أحدث المقالات

ـ القسم الأوّل ـ

د. أبو القاسم فنائي(*)

ترجمة: وسيم حيدر

المقدمة

«[العاقل] هو الذي يضع الشيء مواضعه»([1]). (الإمام عليّ×).

كان كتابنا (الدين في ميزان الأخلاق)([2]) يبحث عن النسبة القائمة بين الدين والأخلاق في «مقام الثبوت»، وكان يثبت أن «الإنسانية» مقدمة على «الإسلامية». أما كتابنا الراهن (أخلاق المعرفة الدينية) فيبحث عن هذه النسبة في «مقام الإثبات»، ويثبت أن «معرفة الإنسان» مقدمة على «معرفة الإسلام»، وأن الفهم الصحيح للنصوص الدينية رهنٌ بدراسة «الوقائع المتفرقة والحالات الخاصة»([3])؛ للوصول إلى المعرفة الدينية من خلال معيار العقلانية والأخلاق.

في كتابنا (الدين في ميزان الأخلاق) عمدنا إلى إجراء مقارنة بين رؤيتين متناقضتين في باب «أخلاق التشريع» أو «آداب التقنين»، وقمنا بدراستهما، ونقدهما. وأما هنا (في أخلاق المعرفة الدينية) فسوف نعمل على إجراء مقارنة بين رؤيتين متناقضتين في باب «أخلاق الاجتهاد» أو «آداب معرفة القانون».

إن النتيجة العامة التي خرجنا منها في كتابنا (الدين في ميزان الأخلاق) هي أن الأخلاق في «مقام التشريع» تكون مستقلّةً عن الدين، ومقدّمة عليه؛ وإن إرادة إله الفقه (الله بوصفه مشرعاً) تابعةٌ لإرادة أو معرفة إله الأخلاق (الشاهد المثالي)، دون العكس؛ وإن الأحكام الشرعية تابعةٌ للقِيَم والواجبات والمحظورات الأخلاقية، وليس العكس، بمعنى أن أوامر إله الفقه في «مقام الثبوت»([4]) لا تناقض القِيَم الأخلاقية، وإن الواجبات والمحرمات الشرعية لا ترتبط بالقِيَم (الحسنات والسيئات) والأحكام (الضرورات والمحظورات) ارتباطاً استنتاجياً ـ وبذلك يكون هناك حائلٌ «منطقي» بين الأخلاق والفقه ـ، إلاّ أنها لا يمكن أن تكون غير منسجمة مع هذه القِيَم والأحكام.

نتعلَّم من أخلاق التشريع أو أدب التقنين أن «شريعة الوحي» في مقام الثبوت ذات إطار أخلاقي، وأن الأحكام الشرعية لا تنتهك الحدود المرسومة من قبل «شريعة العقل». إن الأخلاق من الناحية «الوجودية» و«الميتافيزيقية» مقدَّمة على الدين، بمعنى أنه يستحيل أن تشتمل الشريعة المقدّسة في مقام الثبوت على أحكام تناقض الأخلاق، وأن الله لا يستطيع شرعاً أن يجيز أو يبيح عملاً قبيحاً من الناحية الأخلاقية، أو أن يحرِّم أو يبيح عملاً صحيحاً وواجباً من الناحية الأخلاقية، وإنْ كان من حقِّه أخلاقياً أن يوجب أو يحرِّم ما كان في حدّ ذاته مباحاً من الناحية الأخلاقية([5]). كما لا يمكن لله أن يتجاهل أو ينقض الحقوق الطبيعية للإنسان والتكاليف المنبثقة عن هذه الحقوق، أو أن يمنح عبداً من عباده حقّ نقض هذه الحقوق؛ إذ في نقض حقوق الإنسان نقضاً للعدل. ولا فرق في ذلك بين أن يكون الناقض هو الله أو غيره. من الناحية الإيمانية يعتبر تقدُّم الأخلاق على الدين بمعنى تقدُّم حكم «إله الأخلاق» (أي الله الحكيم والعادل والرحيم) على حكم «إله الفقه» (أي الله الشارع والمالك).

سوف نتعرض إلى «أخلاق المعرفة الدينية» أو «أخلاق البحث والتفكير الفقهي» أو «أخلاق الاجتهاد». في الفصل الثاني من كتاب (الدين في ميزان الأخلاق) قمنا بتعريف «الدين» و«الأخلاق». وسوف نستعمل هاتين المفردتين طبقاً لهذا التعريف. إن مرادنا من الدين ـ في أغلب الموارد ـ هو المعنى الخاص من هذه الكلمة، أي «الشريعة»، وليس الدين بمعناه العام، الذي تشكِّل الشريعة جزءاً منه. وعليه فإنّ مرادنا من «أخلاق المعرفة الدينية» في الغالب هو «أخلاق معرفة الشريعة» أو «أخلاق الاجتهاد»، رغم أنه لا يبدو أن هناك فرقاً كبيراً بين أخلاق المعرفة الدينية بالمعنى الخاص وبين القواعد الأخلاقية لمعرفة الدين بالمعنى العام. وعلى أيّ حالٍ ربما أمكن لنا ـ من خلال إجراء بعض أعمال الجرح والتعديل ـ تسرية القواعد الأخلاقية الحاكمة على معرفة الشريعة إلى معرفة الدين بالمعنى العام للكلمة. وعلى هذا الأساس فإننا لا نحصر معرفة الدين بمعرفة الشريعة أو الفقه فقط، وإنْ كان بحثنا بشكلٍ رئيس يقوم على الأسس والقواعد الأخلاقية لمعرفة الشريعة أو المباني الأخلاقية للفقه.

ونريد من أخلاق المعرفة الدينية أو أخلاق البحث والتفكير الفقهي أو أخلاق الاجتهاد سلسلةً من القِيَم والأحكام «المعرفية» التي يجب أن تعمل على توجيه وهداية الاجتهاد أو البحث والتفكير الفقهي. أرى أن التبعية للقِيَم والأحكام المعرفية في مقام كسب المعرفة وتوجيه الاعتقاد من الوظائف الأخلاقية الملقاة على عاتقنا نحن البشر. وعليه فإن معرفة الإيمان (أي أخلاق الإيمان)([6]) هي نوعٌ من الأخلاق، بمعنى أنه يوجد بإزاء كل حكم معرفي حكمٌ أخلاقي يعكس مسؤوليتنا الأخلاقية في مقام الحصول على المعرفة وتقبُّل الإيمان، وهداية النشاط الإرادي والاختياري لأذهاننا([7]).

إن التحقيق في باب أخلاق الاجتهاد أو أخلاق البحث والتفكير الفقهي يشكِّل موضوع «معرفة الفقه»، وإن المعرفة الفقهية من أهمّ وأنفع فصول «فلسفة الفقه». وعليه فإننا سوف نتحدَّث عن معرفة الفقه، وسوف نبين الفرق بين «العقلانية الفقهية» وبين «العقلانية العرفية» أو «العقلانية المثالية».

وبعبارةٍ أخرى: إننا نبحث في الروايات المعرفية لدى الرؤيتين المتضاربتين بشأن العلاقة بين الدين والأخلاق. وإن الموضوع الرئيس لبحثنا هنا يتعلَّق بالارتباط «المنطقي» و«المعرفي» بين الدين والأخلاق. وإن التحقيق بشأن العلاقة «الوجودية» و«المفهومية» و«النفسية» و«العقلانية» للدين والأخلاق ـ كما بحثناه في كتاب (الدين في ميزان الأخلاق) ـ يشكِّل أرضيةً واضحة وثابتة لدراسة العلاقة المنطقية والمعرفية لهاتين المقولتين([8]).

إن العلاقة بين الدين والأخلاق ـ وخاصّة العلاقة بين الفقه والأخلاق ـ تُعَدّ من مسائل «فلسفة الفقه». ونعني بفلسفة الفقه ذلك العلم الذي يقوم ـ مثل «فلسفة الحقوق» ـ بمناقشة المباني والفرضيات الفقهية بـ «أسلوب فلسفي». وكما سوف نلاحظ فإن العلاقة بين الدين والأخلاق واحدةٌ من أهمّ الفرضيات الفقهية. وبطبيعة الحال فإن جزءاً من مباني علم الفقه يطرح في مختلف العلوم، من قبيل: أصول الفقه، وعلم الكلام، وعلم الرجال، وعلم الدراية. وإن العلاقة بين الدين والأخلاق من بين الموضوعات التي تمّ البحث بشأنها في علم الكلام، وفي علم أصول الفقه أيضاً، ولكنْ ما دامت هذه الأبحاث تتقدَّم بـ «الأسلوب الفلسفي» فإننا نتعاطى مع فلسفة الفقه، سواء أطلقنا عليها اسم الفلسفة أم أطلقنا عليها اسماً آخر([9]).

أذهب بقوّةٍ إلى أن النزاع بين الأصالة والتجديد في البلدان النامية في عمقه نزاعٌ بين نظامين أخلاقيين متنافسين، وقد تجلّى هذا النزاع في العالم الإسلامي على شكل نزاع بين «الفقه التقليدي» و«الأخلاق العلمانية» أو «الأخلاق الفردانية»([10]). إن البُعْد الأخلاقي يمثِّل أحد الأبعاد والأركان الهامة في الحداثة، وفي الحقيقة فإن ظهور وازدهار الحداثة إنما هو مَدينٌ للتحوُّل الحاصل في أخلاق الناس ومواقفهم في ما يتعلَّق بطبيعة وماهية الأخلاق، وكذلك مصدر المعايير والقِيَم الأخلاقية، أو بعبارةٍ أدقّ: مصدر المعايير والقِيَم بالمعنى الأعم للكلمة([11]). وعلى أيّ حال فإن المؤسسات المدنية القائمة في المجتمعات الحديثة، من قبيل: البرلمان [السلطة التشريعية]، والسلطة القضائية، ووسائل الإعلام الحُرّ، والدولة الديمقراطية والمسؤولة، وما إلى ذلك، تقوم بأجمعها على الأخلاق الحديثة وما فوق الدينية، وتتشكَّل وتُدار على أسس وقواعد هذه الأخلاق. وإن أداءها المنشود والمطلوب رهنٌ بمراعاة قواعد هذه الأخلاق.

إن الشرخ القائم بين الأصالة والتجديد في الغالب هو شرخٌ أخلاقي. وربما أمكن القول: إن التحدّي القائم بين الأصالة والتجديد، أو الاختلاف بين عالم الأصالة وعالم التجديد، يمكن بيانه في ضوء الاختلاف القائم بينهما في ما يتعلَّق بمسألة كيفية الجمع بين «حقّ الله» و«حقوق الإنسان». فلو صحّ مثل هذا البيان سيكون السبب الرئيس في عدم نجاح المؤسسات المدنية الحديثة في المجتمعات التقليدية عائداً إلى الغفلة عن هذه الحقيقة الهامّة، وهي أن هذه المؤسسات منبثقة عن صلب نظام أخلاقي خاص، وقائمة على فرضيات أخلاقية عميقة. ولذلك فإن جدوائية وفاعلية هذه المؤسسات إنما تستمرّ ما دامت تُدار من خلال أصول وقواعد هذه الأخلاق. وإن أخذ واقتباس الصورة الظاهرية لهذه المؤسسات، وتجاهل أو تشويه جوهرها وباطنها المتمثِّل بالأخلاق الحاكمة عليها، أو استبدال هذه الأخلاق بالأخلاق التقليدية، وإدارة هذه المؤسَّسات على أساس القِيَم والمعايير التقليدية، إنما ينشأ في الحقيقة عن نوعٍ من السذاجة والسطحية، وبذلك سيكون سعياً عَبَثياً ومحكوماً عليه بالفشل.

أرى أن الأخلاق الحديثة واحدةٌ من «ذاتيّات» الحداثة و«عناصرها الحتمية»، وأنها تشكِّل الجوهر الرئيس للمؤسسات المدنية الحديثة. وإن إلغاء أو تشويه هذه الأخلاق، أو إحلال أخلاق ما قبل الحداثة محلّها، سوف يحوِّل هذه المؤسسات إلى جسدٍ خالٍ من الروح والهوية، وبذلك فإن وجودها لن يساعد على حلّ أيّ مشكلة من مشاكل المجتمعات التقليدية، بل سيكون منشأ للكثير من المشاكل. وعليه بدلاً من الخوض في ثمار الحداثة يجب الخوض في جذورها. إن شجرة الحداثة تستمد غذاءها من الأخلاق الحديثة، وإن هذه الأخلاق جزءٌ من العقلانية الحديثة؛ وعليه فإن غرس هذه الشجرة في تربة الأصالة القائمة على العقلانية والأخلاق التقليدية سوف يؤدّي إلى عدم إثمارها، أو إلى الحصول منها على ثمار سامّة. وإن التوفيق بين الأصالة والتجديد، وملء الفراغ القائم بينهما، رهنٌ بحلّ النزاع المحتدم بين هذين النظامين الأخلاقيين أو هذين النوعين من العقلانية العملية. والسؤال الماثل أمامنا هو: كيف يمكن ـ بل ويجب ـ الجمع بين «حقّ الله» و«حقوق الإنسان»؟

إن الإجابة التي يقدِّمها القائلون بالأصالة الدينية ـ أي أولئك الذين يقولون بتقدُّم الدين على الأخلاق، أو الذين يحكِّمون الدين بدل الأخلاق ـ عن هذا السؤال كما يلي: إن حقّ الله «مطلقٌ»، وإن حقوق الإنسان تتفرَّع عن الإرادة التشريعية لله، بمعنى أنها تنتزع من أوامره ونواهيه، وهذا يعني أن هذه الحقوق إنما هي حقوقٌ «اعتبارية» ويتمّ التواضع عليها، وليست حقوقاً «طبيعية». إن الإرادة التشريعية لإله الفقه هي التي تحدِّد إطار ومحتوى ونوع هذه الحقوق، وكذلك رقعة إطلاقها وتقييدها. فمثلاً: طبقاً لما يذهب إليه القائلون بهذه النظرية فإن «حقّ الملكية» إنما ينتزع من حكم إله الفقه بـ «حرمة الغَصْب»، وعليه قبل صدور هذا الحكم، وبغضّ النظر عنه، لا وجود لحقٍّ اسمه الملكية.

ومن التداعيات المترتِّبة على هذا الرأي:

أوّلاً: لا بُدَّ لمعرفة حقوق الإنسان وبيان حدود هذه الحقوق من الرجوع إلى الفقه؛ لأن هذه الحقوق وحدودها من فروع ومسائل الفقه، وليست من الفرضيات الفقهية ومسائل فلسفة الفقه. وعليه يمكن الحكم بشأن هذه المسألة من خلال توظيف منهج الاستنباط السائد في الفقه، والاستناد إلى الأدلّة النقلية (الآيات والروايات)، وإصدار الفتوى بهذا الشأن.

ثانياً: لا يمكن نقد أو رفض ما يفهمه الفقهاء من النصوص الدينية المبينة للأحكام الشرعية من خلال التعويل على حقوق الإنسان. وعند التعارض بين حقوق الإنسان وحكمٍ من أحكام الشرع لا بُدَّ من تقديم الحكم الشرعي على حقّ الإنسان. وبعبارةٍ أخرى: إن من الآثار المترتِّبة على هذه الرؤية هو القول بوجود فرقٍ بين «حقوق الإنسان الإسلامية» و«حقوق الإنسان الغربية»، وهذا تعبيرٌ آخر عن القول بـ (النسبية الثقافية في ما يتعلَّق بحقوق الإنسان)([12]).

أما الإجابة التي يمكن لنا أن نقدِّمها عن هذا السؤال، بناء على نظرية تقدُّم الأخلاق على الدين، فهي أن حقّ الله وحقوق الإنسان كلَيْهما من الحقوق الطبيعية (الأخلاقية)([13])، والحقوق الطبيعية لا تنبثق عن الإرادة التشريعية لله، وليست تابعةً له، وإنما إرادة الله هي التابعة لها، ولذلك فإن مشروعية واعتبار هذه الحقوق لا تتوقف على إمضائها من قبل الشارع. وعليه لا يمكن تقييد حقوق الإنسان من خلال الأحكام الشرعية. يمكن لله أن لا يخلق الإنسان ابتداءً، ولكنْ لا يمكنه أن يخلقه ثم ينقض حقوقه، أو أن يمنح الآخرين حقَّ نقض حقوقه. إن هذه الحقوق قائمة وموجودة قبل الجعل وصدور الأحكام الشرعية، وإن وجودها لا يتوقَّف على الإرادة التشريعية لإله الفقه. ومضافاً إلى ذلك لا يمكن نقض حقٍّ طبيعي، مثل: حقوق الإنسان، بالاستناد إلى حقٍّ طبيعي آخر، مثل: حق الله.

إن بعض التداعيات المعرفية الهامّة لهذه النظرية عبارةٌ عن:

أوّلاً: إن معرفة الحقوق الطبيعية ـ سواء أكان حقّ الله أو حقّ الإنسان ـ هو شأن من شؤون العقل، دون الوحي والنقل.

ثانياً: إن حقوق الإنسان وربطها ونسبتها إلى حقّ الله إحدى مسائل «فلسفة الفقه»، وليست واحدةً من مسائل «الفقه». وإن أسلوب التحقيق في هذه المسألة هو ذاته أسلوب التحقيق في الفلسفة. وعليه لا يمكن الحكم على هذه المسألة من خلال توظيف منهج الاستنباط الفقهي.

ثالثاً: إن استنباط الفقهاء من النصوص المبينة للأحكام الشرعية إنما يكون معقولاً ومبرّراً إذا تناغم مع حقوق الإنسان؛ لأن هذه الحقوق تحدّد إطار الأحكام الشرعية في مقام الثبوت (عالم التشريع). وعلى هذا الأساس ينبغي لهذه الحقوق في مقام الإثبات أن تعمل على شكل معايير يمكن من خلالها كشف الاستنباط الباطل وغير الصحيح من النصوص الشرعية، والعمل على إبطاله. وللتعبير عن مثل هذا التأثير نستعمل عبارة: «إمكانية البطلان الأخلاقي للفتاوى الفقهية».

وبعبارةٍ أخرى: إذا كانت حقوق الإنسان جزءاً من الإطار الأخلاقي للشريعة (أخلاق التشريع) فإن جزءاً من الإطار الأخلاقي سيكون استنباطاً أخلاقياً أيضاً (أخلاق الاجتهاد).

إن الفقهاء المسلمين في مقام البحث بشأن المسائل الجديدة (المستحدثة) إنما يركِّزون على ثمار ومستوردات الحداثة، ويغفلون عن التبعات السيئة لهذه الرؤية بالمرّة، في حين أن الذي يحتاج إلى الاجتهاد في الدرجة الأولى، ويستحقّ البحث الأصولي والكلامي ـ الفلسفي، والذي يتقدَّم فيه الاجتهاد على الاجتهاد الفقهي، هو العقلانية الحديثة والأخلاق المستحدثة. من وجهة نظرنا إن أهمّ مسألة يجب حسمها هي مسألة العلاقة بين الفقه والأخلاق، أو العلاقة بين حقّ الله وحقوق الإنسان. لا شَكَّ في أن الموقف الذي يتَّخذه الفقيه في مجال هذه العلاقة سيترك تأثيراً عميقاً وملموساً في فقاهته، وفي الفتاوى التي يصدرها في ثمار ومحاصيل الحداثة، وليس ذلك إلاّ القبض والبسط العقلاني والأخلاقي للفقه. لا يمكن للفقهاء أن يكوِّنوا أو يبلوروا فهماً صحيحاً للثمار والمحاصيل الحداثوية مع تجاهل العقلانية الحديثة والأخلاق الحداثوية. ولذلك نجد الفتاوى الفقهية المطروحة في هذا الباب تفتقر إلى الإتقان والاعتبار المعرفي اللازم. ويبدو أن هذا هو السبب الرئيس في عدم جدوائية الإدارة الفقهية في أوطاننا؛ فإن هذه الإدارة تأخذ مقتضياتها من فقهٍ قائم على فهمٍ ناقص أو خاطئ لموضوع الحكم الشرعي، وتبعاً لذلك سيقدِّم استنباطاً خاطئاً للحكم الشرعي والفقهي لذلك الموضوع. إن حقّ الله وحقوق الإنسان، وحدود هذه الحقوق، وكذلك ربطها ونسبتها إلى بعضها، يُعَدّ إحدى «فرضيات» الفقه، وليس واحداً من «مسائل» الفقه. وإن موضوع بحث هذه الموضوعات هو فلسفة الفقه، وإن أسلوب التحقيق بشأنها هو أسلوب فلسفي أيضاً. وإن الفقهاء من خلال افتراض هذه الفرضيات المعيارية التي تتخطى الفقه يحصلون على إمكانية استنباط الأحكام الشرعية من فلسفة الفقه.

يمكن لنا أن نعتبر كتابَيْ (الدين في ميزان الأخلاق) و(أخلاق المعرفة الدينية) مشروعاً تمهيدياً في سياق حلّ هذا النزاع. وإذا كنتُ قد أصبتُ نجاحاً في طرح صورة المسألة، مع بيان موقعها، وأهمِّيتها، وطريقة حلِّها، سوف أعتبر مشروعي قد تكلَّل بالنجاح.

وكما ذكرتُ في كتاب (الدين في ميزان الأخلاق) فإن جوهر الأخلاق الدينية عبارةٌ عن هذا الادّعاء القائل: إن الأخلاق بنحوٍ من الأنحاء تابعةٌ للدين، إلاّ أن لهذا الادّعاء المجمل الكثير من التقريرات والقراءات، وتقام لصالحه الكثير من الأدلة. وبعبارةٍ أخرى: يمكن لنا أن نفترض الكثير من الروابط المتنوِّعة بين الدين والأخلاق. وإن الذين يدّعون قيام الأخلاق على الدين إنما يأخذون بنظر الاعتبار جميع أو أحد هذه الأنواع. وهذه الروابط والعلاقات عبارةٌ عن:

1ـ العلاقة اللغوية أو التعريفية.

2ـ العلاقة الوجودية أو الميتافيزيقية أو المعيارية.

3ـ العلاقة المنطقية والمعرفية.

4ـ العلاقة النفسية.

5ـ العلاقة العقلانية.

لقد كان كتاب (الدين في ميزان الأخلاق) يبحث في العلاقة اللغوية، والعلاقة الوجودية، والعلاقة النفسية، والعلاقة العقلانية، بين الدين والأخلاق. وهنا فإن كتاب (أخلاق المعرفة الدينية) يبحث في العلاقة المنطقية والمعرفية لهذين المفهومين.

إن تبعية الأخلاق المنطقية والمعرفية للدين عبارةٌ عن أحد الادّعاءين التاليين:

1ـ توقُّف المعرفة أو تبرير القِيَم الأخلاقية على قبول المعتقدات الكلامية ـ الإلهية.

2ـ توقُّف معرفة أو توجيه القِيَم الأخلاقية على الوحي والنقل، وتَبَعاً لذلك يكون من شؤون الفقه.

عندما كان المعتزلة يقولون: إن الحسن والقبح «عقلي» كانوا يريدون بذلك أن معرفة وتفسير الأحكام والموضوعات الأخلاقية لا يتوقَّف على «الوحي» و«النقل». ومن ناحيةٍ أخرى عندما كان الأشاعرة يقولون: إن الحسن والقبح «شرعي» كانوا يريدون بذلك أن معرفة وتفسير هذه الأحكام والموضوعات إنما يمكن من خلال الرجوع إلى الوحي والنقل.

يذهب بعضُ أنصار الأخلاق الدينية أو المدافعون عن دينية الأخلاق إلى الادعاء بأن الأخلاق من الناحية المنطقية والمعرفية مرتبطة بالدين، في حين أن أنصار الأخلاق العلمانية أو المؤمنون بعلمانية الأخلاق يدّعون أن الأخلاق من هذه الناحية مستقلّةٌ عن الدين، أو مقدَّمةٌ عليه. ونحن نسعى إلى دراسة ونقد ادّعاء هاتين الجماعتين في ما يرتبط بالعلاقة المنطقية والمعرفية بين الدين والأخلاق، وما يترتَّب على هاتين النظريتين من التبعات النظرية.

ويمكن طرح السؤال عن العلاقة المنطقية والمعرفية بين الدين والأخلاق على شكل السؤال عن العلاقة بين العقل والوحي، أو السؤال بشأن «أخلاق الاجتهاد» أو «أدب معرفة القانون» أو «أخلاق البحث والتفكير الفقهي» أيضاً. ويمكن تلخيص الآثار والانعكاسات المترتِّبة على الأخلاق العلمانية أو ما فوق الدينية والأخلاق الدينية في مجال أدبيات المقام على النحو التالي:

ـ الأخلاق العلمانية: الفتاوى الفقهية قابلةٌ للإبطال من الناحية الأخلاقية (يجب تقييم الفتاوى الفقهية بميزان الأخلاق).

ـ الأخلاق الدينية: القِيَم الأخلاقية قابلةٌ للإبطال من الناحية الفقهية (يجب قياس القِيَم الأخلاقية بميزان الفقه).

إن الرؤية الأولى تؤدّي إلى «الفقه في إطار الأخلاق»، والرؤية الثانية تؤدي إلى «الأخلاق في إطار الفقه». وكما شاهدنا في كتاب (الدين في ميزان الأخلاق) فإن الأخلاق العلمانية في مجال التشريع تقول: إن الإرادة التشريعية للإله المشرِّع، والأحكام الشرعية الناشئة عنها إنْ وجدت، مقيَّدةٌ بالضوابط والقِيَم الأخلاقية وتابعة لها، وإن هذه القِيَم تحدِّد إطار الشريعة في مقام الثبوت (عالم التشريع). ولذلك يجب على الفقهاء في مقام استنباط الأحكام الشرعية من النصوص الدينية أن يقوموا بتقييم إدراكاتهم وأفهامهم لهذه النصوص من خلال المعايير الأخلاقية، في حين أن الأخلاق الدينية إما أن تنفي تقيُّد الشريعة بالقِيَم الأخلاقية في مقام الثبوت، وتدّعي أن الشريعة في هذا المقام فاقدةٌ للإطار الأخلاقي، أو أنها تدّعي استحالة معرفة هذا الإطار من خلال العقل العرفي والعلماني (العقل المستقلّ عن الشرع والنقل).

تقول العلمانية الأخلاقية في مقام معرفة القانون: إن الفتاوى الفقهية التي تنقض الموازين الأخلاقية فاقدةٌ للاعتبار، وإن مجرّد مراعاة القِيَم الأخلاقية من قبل الله في مقام تشريع الأحكام الشرعية لا يستوجب أن يكون علم الفقه ـ الذي هو عبارةٌ عن «فهم» أو «إدراك» و«استنباط» الفقهاء من نصوص ومصادر الأحكام الشرعية ـ أيضاً من تلقاء نفسه وبنحوٍ «مسبق» منسجماً ومتناغماً مع القِيَم الأخلاقية. ولذلك فإن أدبيات معرفة القانون تقتضي بأن يقوم الفقهاء بتقييم فتاواهم على نحوٍ «لاحق» بميزان الأخلاق والقِيَم الأخلاقية. وإن مثل هذا الأمر يُعَدّ واحداً من الوظائف الأخلاقية الملقاة على عاتق الفقهاء والمجتهدين.

وبعبارةٍ أخرى: إن العلمانية الأخلاقية تقول: إن الفقهاء في مقام فهم واستنباط الأحكام الشرعية قد يخطئون، وإن من بين الأخطاء المحتملة والشائعة في هذا المقام تجاهل أن يكون الحكم المستنبط منسجماً مع الضوابط الأخلاقة أم لا؟ وعلى هذا الأساس فإن الفقهاء مسؤولون ومكلَّفون من الناحية المعرفية والأخلاقية بأن يقيّموا فتاواهم في ضوء المعايير الأخلاقية. وبطبيعة الحال فإن التقييم والنقد الأخلاقي للفتاوى الفقهية حقٌّ عامّ ومكفول للجميع، وإنه في الحقيقة نقدٌ لفهم الفقهاء للشريعة، وليس نقداً لذات الشريعة. وكما تقدَّم فإن مثل هذه الرؤية في مجال العلاقة بين الدين والأخلاق تؤدّي إلى «الفقه في إطار الأخلاق».

أما نظرية الأخلاق الدينية في مجال معرفة القانون فإنها تقول: إما أن تكون الإرادة وحكم الإله الشارع مقدَّمة على القِيَم الأخلاقية، أو لا يكون هناك طريق مستقلّ عن الوحي والنقل لمعرفة القِيَم الأخلاقية على نحو القطع واليقين. وعليه فإن الفقه هو البديل عن علم الأخلاق، بمعنى أن الإلزامات الفقهية هي ذاتها الإلزامات الأخلاقية، وإن الفقهاء غير ملزمين بتقييم فتاواهم بشكلٍ لاحق من خلال قِيَم الأخلاق العلمانية، بمعنى أن النقد الأخلاقي للفتاوى الفقهية غير ممكن على المستوى العملي، أو أنه ـ بعبارةٍ أخرى ـ (سالبة بانتفاء الموضوع). في إطار هذه النظرية لا تسقط الفتاوى غير المنسجمة مع قِيَم الأخلاق العلمانية عن الاعتبار؛ لأن هذه القِيَم تستند إلى الظنون العقلية أو التجريبية، ومن ناحية العقلانية الفقهية القائمة تعتبر الظنون العقلية والتجريبية فاقدة للاعتبار والحجّية، وفي مقام استنباط الحكم الشرعي لا يجب الاعتناء بهذه الظنون. بل الأمر على العكس من ذلك تماماً، بمعنى أن اعتبار قِيَم الأخلاق العلمانية رهنٌ بانسجامها مع الفتاوى الفقهية، ولو تعارضت هذه القِيَم مع الفتاوى الفقهية فإنها ستسقط عن الاعتبار. وكما تقدم فإن هذه الرؤية في ما يرتبط بالعلاقة بين الدين والأخلاق تؤدّي إلى «الأخلاق في إطار الفقه».

إن جوهر العلمانية في مجال العلاقة بين الدين والأخلاق هو أن «شريعة العقل» التي يحصل عليها الفرد من طريق «الحجّة الباطنية» (العقل أو الوجدان الأخلاقي) مقدَّمة على «شريعة النقل» التي يحصل عليها الفرد من طريق «الأنبياء الظاهريين» (الوحي)([14]). من وجهة نظر العلمانية الأخلاقية فإن «معرفة الإنسان» متقدِّمة على «معرفة الله» من الناحية المعرفية؛ وذلك لتقدُّم «الإنسانية» على «الديانة» و«التديُّن»؛ فإن الإنسان قبل فهمه واعتناقه للدين واتّباع أنظمته، ولمجرّد كونه إنساناً وعاقلاً، واجدٌ ومحكوم للقِيَم والواجبات التي هي من اللوازم والمقتضيات المعيارية لهويته الإنسانية والعقلانية والأخلاقية، وهي بمعنىً من المعاني منبثقة عن إنسانيته. إن «معرفة الدين»   ـ الذي هو عبارة عن فهم وتفسير الإنسان للتعاليم الدينية ـ و«التديُّن» و«السلوك الديني»  ـ الذي يعني العمل على أساس فهم وتفسير التعاليم الدينية ـ يخضعان للنقد العقلاني والأخلاقي، ويقبلان التقييم والتأييد أو الإبطال من الناحية العقلية والأخلاقية.

إن العلمانية الأخلاقية هي الرؤية القائلة: إن الأخلاق مقولة «تفوُّق الدين»، وإن القِيَم الأخلاقية؛ بحكم كونها تفوق الدين، تُعَدّ جزءاً من «منطق» فهم الدين، وجزءاً من «أخلاق التفكير والبحث الديني». وعلى هذا الأساس فإن فهم علماء الدين للنصوص الدينية إنما يكون معتبراً وقابلاً للدفاع والقبول إذا كان منسجماً مع القِيَم والمعايير الأخلاقية وما فوق الدينية والفقهية. لا يحقّ لأيّ مؤمن أن يلتزم أو يعمل بحكم غير مبرَّر من الناحية الأخلاقية، ويعتبره حكماً دينياً. فلا المفسِّر والمجتهد يحقّ له أن ينسب هذه التعاليم والأحكام إلى الدين، ولا المقلِّد يحقّ له اتّباع مثل هذه التفاسير والتعاليم. ولو أن شخصاً نسب التعاليم والأحكام المناقضة للعقل والمنافية للأخلاق (المخالفة للإنسانية) إلى الله فإنه في الحقيقة سيكون عاملاً بما يخالف مقتضى الإيمان والديانة، وإن ما يقوم به سيكون نوعاً من الابتداع في الدين. ولا أحد يعذر في اتّباع هذه التعاليم والأحكام. وإن «شريعة النقل» إنما تكون موجّهة ومبرّرة وملزمة إذا كانت منسجمة مع «شريعة العقل»، وإن قراءة وفهم الإنسان لـ «شريعة النقل» إذا لم تنسجم مع «شريعة العقل» فإنها ستسقط عن الاعتبار، دون العكس([15]).

ومن ناحيةٍ أخرى يذهب القائلون بنظرية دينية الأخلاق إلى الاعتقاد بأن الأخلاق مقولة «دينية»، وليست «ما فوق دينية»، وإن الواجبات والمحظورات الأخلاقية؛ بحكم كونها دينية، لا يمكن اعتبارها جزءاً من منطق فهم الدين أو ركناً من أركان أخلاق الاجتهاد أو أخلاق البحث الديني. إن أنصار هذه النظرية يذهبون في واقع الأمر إلى الادعاء بأن الأخلاق الدينية (الفقه) غير الأخلاق العلمانية، وإن أفهام الفقهاء للنصوص الدينية عند التعارض مع قِيَم الأخلاق العلمانية لا تسقط عن الاعتبار، ولا يُسمَح لأيّ مؤمنٍ أن يتجاهل حكماً فقهياً لمجرّد عدم انسجامه مع قِيَم الأخلاق العلمانية، أو يتخلّى عنه، بمعنى أن على المفسِّرين والمجتهدين في مقام معرفة الشريعة الحقّة أن ينسبوا هذه الأحكام إلى الله، كما يجب على المقلِّدين في مقام العمل بالشريعة أن يمتثلوا لهذه الأحكام.

طبقاً لهذه الرؤية تكون نسبة الأحكام غير المنسجمة مع قِيَم الأخلاق العلمانية إلى الله من مقتضيات التديُّن والإيمان. وإن تجاهل هذه الأحكام؛ بسبب عدم انسجامها مع قِيَم أخلاق العلمانية، يُعَدّ نوعاً من الابتداع في الدين، وهو ينبع من ضعف الإيمان والشرك والنفاق واتّباع الهوى. يذهب أتباع هذا الرأي إلى الاعتقاد بأن المؤمن في اتباع الأحكام الدينية التي لا تنسجم مع الأخلاق العلمانية معذورٌ، بل ومأجورٌ أيضاً، بمعنى أن «شريعة النقل» مبرّرة وملزمة حتّى إذا لم تنسجم مع «شريعة العقل». وإن فهم الفقهاء لـ «شريعة النقل»؛ بسبب عدم انسجامها مع العقل العلماني، لا يجعلها تسقط عن الاعتبار؛ وذلك لأن العقل العلماني والعرفي ناقصٌ ومقرون بالهوى، ولذلك يكون ظنياً. وكما هو واضحٌ فإن الرأي الأول يؤدّي إلى «الدين في إطار العقل»، أو بتعبيرٍ أفضل: إلى «النقل في إطار العقل»، والرأي الثاني يؤدّي إلى «العقل في إطار الدين»، أو بعبارةٍ أدقّ: إلى «العقل في إطار النقل».

يمكن اعتبار أخلاق المعرفة الدينية دراسة في مجال العقلانية الفقهية أو المباني العقلانية للفقه أيضاً؛ إذ تتم في هذا الكتاب المقارنة بين رؤيتين متعارضتين في مجال المباني العقلانية للفقه، والعمل على دراستها، ونقدها. إن علمانية الأخلاق تعني وجود قِيَم ومعايير تنبثق بنحوٍ من الأنحاء عن «العقل»، ويتمّ اعتبارها من قِبَل العقل التشريعي أو الكشف عنها من قِبَل العقلاء (من حيث هم عقلاء، لا من حيث هم متديِّنون أو ملحدون). ونحن نطلق على هذه المجموعة من القِيَم والمعايير عنوان «شريعة العقل». تقول العلمانية الأخلاقية: إن «شريعة العقل» (الأخلاق) مقدّمة على «شريعة النقل» (الفقه)([16]). وعلى هذا الأساس تكون العقلانية في الفقه ومعقولية الفتاوى الفقهية رهناً بانسجام هذه الفتاوى مع المعايير الأخلاقية.

ومن جهةٍ أخرى فإن دينية الأخلاق تعني أن هذه القِيَم والمعايير العقلانية وما فوق الدينية إما أن لا تكون موجودة؛ أو إذا كانت موجودة لا يمكن كشفها من خلال العقل المستقلّ عن الوحي والنقل، وإن العقل ليس لديه الكثير ممّا يقوله في مجال الأخلاق؛ أو أن الطريق الوحيد للكشف عن القِيَم الأخلاقية هو الرجوع إلى الوحي والنقل (من خلال استخدام الأسلوب السائد في الفقه التقليدي). وعلى هذا الأساس فإن عقلانية الفقه تتوقّف على انسجام الفتاوى الفقهية مع القِيَم الأخلاقية القائمة على العقل والعقلانية العلمانية.

وبعبارةٍ أخرى: يمكن اعتبار بحثنا دراسةً في الركن الخارج عن المعرفة الدينية. إن النزعة التقليدية الشائعة في باب محيطنا تقوم ـ عمداً أو سهواً ـ على حصر المعرفة الدينية بالكتاب والسنّة، دون أن يكون هناك في البين أيّ دورٍ لـ «المعرِّف»([17]) والفرضيات ما فوق الدينية المقبولة عنده. بَيْدَ أن الحقّ هو أن هذه الرؤية في حدّ ذاتها لا تعدو أن تكون فرضية ما فوق دينية مسبقة، وإن فهم وتفسير النصوص الدينية يقوم على ركنين داخليين (وهما: الكتاب؛ والسنّة)، وركنٍ خارجي (وهو الأسس والافتراضات ما فوق الدينية).

باعتقادي إن المعايير العقلانية تمثِّل أهمّ أجزاء الركن الخارجي من المعرفة الدينية؛ لأن هذه المعايير تبين لنا الارتباط القائم بين المعرفة الدينية وسائر فروع المعرفة، وكيف يمكن لنا أن نوظف المعارف غير الدينية في الوصول إلى معرفة الدين؟ وبعبارةٍ أخرى: إن المعرفة الدينية لا تستند إلى مجرّد الركن الداخلي فقط. ومن دون ضمّ الركن الخارجي من المعرفة الدينية إلى الركن الداخلي ستكون الشريعة «صامتةً» إلى الأبد([18]). وإن هذا الركن الخارجي من المعرفة الدينية هو الذي يعمل على فتح قفل «الشريعة الصامتة»، ويحوِّلها إلى «شريعة ناطقة».

إن اعتبار الشريعة صامتة لا يعني أن الشريعة ليس لديها ما تقوله، وأن النصوص الدينية خالية من المعنى، وإنما نعني بذلك مجرّد وجود الركن الخارجي للمعرفة الدينية، ومدخليّة هذا الركن في فهم وتفسير النصوص الدينية. إن للشريعة «بالقوّة» ما تقوله، بَيْدَ أن الذي خاطبه الدين والذي يفسِّر النصوص الدينية يجب أن يكونا «عاقلين»؛ كي يصل النصّ في ما يتعلَّق بخلق المعنى إلى مرحلة «الفعلية». وهذا هو المعنى الدقيق والعميق لفطرية الدين. وإن الذين ينكرون «صمت الشريعة» بهذا المعنى إنما يدَّعون في الحقيقة «صمت المخاطب» أو «عدم الاعتراف بوجود هوية للمخاطب»، بمعنى أنهم ينكرون وجود وأهمّية الركن الخارجي من المعرفة الدينية. إن فهم الدين والمعرفة الدينية إنما تتبلور من خلال التعاطي والحوار بين «الخطاب» و«المخاطب»، وإن لكلٍّ منهما حظٌّ وسهم لا يمكن تجاهله في صياغة مفهوم النصّ، وتَبَعاً لذلك في فهم المعنى والوصول إلى المعرفة الدينية.

أما أولئك الذين ينتقدون هذه النظرية فإنهم يصوِّرون ـ عمداً أو سَهْواً ـ أن المخاطب إذا كان له دَوْرٌ في البَيْن لن يكون للنصّ الديني أدنى دَوْر في خلق المعنى، ومن هنا يستنتجون أن هذا الادّعاء يستلزم التشكيك في مجال المعرفة الدينية.

والمثير للاستغراب أنه في ما يتعلَّق بالفهم التقليدي للمعرفة الدينية يتمّ الاعتراف رسمياً بسهم المخاطب في تكوين معنى النصّ وفهمه بشكلٍ غير مباشر، من دون الالتفات إلى تبعات ولوازم هذا الاعتراف. فمثلاً: يقرّ جميع الفقهاء بأن «العقل شرط في التكليف»، وهذا يعني أن «التكليف المفهوم هو الذي يشمل العقلاء فقط، أما الذين لا يمتلكون عقلاً فهم غير مكلَّفين». ولكنْ إذا تساءلنا: «لماذا كان العقل شرطاً في التكليف»؟ و«لماذا كان تحريم العمل أو وجوبه على الفاقدين للعقل قبيحاً»؟ سيكون الجواب الصحيح عن ذلك: «لأن الذين يمتلكون العقل هم وحدهم الذين يستطيعون أن يفهموا معنى التكليف»، ويكون لديهم دليلٌ يبرِّر لهم ذلك التكليف، ويدفعهم إلى إطاعته([19]). وعلى هذا الأساس فإن المعنى الصحيح والعميق لهذا الكلام القائل: «إن العقل شرط في التكليف» يعني أن المخاطب بالنصّ الديني هو «العاقل»، وإن للعقل دوراً في بلورة معنى النصّ وفهمه وإدراكه؛ لأن مخاطبة الفاقد للعقل لغوٌ وعبث. إن الشخص الفاقد للعقل لا يمتلك دليلاً للتحقيق بشأن صحة أو عدم صحة المدَّعيات الدينية، واتباع تعاليم الدين. وعليه فإن الله الحكيم لن يكون له خطابٌ يشمل العاقل وغير العاقل على السواء، بل إن خطابه سوف يتوجه إلى العاقل فقط. وإن العاقل الذي يخاطب العقلاء مضطرٌّ إلى أن يأخذ التركيبة العقلية (المعايير العقلانية) ومحتوياتهم العقلية بنظر الاعتبار؛ أو إذا كان يرى أن إدراكهم خاطئٌ وجب عليه أن يزيل هذا الخطأ من خلال بيان الأدلة المقنعة. إلا أن هذا الأمر يستلزم افتراض المعايير العقلانية المستقلّة عن الدين والخطاب الديني.

إن عقل كلّ شخصٍ لا يعدو أن يكون مجموعة من المعايير والواجبات والمحظورات العقلانية التي يحصل عليها من طريق الشهود([20])، بالإضافة إلى الذخائر العلمية والإدراكات التي يحصل عليها من سائر القنوات المعرفية. إن العقل ليس مجرد وعاء أجوف حتّى لا يكون له أيّ دور في المحتوى الذي يستقبله. وحتّى لو سلمنا بأن العقل مجرّد وعاء يمكن لنا أن ندّعي أيضاً بأن تركيبة هذا الوعاء ـ الذي هو عبارة عن مجموعة من المعايير العقلانية ـ هو الذي يحدِّد شكل وإطار ذلك، ويعيِّن محتواه، وإن المحتوى الذي لا يتّسع له هذا الوعاء لن يكون له مكان فيه. وعليه لا بُدَّ في الحدّ الأدنى من إضافة إطار العقل (أي المعايير العقلانية) إلى النصّ الديني؛ كي يتمكن هذا النصّ من النطق والإفصاح عن مراده. وبطبيعة الحال عندما ينطق النصّ فإنه سيعبِّر عن نفسه، وليس عن أهواء وأمزجة المخاطبين، وإنما سيكون ما ينطق به مطابقاً لعقله([21]).

وعليه يمكن للشريعة أن تنطق بخلاف الأهواء والميول النفسية للناس، وأن تحكم على هذا الأساس (بل إن هذا هو مقتضى فلسفتها الوجودية)، ولكنها لا تستطيع أن تنطق بما يخالف عقولهم (وهذا ما تقتضيه فلسفتها الوجودية أيضاً)، وإذا نطقت بما يخالف العقول وجب على الناس عدم القبول بما تنطق به. إن النصّ، سواء أكان دينياً أم غير ديني، لا يحمل أيّ معنى بالنسبة إلى غير العقلاء، وفي الحقيقة إذا لم نفترض وجود مخاطَبٍ عاقل فإن إطلاق النصّ عليه ينطوي على الكثير من التسامح في التعبير. وعليه فإن إنكار دور المخاطَب والعقل في بلورة المعنى والخطاب سيفضي إلى التشكيك أو امتناع واستحالة المعرفة الدينية.

نسعى هنا إلى بيان دور «المعرِّف» و«المدرك» وعنصر «التعريف» في فهم الدين، وأن يفتح ـ من خلال نقد المباني العقلانية للمعرفة الدينية الذي يشكِّل جانباً أساسياً من الركن الخارجي للمعرفة الدينية ـ طريقاً إلى التحوُّل وإصلاح المعرفة الدينية.

كما يمكن اعتبار أخلاق المعرفة الدينية رسالة في الدفاع عن الحجية والاعتبار المعرفي للظنون العقلية والتجريبية أيضاً. في اعتقادي إن أهم نقصٍ في أخلاق الاجتهاد كما هي، أو العقلانية الفقهية القائمة، وإن أهم تفاوت بين هذه الأخلاق والعقلانية، وبين أخلاق الاجتهاد كما ينبغي أن تكون والعقلانية العرفية الحاكمة على العالم الحديث، يتلخَّص في أن أخلاق الاجتهاد القائم (العقلانية الفقهية) ترى أن الظنون العقلية والتجريبية ـ سواء في دائرة الفقه أو في دائرة الأخلاق ـ فاقدة للقيمة، وساقطة عن الاعتبار، ومن هنا يتمّ في إطار هذه الأخلاق والعقلانية إلغاء «العقل الشهودي» (العقل الذي يتغذّى من الشهود) و«العقل التجربي» (العقل الذي يتغذّى من التجربة)، ولا يكون له دورٌ في مقابل «العقل المسموع» (العقل الذي يتغذى على النقل).

ولكنْ إذا تم إسقاط الظنون العقلية والتجريبية عن الاعتبار، وتعرضت للتشكيك من الناحية المعرفية، فإن الفقه في مثل هذه الحالة سيحلّ محل سائر العلوم المعيارية، من قبيل: الأخلاق، والحقوق، وفلسفة الأخلاق، وفلسفة السياسة والإدارة؛ لأن جميع هذه العلوم تستند إلى الظنون العقلية والتجربة (وهي حقيقة غير محمودة تعرضت لها الثقافة والحضارة الإسلامية). وسوف يفضي ذلك إلى قطع الارتباط بين المعارف البشرية والمعرفة الفقهية، أو إنها سوف تتنزَّل إلى أدنى مستوياتها؛ لأن أكثر المعارف البشرية هي حصيلة جمع وتفريق الظنون. ومضافاً إلى ذلك فإن المذاق والتجربة الفقهية ستفقد دورها الحيوي في استنباط الأحكام الشرعية، والأهمّ من جميع ذلك أن الحقوق الطبيعية للبشر سوف تتعرّض للانتهاك والنقض والإنكار بسهولةٍ؛ لأن هذه الحقوق تستند إلى الظنون العقلية والتجريبية، وإن الأدلة المتوفّرة لصالح هذه الحقوق لا تفيد القطع واليقين.

إن كتابنا (أخلاق المعرفة الدينية) يشتمل على سبعة فصول:

الفصل الأول: يبحث مسألة في غاية الأهمية، وهي مسألة «إحلال الفقه محل الأخلاق». حيث نسعى في هذا الفصل إلى بيان الأسباب التي أدّت إلى تعطيل العقل العملي (وتبعاً لذلك شطر من العقل النظري) في الثقافة والحضارة الإسلامية، حتى أضحى الفقه بديلاً عن «الأخلاق الاجتماعية». يشتمل هذا الفصل على دراسة نقدية تفصيلية للأدلة الكثيرة التي أقيمت لصالح الأشعرية الحديثة أو ما بعد الحديثة، وضرورة حلول الفقه محلّ الأخلاق، أو الموجودة في عمق ضمير المتشرّعين، حيث يتم نفي تبعية الأخلاق للدين على المستوى المعرفي والمنطقي، ويتم إثبات تبعية الدين للأخلاق من الناحية المنطقية والمعرفية. إن تبعية الأخلاق للدين من الناحية المنطقية والمعرفية عبارة عن أحد الادّعائين التاليين:

1ـ إن المعرفة أو التبرير المعرفي للعقائد الأخلاقية يقوم على فرضيات كلامية وإلهية.

2ـ إن الفقه بديلٌ للأخلاق.

سوف نتناول في هذا الفصل هذه الادعاءات، والأدلة التي أقيمت لصالحها بالنقد، وسوف نثبت بطلانها. ومن ثم سوف يتمّ التأكيد على دور أخلاق التفكير وأخلاق السلوك في معرفة الدين ومعرفة الشريعة.

الفصل الثاني: يتحدّث عن «الفقه وتحديات العصر الحديث». نتعرض في هذا الفصل إلى دراسة ونقد أساليب التحقيق في الفقه التقليدي؛ بسبب تجاهلها لـ «معرفة الموضوع»، وخاصة بسبب غفلتها عن الاختلاف الجوهري بين العالم الحديث والعالم القديم. كما يتمّ نقد ودراسة الحلول التقليدية في مواجهة تحديات العالم الحديث. ومن ثم نستعرض فهرستاً بأهمّ خصائص العالم الحديث من حيث تأثيرها في معرفة الأحكام الشرعية. إن هذه الخصائص هي عبارة عن: «العلمانية»، و«حلول الإرادة محلّ الحق»، و«الأخلاق المعاصرة»، و«نماذج الحوار المعاصر». ومن خلال شرح وبسط هذه الاختلافات يتمّ الادعاء بأن إخفاق الفقه التقليدي وعدم جدوائية الاجتهاد المصطلح في حلّ المسائل والمعضلات الراهنة إنما تنشأ عن تجاهل هذه الخصائص والاختلافات.

الفصل الثالث: يقارن بين «العقلانية الحديثة» و«العقلانية التقليدية»، ويصل إلى نتيجة مفادها أن عصرنة التفكير الديني رهنٌ بعصرنة العقلانية والأخلاقية التي تغذي الفكر الديني.

الفصل الرابع: يقارن بين «العقلانية الفقهية» و«العقلانية العرفية»، ويبرز الفرق والمسافة بين هذين النوعين من العقلانية. وتأتي أهمّية المقارنة بين هذين النوعين من العقلانية من أن علم الفقه ـ طبقاً لادّعاء الفقهاء من ذوي الاتجاه الأصولي ـ يقوم على تلك المباني العقلانية التي تجري على العقلاء بما هم عقلاء. إلاّ أن مباحث هذا الفصل تثبت أن الأمر ليس كذلك، وأن بين العقلانية الفقهية السائدة في الحوزات العلمية وبين العقلانية العُرْفية (ما فوق الدينية) السائدة بَوْناً شاسعاً، وإن الاختلافات بينهما فوق أن تنكر.

أما الفصول الثلاثة الأخيرة فإنها تتناول بالنقد والدراسة النظريات الحديثة التي يتمّ طرحها من أجل جدوائية الفقه التقليدي في مقام الإجابة عن الأسئلة المعيارية في العصر الراهن. إن هذه النظريات بأجمعها مستقاةٌ من آراء المفكِّرين المسلمين المعاصرين، وخاصة من خلال قراءة الدكتور عبد الكريم سروش لهذه النظرية، واقتباسها، ومن ثم شرحها وبسطها.

وعلى هذا الشكل فإن الفصل الخامس يتحدث عن «القبض والبسط النظري للفقه». نسعى في هذا الفصل في البداية إلى بيان جوهر دعوى نظرية القبض والبسط النظري للشريعة، مع شرح تداعيات ولوازم هذه النظرية في فهم الدين بالمعنى الخاص للكلمة (الشريعة)، ومن ثم نقوم بنقد هذه النظرية. إن مباحث هذا الفصل ناظرة بشكلٍ رئيس إلى آراء الدكتور سروش في مجال «أنواع المعرفة»، و«شأن وآلية فلسفة العلم»، و«المقترحات المعرفية»، و«نية المعرفة والتوجيه». ونسعى من خلال ذلك إلى بيان بعض نقاط الضعف والإبهام في هذه النظرية.

وأما عنوان الفصل السادس فهو: «بسط التجربة الفقهية النبوية»، حيث سنعمد في هذا الفصل إلى شرح نظرية الدكتور سروش في مجال بسط التجربة النبوية، ومن ثم ننتقل إلى بيان لوازم هذه النظرية في خصوص فهم الشريعة، ونقوم بشرحها وبسطها بشكلٍ كاف. يقدّم هذا الفصل من حيث المجموع قراءةً أخرى عن هذه النظرية، تختلف اختلافاً جذرياً عن قراءة الدكتور سروش.

الفصل السابع: يبحث في التفكيك بين «الذاتيات» و«العرضيات» في الشريعة، أو التفكيك بين «الظرف» و«المظروف»، أو التفكيك بين «الدين التاريخي» و«الدين ما فوق التاريخي»، ويحتجّ لضرورة الترجمة الثقافية للنصوص الدينية. وفي هذا الفصل يتم نقد أحد أهمّ مباني الفقه التقليدي في باب ماهية الاجتهاد، وطريقة تفسير النصوص الدينية. وبعد ذلك نقترح بدلاً منه أسلوباً جديداً لتفسير هذه النصوص. نعتقد أن الأسلوب التقليدي في تفسير النصوص الدينية إنما يناسب فهم ذلك الجانب من النصوص الدينية التي تبين الدين «المطلق» و«ما فوق التاريخي». إلاّ أن هذا الأسلوب لا يناسب فهم ذلك الجانب من النصوص الدينية التي تبين الدين «التاريخي» و«المطبق» على الأوضاع والشرائط الخاصة أبداً؛ وذلك لأنه يؤدّي إلى فهمٍ خاطئ وغير صحيح للنصوص الدينية. وعليه لا بُدَّ لفهم هذا الجانب من النصوص الدينية بشكلٍ صحيح من توظيف أسلوبٍ ومنهج آخر. وهذا المنهج والأسلوب عبارةٌ عن الترجمة الثقافية. طبقاً لهذا الأسلوب يجب على المفسِّرين أن يجتهدوا قبل كلّ شيءٍ من أجل إخراج المضمون والمحتوى الديني لهذا الجانب من النصوص الدينية من ظرفه، الذي هو عبارة عن ثقافة عصر النزول، وصبّه بعد ذلك في ظرف الثقافة المعاصرة. ومضافاً إلى ذلك فإن هذا الفصل يقدّم اثني عشر معياراً مختلفاً للتفكيك بين الذاتيات والعرضيات أو التفكيك بين الظرف والمظروف في مجال الفقه.

الفصل الأول: إحلال الفقه محلّ الأخلاق

«لا يغشّ العقل مَنْ استنصحه»([22]). (الإمام عليّ×).

1ـ المدخل

نبحث هنا بشكلٍ رئيس في نقد تلك الرواية عن دينية الأخلاق، والتي تجعل من «الفقه» بديلاً عن «الأخلاق الاجتماعية». إن الأسئلة المحورية في هذا الفصل عبارةٌ عن:

1ـ هل المعرفة تعمل على توجيه القضايا الأخلاقية من الناحية المنطقية والمعرفية القائمة على المعرفة، أو توجيه (بعض) القضايا الإلهية أو القضايا الفقهية؟

2ـ هل المعرفة تعمل على توجيه (بعض) القضايا الإلهية أو القضايا الفقهية من الناحية المنطقية والمعرفية القائمة على المعرفة أو توجيه القضايا الأخلاقية؟

3ـ هل المعرفة تعمل على توجيه القضايا الإلهية والفقهية للمعرفة أو هي تعمل على توجيه القضايا الأخلاقية من الناحية المنطقية والمعرفية، المستقلّة عن بعضها؟

إن الفرضية التي أثبتناها في كتاب (الدين في ميزان الأخلاق) بشأن أخلاق التشريع هي تقدُّم حكم إله الأخلاق على حكم إله الفقه، وتقدم القِيَم الأخلاقية على إرادة الشارع وأمره ونهيه المولوي. فلو اقتنعنا بهذه النتيجة وجب علينا قَهْراً الاعتراف بتبعية «علم الفقه» المنطقية والمعرفية إلى «علم الأخلاق»، والإقرار بأن حجية واعتبار الفتاوى الفقهية رهنٌ بعدم مخالفتها للقِيَم الأخلاقية، بمعنى أن هذه الفرضية المذكورة في باب «ميتافيزيقا الفقه» أو «أخلاق التشريع» تشتمل على نتيجة هامة وحاسمة في باب «معرفة الفقه» أو «أخلاق البحث الفقهي»، وتلك النتيجة هي: «إمكان إبطال الفتاوى الفقهية من الناحية الأخلاقية».

إن الاقتناع بهذه الفرضية يؤدّي بقِيَم ومعايير أخلاق السلوك أن تكتسب منزلةً ومكانة معرفية في مجال الفقه، ويتمّ الاعتراف بها رسمياً بوصفها جزءاً من قِيَم ومعايير أخلاق الفكر والبحث الفقهي، أي بوصفها ركناً من أركان منهج الاستنباط في الفقه.

إلاّ أن هناك الكثير من الذين يقتنعون بهذه الفرضية، دون الالتزام بهذه النتيجة، فهؤلاء يقولون: بسبب وجود المعضلات والمشاكل المعرفية الماثلة أمام «إدراك» و«معرفة» القِيَم الأخلاقية الموجودة لا يغدو من الممكن اكتشاف وتوجيه القِيَم الأخلاقية من طريق العقل المستقلّ عن النقل والشرع. وعليه يكون إبطال ونقد الفتاوى الفقهية من الناحية الأخلاقية سالبةً بانتفاء الموضوع. إن هذه الرؤية ـ التي تأخذ بنظر الاعتبار نوعاً من التشكيك المعرفي في مجال الأخلاق ـ تؤمن بأن الحُسْن والقُبْح الأخلاقي أوصاف «ذاتية» و«عينية»، وأن القِيَم الأخلاقية مستقلّة عن إرادة الإله الشارع، بل ومتقدّمة عليها، ولكنّها تؤكِّد على قصور ونقصان العقل والقوى الإدراكية لدى الإنسان في مقام الإدراك والمعرفة أو توجيه القِيَم والمعايير الأخلاقية، وبالتالي فإنها تؤدّي إلى «إحلال علم الفقه محلّ علم الأخلاق»([23]).

وبعبارةٍ أخرى: إن هذه النظرية تمزج بين رؤية المعتزلة في باب «علم وجود الأخلاق»([24]) وبين رؤية الأشاعرة في باب «علم معرفة الأخلاق»([25])، ولكنْ حيث إن نتيجة هذا المزج تنتهي لصالح الأشعرية على المستوى العملي يمكن لنا تسمية أتباع هذه الرؤية بالأشاعرة الحداثويين أو ما بعد الحداثويين.

إن إحلال الفقه محلّ الأخلاق قائمٌ على إحلال «إله الفقه» محلّ «إله الأخلاق»، إلاّ أن هذا الإحلال يمكن أن يكون «ميتافيزيقياً»([26])؛ ويمكن أن يكون «معرفياً»([27]). أن الأشاعرة التقليديين كانوا يحلون إله الفقه في «ميتافيزيقا الأخلاق» محلّ إله الأخلاق، في حين أن الأشاعرة الحداثويين أو ما بعد الحداثويين يحلّون ذلك الإله في «علم معرفة الأخلاق» محلّ هذا الإله؛ إذ كانوا يقولون: «إن الإرادة الجزافية لإله الفقه مصدر للقِيَم والإلزامات الأخلاقية»، إلاّ أن هؤلاء يقولون: «إن كلام إله الفقه مصدر المعرفة والتوجيه الأخلاقي». ولمعرفة القِيَم والإلزامات الأخلاقية يجب الرجوع إلى النصوص المبينة لحكم إله الفقه، ولا يمكن الرجوع إلى إله الأخلاق ومعرفة حكمه من طريق العقل العرفي والعلماني أو العقل المستقلّ عن الشرع، إلاّ في ما يتعلَّق ببعض القِيَم الأخلاقية العامة المبينة لحقّ الطاعة الثابت لله، والذي يدعونا إلى طاعة إله الفقه، والتي تُعِدّ لنا الفرضيات اللازمة التي تبرّر التوجيه العقلاني والأخلاقي لإطاعة إله الفقه.

إن الأشاعرة التقليديين لم يعترفوا بوجود إله الأخلاق، بمعنى أنهم كانوا يقولون: «إن إله الأخلاق هو ذاته إله الفقه»؛ أما الأشاعرة الحداثويين أو ما بعد الحداثويين فيعترفون بوجود إله الأخلاق، وفي الوقت نفسه يدّعون أننا لا نستطيع الوصول إلى حكم هذا الإله بشكلٍ مباشر ومن طريق العقل المستقلّ عن الشرع والنقل. في إطار هذه النظرية يكون الطريق الممكن الوحيد للوصول إلى معرفة حكم إله الأخلاق من خلال الرجوع إلى إله الفقه، وإن حكم إله الفقه لا يمكن التعرُّف عليه إلاّ من طريق الوحي والنقل، عبر توظيف المنهج السائد في الفقه التقليدي.

2ـ تبعية الأخلاق المنطقية والمعرفية للدين

إن تبعية الأخلاق المنطقية والمعرفية للدين تُعَدّ من بعض الزوايا من أهمّ أنواع تبعية الأخلاق للدين. ويمكن تبويب هذه التبعية من خلال صيغتين مختلفتين، وهما: «التبعية المعرفية»؛ و«التبعية التوجيهية».

إن تبعية الأخلاق المعرفية للدين هي باختصارٍ إحدى الرؤيتين التاليتين:

1ـ إن معرفة القضايا والأحكام الأخلاقية رهنٌ بمعرفة القضايا الإلهية (علم الأخلاق القائم على علم الكلام، وبعض فرضيات علم الأخلاق المنتزعة من علم الكلام).

2ـ إن معرفة القضايا والأحكام الأخلاقية رهنٌ بمعرفة الأحكام الفقهية، أي إنها رهنٌ بمعرفة الإرادة التشريعية والأمر والنهي المولوي للإله الشارع (علم الأخلاق القائم على علم الفقه، أو بعبارةٍ أدقّ: علم الفقه بديل عن علم الأخلاق).

إن تبعية الأخلاق المعرفية للدين ـ باختصارٍ ـ هي إحدى الرؤيتين التاليتين:

1ـ إن المتبنَّيات الأخلاقية ترى أن اعتبارها رهنٌ بالعقائد أو الفرضيات الإلهية.

2ـ إن اعتبار المتبنيات الأخلاقية رهنٌ بانسجامها أو عدم مخالفتها للأحكام الشرعية والفتاوى الفقهية.

إن تبعية الأحكام والقضايا الأخلاقية ـ على المستوى المعرفي ـ للقضايا الإلهية تقوم على الفرضيات الثلاثة التالية:

1ـ إن المتبنيات الأخلاقية ليست «بديهية»([28]) أو «أساسية»([29])، أي إنها في حدّ ذاتها غير معتبرة، وإن اعتبارها إنما يكون «استنتاجياً»([30]).

2ـ إن المتبنيات الأخلاقية إنما تحصل على اعتبارها الاستنتاجي من العقائد الإلهية، وليس من أيّ مصدرٍ آخر.

3ـ إن المتبنيات الإلهية من الناحية المعرفية مقدَّمة على المتبنيات الأخلاقية، بمعنى أنها قابلةٌ للاعتبار، بغضّ النظر عن المتبنيات الأخلاقية، كما أنها تحظى باعتبارٍ أقوى بالمقارنة مع المتبنيات الأخلاقية.

4ـ وعليه فإن التعرُّف على الأحكام والقضايا الأخلاقية رهنٌ بالتعرُّف على القضايا الإلهية (علم الأخلاق تابع لعلم الكلام).

إن إحلال الفقه محلّ الأخلاق يقوم على الفرضيات الأربعة التالية:

1ـ إن المتبنيات الأخلاقية الظنية (العقلية) غير معتبرة، (وإن هذه المتبنيات إنما تكون معتبرة إذا كانت «قطعية» و«يقينية»).

2ـ إن المتبنيات الفقهية الظنية (النقلية المستندة إلى ظهور الكلام وخبر الواحد) معتبرة.

3ـ عند التعارض بين المتبنيات الأخلاقية الظنية العقلية والمتبنيات الفقهية الظنية النقلية يكون التقدُّم للمتبنيات الفقهية دائماً([31]).

4ـ وعليه يكون «الفقه» بديلاً عن «الأخلاق»([32]).

إن أنصار هذه النظرية يستنتجون من بحثهم أن سرّ حاجة الإنسان إلى الوحي والنقل في مجال الأخلاق والسلوك يكمن في أن العقل البشري لا يستطيع التعرُّف إلى الأحكام الأخلاقية بشكلٍ صحيح، أو الحكم عليها بشكلٍ معتبر، إلا في بعض الموارد النادرة والقليلة جدّاً، وإن جعل الأحكام الشرعية من قبل الله إنما يأتي ـ في الحقيقة ـ لملء هذا الفراغ. إن علم الفقه ـ من وجهة نظر هؤلاء ـ يعمل على تلبية حاجة الناس إلى علم الأخلاق، ويغدو بديلاً عنه، وإن العمل على طبق فتاوى الفقهاء يغني الناس عن الرجوع إلى العقل ومعرفة القِيَم والمعايير الأخلاقية من غير طريق الوحي والنقل.

وقبل الخوض في دراسة ونقد هذه النظريات يجب علينا الالتفات إلى بعض المسائل التمهيدية:

المسألة الأولى: تعريف التبرير

إن المراد من التبرير والاعتبار([33]) هنا خصوص التبرير «النظري» أو «المعرفي». إن التبرير النظري أو المعرفي يتعاطى مع «صدق» و«كذب» القضايا والمتبنيات، ويُعَدّ ـ طبقاً للتعريف التقليدي للمعرفة([34]) ـ واحداً من الشروط الضرورية للمعرفة. كما يتمّ تقسيم التبرير من ناحيةٍ إلى: «تبرير نظري»([35])؛ و«تبرير عملي»([36]). وإن التبرير النظري ينتزع من خصيصة أو مجموعة من الخصائص لمتبنّى أو قضية، حيث تدلّ على «صدق» ذلك المتبنّى أو تلك القضية، وتعمل على تعزيز «احتمال صدق» ذلك المتبنّى أو تلك القضية([37]). ويمكن لهذه الخصائص أن تكون:

1ـ موجودة في ذات ذلك المتبنّى أو القضية.

2ـ أو أن تنتزع من علاقة ذلك المتبنّى وتلك القضية بسائر المتبنّيات والقضايا الأخرى.

3ـ أو أن تنتزع من شخص المتبنّي (المعرِّف).

4ـ أو أن تنتزع من طريق الحصول أو الوصول إلى ذلك المتبنّى أو القضية.

هناك اختلاف بين علماء المعرفة في تحديد هذه الخصائص. ويمكن تسمية هذه الخصائص بالخصائص «الموجّهة» أو «المبرّرة»، وإن نظريات التبرير المختلفة في علم المعرفة إنما تأتي في الحقيقة لتبرير هذه الخصائص([38]).

المسألة الثانية: العلاقة بين التبرير والعقلانية

هناك ارتباطٌ وثيق بين التبرير النظري وبين العقل والعقلانية «النظرية»، وفي الحقيقة إن التبرير النظري يُعَدّ واحداً من المقتضيات الرئيسة للعقل والعقلانية النظرية، وإنْ أمكن اعتبار هذا التبرير من مقتضيات العقل والعقلانية العملية أيضاً. وعلى أيّ حال فإن العقلانية تريد منا أن نمتلك تبريراً مناسباً لاعتقادنا بأمرٍ أو قضية ما. وإذا كان هذا التبرير عبارة عن خصوصية تعمل على تقوية وتعزيز احتمال صدق المتبنّى أو القضية مورد البحث فهو تبرير نظري. وعليه يمكن اعتبار تبعية الأخلاق المعرفية والمنطقية للدين نوعاً خاصاً من التبعية العقلانية بينهما.

المسألة الثالثة: النسبة بين التبرير المعرفي والتبرير المنطقي

إن التبرير النظري والمعرفي أعمّ من التبرير المنطقي أو الاستدلالي بالمعنى الخاص للكلمة.

فأوّلاً: يذهب الكثير من علماء المعرفة إلى الاعتقاد بأن التبرير المنطقي والاستدلالي رهنٌ بالتبرير غير المنطقي وغير الاستدلالي، بمعنى أن العلاقات المنطقية القائمة بين المتبنّيات أو القضايا تكون مجرّد سبب لانتقال التبرير من المتبنّى المبرّر أو القضية المبرّرة (المقدمة أو المقدمات) إلى متبنّى أو قضية أخرى (النتيجة)، ولذلك لا يشكّل الاستدلال مصدراً «أصيلاً» و«أولياً» في عملية التبرير.

ومن وجهة نظر هؤلاء تنقسم المتبنيات والقضايا إلى قسمين:

1ـ القضايا والمتبنّيات البديهية والأساسية.

2ـ القضايا والمتبنّيات النظرية وغير الأساسية.

وإن القسم الثاني هو الذي يحتاج إلى التبرير المنطقي والاستدلالي، بمعنى أن أنواع الارتباط المنطقي بين البديهيات والنظريات تؤدّي إلى انتقال التبرير من البديهيات إلى النظريات. إلاّ أن تبرير البديهيات هو تبريرٌ غير منطقي أو ما فوق المنطقي، بمعنى أنه تبرير لا يقوم على العلاقات المنطقية، ولا يحصل من طريق الاستدلال والاستنتاج، (إن المنطق يبين القوانين الحاكمة على الاستدلال والاستنتاج).

وثانياً: إن العلاقات المنطقية القائمة بين المتبنّيات والقضايا إنما تمثِّل واحدة من أنواع العلاقات الأخرى القائمة بينهما؛ فهناك أنواع أخرى من العلاقات القائمة بين تلك المتبنّيات والقضايا، والتي تحظى بأهمِّية كبيرة لدى علماء المعرفة؛ لأنها تلعب دوراً في رفع احتمال صدق القضايا والمتبنيات. وعلى هذا الأساس فإن التبرير المنطقي أخصّ من التبرير المعرفي من جهتين، ومن هنا تكون تبعية الأخلاق المنطقية للدين أخصّ من تبعية الأخلاق المعرفية للدين.

وفي ما يلي نعود إلى أصل البحث، فنقول: إن الأسئلة التي نسعى إلى الإجابة عنها هي:

1ـ هل تستند الأخلاق إلى الدين من الناحية المنطقية والمعرفية؟

2ـ هل المتبنّيات الأخلاقية مدينة في تبريرها إلى المتبنّيات الإلهية؟

3ـ هل علم الفقه بديلٌ عن علم الأخلاق؟

4ـ وأخيراً، هل العمل بالأحكام الفقهية يغني المؤمنين عن المعرفة والعمل بالقِيَم الأخلاقية، ويرفع المسؤولية الأخلاقية عن كواهلهم؟

يجب هنا التفكيك بين ادّعاءين مختلفين: الادّعاء الأوّل عبارةٌ عن «تبعية علم الأخلاق لعلم الكلام والإلهيات»؛ والادّعاء الثاني عبارةٌ عن «إحلال علم الفقه محل علم الأخلاق». فإن هذين الادعاءين في الحقيقة نظريتان مختلفتان في مجال دينية الأخلاق، أو قراءتان مختلفتان للأخلاق الدينية، إلاّ أن أهمِّيتهما وارتباطهما المباشر بأخلاق البحث الفقهي قد اقتضيا فصلهما عن سائر النظريات التي عمدنا إلى مناقشتها وبحثها في كتاب (الدين في ميزان الأخلاق)، وأن نفتح لهما فصلاً مستقلاًّ في هذا الكتاب.

لو كان علم الأخلاق ـ من الناحية المنطقية والمعرفية ـ تابعاً لعلم الكلام فإن هذه التبعية ستكون في «حدِّها الأقلّ»، في حين أنه لو كان ـ من هذه الناحية ـ تابعاً لعلم الفقه فإن هذه التبعية ستكون في «حدِّها الأعلى»؛ لأن القائلين بتبعية علم الأخلاق لعلم الكلام قد يقولون بإمكان معرفة وتبرير المتبنّيات الأخلاقية من طريق العقل والوجدان البشري، مع مجرّد الادعاء بأن التبرير العقلاني للمتبنّيات الأخلاقية رهنٌ بالإيمان ببعض المقدمات الإلهية. وأما من وجهة نظر هذه الجماعة يمكن لشيء باسم الفقه أن لا يكون موجوداً، أو أن لا يكون بديلاً عن الأخلاق إنْ وُجد، ولذلك فإن المعايير الأخلاقية المقبولة لدى هؤلاء الأفراد قد لا تختلف كثيراً ـ من الناحية العملية ـ عن المعايير الأخلاقية العلمانية. وعلى هذا الأساس فإن اختلاف هذه القراءات عن الأخلاق الدينية والأخلاق العلمانية يكمن بشكلٍ أكبر في المباني التي تفوق الأخلاق وفرضيات المعرفة وتبرير المتبنّيات الأخلاقية، وليس في مضمون أو محتوى المتبنّيات الأخلاقية.

وأما أولئك الذين يُحِلُّون علم الفقه محلّ علم الأخلاق فلديهم ادّعاء أكبر من ذلك؛ حيث يدّعون أن العقل المستقلّ عن الشرع والوجدان الأخلاقي للبشر غير قادر على إدراك ومعرفة القِيَم الأخلاقية (بشكلٍ صحيح)، وإن حاجة البشر إلى الهداية في مقام العمل تنحصر بالرجوع إلى علم الفقه. وسوف نواصل الحديث عن هذه الآراء تحت عنوانين مترادفين، وهما: «تبعية علم الأخلاق لعلم الكلام»؛ و«إحلال الفقه محلّ أخلاق».

أـ تبعية علم الأخلاق لعلم الكلام / الإلهيات

يذهب أنصار تبعية علم الأخلاق لعلم الكلام إلى القول: إن معرفة المتبنّيات الأخلاقية أو التبرير المعرفي للمتبنّيات الأخلاقية يتوقَّف على القبول ببعض الفرضيات الإلهية. ويمكن تصوير هذه النظرية في قالب الأصول التالية:

1ـ إن المتبنّيات الأخلاقية «نظرية»، وليست «بديهية»، وإن هذه المتبنّيات في حدِّ ذاتها مجهولة وغير مبرّرة.

2ـ إن المتبنّيات الكلامية([39]) من الناحية المعرفية تتقدَّم على المتبنّيات الأخلاقية، بمعنى أنها بغضّ النظر عن المتبنّيات الأخلاقية قابلةٌ للتعريف والتبرير، وإن التبريرات المتوفِّرة لدينا بشأنها أقوى.

3ـ إن المتبنّيات الأخلاقية إنما يمكن التعرُّف عليها وتبريرها من خلال استنتاجها من المتبنّيات الإلهية.

4ـ وعليه فإن معرفة وتبرير الأحكام والقضايا الأخلاقية يتوقَّف على معرفة وتبرير القضايا الإلهية (أي إن «علم الأخلاق» تابعٌ لـ «علم الكلام»، وقائم عليه).

ولكنْ لا يمكن الدفاع عن أيٍّ من هذه المقدّمات. وفي الحقيقة يمكن القول: إن هذه النظرية تقوم على فرضيات غير ثابتة وغير مبررة في مجال المنزلة المنطقية والمعرفية للمتبنّيات الأخلاقية والمتبنّيات الكلامية.

وأوّل إشكال يَرِدُ على هذه النظرية هو أنها تفترض «الأصولية التقليدية» في مجال المعرفة والتبرير المعرفي. وإن الأصولية التقليدية نظريةٌ في صيغة التبرير والمعرفة، والتي على أساسها:

1ـ تنقسم المتبنّيات والقضايا إلى قسمين: متبنّيات وقضايا «ثابتة» أو «بديهية»؛ ومتبنّيات وقضايا «متغيِّرة» أو «نظرية».

2ـ إنها تعتبر التبرير المعرفي مساراً «خطياً» أو «ذا اتجاه واحد».

وإن أهمّ نقاط ضعف الأصولية التقليدية عبارة عن:

1ـ الجزمية، ونفي انسيابية البديهيات والنظريات، ونفي إمكانية تحوُّل المتبنّيات والقضايا البديهية والنظرية، ونفي إمكان إعادة النظر في المتبنّيات والقضايا البديهية والثابتة.

2ـ اعتبار التبرير «في بادئ النظر» و«الوهلة الأولى»([40])، والمتبنّيات والقضايا الأساسية، والتبرير «النهائي»([41]) لتلك القضايا والمتبنّيات، شيئاً واحداً.

3ـ تجاهل الأنواع الأخرى للتبرير المعرفي.

يتّفق الأصوليون المعتدلون والمتناغمون منهم على نقد ادّعاءات الأصولية التقليدية. ومن خلال تبني واحدة من هاتين النظريتين يمكن القول:

أوّلاً: إن المتبنّيات والأحكام الأخلاقية تكتسب تبريرها الابتدائي من التجربة والشهود الأخلاقي، وهي في هذه الحالة ليست تابعة لأيّ متبنّى أو قضية أخرى (سواء أكانت إلهية أم غير إلهية).

وثانياً: رغم توقُّف التبرير النهائي لهذه المتبنّيات والقضايا على انسجامها مع سائر المتبنّيات المقبولة لدى الشخص (ومن بينها متبنّياته الإلهية)، إلاّ أن هذا التبرير «متقابل» و«ذو حدين»، وليس «خطياً» و«أحادي الاتجاه»، ولذلك فإن تبعية علم الأخلاق لعلم الكلام بنفس مقدار تبعية علم الكلام لعلم الأخلاق، إذا لم نقُلْ: إن تبعية علم الكلام لعلم الأخلاق أشدّ.

وحيث إن هذه التبعية متبادلة، وذات حدَّيْن وطرفين، فإن العمل على التوفيق بين المتبنّيات الأخلاقية والمتبنّيات الكلامية لا يتمّ من خلال إصلاح المتبنّيات الأخلاقية فحَسْب، وإنما هو رهنٌ بقوّة ومكانة هاتين الطائفتين من المتبنّيات على المستوى المعرفي. بَيْدَ أن قوة ومكانة المتبنّيات الكلامية والأخلاقية على المستوى المعرفي غير معلومة مسبقاً، وإنما يمكن الحصول عليها من خلال المقارنة. وعليه يمكن القول: ربما اقتضت منا المسؤولية العقلانية والمعرفية أن نتصرَّف في الثاني، دون الأوّل، من أجل رفع التهافت والتنافي القائم بين المتبنّيات الأخلاقية والمتبنّيات الكلامية([42]).

ثالثاً: لنفترض أننا قبلنا بالأصولية التقليدية بوصفها بياناً صحيحاً لبنية المعرفة والتبرير، في مثل هذه الحالة سنكون بحاجةٍ إلى دليل لتعيين المكانة المعرفية لمجموعة خاصة من المتبنّيات (من قبيل: المتبنّيات الأخلاقية، على سبيل المثال). إن القول بأن المتبنّيات الأخلاقية في حدّ ذاتها مشكوكة وغير مبرّرة نظرياً، والقول بأن المتبنّيات الكلامية متقدّمة على المتبنّيات الأخلاقية من الناحية المعرفية، هما في حدّ ذاتهما غير بديهيتين، ويحتاج كلٌّ منهما إلى دليل.

وفي ما يلي ندخل في دراسة مقدّمات هذا الاستدلال بالتفصيل.

أما المقدّمة الأولى فهي: يذهب الشهوديون الأخلاقيون إلى القول بأن بعض المتبنّيات الأخلاقية «بديهية»، بمعنى أنها مبرّرة من تلقاء نفسها، وبغضّ النظر عن ارتباطها بسائر المتبنّيات، وأنها ليست مدينة في ذلك للمتبنّيات الأخرى (الأعمّ من المتبنّيات الدينية والعلمية والفلسفية وغيرها). وهذا التبرير بطبيعة الحال إنما يكون في بادئ النظر، ولذلك فإنه قابلٌ للتقوية والتضعيف، ولكنْ في حال غياب العناصر المضعفة يكون هذا المقدار من التبرير كافياً للقول بالمتبنّيات الأخلاقية، والعمل على أساسها.

وأما المقدمة الثانية: يبدو أن الصحيح هو عكس هذا الادّعاء، بمعنى أن المتبنّيات الأخلاقية هي التي تتقدّم على المتبنّيات الكلامية على المستوى المنطقي والمعرفي، بمعنى أن تبرير الكثير من المتبنّيات الكلامية يتوقَّف على افتراض بعض المتبنّيات الأخلاقية، وأن بعض المتبنّيات الأخلاقية تحظى بتبريرٍ أقوى بالمقارنة مع المتبنّيات الكلامية. فمثلاً: نجد أن إثبات الصفات الأخلاقية لله، من قبيل: العدالة والرحمة وإرادة الخير وما إلى ذلك، تتوقَّف على القول بهذه الصفات بوصفها من «الفضائل الأخلاقية». ومضافاً إلى ذلك فإن حق الطاعة لله، ووجوب إطاعته، وكذلك ضرورة إرسال الرسل، وإنزال الكتب، ووجوب معرفة الدين واعتناقه، بأجمعها حقوق وتكاليف أخلاقية وعقلية، ويتمّ تبريرها على أساس المعايير والضوابط الأخلاقية([43]). كما أن تبرير الاعتقاد بنبوة الأنبياء، والحياة بعد الموت، وصدق واعتبار النصوص المقدّسة، وتبرير الكثير من المتبنّيات الكلامية الأخرى، يتوقَّف على القول ببعض القِيَم الأخلاقية([44]).

وعليه فإن دعوى «أن تبرير جميع القِيَم الأخلاقية يتوقَّف على القول بالمتبنّيات الكلامية» تشتمل على محذورٍ منطقي. نعم، يمكن القول: إن بعض المتبنّيات الكلامية ذات «لوازم» و«تَبِعات» أخلاقية، بمعنى أن القول بهذه المتبنيات يترتّب عليه وظائف أخلاقية جديدة، بَيْدَ أن جميع هذه الوظائف إنما هي «استنتاجية» و«اشتقاقية»، ولهذا فإنها تنسجم مع سائر الوظائف الأخلاقية، وفي حال عدم الانسجام تكون الوظيفة الأهمّ من الناحية الأخلاقية هي المتقدّمة. إلاّ أن النقطة الهامة في البين هي أن قيام بعض الوظائف الأخلاقية على المتبنّيات الكلامية لا يُعَدّ ملاكاً للأهمّية في حدّ ذاته، ولا يستوجب التقدُّم. وعلى أيّ حالٍ فإن وجود مثل هذه الوظائف لا يجعل الأخلاق دينية، بمعنى أن هذا الأمر لا يدلّ على تبعية الأخلاق للدين من الناحية المنطقية والمعرفية.

وبعبارةٍ أخرى: إن الأخلاق الدينية متفرّعة عن الأخلاق ما وراء الدينية؛ لأن هذه الأخلاق تتألف من خلال مزج الأصول الأخلاقية العامة بالمتبنيات الكلامية. فمثلاً: إن الاعتقاد بوجود الله، وعالم الغيب، والحياة بعد الموت، تشتمل على مضامين وانعكاسات أخلاقية، إلاّ أن القِيَم والإلزامات الكامنة في صلب هذه المتبنّيات «استنتاجية» و«اشتقاقية» ـ «تبعية»، بمعنى أننا إنما نستطيع استنتاج هذه القِيَم والإلزامات من المتبنّيات الكلامية إذا تمّ ضمّ الأصول الأخلاقية العامة إلى هذه المتبنّيات.

وعليه:

1ـ لا يمكن أن نحصل على نتيجة أخلاقية من أيّ اعتقادٍ كلامي دون ضمّ المقدّمات الأخلاقية إلى المتبنّيات الكلامية. (وإن مثل هذا الاستنتاج مصداقٌ من مصاديق مغالطة «الوجوب» و«الكينونة»).

2ـ لا يمكن للقِيَم والإلزامات الأخلاقية المترتِّبة على المتبنّيات الكلامية أن تكون غير منسجمة مع القِيَم والإلزامات الأخلاقية ما وراء الدينية، ولا يمكن أن تكون منسجمة مع القِيَم والإلزامات الاشتقاقية الأخرى التي هي حصيلة تطبيق تلك القِيَم ما وراء الدينية على الموارد الأخرى.

ولكنْ حتى إذا أنكرنا تبعية المتبنّيات الكلامية للمتبنّيات الأخلاقية على المستوى المنطقي والمعرفي، أو إذا التزمنا بأن المتبنّيات الكلامية والأخلاقية أمور نظرية، مع ذلك لا يمكن لنا الادّعاء والقول:

1ـ إنّ المتبنّيات الكلامية بالمقارنة إلى المتبنّيات الأخلاقية تحظى بمكانةٍ معرفية أفضل وأقوى، وإن لدينا لصالحها تبريراً أقوى.

2ـ إن المتبنّيات الأخلاقية تدين في تبريرها إلى المتبنّيات الكلامية، دون العكس، ولا بشكلٍ متقابل([45]).

أما المقدمة الثالثة فهي أن المتبنّيات الأخلاقية يمكن اكتشافها وتبريرها من طرقٍ أخرى غير المتبنيات الكلامية أيضاً. وبطبيعة الحال نحصل على نوعٍ أو درجة خاصة من تبرير المتبنّيات الأخلاقية من خلال التناغم أو المناغمة بينها وبين المتبنّيات الكلامية.

ولكنْ أوّلاً: إن هذا التبرير لا يعني التبعية المنطقية والمعرفية؛ وثانياً: إن هذا التبرير ذو حدّين، لا حدّ واحد، وثالثاً: إنه غير منحصر بالمتبنّيات الكلامية، بمعنى أن مثل هذا الربط والنسبة موجودٌ بين المتبنّيات الأخلاقية والفلسفية والعلمية والتجريبية أيضاً. وبهذا المعنى تكون جميع المتبنّيات تابعة لبعضها بشكلٍ متقابل ومتبادل.

ب ـ إحلال «علم الفقه» محلّ «علم الأخلاق»

قلنا: إن «إحلال علم الفقه محلّ علم الأخلاق» رؤيةٌ في الحدّ الأقصى في ما يتعلق بتبعية الأخلاق إلى الدين من الناحية المنطقية والمعرفية. يبدأ أنصار هذه الرؤية بحثهم عادة بـ:

1ـ إثبات وجود الله وصفاته.

2ـ لينتقلوا بعد ذلك إلى إثبات وجود الروح أو النفس الإنسانية، وخلودها، والحياة بعد الموت.

3ـ ثم يتحدّثون عن تأثير أفعال الإنسان على سعادته وشقائه في الآخرة. ويؤكِّدون على:

4ـ نقصان عقل الإنسان في تحديد وظيفته الأخلاقية، وفي معرفة مقدمات الكمال والسعادة والشقاء الأخروي. وبذلك يثبتون:

5ـ وجوب اللطف على الله، وضرورة هداية الناس من قبل الله الشارع، عن طريق جعل وتشريع الأحكام الشرعية، وإبلاغ هذه الأحكام من طريق إرسال الرسل وإنزال الكتب. ومن خلال ضمّ هذه المقدمات إلى بعضها يثبتون:

6ـ ضرورة اتّباع الشريعة، وحاجة الإنسان إلى الفقه.

إلاّ أن الأمر لا يقف عند هذا الحدّ، بل إن النتيجة الأهمّ التي نحصل عليها من خلال هذه المقدّمات هي:

7ـ «إحلال» الفقه محلّ الأخلاق، أو «تقديمه» على الأخلاق عند التعارض فيما بينهما، وبالتالي «تعطيل» العقل المستقلّ عن الشرع والنقل في دائرة الأخلاق والسلوك.

يتمّ عرض الكثير من الأدلة لصالح إحلال علم الفقه محلّ علم الأخلاق. وفي ما يلي نعمل على تبويب عددٍ من هذه الأدلة الشائعة أكثر من غيرها، لنقوم بعد ذلك بنقدها.

1ـ الدليل الأول لصالح إحلال علم الفقه محلّ علم الأخلاق

يمكن تنسيق هذا الاستدلال على الشكل التالي:

1ـ إن العقل البشري ناقصٌ.

2ـ إن عقل الشارع كاملٌ.

3ـ يأتي جعل الأحكام الشرعية في سياق جبران نقص العقل البشري في مجال تحديد حقوق الإنسان، وبيان واجباته ومسؤولياته.

4ـ إن علم الفقه يتكفَّل ببيان حقوق الإنسان وواجباته.

5ـ وعليه فإن «علم الفقه» يحلّ محلّ «علم الأخلاق»([46]).

إن هذا الدليل يقوم على بيان خاصّ لشروط الاستدلال الأخلاقي، وعجز الإنسان عن استيفاء هذه الشروط. يستنتج من هذه المقدّمات تعطيل العقل المستقلّ عن الشرع في مجال الأخلاق، ولزوم إحلال الفقه محلّها. تؤكّد هذه الأدلة في العادة على خصوصيتين هامتين في المنظومة الإدراكية لدى الإنسان في مقام الحصول على المعرفة الأخلاقية، وكلاهما من موانع اكتساب المعرفة الأخلاقية. وهاتان الخصوصيتان هما:

1ـ عدم الوصول والإحاطة الكاملة بالمبادئ والمقدّمات اللازمة.

2ـ التأثُّر بالهوى والميول النفسية والوساوس الداخلية والخارجية.

وإن هاتين الخصيصتين تستوجبان عدم حسم الخلافات الأخلاقية.

وهذه في حدّ ذاتها مشكلةٌ مستقلّة([47]). وبذلك يتمّ إثبات المقدّمة الأولى (نقصان العقل البشري في مجال الأخلاق) عادةً، من خلال الاستناد إلى الأدلة الثلاثة التالية:

1ـ إن كشف أو صدور الحكم الأخلاقي يتوقّف على الإشراف والإحاطة العلمية «الكاملة» بالنتائج الدنيوية والأخروية المترتِّبة على العمل، إلاّ أن عقل الناس العادي والعرفي والمستقلّ عن الشرع والنقل (العقل العلماني ـ ما فوق الديني) لا يمتلك مثل هذا الإشراف، ولا يمكن له أن يمتلكه.

2ـ إن العقل البشري أسير أهوائه وأهواء الآخرين([48]).

3ـ إن اختلاف الآراء الأخلاقية غير قابل للحلّ والحسم.

في ما يتعلَّق بإيضاح الدليل (1) يُقال عادةً: إن الناس لا يعلمون بعواقب وتبعات أفعالهم الإيجابية والسلبية بشكلٍ كامل. وإن الناس خاصّة لا يعلمون ولا يتمكّنون أن يعلموا ما هو التأثير الذي يكون لأعمالهم في كمالهم وسعادتهم وشقائهم الأبدي والأخروي؟ إن وجدان وعقل الناس لا يستطيع إدراك المصالح والمفاسد «الغيبية» و«الأخروية» المترتِّبة على أعمالهم. وعليه لا يمكن للعقل المستقلّ عن الشرع من خلال الاستعانة بالوجدان الأخلاقي أن يدرك أو يبرِّر الحكم الأخلاقي للأعمال، ولا بُدَّ للإنسان في هذا المجال من الرجوع إلى الوحي والنقل([49]).

وفي ما يتعلَّق بإيضاح الدليل (2) يمكن القول: إن الكثير من المسيحيين يعتقدون أن المعصية الأولى والهبوط من الجنة، وكذلك المعاصي التي اقترفها الناس، ويقترفونها بعد الهبوط، تؤدّي إلى فساد عقولهم، ونتيجة لذلك تنخفض عندهم القدرة على تشخيص المعايير الأخلاقية وإدراكها. وتعتبر المعصية في هذه الرؤية مقولة معرفية، وبذلك تثبت حاجة الإنسان إلى الوحي.

كما أن الكثير من أتباع الديانات الأخرى ـ رغم عدم القول بالمعصية الأولى ـ يصلون من خلال الاستناد إلى مقدّمات مختلفة إلى نتائج مشابهةٍ إلى حدٍّ ما. إن الإنسان أنانيٌّ بطبعه، وهو إلى ذلك كائنٌ نفعي ومتسرّع وحريص وأسير للأهواء والرغبات الطفولية، وإن هذه الأنانيات والأهواء تحول دون إدراك القِيَم الأخلاقية بشكلٍ صحيح. إن «خداع الذات»([50]) من أهم العقبات الماثلة في طريق معرفة الأخلاق؛ إذ يقوم الناس من خلال هذه العقبة بتبرير أفعالهم القبيحة، وإلباسها حلّةً جميلة، ويقدِّمونها إلى الآخرين بوصفها من الأمور الصالحة والحسنة. إن المصالح الشخصية والتعلُّقات العاطفية والجماعية تؤدّي إلى تضبيب العقل والوجدان الأخلاقي لدى الإنسان، فتصاب بصيرته بالعمى، ويفقد القدرة على الإدراك والتشخيص الأخلاقي، وبالتالي يخطئ في إدراك الحكم الأخلاقي. وعلى أيّ حالٍ فإن العواطف والأحاسيس تثير ظلمةً في الأحكام الأخلاقية الصادرة عن الإنسان([51]). ومضافاً إلى ذلك فإن الناس يتعرضون إلى وساوس الشيطان أيضاً، وإن من بين ما يقوم به الشيطان، أو أحد أهمّ ما يقوم به، هو أنه يجمِّل للإنسان أعماله القبيحة، وفي ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ (الأنفال: 48)([52]).

وفي ما يتعلَّق بالدليل (3) يمكن القول: إن الأبحاث والدراسات الاجتماعية تثبت أن الثقافات المختلفة والمجتمعات التي تترعرع في ظلّ تلك الثقافات يحملون إدراكاً مختلفاً عن القِيَم الأخلاقية، ويتشبَّثون بقِيَم مختلفة. وهذا يدلّ على أن العقل والوجدان البشري عاجزٌ عن إدراك القِيَم الأخلاقية، وإلاّ لما حصل اختلافٌ أخلاقي، أو كان بالإمكان رفع هذا الاختلاف من خلال الرجوع إلى العقل والوجدان.

وبذلك يستنتج «أن العقل البشري عاطلٌ إلى حدٍّ ما في دائرة الأخلاق، أو يجب أن يكون عاطلاً»، وإن الناس لا يمكنهم تحديد حقوقهم وواجباتهم من خلال الرجوع إلى العقل المستقلّ عن النقل والشرع، بل عليهم ـ بَدَلاً من الرجوع إلى هذا العقل ـ الرجوع إلى القرآن والسنّة (الروايات)، وإن طريقة الرجوع إلى القرآن والسنّة تتمّ عبر توظيف الأسلوب السائد في الفقه التقليدي. وبذلك نصل إلى القول بأن «الفقه بديلٌ عن الأخلاق».

2ـ نقد الدليل الأوّل لصالح إحلال علم الفقه محلّ علم الأخلاق

وسوف ننقد هذا الدليل مرّةً على نحو الإجمال؛ ومرّةً أخرى على النحو التفصيل.

أما في النقد الإجمالي فيمكن القول: إن جوهر هذا الاستدلال عبارةٌ عن: «القول بالتشكيك الأخلاقي؛ لإثبات الواقعية الفقهية»، في حين أن «التشكيك الأخلاقي يستلزم التشكيك الفقهي، وينفي الواقعية الفقهية».

وكما سبق فإن هذه النظرية في الحقيقة تقدِّم قراءةً جديدة عن رؤية الأشاعرة ـ دينية الأخلاق، أو إنكار الأخلاق ما فوق الدينية ـ؛ لأن هذه النظرية من خلال توظيف الفرضيات والمقدمات المتفاوتة تصل إلى ذات النتيجة التي يسعى الإشاعرة إلى الوصول إليها. فقد كان الأشاعرة التقليديون يقولون: «إن الحُسْن والقُبْح الأخلاقي إلهيّ ونقلي (شرعي)، وليس ذاتياً وعقليّاً»، وكان مرادهم من القول: «إن الحُسْن والقُبْح إلهي» هو أن الأخلاق من الناحية «اللغوية» أو «الوجودية» تابعةٌ للدين، ومرادُهم من القول: «إن الحُسْن والقُبْح نقلي» هو أن الأخلاق من الناحية «المنطقية» و«المعرفية» تابعةٌ للدين. ومن الطبيعي أن يؤدّي هذا الرأي إلى إحلال علم الفقه محلّ علم الأخلاق، أو تنزيل الأخلاق إلى الفقه([53]).

وأما النظرية التي نبحث فيها هنا فإنها تقول: «إن الحُسْن والقُبْح الأخلاقي ذاتي (ما فوق إلهي)، وفي الوقت نفسه نقليّ، وليس عقلياً». إن هذه النظرية تنفي تبعية الأخلاق «المفهومية» و«الوجودية» للدين، وبذلك تفصل طريقها عن الأشاعرة التقليديين، وتلتحق بركب المعتزلة، إلاّ أنها تصرّ على أن الأخلاق «المنطقية» و«المعرفية» تابعةٌ للدين، ومن هذه الناحية تلتزم برؤية الأشاعرة التقليديين في باب معرفة الأخلاق.

وبعبارةٍ أخرى: إن هذه النظرية تمزج بين «الوجودية الاعتزالية» و«المعرفية الأشعرية»، غير أن نتيجة هذا المزج العملية لا تختلف في شيءٍ عن رأي الأشاعرة التقليديين في ما يرتبط بالعلاقة بين الدين والأخلاق. وعليه فإن هذه النظرية من خلال الاستناد إلى الفرضيات المختلفة تصل إلى ذات النتيجة، وهي «إحلال علم الفقه محلّ علم الأخلاق». لقد كان الأشاعرة في البداية يحلّون الشريعة في «مقام الثبوت» محلّ الأخلاق، ومن خلال هذه المقدّمة يستنتجون إحلال علم الفقه محلّ علم الأخلاق في «مقام الإثبات». أما الأشاعرة الحداثيون أو ما بعد الحداثيين فيقولون بأن للأخلاق في مقام الثبوت هوية مستقلّة عن الشرع، وفي الوقت نفسه يدّعون بأننا في مقام الإثبات لا نمتلك طريقاً مستقلاًّ عن الشرع والنقل لإدراك ومعرفة القِيَم الأخلاقية، وإن العقل المستقلّ عن الشرع ليس لديه الكثير ممّا يقوله في هذا المجال، وهو معطّلٌ على المستوى العملي.

كان الأشاعرة التقليديون يقولون: إن القِيَم الأخلاقية ليست ذاتية، ولا واقعية، بمعنى أنه بغضّ النظر عن الإرادة التشريعية لإله الفقه وأمره ونهيه لن يكون هناك من وجود وواقعية لأيّ قيمةٍ أخلاقية. أما الأشاعرة الحداثيون وما بعد الحداثيين، الذين نحن بصدد مناقشة آرائهم ونظرياتهم، فيقولون: إن القِيَم الأخلاقية ذاتية وواقعية، ولها هوية ووجود مستقلّ عن الشرع (رأي المعتزلة في باب وجود الأخلاق)، وفي الوقت نفسه يدّعون أن العقل المستقلّ عن الشرع لا يستطيع التعرُّف على هذه القِيَم الذاتية والعينية (رأي الأشاعرة في باب معرفة الأخلاق)، بمعنى أن هؤلاء يقولون: إن الحُسْن والقُبْح الأخلاقي «ذاتي»، وفي الوقت نفسه «نقلي»([54]). وبعبارةٍ أخرى: في الوقت الذي يعترف المعتزلة بوجود وفاعلية العقل المستقلّ عن الشرع في دائرة الأخلاق، يذهب الأشاعرة التقليديون والحداثيون إلى إنكار وجود وفاعلية هذا العقل في دائرة الأخلاق، ويعتقدون بأن العقل في هذه الدائرة تابعٌ للشرع، أو يجب أن يكون تابعاً له.

يجب التذكير بأن أتباع هذا الرأي يستثنون بعض الموارد من هذه القاعدة الكلّية، ويقولون: يمكن الكشف والتعرُّف في هذه الموارد على الحُسْن والقُبْح الأخلاقي من طريق العقل المستقلّ عن الشرع. إلاّ أن هذه الموارد هي بشكلٍ رئيس ذاتها التي تدعو الإنسان إلى اعتناق الدين واتّباع أحكامه، وتلزمه بإطاعة أوامر وتعاليم الإله الشارع، بمعنى أن العقل من وجهة نظر هذه الجماعة إنما يكون مستقلاًّ في حدود الوصول إلى أعتاب وبوابات الدين والشريعة، وتكون له صلاحية وقابلية تحديد وتشخيص القِيَم والمعايير الأخلاقية إلى هذا الحدّ، ولكنّه بعد ذلك يفقد هذا الاستقلال والصلاحية، ويعطي مكانه للنقل.

وعلى هذا الأساس فإن هذا الرأي يقوم على نوعٍ من «التشكيك الأخلاقي»، ويؤدّي إلى تعطيل العقل المستقلّ عن الشرع في حدود الأخلاق، ويفضي إلى امتناع التنظيم العقلاني والأخلاقي للسلوك الجمعي للبشر.

فمثلاً: إن أحد أنصار هذا الرأي يقول: نحن من القائلين بالحُسْن والقُبْح الذاتيين، ولا نرى الأعمال على نَسَقٍ واحد… إن القِيَم الأخلاقية (في الحدّ الأدنى أمّهات وأصول هذه القِيَم مسلَّمةٌ إلى حدٍّ ما، وبالنسبة إلى بعض المصاديق) لا تستفاد من الدين بالضرورة… ولكنْ ينبغي عدم التعبير عن هذه الواقعية ـ المقبولة في الإسلام وعند المسلمين ـ بالقول: «إن القِيَم في حدّ ذاتها غير دينية»؛ لأنه:

أوّلاً: إن شرح وبيان هذه القِيَم (التي تحظى بتأييد العقلاء) وتأييدها والتأكيد عليها يعتبر خدمةً كبيرة، ومن الضروريّ أن تصدر من قبل الله وأنبيائه.

ثانياً: إن جميع القِيَم، حتّى تلك التي هي في حدود الكلّيات، ليست واضحة بشكلٍ كامل، وغير معترف بها من قبل الجميع، أو أنها قد تتعرّض أحياناً للغموض، أو يتمّ إنكارها من قبل البعض، فتحتاج إلى بيانٍ إلهي.

ثالثاً: في موارد التزاحم والتعارض بين القِيَم (في مقام التحقُّق الخارجي، لا في ذواتها) نكون بحاجةٍ إلى حكمٍ صحيح ودقيق، لا يتأتّى إلاّ من قبل الله وأنبيائه.

رابعاً: إن مصاديق القِيَم ـ عند الانتقال من الكلّيات إلى الجزئيات ـ ليست واضحةً دائماً، بل وربما يكون بينها اختلافٌ. فإن «الحُسْن والقُبْح الذاتي» هو غير «الحُسْن والقُبْح العقلي». وإن الثاني منوطٌ بالأوّل، في حين أن الأوّل لا يستلزم الثاني بالضرورة، بمعنى أن الأعمال تشتمل على الحُسْن والقُبْح الذاتي (ولها آثار واقعية في العالم وبين البشر، وليس حُسْنها وقُبْحها بالاعتبار والتواضع)، ونحن ندرك أصولها وكلّياتها بعقولنا (الحُسْن والقُبْح العقلي)، إلاّ أن هذا لا يعني أن جميع مصاديق الحُسْن والقُبْح واضحةٌ وقابلة للإدراك العقلي من قبل الجميع. بل إن الكثير من مصاديق الحَسَن والقبيح (في الأخلاق والأعمال) يجب إيضاحها من قبل «الوحي والدين»، وإلاّ لن يتمّ اكتشافها، أو أن اكتشافها سيكون في غاية التعقيد، وسوف يحتاج الكشف عنها إلى مدّةٍ طويلة، أو أنها ستبقى طيّ الإجمال، وعلى أيّ حال لن يكون هناك إجماع بشأنها. وعليه لا بُدَّ من اعتبار جميع القِيَم الأخلاقية «دينية»، بمعنى أن الدين هو الذي يعمل على تعريفها والإرشاد إليها، على نحو الحصر؛ أو بالاشتراك مع العقل، وهذا لا يتنافى مع الحُسْن والقُبْح العقلي أو «الذاتي للأعمال»([55]).

أما الأسئلة التي يمكن لنا أن نثيرها في مقابل هذا الكلام فهي:

1ـ «هل ساعد بيان القِيَم من طريق الوحي والدين على إيضاحها بشكلٍ كامل؟».

2ـ «ألم يسهم الرجوع إلى الدين في موارد التزاحم والتضادّ بين القِيَم إلى مفاقمة هذا التضادّ والتزاحم، بدلاً من رفعه؟».

3ـ «هل تمّ توضيح جميع مصاديق الحُسْن والقُبْح بعد بيان الوحي والدين، بحيث تمّ الاتفاق عليها من قبل الجميع؟».

إذا كان الجواب عن السؤال (1) و(3) بالنفي، والجواب عن السؤال (2) بالإيجاب ـ وهو كذلك ـ، وجب القول: إن الأشاعرة ما بعد الحداثيين يرَوْن أن الدين قد أخفق في الوصول إلى أهدافه، ولذلك فإننا بحاجةٍ إلى دين ونبيّ جديد؛ لسدّ هذا النقص الحاصل! يتحدّث الأشاعرة ما بعد الحداثيين وكأنّ الوحي الإلهي طوع أيدينا بالتفصيل، وإن حكم كل شيء واضحٌ مسبقاً على نحو القطع واليقين، وهو موجود في النصوص الإسلامية (القرآن والسنّة)، وأنْ ليس هناك اختلافٌ بين المسلمين لا في باب الأخلاقيات والقِيَم الأخلاقية، ولا في باب الفقه والفروعات الفقهية أبداً. في حين أننا نشهد حلبة الأخلاق الإسلامية والفقه الإسلامي ساحةً للصراعات والخلافات والمشاحنات. وإن الاختلاف في الآراء الأخلاقية والفقهية المحتدمة بين علماء الإسلام والأمة الإسلامية ليست بأقلّ من الخلافات القائمة بهذا الشأن في المجتمعات غير الإسلامية (أو المجتمعات العلمانية والليبرالية، على حدّ زعمهم).

يبدو أن المشكلة الرئيسة تنبثق من مكانٍ آخر، وهي أن الأصوليين الدينيين ـ سواء كانوا من المسلمين أو المسيحيين أو اليهود أو غيرهم ـ لا يطيقون حقوق الإنسان والأخلاق الاجتماعية في العالم الحديث، والتي هي موضع ترحيب العقلاء في هذا العالم، وتُعَدّ جزءاً من العناصر الضرورية في هذا العالم، وإنهم يضطرّون ـ لإنكار هذه الحقوق وهذه الأخلاق ـ إلى التشبُّث بأذيال التشكيك والنسبية الأخلاقية، والادّعاء بأن العقل والوجدان البشري ـ في ما يتعلَّق بمجال الأخلاق ـ عاجزٌ عن الإدراك الواضح للكلّيات والجزئيات أيضاً، وإن الطريق إلى رفع هذا العجز يتمّ عبر إلغاء العقل لصالح النقل، والعمل على إحلال النقل محلّ العقل، وإحلال الفقه محلّ الأخلاق.

هذا، في حين أن النزاع القائم بين الأخلاق الدينية والأخلاق العلمانية ليس في الموارد المشكوكة، وإنما يدور هذا النزاع بشأن الموارد التي يكون لدى العقل والأخلاق حكمٌ واضح بشأنها؛ فإن لعقل العقلاء في العالم الحديث حكماً واضحاً بشأن حقوق الإنسان، وأما رأي الأشاعرة ما بعد الحداثيين فهو كما يقول أحد أقطابهم: «…إن الاختلاف القائم بين اللغة «الدينية» وبين اللغة «البشرية الحديثة للدكتور سروش» ليس شيئاً آخر غير الاختلاف بين التفكير الإسلامي وبين التفكير الغربي الحديث (الليبرالي). وإن هذا الاختلاف لا ينحصر في أن الإسلام يتحدث عن «المسؤولية» و«التكليف الإلهي»، وفي الليبرالية لا يوجد هناك أيّ حديث عن التكليف الشرعي والولاية الإلهية على الإنسان. بل حتّى تعريف الإسلام وتفسيره «للحق والحقوق» يختلف عن التعريف الليبرالي والإلحادي لـ «حقوق الإنسان» أيضاً. إن دائرة حقوق الإنسان ومصاديقها مختلفة بين الإسلام والليبرالية، نعم؛ وذلك لاختلاف هاتين المدرستين (الإلهية والإلحادية) في تعريف الإنسان»([56]).

في نقد هذا الكلام يمكن القول: إن «إدراك» و«فهم» كلّ شخصٍ لـ: 1) تعريف وتفسير الإسلام للحق والحقوق؛ و2) عينية أو غيرية رأي الإسلام والليبرالية في باب تعريف الإنسان وحقوق الإنسان، تابعٌ تماماً للفرضيات المقبولة لديه في ما يتعلَّق بـ «طبيعة الله»، وكذلك «العلاقة» القائمة بين الدين والأخلاق. إن الأشاعرة ما بعد الحداثيين لا يلتفتون إلى هذه الحقيقة، أو أنهم يتعمّدون تجاهلها، وهي أن القراءة والتفسير الذي يقدِّمه هؤلاء عن الإسلام (ويدَّعون تبعاً لذلك أن تعريف وتفسير الإسلام والليبرالية للحقوق وتكاليف الإنسان مختلفٌ)، وطبقاً لهذه القراءة والتفسير يكون:

1ـ الله «مستبدّاً» و«نفعياً».

2ـ الدين متقدّماً على الأخلاق.

3ـ الفقه بديلاً عن الأخلاق.

إن تلك القراءة كانت تفترض هذه المقدّمات، ولو أن هذه الفرضيات أَخْلَتْ مكانها لصالح الفرضيات المنافسة لها، والتي على أساسها يكون:

1ـ الله «محوراً للحقوق»، وليس مستبدّاً، ولا نفعياً.

2ـ الأخلاق متقدّمة على الدين، وليس العكس.

3ـ فهم وتفسير النصوص الإسلامية قابلاً للإبطال أخلاقياً.

في هذه الصورة ستكون دعوى اختلاف تفسير وتعريف الإسلام والليبرالية لحقوق الإنسان دعوى غير مبرّرة. ولو قال شخص بتقدُّم الأخلاق على الدين (وتقدّم الحق على الاستبداد والنفعية) سيضطر إلى المواءمة بين فهمه لأحكام الإسلام وحقوق الإنسان. ومع القول بتقدّم الأخلاق على الدين لا يمكن الادّعاء بأن الليبرالية مذهب إلحادي، بل الأمر على العكس من ذلك تماماً؛ إذ يمكن الادّعاء بأن المنكرين لحقوق الإنسان طغاةٌ ومتكبِّرون، وأنهم يدَّعون لأنفسهم منزلةً تفوق منازل الآخرين، ويطالبون لأنفسهم أو لأبناء طبقتهم بحقوق تفوق حقوق سائر الآدميين، وهذا في الحقيقة ليس شيئاً آخر غير ادّعاء الربوبية والألوهية والتفرعن([57]).

ليست المسألة في أن هناك جماعةً تنكر حقوق الإنسان، وإنما المسألة هي أن هذه الجماعة إنما تريد حقوق الإنسان حِكْراً على نفسها، وعلى أنصارها، بمعنى أن النزاع لا يدور حول «حقوق الإنسان»، وإنما يحتدم النزاع بشان التوزيع «العادل» و«المتساوي» أو «غير العادل» و«غير المتساوي» لهذه الحقوق بين الناس. وإن الذين يدّعون الاختلاف بين فهم الإسلام وفهم الليبرالية لحقوق الإنسان وتعريف الإنسان وما إلى ذلك في الحقيقة لا يقولون: إن الإسلام ينكر حقوق الإنسان، وإنما يدَّعون بأن الإسلام قد وزَّع هذه الحقوق بين الناس بشكلٍ «غير متساوٍ» (غير عادل، وبشكلٍ عنصري)، وقد فوَّض حقّ نقض هذه الحقوق لشخصٍ أو طائفة خاصّة.

والملفت هنا أن الأصوليين المسيحيين واليهود؛ كي يستبيحوا أرواح المسلمين وأموالهم وأعراضهم (وكذلك الأصوليون من السنّة؛ كي يستبيحوا أرواح الشيعة وأموالهم وأعراضهم، والأصوليون الشيعة؛ كي يستبيحوا أرواح السنّة وأموالهم وأعراضهم) وسلب حقوقهم، يقولون: إن تعريف حقوق الإنسان في مدرستنا يختلف عن تعريف هذه الحقوق في المدارس الأخرى، بمعنى أنهم ينكرون أوّلاً المنزلة الإنسانية والأخلاقية لمَنْ يخالفهم في التفكير، وينكرون المساواة بينهم وبين الآخرين، ومن ثم يصدرون الإذن بنقض حقوقهم. وإن تأكيد المدافعين عن حقوق الإنسان على:

1ـ أن حقوق الإنسان مقولة «ما فوق دينية»، وأن لها مصدراً «يفوق الدين».

2ـ أن تعريف الإنسان مقولةٌ تفوق الدين أيضاً، ويجب افتراضها قبل الرجوع إلى النصوص الدينية.

3ـ أنّه يجب الكشف عن حقوق الإنسان بما هو إنسانٌ قبل الرجوع إلى النصوص الدينية، وقبل الخوض في تفسير هذه النصوص.

إنما يأتي تماماً في سياق إثبات عدم صحّة مثل هذه الادّعاءات. فالحقيقة أن حقوق الإنسان هي حقوق الإنسان، وهي تتخطّى الحقوق الغربية، كما تتخطى الحقوق الإسلامية، فلا هي غربية، ولا هي إسلامية، وإنما هذه الحقوق هي حقوق الإنسان بما هو إنسان، لا بما هو مسلم، أو بما هو شيعي، أو بما هو رجل، أو بما هو فقيه، وما إلى ذلك. وإن هذه الحقوق هي حقوقٌ طبيعية للإنسان، وليست حقوقاً تشريعية أو اعتبارية. وبعبارةٍ أخرى: إن الذي يعارض الليبرالية هو الأصولية وافتراضاتها الدينية، وإن هذا النوع من التعارض قائمٌ أيضاً بين الليبرالية والأصولية العلمانية أيضاً. وعليه فإن التمسُّك بالقِيَم والحقوق الليبرالية في مقام نقد الأصولية العلمانية في ما يتعلَّق بالسياسة الخارجية، ونقض هذه القِيَم والحقوق في ما يتعلَّق بالسياسة الداخلية، لا يعدو أن يكون نفاقاً أخلاقياً، واتّباعاً للمعايير المزدوجة.

وأما من وجهة نظر الأصوليين المسلمين أو الأشاعرة ما بعد الحداثيين: «إن حقوق الإنسان الليبرالي تعني الإباحية، فإن الإنسان الليبرالي حتّى إذا آمن بالله الخالق فإنه لا يؤمن بالله الشارع»([58]).

يمكن القول في الردّ على هذا الكلام: أوّلاً: إن ردّ وإنكار حقوق الإنسان يستلزم التشكيك والنسبية في باب الأخلاق الاجتماعية، وبمعنى الإباحية دون القول بها. وإن الذين ينكرون حقوق الإنسان ـ كما أثبتوا على المستوى العملي ـ لا يعارضون الإباحية، وإنما يريدون احتكار الإباحية لأنفسهم، ولمَنْ كان على فكرهم. إن حقوق الإنسان ترتِّب بعض المسؤوليات والواجبات على كاهل المسؤولين وأصحاب السلطة، وإن نفيها وتركها هو عين الإباحية الأخلاقية، وإنّ إنكار حقوق الإنسان أو دعوى النسبية في ما يتعلَّق بحقوق الإنسان، وتوزيعها بشكلٍ غير عادل، إنما يأتي تماماً في سياق التخلّي عن المسؤولية التي تضعها هذه الحقوق على كاهل هؤلاء المنكرين. إن حقوق الإنسان تحدّ من حرّية المسؤولين في السلطة، وتقيِّد حركتهم وتصرُّفهم في حياة الآخرين، إلاّ أن أرباب السلطة وأولئك الذين أقاموا صرح سعادتهم على دعامة السلطة إنما ينكرون هذه الحقوق من أجل التنصُّل عن الوظائف والتكاليف والمسؤوليات التي تضعها هذه الحقوق على كواهلهم، ولما تفرضه مراعاة هذه الحقوق من المحدوديات عليهم.

وثانياً: إن حقوق الإنسان الليبرالية لا تتنافى أبداً مع الإيمان بـ «الإله الشارع». نعم، إنها لا تؤمن بالله المستبدّ والدكتاتور، والذي يدافع عن المستبدّين، ويدعم الاستبداد الديني وغير الديني، ولا تنصاع لمثل هذا الإله، بل وتنكر وجود مثل هذا الإله من الأساس. وإن حقوق الإنسان ترى أن هذا الإله إنما هو من صنع أصحاب الذهنيات المريضة للمزوِّرين والمخادعين؛ كي يبرِّروا من خلاله العنصرية والمحاباة بين أفراد الإنسانية، ومن أجل التنظير للاستبداد والعنف الذي يمارسه الطغاة بحقّ المستضعفين وحرمانهم من حقوقهم الطبيعية. إن حقوق الإنسان الليبرالية تقول: إن حكم إله الأخلاق (الشاهد المثالي) متقدِّم على حكم إله الفقه (الإله الشارع)، ولا يمكن فهم حكم الإله العادل بشكلٍ يتنافى مع حكم الشاهد المثالي، بمعنى أن مثل هذا الفهم باطلٌ وغير وجيه، ولا يمكن نسبة هذه الأحكام إلى الإله العادل. ومن البديهي أن ندرك أن حقوق الإنسان الليبرالية إنما يدركها العقل المستقلّ عن الشرع، وهو ذاته العقل الليبرالي الذي يدرك حقّ الطاعة لله ووجوب إطاعة أحكام الإله الشارع، ولذلك فإنه إذا تمّ إنكار حقوق الإنسان الليبرالي، وتمّ التشكيك في صلاحية العقل في هذا المورد، لا يبقى هناك من طريقٍ لإثبات حقّ الإله الشارع ووجوب إطاعته. إن التمسُّك بمثل هذه الأدلة لإثبات ضرورة اتّباع الوحي والنقل يزعزع أسس الشريعة ووجوب اتّباعها، وإن هذه الحالة تشبه مَنْ يعتلي غصن الشجرة ثم يعمل فيه المنشار ممّا يلي الجذع. وإن الذي يقول بحكم العقل بحقّ الطاعة لله ووجوب إطاعته، وفي الوقت نفسه لا يقبل بحكم ذات هذا العقل في ما يتعلَّق بحقوق الإنسان، يكون قد رضخ للترجيح بلا مرجِّح، ويكون قد ألغى عقله.

ـ يتبع ـ

الهوامش

(*) أستاذٌ في جامعة المفيد، وأحد الباحثين البارزين في مجال الدين وفلسفة الأخلاق، ومن المساهمين في إطلاق عجلة علم الكلام الجديد وفلسفة الدين.

([1]) نهج البلاغة، قصار الحكم، الحكمة رقم 235.

([2]) أبو القاسم فنائي، (دين در ترازوي أخلاق)، انتشارات صراط، طهران، 2006. ستظهر ترجمته إلى العربية قريباً تحت عنوان: (الدين في ميزان الأخلاق).

([3]) a posteriori.

([4]) يستعمل مفهوم «اللوح المحفوظ» في الثقافة الإسلامية للدلالة على مقام الثبوت بالنسبة إلى أمور من قبيل: الدين. فيمكن لمَنْ له أنس بهذا المفهوم أن يعتبر عبارة «الشريعة في مقام الثبوت» بديلاً عن عبارة «الشريعة في اللوح المحفوظ».

([5]) وفي هذه الحالة يكتسب ما كان مباحاً من الناحية الأخلاقية ـ بعد تعلّق الأمر أو النهي الإلهي به ـ حكماً أخلاقياً جديداً؛ لأن القيام به أو تركه سيكون مصداقاً لـ «شكر المنعم» أو «عدم التصرُّف في الأمانة»، وإن شكر المنعم وعدم التصرُّف في الأمانة دون إذن أو رضا صاحبها داخلان في جملة الوظائف الأخلاقية.

([6]) ethics of belief.

([7]) إن علماء المعرفة الذين يبحثون في «أخلاق الإيمان» يختلفون بشأن ماهية الأحكام المعرفية. فمثلاً: لو قبلنا بضرورة التنسيق بين حجم تمسّكنا النظري والعملي بمعتقدٍ ما وبين قوة الشواهد المتوفرة لصالح ذلك المعتقد فعندها يمكن التساؤل: «ما هو نوع هذه المسؤولية؟».

ويبدو أن هناك ثلاث إجابات عن هذا التساؤل: الإجابة الأولى تصدر عن أولئك الذين ينـزِّلون المعرفة إلى حدود الأخلاق. وطبقاً لهذه الرؤية تكون الأحكام المهيمنة على اعتناق أو رفض الإيمان، بما في ذلك الحكم المذكور، من الأحكام الأخلاقية (ethical). وأما الإجابة الثانية فتعود إلى أولئك الذين يعتبرون المعرفة نوعاً من الأخلاق. وفي هذه الرؤية تكون أخلاق الإيمان تعبيراً آخر عن معرفة الإيمان والأحكام الناظرة إلى قبول أو رفض القِيَم المعرفية والإدراكية (epistemic). وأما الإجابة الثالثة فتعود إلى أولئك الذين يعتبرون الأحكام الناظرة إلى قبول أو رفض الإيمان من القِيَم التعقُّلية والتدبُّرية (prudential). وطبقاً لهذه الرؤية تكون المعرفة الإيمانية شيئاً شبيهاً بـ «بالمعرفة المقتصدة». ولمزيد من التوضيح، انظر: مقال:

Wood, A. (2008) «The duty to believe according to the evidence», in Eugene Thomas Long & Patrick Horn (eds.) Ethics of Belief: Essays in Tribute to D. Z. Phillips, (Springer: Netherlands), pp. 7 – 24.

أعتقد أن لمعتقداتنا تبعات هامة من ناحية الأخلاق الفردية والاجتماعية، ولذلك فإنها تكون مشمولة للضرورات والمحظورات الأخلاقية. ومضافاً إلى ذلك فإن كيفية قبول أو رفض المعتقدات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بهويتنا وعقلانيتنا وكرامتنا الإنسانية. من هنا يبدو عدم إمكان تنـزيل المعرفة إلى مستوى الأخلاق، وفي الوقت نفسه لا يمكن إنكار العلاقة الوثيقة بين المعرفة والأخلاق أيضاً. من هنا فإن أفضل بيان لهذا الارتباط الوثيق هو البيان القائل: نحن مكلَّفون على المستوى الأخلاقي باتباع القِيَم المعرفية. ومن الجدير ذكره أن بعض علماء المعرفة؛ حيث يرَوْن أن «الإيمان» أمر غير إرادي ولا اختياري، يذهبون من الأساس إلى إنكار وجود مقولةٍ باسم «أخلاق الإيمان». بَيْدَ أنه حتّى مع القول بهذا الفرض يمكن الحديث عن وجود مقولة مشابهة باسم «أخلاق التفكير والتحقيق».

([8]) إن الفصل والتفكيك بين هذه الروابط يعتمد على التعريف الخاص الذي نحمله عن كلّ واحدٍ من هذا الأوصاف. وقد تقدّم التعريف الدقيق لهذه الأوصاف في كتابنا (الدين في ميزان الأخلاق). يذهب الأستاذ مصطفى ملكيان إلى الاعتقاد بأن «المعرفة النفسية» ليست قسيمة لـ «المعرفة الوجودية»، وأن العلاقة «العقلانية» هي من نوع العلاقة «المعرفية». فلو قبلنا بهذه الرؤية ستكون أنواع العلاقات التي يمكن تصوُّر قيامها بين الدين والأخلاق منحصرةً بثلاثة أقسام، وهي: «العلاقة المفهومية»، و«العلاقة الوجودية»، و«العلاقة المعرفية».

([9]) لمزيدٍ من البحث بشأن ضرورة فلسفة الفقه، ومسائله وموضوعاته، انظر: (ملكيان، «فلسفه فقه»، وذلك في: راهي به رهائي: جستارهايي در عقلانيت ومعنويت: 447 ـ 486، نشر نگاه معاصر، طهران).

([10]) إن النـزاع بين المطالبين بالمشروعة والمطالبين بالمشروطة في إيران مثالٌ واضح عن النـزاع بين الأخلاق التقليدية (أي الفقه) والأخلاق الحديثة. انظر في هذا المورد: (آجوداني، مشروطه إيراني، نشر أختران، طهران، 1382هـ.ش).

وهكذا الأمر بالنسبة إلى النـزاع بين فصل الدين عن السياسة وعدم الفصل بينهما. فالذين ينادون بفصل الدين عن السياسة إنما يطالبون بهذا الفصل بالنظر إلى اعتقادهم بوجود الأخلاق المتفوقة على الدين، وتقدّمها على الأخلاق الدينية (الفقه)، وإن وصل الدين بالسياسة أو دمجهما ببعضهما يؤدّي إلى نقض واضمحلال قِيَم الأخلاق العلمانية (الأخلاق ما فوق الدينية). ومن ناحيةٍ أخرى فإن القائلين بعدم الفصل بين الدين والسياسة إنما يذهبون إلى ذلك من خلال التأكيد على تقدّم وأولوية الأخلاق الدينية (الفقه) على الأخلاق العلمانية، وبذلك يعتبرون القول بفصل الدين عن السياسة نقضاً واضمحلالاً للأخلاق الدينية. وفي ما يلي لا بُدَّ من التذكير ببعض الأمور:

1ـ لقد أضحت كلمة «العلمانية» ومشتقّاتها في مجتمعنا شتيمة سياسية، في حين أن الغالبية الساحقة من فقهاء الشيعة يذهبون ـ على المستوى النظري في الحدّ الأدنى ـ إلى مناصرة العلمانية الأخلاقية، ويذهبون نظرياً إلى استقلال الأخلاق عن الدين، بل وتقدّمها على الدين. وإن الذي يؤيد العلمانية الأخلاقية لا بُدَّ وأن يؤمن بالعلمانية السياسية، بمعنى أن الذي يؤمن بأن الأخلاق في ذاتها مقولة تتفوق على الدين لا مندوحة له من القول بأن السياسة في حدّ ذاتها تتفوق على الدين أيضاً؛ لأن العلمانية السياسية من الثمار والنتائج المنطقية للعلمانية الأخلاقية، ويتمّ الحصول عليها من خلال تطبيق الأخلاق ما فوق الدينية على المساحة السياسية. إن مرادنا من الأخلاق العلمانية هي الأخلاق التي لا تنبثق عن الإرادة التشريعية الصادرة عن الله بوصفه مشرِّعاً، ولذلك فإنها تتفوق على الدين. وإن علمانية الأخلاق بهذا المعنى تكون عين علمانية المنطق وقواعد اللغة. فعندما يقال: إن المنطق وقواعد اللغة من الأمور العلمانية فهذا يعني أن هذين العلمين خارجان عن المنظومة الدينية، ويلزمان الحياد بالنسبة إلى الدين وعدم الدين، بمعنى أنهما مستقلاّن عن الإيمان والكفر، ومقدّمان عليهما. إن للعلمانية معاني وأنواعاً مختلفة، ويمكن تقسيمها إلى: معتدلة؛ ومتطرّفة. كما يمكن تقسيم العلمانية من الناحية الدينية إلى قسمين: «معارضة للدين»؛ و«متفوقة على الدين». وإن العلمانية المتطرّفة عبارة عن النظر إلى الأمور المقدّسة في ذاتها بعينٍ دنيوية، وتنـزيل قداستها إلى الأمور الدنيوية. وأما العلمانية المعتدلة فتعني الاعتراف بوجود الحقائق والقِيَم ما فوق الدينية، والنظر إلى الأمور الخارجة عن الدين في ذاتها بوصفها أموراً ما فوق دينية، رغم اعتبارها ـ خطأً ـ من قبل المتدينين من الأمور الدينية.

2ـ إن استقلال القِيَم الأخلاقية عن الإرادة «التشريعية» لله تنسجم مع التفسيرات والقراءات المختلفة في باب مصدر القِيَم الأخلاقية، حيث يمكن للقِيَم الأخلاقية أن تكون مستقلّةً عن الإرادة التشريعية لله، وفي الوقت نفسه تكون صادرةً:

أولاً: عن الإرادة «التكوينية» لله.

ثانياً: عن «الإنسانية» و«العقل» و«الوجدان»، أو «إرادة» الإنسان.

ثالثاً: «الإرادة» أو «الاعتبار» و«تواضع» العقلاء.

وجميع هذه الافتراضات إنما هي في الحقيقة أفهام متنوعة ومختلفة للنظرية القائلة: «إن جميع الأوامر الأخلاقية الموجودة في النصوص الدينية إنما هي أوامر إرشادية، وليست أوامر مولوية أو تعبدية». وعلى هذا الأساس فإن نفي تبعية الأخلاق للدين لا يقتضي في حدّ ذاته القول بأيّ واحد من هذه الآراء، وإن القراءات والروايات المختلفة التي يتمّ أو يمكن الحصول عليها من المباني الأخلاقية ومصادر القِيَم الأخلاقية تعتبر علمانية على جميع المعاني المتقدّمة.

3ـ لا ينبغي الخلط بين «الأخلاق العلمانية» وبين السياسة الخارجية للحكومات الغربية، وسلوك الغربيين تجاه الشرقيين، أو ما يجري حالياً في المجتمعات الغربية. كما لا يمكن الخلط بين الإسلام وبين السياسة الخارجية المتبعة في البلدان الإسلامية، أو سلوك المسلمين تجاه بعضهم، أو تجاه غير المسلمين، أو ما يجري حالياً في المجتمعات الإسلامية. صحيحٌ أن الأخلاق السائدة حالياً في المجتمعات الغربية هي أخلاق علمانية، إلاّ أن جزءاً من سلوكيات الغربيين ـ وخاصّة في مجال السياسة الخارجية ـ يمكن نقدها من زاوية الأخلاق العلمانية؛ لأن الأخلاق العلمانية تنفي مشروعية المعايير المزدوجة. وعلى أيّ حال فإن «الأخلاق الراهنة»، سواء في المجتمعات الدينية أو المجتمعات العلمانية، بعيدةٌ كل البُعْد عن «الأخلاق المثالية»، وكما ينبغي ـ بل يجب ـ الفصل بين الأخلاق الدينية الراهنة وبين الأخلاق الدينية المثالية، كذلك ينبغي ـ بل يجب ـ الفصل بين الأخلاق العلمانية الراهنة وبين الأخلاق العلمانية المثالية. وبعبارةٍ أخرى: إن القائم حالياً في المجتمعات الدينية وفي المجتمعات العلمانية هي «الأخلاق المحقّقة / بالفعل» (actual morality / morals)، والتي تتم دراستها في «الأخلاق التوصيفية» (descriptive ethics)، في حين أن «الأخلاق المنشودة / المثالية» (ideal morality morals) إنما تبحث في «الأخلاق المعيارية» (normative ethics). إن الهدف من هذه الدراسة هو بيان العلاقة بين الدين و«الأخلاق المثالية»، وليس العلاقة بين الدين و«الأخلاق المحقّقة»؛ فإن الأخلاق المحققة، سواء أكانت دينية أم علمانية، هي على كلتا الحالتين بعيدةٌ عن الأخلاق المثالية، ولذلك يمكن نقدها في ضوء الأخلاق المثالية. وإن التعاطي المنصف مع الغرب والحكم الواقعي والمقبول في معرض المقارنة بين الإسلام والغرب إنما يمكن فيما لو أجرينا المقارنة بين الأخلاق الفعلية للمجتمع الإسلامي وبين الأخلاق الفعلية للمجتمع الغربي، أو بين الأخلاق المثالية للإسلام وبين الأخلاق المثالية لدى الغرب. وأما المقارنة بين الأخلاق الفعلية للغربيين وبين الأخلاق المثالية للإسلام فإنها لا تؤدّي بنا إلى إثبات أن واقع المجتمعات الإسلامية من الناحية الأخلاقية أفضل من المجتمعات الغربية.

([11]) source of normativity.

([12]) لو أخذنا بنظر الاعتبار حقيقة أن المراد من حقوق الإنسان إذا كان هو حقوق الناس بغضّ النظر عن أعراقهم أو مذاهبهم وألوانهم وجنسياتهم فيجب القول في مثل هذه الحالة: إن الذين يدَّعون وجود فرق بين «حقوق الإنسان الإسلامية» و«حقوق الإنسان الغربية» إنما ينكرون حقوق الإنسان من الأساس؛ لأن معنى هذا الادّعاء هو أن الإنسان بما هو إنسان ليس له حقّ. وبعبارةٍ أخرى: إن حقوق الإنسان بما هو إنسان مقولة ما فوق دينية. وبطبيعة الحال فإن الإعلان العالمي إنما هو اجتهاد من بعض البشر الذين يجوز في حقّهم الوقوع في الخطأ، ولذلك فإن هذا الإعلان قابل للطعن والتغيير والإصلاح، ولكنّ المسألة هي أن نقد وإصلاح هذا الإعلان العالمي بالاستناد إلى الفتاوى الفقهية ليس ممكناً؛ لأن حقوق الإنسان بما هو إنسان ليست مسألة فقهية حتّى يمكن الإجابة عنها من خلال اللجوء إلى منهج الاستنباط الفقهي. إن حقوق الإنسان من المسائل الفلسفية، والمسائل الفلسفية تستدعي حلولاً وأدلة فلسفية.

([13]) من وجهة نظري إن الحقوق الطبيعية حقوق أخلاقية، بمعنى أنها تنبثق عن الأخلاق؛ لأن أفضل تبرير نمتلكه لصالح هذه الحقوق، والقول بوجوب احترامها، هو التبرير الأخلاقي.

([14]) روى الشيخ الكليني، في أصول الكافي، عن الإمام جعفر الصادق× أنه قال: «يا هشام، إنّ لله على الناس حجّتين: حجّةً ظاهرة؛ وحجّةً باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة^، وأمّا الباطنة فالعقول» (الكافي 1: 15). ورُوي عن الإمام عليّ× أنه قال: «العلم علمان: مطبوع؛ ومسموع، ولا ينفع المسموع إذا لم يكن المطبوع». (نهج البلاغة، قصار الحكم، الحكمة رقم 348). وحيث إن المدركات العقلانية والوجدانية من الإلهامات الإلهية يمكن القول: إن جوهر العلمانية الأخلاقية عبارة عن ادّعاء تقدُّم «حدَّثني عقلي عن ربّي» على «حدَّثني فلانٌ عن فلان».

([15]) من الضروري التذكير بأن الدين والالتزام الديني في حدّ ذاته لا يقتضي أيّ موقف خاصّ في ما يتعلَّق بالارتباط بين الدين والأخلاق، بمعنى أنه ليست هناك أيّ ملازمة بين «التديُّن» و«الاعتقاد بدينية الأخلاق»، وبين «عدم التديُّن» و«الاعتقاد بعلمانية الأخلاق»، فقد يكون الشخص متديناً ومع ذلك يؤمن باستقلال الأخلاق عن الدين، بل وحتّى تقدّم الأخلاق على الدين. ومن ناحيةٍ أخرى، قد يكون الشخص ملحداً وفي الوقت نفسه يرى تبعية الأخلاق إلى الدين، أو أن يقول بقيام الأخلاق على الدين. ومن السذاجة أو التغرير بالعامة إذا فسّر الاعتقاد باستقلالية الأخلاق عن الدين، أو فسّر تقدُّم الأخلاق على الدين، بأنه يعني ضعفاً في الإيمان والاعتقاد، أو أنه يعني الإلحاد والردّة. ومع ذلك فإن الالتزام الديني مَدينٌ في معقوليته إلى القول بنظرية تقدُّم الأخلاق على الدين، وإن «التعهُّد والالتزام الديني» مقولة أخلاقية.

([16]) من زاويةٍ عامة يمكن تقسيم المعايير والقِيَم العقلانية إلى قسمين: قِيَم ومعايير معرفية (أخلاق الإيمان أو أخلاق البحث والتفكير)؛ والمعايير والقِيَم الأخلاقية (أخلاق السلوك). وعلى هذا الأساس فإن الأخلاق بالمعنى الخاصّ للكلمة تعني «أخلاق السلوك»، أو «أخلاق التفكير والبحث» أيضاً. ومرادُنا من تقدُّم الأخلاق على الدين هو تقدُّم الأخلاق بالمعنى العامّ للكلمة على الدين. وفي ما يتعلَّق بهذا المورد انظر: الفصل الثاني من كتابنا (الدين في ميزان الأخلاق). ويمكن تسمية مجموعة الأخلاق السلوكية وأخلاق الإيمان أو أخلاق البحث والتفكير بـ «شريعة العقل». وعلى هذا الأساس فإن مرادنا من تقدُّم «شريعة العقل» على «شريعة النقل» هو تقدُّم مجموع القِيَم والمعايير والضرورات والمحظورات المعرفية والأخلاقية على القِيَم والضرورات والمحظورات الشرعية والفقهية. وقد قدّم لي الأستاذ القدير السيد مصطفى ملكيان توضيحات قيِّمة بشأن مساحة الأخلاق. وسوف أنقل هنا نصّ عباراته تعميماً للفائدة: «بطبيعة الحال في هذه الزاوية العامة تشتمل الأخلاق على أقسام أخرى أيضاً، غير أخلاق الإيمان وأخلاق السلوك، ومن بينها: أخلاق «الأحاسيس والعواطف والمشاعر»، (من قبيل: أن تتوكل على الله فقط، وأن تخشى من ذنوبك فقط، وأن تخرج حبّ الدنيا من قلبك)، وأخلاق «الرغبات» (نية المؤمن خيرٌ من عمله، مثلاً). ومن وجهة نظري سيكون لنا على القاعدة (in principle) فروعاً أخلاقية في الرؤية العامة بعدد المساحات الرئيسة من وجود الإنسان.

ومن الجدير ذكره أيضاً أن مجموع الأخلاق من بعض الاعتبارات ناظرةٌ إلى العمل (العمل بمفهومه الموسّع جدّاً)، وبهذا الاعتبار تكون أخلاق الإيمان والتفكير والتحقيق من أخلاق العمل أيضاً؛ لأنها ترتبط بعمل اسمه الإيمان أو التفكير والتحقيق.

([17]) cogniser/epistemic agent.

([18]) إن التفكيك والفصل بين الركن الخارجي للمعرفة الدينية والركن الداخلي لها، والتأكيد على وجود مثل هذا الركن، والسعي إلى بيان طبيعة وتأثير هذا الركن في بلورة وتحوُّل المعرفة الدينية من الخدمات القيِّمة للدكتور عبد الكريم سروش. انظر في هذا الشأن: (سروش، قبض وبسط تئوريك شريعت «نظرية تكامل المعرفة الدينية»، طهران، مؤسسه فرهنگي صراط).

([19]) يطلق على هذين الدليلين في فلسفة الأخلاق مصطلح: «الدليل الذي يبرِّر العمل» (justifying reason for action)؛ و«الدليل المحفِّز إلى العمل» (motivating reason for action).

([20]) لا نعني بالشهود هنا الشهود الإفلاطوني أو الشهود المصطلح عليه في الفلسفة الإسلامية بـ «العلم الحضوري»، وإنما المراد هو الشهود بالمعنى المصطلح في الفلسفة التحليلية. إن موضوع ومتعلق هذا الشهود أوّلاً وبالذات هو المفاهيم، وثانياً وبالعرض هو المصاديق. وعلى هذا الأساس فإن كان هذا الشهود نوعاً من العلم فهو من العلم الحصولي، وليس من العلم الحضوري. وهناك اختلافٌ بين الفلاسفة وعلماء المعرفة الحديثة في ما يتعلَّق بالطبيعة والمنشأ والاعتبار والمنـزلة المعرفية لهذا الشهود، وكذلك القوّة التي نحصل من خلالها على هذا الشهود. إلاّ أنني أرى أن بعض أنواع هذا الشهود تحظى تحت ظروف معينة باعتبار أولي، وعليه تكون معقولة، وإنْ كان هذا الاعتبار قابلاً للزوال والرفع والخفض بطرقٍ متنوّعة. وللمزيد من التوضيح انظر:

– Audi, R. (1998) «Moderate Intuitionism and the Epistemology of Moral Judgment», Ethical Theory and Moral Practice, 1,1, 15 – 44.

([21]) ومرادنا من العقل هنا هو العقل بمعنى أداة فهم النصّ، والوسيلة لكشف مراد صاحب النصّ (الكاتب)، وكذلك العقل بمعنى المصدر المستقلّ للمعرفة. إن هذين النوعين من العقل لا يمكن التفكيك والفصل بينهما على المستوى العملي، وإنما التفكيك بينهما يكون مجرّد تفكيك نظري؛ لأن العقل الذي يشكِّل أداةً لفهم النصّ يحتاج في فهم مضمون النصّ والتصديق به إلى توظيف المعلومات التي تمّ الحصول عليها أو يمكن الحصول عليها من سائر القنوات المعرفية. فمثلاً: لو ادّعى متكلِّمٌ أو كاتب أمراً، وكان لدينا دليلٌ أقوى من مدّعاه، فإننا في مثل هذه الحالة لن نستطيع القبول بظاهر كلامه، وإذا كنا نعلم أنه شخصٌ عالم، ولا يقول الشيء جزافاً، عمدنا إلى تأويل كلامه، وتخلينا عن المعنى الظاهر منه. وببيانٍ أوضح: هناك الكثير من الآيات القرآنية التي تدلّ بحَسَب ظاهرها على أن الله جسمٌ، من قبيل: قوله تعالى: ﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾، و﴿الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾، ومع ذلك يذهب الكثير من المفسِّرين إلى الاعتقاد بأننا؛ حيث نمتلك أدلّةً أقوى على استحالة أن يكون الله جسماً، نرفع اليد عن هذا الظهور. وإن تلك الأدلة التي نرفع اليد من أجلها عن ظاهر الآيات إما أدلة من داخل الدين؛ أو إنها أدلة من خارج الدين. وفي الحالة الأولى صحيحٌ أن الأدلة مورد البحث هي حصيلة الفهم العقلي الذي هو أداة فهم النصّ، إلاّ أن إدراك التهافت بين جزءين من النصّ، وأسلوب حلّ هذا التهافت، وأصل فهم النصّ، إنما يأتي من طريق العقل الذي هو مصدر مستقلّ للمعرفة. وأما في الحالة الثانية فيكون تدخل العقل المستقلّ في فهم النص واضحاً، من دون حاجة إلى مزيدٍ من الشرح والبيان.

([22]) نهج البلاغة، الحكمة رقم 281.

([23]) كما أشرنا في كتاب «الدين في ميزان الأخلاق» فإن بعض المجدِّدين، من أمثال: الغزالي، كانوا يعتقدون بأن الفقه قد ضيَّق المساحة على الأخلاق، وقلنا: إن هذا الحكم إنما يشرح ـ إلى حدٍّ ما ـ علاقة الفقه بالأخلاق الفردية، وأما في ما يتعلَّق بارتباط الفقه بالأخلاق الاجتماعية فيجب القول: إن الفقه قد حلّ محلّ الأخلاق؛ إذ حتّى مَنْ كان على شاكلة الغزالي ينظر إلى الفقه بوصفه من الأخلاق الاجتماعية.

([24]) moral ontology.

([25]) moral epistemology.

([26]) metaphysical / ontological.

([27]) epistemological / epistemic.

([28]) self – evident.

([29]) basic.

([30]) derivative.

([31]) إن الذي يستخدم تعبير المتبنّيات الأخلاقية والمتبنّيات الفقهية، ويتحدّث عن مقولاتٍ من قبيل: «علم معرفة الأخلاق»؛ و«علم معرفة الفقه»، غير مضطرّ إلى افتراض «النـزعة المعرفية» (cognitivism) في الأخلاق والفقه. كما يمكن لأصحاب النـزعة اللامعرفية (non-cognitivists) في حدود قولهم بنوعٍ من «العقلانية» في الأخلاق والفقه أن يتحدثوا بشأن «المتبنّيات» الأخلاقية والفقهية. كما يمكن لهم التعبير بالحكم (judgment)، بدلاً من التعبير بالإيمان أو التصديق (belief)، وأن يتحدثوا عن تبرير الأحكام الأخلاقية والفقهية والعلاقة بينهما. وقد ذكرت هذا الأمر في كتابٍ لي تحت الطبع بعنوان: (أخلاق تفكُّر أخلاقي) بشرحٍ وتفصيل أكبر.

([32]) لمكان الشبه بين هذا الرأي والوضعية الحقوقية (positivism) يمكن تسمية هذا الرأي بالوضعية الفقهية.

([33]) justification.

([34]) knowledge.

([35]) theoretical justification.

([36]) practical justification.

([37]) يذهب أكثر علماء المعرفة من الحداثويين إلى الاعتقاد بأن التبرير المعرفي لا يستلزم الصدق.

([38]) لقد عقد البحث إلى حدٍّ كبير في باب أنواع التبرير المعرفي وخصائص تبرير المتبنّى أو القضية أو الحكم في مبادئ التفكير الأخلاقي.

([39]) يمكن تعريف المتبنّيات الكلامية ـ الإلهية بمختلف الصور. وإن بعض هذه التعريفات على النحو التالي: «إن كل عقيدة تتعلق بالله والحياة بعد الموت والحياة قبل الولادة والعالم وما وراء العوالم الطبيعية وما إلى ذلك فهي عقيدة كلامية»، و«إن كل عقيدة واردة في النصوص الدينية المقدسة فهي عقيدة كلامية»، و«كل عقيدة منشؤها التعبُّد بما جاء به حملة النصوص المقدّسة فهي عقيدة كلامية». إن دعوى القائلين بتبعية معرفة وتبرير المتبنّيات الأخلاقية لمعرفة وتبرير المتبنّيات الكلامية يمكن تقريرها على أساس جميع هذه التعريفات والتعاريف المماثلة، ولذلك لا يبدو أننا مضطرّون في مقام نقد هذه الرؤية إلى اتّخاذ موقفٍ خاصّ في ما يتعلَّق بتعريف المتبنّيات الكلامية، أو أن نقدِّم واحداً من هذه التعاريف على غيره منها. وهنا أتقدَّم بالشكر الجزيل للأستاذ مصطفى ملكيان على هذه الالتفاتة.

([40]) prima facie justification.

([41]) ultima facie justification.

([42]) وهذا في الحقيقة هو ما كان يقول به العَدْلية (من الشيعة والمعتزلة). وكما رأينا في الفصل الأول من كتابنا (الدين في ميزان الأخلاق) فإن العَدْلية كانوا يفترضون فهماً وتفسيراً خاصّاً لأصل العدل ـ الذي هو أصلٌ أخلاقي ـ، وعلى أساسه يبادرون إلى تفسير أصل التوحيد الذي هو أصلٌ كلامي، وهذا يعني أنهم كانوا يقيمون مضمون متبنّياتهم الكلامية في باب التوحيد والإرادة والقدرة الإلهية من خلال متبنّياتهم الأخلاقية التي اتّفقت كلمتهم عليها.

([43]) في هذا الشأن انظر: الدين في ميزان الأخلاق، الفصل الرابع، الفقرة (4 / 4). إن من أهم قواعد علم الكلام القديم «قاعدة اللطف»، التي تشكِّل قاعدةً للكثير من المتبنيات الكلامية، من قبيل: ضرورة إرسال الرسل وهداية البشر. وإن هذه القاعدة في الحقيقة بيان للقِيَم والمعايير الأخلاقية الناظرة إلى فعل الله والحاكمة على سلوكه.

([44]) كما أن الاستدلال على وجود الأحكام الشرعية يتوقَّف على أن يكون الله والنبي صادقين، وليسا بمحتالين، وأن يكون الأنبياء وملائكة الوحي أمناء. وعلى هذا الأساس إنْ كانت هذه الأمور فاقدة للقِيَم الأخلاقية، أو لم تكن ملزمةً من الناحية الأخلاقية، لن يكون هناك من سبيلٍ يثبت أن الله ورسله واجدون لهذه الأوصاف، وبتَبَع ذلك لن يكون هناك من طريق للاستدلال على وجود الأحكام الشرعية. وعليه فإن مجرد تبعية المتبنّيات الفقهية للمتبنّيات الكلامية لا يستلزم إحلال النقل محلّ العقل، أو إحلال الفقه محل الأخلاق.

([45]) إن من بين الشواهد التي يمكن إقامتها على هذا الادّعاء هي أن اختلاف آراء الناس بشأن المتبنّيات الكلامية والعقائد الدينية أكثر بكثيرٍ من اختلاف آرائهم بشأن الأحكام الأخلاقية؛ فإن الكثير من الناس الذين يتبنّون عقائد كلامية مختلفة أو لا يؤمنون بأيّ مفردةٍ دينية أو كلامية يتمسَّكون بقِيَم أخلاقية واحدة ومتشابهة.

([46]) إن أنصار هذه الرؤية ليس لديهم أدنى تصوُّر بشأن «الأخلاق الاجتماعية»، ويتنـزَّلون بالأخلاق إلى «الأخلاق الفردية»، والعلم بالفضائل والرذائل النفسية، أو المستحبّات والمكروهات، ولذلك فإنهم لا يصرِّحون بأن الفقه بديلٌ عن الأخلاق الاجتماعية. إلا أن اللازم الطبيعي والمنطقي لمثل هذه الرؤية عبارة عن إحلال الفقه محلّ الأخلاق الاجتماعية. وكما تقدّم ـ وبناءً على المعايير الحديثة ـ فإن قسماً من الفقه ـ وهو الذي يعمل على تنظيم العلاقات الاجتماعية (فقه المعاملات) ـ هو نوعٌ من الأخلاق الاجتماعية الدينية.

([47]) إن هذه الأدلّة تقول في الحقيقة: إن حاجة الإنسان إلى الدين والوحي تعود إلى نقصان عقله، وارتهانه للأهواء. وبعبارةٍ أخرى: إن هذه الأدلة تقوم على فرضية أن الهداية الأخلاقية من أهمّ ما يتوقّعه الإنسان من الدين.

([48]) إن علماء الإسلام في ما يتعلَّق بإثبات حاجة الإنسان إلى الوحي، وكذلك في ما يتعلَّق بتقدُّم النقل على العقل، يؤكِّدون كثيراً على وقوع العقل في أسر الهوى أيضاً. من باب المثال: انظر: (المنتظري، باب مفتوح اجتهاد: پاسخي به پرسشهاي دكتر عبد الكريم سروش، كيان: 15). يقول المنتظري: «ثم إن الإنسان ليس عقلاً محضاً، وإنما هو مزيج من العقل والوهم والشهوة والغضب، ومهما تكامل عقله يبقى في لا شعوره أسير الأهواء والرغبات النفسية، وسيبقى واقعاً تحت تأثير التقاليد والأهواء وأنواع الحبّ والبغض والأنا والعناد، إلاّ مَنْ عصمه الله تعالى. من هنا فإن الله تعالى، من منطلق لطفه ورحمته وكرمه، وكونه خبيراً وبصيراً، قد بعث الأنبياء العظام؛ لتنبيه الناس، وتعزيز فطرتهم، وتقوية عقولهم؛ ليخبرهم بالحقائق والمصالح والمفاسد، وعواقب أعمالهم القهرية ـ التي يعجز العقل عن إدراكها واكتشافها ـ، ويرشدهم إلى طريق الوصول إلى السعادة الدائمة… نستنتج من هذه المقدّمات أن العقل وإنْ كان حجّةً شرعية، ورغم إيماننا بأن بعض أحكام الشرع تكون بحكم العقل محكومةً بالزمان والمكان، ومن الممكن بحَسَب الاستنباطات الحصول على ملاكات قطعية بالنسبة إلى بعض الأحكام، بحيث يتغيَّر موضوع الحكم أو يتوسَّع، أو بعد المقارنة بين حكمين متزاحمين وإحراز أهمّية أحدهما يتمّ بحكم العقل إحراز أهمّية أحدهما، ويتمّ التخلي عن الحكم الآخر مؤقَّتاً، بَيْدَ أن أحكام الإسلام لا تقوم على العقل فقط، وإن مجال العقل الأوسع يكون في دائرة الأصول الاعتقادية والأمور الفطرية، وإن المبنى الرئيس في الأحكام الفقهية، حتّى في المعاملات والسياسات والعقوبات، التي هي الأحكام الإمضائية، هو الكتاب والسنّة، رغم أن حجِّية الكتاب والسنّة يتمّ الحصول عليها من العقل. إذن لا يحقّ لنا أن نترك ظواهر الكتاب والسنّة والأحكام القطعية التي وصلت إلينا يداً بيدٍ من طرق خاصة وبطانة الأئمّة المعصومين^ بالكامل؛ لمجرد احتمال محدوديتها». (المنتظري، باب مفتوح اجتهاد: پاسخي به پرسشهاي دكتر عبد الكريم سروش، كيان: 15. والتأكيدات من جانبنا).

هناك في ما يتعلق بهذا الكلام الكثير من الأسئلة والإشكالات التي لا مجال إلى ذكرها، وإنما نكتفي هنا بذكر بعض هذه الأسئلة:

1ـ هل حكم العقل الذي يقول: إن القرآن والسنة حجّةٌ هو حكمٌ مطلق؟ بمعنى:

2ـ هل العقل يقول: إن الظن المستند إلى ظاهر الكتاب (القرآن) والسنّة حجّة في مقابل الظنّ العقلي الأقوى منه أيضاً؟

3ـ هل الإنسان (أ) في ما يتعلَّق بدائرة الفطريات والعقائد، و(ب) في مقام «نقل» الروايات والأحاديث عن المعصومين، وكذلك (ج) في مقام «فهم» و»استنباط» الأحكام الشرعية من الكتاب والسنّة، عقلٌ محض وخالص، أم أنه في هذه المقامات «مزيجٌ من العقل والوهم والشهوة والغضب، ومهما تكامل عقله يبقى في لا شعوره أسير الأهواء والرغبات النفسية، وسيبقى واقعاً تحت تأثير التقاليد والأهواء وأنواع الحبّ والبغض والأنا والعناد»؟.

4ـ إذا كان هناك من طريق للحيلولة دون تأثير الأهواء والنـزعات النفسية في نقل الأحاديث والروايات، وفي استنباط الأحكام الشرعية من ظواهر الكتاب والسنّة، فلماذا لا يمكن توظيف ذات هذا الطريق للحيلولة دون تأثير الأهواء في حكم العقل؟

5ـ لو كان الطريق الوحيد للحيلولة دون تأثير الأهواء والنـزعات النفسية في حكم العقل يكمن في اعتبار وحجّية حكم العقل المشروط بتحصيل القطع واليقين فلماذا لا يكون الأمر كذلك بالنسبة إلى الحكم المستفاد من النقل؟

6ـ ألا يقتضي هذا الشرط عصمة جميع الرواة والفقهاء والمقلّدين؛ كي لا يحصل هناك خطأ في فهم حكم الله والعمل به؟

7ـ لو كان الظنّ النوعي ـ الذي يمكن أن يجتمع مع الوَهْم الشخصي أيضاً ـ في ما يتعلَّق بالأحكام المستندة إلى النقل كافياً فلماذا لا يكون الأمر بالنسبة إلى الأحكام المستندة إلى العقل كذلك أيضاً؟

8ـ هل عدد الأحكام (القطعية) التي وصلتنا من طريق النقل أكثر من الأحكام القطعية التي وصلت إلينا من طريق العقل؟

9ـ هل يحقّ لنا؛ بمجرد احتمال كون بعض الأحكام مطلقة، أن نتخلّى عن جميع القِيَم الأخلاقية المعارضة لتلك الأحكام مرّةً واحدة؟

10ـ لو كان نشاط العقل في الأصول الاعتقادية والفطريات أكثر فأين تكمن مساحة اعتبار العقل العملي، وخاصّة العقل العملي الأخلاقي؟

إن أغلب القِيَم والمعايير المعرفية التي يتبعها العقل النظري في أصول العقائد والفطريات ليست «قطعية»، بل «ظنّية»، وإن الظنّ الذي نمتلكه بالنسبة إلى هذه القِيَم والمعايير من حيث القوة والضعف لا يختلف أبداً عن الظنّ الذي نمتلكه بالنسبة إلى القِيَم والمعايير الأخلاقية. وفي هذه الصورة فإن مساحة أصول الدين لن تختلف عن مساحة فروع الدين، ومن دون العقل الظنّي لا يمكن لنا أن نخطو خطوةً في كلتا هاتين المساحتين.

وطبعاً نحن لا ندّعي وجوب التخلّي عن ظواهر الكتاب والسنّة بشكلٍ كامل؛ لمجرد احتمال محدودية بعض الأحكام. إن اتباع الظنّ المعتبر هو غير اتّباع الحَدْس والظنّ والوَهْم والتخمين ومجرّد الاحتمال. وكما قلنا مراراً: إن مدعانا هو أنه لو حصل التعارض بين الظن النقلي وبين الظن العقلي والتجريبي الأقوى منه هل تفقد ظواهر الكتاب والسنّة ظهورها أو حجِّيتها بحكم العقل العرفي وعرف العقلاء؟

([49]) إن لهذا الدليل جذوراً تاريخية قديمة في المصادر الكلامية والفقهية، إلاّ أن ذكر مثال جديد بهذا الشأن لا يخلو من فائدةٍ. قال الشيخ المنتظري في إجابته عن أسئلة الدكتور عبد الكريم سروش: «النقطة الرابعة: صحيحٌ أن العقل حجّةٌ إلهية وهبها الله للإنسان، بل هو «أمّ الحجج»؛ لأن حجية الكتاب والسنّة إنما تثبت من طريق العقل، وإن الله سبحانه وتعالى في الكثير من آيات القرآن الكريم يحيل الناس إلى التعقُّل والتدبُّر، وقد أنكر على أولئك الذين يتجاهلون المحكمات العقلية، ويتبعون الأوهام والخرافات والأهواء النفسية، ويطيعونها طاعة عمياء. وفي الحديث المرويّ عن الإمام الرضا×: «صديقُ كلّ امرئ عقله، وعدوّه جهله». وفي حديثٍ آخر عرّف العقل بأنه: «ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان» (الكافي 1: 11). ولكنْ يجب الالتفات إلى أن العقل البشري هو مثل وجوده محدودٌ وناقص، ولا يمكنه الإحاطة بجميع نظام الوجود والماضي والمستقبل وعواقب الأمور والمصالح والمفاسد والنتائج القهرية المترتّبة على الأعمال. وعلى الرغم من قطعية حكم العقل الاجمالية في ما يتعلَّق بالفطريات والقضايا الكلية، وما يعبَّر عنه بـ «المستقلاّت العقلية»، إلاّ أنه، بالنسبة إلى الكثير من القضايا الجزئية، ومصالح الأعمال ومفاسدها، وخصوصيات عالم الغيب، والحياة الأخروية، ومعرفة طريق السعادة في النشأة بعد الموت، وكيفيتها، عاجزٌ. من هنا رُوي عن الإمام زين العابدين× أنه قال: «إن دين الله لا يُصاب بالعقول الناقصة». (بحار الأنوار 2: 303). (المنتظري، باب مفتوح اجتهاد: پاسخي به پرسشهاي دكتر عبد الكريم سروش، كيان: 15. والتأكيدات من جانبنا). وانظر أيضاً: (كديور، أز إسلام تاريخي به إسلام معنوي، سنت وسكولاريسم: 428 ـ 429، طهران، مؤسسه فرهنگي صراط). يقول الشيخ محسن كديور: «إن الأحكام الشرعية هي الطريق إلى تحصيل الغايات الدينية المتعالية، وإن الطريق إنما يكون معتبراً إذا كان موصلاً للغاية والقصد. فإنْ أحرزنا بالقطع واليقين (وليس بالظنّ والحَدْس) أن الطريق الآخر لا يؤدي إلى الغاية سقط عن الاعتبار… ومضافاً إلى ذلك فإن حصر الأحكام الدينية بالأحكام الثابة والعادلة والعقلائية الموجودة في الكتاب والسنّة تحصّننا من السقوط في مغبة العقل الظنّي ولوازمه». (ذات التأكيدات من جانبنا).

في مقابل هذه الكلمات يمكن لنا أن نتساءل:

1ـ إذا كانت ظنية حكم العقل بمعنى ضعفه الكمّي فلماذا لا تكون ظنية النقل بمعنى ضعفه الكمّي أيضاً؟

2ـ لو كان تأثير الوحي في حياة الإنسان متوقفاً على فهم وإدراك مضمونه ومفاده من طريق العقل فكيف يتمّ في مثل هذه الحالة جبران نقصان العقل من طريق الوحي؟

3ـ هل عجز العقل عن اكتشاف حكم الله يستلزم عجزه في الكشف عن بطلان وعدم صوابية الفهم والتفسير الخاصّ لحكم الله أيضاً؟

4ـ هل ثبت أصل الأحكام الشرعية وشمولها للعالم الجديد بالقطع واليقين حتّى يكون رفع اليد عن تلك الأحكام متوقِّفاً على القطع واليقين؟

5ـ هل القول بـ «التشكيك الأخلاقي» أسلوبٌ مناسب للدفاع عن «الواقعية الفقهية»؟ وهل «التشكيك الأخلاقي» يؤدّي إلى «التشكيك الفقهي» من الناحية المنطقية؟

6ـ ما هو اختلاف العقل الظني عن النقل الظني حتّى يجب تجنُّب السقوط في مغبته ولوازمه؟

7ـ وأخيراً، هل يمكن أساساً إثبات عدالة أو ظلم، وعقلانية أو عدم عقلانية، حكمٍ ما، على نحو القطع واليقين؟

باعتقادنا يجب عدم ربط مصير حقوق الإنسان وسائر القِيَم الأخلاقية، وبتبعها الأحكام الشرعية، بقطع الفقهاء ويقينهم؛ وذلك لأن هذا القطع إنما هو معلّل وليس مدلّلاً. وفي ما يتعلَّق بالمعنى الصحيح للحديث القائل: «إن دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة» انظر: كتابنا (الدين في ميزان الأخلاق) «دين در ترازوي أخلاق»، الفصل الرابع، الفقرة (4 / 3 / 2).

([50]) self – deception.

([51]) كما كان العرفاء من المسلمين يؤكِّدون على وقوع العقل في مخالب الأهواء والطمع والشهوة والغضب، ويبحثون عن سرّ حاجة الإنسان إلى «الدين» و«المحبة» في هذا الأمر. وإن الحلّ الذي يقدِّمونه لتحرير العقل يكمن في الإيمان والتسليم لله والأنبياء، والحلّ الآخر هو الحبّ. ولكنْ من الواضح أن العرفاء لم يكونوا يعرفون العقل والعقلانية الأخلاقية، وإن العقل الذي كانوا يذمّونه هو العقل الآلي المصلحي والنفعي والأناني. وكانوا يرَوْن أن هذا العقل يحول دون عودة الإنسان إلى الدين وسماع دعوة الأنبياء، كما يمنع من المحبة، ويعتبرها مصدراً للغرور والعصيان والتكبُّر والتفرعن والطغيان والاستغناء عن الأنبياء. ولكنّ العرفاء ـ خلافاً للفقهاء ـ لا يأمرون بتعطيل وإلغاء العقل، وإنما يؤكِّدون على تحريره. ويبدو أنه تأكيدٌ في محلّه تماماً، رغم أننا سنرى أن تحرير العقل إنما يعني تحريره من أسر العقل الاقتصادي والآلي. وإن الدين والحبّ وإنْ كانا يلعبان دور المساعد في هذا المورد، إلاّ أن الفهم الصحيح للدين من جهةٍ، وصفات وخصائص المعشوق والمحبوب من جهةٍ أخرى، تلعب دوراً هامّاً في هذا الشأن. من هنا إذا لم يكن التديُّن مقروناً بالفهم الصحيح للدين، وإذا لم يكن الحبّ مصحوباً باشتمال المعشوق على السجايا والكمالات الأخلاقية، فإن النتائج المترتّبة على هذا الدين وهذا الحبّ ستكون معكوسةً، وسوف يعملان على التسريع من انحطاط الإنسان أخلاقياً. ولبُّ الكلام هو أن تأثير الدين في تهذيب أخلاق الإنسان رهنٌ بأن يعتقد الفرد بتقدُّم الأخلاق على الدين. وقد يتوقَّف تأثير الحب في تهذيب الأخلاق على أن يختار الفرد معشوقاً متّصفاً بالفضائل والسجايا الأخلاقية. إن لتقدُّم الأخلاق على الدين فرضيتان:

1ـ وجود واعتبار العقل والعقلانية الأخلاقية؛

2ـ تقدُّم العقل والعقلانية الأخلاقية على العقل والعقلانية الاقتصادية.

([52]) وانظر أيضاً: الأنعام: 43؛ النحل: 63؛ النمل: 24؛ العنكبوت: 38.

([53]) انظر: الشرح التفصيلي لرؤية الأشاعرة في الفصل الأول من كتابنا (الدين في ميزان الأخلاق)، الفقرة (1 / 2).

([54]) في اعتقادنا إن الأكثرية الساحقة من علماء الشيعة يلتزمون في أعماق ضمائرهم بهذه النظرية، رغم أن القليل منهم يصرِّحون بولائهم وتبنّيهم لها.

([55]) رحيم پور أزغدي، پيامبران بي حواس ودين در حاشيه، مدارا ومديريت: 679. (التأكيدات المضافة من جانبنا).

([56]) المصدر السابق، 670.

([57]) في ما يتعلَّق بالتناغم بين الإسلام والليبرالية انظر: (ملكيان، معنويت گوهر أديان (1)، سنّت وسكولاريسم: 276 ـ 306، طهران، مؤسسة فرهنگي صراط).

([58]) انظر: رحيم پور أزغدي، پيامبران بي حواس ودين در حاشيه، مدارا ومديريت: 670.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً