أحدث المقالات

أدلّة وبراهين

 

د. إبراهيم کلانتري(*)

 

مدخل ـــــــ

إنّ  ألفاظ القرآن الكريم من بين الأمور المهمّة التي تناولها المفسرون والمختصّون في مجال العلوم القرآنيّة منذ القدم بالبحث والتحقيق، ولا يزال البحث قائماً حولها إلى يومنا هذا.  والسؤال هو: هل الألفاظ القرآنية قد أنزلت على النبيّ الأكرم’ من قبل الله تعالى، كما هو الحال بالنسبة إلى محتواها ومضمونها؟ أو أن الذي نزل على الرسول’ وحياً ليس سوى المحتوى القرآني، أما القالب اللفظي فإنما صاغه شخصُ رسول الله’ أو جبرائيل×؟

وقبل الدخول في بيان الرؤى المطروحة في هذه المسألة، ونقدها وبحثها، نذكر أولاً الافتراضات المحتملة فيها، ومن ثمّ نعمد إلى بحثها وتحليلها. ويبدو أن بالإمكان تصوّر خمسة فروض حول هذه المسألة، وذلك على النحو الآتي:

1 ــ إنّ ما نزل على النبيّ الأكرم’ مجرد المعاني ومعارف القرآن السماوية، وقد قام النبي’ بصياغة تلك المعاني والمعارف، وصبّها في قوالبها اللفظيّة، ورتبها في سياق الكلمات والجمل، وقام بنقلها إلى الناس([1]).

2 ـ إنّ معاني القرآن ومعارفهِ السّامية نزلت من عند الله سبحانه وتعالى، إلا أنّ جبرائيل الأمين× قام بصياغة ألفاظها وكلماتها، ومن ثمّ أنزلها على قلب رسول الله([2])’.

3 ـ إنّ ما نزل على رسول الله’ ليس سوى الألفاظ والكلمات والجمل، وقد توصّل النبي الأكرم’ من خلالها إلى معانيها ومعارفها السّامية([3]).

4 ــ  إنّ الألفاظ والمعاني القرآنيّة معاً هي من قبل رسول الله’، وما إسناد القرآن إلى الله تعالى إلا لأنه قد أعدّ النبيّ الأكرم’ ليكون منبعاً لصدور مثل هذه الألفاظ والمعاني([4]).

5 ـ إن القرآن بمجموعه من الألفاظ والكلمات والجمل والمعاني والمعارف السامية هو من عند الله تعالى، وقد تلقاها رسول الله’ بأجمعها من الله عزوجل، ونقلها إلى الناس بتمامها، دون أن يكون له أدنى تدخلٍ في تلك المعاني والألفاظ([5]).

 

النظريات الإسلامية في ألفاظ القرآن الكريم ـــــــ

من خلال بحث الآراء في باب ألفاظ القرآن يتضح أنّ بعض الافتراضات الخمسة المتقدمة لم يقل به أحدٌ من العلماء في مجال التفسير والعلوم القرآنية، ومن بين تلك الإفتراضات هناك ثلاثة فقط تم تلقيها بالاهتمام والقبول، وقد ذكر الزركشي في هذا الباب الآراء الثلاثة الآتية المنطبقة على تلك الافتراضات:

الرأي الأول: إنّ معاني القرآن ومعارفه قد نزلت بقالبها اللفظي، وهذه الجمل من عند الله تعالى، ولم يكن لجبرائيل والنبي الأكرم’ من دورٍ سوى الوساطة في إبلاغ هذه الرّسالة السماويّة إلى الناس، وهذا هو الافتراض الخامس.

الرأي الثاني: إنّ ما صدر عن الله تعالى ليس سوى المعاني والمعارف القرآنيّة، وقد نزلت هذه المعاني بواسطة جبرئيل على النبي الأكرم’ الذي صبّها في قالب الألفاظ والجمل، وقام بعرضها على المؤمنين، وهذا هو الافتراض الأول.

الرأي الثالث: تمّ إلقاء المعاني والمعارف القرآنيّة على جبرائيل×، فقام بصياغتها في قوالبها اللفظيّة، وعرضها على النبي الأكرم’([6])، وهذا هو الافتراض الثاني.

وإنّ الزركشي ـ وإنْ لم يسمّ قائلاً لأيٍّ من الآراء الثلاثة المتقدّمة، ولكن يبدو من خلال كلامه الذي ذكرهُ قبل التعرّض لهذه الأقوال أنّ أبناء العامّة مطبقون على الرأي الأول، حيث قال: «واعلم أنه اتفق أهل السنة على أنّ كلام الله منزّلٌ، واختلفوا في معنى الإنزال، فقيل: معناه إظهار القرآن، وقيل: إنّ اللهَ أفهمَ كلامهُ جبرائيل وهو في السماء، وهو عالٍ من المكان وعلمه قراءته، ثمّ جبرائيل أدّاهُ في الأرض، وهو يهبطُ في المكان>([7]).

كما اكتفى السيوطي بنقل الآراء الثلاثة المتقدّمة، واختار الرأي الأوّل منها، وأقام عليه الأدلة([8]).

كما يتضح من كلام الزرقاني الدقيق والبديع في هذا الباب أن هذه الآراء الثلاثة هي المطروحة بين العلماء، وأما الافتراضان الثالث والرابع فلم يقل بهما أحد، أو لم يحظيا بتأييد يُذكرُ من قبل أحدٍ من العلماء([9]).

ويبدو من كلام العلامة الطباطبائي& أنّ هناك من يقول بالإفتراض الرابع، وهو كون الألفاظ والمعاني من صنع شخص النبي الأكرم، من الافتراضات الخمسة المتقدمة، ولكنّ العلامة عدّه سخيفاً، ولم يسمّ قائله، قال: <وأسخف منه قول من قال: إنّ القرآن بلفظه ومعناه من منشآت النبي’، ألقته مرتبة من نفسه الشريفة تسمّى الروح الأمين، إلى مرتبةٍ منها تسمّى القلب> ([10]).

ومن بين هذه الافتراضات والآراء المذكورة في موضوع ألفاظ القرآن لم يحظ باهتمام عموم المسلمين والعلماء والمفكرين في الحوزات العلميّة سوى رأيين، حيث حظيا منذ البداية وحتى الآن بالسهم الأكبر من البحوث والتحقيقات، ولرعاية الاختصار سنكتفي بالتعرّض إلى هذين الرأيين، تاركين تفصيل القول فيهما إلى المصادر الأخرى.

 

1- نظرية سماوية الألفاظ والمعاني، الأدلّة والشواهد  ـــــــ

كان الرأي السائد بين المسلمين منذ أن عرفوا الوحي السماوي إلى يومنا هذا قائماً على أساس أنّ القرآن الكريم بجميع ما فيه من المعارف السّامية والمضامين الإلهية المسبوكة في قوالبه اللفظية وجمله وتراكيبه المعهودة قد نزل على رسول الله’، الذي قام بدوره كوسيطٍ بين خالق الكون والبشر باستلام هذه الرّسالة الإلهيّة، وإبلاغها إلى الناس دون أدنى زيادةٍ أو نقيصة. ويتمتع هذا الرأي بحصانةٍ برهانية، وتأييداتٍ قرآنية، حتى تلقاه المسلمون بوصفه من ضروريات الدين، وادّعى عليه الإجماع كثيرٌ من المفكرين([11]). إن السعي الحثيث الذي بذله رسول الله’ لحفظ القرآن الكريم من أيّ تحريف وتغيير، وتوظيف عدد من المؤمنين لكتابة آيات القرآن وتثبيتها بدقة، وتعليم الآيات للحاضرين من المسلمين فور نزولها، وإرسال جماعات تبليغية لغرض تعليم القرآن لسائر المسلمين في المناطق البعيدة والنائية، وتأكيده على حفظ القرآن وقراءته بشكل متواصل، لدليلٌ على أنّ ألفاظ القرآن الكريم وجمله وتراكيبه، كمعارفه ومعانيه السّامية، نابعة من معين العلوم الإلهيّة التي لا تنضب.

وقد قامت سيرة المسلمين وسلوكهم العملي في التعاطي مع القرآن الكريم على إثبات هذه الحقيقة، فكما سعى المسلمون إلى فهم معارف القرآن ومفاهيمه السماوية، وتصدّوا لنشوء أيّ إنحرافٍ في هذا المجال، سعوا بنفس الوتيرة والنسبة إلى تعلم ألفاظ القرآن وأساليبه التركيبيّة، وبنية متنه الظاهريّة، والوصول إلى أسلوبه البديع ووجوه الفصاحة والبلاغة، وإيقاعه الموزون أيضاً. وقد كانت الجهود الواسعة التي بذلها علماء المسلمين بشأن البنية الظاهريّة والأسلوب الكلامي في القرآن يقوم قبل كلّ شيءٍ على إيمانهم واعتقادهم بسماويّة ألفاظ القرآن الكريم. وإنّ البحوث الكثيرة حول ظواهر القرآن الكريم، وإمكان فهمه وتفسيره، وترجمته إلى سائر اللغات، وجمعه وتدوينه وكتابته، وتواتره عبر العصور وعدم تحريفه، ناشئة بنحوٍ من الأنحاء عن الاعتقاد بسماويّة هذا الكتاب شكلاً ومضموناً. إن الاعتقاد بسماويّة ألفاظ القرآن وبنيته الظاهرية من العمق والرسوخ في وجدان المؤمنين بحيث كان القرآن عندهم على الدوام نصّاً مقدّساً يحظى باحترامهم الخاص، وأفردوا له موضعاً مخصوصاً يرفعه على جميع النصوص البشريّة.

وقد أقيمت أدلة كثيرة على سماويّة ألفاظ القرآن وبنيته الظاهريّة، وفي ما يأتي نشير إلى بعضها:

1 ـ يعلنُ القرآنُ صراحة أنه كلام الله تعالى([12])، وإنما تصح نسبة الكلام إلى قائله، وتكون منطقيّة ومعقولة، إذا كان لذلك القائل دورٌ أساسٌ في اختيار وتنظيم الكلام وصياغة جمله وتراكيبه([13]). وأما إذا قامَ بتلقين بعض المفاهيم لشخص، ثمّ قام ذلك الشخصُ بصبِّ تلك المفاهيم في قوالب لفظيّةٍ عمد إلى اختيارها بنفسه، فعندها سينسب الكلام إلى هذا الشخص، ولن تكون نسبتها إلى الملقن منطقيّة ومتعارفة أبداً([14]).

2 ــ لا شك في أنّ الجزء الأعظم من إعجاز القرآن يعود إلى بنيته الظاهريّة وأسلوبه البديع والمنفرد في بابه. إن بلاغة القرآن وفصاحته الفريدة، والتي أطبق العلماءُ في فنون الكلام العربي على كونها من الوجوه الإعجازيّة للقرآن، ناظرة إلى تركيبته الظاهريّة. وإنّ رسالة القرآن في التحدّي، والتي تدعو الجميع إلى الإتيان بمثل القرآن، إنما ترمي إلى الإتيان بمثل قالبه اللفظي، حيث تقول: إذا كنتم في شكّ من سماويّة هذه الألفاظ والقوالب المتضمّنة للمعارف القرآنيّة السّاميّة فاتوا بألفاظ وقوالب أخرى مشابهة لهذه الألفاظ، من باب المعارضة ولإثبات دعواكم. إن هذا التحدّي، وعجز المشركين عن الإتيان بمثله، لدليل على أنّ البنية الظاهرية للقرآن وأسلوبه البياني هو من عند الله تعالى([15])، ولم يكن هناك دخل لكلام أيّ شخصٍ آخر، حتى النبيّ، في صياغته. قال الزرقاني في بيان هذا الدليل: <إنّ الإعجاز منوطٌ بألفاظ القرآن، فلو أُبيحَ أداؤه بالمعنى لذهبَ إعجازه، وكانَ مظنة للتغيير والتبديل>([16]).

3 ـ هناك آيات كثيرة تدلُّ بوضوح على سماويّة ألفاظ القرآن وتركيبة نصّه العربي، ومنها:

﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الزخرف: 3ـ4].

﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: 12].

﴿وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ﴾[الأحقاف: 12].

حيثُ تنسب هذه الآيات تركيبة القرآن وألفاظه العربيّة إلى الله سبحانه وتعالى صراحة، ومن الواضح أن (اللسان) و (العربية) لا ربط لهما بالمضمون أبداً؛ إذ هما من أوصاف الألفاظ والبنية الظاهرية للنص.

وهناك آيات أخرى تدلّ بوضوح على عدم تدخل النبي الأكرم‘ في صياغة ألفاظ القرآن، وتبعيّته المحضة للوحي الإلهي في ذلك، ومنها:

﴿قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [يونس: 15].

﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3ـ4].

﴿وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا﴾ [الكهف: 27].

ومضافاً إلى الآيات المتقدّمة، فإنّ الآيات التي تصرّحُ بقراءة القرآن وتلاوته وإلقائه على النبيّ الأكرم‘ تدلُّ أيضاً على موضوع بحثنا، وإليك بعض الأمثلةِ منها:

﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان: 32].

﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ [القيامة: 17ـ18].

﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ [المزمل: 5].

ومن الواضحٌ جدّاً أنّ (الترتيل) و(القراءة) و(إلقاء القول) تعود بأجمعها إلى الألفاظ والعبارات، ولا يمكن أن تكون لها أية نسبةٍ مع محتوى الكلام ومضمونه، ومن خلال التمعّن والتدقيق في الآيات المتقدّمة، وكثيرٍ من الآيات التي تبين كيفية نزول الوحي على النبي الأكرم’، لا يبقى أيُّ مجالٍ للترديد في أنّ ألفاظ القرآن وتركيبته الظاهريّة وأسلوبه البياني كمضمونه ومحتواه السامي ومعارفه الساطعة، قد نزل من عند الله سبحانه على سفير الوحي والرّسالة، وأنّ دور جبرائيل والنبي الأكرم’ لم يكن سوى الوساطة في تلقي هذا الوحي، وإبلاغه إلى الناس.

4 ـ إن الاختلاف الواضح بين تركيبة النص القرآني الظاهري والكلمات والأحاديث المنقولة عن النبي الأكرم’، والذي لم ولن يخفى عن أيّ عالم متعمّقٍ في فنون الكلام، لدليلٌ آخر على سماوية ألفاظ القرآن الكريم وكلماته. وإن العرب الذين عاصروا النبي الأكرم’، وعاشوا معه لسنوات عديدة، وتعرفوا على أسلوبه البياني بشكلٍ كاملٍ، وجدوا أنفسهم لدى سماع أولى آيات الوحي فجأة أمام محيطٍ من المضامين محمولٍ في قوالب وألفاظ لا قبلَ لهم بها، ووجدوا أنفسهم أمام أسلوبٍ أسمى من جميع الأساليب التي صدعَ بها الإنسان، فأذعنوا جهاراً بسماويتها، ومنهم من أعلن عن إسلامه فور سماعها، وقدّمَ نفسهُ رخيصة في سبيله، ومنهم من سلك ـ رغم اعترافه الصريح بحقيقة الأمر ـ طريق العناد والعداوة، فكان جزاؤه الخلود في الظلمات الأبديّة([17]).

وقد قال الزرقاني حيث أدرك قوّة هذا الدليل، تحت عنوان <أسلوب القرآن وأسلوب الحديث النبوي>:

«ولقد كان العربُ يعرفون نبيّ الإسلام، ويعرفون مقدرته الكلامية من قبل أن يوحى إليه، فلم يخطر ببال منصفٍ منهم أن يقول: إنّ هذا القرآن كلام محمد؛ وذلك لما يرى من المفارقات الواضحة بين لغة القرآن ولغة الرسول’»([18]).

كما أكّد القرآن الكريم التمايز بين كلام النبي الأكرم’ وآيات الوحي، ويمكن في هذا الشأن الرجوع إلى الآية 16من سورة يونس.

5 ــ إن معارف القرآن وحقائقه ومحتواه من العظمة والعمق والسعة بحيث تفوقُ طاقة الإنسان على حملها، ويستحيل عليه الإحاطة بجميع تلك المعارف السماوية بشكل كامل، ويعجز عن وضعها في قوالب لفظية. وقد صرّح القرآن بعظمة الوحي، حيثُ قال: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ [المزمل:5]، ومن جهةٍ أخرى يعرّفُ النبيّ الأكرم على أنه إنسانٌ كسائر البشر، ولكن يوحى إليه من قبل الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110].

إنّ النبي الأكرم الذي هو إنسانٌ كسائر البشر إنما يمكنه ـ من خلال انشراح صدره([19])، وطهارته من جميع الخبائث والأرجاس([20]) ـ أن يحمل وحي السماء بما له من العظمة والعمق، ويبلغه إلى الناس دون زيادةٍ أو نقيصة. وإن إلباس الحقائق السماوية العظيمة والمحتوى الرباني العميق واللامتناهي لباس الألفاظ والكلمات، كما هو خارجٌ عن قدرة الإنس والجن([21])، كذلك هو خارجٌ عن قدرة شخص النبي الأكرم’ أيضاً.

وقد تمسك جلال الدين السيوطي بهذا الدليل لإثبات سماويّة ألفاظ القرآن الكريم، حيثُ قال: «وإنّ تحتَ كلّ حرفٍ منه معانيَ لا يُحاط بها كثرة فلا يقدرُ أحدٌ أن يأتيَ بدلهُ بما يشتملُ عليه»([22]).

إذاً نستنتجُ من الأدلة المتقدّمة بوضوحٍ أن ألفاظ القرآن وكلماته وبنيته الظاهريّة هي كمحتواه ومضامينه السّامية ومعارفه السّاطعة، وحيٌ إلهيٌّ أُنزل على الرسول الأكرم’  بواسطة أمين الوحي جبرائيل×، وأبلغه النبي’ إلى الناس دون زيادة أو نقيصة، وأن ما عُرّفَ للناس على أنه القرآن منذ عصر نزوله والعصور التي تلته إلى يومنا هذا، وتنعّمت المجتمعات البشريّة على الدوام بحضوره السّاطع، هو وحيٌ إلهيٌّ بجميع كلماته وحروفه، وقد خوطب به جميعُ الناس في كافة الأعصار والأمصار على السّواء([23]).

 

2- نظرية سماويّة مفاهيم القرآن، وبشريّة ألفاظه ـــــــ

يذهب الرأي الثاني إلى أنّ ما أُوحيَ إلى النبي الأكرم’ من قبل الله عزوجل ليس سوى المعارف والمضامين القرآنيّة العميقة، والتي لولا الوحي لم يكن بإمكان البشر معرفتها، إلا أنّ إلباس تلك المضامين بالقوالب اللفظيّة قد تمّ من قبل رسول الله ’ شخصيّاً.

وفي حدود علمي فإن جذور هذا الرأي تعود إلى القرن الهجري الثالث؛ إذ صدع به ابن كلاب([24]) المتكلم المعروف، حيث كان في مقدمة المنظرين لمذهب الأشاعرة، ويرى في ما يتعلق بكلام الله أنه من صفات الذات، وقديم بقدمه وغير مخلوق، ومضافاً إلى هذا الرأي، الذي تلقته الأشاعرة بالقبول، له رأيٌ آخر حول القرآن وسائر الكتب السّماويّة الأخرى، وهو أنّ كلام الله القديم لم يتمّ تدوينه في مصحف وكتابٍ مدوّن، ودليله على ذلك <أن الرسم والتعبير العربي أو العبري لكلام الله مغاير لعين كلام الله، وإن القرآن الكريم رسمٌ وتعبيرٌعربيّ لكلام الله وليس عينه>، ولذلك فهو يذهبُ إلى حدوثِ ظاهرة تعبيرية تحمل سمات اللغة العربية أثناء نزول الوحي القرآني على مسامع النبيّ الأكرم’([25]).

كما أنه يرى أن محدوديّة الكلام العربي أدّت إلى محدوديّة كلام الله أثناء نزوله، مما طبعه بصبغة بشريّة، ومن هنا لا يمكن الاعتقاد بأن القرآن هو كلام الله سبحانه وتعالى([26]).

إن هذه الرؤية الخاصّة بابن كلاب حول ألفاظ القرآن وعباراته، وإن واجهت هجوماً عنيفاً من قبل كبار العلماء، من قبيل: القاضي عبد الجبّار، وأبي الحسن الأشعري في القرن الرابع والخامس، وابن تيمية في القرن السّادس، ولكنها لا تزال إلى يومنا هذا حاضرة بين العلماء في مجال العلوم وتفسير القرآن بوصفها رؤية نادرة. وإن ذكر هذا الرأي إلى جانب الرأي الأوّل، وهو الرأي السائد والذي عليه إطباق المسلمين في القرون الإسلاميّة الأولى، في أمّهات المصادر، مثل: البرهان للزركشي، والإتقان للسيوطي، ومناهل العرفان للزرقاني، ونقلها عن العلماء السابقين، دليل على حضور هذه الرؤية المتواصل في مجال الفكر الديني، وخضوعها للبحث والدراسة المتواصلة، وإن لم تسمّ هذه المصادر المتقدّمة قائلاً بهذه الرؤية. ويبدو أن هذا الرأي قد حظي في القرن الأخير باهتمامٍ وإقبالٍ أكبر، إذ يسعى بعض الكتاب المجددين، من خلال الانحياز لهذه الرؤية، إلى تعزيزها والترويج لها.

وهناك من العلماء، كشاه وليّ الله دهلوي([27])، وسير سيد أحمد خان الهندي([28])، والسيّد أمير علي الهندي([29])، والذي كان لكلّ واحدٍ منهم دورٌ في نهضة الإصلاح الديني في شبه القارّة الهنديّة، من ذهب إلى أنّ ما نزل على رسول الله’ هو المعاني والمعارف القرآنيّة فقط، وأن القوالب اللفظية والبنية الظاهرية للقرآن من صياغة النبي الأكرم’.

وكذلك يمكن الوصول إلى هذه الرؤية من خلال بعض كتابات الكاتب المصري الدكتور نصر حامد أبو زيد([30]). كما يقرّ بعض الكتاب الذين يذهبون إلى المساواة بين الوحي والتجربة الفرديّة لشخص الرسول بهذه الرؤية، سواءٌ أشعروا بذلك أم لم يشعروا.

 

نظرية بشرية الألفاظ القرآنية، دراسة ونقد ـــــــ

إنّ أنصار هذه الرؤية لم يقدّموا أي دليلٍ منطقيٍّ على إثبات مدعاهم، واكتفوا بطرح دعواهم فقط، وربما أمكن العثور على المستند الأساس لهذه الدّعوى في بعض آيات القرآن الكريم، حيث صرّحت بعض الآيات بنزول الوحي على قلب النبي ’، وإنّ نزول الوحي على القلب بنحوٍ طبيعي لا يفتقر إلى استعمال الألفاظ والعبارات([31])، وتلك الآيات هي:

1 ـ ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾ [الشعراء: 193ـ194].

2 ـ ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ﴾ [البقرة: 98].

وبالاستناد إلى هاتين الآيتين يكون القلب المبارك لرسول الله ’ محلاً لنزول الوحي، وإن إدخال أمرٍ في القلب لا يحتاج إلى استخدام القوالب اللفظية والتعبيريّة؛ فإنّ استعمال الألفاظ إنما يصار إليه لإيصال المطالب إلى الأذن، التي تعدّ من الحواس الظاهريّة للإنسان.

ويبدو أن الأدلة الخمسة المتقدّمة في إثبات الرأي الأول كفيلة بإبطال الرأي الثاني أيضاً.

ومن جهة أخرى فإن الاستدلال بالآيتين المتقدّمتين لإثبات الرأي الثاني مردود؛ وذلك:

أوّلاً: إن الأدلة التي تقدّمت لإثبات الرأي الأوّل تحدّثت بصراحةٍ عن سماويّة الألفاظ القرآنيّة، والبنية العربيّة للقرآن، و(التلاوة)، و(إلقاء القول)، مما يعتبر بأجمعه من خصائص البناء الظاهري للمتن، وتبعيّة النبي الأكرم’ المحضة للوحي الإلهي وعدم تدخله في تبديله أو تغييره. وفي بعض الآيات نُسبتْ عربيّة القرآن إلى الله مباشرة([32]).  وعليه لابدّ من تفسير الآيات التي تثبت نزول الوحي على القلب بشكلٍ ينسجم ويتناغم مع الكمّ الهائل من الآيات القرآنيّة التي تثبت سماويّة الألفاظ القرآنية.

ثانياً: إنّ سماويّة القرآن وعباراته، والبنية العربيّة للقرآن الكريم، ليس فيها أيّة منافاة لنزول القرآن على قلب الرسول الأكرم’؛ وذلك لأنّ القرآن الكريم وجميع العلماء الذين يذهبون إلى سماويّة الألفاظ لا يرون نزول الوحي مسألة مادّية أو حسّيّة، فإنّ نزول المعارف والمفاهيم السماوية الرفيعة في قالب الألفاظ والعبارات واللغة العربية، وإن أكّدها القرآن، واعتقد بها المؤمنون قاطبة من حين نزول الوحي إلى يومنا هذا، إلا أنّ هذا لا يستلزم أن يكون الوحي قد تحقق بأدواتٍ حسّية متعارفة، كالفم واللسان من قبل المتكلم، والأذن من ناحية السامع، فكما أنّ الوحي من مقولة العلم الحضوري([33]) فكذلك قوالبه وتركيباته الظاهريّة يمكن أن تكون من مقولة العلم الحضوري أيضاً. ولا يمكن ادعاءُ أنّ الوحي من مقولة العلم الحضوري في حين أنّ قوالبه والبنية الظاهريّة لتحققه من نوع الأدوات التي يتمّ توظيفها في العلم الحصولي. وعليه كما تعرض المفاهيم والمعارف السماويّة الرفيعة في عملية تحقق الوحي من بحر العلوم الإلهيّة اللامتناهي على وجود النبيّ الأكرم بالنحو الحضوري، فتتسع على أثره الآفاق الوجوديّة المباركة للرسول’، فيتصل ببحر العلوم الإلهيّة، تنعكس في الوقت ذاته القوالب والعبارات والبنى الظاهريّة بما يتناسب وتلك المفاهيم والمعارف العميقة، كمرآةٍ على صفحة وجوده، وإنّ هذه القوالب المطبوعة في وجود النبيّ الأكرم’ هي التي تمكنه من عرض الوحي على العالمين دون أدنى تغيير من زيادة أو نقيصة.

وعلى هذا الأساس لا يكون هناك تعارضٌ أو تنافٍ بين الآيات التي تعرّفُ قلب النبي الأكرم’ بوصفه محلاً لنزول الوحي والآيات التي تثبت سماويّة الألفاظ القرآنيّة، بل إنّ جميع الآيات القرآنيّة تكمّلُ وتتمّمُ بعضها.

وقد أكّد العلامة الطباطبائي& على الإجابة المتقدّمة ضمن ردّ الرأي القائم على نسبة الألفاظ القرآنيّة إلى الرسول’، وذلك عند تفسير الآيتين 193 و194 من سورة الشعراء، واللتان تصرّحان بنزول الوحي على قلب رسول الله’، حيثُ يرى أنّ القلب في الآية المذكورة عبارة عن النفس الإنسانيّة الشاعرة والمدركة والمنيرة، ويرى أنّ نزول الوحي على القلب في الآية المذكورة ناظرٌ إلى كيفيّة تلقي الوحي واستلامه من قبل النبي’، ويصرّحُ بأنّ تلقي الوحي كانَ يتمّ من قبل نفسه الشريفة دون تدخلٍ من حواسّه الظاهريّة، فقد كان النبي’ يرى مَلك الوحي ويسمع كلامه دون أن يستخدم في هذه الرؤية والسّماع السمعَ والنظرَ وحواسّه الظاهريّة([34]).

ثالثاً: بعد أن ذكر القرآن الكريم نزول القرآن الكريم على قلب الرسول’ في الآيتين 193 و194 من سورة الشعراء أردف ذلك قائلاً: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾، الأمر الذي يؤكّدُ عدم منافاة نزول الوحي على القلب لوحيانية الألفاظ القرآنية وبنيته الظاهريّة.

وعليه لا يمكن للآيات التي ترى قلب الرسول الأكرم’ محلاً لنزول الوحي الإلهي أن تكون مستنداً مقبولاً للرأي الثاني، ومن هنا يكونُ هذا الرأي مجرّد دعوى لا تقوم على أيّة دعامةٍ علميّة أو برهانٍ رصين([35]).

 

 

الهوامش

(*) أستاذ جامعي، وعضو الهيئة العلمية في جامعة الزهراء÷ في طهران.

([1]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 15: 317, حيث ذكر هذا الافتراض بوصفه واحداً من الافتراضات المطروحة في هذا البحث.

([2]) الزركشي، البرهان في علوم القرآن 1: 291، حيث ذكر هذا الافتراض، ولم يذهب إليه.

([3]) محمد تقي مصباح اليزدي، قرآن شناسى 1: 93، حيث اكتفى بمجرّد ذكر هذا الافتراض.

([4]) الميزان في تفسير القرآن 15: 317، حيث ذكره العلامة الطباطبائي& كأحد الافتراضات المتصوّرة، وأما هو فيذهب إلى الافتراض الخامس.

([5]) المصدر السابق.

([6]) البرهان في علوم القرآن 1: 291.

([7]) المصدر السابق.

([8]) السيوطي، الإتقان في علوم القرآن 1: 58ـ59.

([9]) الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن 1: 41ـ42.

([10]) الميزان في تفسير القرآن 317:15.

([11]) مناهل العرفان في علوم القرآن 44:1؛ البرهان في علوم القرآن 290:1؛ معرفت، التمهيد في علوم القرآن 211:1؛ الشهرستاني، مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار 60:1.

([12]) قال تعالى في الآية 6 من سورة التوبة: {وإنْ أحدٌ من المشركين استجاركَ فأجرهُ حتى يسمعَ كلام الله}، وهكذا ورد التعبير بكلام الله في الآية 75 من سورة البقرة، والآية 15 من سورة الفتح.

([13]) التمهيد في علوم القرآن 210:1.

([14]) المصدر السابق؛ مناهل العرفان في علوم القرآن 44:1.

([15]) قرآن شناسي، 93:1؛ التمهيد في علوم القرآن 210:1ـ211، وقد عقد المؤلف في الجزء الخامس من هذا الكتاب بحثاً تفصيليّاً حول الأسلوب البياني للقرآن.

([16]) مناهل العرفان في علوم القرآن 44:1.

([17]) التمهيد في علوم القرآن 28:4ـ29.

([18]) مناهل العرفان في علوم القرآن 235:2.

([19]) الانشراح: 1.

([20]) الأحزاب: 33.

([21]) الإسراء: 8.

([22]) الإتقان في علوم القرآن 59:1.

([23]) إنّ لصدر المتألهين& كلاماً جميلاً بشأن حكمة نزول المعارف الإلهيّة السّامية في قالب الألفاظ والحروف، راجع: مفاتيح الغيب: 10 و11، طهران، مؤسسة التحقيقات والدراسات الثقافية، الطبعة الأولى، عام 1363ش.

([24]) أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان البصري، المتكلم المعروف، وقد عاش في القرن الهجري الثالث، وكان من الذين دوّنوا معتقدات السلف في علم الكلام، ثم سار على نهجه رجالٌ من قبيل أبي الحسن الأشعري فأسس (المذهب الأشعري في علم الكلام)، وقد كان ابن كلاب من المعارضين المبرزين لمذهب الاعتزال، وكتب في نقض آرائهم بعض المصنفات، ولم يضبط تاريخ وفاته بدقة، ولكنهم ذكروا أن وفاته قد حدثت بعد عام 240هـ ق. وقد كان لآراء ومعتقدات ابن كلاب الكلامية أثر كبير في تكوين الكلام الإسلامي، وقد بحث من تلاه من المتكلمين آراءه بجدّية وكان فيهم من تبناها ومن عارضها، وعرف أتباعه بالكلابية، دائرة المعارف الإسلامية الكبرى، ج4، طهران، الطبعة الأولى، عام 1370هـ ش، بإشراف السيد كاظم البجنوردي.

([25]) محمد مهدي الشبستري، هرمونتيك كتاب وسنت: 126، طهران، طرح نو، 1375هـ ش.

([26]) المصدر السابق.

([27]) بهاء الدين الخرّمشاهي، التفسير والتفاسير الجديدة: 68.

([28]) المصدر السابق.

([29]) علي أصغر الحلبي، تاريخ الثورات الدينيّة المعاصرة: 148.

([30]) نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن: 18ـ 19، بيروت، المركز الثقافي العربي، الطبعة الخامسة، عام2000م.

([31]) السيد أبو الفضل مير محمد الزرندي، تاريخ وعلوم القرآن: 45، قم، دفتر انتشارات إسلامى، الطبعة الثانية، 1369هـ ش.

([32]) من قبيل الآيتين 3و4 من سورة الزخرف، والآية 5 من سورة يوسف.

([33]) محمد تقي مصباح اليزدي، راهنما شناسى: 26 ـ 27، قم، مركز إدارة الحوزة العلمية، الطبعة الأولى، 1367هـ ش.

([34]) الميزان في تفسير القرآن 317:15.

([35]) للاطلاع أكثر حول سماويّة الألفاظ القرآنيّة راجع: فصلنامه پژوهشهاى قرآنى، العدد 21ـ22، مقالة بهذا العنوان لموسى الحسيني؛ وكذلك تاريخ وعلوم القرآن: 38 ـ 46.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً