أحدث المقالات

رؤية تحليلية

د. السيد أحمد مير الحسيني(*)

مقدمة ــــــ

الدنيا ونظامها وكل ما فيها مهد لتربية الانسان، فقد سخّرها الله سبحانه لهذا المخلوق من أجل رقيّه نحو الكمال، وقد قال القرآن الكريم في سورة لقمان: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} (لقمان: 20).

فالارتقاء نحو الكمال فعل اختياري، والوصول إليه إرادي لا جبري، ومن أجل أن تتحقّق هذه الإرادة يستلزم أن تكون هناك طرق متعدّدة كي يتسنّى لنا الاختيار بشكل إرادي، ومن الطبيعي أن يكون هناك تعارض وتضاد في ما بين هذه الطرق من رخاء وشدّة وصعود ونزول.

والإنسان الذي يواجه مثل هذه الحوادث يجب عليه أن ينتبه إلى موقعه؛ لكي يختار المَعْبَر الصحيح الآمن للوصول إلى جادّة الصواب والأمان، من خلال تقييمه الصحيح لذلك الوضع، ورغم مرارة التجربة يجب أن يستفيد الإنسان منها في طريق تكامله.

يعتبر البعض الرخاء في الحياة وسيلة للازدهار، بينما المشاكل والحوادث المرّة تحول دون ذلك، ويتصور أنّ المواجهة مع هذه الموانع يسدّ الطريق نحو حياة مناسبة سليمة.

لكن هذه النظرة غير صحيحة، ولا يجب أن نواجه مشاكلنا بهذه الآراء، لماذا؟

أولاً: لأنه من الممكن أن تكون تلك الغُصص وسيلة لارتقائنا وازدهارنا، فبدل التضجّر والتأوّه المانع من ارتقائنا نتّجه صوب قدراتنا التي أودعها الله فينا؛ لنستفيد منها في التخلّص من الغمّ والهمّ استفادةً تتناسب وحجم المشاكل والهموم. وهي بمثابة الشُّكر على تلك النِّعَم المعنوية من أجل الاستزادة منها، وبهذا اللحاظ سوف نحفظ سلامتنا، ولا نبتلي بالأضرار الروحية والمعنوية الناجمة عن تلك المشاكل، ولانيأس من الوصول إلى الحلول إذا ما واجَهَتْنا مثل هذه المصائب التي لا يمكن التغلب عليها بسهولة، وهذه الرؤية التفاؤلية للأفراد لها دورٌ بنّاءٌ كبيرٌ في التغلب على المصاعب، وسوف نشير إلى بعضها في ما بعد.

1ـ الارتقاء نحو الكمال ــــــ

الناس الذين يواجهون المشاكل بنظرة تشاؤمية لا يمكنهم الاستفادة من قدراتهم الذاتية، كما لا يمكنهم الاستفادة من هذه المشاكل لصالحهم باكتساب المهارات في مواجهتها، وحتى على فرض اكتسابهم المهارة فإنهم لايعيرون لها أهميّة تُذكر.

الهمّ والغمّ يقيّدان حركة الإنسان، فلا يمكنه الوصول إلى الازدهار والكمال المطلوب، ولا شك أن المتشائمين لايمكنهم الارتقاء بسهولة نحو الكمال المادي، فضلاً عن الكمال المعنوي؛ لأنهم ينظرون إلى المشاكل والعوارض التي تصيبهم نظرة تشاؤمية، تؤدي بهم إلى الغفلة عن الاستفادة من النِّعَم التي وهبها الله لهم والقدرات الكامنة فيهم، وبالنتيجة فإنهم محرومون من شُكر تلك النّعم شكراً يُناسب المقام. وعلاوة على ذلك فإنّ الحرمان من الكمالات المادّية يستلزم الحرمان من الكثير من الكمالات المعنوية أيضاً.

أما المتفائلون، الذين يتعاملون مع الحوادث والوقائع بشكل معقول، فإنّهم يسيرون نحو الكمالات الماديّة والمعنوية بشكل سريع، وبدون أن يَحولَ بينهم وبين حلّها شيء.

 

2ـ الابتعاد عن الاضطراب ـــــــ

من الواضح أنّ كل إنسان متشائم سوف يُبتلى بالخوف والاضطراب والوحشة من المصائب والمنغّصات، وهذا ما نشاهده في الكثير من الأفراد المبتلين بالمشاكل، ففي بعض الأحيان يستهينون بأنفسهم، بحيث يؤثّر ذلك حتى على حياتهم اليوميّة، فنراهم يعيشون دائماً في حزن واضطراب مستمر.

أما الأفراد المتفائلون فبدلاً من تضييع نفسه وتضييع الفُرص المؤاتية نراه ينصرف لإيجاد الحلول المناسبة لرفع تلك المشاكل والغُصص، ويحاول الاستفادة من الإمكانات الموجودة والكامنة لديه في المحافظة على هدوئه من أجل التوصّل لحلّها، فلايصل أبداً الى حدّ اليأس؛ لأن اليأس ممنوعٌ في الرؤية التوحيدية، فقد قال سبحانه {وَلا تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ} (يوسف: 87).

3ـ حفظ سلامة الروح والجسم ــــــ

للألم والحزن آثار سيئة في حياة الإنسان، ويعملان على تدمير الجسم والروح، ويعتبران علّة لكثير من الأمراض، ولو فرضنا أن هناك إنساناً يواجه المشاكل برؤية غير سليمة، وينظر للمشاكل نظرة تشاؤمية، فسوف يهيمن عليه الحزن والغصّة والألم، وعليه تحمّل هذه الأمراض الروحية والجسميّة، وسوف يفقد سلامة جسمه بالتدريج جرّاء ذلك. وقد نُقل عن الإمام الصادق ×: «وكان المسيح يقول: مَنْ كَثُرَ همّه سقم بَدَنه»([1]).

أمّا الذي ينظر إلى المسائل بنظرة تفاؤلية، ويستفيد من قدراته المكنونة، فسوف يكون ألَمُه وغصّتُه أقلَّ بكثير من ذلك الشخص المتشائم.

وبالنتيجة فإن سلامة الروح والجسم لا تتأثر ــ أو على أقلّ تقدير يكون تأثـّرها قليلاً ــ عند الشخص المتفائل.

4 ـ التطلّع نحو المستقبل ــــــ

تطغى على حياة الأفراد المتشائمين في نظرتهم للحياة ــ علاوة على المشاكل التي يتعرّضون لها ــ مأساة اليأس من المستقبل. ويعيش هؤلاء الأفراد ـ بقدر ما ينشغلون بهموم الحياة ومآسيها ـ في ظُلمةٍ لا نور فيها ولا أمل، وتطغى على كل حياتهم فلا تفارقهم أبداً. ومثل هذا الشخص تراه في انكسار دائم لا يفارقه؛ لأنه لا يرى في صعود الحياة ونزولها، وارتفاعاتها وانخفاضاتها، إلاّ الجانب السلبي وغير الملائم. في حين أنه يوجد إلى جانب كل معضلة مئات الوسائل للوصول إلى الحل الأمثل، فقد قال سبحانه: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (البقرة: 216).

أضف إلى ذلك أنّ المشاكل بحد ذاتها ربما تكون حاوية على بركاتٍ يمكن للإنسان المتفائل الاستفادة منها بشكل صحيح، ممّا يؤدي إلى سرعة حركته نحو الكمال. ومن خلال النظرة التفاؤلية العقلائية للإنسان نراه لا ييأس من المستقبل، بل إنه يحاول الاستفادة من كل الأمور ــ حتى الحوادث المؤلمة ــ في ترتيب وتنظيم وسرعة ازدهاره في التقدّم صوب الكمال.

5ـ عدم إلحاق الضرر بالآخرين ــــــ

لا يضفي التفاؤل في الحياة آثار الخير على الشخص المتفائل، ويدفع عنه الكثير من الخسائر، فحسب، بل يَصِلُ تأثير تلك الآثار إلى الآخرين أيضاً، وبالأخص القريبين منه؛ لأن المصائب والابتلاءات التي تصيب الشخص،تصيب المحيطين به لا محالة، فتصلهم بعض آثار تلك المصائب، وفي بعض الأحيان لاتقلّ مصيبتهم عن مصيبة الشخص نفسه، وهذه هي سجيّة الإنسان، وكما قال سعدي الشاعر الإيراني المعروف:

بني آدم أحدهم عضو للآخر
فإذا تألم أحد الأعضاء يوماً
فإذا لم تتألم على الآخرين
وإنهم مخلوقون من جوهر واحد
فإن بقية الأعضاء لا ترى لها استقرار
فلست من صنف أولئك البشر

وتتجلّى هذه الحالة وتكون أكثر وضوحاً عند الأشخاص المحيطين به كعائلته وأصدقائه القريبين منه، فمثلاً: الوالد الذي يشاهد ولده يتألم من شدة المرض سوف يتألم كثيراً لتلك المحنة وشدّة الألم.

أما الشخص المتفائل فإنه سيواجه المشاكل والآلام بطريقة وروحية أخرى، تُعينُه على أن تجري عليه تلك المأساة والمشاكل بخسائر أقل بكثير من المتشائم في الحياة، وحتى الخسائر الماديّة والمعنوية التي تصيبه وتؤثر على المحيطين به تكون أقل ممّا لو واجهها بتشاؤم، وهذا أمر واضح لا يحتاج إلى توضيح. والأهم من ذلك كله أن إدخال السرور على أولئك الأشخاص فيه من المرتبة العالية التي لا يعلمها إلاّ الله، فقد قال أمير المؤمين ×: «فوالذي وسِعَ سمعه الأصوات ما من أحد أودع قلباً سروراً إلاّ وخلَقَ الله له من ذلك السّرور لطفاً»([2]).

6ـ نيل الثواب الجزيل ــــــ

صحيح أنّ المصائب والمشاكل والآلام في الحياة تجرّ الإنسان نحو الضجر والسأم والملل، ولا يمكن تحمّل بعضها بسهولة، لكن حَسَب المنظار التوحيدي يمكن للإنسان أن يجني الثمار الطيبة من خلال الظروف الصعبة والآلام التي تَمرّ عليه، لكن الأهم من ذلك كلّه إحراز القيمة المعنوية والأخروية لأهل البلاء والمصائب، التي أعدّها الله لهم، وهي وسيلة لنيل الكمالات والدرجات الإلهية لأولئك الأشخاص، وكذلك وسيلة لنيل الثواب المناسب الذي وعد الله به أولئك الذين يقفون أمام تلك البلاءات بالثبات والسكينة، ويَنْسَون الآلام والغُصص والحوادث التي تقع عليهم. فقد جاء في الحديث عن الإمام الباقر ×: «الجنّة محفوفة بالمكاره والصّبر، فمن صَبَرَ على المكاره في الدنيا دَخَلَ الجنّة»([3]). وورد حديث عن عبد الله بن يعفور قال: شَكَوتُ إلى أبي عبد الله × ما ألقى من الأوجاع ــ وكان مِِسْقاماً ــ فقال لي: لو يعلم المؤمن ما له من الأجر في المصائب لَتَمَنّى انّه قُرِضَ بالمَقاريض»([4]).

7ـ تربية روح الشكر ــــــ

الشكر أحد النِّعَم الإلهية والفضائل الأخلاقية، فقد جاء التعبير عنها في القرآن بعبارة: {لَعَلَّكُم تَشْكُرُون}، ومع أن الله سبحانه أعطى لقمان نعمة الحكمة فقد أمَرَهُ بالشكر بعد ذلك، حيث جاء في الآية الكريمة: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (لقمان: 12).

فما معنى إعطاء الحكمة؟ وما المراد منها؟ ذُكر لذلك معانٍ عديدة، نُقل عن تفسير الأمثل «أنهم ذكروا للحكمة معاني كثيرة، مثل: معرفة أسرار عالم الوجود، والإحاطة والعلم بحقائق القرآن، والوصول إلى الحق من جهة القول والعمل، ومعرفة الله، إلاّ أن كل هذه المعاني يمكن جمعها في تعريف واحد، فالحكمة التي يتحدّث عنها القرآن، والتي آتاها الله لقمان، كانت مجموعة من المعرفة والعلم، والأخلاق الطاهرة والتَّقوى ونور الهداية»([5]).

وعلى كلّ حالٍ فإن مقابل هذه النّعمة يجب أن يكون هناك شكر مناسب لها، وقيل: إنّ هناك تناسب بين الحكمة والشكر، بل هناك تلازم في ما بينهما، فكلما وُجِدَت حكمة وقانون ومعرفةٌ وعلمٌ للأخلاق فإنّ الشكر والامتنان لصاحب النعمة سيكون موجوداً حتماً. وقد جاء هذا المعنى في ذيل الآية السادسة من سورة المائدة في قول الفاضل المقداد عن حكمة تشريع الوضوء والغُسل والتيمم: إنّ مجموع العبادات هو نوع من الشّكر([6])، يعني أن أساس العبادة ليست إلاّ شكراً لله سبحانه. وجاءت أحاديث المعصومين ^ في الكتب الروائية في فضيلة الشكر، ومن جُمْلَتِها ما جاء في سفينة البحار، ج4، ص477 وما بعدها.

ولأهمية الشكر ومردوده ترى أنّ الذي يقع في ورطة يشعر بمقدار النِّعم التي أعطاها الله سبحانه له، وكم كان له من الإمكانات، لكنه لم يشعر بها إلاّ بعد تعرّضه للخطر، فهناك يضطر لشكر الله سبحانه.

مثلاً: المُبتلى بنقص عضو من بدنه يعاني الآلام الكثيرة إثرَ ذلك النقص، لكنه يرى أنّ قلبه وعينه ويده و… كلها سالمة، فيشعر بالرضا والهدوء والطمأنينة، ويشكر الله على تلك النّعَم التي أعطاها له سبحانه، ويكثر شكره عندما يُشاهد أو يتذكّر المحرومين من تلك النِّّعم.

ومن خلال هذه النظرة يُساعِد الإنسان نفسه في الوصول إلى تَسكين الآلام عند الشدائد والأزمات، وكذلك يَصل إلى مرتبة الشاكرين في الفضل.

8 ـ رفع الغفلة ــــــ

عدم الموفقيّة، الانكسارات، تضييع الفُرص، موارد سببها الغفلة، فالغفلة مدمّرة وهادمة لحياة الإنسان. أمّا الغفلة عن المعنويات وطرق السلوك إلى الله سبحانه فضررها أعلى بمراتب من تلك الغفلة عن الحياة العاديّة. فقد وصف القرآن أولئك المعذِّبين في النار: {…لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف: 179) بالغفلة، فمفسدة الغفلة وما يترتب عليها من آثار جليّ وواضح في هذه الآية الشريفة.

 أما الموارد التي إذا غفلنا عنها فإنها تسبب لنا خسائر فادحة وكثيرة، ومنها؛ الغفلة عن القدرات والإمكانات الكامنة فينا، والأهم من ذلك كلّه الغفلة عن ذكر الله سبحانه، والغفلة عن الثواب والعقاب الإلهي في الآخرة، وكذلك الغفلة عن العدو، وبالأخص العدو الذي يقطع علينا طريق الوصول للكمال المعنوي، وأقصد به الشيطان الذي أقسم على ذلك أمام الله، فلا يليق بالإنسان العاقل أن يغفل عن هذا العدو، فقد قال الإمام الصادق ×: «إن كان الشيطان عدواً فالغفلة لماذا؟ وإن كان الموت حقّاً فالفرح لماذا؟»([7]). والظاهر أنّ المراد من الفرح هنا الإفراط الموجب للغفلة عن الحساب والآخرة.

فبعد الالتفات إلى مشكلة الغفلة في كل مورد من الموارد المذكورة سوف يكون لدينا مخرج لرفع كل تلك المشاكل أو مواجهتها، فالإنسان الذي يتعرض للحوادث والمصائب المؤلمة التي تهزّ أعماقه عليه أن يلتفت إلى قدراته وإمكاناته والنِّعَم التي منحها إيّاه سبحانه وتعالى من أجل التوصل إلى حل تلك المشاكل. فالشخص العاقل يتكئ على تلك البركات، ويستفيد منها عند وقوعه في المشاكل، ويلتفت إلى مانحها، وهو الله سبحانه. ومن خلال النظرة التفاؤلية في هذه المواقف يستطيع الإنسان الخلاص من قساوة ذلك القلب الصدئ والغفلة، وسوف يتبدل الطريق الوعر الصعب العسير إلى طريق سهل يسير؛ ببركة الخروج من حالة الغفلة.

9ـ الوقاية من الجزع وعدم الصبر ــــــ

المصائب والبلايا تترك آثاراً متفاوتة في الإنسان، حيث إنها تُظهر الإنسان على حقيقته في مواجهتها، فالبعض منهم تجري عليه المصائب رغم مرارتها لكنّك تراه كالجَبَل الأشم لا تُحرّكه العواصف، لا تسمع منه إلاّ الحمد والشكر، ولا ترى منه إلاّ الصبر والرضا والتسليم لله سبحانه بما يجري عليه، فلا يؤذي نفسه ولا الذين من حوله، وهذه الحالة ممدوحة في الروايات، فقد نُقل عن الإمام الصادق×: «قال الله عز وجل: عَبْدي المؤمن لا أصرفه في شيء إلاّ جعلته خيراً له، فليَرضَ بقضائي، وليَصبِر على بلائي، وليشكر نَعمائي، أكتُبهُ يا محمّد من الصدّيقين عندي»([8]).

فأوّل ظهورٍ لهذا الحديث جاء ليشخّص أنّ كل الأحداث التي تقع للإنسان المؤمن هي لمصلحته حتماً، وهي خيرٌ وبركة له، رغم صعوبتها ومرارتها، لذا فإن الأفراد الذين يحملون هذه النظرة المتفائلة يخلقون من المشاكل والابتلاءات حصناً ودرعاً متيناً لهم، ومن المستحيل عندهم أن يبدّلوا ذلك الصبر الباعث على كل تلك الخيرات المادية والمعنوية بالجزع وعدم التحمل الذي يبعث على ازدياد المصائب والمحن.

أما بعض الأفراد فإنهم بدل أن ينظروا للأمور بنظرة تفاؤل، ويستفيدوا من النِّعَم والإمكانات التي لديهم لحل مشاكلهم، تراهم يصنعون لهم مشاكل وهميّة جديدة؛ بسبب عدم تحمّلهم وصبرهم.

 

10ـ إحراز رضا الله ومحبّته ــــــ

النظرة التفاؤلية وانتخاب الطريق الصحيح حين وقوع المصائب والبلايا يبعث على رضا العبد وتسليمه لما قرّره الله سبحانه، وبالتالي سوف ينال رضا الباري وقربه منه.

فالعبد كلما كان مسلِّماً أكثر كُلّما كان أقرب إلى مولاه، وكلُّ مُريدٍ تزداد محبّته وعلاقته بمحبوبه كلما كان تسليمه لفعل وإرادة المحبوب أكثر، وإذا ما أحس أنّ هناك مورداً غير مُرضٍ يشعر أنّ حبيبه قد ارتكبه مَعَه فإنه يسلّم لذلك المورد برحابة صدر؛ لأن الحبيب قد أغدق عليه كل أسباب المحبّة والرضا، فيشعر أنّ ذلك المورد يصبّ في مصلحته وخيره.

ورد أن لقمان الحكيم كان عبداً لأحد الأشخاص، وكان مولاه منشغلاً بأكل الخيار، وعندما وصل إلى القسم المُر من الخيار أعطاه إلى لقمان، فأكله من دون أن ينبس ببنت شفة، فقال له مولاه: ألم تشعر بمرارته؟ لماذا أكلته ولم تتكلم؟ فأجابه لقمان: طالما أطعَمْتَني أكلاً لذيذاً، فلا يضرّ إذا أطعمتَني يوماً طعاماً خلاف ذوقي، فإذا تأفَّفتُ لهذا المورد فقط يكون خلاف الإنصاف. وهكذا كان لقمان يتعامل مع مولاه ومحبوبه، وهذا نوع من ديمومة الشكر والتسليم للمولى، وهو دليل على ثقته وإيمانه بحكْمة المحبوب. وفي المقابل فإن المحبوب إذا رأى عبده بهذه الدرجة من التسليم يرضى عنه أيضاً.

فأولياء الله تراهم في البلايا لا ينشدون إلاّ رضا الله سبحانه، ولا يفكّر أحدهم إلاّ بالتسليم أمام تلك البلايا والمآزق، فإبراهيم الخليل× لم يفكّر وهو بين ألسنة النيران إلاّ بإرادة الله. وقيل: إن هؤلاء لا يفرّقون بين العُسر واليُسر في التّسليم إلى الله، فقد قال أمير المؤمنين في خطبة المتّقين: «وَرَدَت أنفسهم منهم في البلاء كالتي وَرَدَت في الرخاء»([9]).

فإنّهم ينظرون للمصائب والبلايا كما ينظرون للرخاء والراحة والدعة، ولا فرق عندهم ما دامت من المحبوب، فلا المصائب تقعدهم وتفقدهم الأمل، ولا الرخاء والقناعة تغريهم وتجعلهم يغفلون عن ربّهم.

النتيجة ــــــ

 الإنسان موجودٌ عاقلٌ ومفكّرٌ، ويمكنه أن يستعمل عقله وعلمه في ترجيح المعقولات على العواطف. فإذا عاش الإنسان وفْق عقله وعلْمه فإنّه سوف يرمي المشكلات والآلام خلف ظهره، فلا تبقى أمامه أية عوائق تَحولُ دون تقدّمه، بل يمكنه أن يخلق من تلك الآلام والصعوبات جسراً للعبور نحو ازدهار ونمو الاستعدادات والإمكانات الموجودة لديه، وهكذا يستفيد الإنسان العاقل من وجود المصائب والمشاكل والآلام في شَحذ الهِمَم، حيث يُسخّر إمكاناته وقدراته الكامنة لصالحه، ولا يغفل عن وجودها فيَخْسَر.

وبدلاً من أن تتأثّر قواه واستعداداته بالمشاكل والمصائب، فيركع أمامها، تراه يستخدمها كوسيلة لتقوية مقاومته أمام تلك المصائب، ويستفيد من قدراته وإمكاناته في تخطّي تلك المصائب والمحن، ومن جانب آخر تراه يستفيد من تلك المشاكل في إيجاد آلاف الطرق والوسائل التي يمكن أخذها بالحسبان في التصدي لتلك المأساة والمشاكل.

ومن خلال ذلك يحفظ الإنسان المتفائل نفسه من أن يكون غَرَضاً وهدفاً لتلك المشاكل إذا ما انحنى لها. ويرى المشكلات باعتبارها عِبْرة ووسيلة لرفع الغفلة عنه، وعند هجومها عليه يستفيد منها في الإحساس بقدراته والشعور بالنِّعَم وحلاوتها، ويجعلها أرضية مناسبة لشكر صاحب النِّعَم. ومن خلال إدراكه لهذه المسألة يمكنه السيطرة على روح التسلّط والتمرّد والطغيان في نفسه، وبهذه النظرة المستقبلية سوف لا يصيبه اليأس من الحياة.

فالإنسان لا يستسلم أمامَ المَصائب والمشاكل، ولا يسلّم نفسه للاضطراب والألم، بحيث يؤثر ذلك على سلامة جسمه وروحه المرتبطة بالخالق، ويقوم بتقوية إيمانه وارتباطه بالله سبحانه؛ لإثبات عجزه وسائر المخلوقات أمام قدرة الله سبحانه، وبالالتجاء للإمكانات والقدرات والنِّعَم يكون قد أدّى شُكر بارئه من جميع النواحي، وأمَّنَ جميع كمالاته المعنوية.

ونتيجة لهذه الرؤية العقلائية المتفائلة سوف لا يُبتلى بالخسائر الناجمة عن الغفلة والانحراف عن الجادة الإلهية، ولا يُبتلى باتّباع أعداء هذا المسير الصالح ـ الشيطان ـ،كما أنه لا يجزع ولا ينفذ صبره في المشكلات، بل انه بالحلم والصبر والتحمّل يذلّل تلك المصائب ويتجاوزها،فالرضا والتسليم قبال الباري سبحانه يهيئ الأرضية الصالحة للقرب والمحبّة الإلهيّة، كما يؤمّن كرامته ومقامه الإنساني السامق.

الهوامش

(*) أستاذ مساعد في جامعة طهران (پرديس قم).

([1]) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: 192

([2]) محمد الدشتي، ترجمة نهج البلاغة: 486.

([3]) النراقي، جامع السعادات: 291.

([4]) الكليني، الكافي: 304.

([5]) مكارم الشيرازي ومعاونوه، الأمثل في تفسير القرآن 17: 36.

([6]) انظر: الفاضل المقداد، كنـز العرفان: 28.

([7]) القمي، سفينة البحار 6: 662.

([8])الكليني، الكافي 3: 101.

([9]) نهج البلاغة، خطبة همّام.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً