجتهاد بالتفصيل.

السادسة: ويتمثّل الأسلوب السادس بالمنهج العلماني، وفصل الدين عن الدنيا. وبعبارة أخرى: قبول اللوائح القانونية والسياسية والاجتماعية الجديدة من غير أن تكون هذه النسخ مأخوذة عن الطرق الاجتهادية من المصادر الأصيلة للإسلام، أي القرآن والسنّة. وهذا هو ذات الشيء الذي يعبِّرون عنه بالحدّ الأدنى من الدين. وينتقد فضل الرحمن هذا الحلّ أيضاً قائلاً: إنه لا يمكن الأخذ به؛ لأنه في الحقيقة إقرارٌ بعدم فاعلية الدين في الميادين المختلفة.

دين الحد الأدنى ودين الحد الأقصى

يرى فضل الرحمن أن الفشل في العمل على تفعيل الدين؛ للإجابة عن قضايا العالم الجديد، والجمود على المحتوى المتوقِّف، وعدم حركية الفقه، والانغلاق على الظواهر، سوف يؤدي إلى الفشل في حلّ المشكلات اليومية، وتحرك المجتمع نحو النظام العلماني. ويُعَدُّ فضل الرحمن من منتقدي العلمانية، معتبراً إياها فكرة إلحادية في ذاتها، وماحقة لجميع المقدسات والقيم الدينية([13]). ولطالما حذَّر ـ وبكل قلق ـ من أنه في حالة عدم إعادة النظر في الأساليب الاجتهادية فإن المجتمعات الإسلامية ستقع في فخ العلمانية([14]). ويرى أنه في حالة عدم تقديم الحلول المبنية على أساس القيم الإسلامية فإن الحكومات؛ بتشريعها للقوانين الجديدة بدون سند شرعي من جهة، وعودة الناس إلى تقاليدهم وأعرافهم التقليدية الموروثة لحل قضاياهم اليومية من جهة أخرى ـ وليس لتلك التقاليد والأعراف أية جذور إسلامية، كما هو حال فعل الحكومات ـ، ستضيِّق الخناق على الشرع أكثر فأكثر تدريجياً. إنه يصرح قائلاً: إن البعض من فقهاء السنّة؛ وبسبب عدم فاعلية أساليبهم الفقهية، وعدم اهتمامهم بروح الدين الحقيقية ـ والتي تعني بناء مجتمع قائم على الأصول والقيم السماوية، وعلى رأسها العدالة الاجتماعية ـ، يعتبرون أنّ الدين هو عبارة عن الأصول الخمسة، المتمثِّلة بالتوحيد، والصلاة، والصوم، والحجّ، والزكاة. وإلى جانب ذلك أكدوا على ضرورة المحافظة على الحدود، أو العقوبات المحدَّدة في الشرع. واعتبر فضل الرحمن أن هذا الردّ ينطلق من شعور بعدم المسؤولية، وأنه دين الحد الأدنى minimal Islam وnegative Islam؛ إذ إن الأول يشير إلى الأصول الخمسة المذكورة، والثاني يشير إلى الحدود([15]). وحسب ما يراه فضل الرحمن فإن الاختلاف الأساسي بين رؤيته والتقليديين من علماء السنّة يكمن في أنه لا يقول بالدين بحدّه الأدنى، بل يراه شاملاً لجميع نواحي الحياة، وأبعادها الاجتماعية والفردية. وحسب رأيه فإنه لا ينبغي مقارنة الدين الإسلامي بالديانة المسيحية ـ التي تُعَدُّ ديناً فردياً ـ، بل يمكن مقارنة قابلية الدين الإسلامي على إدارة شؤون المجتمع على أساس أحكام الشريعة مع المجموعة التي تضمّ الديانة المسيحية وجميع مؤسَّسات الغرب العلمانية، من قبيل: السياسية، والاقتصادية، والتعليمية. ولهذا فإن السبب يعود لهذه الشمولية، التي بموجبها يمكن، بل ويجب، أن ندافع عن السياسة الإسلامية، والاقتصاد الإسلامي، والتعليم الإسلامي، ونبحث عن استخراجها من المصادر الإسلامية([16]).

الحاجة لمنهج فهم صحيح للدين

يرى فضل الرحمن أن المشكلة الأساسية التي يعاني منها المسلمون في هذه المواجهة مع الحداثة هي في عدم امتلاكهم لطريقة معينة للتفسير hermeneutical method؛ لغرض الحصول على مستوى من الفهم الأصيل والصحيح لمعنى الدين في العالم الجديد، وبالشكل الذي يتمكن فيه المؤمنون على أساس ذلك الأسلوب الحصول على فهم أصيل ومعقول وذا معنى عن خالقهم، والكون وموقعهم فيه، وأن يجيبوا عن الأسئلة التي تضعها المواجهة مع الحداثة أمام الدين. وكمثال على ذلك: يشير إلى تعامل «العلماء» خلال المواجهة مع الحداثة، وكيف أنهم يتقبَّلون التطورات العلمية والتكنولوجية ويمتدحونها، ولكنهم ـ فضلاً عن عدم استعدادهم لتقبُّل النتائج المتمخِّضة عن التعليم الحديث ـ فإنّ الحقيقة أنه ليست لديهم أية معرفة بها بأي شكل من الأشكال، ويظنّون أن المعتقدات التقليدية الموروثة التي صيغت على أساس الأصول الكلامية للقرون الماضية، أو أن الفقه والقوانين الإسلامية التي تكوَّنت هي الأخرى تحت تأثير الظروف الاجتماعية للعهود الغابرة، قابلةٌ للتواؤم مع ظروف المرحلة الجديدة([17]).

ومن هنا نراه يصرّ ـ كما هو شأن فريق آخر من الحداثويين الذين سبقوه ـ على ضرورة إعادة فتح باب الاجتهاد؛ بهدف الحصول على إجابة مناسبة تليق بهذه التساؤلات. ولكن تجدر الإشارة إلى أن إعادة فتح باب الاجتهاد عند السنّة قد تم التأكيد عليه من قبل الوهّابيين أيضاً (الذين يطلق عليهم تسمية الأصوليين Fundamentalist)، ولكن حسب رأي فضل الرحمن فإن التحديث الوحيد الذي قام به الوهابيون يتمثل في الإصرار على إعادة فتح باب الاجتهاد. وفي رأيه فإن رؤية الوهابيين أدت إلى انهيار كل ما تمّ استنباطه على مرّ القرون من قبل علماء الإسلام من المصادر الإسلامية الأصيلة ـ على الرغم من إصرارهم على العمل بالإسلام الأصيل، والدعوة للعودة إلى مبادئ صدر الإسلام وقيمه ـ؛ وذلك بسبب افتقارهم لنظرية معينة يستندون إليها. إن المقدار المشترك الوحيد الذي يمتلكه منهج الحداثة الإسلامي Islamic Modernism مع الوهابيين ـ كما يرى فضل الرحمن ـ هو القول بضرورة إعادة فتح باب الاجتهاد. ويكمن الاختلاف الموجود بين هاتين الرؤيتين في أنه بناء على رأي الوهابيين إذا أردنا أن نفهم الإسلام بشكل صحيح يجب أن نفهمه بالشكل الذي كان يُفهم عليه في صدر الإسلام من قبل الصحابة والتابعين، وتطبيقه، وحسب تعبيره: إعادة التاريخ إلى الوراء([18])، في حين أنه بناءً على رأي الحداثويين ـ وعلى الأقل الفهم الذي يستنتجه فضل الرحمن من ذلك ـ فإن العودة إلى صدر الإسلام يجب أن يأتي بهدف فهم القيم الدينية التي تمّ شرحها وتوضيحها في إطار الأحكام التاريخية للدين الإسلامي([19]). وبعبارة أوضح: بناءً على ما يراه فضل الرحمن فإن التعاليم الدينية في إطار المجتمع، وكما نلاحظها في صدر الإسلام، تقسَّم إلى مجموعتين: الأولى: التعاليم ذات الجنبة القيميّة تماماً، كالفضيلة، والعدالة؛ والثانية: التعاليم الدينية ذات الجنبة الاقتصادية أو الاجتماعية وما شاكل ذلك، وقد تم توضيحها في إطار الأحكام الإسلامية. وتمتلك المجموعة الأولى ـ بحسب ما يراه ـ هوية فوق تاريخية extra – historical، أو ما ورائية (رفيعة سامية) Transcendental. وظهور هذه المجموعة من القيم الدينية، وبروزها في ظروف تاريخية خاصة، كمرحلة صدر الإسلام، لا يفرِّغ هذه المجموعة من محتواها ومعناها في الأزمنة الأخرى. وفي المقابل فإن المجموعة الأخرى، التي لا تمتلك بعداً قيمياً، بل هي ذات بعد اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي فقط، تصبح بانتهاء الظروف التاريخية لمرحلة صدر الإسلام كحقيقة تاريخية، لن يمكن تطبيقها على المراحل الزمنية التالية([20]). وبتوضيح هذا الاختلاف والتباين في الفهم الخالص للدين والعاري عن المفارقات الذاتية يشير فضل الرحمن في الحقيقة إلى اختلاف رأيه عن الوهابيين. وبهذا الشكل يؤسِّس لنظرية تعطي طريقة معينة أو أسلوباً يمكن التوصُّل على أساسه إلى إجراء عملية تجديد Renewal وإصلاح مطابقة للظروف المتغيِّرة للعالم الجديد. ومن الجدير بالذكر أن فضل الرحمن كان من الناحية الفكرية يعيش وسط الأجواء السنيّة، وأن مواجهته الفكرية هي مع الفقه السنّي. وبحسب رأيه فإن أحد الموانع الأساسية أمام التجديد والتغيير في الفقه والقوانين الإسلامية هو غلق باب الاجتهاد في القرن الخامس الهجري ـ طبقاً للمشهور من القول طبعاً، على الرغم من أنه يرى أن غلق باب الاجتهاد يرتبط بالنصف الثاني للقرن الهجري الثاني، واكتساب المذاهب الأربعة لصفتها الرسمية بين أهل السنّة والجماعة. ومن هنا نرى أنه بعد أن أصبحت المذاهب الأربعة مذاهب رسمية لم نشهد حصول أي إبداع جديد في الميدان الفقهي، وانبرى فقهاء السنّة إلى كتابة الشرح، وشرح الشرح، أو تلخيص أعمال السابقين، بدلاً من الرجوع إلى المصادر الأصلية للفقه ـ القرآن والحديث ـ. ومن هنا نجد أن فتح باب الاجتهاد، ووضع نهاية لتسلُّط المذاهب الأربعة، يمثِّل في الحقيقة أحد المضامين المحورية في كتابات فضل الرحمن.

إلا أن فتح باب الاجتهاد ـ بحسب رأيه ـ ليس بمعنى استخدام نفس الأدوات المتداولة في الاجتهاد؛ لأن هذه الأدوات غير قادرة على إعطاء أجوبة وافية عن الأسئلة المطروحة في الإطار العقلي للمرحلة الجديدة([21]). ومن هنا فإنه سخّر الجانب الأساسي من جهوده الفكرية للتوصل إلى أسلوب جديد لفهم الدين على النحو الذي يكون فيه قادراً على إعطاء الإجابة عن تساؤلات العهد الجديد. ولهذا فإن هذا الجانب يمثل أهم وأبرز جانب في أعمال فضل الرحمن.

يحذِّر فضل الرحمن في مؤلفاته من المنهج التقليدي في فهم القرآن. ويرى أن المنهج التقليدي في فهم القرآن يتناول كل آية بشكل منفصل Piecemeal عن الآيات الأخرى، أو يتناولها بشكل موضوعي على أقصى التقديرات. إلاّ أن القرآن الكريم ـ وعلى الرغم من تنوع الموضوعات والقضايا المطروحة فيه ـ يمتلك نوعاً من الوحدة الداخلية inner unity، بحيث إن الرؤية الكونية للقرآن، وكذلك الاتجاه العام لآيات القرآن الكريم، تصب في مسار هداية الإنسان نحو تلك الوحدة. وبناء على ما يراه فضل الرحمن فإن الماضين إما أنهم لم يبذلوا أي جهد من أجل الحصول على عناصر هذه الوحدة الداخلية، وفهم آيات القرآن الكريم على أساس هذه العناصر؛ أو أنها كانت محدودة جداً([22]). ويرى أنه لابّد أولاً من معرفة هذه العناصر الأساسية جيداً، وفي المرحلة الثانية يجب أن يتم تفسير القرآن الكريم بناء على أساس هذه العناصر. وبعبارة أخرى: إن هذه العناصر المكوِّنة للوحدة الداخلية للقرآن الكريم تعمَّم على جميع آيات القرآن. ويرى أن الوحدة الداخلية لآيات القرآن الكريم تقوم على المحاور الثلاثة، وهي: الإيمان بالله الواحد الأحد؛ والعدالة الاقتصادية والاجتماعية؛ والقيامة. وإن جميع آيات القرآن تتمحور حول هذه المحاور الثلاثة([23]). ويرى فضل الرحمن أنه إذا كنا نشهد في المواجهة مع الحداثة آراءً متناقضة من قبل بعض المسلمين؛ ففريق منهم يقبلها؛ وفريق آخر يرفضها جملةً وتفصيلاً، فإن السبب في ذلك يعود إلى عدم الاكتراث لهذه الوحدة الداخلية، والعناصر المكوِّنة لها. وهذا الأمر في حدّ ذاته يكشف عن مدى ضرورة إعادة النظر في أسلوب فهم القرآن الكريم([24]). ولكن كيف يجب أن نفهم القرآن؟ يرى فضل الرحمن أننا بحاجة إلى حركتين لغرض فهم القرآن، ويسمي هذا الأسلوب بـ «الحركتين التوأمين»: الأولى:  تبدأ من الوقت الحاضر إلى الماضي وصدر الإسلام؛ والثانية: تبدأ من صدر الإسلام، وتنتهي بالوقت الحاضر. وبهدف توضيح ما يرمي إليه فضل الرحمن من هاتين «الحركتين» نجد أنه من الضروري الالتفات إلى هذه المقدمة ـ والتي تُعَدّ بحسب رأيه شرطاً لازماً لفتح باب الاجتهادـ.

تاريخية القرآن والسنّة         

في ما يتعلق بتفسير القرآن الكريم ظهرت مناهج تفسيرية مختلفة للقرآن الكريم على مر التاريخ، ومنها: المنهج التفسيري للمعتزلة، والأشاعرة، والصوفيين، وأهل الحديث، والفلاسفة؛ وما يسمى بمنهج التفسير العلمي للقرآن، والذي ظهر في المائة عام الماضية. وتقوم الفرضية الأساسية في جميع هذه الطرق التفسيرية على أساس أن القرآن الكريم هو كلام الله تعالى، سواء من حيث اللفظ أم من حيث المحتوى والمضمون، وأن النبي الأكرم‘ هو في الحقيقة رسول الله سبحانه وتعالى في إيصال الرسالة الإلهية. وهذا الرأي المستمد من آيات القرآن الكريم، والعديد من الروايات، هو بمنزلة الأساس الذي تقوم عليه جميع المدارس والمذاهب التفسيرية المعترف بها. ولذا فإن واجب المفسِّر في جميع هذه المدارس يتلخص في توضيح وتفسير الوحي الإلهي على أساس الرجوع إلى نصوص القرآن والروايات. وقد قام علماء الإسلام، بما فيهم المفسِّرون والفقهاء والفلاسفة والمتكلِّمون، بتفسير القرآن، وتوضيح أبعاده الفلسفية والكلامية والقانونية المختلفة، وروايات النبي الأكرم‘ ـ وروايات الأئمة الأطهار^ في ما يتعلق بنا نحن الشيعة ـ، منذ عدة قرون. ويشار إلى أتباع هذا الرأي بعناوين من قبيل: Traditionalist أو Literalist؛ إذ إن الأول يدل على اتباع هذا الفريق للطريقة التقليدية المعمول بها خلال القرون الماضية، والذي يؤكد على دور القرآن الكريم والروايات؛ ويشير العنوان الثاني إلى اهتمامهم بألفاظ القرآن الكريم والروايات، والتبعية المطلقة لظواهر ألفاظ هذين المصدرين المقدسين. إذاً يتضح لنا هنا أيضاً ـ وبشكل جليّ ـ أن دور علم الأصول واستخدامه لم يقتصر على الفقه فقط، بل إنه يلعب دوراً أساسياً في بعض المواضيع، من قبيل: حجية ظواهر القرآن الكريم، والعام والخاص، والناسخ والمنسوخ، ونظائر ذلك ـ والتي يتم دراستها بدقة في موضوع ألفاظ علم الأصول ـ في جميع ميادين الفكر الإسلامي التي لها علاقة بالقرآن والحديث. ويرى فضل الرحمن أن نتيجة هذا الأسلوب هو «الإصرار على التنفيذ الحرفي لأحكام القرآن، وإغماض أعيننا عن التغييرات الاجتماعية التي حصلت حتى الآن، أو أنها لا تزال تحصل أمام أنظارنا بشكل علني. وهذا الأمر هو بمنزلة إفشال المقاصد القيميّة ـ الاجتماعية، والأهداف القرآنية»([25]).                                                  

 وفي المقابل، أثير بين بعض المفكِّرين خلال المائة عام الماضية ـ تدريجياً ـ أن كل ما طرح في القرآن الكريم أو في الروايات إنما جاء في قسمين، وهما: الأول: والذي يشير إليه فضل الرحمن في مؤلَّفاته وكتاباته بعناوين مختلفة، من قبيل: اللبّ Kernel؛ الجوهر Essence؛ الأصول Principles؛ العموميات Universals؛ المثاليات Ideals، هو عبارة عن القيم الثابتة والعامة، والتي لا تتقيد ولا تختصّ بزمان ومكان معينين. الثاني: وهو التعاليم الإسلامية التي تشمل الجوانب المتغيرة ذات الصفة التاريخية، ويُعبِّر عنه بعناوين أخرى، من قبيل: الصدف shell؛ الأعراضAccidents؛ الجزئيات أو الأمور الخاصة Particulars؛ المحتملات أو الممكنات Contingents.

ويرى أن مثاليات الدين تؤلِّف مجموعة القيم وأهداف الدين، وهي أمور تشكل هدف الدين وغايته. وفي المقابل فإن أعراض الدين هي الأمور التي تضم الأساليب والطرق الممكنة للوصول إلى تلك الأهداف، وبما يتناسب مع الظروف التاريخية لصدر الإسلام، وليس لها دورٌ أساسيٌّ ومحوريٌّ في الدين. ويرى فضل الرحمن أن الفقهاء؛ بغضّهم النظر عن عملية الفصل هذه، وجعل الأحكام والأوامر القرآنية في عرض بعضها البعض، والخلط بين هذين القسمين من التعاليم الإسلامية، قد ساهموا في خمود باب الاجتهاد وركوده، وبالتالي غلقه. هذا الرأي ـ والذي يعبَّر عن أتباعه بمصطلح أهل السياق، أو أهل الطريقة ـ كان مطروحاً في المائة عام الماضية أيضاً، ولكن شهدنا بلوغه القمة في القرن الأخير . إن تأثير هذا الرأي تأثير أساسي وجوهري في الاجتهاد بمعناه المتداول؛ لأنه ـ طبقاً لهذا الرأي ـ لا يمكن التمسك بالعمومات والإطلاقات القرآنية والروائية الموجودة في المجموعة الثانية. وبعبارة أخرى: جميع القضايا التي تم توضيحها في هذه المجموعة على شكل قضايا حقيقية سيتم تبديلها، أو تنزيلها Reduction، بعد الموافقة على هذا الرأي، إلى قضايا خارجية.

ولغرض تبرير هذا الرأي يطرح فضل الرحمن عدة آراء متباينة:

مكانة الأنبياء، تحليل اجتماعي

يتطرَّق فضل الرحمن في هذا القسم إلى توضيح المكانة الاجتماعية للأنبياء بشكل عام، ومكانة النبي الأكرم‘ بشكل خاصّ. ويوضِّحه بأن الدور الأساسي للأنبياء هو في تحريك المجتمع وتنظيمه بما ينطبق والنموذج الإلهي. وبتعبير آخر: إن الدور الأول والأساس للأنبياء، وكذلك النبي الأكرم‘ ـ كما يستفاد ذلك من دراسة تاريخ حياته ـ يتمثل في القيادة الروحية والمعنوية للمجتمع. وبعبارة أخرى: إن دور الأنبياء ليس كدور مشرِّع عام يقوم بوضع القوانين وتشريعها لجميع أبعاد الحياة الإنسانية للمجتمع، بدءاً من جزئيات الأمور الاجتماعية، وانتهاءً بتفرُّعات الأحكام العبادية. ومن هذا المنطلق يلاحظ أن النبي الأكرم‘ نادراً ما يقوم بوضع قانون أو تشريع ما، وحسب الحالات التي كانت تتطلب ذلك، دون أن يكون بصدد تشريع القوانين والضوابط الجديدة بشكل ممنهج. وما يؤيد هذا القول ـ حسب رأي فضل الرحمن ـ أن باب الأحكام في القرآن الكريم يحظى هو الآخر بمساحة محدودة نسبياً مقارنة بباقي التعاليم الإسلامية. وهذا الأمر يدل في حدّ ذاته على أن دور الأنبياء، أو بعبارة أخرى: إن دورهم الاجتماعي، لم يكن محدَّداً بوضع القوانين، لكي يقوموا بوضع القوانين وتشريعها لجميع أبعاد حياة الإنسان من جزئيات الأمور الاجتماعية، وصولاً إلى الأحكام العبادية. وبناء على هذه المقدمة يستنتج فضل الرحمن أن دور الأنبياء؛ بما أنه لم يكن موجَّهاً لوضع القوانين ـ بمعنى إيجاد آلية قانونية منتظمة شاملة ـ، فإن القوانين التي وضعوها وشرّعوها إنما جاءت في الحالات التي كانوا يلاحظون فيها أن عرفاً اجتماعياً أو سنّة قبلية معينة تقف حائلاً أمام التكامل المعنوي للمجتمع أو الفرد، فإنهم يتخذون موقفاً تجاه ذلك، ويبادرون إلى إزالته أو تحديده. وبعبارة أخرى: إن جميع التشريعات ذات منطلقات تاريخية ـ اجتماعية، ولم تمتلك صفة وضع قانون كلّي وشامل لكل الأزمنة والأماكن. ويوضِّح فضل الرحمن قائلاً: إن الفعل الاجتماعي للأنبياء، ومواجهتهم للظروف التاريخية الخاصة القائمة في عصرهم؛ بهدف إيجاد التغيير فيها في مسار الأهداف الإلهية، يمثل في الواقع العامل الأساس المميِّز للنبي عن الصوفي، أو الأفراد الخياليين، أو المثاليين([26]). وهو يذكر بعض النماذج في هذا السياق، كالتحريم التدريجي للربا، والخمر، كأمثلة على أنه تم فيها بشكل واضح مراعاة الظروف الاجتماعية لزمان النبي الأكرم‘. كما يرى في تحسُّن المكانة الاجتماعية للمرأة، وكذلك الأحكام المرتبطة بالعبيد والرقّ نماذج أخرى تدل على الاهتمام العميق للقرآن الكريم بالظروف الاجتماعية المحيطة بوضع القوانين، على الرغم من أنه يرى أن الأحكام المذكورة في القرآن الكريم في خصوص هذين الأمرين تعود لمرحلة التغيير الأولى للسنن الجاهلية ـ كما في المرحلة التي سبقت التحريم الكامل للربا والخمر ـ، وأن المثاليات الأساسية للقرآن الكريم في هذين البابين لم تتحقَّق؛ بسبب عدم توفر الأرضية الاجتماعية المناسبة لها. وفي رأيه فإن دور الفقيه يبدأ من هنا، وذلك بأن يتمكن باجتهاده من إيصال ما لم يصرِّح به القرآن إلى مرحلة الفعل والتحقق على أرض الواقع، بناءً على أساس الأصول القرآنية العامة. ومن ثم يستنتج أن هذه الأمثلة تدلّ على أن قصد القرآن الكريم من طرح بعض القوانين لم يكن بمعنى أن تحظى هذه القوانين بالخلود بشكل حرفي([27]).

ظاهرة الوحي، مقاربة نفسية وتاريخية

يستند فضل الرحمن في البداية إلى كلام شاه ولي الله دهلوي. وبناء على ما ينقله يقول شاه ولي الله في كتابيه «السطعات» و«فيوض الحرمين»، بشأن الوحي أن القرآن الكريم نزل على قلب النبي الأكرم: هذا النزول هو نزول إجمالي، وبدون تفصيل. وأما بالنسبة لتفصيله ـ وبعبارة أخرى: القرآن الذي بين أيدينا ـ فهو نتاج الظروف المختلفة التي كان النبي الأكرم يواجهها خلال فترة رسالته ونبوته. وفي كل واحدة من تلك الظروف خرج القرآن من الإجمال إلى التفصيل طبقاً للصيغة اللغوية الموجودة من قبل في ذهن النبي الأكرم([28]). إلى هنا، وعلى أساس هذا التحليل النفسي، نكون قد توصَّلنا إلى تاريخية التعاليم القرآنية. ولكن يمكن أن نسأل بعد ذلك مباشرة: كيف يمكن القول على أساس هذا التحليل أن آيات القرآن وسوره ـ القرآن بصورته التفصيلية التي بين أيدينا ـ هو كلامٌ ووحيٌ إلهيٌّ؟! النموذج الذي يدافع عنه فضل الرحمن في التحليل النفسي هو النموذج التالي Feeling – Idea – Word، الذي تم توضيحه كذلك من قبل إقبال اللاهوري في كتاب «بازسازي أنديشه ديني در إسلام» (إعادة صياغة الفكر الديني في الإسلام)([29]). هذا النموذج ـ على أساس ما نقله إقبال ـ تم اقتراحه من قبل البروفسور هاكينك؛ لتوضيح معادلة الإبداع لدى الذهنية البشرية. وعلى أساس هذا النموذج فإنه في بداية أي عمل إبداعي تقدح في الذهن فكرة معينة بصورة بسيطة، ومن ثم تأخذ بالتدريج شكلاً معيناً وصياغة معينة. كما ورد في مؤلَّفات شاه ولي الله دهلوي نموذجٌ مشابهٌ لهذا النموذج تقريباً؛ لتوضيح الوحي. وعلى أية حال ينزل الوحي القرآني على قلب النبي الأكرم بصورة بسيطة وإجمالية (Feeling) ـ بنفس المعنى من الإجمال الذي ينظر إليه في العلم الإجمالي الإلهي ـ. وفي المرحلة التالية تتكون في ذهنه أفكار محدَّدة بشكل واضح (Idea) عندما يتعرض النبي الأكرم للظروف المختلفة، ويواجه أسئلة متعددة، وفي المرحلة التالية تجري على لسان النبي الأكرم في صورة آيات وسور القرآن الكريم (Word). وبناءً على هذه المعادلة ما كان خارج ذهن النبي وأوحي إليه إنما يمثل المرحلة الأولى فقط، والمرحلتين التاليتين تابعتين بالترتيب للظروف التاريخية، والصياغة اللغوية للنبي الأكرم‘. ويشكل كل ذلك ـ وبشكل لا يقبل الفصل والتجزئة ـ جزءاً من البناء العام لذهن النبي‘. وعلى هذا الأساس فالقول بأن القرآن الكريم عبارة عن وحي إنما يأتي اعتماداً على هذا الرأي باعتبار أن المرحلة الأولى هي من المراحل الثلاثة المذكورة أعلاه؛ ولكن على أساس التحليل النفسي، الذي تم بيانه، سيكون القرآن الكريم كلام النبي أيضاً([30]). وتجدر الإشارة إلى أن فضل الرحمن يذكّر أيضاً بأن مراحل ظهور آيات القرآن الكريم وسوره مصانة من الخطأ والانحراف؛ لعصمة النبي الأكرم‘([31]). وبتعبير آخر: إن النبي الأكرم لا يمتلك ضابطاً معيناً لكيفية ظهور القرآن الملفوظ في ذهنه([32]). والأمر الذي وضعه نصب عينيه من وراء هذا التحليل هو إعطاء أساس نظري لإثبات الصفة التاريخية لأحكام القرآن وقوانينه، وليس نفي صفة الوحي عن القرآن الكريم.

التحليل الكلامي لتاريخية القرآن الكريم

التحليل الثاني الذي استخدمه فضل الرحمن؛ لتبرير الصفة التاريخية للتعاليم القرآنية، يستند إلى نظرية المعتزلة، القائمة على القول بحدوث القرآن الكريم. ويرى فضل الرحمن أن القول بأن القرآن لم ينزل بصورة كتاب كامل دفعة واحدة، بل بصورة تدريجية في إطار الوحي خلال فترة امتدّت 23 سنة، وأن البعض من آياته تكمل بعضها الآخر، كل ذلك دليل على حدوث القرآن الكريم، مما لا يترك أدنى مجال للشكّ في بطلان النظرية المنافسة ـ أي القول بقدم القرآن ـ، المدعومة من قبل الأشاعرة. ومن هذا المنطلق نلاحظ انعكاس الميول، والرغبات، والتخوفات، ومسائل الحياة اليومية، والمشاكل، والأحداث الحاصلة في مجتمع صدر الإسلام، في آيات القرآن الكريم. ويُعَدُّ هذا الأمر في حد ذاته شاهداً حياً على أن القرآن الكريم كان العاكس لما يدور حوله، والمجيب عن الظروف التاريخية والأسئلة والقضايا التي تحصل في زمانه؛ إذ لو لم يكن كذلك لما كان تأثير القرآن الكريم على العرب في زمن النبي الأكرم، وعلى الأجيال اللاحقة من بعدهم، بذلك الشكل الذي شهدناه على مر التاريخ. تؤيّد هذه الكيفية التي عليها القرآن الكريم ـ بحسب رأي فضل الرحمن ـ مسألة حدوث القرآن، وتنفي القول بقدمه.

ويرى فضل الرحمن، واستناداً للقاعدة الكلامية للأشاعرة، أن القول بقدم القرآن يمهِّد الأرضية المناسبة للوصول إلى أن القرآن الكريم بما أنه قديم فإن تعاليمه أيضاً ذات جنبة عامة أزلية، ولا تختص بزمان ومكان خاصّين. وهذا سيكون في حدّ ذاته بمنزلة غلق باب الاجتهاد، وعقم الفقه عن أي نوع من أنواع الإبداع([33]). ويقول: إن الآيات الكريمة، من قبيل قوله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (البروج :21 ـ 22)، قد فُسّرت من قبل هذه الفرقة بأن القرآن الكريم يمتلك وجوداً أزلياً، وأن مواضيعه غير مرتبطة بالأحداث التاريخية الموجودة في صدر الإسلام. ولهذا فإن كل ما جاء في القرآن الكريم يمكن أن ينطبق على جميع الأزمنة، ويُعمل به. ويرى أن آراء أهل الحديث في هذا المجال، وخاصة أحمد بن حنبل، الذي كان من أقوى المدافعين عن القول بقِدَم القرآن، واستمرار أبو الحسن الأشعري وأتباعه في الأخذ بهذا الرأي ونشره، كان له أبلغ الأثر في ركود الفقه السنّي وخموده.

إن الدليل الوحيد الذي يمكن الإشارة إليه على أنه بمنزلة الرأي المؤيِّد للسمة التاريخية لآيات القرآن الكريم في مؤلَّفات القدماء هو موضوع أسباب نزول القرآن الكريم. وبالرغم من كل ذلك فإن أسباب النزول قد فقدت ـ كما يرى فضل الرحمن ـ دورها الأساسي في التفسير، والمتمثِّل بربط الآيات القرآنية بسياقها أو مناسبتها التاريخية، وأخذت على عاتقها تبيين بعض التفاصيل فقط، من قبيل: أسماء الأشخاص، والأماكن، والأحداث، التي أدت إلى نزول الآيات الكريمة. وعلى الرغم من أن توضيح هذه التفاصيل كان يشكِّل جانباً من دائرة اهتمامات أسباب النزول، إلا أن الدور الأساسي لها، والذي كان بإمكانه تبيين السياق التاريخي للآيات القرآنية، أصبح في طيّ النسيان. وكذا الأمر في الفقه أيضاً. فقد اقتصر دور أسباب النزول على تعيين تقدُّم أو تأخُّر نزول آيات الأحكام، في الحالات التي يحتمل فيها وجود النسخ. وبالتالي فقدت دورها الأساس، كما هو الحال في التفسير، والمتمثِّل بالتأكيد في الجنبة التاريخية، وفي ارتباط آيات الأحكام بالظروف التاريخية لزمن النبي الأكرم‘. ويرى أن استخلاص النتائج الكلية والعامة من الوقائع والأحداث الخاصة ـ والتي يُعبَّر عنها في العلوم القرآنية بعبارة: «العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص المعنى» ـ تعني أخذ الظروف التاريخية لنزول الآيات بنظر الاعتبار.

ـ يتبع ـ

الهوامش

(*) دكتوراه في فلسفة الدين من جامعة برمنغهام، وعضو الهيئة العلمية لجامعة باقر العلوم×، مستشار رئيس جامعة المصطفى’ العالمية لشؤون البحث العلمي.

(1) كان ظهور الإسلام في الهند ونموه وانتشاره شديد التأثّر بالصوفيين المسلمين. ومنذ أوائل القرن السادس عشر، وعلى أثر انتشار المذهب الأخباري بين المسلمين السنة في شبه القارة الهندية، حظي مذهب أهل الحديث بنفوذ وانتشار كبيرين في هذه المنطقة تدريجياً. وفي هذا الصدد يعتبر الشيخ أحمد سرهندي، ومن بعده شاه ولي الله دهلوي ـ الذي تلقى علومه في السعودية، وتتلمذ كذلك على يد محمد بن عبد الوهاب، مؤسَّس المذهب الوهابي عدة سنوات، على ما جاء في بعض الأخبار ـ من الأفراد المؤثِّرين في انتشار نفوذ أهل الحديث في شبه القارة الهندية. ولعل التذكير بهذه النقطة لا يخلو من فائدة، وهي أن الشيخ أحمد سرهندي هو من أحد الصوفيين البارزين في الهند، ومن المعاصرين لأكبر شاه. ويجب أن لا يصار إلى الخلط بينه وبين أحمد خان الهندي، مؤسِّس جامعة عليكره، الذي كان يحمل لقب Sir، ومن المجددين الهنود المعروفين في القرن التاسع عشر. وعلى أية حال تأسس في القرن التاسع عشر، وفي مدينة ديوبند، أول تجمع رسمي لأهل الحديث، بتأسيس المدارس العلمية المرتبطة بهذا المذهب. وهذه الفرقة هي أقرب ما تكون إلى الوهابية من الناحية الفكرية. وعلى أثر الرد على هذا النمط من التفكير تأسست فرقة أخرى باسم بريلوي. ومن الناحية الفكرية ترى استمرار الإسلام بشكله التقليدي في شبه القارة؛ إذ إنها أقرب ما تكون إلى آراء الصوفيين. واسم هذه الفرقة مقتبس من اسم المدينة التي كان يعيش فيها مؤسِّس هذا المذهب أحمد رضا خان بريلوي (1856ـ 1921م).

([2]) Fazlur Rahman, “Islam and Social Justice”, Pakistan From, vol. 1, no. I, (1970), p.4.

([3]) Fazlur Rahman,”Fazlur Rahman”, in Phillip L. Berman ed, The Courage of Conviction, New York:Dodd, Mead & Company, 1985, p. 153 – 159.

John E. Woods, “Forward”, in Fazlur Rahman,Islam, Chicago: The Chicago University Press, 2002,pp.ix – xxi.

([4]) Fazlur Rahman, Islm and Modernity: Transformation of an Intellectual Tradition, Chicago: The University of Chicago Press, 1984, p.87

([5]) Fazlur Rahman, “Introducing the Journal”, Islamic studies,vol. I, pp. 1- 4.

([6]) Fazlur Rahman “My Belie in Action” , p. 157.

([7]) Fazlur Rahman Avicenna s, Psychology: An English Translation of Kitab al – Najat , Book 11, Chapter V1.London: Oxford University Press , 1952.

([8]) Fazlur Rahman The Philosophy of Mulla Sadra , New Your: State University of New York Press, 1975.

([9]) Fazlur Rahman, “Mir Damad,s Concept of Huduth Dahri: A Contribution to the study of God – Word Relationship Theories in Safavid Iran”, in Journal of Near Eastern Studies, vol. 39, no. 2. (1980). Pp. 139 – 151.

([10]) Fazlur Rahman, Islam and Modernity, p. 26 -27.

(11) ينقل فضل الرحمن في عدة مواضع، ومنها في كتابه المشهور “Islam and Modernity” ، وكذلك مقالته الموسومة “Revial and Reform” ، تاريخ هذه الأحداث الفكرية بين السنّة بالتفصيل.

([12]) Fazlur Rahman, “The Impact of Modernity”, p. 120.

([13]) Fazlur Rahman, Islam and Modernity, p. 15.

([14]) Fazlur Rahman, Islam and Modernity, p. 29.

([15]) Fazlur Rahman, Islam and Modernity, p. 31 ؛” Islam and Justice”,p. 4.

([16]) Fazlur Rahman, Islam: Legacy and contemporary Challenge, p.243.

([17]) Fazlur Rahman, ” The Impact of Modernity on Islam”, pp. 118-119.

([18]) Fazlur Rahman, Revial and Reform in Islam “, p.640.

([19]) Fazlur Rahman, Islam: Legacy and contemporary Challenge, p. 242.

([20]) Fazlur Rahman, “Islam and Modernity”, p.5.

([21]) Fazlur Rahman, “Islam and Modernity”, p.86.

([22]) Fazlur Rahman, “Islam and Modernity”, p.3.

([23]) Fazlur Rahman, “Islam and Modernity”, p.13.

([24]) Fazlur Rahman, “Islam and Modernity”, p.4.

([25]) Fazlur Rahman, “Islam and Modernity”, p.19.

([26]) Fazlur Rahman, “Concepts Sunnah, Ijtihad and Ijma in the Early Period”, p.10- 11.

([27]) Fazlur Rahman, Islam, pp. 37-40.

([28]) Fazlur Rahman, “Divine Revelation and the Prophet”, Hamdard Islamicus, 2 (1978), p.67.Islam, pp.30-3.

([29]) Iqbal, M., Reconstruction of Religious Thought in Islam, Lahore, 1977, 21-22.

([30]) Fazlur Rahman, “Divine Revelation and the Prophet”, p69-70.

([31]) Fazlur Rahman, Islam, p.32-33.

([32]) Fazlur Rahman, “Divine Revelation and the Prophet”, p. 71.

([33]) Fazlur Rahman, “Concepts Sunnah, Ijtihad and Ijma in the Early Period” in Islamic Studies, 1(1962), p. 10.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً