أحدث المقالات

أزمات أمّة

دراسة في انهيار الحضارة الإسلامية

السيّد صادق عبّاس الموسوي(*)

المقدمة

الحضارة هي الانعكاسات المادِّية والتجلِّيات الثقافية المتجّذرة قدماً في مجال معيَّن، منذ رجال الحضارة الأوائل وروَّادهم الملهمين، كمحمد في الإسلام وبوذا في الصين. أما النهضة، بشكل عام، فتعني انتقالاً من مراحل الظلام والجهل إلى مراحل العلم والنور. وعلى هذا الأساس تعدّ النهضة الأوروبية انتقالاً من ظلام القرون الوسطى إلى عصر التنوير(1)، لذا فالنهضة هي حركة متولّدة في السياق التاريخي للأمّة ومنبّثة من داخل الحضارة، بوصفها عاملاً للتجديد والتقدم بعد النكوص والتشرذم.

إن المشكلة التي يمرّ بها كل شعب، في جوهرها، هي مشكلة حضارته، ولا يمكن لشعب أن يفهم مشكلته أو يحلها ما لم يرتفع بفكرته إلى مستوى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمّق في فهم العوامل التي تبني حضارته(2)، وما لم يتفهم ثقافته على نحو مستقل. فلكل حضارة مفاهيمها وثقافتها وتطلُّعاتها المتبلورة عند أبنائها في اللاوعي المكتسب من التربية، فسلوك الفرد وأسلوب الحياة يختلفان باختلاف المجتمع، ويختلف تفسير الظواهر وفهمها تبعاً لأفراد الحضارة، فالرُّؤية الأخلاقية عند المسلمين تختلف عن المظاهر الجمالية عند الأوروبيين وتستقل عن التربية الروحية عند الهنديين. فروايات شكسبير، مثلاً، حيث تنتهي عبقريته إلى العقدة ليقتل الحبيب حبيبته وينتحر، تثير في المتفرج الأوروبي أعظم قدر من الانفعال، أما المتفرج المسلم فانفعاله واستعداده للتقبل مختلفان(3)، فيستنكر بينما الأوروبي يشفق، ويضحك بينما الغربي يبكي، ويعدّ موقف الحبيب إجرامياً بينما يعدّه الآخر رومانسياً.

إذاً، لكل حضارة ثقافتها، ولكل ثقافة بناؤها التربوي والفكري المستقل الذي يجب أن يرتبط مع الآخر بوشائج عرضية لا طولية، أي بحوار وتبادل لا بفرض وإسقاط. فالعالم تتقاسمه حضارات مختلفة وأمم متنوعة، متفاوتة في القوة والضعف، يزدهر بعضها ويختلف بعضها الآخر سنَّة تاريخية مقنَّنة وثابتة.

وما يجعل الأمّة قوية غالبة بين الأمم(4) ليس منازلها ولا ملابسها ولا مراكبها ولا مرافق حياتها الناعمة… بل هو المبادئ التي تقوم عليها حضارتها ورسوخ هذه المبادئ في القلوب وهيمنتها على الأعمال، والأمّة التي تتوافر فيها هذه الأمور فإنها لا جرم تكون غالبة بين الأمم. وقد تكرّست الغلبة منذ الحضارة اليونانية مروراً بالعصر الإسلامي وصولاً إلى ما يُسمّى القرن الغربي،  فكان لكلِّ زمان أمّة. كما كانت الغلبة نوعان: أحدهما الغلبة المعنوية والخلقية والثاني الغلبة المادية والسياسية. أمَّا الغلبة، من النوع الأول، فهي أن تتقدم أمّة من حيث قواها الفكرية والعلمية تقدّماً يجعل سائر الأمم تؤمن بأفكارها، فتتغلب نظراتها على الأذهان، وتستولي منازعها ومعتقداتها على المشاعر، فتكون “الحضارة” حضارتها و”العلوم” علومها و”التحقيق” ما تقوم به و”الحق”، ما هو عندها حق. أما الغلبة من النوع الآخر فهي أن تصبح أمّة من شدّة الصولة والبأس باعتبار القوة المادية بحيث تعود الأمم الأخرى لا تستطيع أن تحتفظ باستقلالها السياسي إزاءها(5). ومن الجلي أن النوع الأول أخطر وأصعب وأكثر بطشاً وفتكاً من الآخر، وهو كجهاد أكبر في مقابل الجهاد الأصغر، وغزو فكري خفي مقيت يُردي النفوس ويقارع الألباب ويزلزل العقائد والأفكار، ومن الصعب مواجهته، في مقابل سيطرة عسكرية محسوسة وجليّة، مهما استعصت يمكن مواجهتها – انهيار الدائرة الاستعمارية مثلاً – فالمسلمون احتاجوا إلى ثلاث سنوات (711 – 714) ومعركة واحدة (غوادليت قرب قابس) لعبور أسبانيا برمّتها(6)، وذلك لأنها كانت تعيش حالة تخلُّف حضاري كبير.

إن المسلمين يعانون اليوم العبودية المضاعفة من النوع الأول، ويمكن استشراف بداية السقوط هذا – ولو أنه غير ثابت بل تراكمي وتدريجي – منذ ذلك اليوم (سنة 1492 السنة نفسها التي كان يدشن فيها كريستوف كولومبس حرباً صليبية في مكان آخر من الأرض) الذي سلّم فيه بو عبديل غرناطه إلى الملك فرديناند وإيزابيل محطماً آخر مملكة إسلامية في الأندلس، حيث نام قصر الحمراء مثل “الجميلة النائمة في الغابة”، فكانت بداية سقوط حضارة امتدت في ما بين القرنين الثامن والخامس عشر، حيث كانت – كما وصفها الكاتب الأسباني بلاسكو إيبانيز – أجمل وأغنى حضارة وجدت في أوروبا حتى ذلك التاريخ(7).

هكذا بدأت القلاع الحضارية والحصون الثقافية للمسلمين بالسقوط، تزامن ذلك مع نمو مطَّرد للغرب – أوروبا – خصوصاً بعد الحد من تعنّّت الكنيسة والاكتشافات الجغرافية والأخذ بالمنهجية العلمية، حيث شهد قفزات حضارية متتالية، بدأ مدّها يحط رحاله على مراسي الشرق البالية.

في بداية المواجهة الحضارية المحتَّمة، ارتفعت الأصوات عالياً إنذاراً للشعوب الإسلامية وتبنِّيها لها، وقد ظن المستغيثون أنَّ صيحات الاستغاثة ستحقِّق ما حققت في القرن الحادي عشر؛ حيث واجه المسلمون الصليبيين، لكنهم أدركوا أن المسلمين يغطّون في نوم يشدّ الأجفان، وقد تفاوتت تلك الدعوات بين وثبة فرد واحد متوثِّب الشعور والحس وبين وثبة بلد أو قطاع استبسل في وجه الغزاة، وقد أجاد مالك بن نبي حين أطلق على أولئك الرجال اسم الأبطال، حيث لمع جمال الدين الأفغاني والمهدي الكبير في مصر والسودان، ومحمد سعيد الحبوبي ورجال النهضة الإسلامية في العراق، والحركة السنوسية في ليبيا، وعبد الكريم الخطابي في المغرب وفضل الله النوري في إيران(8)، وقد شقت كلماتهم طريقها كالمحراث في الجموع النائمة، فأحيت مواتها وألقت بذوراً بسيطة: فكرة النهضة، ولكن من بين تلك الحركات والاتجاهات ما أجهضها الأشخاص الذين ورثوها، ومنها ما استأصلها ضيق نظر وقلة تمرّس روَّادها وقلَّة تمرّسهم، ومنها ما أضعفتها وحجّمتها الحكومات الساهرة على الهدوء، وعاقبتها كونها من “مقلقي النوم العام”.

ومن غرائب ما ارتآه بعضهم أن قالوا: خذوا من الغرب محاسنه واتركوا مساوءه، كأن المسألة انتقائية، فالحضارة جهاز مترابط لا يمكن تجزئته أو فصل أعضائه بعضها عن بعض، فحيث ترد فإنها تأتي بحسناتها وسيئاتها وليس بالإمكان وضع رقيب على الحدود يختار الحسن ويطرد السيئ(9)، ولسوء الحظ أن المسلمين – عموماً – أخذوا الكثير من مساوئ الغرب والقليل من منافعه الحضارية. هكذا وفي حقبة تاريخية محدّدة عاش الغرب حالة نهوض لنفسه وعاش الشرق حالة مناهضة لذاته، وصل الأول لسلَّم التفكر الحضاري وتدنَّى الآخر إلى مستوى الانسحاق الحضاري.

لقد ولّد ذلك شعوراً بأنّ الخلل بات قائماً على المستوى الداخلي للأمّة، وعيها وشعورها بالمسؤولية وشخصيتها المعنوية، وما لم يتغير هذا الواقع الذي طرأ على شخصية الأمة، فإن أي جهد آخر مهما بدا كبيراً، فإن آثاره الإيجابية ستضعف تحت مطارق الهجمة الحضارية الجديدة وما تمتلك من أدوات ووسائل.

والحقيقة تقال: إنهم منذ زمن لا يعالجون المرض، وإنما يعالجون الأعراض، كمن يواجه مرض السل الجرثومي، فلا يهتم بمكافحة الجراثيم، وإنما يداوي هيجان الحمّى عند المريض(10). لذا فقد اختلفت الحركات الإصلاحية ورجال النهضة في تحديد سبُل التقدّم، فقد كانت دعوات الحركات الإسلامية السلفية ترى أنّ سبب تخلّف العرب والمسلمين وضياع مجدهم هو الابتعاد عن نقاوة دينهم وشيوع البدع والضلالات التي دخلت معتقداتهم، لذا جعلت هدفها الأول تنقية الدين الإسلامي من هذه الشوائب والعودة إلى منابعه الأولى… أما الدعوات “الإصلاحية” في أواخر القرن التاسع عشر التي قادها الأفغاني ومحمد عبدو، فرأت أن تخلُّف المسلمين نابع من عزوفهم عن الأخذ بأساليب الحضارة الغربية والجانب المادّي منها بشكل خاص، لذا دعتهم إلى أن ينهلوا منها بما يفيد دنياهم على أن لا يتعارض ذلك مع معتقداتهم وتقاليدهم، وفي الوقت نفسه اعتماد الإسلام دستوراً لحياتهم(11). وقد كانت دعوات الإصلاح إمَّا أن تقف عند حدود التنظير للمسائل الاجتماعية، فيشير روَّادها إلى موطن الخلل في سبيل تخطِّيه مثل مالك بن نبي أو نتخطى ذلك، فيمتلك روَّادها قابليّة التخطيط والتنظير لتلك الدعوات مع قدرة على تنفيذ تصوراتهم الفكرية، من خلال مشاريع عملية، مثل الخميني والمودودي وحسن البنّا وغيرهم(12).

وبعد أكثر من سبعين حولاً من نداءات الأفغاني وتأوُّهات محمد عبده، ظهرت في الأثير صرخة مدوِّية حاملة معها مشروعاً متكاملاً لنهضة الأمّة، لكنها أطفأت في أوج نموها ولمعانها، وكانت من محمد باقر الصدر – رائد الإصلاحيين الجدد – الذي حاول تأسيس مشروع متكامل لنهضة الأمّة الإسلامية في الفكر والمنهج والاقتصاد وغيرها، لكن صوته لم يجد صداه الحقيقي إلى الآن، وقد وضع الصدر تصوُّرين عن وضع الأمّة المسلمة وعلاجها:

أولاً: مرّة يفترض أن أزمة الأمة مكرّسة في انحراف جزء من حياة الأمّة المسلمة عن الإسلام، كما في حالة انحراف الحكم عن قوانين الإسلام أو في حالة الانحراف الجماعي وما إلى ذلك، مع احتفاظ الأمّة بالإسلام، بوصفه  قاعدةً فكرية لها، منطلقاً للتشريعات الدستورية، ويكون العلاج بقيام دعوات إصلاحية تهدف إلى معالجة ظواهر الشذوذ في الإسلام.

ثانياً: مرّة أخرى يفقد الإسلام مركزه من القاعدة الأساسية، ويُستبدل بغيره من القواعد المعادية، فإن الدعوة الإسلامية في هذه الحالة يجب أن تكون انقلابية، وهذا هو الواقع الذي تعيشه الأمّة منذ الحرب العالمية الأولى؛ حيث قوّض المستعمرون الدولة الإسلامية… فأُقصيت العقيدة عن موقعها من القاعدة، ووضعت في أطر سياسية وفكرية غريبة عن عقيدتها، من ذلك الرأسمالية الديمقراطية والاشتراكية اليسارية والقومية(13)

لقد كانت تأملات الإصلاحيين الجدد وتطلعاتهم هادفة ورائدة في سبيل العمل على الإصلاح، وقد خرجت سامية وصادقة من قلب المعاناة محاولاتٍ لصبّ قالب النهضة. ولكن بعد أن غرق المسلمون في واحات الغرب وتطلعاته وثقافته، وغزت سفن الاستعمار سواحل البلاد، كان لا بد من حملات انقلابية شاملة تعيد للأمّة بريقها وللإسلام شعاعه.

وبعد ذلك السقوط، كان من الصعب والسهل في آن أن تحدَّد الأسباب، فالصعوبة تكمن في أن الإخفاق ليس شيئاً ثابتاً بل عملية متنوعة، والسهولة في إمكان حصر ذلك في عناوين رئيسة. وبعد قراءة متأنّية للحضارة وإخفاقها والنهضة وشروطها، أمكن حصر هذا الانكسار في ثلاثة أسباب أساسية تتمثل في عناوين عريضة تطوف حولها جميع الأزمات وتطفو عليها جميع النكبات، وهي أزمة الثقافة والدين والسياسة.

 

أولاً: أزمة الثقافة

لا ريب في أنّ أزمة الثقافة والنخبة تمثّل أزمة كيانية تصيب المجتمع برمَّته، فتحيله جسماً موبوءاً هائماً على أطياف الماضي، طائفاً في ربوع الحضارات الأخرى، فنظام المجتمع هو في اكتمال النخبة وسلامتها وصلاح الثقافة ونقاوتها، وإذا ما أصاب الوهن أحد البناءين المذكورين فإنّ الانهيار والسقوط سيكونان رهينة الأيام ليس إلاّ.

بداية، لا بدّ من التمييز بين مصطلحي الحضارة والثقافة، وهذه المقاربة أخذت حيّزاً مهماً من البحث والدراسة ابتداءً مع “ألكسندر دو همبولت” (1845) الذي جعل الحضارة معادلة للجوانب التقنية والمادية بقدر ما جعل الثقافة متميزة بالنواحي الإيديولوجية والمعنوية، ثم أخذ مفهوم الثقافة كيانه مع علماء “الإنثروبولوجيا الثقافية”، ثم مع جماعة المدرسة “البنيوية” وغيرهم. أما في عالمنا الإسلامي فمن أبرز من قام بمقاربة جديّة للتمييز هو المفكر علي عزّت بيغوفيتش في كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب”، فالحضارة هي التبادل المادي بين الإنسان والطبيعة وهي تأثير الإنسان على الطبيعة أو العالم الخارجي، بينما الثقافة تبدأ بالتمهيد السماوي بما اشتمل عليه من دين وأخلاق وفن وفلسفة، وهي تعني علاقة الإنسان بالسماء، وتعبّر عن تأثير الدين على الإنسان أو تأثير الإنسان على نفسه، الحضارة هي فن العمل والسيطرة وصناعة الأشياء صناعة دقيقة والتغيير المستمر للعالم، بينما الثقافة هي الفن الذي يكون به الإنسان إنساناً، والخَلق المستمر للذات(14).

وقد أسهب عدد كبير من المفكرين، في محاولات لبلورة مقاربة نظرية للمفهومين، يمكن تلخيصها في أنّ الحضارة هي الآثار الماديّة للحياة الاجتماعية، أي المؤسسات الاقتصادية والسياسية والصناعية وغيرها، والثقافة هي المعتقدات والعادات والتقاليد والتراث الفكري والعاطفي الذي تمتدّ جذوره في المجتمع(15). وبما أنّ الثقافة هي بمثابة القاعدة للحضارة، فالحضارة عند انهيار الثقافة لا تتوقف عن التقدم والنمو فحسب بل تتراجع وتضمّحل تدريجياً.

وفي الحديث عن النهضة، تشكّل الثقافة ركناً أساسياً وحجر الزاوية الرئيس في تكوين المجتمع والأمة، فهي البناء التحتي للحضارة أو كما يقول ماوتسي تونغ: هي الانعكاس من حيث المفهوم للمجتمع، وهي الباب الذي يفتح الطريق لفهم الحضارة من قبل الآخرين، والسبيل الذي يؤدي إلى تجسير العلاقة بين الحضارة وذواتها. ولتحديد حقيقة الثقافة يمكن الرجوع إلى وليان أوغبرن الذي يرى أنها تتكوّن في مجالين:

       الأوّل: الثقافة المادّية: مجموع الأشياء وأدوات العمل والثمرات التي تخلقها.

       الثاني: الثقافة المتكيّفة: الجانب الاجتماعي كالعقائد والتقاليد والعادات والأفكار واللغة والتعليم(16).

والسؤال الذي يطرح هنا هو: إن فساد الثقافة وانحلالها وتراجعها وما يستتبع ذلك من انعكاسات على المجتمع، هل يمكن مداواته وإصلاحه والوصول به إلى مرحلة “إعادة إنتاج الثقافة” من الجانب الأول أو الثاني من هذين المجالين؟ وقد اختلف المفكرون في ذلك، فيرى أوغبرن أنّ التغيير إنما يبدأ في مجال الأشياء والأدوات ويمتد تأثيره إلى الجانب الاجتماعي، فالشيء يخلق الفكرة وتصوّر زوال الأشياء يتبعه انهيار الثقافة كأنّها بناء قُوِّض أساسه(17). وهذا الرأي يعود إليه العديد من ناشطي النهضة، أمّا مالك بن بني – كما العديد من أصحاب المشاريع النهضوية مثل المودودي وادوارد سعيد – فيعلن أن التغيير يبدأ في ميدان الأفكار وأن ما ينقص المجتمعات هو الحفاظ والنهوض بعالم الأفكار لا عالم الأشياء (مصاديق الإنتاج الماديّ)، مستدّلاً على ذلك بأن ألمانيا شهدت بعد الحرب العالمية الأولى انهياراً كاملاً لعالم الأشياء، ولكنها استطاعت من خلال الاحتفاظ بعالم الأفكار أن تبني كيانها مجدداً، فالمشكلة الأساسية هي في عالم الأفكار ومن يستطيع الحفاظ عليه قائماً على أسس سليمة سيتمكن من التقدّم والاستمرار.

أمّا محمد عبده وجمال الدين الأفغاني فقد دعوا إلى الاحتفاظ بخصوصية عالم الأفكار والعمل على تجديده، والاستفادة، في الوقت نفسه، من التقدم الحاصل في الغرب في عالم الأشياء، وهذه دعوة – كما أظّن – طوباوية مثالية تفتقد للقدرة التطبيقية، لأن الحضارة – كما سلف – كلٌّ متماسك مترابط لا يمكن فصل أجزائه، فيكفي ثلمٌ واحدٌ في المكوَّن الحضاري لأمّة حتى يخترق أركانه ويردي بنيانه. أمّا لو أرادت الأمّة أن تحتفظ بشخصيتها الثقافية ورؤيتها الحضارية، فلا محيص من تشييد الجدران الثقافية المستقلَّة لتحمي الحصون الحضارية.

والحقيقة تُقال: إنَّ الابتذال الحضاري هو ثمن الانحطاط الثقافي، ولو استمر هذا الانهيار والسقوط في جدران الأمّة الإسلامية المهترئة، فستصبح – بل وأصبحت – مادّة يدرِّسها الأنتروبولوجيون على غرار المجتمعات البدائية المتخلِّفة، ولا سبيل إلى إعادة إنتاج ذاتنا وبناء مفاهيمنا وتصوّراتنا إلا بالعمل على تشييد أسس ثورة ثقافية إسلاميّة تكون جسراً للنهضة، فالصين لم تتمكّن من التطوّر والنهوض إلا بعد ثورة ماوتسي تونغ الثقافية، وهي كانت خرجت لتوّها مثقلة من السطوة اليابانية، وأوروبا لم تستطع أن تزيل عن نفسها غبار التخلّف إلاَّ بعد الثورة الثقافية مع روّاد نهضتها، ويمكن الرجوع لتأكيد ذلك إلى ما كتبه إدوارد سعيد في مؤلّفه “الثقافة والإمبريالية”، حيث يقدِّم نظريته في هذا الكتاب، وهي أنّ “الثقافة قد أدّت دوراً مهمّاً جداً بل لا غنى عنه بحق، فلقد كانت تقبع في السويداء من الثقافة الأوروبية إبّان العقود العديدة من التوسّع الإمبريالي…” هذه العملية الثقافية بوصفها نقطة طباق حيوية ومفعمة ومنشِّطة للآلة السياسية والاقتصادية الكامنة في المركز المادي من الإمبريالية، ولقد قامت هذه الثقافة بترميز كل شيء يتعلق بالعالم غير الأوروبي وتقنينه ولحاظه بقدر كبير من الإتقان والتفصيل، حيث لم تترك إلاَّ القليل من الأشياء من دون مساس و إلاّ حفنة من الثقافات من دون دراسة و إلا بضعة من الشعوب والبقاع من دون استيلاء(18).

فالحركة الاستشراقية والأبحاث والتحاليل العلمية في العلوم الاجتماعية والطبيعية ودراسات المناهج وغيرها، كانت القاعدة التي ارتكزت عليها الحضارة الغربية وأقامت عليها أركانها، وهذه القاعدة متلاشية، فاقدة لجوهرها ومسلوبة عن الأمّة الإسلامية (0.3% من الدخل الوطني مخصص للبحث العلمي) واهتزاز الأركان يؤدي لا محالة إلى تصدع البنيان.

على المقلب الآخر من المشهد الثقافي، تتمظهر الأزمة في منتجي هذه المادة، أي ما يُسمّى بالمثقفين أو بمصطلح أكثر رقيّاً وأقل دلالة “النخب”، فإن صلاح هذه الطائفة نجاحٌ للأمّة وفسادهم هلاك لها.

يقول الدبلوماسي الأمريكي “جورج كينان”، في تحليله للوضع العالمي في كتابه “روسيا والذرّة والغرب”: إنَّه “في البلاد المتخلفة التي ما زالت حتى الآن ضمن مناطق النفوذ، لم يعد السلاح أو عائدات البترول بكافيَيْن لتدعيم هذا النفوذ، إنّما هي الأفكار وحدها”(19). لذا، فقد أدرك الغرب أنّ وجهة السيطرة هي العالم الإسلامي ومادتها هي الثقافة ووسيلتها الرئيسية هي المثقفين. ومن البديهي أن إنجاز الوسيلة أساس العمل، وكلّما كانت ناجزة وسليمة كان الوصول إلى الهدف أكثر تأكيداً وسرعةً.

سابقاً، كان من المتعارف عليه أن الأجسام تتناقل الأمراض عبر العدوى، ولكن منذ “باستور” و”كاخ” عرفنا أنَّ الجراثيم هي التي تنقل المرض، وكما في التشريح البيولوجي، في التحليل الإنساني، هناك جراثيم ناقلة للأمراض الاجتماعية تهدم كيان المجتمع وتعوِّق نموّه، فالأفكار في المجتمع على صورتين، إمّا تؤثر بوصفها عوامل نهوض بالحياة الاجتماعية، وإما تؤثّر عكس ذلك بوصفها عوامل ممرضة تجعل النمو الاجتماعي مستحيلاً(20)، وهذه المشكلة أساس الأزمات حتى أنَّ السموم التي تبثّها النُّخب المتثاقفة لهي أشدّ من المُعدي، لأن ضحاياه عدد محدود أما الآخر فموبوؤوه في ازدياد مطرِّد. والحقيقة هي أنّ مشاكل المثقفين عندنا بالمقارنة مع مشاكل الغربيين تبدو مُضاعفة لأن ثقافة الغربي منسجمة مع حضارته، وبالتالي لا يعاني من اهتزاز في الشخصية، أمّاَ نحن فمشكلتنا مضاعفة؛ حيث أن سطوة الغرب الحضارية تثقل نفوسنا المهترئة وحضارتنا المنسية أضحت في عُهدة المؤرّخين، فتنتمي إلى أساس انتهى عصره(21)، ما حدا بالفصيلة النخبوية إلى أن تقتات من فتات الآخرين، وإلى أن تستلهم من معينهم، وتحتذي تجربتهم وأفكارهم، وتقتبس قضايا أساسية تصيب جسد الأمّة بالصميم كالقوميّة والعلمانية وقضايا المرأة وغيرها من الأفكار ذات الجذور والمنابت الغربية، وأساس الأزمة يتجلَّى في محاولة إسقاط هذه المفاهيم وتركيبها في أذهان العامّة، من دون نظر إلى دوافعها وعوامل نشأتها، فبرز في أفق الساحة “متفاكرون” رفعوا لافتات مقتبسة من الخارج، ادّعوا أنها شعارات النهضة وسُمّوا بروّادها، وقاموا بنشر ما اجتزُّوا من الغرب عندنا كأحمد فارس الشدياق وسليمان البستاني وجرجي زيدان ويعقوب صروف وفارس نمر، فقد كان علمهم كمن جاء بشجرة ملؤها الثمر وعلى أغصانها الشوك وزرعها في أرض لا تصلح لها، فيبست وتساقط الثمر ولم يبقَ إلا الشوك ليؤذي أهله.

لقد حاول العديد من علماء الفكر إصلاح الفساد الثقافي، وحدّدوا داء هذه المادّة، حيث يرى مالك بن نبي، في “مشكلة الثقافة”، أننا وقبل خمسين سنة كنّا نعرف مرضاً واحداً يمكن علاجه وهو الجهل والأميّة، ولكنا أصبحنا نرى الآن مرضاً جديداً مستعصياً هو “التعالم”، فقد ظهر أنموذجان من المثقفين يمكن رؤيتهما:

الأول: حامل المرقّعات ذو الأطمار البالية، وهذا يمكن علاجه.

الثاني: حامل اللافتات العلمية، وهذا لا سبيل لمداواته، لأنه لم يتقن العلم ليصيّره ضميراً فعّالاً، بل ليجعله آلة للعيش وسُّلماً يصعد به، وجاهل هذا النوع لا يقوِّم الأشياء بمعانيها ولا يفهم الكلمات بمراميها، وإنّما بحسب حروفها، فهي تتساوى اذا ما تساوت حروفها، فـ”لا” مثل “نعم” لأن حروفهما متساوية”(22).

هكذا غرقت أمّتنا في ظلام ثقافي مقيت، وما زاد من برح ألمِها ظهور هذه الطبقة من المتثاقفين باسمها، ليثقلوا على مراكبها البالية. وتبدو الخطوة الأولى في مسار النهوض والفعل متمثِّلة في “تشكيل النخبة المسؤولة والمقتدرة ذات الدور التكويني المورَّث كالخميرة في العجين، ذلك أن نظام المجتمع هو في اكتمال النخبة وسلامتها، لكنها ليست النخبة القاصرة والمتغرِّبة، بل النخبة التي تجعل من الثقافة قدوة للسياسة لا تابعاً لها، ناقداً لممارستها لا أجيراً في خدمتها”(23).

 

ثانياً: أزمة الحكم والسِّياسة

لعلّ السبب الرئيس في إخفاق المحاولات النَّهضويّة المستمِّرة في الأمّة وتفاقم ظاهرة التخلّق المتنِّوع، يعود إلى عدم إيلاء المظاهر السياسيّة حقها من الاهتمام والدرس، ما خلا القليل من المفكِّرين الذين ارتفعت أصواتهم أخيراً لأسباب كثيرة منها تفاقم أزمة الحكم…، فغياب الوعي السياسي وفقدان المؤسسات وضياع الأحزاب في متاهات ضيّقة، أفقد الأمّة قدرتها الذاتية على التقدّم، ويمكن اختصار هذه الأزمة ضمن محورين: الأول هو استبداد السلطات واختزالها والسيطرة على الموارد وتنحية الصوت الناقد، وهو ما يُسمَّى حديثاً “التوتاليتارية”، والثاني محاولة محاكاة التجربة الغربية لزرعها في جسد الأمّة.

1 – الاستبداد وغياب الوعي السياسي

إن الوعي السياسي لأبناء الأمّة عامل رئيس في نهضة الحكم، كما أن متولِّي السلطة لهم دورٌ كبير في ذلك، والحقيقة أنّ علاقة القاعدة بالهرم ثنائية التأثير والتبادل، وقد حدّدها الإمام علي(ع) عندما قال: “فليست تصلح الرعيّة إلاّ بصلاح الولاة ولا تصلح الولاة إلاّ استقامة الرعيّة”(24). فإذا فقد أحد الطرفين وعيه وصلاحه انعكس ذلك سلباً على الأمّة الإسلامية برمَّتها، وبالفعل فقد عاش العالم الإسلامي المشكلة المتمثِّلة بالحكم الثيوقراطي المرير المتسربل بالزي الديني، وانقلب ذلك وبالاً على تطلُّعات المجتمع وأفكاره وإبداعاته وقيمه.

لقد وعى العديد من المفكِّرين هذه الأزمة، وقد كان لـ عبد الرحمن الكواكبي دور كبير في التنبيه من خطر الاستبداد على الأمّة بوصفه عامل انهيار، فالاستبداد – عنده – “أصل لكل فساد” وله أثر سيء في كل واد، يضغط على العقل فيفسده، ويلعب بالدين فيفسده، ويحارب العلم فيفسده، ويغالب المجد فيفسده، ويقيم مقامه “التمجُّد“، ولو كان رجلاً لقال: “أنا الشر وأبي الظلم وأمّي الإساءة وأخي الغدر ووطني الخراب وديني وشرفي وحياتي المال(25). لقد نخر الاستبداد جسم الأمّة الأجوف، وووقف معوِّقاً أمام التطوّر الفكري والعلمي وكل ما من شأنه أن يمسّ أو يحدّ من تسلّطه ونفوذه، بل عمل على بعث التخلّف في ذهنيّة الشعوب لتتلهى عن حكمه وتنشغل بنفسها، ما أدّى ليس لوقف التطوّر الحضاري فحسب بل لتراجعه واضمحلاله.

لقد رزحت الأمّة، منذ ما قبل السلطنة العثمانية، تحت نير القهر السياسي واكتوت بناره، وصولاً إلى ما بعد السلطنة مع الاستعمار الذي ما ترك بلداً إلا وزرع فيه بذرة الشؤم مخاضاً عسيراً عاشت فصوله جميع بلاد المسلمين، أما في الغرب فقد انتهى التاريخ بشمول الديمقراطية الأرجاء جميعها. وقد كان من سوء المصادفات أن القرن الذي بلغت فيه الحضارة الغربية أوج مجدها وكمالها من المادّية والدهرية والإلحاد، كان هو القرن الذي اُبتليت فيه الممالك الإسلامية من لدن مراكش إلى الشرق الأقصى بغلبة أمم الغرب في الحكم والسياسة(26)، فبينما تسود هناك التعددية يسيطر هنا التفرُّد، وبينما ترتقي هناك المؤسسات يحكم هنا الأفراد، وقد وعَى المسلمون هذه الحقيقة، حتى أن باحثي النهضة متفقون على أن سبيل النهضة الأول هو التخلُّص من جموح الاستبداد ونزوع الاستعباد.

وما حالة الأمّة حالياً إلاَّ نتيجة لعزوف المسلمين عن العمل السياسي وغياب أصواتهم عن النقد البنّاء الذي يشكل أساس التطّور، وهو ما يسمّى إسلامياً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. واللاَّفت أن الإسلام قد أوجبه لعلمه بأنَّ سقوط الأمّة واستحواذ الفاسدين على الحكم هو في تركه، فقد ورد عن الرسول(ص): “لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملّن الله عليكم شرار خلقكم فيسومونكم سوء العذاب“. فالإسلام، بما يحوي من نصوص شرعية في الحكم والسلطة وسيرة الرسول وخلفائه، يقنِّن قاعدة الحكم الأمثل الذي يعطي الأمّة وقود التقدّم والاستمرار، والمسلمون بتركهم معنى الإسلام وجوهره وتمسّكهم بظاهره ضربوا الإسفين الأول في نعش حضارتهم. والأنكى من هذا كلّه جنوحهم إلى أحد أمرين: إمّا التعلّق بما يسمّى “التكفير والهجرة“؛ الأمر الذي يُسيء للإسلام ويرجعه إلى ما قبل الجاهلية الأولى، أو التمسُّك بـ “طاعة ولي الأمر“؛ المبدأ الذي ألبس الفاسدين لبوس الدين وأقعد المسلمين عن العمل والتحرُّك، تاركين الساحة للقوى اليسارية والعلمانية وغيرها التي مارست صنوف الابتذال السياسي وأوصلتنا إلى ما نحن عليه.

 

2 – التغرُّب والاقتباس

إن الوهن الذي أصاب جسد الأمّة، وقد شهدت الأمم الأخرى نهضة كبيرة، أثّر في التكوين الفكري للمثقفين، وأدّى بالعدد الأكبر منهم إلى أن ينحو باتجاه تلك الحضارات، لينهل من معينها ويجترَّ من حلولها مفاهيم مجتزأة أسقطها على أمّتنا علّها تكون دواءً سحرياً وترياقاً سريع الفعاليّة. وفيما يختص بالحكم والسياسة، فقد أُنهكت آذان الشعوب بمسائل الديمقراطية والعلمانية والقومية وغيرها بوصفها مفاتيح التقدّم وسبُل الازدهار.

لقد حمّلت دساتير بلادنا كلمة الديمقراطية، ورفع السِّياسيون شعارها في المحافل، وإذا فطنوا لاسمها جرّدوها من معناها، وأصبحت كلمة تطلق ليس إلا، مسلوخ عنها قوامها الأساس، أي التعدّدية وشرطها الرئيس أي المؤسسات، فبدل أن تكون – كما قال لينكولن – حكم الشعب بالشعب وللشعب، أصبحت التسلّط على الشعب بجهل الشعب ولاستعباد الشعب، حتى أنهم لم يعرفوا معناها وجعلوها هدفهم الأسمى، مع أنها وسيلة ليس إلاّ، حيث تعدَّ حسب منظّري الفكر السياسي الغربي مجرّد فلسفة ووسيلة هدفها الحدّ من سلطة الديكتاتورية.

أمّا عن العلمانية، فقد نهض جيل ما يُسمّى بالنهضة بهذه الفكرة، فبرز بطرس البستاني وشبلي شميّل وفرح أنطون وغيرهم، ليروا أنّ الدين عنصر ضعف وتفرقة،وأنّ السبيل الأول للتمدُّن إصلاحه وتغيير مفاهيمه كما فعل مارتن لوثر بالمسيحية، وفصله عن السياسة كما فعلت دساتير أوروبا. لقد أصبحت الأنظمة السياسية اليوم، بعد أن تحوّلت الأمّة دولاً وممالك، من الأنظمة العلمانية المتّصفة بالحفاظ على الهوّية الإسلامية، ومع ذلك لا تزال في معظمها متخلِّفة في ممارسة الديمقراطية وتفعيل التمدُّن لأسباب تُعزى أحياناً، من دون دلائل مقنَّعة للعقيدة الإسلامية(27).

لقد أخفق المفكِّرون في فهم حقيقة مفادها أنّ الإسلام – بخلاف المسيحية التي ساعدت بنفسها على إحداث الفصل بين الدين والدولة – منظومة من الأحكام والضوابط الشرعية التي يلتزمها الفرد المسلم في مجال الحقوق والواجبات الشرعية والسياسية وعلى نطاق المعاملات والعقود والعقوبات والقوانين، ثم إنّ نبيّ الإسلام كان بنفسه قائداً للدولة الإسلامية، خاض الحروب، ونظّم المعاهدات، وقّع المواثيق، واضطلع بالتنظيم الاجتماعي والسياسي والديني والمدني، لذا فهو يمتلك جانباً غيبياً يتّصل بالعقيدة، وآخر مدنياً يتصل بالحياة والوجود الخارجي(28)، وهكذا يتكامل، فلا إمكانية لاجتماع الدين الإسلامي والعلمنة، وما فعلته الأمم المتخلفة كان هُراءً زاد في تخلّفها ليس إلاّ، ولتفادي ذلك التناقض ألبسوا العلمانية زي القومية بديلاً من الإسلامية، ثم الوطنية عوضاً عن القومية، فقطَّعوا أوصال الأمّة، وأفنوا آخر الآمال بالنهوض، لأنّ حلم النهضة لا يتحقَّق إلا بعد تحقُّق حلم الوحدة بعيد المنال، والذي طرح مكانه مالك بن بني – بعد يأسه من تحقيقه – فكرة الكومونويلث الإسلامي.

 

ثالثا: أزمة الدين

يمثِّل الدين عماد الحضارة وأساسها الذي تقوم عليه، فقد قامت الحضارة الصينيّة على البوذية والأوروبية على المسيحية؛ حيث يقول “كسرلنج” في كتابه “البحث التحليلي لأوروبا”: كان أعظم ارتكاز حضارة أوروبا على روحها الدينية(29). أما الإسلام فهو يأخذ طابعه المتميز، يكفي دلالة على ذلك أن اسم الحضارة مقتبس منه، وبذلك فهو جوهر الأمّة وركنها وحصنها، وأي ثلم فيه يعني انعكاس ذلك على البناء الحضاري برمّته. كما أنّ أساس النهضة وفتيلها هو الدين، فالنهضة الأوروبية – مع الفارق – تمثَّلت في أحد أركانها بإصلاح الدين، واتَّسمت بالعمل في سبيل التحرُّر من الأنظمة الفكرية السائدة في القرون الوسطى، والعودة إلى أصول العلم وأصول الدين، وتطبيق الفكر النقدي على النصوص الدينيّة من الإضافات والتأويلات والتشويهات، “وقد اتخذت منحى جذرياً مع مارتن لوثر (546 م.) الذي دعا لإصلاح الكنيسة، وحارب صكوك الغفران “فانتشرت دعوته واستحوذت على التأييد(30)، فإذا كان هذا حال أوروبا التي يشكّل الدين أحد أركانها، فكيف بحضارتنا التي يمثِّل الدين الركن الأساس والعماد الرئيس لها؟!

إنّ أوّل الدين معرفته، ثم التَّصديق له، ولكن هذه القاعدة أصابها الخلل في جانبها المعرفي، فقد تمسّك المسلمون بالإسلام من دون معرفة او إطلاع، ما أدّى إلى إصابة وعيهم العلمي الموضوعي، وفي هذا يقول محمد عبده: “إن المسلمين لمّا كانوا علماء في دينهم كانوا علماء الكون وأئمة العالم، ولمّا أصيبوا بمرض الجهل بدينهم انهزموا من الوجود وأصبحوا أكلة الآكل وطعمة المطاعم(31)، ويؤكِّد الشهيد الصدر ذلك، فيرى “أن فهم الأمّة لمبدأ الإسلام ومفاهيمه وحقائقه كان هو نقطة الضعف التي نجحت فيها عملية الفصل بين الأمّة والمبدأ، فقد استعمل الغزاة الآثمون كل الطرق والأساليب للقضاء على وعي الإسلام من ذهنية الأمّة وحجب أضوائه وأنوائه“، وهكذا أصبحت الأمّة لا تفهم من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه، رغم أنها ظلّت باقية على إيمانها به.

لقد اختصر المتأسلمون الإسلام – ذلك الدين العالمي – بقيم رمزية أضفوا عليها هالة من القدسية، فنقلوا الإسلام من التفكّر والتدبر إلى التَّعبُّد والتسطيح، رغم أن القرآن قد نبّه إلى ذلك كثيراً ولام المشركين لأنهم لم يقوموا به وحذّر من تركه، كما فصلوه عن الجانب الاجتماعي رغم أن ارتباط الإيمان بالعمل الصالح قاعدة أقرّها القرآن، حيث ذكر الارتباط أكثر من خمسين مرّة.

لقد نقل المسلمون دينهم من الفهم إلى الحب، ومن العقل إلى القلب، ومن المعرفة إلى العاطفة، فغدا جرعة حبوب مهدئة يستخدمها المريض للتّداوي، ومفاهيم يأخذها المؤمن على نحو من المسلّمات التعبُّدية التي لا نقاش فيها ولا جدال؛ ويستلها سيفاً في وجه من يعارضه، هكذا نشأت طبقة من المتعبِّدين المسكونين بهاجس الهروب، والطامّة الكبرى – حسب السيِّد محمد خاتمي – التي تؤدي إلى الكارثة في مجتمع المتدينين، عندما تُضفي قداسة الدين ومطلقيته على تصورات الإنسان عن الدين، مع أنَّها تصورات زمانية مكانية محدودة ونسبية وقابلة للخطأ، فخيُّل إليهم أنّ من يعاضدهم هو مثال الحق المتنوِّر، أما من يعارضهم فهو أنموذج الباطل كل الباطل، فنجم عن ذلك أكثر حملات التكفير والرمي بالفسق والفجور، وقد بدأت هذه الحملات عندما بدأ الضعف في الدين يظهر، وأكلت الفتن أهل البصيرة من أهله، وتصدّى للقول في الدين برأيه من لم تمتزج روحه بروح الدين ولم يتعلق عقله بلباب الإسلام، في أثناء ذلك – حسب محمد عبده – حدث الغلّو في الدين، واستعرت نيران العداوات، وسهل على كل منهم لجهله بدينه أن يرمي الآخر بالمروق منه لأدنى سبب، وكلَّما ازدادوا جهلاً بدينهم ازدادوا غُلُّواً فيه بالباطل، ودخل العلم والفكر والنظر (وهي لوازم الدين الإسلامي) في جملة ما كرهوه.

وقد وعى المفكِّرون، منذ القرن التاسع عشر، وأدركوا أن مسار التخلّق الذي هيمن على تاريخ الأمّة الإسلامية يعود لانفصال العقيدة عن الحياة، وتفريغها من مضمونها الاجتماعي، وتجلّيها في الواقع الخارجي بمجموعة طقوس، تمتص فعالية الإيمان الثورية، وتحيله تجربة باطنية ذاتية لا تمتّد إلى علاقة الإنسان بأخيه الإنسان وعلاقته بالطبيعة، فيرى الأفغاني أن الدين لم يعُد مجرّد تعاليم لاهوتية أو فقهية، بل غدا رمزاً لمدنيّة واضحة الهوية، كما أن الغاية من أعمال الإنسان لا تنحصر في خدمة الله بل في خلق مدنيّة إنسانية مزدهرة، ومثل جمال الدين كثير من روَّاد نهضة إسلاميَّة أُجهضت قبل ولادتها، مثل محمد عبده وحسن البنَّا ومحمد إقبال وغيرهم وصولاً إلى علي شريعتي المناضل الإيراني الذي واجه التقاليد الدينية البالية التي أرساها – برأيه – الحكم الصفوي، ومحمد باقر الصدر – ذروة التفكير النهضوي – حيث يقول: إنَّ المعنى الحقيقي للإيمان ليس هو العقيدة المحنّطة في القلب، بل الشُّعلة التي تتَّقد وتشّع بضوئها على الآخرين.

يعتقد بعض المفكرين بأنَّ الدين ما إن يدخل السلطة حتى يفسد، ومن ذلك قول البروفسور غوين: إنَّ الدين المسيحي فسد حين اعتنقه الإمبراطور قسطنطين ومن معه، وقد كان يدعو للخير والرحمة، ولكن انقلب إلى نظام طغيان وسفك الدماء وهذا ما قاله دانتي، ونافلة القول: إن ارتداء الحكّام الزي الديني والحكم بمنهج ثيوقراطي يؤدّي إلى إفساد فطريّة الدين وحقيقته، ويصيّره أداة تحافظ السلطة بها على حكمها والأقلية على نفوذها باعتبارها ممثِّلة الجلالة على الأرض، وقد نبّه علي عبد الرزّاق إلى ذلك إسلامياً، قائلاً: إن العقيدة التي أسبغت على السلاطين طابع التقديس هي المسؤولة بالدَّرجة الأولى عمَّا حلّ بالإسلام في عهوده الأخيرة من خنوع واستكانة، فقد اتخذوا من الدين دروعاً تحمي عروشهم وتخفي دناءاتهم، فقد استبدّوا بالمسلمين وأضلّوهم عن الهُدى وحجبوا عنهم مسالك النور وضيّقوا على عقولهم، ويبدو أن تفسير صفة “ولي الأمر” بشخصية الحاكم قد أصاب البلاد الإسلامية بالصميم، خصوصاً مع تحريم الثورة عليه رغم ما قد يعتري حكمه من نزعة تسلُّطية جائرة.

لقد قامت الحضارة الإسلامية على الإسلام بوصفه قاعدةً، لكنها فقدت هذه القاعدة بعد حين فأوهن ذلك قيامها، ورغم اشتداد عضُدها إلا أنها كانت تحمل في تطوّرها بذور ضعفها، فقد تسلّط – ظلال الله على الأرض – وكيّفوا الإسلام طبقاً لمصالحهم ومعتقداتهم، فاختلف فهم الإسلام، وتنوع تنوّعاً أرسى فيه الوهن والضعف لا القوة والحركة.

 

الحضارة الإسلامية

شكّلت هجرة الرسول(ص) وتأسيس المجتمع الإسلامي في المدينة البذور الأولى للحضارة، حيث تلقّت طاقة كبيرة مكّنتها من الاستمرار لقرون لاحقاً، هكذا بدأ النّمو الأوّل للأمّة التي واجهت مأزقها الأوّل في حادثة السقيفة ووفاة الرسول(ص) وظهور فئتين جديدتين، ولكن استطاع المسلمون تخطِّيها بوعي.

ثم تلقّت الصفعة الأولى مع بروز أزمة الحكم السياسية (الأزمة الحضارية الثالثة مع أزمة الدين وأزمة الثقافة وقد سبق الحديث عنها)، وذلك في عهد الخليفة الثالث؛ حيث أدى تعيين ولاة غير جديرين بالمنصب سخط العامّة وإفرز حالة من الاحتجاج السلمي في الأمصار، وصل إلى عاصمة الخلافة واتخذ الطابع الدموي مع مقتل الخليفة. وهكذا برزت أزمة لاحقت المجتمع الإسلامي ونمّوه، وسارت كخط موازٍ لتطوّر الحضارة، ويمكن تفسير استمرار خط الحضارة بالتطوّر – رغم ما أصابها – فيزيائياً، حيث أنك إذا رميت كرة إلى الأعلى فإنها برغم الجاذبية التي تشدّها للسقوط تظلّ ترتفع بسبب الطاقة الكامنة فيها، حتى تصل إلى نقطة تصبح الجاذبية أقوى من الطاقة فتسقط الكرة، وهكذا الحضارة، فإن القوة الحرارية والدفع المعنوي قد استمرّا في دفع الأمّة للتطور رغم الأزمة الأولى (مع الخليفة الثالث) التي حاول علي(ع) إصلاحها، ولكن عدم تمكّنه من ذلك قبل استشهاده وتسلُّم معاوية السلطة وبروز أزمة جديدة هي أزمة الدين قوّى من خط الأزمات، ولكن ليس لدرجة يُسقِط فيها النمو الحضاري الذي استمر على رغم ذلك، إلى أن تراكمت الأزمات، ومثَّلت معوِّقاً أمام تطور الأمّة، وصلت إلى أوجها وبرزت جلّية مع تسليم غرناطة والأندلس إلى الأسبان، ما مثَّل نهاية النمو الحضاري.

في نهاية الحديث، عن الحضارة الإسلامية، هناك إشكالية تطرح في حدود هذه التسمية، وهي أنه قد سبق تعريف الحضارة بأنها تأخذ مجالها الجغرافي المحدّد، فكيف يمكن المواءمة بين كون الإسلام حضارة من جهة وبين كونه ديناً عالمياً يتخطى الحواجز الحدودية بين البلاد، ولا يتأطر في مكانٍ معين من جهة ثانية؟ الجواب ينبني على معرفة مفهوم الحضارة وفهم حقيقة الإسلام. فالحضارة بناؤها أرضي، نتيجة لفعل إنساني تراكمي في مجال جغرافي محدّد، لتشمل الفن والأفكار والحرف والثقافة وغيرها… ولتتحدد في ذلك المكان. أما الإسلام فرسالة سماوية، ليست نتاج فعل إنساني مؤّطر، بل تنزيل إلهي عالمي، وإذا ما أطلق على منطقة معيّنة “بلاد الحضارة الإسلامية“، فهذا لا يحدّ من عالميته ولا يبقيه رهينة ذلك المجال، وأكبر دلائل ذلك تخطيه لمعوِّقات القوميات والحضارات، ومنها الحضارة الفارسية العريقة والرومانية القديمة، ليصبغها باسمه. وإذا كانت كلمة “حضارة” تعني تأطيراً معيناً، يجب استبدال مصطلح “حضارة الإسلام” بعبارة “الرسالة الإسلامية“.

 

الهوامش

 


(*) باحث من الحوزة العلميَّة، من لبنان.

(1) محمد علي مقلد، قضايا حضارية عربية معاصرة، بيروت، دار المنهل، ط. 1، 2003، ص. 19.

(2) مالك بن نبي، شروط النهضة، دمشق، دار الفكر، 2000، ص. 21.

(3) مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، دمشق، دار الفكر، 2000، ص. 52.

(4) أبو الأعلى المودودي، نحن والحضارة الغربية، مؤسسة الرسالة، ص. 258.

(5) م. ن.، ص. 7.

(6) روجيه غارودي، الإسلام في الغرب، طهران، دار الصادق، ط. 1، ص. 23.

(7) م. ن.، ص. 222.

(8) عز الدين سليم، أبحاث في شؤون النهضة، ط. 1، بيروت، دار البيان، ص. 14.

(9) على الوردي، مهزلة العقل البشري، ط. 2، لندن، دار كونان، 1994، ص. 16.

(10) مالك بن نبي، شروط النهضة، م. س.، ص. 45.

(11) محمد علي مقلد، م. س.، ص. 208.

(12) عز الدين سليم، م. س.، ص. 155.

(13) م. ن.، ص. 14.

(14) علي عزّت بيغوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، م.س.، ص. 94.

(15) السيد محمد خاتمي، مطالعات في الدين والإسلام والعصر، ط. 3، دار الجديد، ص. 22.

(16) مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، م.س.ن ص. 33.

(17) م. ن.، ص. 35.

(18) أدوارد سعيد، الثقافة والإمبريالية، بيروت، ط. 1، دار الآداب، ص. 279.

(19) مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، م. س.، ص. 15.

(20) م. ن.، ص. 17.

(21) السيد محمد خاتمي، م.س.، ص. 21.

(22) مالك بن بني، مشكلة الثقافة، ص. 91.

(23) عصام نعمان، هل يتغير العرب، قراءة علي فياض، “السفير”، تشرين الثاني 2003.

(24) نهج البلاغة، خطبة 216.

(25) عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستبداد، بيروت، دار المدى، ص. 43.

(26) أبو الأعلى المودودي، م. س.، ص. 23.

(27) أيليا حريق، الديمقراطية، وتحديات الحداثة، بيروت، دار الساقي، 2002، ص. 332.

(28) نبيل علي صالح، البلاد، تشرين الأول.

(29) مالك بن نبي، شروط النهضة، م.س.، ص. 62.

(30) محمد علي مقلد، م. س.، ص. 129.

(31) محمد عبده، الإسلام بين العلم والمدينة، بيروت، دار المدى، ص. 129.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً