أحدث المقالات

الشيخ مرتضى مرتضوي(*)

ترجمة: وسيم حيدر

أهل البيت^ والمنطق الأرسطي ــــــ

لماذا لم يبيِّن القرآن وأهل البيت^ كلامهم على أسس المنطق الأرسطي، في حين أنهما يدّعيان العلم الواسع الذي يفوق علم كلّ الناس، وجميع الملائكة؟

إن كبار المفكِّرين من الذين يتحلَّوْن بشخصية فلسفية أرسطية، ويتمتّعون ـ للإنصاف ـ بمكانة ثقافية وشخصية سامية وراقية، يُؤْثِرون السكوت الوقور إزاء الإجابة عن هذا السؤال، في حين أنهم في المسائل العلمية يتمتّعون بصفة الحزم والقاطعية التي تتناسب ومقتضى قطعية منطقهم، ولكنّهم يتسامحون مع هذا الموضوع مسامحةً تامّة.

وأما الأغرار وأنصاف المتعلِّمين منهم فيتظاهرون بأن السؤال المتقدّم لا يصدر إلاّ عن الجهّال، وإلاّ فإن جميع القرآن وأقوال أهل البيت^ إنما تقوم على أساس المنطق الأرسطي.

والأعجب من ذلك أن بعض هؤلاء المحترمين، الذين هم من المخلصين لثقافة القرآن وأهل البيت^، يسعَوْن إلى تفسير القرآن على أساس المنطق والفلسفة الأرسطية، وفي هذه الحالة لا يبقى أمامهم من طريق إلاّ أن يقولوا ما قاله صدر المتألِّهين، من أن الله هو كلّ الأشياء. وإن قرآنهم قد صرَّح بمثل هذا الأصل؛ لأن البرهان الصدرائي بناء على المنطق الأرسطي لا يقبل التشكيك والخطأ.

موقع المنطق والفلسفة الأرسطية في الإسلام ــــــ

الحقيقة أن التسامح المذكور إنما هو نوعٌ من الاحتيال، وإنّ تبريره محض «تحكّم» أيضاً؛ فإن الله تعالى وأهل البيت^ كانوا على معرفة بالمنطق الأرسطي، ولكن حيث إنهم لم يروموا قصر البحث على الذهنيات فقط فقد أقاموا خطابهم منذ البداية على غير المنطق الأرسطي([1])، وبذلك لا تتداعى إلهيّاتهم نحو السقوط، ولا طبيعياتهم. إن العلوم الكونية تقترب كلّ يومٍ خطوة من المعرفة الكونية للقرآن وأهل البيت^، وكذلك الأمر بالنسبة إلى علوم وفلسفات الوجود (الإلهيّات بالمعنى الأعمّ)، حيث تزداد بمرور الأيام قرباً من معرفة الوجود واللاهوت في القرآن وعند أهل البيت. والملفت أن اللاهوت الأرسطي يزداد في كلّ يومٍ بُعْداً عن لاهوت القرآن وأهل البيت^.

إذا ألقينا نظرة على العلاقة بين المسيحية والفلسفة الأرسطية سوف تتكشف لنا حقائق في غاية الأهمّية. ولو قارنّا بين العون الذي قدمته هذه الفلسفة للمسيحية، وسهمها في تعزيز موقع الكنيسة في العصور الوسطى، وبين الآفات اللاحقة التي تسبَّبَتْ بها الفلسفة للمسيحية، فسوف نحتاج إلى بحثٍ تحقيقي مسهب([2]). بَيْدَ أنه من الواضح أن السقوط المدوّي لطبيعيات الفلسفة الأرسطية قد ترك بتأثيراته الماحقة على الديانة المسيحية، بحيث تحوّلت إلى مجرّد دين عاطفيّ لا شأن له بالفكر والمنطق من قريبٍ أو بعيد، وأخذ يُنْظَر إلى الدين لا بوصفه مفهوماً غير علميّ فحَسْب، بل اعتبر أيضاً مقولة مخالفة للعلم والتعقُّل.

إن المسيحية التي أقامت معرفتها الكونية والوجودية على قاعدة طبيعيات الفلسفة الأرسطية عمدت؛ للحيلولة دون انهيار هذه القاعدة، إلى إقامة «محاكم التفتيش»، بَيْدَ أنها لم تَجْنِ نفعاً من ذلك. بل إن هذه المظاهر القمعية والقاسية قد أدَّتْ إلى نتائج معكوسة، وأفرغت هذه الديانة حتّى من رصيدها الوحيد، المتمثِّل بالجانب العاطفي والإنساني، وبذلك سجّلت أكبر انتكاسةٍ في تاريخها([3]).

وبعد انهيار القصر الوهمي والمزوّق والواسع للطبيعيات الأرسطية، وتوقّف كاسحة محاكم التفتيش عن العمل نهائياً، اضطرَّتْ المسيحية إلى الاكتفاء بالاتصاف بـ «غير العلمية»، وسجّلت موقفها كرجلٍ هَرِم مصاب بالخَرَف، من خلال الاستقالة والتقاعد عن المحافل الفكرية والعلمية. وبدأت هجرة المدارس والجامعات عن دائرة الكنيسة. واكتفى مدراء الكنائس بدراسة العهد القديم والعهد الجديد، وتفسيرهما.

وقد انقسم المفكّرون الأوروبيون إثر هذه الفضيحة المدوية إلى قسمين؛ فقد رأى بعضهم أن تمسّك الأوروبيين بالمسيحية بعد اكتشاف حقيقتها ينطوي على الكثير من الحماقة؛ بينما ذهب آخرون إلى اعتبار ذلك دليلاً على وفاء وعظمة وحلم الروح الغربية.

إن الزلزال الكارثي الذي أحدثه سقوط الطبيعيات في الفلسفة الأرسطية لم يؤثِّر في الإسلام ذلك الأثر الذي تركه في المسيحية، رغم اعتقاد الفلاسفة المسلمين بتلك الطبيعيات الأرسطية، وكانوا يباشرون تعليمها وتدريسها، ولا يزالون أوفياء لها([4]).

إن عنصر ثبات الإسلام في الحقيقة يكمن في تعاليم القرآن الكريم وأهل البيت^، التي تمّ تنظيمها حول محور الطبيعيّات (وكانت المسيحية البولسية([5]) تفتقر إليها). فقد كان الأرسطيون من المسلمين يتحدّثون على الدوام عن السماوات التسع (الأفلاك التسع)، في حين أن المسلمين أنفسهم كانوا لا يتخلّون عن (السماوات السبع) الواردة في نصِّ قرآنهم.

لقد وجدت الطبيعيات في إطار العلوم الحديثة نفسها منسجمة مع الأصول المعلن عنها في الإسلام، وفي المقابل وجد الإسلام نفسه متناغماً مع هذه العلوم، وأكثر انسجاماً معها، بالقياس إلى الطبيعيات الأرسطية.

إن انهيار المسيحية بوصفها «ديناً» جعل كلّ دينٍ آخر ـ بما في ذلك الإسلام ـ يستفيد من هذا الانهيار لصالحه. وبعبارةٍ أخرى: على الرغم من أن إسلام الفلاسفة المسلمين كان قائماً على الفلسفة الأرسطية، غير أن إسلام الأمّة الإسلامية كان بمنأى عن هذه التبعية، وكان ولا يزال مستقلاًّ عنها. فقد مثَّل الأرسطيون المسلمون على الدوام شرذمة قليلة بين علماء المسلمين. وعلى هذا الأساس فقد تمكّن الإسلام من الإبقاء على ما رفعه من شعار «العلمية»، وأن يتقدَّم في مسيرته العلمية باستمرارٍ.

يجب القول بشأن المسيحية: إن الذي آل إلى السقوط هو «المسيحية القائمة على الأسس الأرسطية»، والذي بقي ثابتاً هو «مسيحية العامّة»، بَيْدَ أن ذلك لا يثبت حماقة الأوروبيين، ولا يثبت سعة وفائهم وحلمهم أيضاً.

ولو كتب للأرسطيين من فلاسفة المسلمين أن ينجحوا في تحميل الطبيعيات الأرسطية على طبيعيات القرآن الكريم وأهل البيت، والدعوة لها بوصفها من طبيعيات الإسلام ـ كما عملوا على ذلك لقرونٍ من الزمن، وبذلوا في ذلك للإنصاف جهوداً مضنية ـ، لكان الإسلام قد واجه نفس المصير الذي واجهته المسيحيّة، ولتحوّل إلى مجرّد «دين عامّي» خارجٍ عن دائرة العقل والتفكير.

ولئن أخفق الفخر الرازي(543 ـ 606هـ) في إثبات كرويّة الأرض وحركتها([6]) فقد عمد الشيخ الطوسي(385 ـ 460هـ) إلى الدفاع عنها في تفسير التبيان([7]). بل عمد صاحب جنات الخلود إلى بيان محيطها، وحجمها، ووزنها أيضاً([8]).

وعلى الرغم من ذلك لا نزال نشاهد تأثير الطبيعيات الأرسطية ماثلة في الثقافة الإسلامية، وحتّى على بعض المتعبِّدين، ونجد مقاومة للأصول الواضحة للعلوم الطبيعية (الأصول التي تمّ تأييدها بنصّ القرآن وتعاليم أهل البيت^)، ولا نزال نجدها إلى يومنا هذا.

لست هنا في وارد الإيمان المطلق بالعلوم الطبيعية الحديثة، بل ألَّفْتُ كتاب «تبيين جهان وإنسان» في نقد العلوم التجريبية والعلوم الإنسانية المعاصرة، ولكنْ يجب التنويه إلى أمرين، وهما:

1ـ إنّ القرآن الكريم وأهل البيت^ قد رسَّخوا أصول الطبيعيات الصحيحة، بحيث حالوا دون تغلغل الطبيعيات الأرسطية.

2ـ علينا أن نشعر بالسعادة والحبور بسبب إخفاق الجهود الحثيثة لفلاسفتنا الأرسطيين طوال قرونٍ من أجل إقرار الطبيعيات الأرسطية في صلب التعاليم الإسلامية. والآن حان الوقت لنتساءل قائلين:

هل يفتقر الإسلام إلى فلسفةٍ؟ ــــــ

هل يفتقر الإسلام ـ كما هو حال المسيحية ـ إلى الفلسفة في محور اللاهوت بالمعنى الأعمّ (معرفة الوجود)، واللاهوت بالمعنى الأخصّ (معرفة الله)، أم لا؟ هل نقيم اللاهوت الإسلامي على أسس الفلسفة الأرسطية، أو الحكمة المتعالية الصدرائية ـ والفلسفة الإشراقية الصوفية المستدلّة، أو البراهين الأرسطية؟

هذا في حين أن المسيحية ـ وحتّى المسيحية البولسية منها ـ لم تفتقر يوماً إلى الفلسفة؛ وذلك لأن كل إنسان عاقل ـ بل حتّى المجنون ـ لا يخلو من الفلسفة. وقد عادت المسيحية اليوم في الحقيقة إلى فلسفتها الأصيلة، أي المتمثِّلة برؤية وعقيدة بولس، ويجدر بكلّ مسيحي أن يقول: ليت المسيحية لم تجنح منذ البداية إلى الفلسفة الأرسطية، وبقيت جارية على ما كانت عليه في عهد بولس.

عندما يكون لارتهان المسيحية البولسية واستنادها إلى هذه القاعدة المتداعية والمتغيِّرة مثل هذه الأضرار الفادحة فكيف يكون الشأن في فرض مثل هذه الفلسفة على دينٍ أصيل قائمٍ بنفسه على فلسفة ثابتة ودقيقة؟ أفلا يكون هذا قبيحاً وظلماً كبيراً؟!

للإجابة عن هذا السؤال يجب القول: «إن للإسلام منطقه وفلسفته الخاصة». وفي مثل هذه الحالة يكون اللجوء إلى المنطق الأرسطي، وتفسير الإسلام على أساس الفلسفة الأرسطية، خطأً فاحشاً. وأما إذا قلنا بأن «الإسلام يخلو من الفلسفة، أو أنه فاقد لفلسفة محدّدة»، فعندها لن يكون في مثل هذا الدين خيرٌ أبداً. وإذا صار البناء على اللجوء إلى فلسفةٍ فلماذا يتمّ اللجوء إلى الفلسفة الأرسطية؟! وما هي مزيّة هذه الفلسفة الذهنية ـ التي لا تستطيع تفسير الأمور الواقعة في خارج المساحات الذهنية([9]) ـ على الفلسفات الأخرى؟

لو أن الطاقات التي بُذلت من أجل تطوير المنطق الأرسطي ـ حتّى تمّ رفعه من مئتي مسألةٍ إلى ما يربو على سبعمائة مسألة ـ قد بُذلت في تطوير الفلسفة الإسلامية المنبثقة عن القرآن وتعاليم أهل البيت^ لكنّا اليوم قد امتلكنا فلسفةً إسلامية متكاملة الأبعاد، واضحة المعالم، على مستوى الأصول والفروع.

هل من الضروري إعادة النظر في لاهوت الفلسفة الأرسطية؟ ــــــ

علينا أن نسأل أنفسنا: بقينا رَدْحاً من الزمن؛ بوصفنا من الفلاسفة، مؤمنين بشدّةٍ بالطبيعيات الأرسطية. وقد ذهبت أدراج الرياح، ولم نُعِدْ النظر فيها أبداً. أفلا يجدر بنا الآن إعادة النظر في إلهيات هذه الفلسفة؟ فلماذا لم نقم بهذا العمل الهامّ والواجب والحيوي والضروري في الدنيا والآخرة؟!

صحيحٌ أننا بذلنا الكثير من الجهود من أجل تطوير إلهيات هذه الفلسفة، وقد أفنى الكثير من الأعزّة أعمارهم في سبيل ذلك. وإننا إذا لم نفخر بجهود هؤلاء لم يَبْقَ لدينا ما نفخر به. ولكنْ إنما يكون بالإمكان أن نتطوّر بالشكل الصحيح إذا غدونا من المحقِّقين مثلهم، وأن نسعى للوصول إلى الحقيقة، ولا نكتفي بأعمالهم، ولا بتطوير جهودهم، وإنما نسعى أيضاً إلى نقد أصل مبناهم.

واضحٌ من هذه العبارة أنّني لا أدعو إلى إلغاء الفلسفة الأرسطية، وإخراجها من الأروقة والمحافل العلمية، بل لا أدعو حتّى إلى تجميدها، أو الاكتفاء بكَمِّها وكيفها الراهن، بل على العكس من ذلك، أدعو إلى تطويرها وتوسيعها أكثر من ذي قبل. فحتّى إذا لم يكن لهذه الفلسفة من فائدة سوى شحذ الأذهان لكان ذلك كافياً في ضرورة الاهتمام بها. ألم نقُلْ مراراً: إن المنطق الأرسطي من أكمل وأدقّ وأصحّ العلوم المنطقية للتعريف بالذهن والمفهوم؟ أَفَهل لـ «معرفة عالم الذهن» أهمِّية قليلة؟! إن أهمية معرفة عالم الذهن ترقى حتّى إلى «معرفة العالم الخارجي»([10]).

إنني أقترح أن نعيد النظر في تسرية هذه الفلسفة من عالم الذهن والمفاهيم إلى عالم الخارج والواقع. إننا لن نكون في غنىً عن المنطق والفلسفة الأرسطية أبداً، ولذلك علينا أن لا نبخسها حقَّها، وأن نحفظ لها مكانتها. ولكنَّني أدَّعي أننا لو عملنا على تدوين فلسفة أهل البيت^ بشكلٍ منظّم فسوف نرى أن هذه الفلسفة؛ لما تشتمل عليه من الأمور الذهنية والخارجية، لن تكون في فلسفتها بحاجةٍ إلى المنطق والفلسفة الأرسطية، حتّى في إطارها المؤسلم والمتطوّر؛ بل تعمل على إصلاحها. وهذا إنّما يتضح عندما نتعرّف إلى الفلسفة الأرسطية؛ كي ندرك ما إمكانيّة إصلاحها من خلال فلسفة أهل البيت^ أم لا.

ضرورة معرفة المنطق الأرسطي ــــــ

إن الفلسفة الأرسطية تقدّم لنا اليوم المعطيات الهامة التالية:

1ـ المعرفة: أن نتعرّف على كلّ فلسفةٍ نريد التعرّف إليها (من قبيل: الهيغلية، والديكارتية، والكانْتية، وما إلى ذلك)، كما يجب التعرّف إلى الفلسفة الأرسطية الإغريقية والسيكولاستية والمأسلمة أيضاً.

2ـ إن المنطق والفلسفة الأرسطية؛ بما لهما من خصائص (شحذ الأذهان والتعرّف عليها)، تعملان على تسليحنا من أجل التعرّف على كلّ فلسفةٍ، بما في ذلك فلسفة أهل البيت^.

3ـ في الأساس ليس هناك من طريق لمعرفة الذهن وعالم الذهنيات غير المنطق الأرسطي. وهذه حقيقةٌ. وأدّعي أنه لو تمّ بيان فلسفة أهل البيت^ لكانت مشتملة على هذا المنطق أيضاً، ولما كانت هناك حاجةٌ إلى الارتهان إليه. إن حاجتنا إلى المنطق الأرسطي لمعرفة عالم الذهن إنما تقتصر على المقام «الوظيفي»، بمعنى أننا إذا أردنا تمييز عالم الذهن من عالم العين والخارج، ودراسة كلّ واحدٍ منهما على حِدَةٍ، فإن المنطق المذكور سيكون هو الوسيلة الوحيدة المتاحة بين أيدينا.

من الواضح أنه ليس هناك فلسفةٌ تخضع للوظيفيّة، حتّى الفلسفة الأرسطية منها، ولذلك فقد وضعت كلاًّ من عالم الخارج وعالم الذهن على طاولة البحث، وابتلت بالمصير الذي آلت إليه.

إن فلسفة أهل البيت^ لا تجرّد الواقع الخارجي عن العالم الذهني لتجري عليه عملية جراحية، ولا تجعل العالم الخارجي تابعاً للعالم الذهني، وعليه لا يكون منطقه نفس المنطق الأرسطي.

ولذلك يجب إنزال المنطق الأرسطي من مرتبة المنطق إلى مستوى الفلسفة، وجعلها في منزلة العلم، بمعنى: منطق معرفة العلم الذهني. كما يجب إنزال الفلسفة الأرسطية من مرتبة الفلسفة إلى مستوى العلم أيضاً، بمعنى: علم المعرفة الذهنية ومعرفة المفاهيم([11]).

هل يجب إقامة الكلام على أسس الفلسفة الأرسطية؟ ــــــ

وهنا يجب تكرار الأسئلة المتقدّمة ثانيةً، ولكن بصيغةٍ أخرى: هل يفتقر أهل البيت^ إلى علم الكلام؟ ألم يكن الأئمّة على معرفة بالدين، وبكلام ذلك الدين؟

إذا كنا ندّعي ـ ولا نزال ـ أننا طوال هذه القرون الأربعة عشر قد رزحنا تحت نير الخلفاء الجائرين والفراعنة المستبدّين، ومع ذلك تمكَّنا من تنظيم فقهنا بشكلٍ دقيق، حتّى تفوّق على جميع الدساتير العالمية، نكون قد حقَّقنا إنجازاً كبيراً، لم يتحقّق بالنسبة إلى التاريخ والتفسير والفلسفة والكلام وما إلى ذلك من علوم أهل البيت^. ولذلك فإن الخوض ـ والحال هذه ـ في الفلسفة والكلام الأرسطي، والعمل على أسلمتهما، أقرب الطرق الممكنة لنا. وإننا للإنصاف قد سبقنا جميع الأمم في هذا المجال.

أما اليوم فالأرضية متوفِّرة، والإمكانات مُعَدّة، والمؤسّسات مجهَّزة بأحدث الوسائل تقريباً، وفي الحدّ الأدنى لا نواجه ضغوط القرون الماضية، ولا نتعرَّض للإبادات الجماعية كما في السابق، ولا تنهب أموالنا، ويبدو أننا نعيش أفضل عصورنا. فعليه لماذا لا نغتنم الفرصة لنعوِّض ما فات، ونعمل على تدوين فلسفة وكلام، أو حتّى تفسير، قائم على أحاديث وتعاليم أهل البيت^؟! فإلى متى ننتسب إلى أهل البيت بينما يدور تفكيرنا على محور التفاسير البعيدة كلّ البُعْد عن تعاليم أهل البيت؟!

هناك مَنْ يتصور أن التفسير هو هذا الموجود بين أيدينا، وأنه ليس بالإمكان أن نؤلِّف تفسيراً قائماً على مجرَّد التعاليم الواردة عن أهل البيت^. كما يحمل الفلاسفة ذات التفكير بشأن الفلسفة أيضاً.

يجب طرح ثلاثة أمور بشكلٍ جادّ، وهي:

1ـ إننا إذا لم نحصر تفسير القرآن ضمن أحاديث أهل البيت فسوف يكون أمامنا مستقبلٌ مظلم، وسوف تجتاح العلوم الإنسانية الغربية ذات الماهية «الظنّية» و«غير العلمية»، وتجرف مثل الطوفان كلَّ ما يقع في طريقها.

2ـ إذا لم نحصل على فلسفة أهل البيت، واكتفينا بالفلسفة الأرسطية المأسلمة (علاوة على عدم صوابية هذا الموضوع)، لن نتمكَّن أبداً من الحصول على تفسير للقرآن قائمٍ على تعاليم أهل البيت^ أبداً.

3ـ إذا لم نتمكّن من تحقيق المسألتين المتقدّمتين فإن تحصيل العلوم الإنسانية لأهل البيت^، ومعرفة الإنسان، وعلم النفس، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم الاجتماع، وعلم الإدارة والنظام الاجتماعي، لن يكون ممكناً أو متاحاً، إلاّ إذا لجأنا إلى الأمرين التاليين:

أـ صحيح أن الله قد تكفّل بحفظ هذا الدين، بَيْدَ أنّ هذا لا يمنع من النظر إلى العالم برؤيةٍ شمولية، وعدم قصر النظر على الفناء الداخلي من العالم الإسلامي.

ب ـ إذا لم نبادر إلى القيام بهذه الأمور فهذا يعني أننا سنكون بحاجةٍ إلى سنوات طويلة، وحتّى ذلك الحين يكون إمام العصر# قد ظهر، وقام بإنجاز الأمور بنفسه. وهذا يعني تعطيل التكاليف إلى حين ظهور الحجّة×.

إن المنطق الأرسطي مبتلىً بإرسال المسلَّمات ــــــ

لقد ابتُلي المنطق الأرسطي منذ خطواته الجوهرية الأولى بإرسال المسلَّمات. ففي مبحث الكلِّيات الخمسة تمّ تعريف الإنسان بأنه «حيوان ناطق»، وتمّ إرسال ذلك إرسال المسلَّمات، كما تمّ تعريف الحصان بأنه «حيوان صاهل»، والأسد «حيوان مفترس»، والحمار «حيوان ناهق».

وفي هذا البين يكون بين فصل «الناطق» وفصل «الصاهل» مثلاً فرقٌ واحد فقط، وهو مجرَّد فارق كيفي، وإلاّ فإن الإنسان والحصان يشتركان في «النفس الحيوانية»، مع فارق أن نفس هذا ناطقة، ونفس ذاك صاهلة.

فلو أننا آمنّا بكون الحصان «حيواناً صاهلاً»، (وهو ما نؤمن به)، واعتبرناه أمراً مسلَّماً، لن نواجه أيَّ مشكلة، ويتمّ تمييز ماهية الحصان بهذا الفصل من سائر الماهيات الأخرى، وهذا المقدار كافٍ في المنطق؛ لأن المنطق لا هو بالعلم، ولا هو بالفلسفة([12]).

ومن غير المقرَّر أن نتعلّم علم الموجود أو علم الحيوان أو علم الخيل أو الأحياء في صلب المنطق. وإذا قمنا بمثل هذه العملية نكون في الحقيقة قد خلطنا بين «الأداة» وبين «الموضوع»، بل سوف نقدّم الموضوع على الأداة، وهو من الخطأ، ومن الإغراق في الجهل.

غير أن تعريف الإنسان بـ «الحيوان الناطق» وإنْ كان ـ من قبيل: فصل «الصاهل» بالنسبة إلى الحصان ـ يميِّز ماهية الإنسان من سائر الماهيات الأخرى، إلاّ أنه من ناحية أخرى يُصدر حكماً فلسفياً وعلمياً وقضية معرفية تعمل في عين بيان التمايز إلى إثبات إشتراكٍ ما (الاشتراك في الحيوانية)، وبالتالي فإن المنطق سوف يخرج عن الدائرة الآلية، ويدخل في نطاق القضايا الفلسفية والعلمية، ويحدث هنالك خلطٌ بين الأدوات والموضوعات، كما يكون هناك تقدُّم للموضوعات على الأدوات.

توضيح ــــــ

إن «معرفة الخيول» علمٌ، بَيْدَ أن «معرفة الإنسان» علمان. لا شَكَّ في أن الحصان حيوان، وله نفس تتميَّز بكونه صاهلاً، وهذا الأمر لا شَكَّ فيه أيضاً. وبعد هذين الأمرين المسلَّمين يأتي علم معرفة الخيول، ليبحث بشأن أوضاع وأحوال هذا الحيوان من (الوضع الجسمي، والعلف، والبيطرة، والترويض، على المستوى العملي والتطبيقي)، وصولاً إلى تحقيق النتائج العلمية لعلمٍ يُسمّى بعلم معرفة الخيول. وهكذا الأمر بالنسبة إلى سائر الحيوانات الأخرى.

وأمّا في ما يتعلَّق بمعرفة الإنسان فإنه يتمّ الخوض في علمين؛ والعلم الأول: هو علم معرفة الإنسان، المساوق لعلم معرفة الخيول المتقدِّم. فالإنسان بوصفه موضوع هذا العلم ينظر إليه بوصفه حيواناً ـ كما هو كذلك من وجهة نظر بعض العلماء والمفكِّرين ـ، وإن الفارق الوحيد عندهم بين الإنسان وسائر الحيوانات الأخرى يكمن في سعة فهمه وإدراكه واتّساع مساحاته النفسية والروحية، الأمر الذي يجعل علم معرفة الإنسان أوسع من علم معرفة الخيول.

لو اجتمع رأي جميع العلماء على ذلك، ولم يخالف في هذه المسألة منهم أحدٌ، لكان إرسال المنطق الأرسطي إرسال المسلَّمات صحيحاً. بَيْدَ أن اختلاف الآراء والأحكام بين مختلف المذاهب والمدارس، سواء في العلوم الطبيعية وعلم الأحياء وكذلك العلوم الإنسانية، جعل هذه المسألة من أعقد المسائل العلمية، التي لا يمكن الحكم بشأنها بضرسٍ قاطع، فضلاً عن أخذها وإرسالها إرسال المسلَّمات، وخاصّةً في العصر الراهن، الذي استحقّ تسمية «عصر العلوم الإنسانية» بحقٍّ، حيث صار حتّى علم الفيزياء يستخدم من قبل علم المعرفة الإنسانية. وبذلك يتمّ التصريح بأن «معرفة الإنسان» من أكبر مشاكل العلوم البشرية الراهنة. وقد اتَّجهت جميع العلوم المنطقية والفلسفية وسائر العلوم الأخرى في هذا الاتجاه؛ بغية التعرّف على هذا الكائن البشريّ، والحكم بشأنه، وما إذا كان حيواناً ناطقاً أو خَلْقاً آخر.

لقد قدّم شعار «الإنسان حيوانٌ ناطق» خدمةً جليلة لعلم الأحياء في إطار الدارْوِنية، ومن ثمّ في نظرية التطوّر أو التكامل. وقد أبطل القول بخلق الإنسان دفعةً واحدة، والذي ظلّ لقرون متمادية بوصفه هو الرأي التوراتي المتسالَم عليه، وعمل على تحرير الفكر من حصار هذه الرؤية.

وإنّ هذا الشعار المذكور وإنْ كان لا يشكِّل الدعامة الأصيلة لهذه الثورة التحرُّرية، ولكنّه كان يمثِّل العنصر المحوري فيها، ولا يزال.

إلاّ أن التطوُّريّين، وبعد أن تحرَّروا من نظرية أصل الثبات التوراتية، وقعوا في شباك القول بنظرية التطوُّر، فتوقَّفوا عندها كما توقَّفوا في الدائرة العلمية والفلسفية.

لم يثبت غير شيءٍ واحد: إن الإنسان لم يخلق دفعةً واحدة على شكل تمثال من الطين، أو بنفخ الروح فيه، وإنما تكامل مثل سائر الكائنات بشكلٍ تدريجي، وعبر المسار الطبيعي للخلق. ولم ينتج لنا حقل نظرية التطوُّر أو التكامل غير هذه البضاعة.

لو أن عدداً من الأفراد قد توصَّلوا إلى فلسفةٍ ما على أساس من نظرية التطوُّر أو التكامل بشأن الحياة الجسدية للإنسان، فلم يتوصَّل أحدٌ إلى طرح فلسفة بشأن الحياة الاجتماعية للإنسان على أساس هذه النظرية، باستثناء سبنسر، وهي الأخرى مرفوضةٌ الآن من قبل جميع المفكِّرين.

لم تتمكَّن نظرية التكامل من إثبات حتّى العلاقة التناسلية بين الإنسان والحيوان، وإنْ كانت هذه العلاقة في رأي عالم الأحياء الذي لا يمتلك معلومات بشأن سائر العلوم الإنسانية أمراً مسلَّماً، بَيْدَ أنه يتعامل مع هذه الرؤية في ما يتعلَّق بالنقوض الأساسية الواردة بشأن أدلّة علم الأحياء أيضاً.

ولهذه الأسباب يتمّ طرح مسائل المعرفة الثانية (المعرفة الإنسانية). وهو علمٌ لم يطرح بشأن أيّ حيوان آخر. ما هو هذا الإنسان الذي تمكَّن من بناء التاريخ والمجتمع والثقافة بعقله وذكائه الخارق؟ وما هو العقل أساساً؟ ولماذا لا تمتلك النفس الصاهلة عقلاً، في حين تمتلكها النفس الناطقة؟

إن نفس الأسد هي نفسها نفس الحصان مع اختلافٍ، فهل نفس الإنسان هي نفس نفس الحصان مع اختلافٍ في التكامل، أم أن بينهما اختلافاً ذاتيّاً يحول دون وقوعهما تحت جنس واحد (الحيوان)؟

لا يقتصر الموضوع على التكامل من الناحية الكمّية والكيفية، بل إن الحصان أو أيّ حيوان آخر (أو كلّ نوع من أنواع الحيوانات التي تتشعَّب بعد ذلك عن فرع من فروع الحيوان) لن يطوي مسار التكامل ليصل إلى ما وصل إليه الإنسان، ولو بعد مليارات السنين.

هل يمكن لنظرية التطوُّر أن تدّعي، وتقول: لو أن حيواناً سلك سبيل التكامل بماهيته الحيوانية فإنه سيصل إلى ما وصل إليه الإنسان، أو إلى ما هو أرقى منه؟

وعلى أيّ حال فإن موضوع (ما هو الإنسان؟)، ونظرية أهل البيت^ في هذا الشأن، نتركهما إلى بحث الفلسفة الأرسطية. وقد أوضحت في كتابي «تبيين جهان وإنسان» الفرق بين نظرية الثبات ونظرية التطوُّر ورؤية أهل البيت^.

والذي أراه ضرورياً هنا هو الالتفات إلى هذه المسألة الخطيرة، وهي أن العلوم البشرية ـ رغم اتّساعها ـ لم تتمكّن إلى اليوم من إبداء تعريف للإنسان. وهذه هي مشكلة المؤسّسات والمراكز العلمية الكبرى، والعاملين في مجال العلوم والمعرفة، في حين أن المنطق الأرسطي منذ 23 قَرْناً يرسل مقولة «الإنسان حيوانٌ ناطق» إرسال المسلَّمات.

كانت الفلسفة ـ والقائمون على الفلسفة الأرسطية المأسلمة ـ تسعى على الدوام إلى تجاهل جهة (الاشتراك) هذه، مكتفين بالالتفات إلى جهة الاختلاف، وهم الذين يتشبَّثون في ما يتعلَّق بمسألة خلق آدم بالتعاليم التوراتية المحرَّفة([13]). ولذلك يتسامحون في التعاطي مع مقولة: (الإنسان حيوانٌ ناطق)، ولا يزال هناك منهم مَنْ يتقبَّلها على هذه الشاكلة.

وفي مقابل هؤلاء يقف الإشراقيون والسالكون لطريق الكشف والشهود، حيث ذهبوا؛ من خلال التمسُّك بقوله تعالى: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ (الحجر: 29)([14])، إلى القول بامتلاك الإنسان روحاً إلهيّة. فلم يحفلوا بهذا التعريف المتقدِّم، ولم يقيموا له وزناً. وقد كان شيخ الإشراق ـ بوصفه من القائلين بنظرية الثبات ـ يعترض على هذا التعريف الأرسطي صراحةً([15]). وفي ما يتعلق بجهود صدر المتألِّهين الرامية إلى التوفيق والمواءمة كانت هذه المسألة من المسائل التي وصلت إلى الوحدة، بل إنه تجاوز الحدود في هذا الموضوع، فلم يقتصر على اعتبار روح الإنسان روحاً إلهيّة، بل تعدّاها ليعتبر جميع الأشياء من الجمادات والحيوانات الناطقة والصاهلة والناهقة عين الله وذاته.

ومن الجدير بالذكر أن الإنسان يمتلك ذات الأعضاء الجسدية التي يمتلكها الحيوان، ولكنّه ـ طبقاً لتعاليم أهل البيت^ ـ لا يُعتبر حيواناً. فالنبات له روحٌ، وللحيوان روحان، وللإنسان ثلاث أرواح([16]). وإن خلق الإنسان لم يقُمْ على أساسٍ من نظرية أصل الثبات، ولا على أساس نظرية التطوُّر المطلق، بل هو نمطٌ ثالث، يختلف عن العقيدتين الماضيتين اختلافاً جوهرياً.

كاشفية البرهان الأرسطي تفصيلٌ للمجمل ــــــ

يقول ديكارت: «إن البرهان الأرسطي لا يقدِّم لنا شيئاً جديداً؛ إذ إن نتيجته معلومة من كبرى القياس»([17]). فمثلاً في ما يتعلَّق بالقضية التالية:

ـ العالم متغيِّر.

ـ وكلُّ متغيِّر حادثٌ.

ـ إذن العالم حادثٌ.

نجد أن حدوث العالم محرَزٌ في لفظ (المتغيِّر) الوارد في الصغرى، وفي لفظ (الحادث) الوارد في الكبرى. وعليه لا نجد في النتيجة شيئاً جديداً. فعندما يقال في الكبرى: (كلّ متغيِّر حادثٌ) لا يصل الدَّوْر إلى العالم؛ وذلك لأننا أثبتنا حدوثه في تلك الكبرى، وإذا انتظرنا النتيجة لن نحصل على كبرى كلّية أبداً.

أما جواب الأرسطيين عن إشكال ديكارت فهو أن الجديد الذي تنطوي عليه النتيجة هو تفصيل ما كان مُجْمَلاً في المقدّمتين (الصغرى؛ والكبرى).

ومن الواضح أن كلام ديكارت لا ينطوي على إنكار (تفصيل المُجْمَل)، ولكنّه لا يعتبره معرفةً أو علماً جديداً؛ فالعلم هو الذي يزيل الجهل، وليس هو الذي يحوِّل المعلوم بالإجمال إلى معلوم بالتفصيل. إن تحويل المعلوم بالإجمال إلى معلوم بالتفصيل إنّما هو شرح وتفسير للمعلوم، وليس إزالة للجهل وتبديله إلى علم.

لقد صغّر ديكارت المسألة، وكان عليه أن يقول: إن الفلسفة الأرسطية لا تعلِّمنا شيئاً جديداً؛ لأن هذه الفلسفة إنما هي تفصيل لذلك المنطق.

إن الفيلسوف الأرسطي إذا خرج عن نطاقه الخاصّ يكون قد أهدر فلسفته، وإنه بدلاً من العلم سوف يصل إلى عدم العلم؛ وأما إذا زاول نشاطه ضمن نطاقه الخاصّ فإنه سينفق عمره في شرح وتفصيل منطقه، بَيْدَ أن هذه العملية تستحق إنفاق العمر من أجلها. إن المنطق والفلسفة الأرسطية من العلوم الهامة، والتي لا تقلّ في أهمّيتها عن سائر العلوم الأخرى، وخاصّة في مثل هذا العصر، الذي انتشرت فيه علومٌ من قبيل: (المعرفة الإنسانية)، التي تتوقّف بشدّة على المعرفة الذهنية والمفهومية؛ وقد تمّ التأسيس لعلم باسم (الفلسفة التحليلية)، ولا يمكن بلوغه دون المعرفة الذهنية؛ بل إنّ (علم المعرفة) و(علم الاجتماع المعرفي) ـ اللذين يقومان على المعرفة الذهنية وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي ـ يرتبطان بنحوٍ من الأنحاء بـ (معرفة الذِّهْن).

وأنا لهذا السبب ـ بوصفي أرسطياً (لو قبل الأرسطيّون بذلك) ـ أحترم ما أعتبره منطقاً أرسطياً، ولن أرجِّح عليه أيَّ واحد من معلوماتي الأخرى؛ لأنه يتدخَّل فيها بأجمعها. أفهل يمكن التنكُّر للذهن أو النشاط الذهني أو المفاهيم الذهنية؟! إن الإنسان من دون الذهن والمفاهيم الذهنية لا يعدو أن يكون كتلة لحمٍ تافهة.

اتّضح أن المنطق الأرسطي في حقيقته ليس منطقاً، بل هو عين الفلسفة الأرسطية، وأنّ الفرق بينهما يكمن في مجرَّد الإجمال والتفصيل.

والآن ربما وصلنا، بعد تلخيص المطالب المتقدّمة، إلى الإجابة عن سؤالٍ جوهريّ آخر:

لماذا لم يختَرْ أهل البيت المنطق الأرسطي؟ ــــــ

بالالتفات إلى ما تقدّم نعرض الإجابة عن السؤال المتقدّم ضمن الموارد التالية:

1ـ إن المنطق الأرسطي هو منطق الذهن.

2ـ إن المنطق الأرسطي عاجزٌ عن بيان الطبيعيات، حتّى بالقياس إلى الهيغلية والماركسية وما إليهما. ويشتدّ هذا العجز في حالة تسرية الأحكام الذهنية إلى الخارج.

3ـ إن المنطق الأرسطي إنّما ينفع في مقام الفونكوشيوسية فقط.

4ـ إن المنطق الأرسطي منطق علم، فليس هو بالمذهب، ولا هو بالفلسفة.

5ـ إن المنطق الأرسطي مبتلىً بإرسال المسلَّمات.

6ـ إن المنطق الأرسطي مبتلىً بالخلط بين (وحدة الآلة والموضوع).

7ـ إن الفرق بين المنطق الأرسطي والفلسفة الأرسطية هو فرقٌ بالإجمال والتفصيل.

8ـ إن المنطق الأرسطي يعطي الأصالة للذهن والمفهوم.

9ـ إن المنطق الأرسطي في ما يتعلّق بتطبيق الخارج على الذهن إطلاقيّ.

الهوامش

(*) باحثٌ في الفلسفة والفكر الدينيّ.

([1]) يتألف المنطق الأرسطي بشكلٍ عام من قسمين، وهما: «المعرّف»؛ و«الحجّة». وإن مسائل قسم الحجّة تقوم في الحقيقة على أساس قسم «المعرّف». وفي قسم «المعرّف» يتمّ الكلام في أسلوب المعرفة والتعريف، ويتمّ إيضاح تحصيل حدّ ورسم المفاهيم والمصاديق، وما إلى ذلك.

([2]) لقد كانت المسيحية البولسية تعاني من خلأٍ فلسفي. وبعد إخفاقها في اللجوء إلى الفلسفة الإفلاطونية سعَتْ إلى الارتماء في أحضان الفلسفة الأرسطية. وهذه المرّة ترسّخت دعائمها في عالم المسيحية من خلال العالم الإسلامي. وقد تحقّق ذلك من خلال جهود توما الأكويني، بحيث أخذت الفلسفة الأرسطية تعتبر واحدة من أركان المسيحية البولسية.

([3]) كما تقدّم أن ذكرنا فإن الفلسفة السيكولاستية قد تأسّست في بدايتها على دعائم الفلسفة الإفلاطونية. وفيما بعد عمد توما الأكويني إلى التوأمة بين الفلسفة السيكولاستية والفلسفة الأرسطية، والتي أدّت فيما بعد إلى قضية محاكم التفتيش، وانهيار الفلسفة الأرسطية. وقد تحدّث ويل ديوران عن هذه المسألة قائلاً: «إن منهج المذهب الكاثوليكي يقوم في الغالب على أساس «الأكاذيب الملكية» الإفلاطونية، أو أنها نشأت بتأثيرٍ منها. وإن أفكاراً من قبيل: الجنّة والنار والأعراف، على ما نجده في العصور الوسطى، إنما هو مقتبسٌ من النصوص التي تطالعنا في نهاية كتاب (الجمهورية). وإن العقيدة الواقعية (العقيدة التي تقول: إن للصور الكلّية حقيقة عينية) إنما هي تفسير وتأويل لعقيدة «المثل». وحتى «الفنون الأربعة»، التي كانت تشكِّل أساس المناهج التعليمية في العصور الوسطى (الرياضيات والهندسة والفلك والموسيقى)، إنما كانت تقوم على أساس ما ورد في كتاب إفلاطون». (تاريخ الفلسفة: 42).

وقال في موضعٍ آخر: «وفي القرن الثالث عشر أحدثت حركة الترجمة من العربية والعبرية لمؤلَّفات أرسطو هزّة عنيفة في أوروبا، بَيْدَ أن الكنيسة قد حافظت على أمنها وهدوئها في كنف توما الأكويني وغيره من الذين كانوا بمنـزلة أرسطو في علم الكلام في القرون الوسطى. وقد كان هذا نتيجة لذلك التدقيق والتحقيق، وليس بسبب الحكومة والتعقُّل». (تاريخ الفلسفة: 98).

([4]) والملفت أننا شهدنا في هذه الأيام إقامة اجتماع من قبل الهيئة الأرسطية التدريسية (معرفة الكون) في إحدى المراكز العلمية في بلادنا؛ بهدف التمكن من المصالحة بين تلك الهيئة وعلم الفلك الحديث. وقد نشأ هذا التوهّم بعد توهُّم أن هناك انسجاماً بين علم الهيئة والفلك في القرآن الكريم وتعاليم أهل البيت، وقد وصل الدَّوْر الآن إلى إيجاد مثل هذه المواءمة بين تلك الهيئة وعلم الفلك المعاصر.

([5]) بولس: اسمه الحقيقي «شاؤول». كان يسكن فلسطين. وقد اشترى والده التبعية الرومانية. وقد استفاد من هذه المكانة والمنـزلة في إيذاء الفلسطينيين المنتسبين إلى المسيحيّة حديثاً، واستمرّ على ذلك مدّةً مديدة، حتّى اعتنق المسيحية، ونذر نفسه للعمل على نشرها والترويج لها في شمال شبه الجزيرة العربية، وفي آسيا الصغرى، وفي أوروبا.

([6]) الفخر الرازي، التفسير الكبير.

([7]) ألفيّة الشيخ الطوسي: 310؛ التبيان في تفسير القرآن 1: 102 ـ 103؛ صاحب «حدود العالم من المشرق إلى المغرب»، والذي ألَّفه في عام 372هـ، وقال في هذا الشأن: «إن الأرض كروية، وإن الفضاء محيط بها، وهي تدور حول قطبين؛ أحدهما: شمالي؛ والآخر: جنوبي…». (حدود العالم: 8).

([8]) لم يبيّن عمر الكون والمجرّات والكائنات على أساس القرآن الكريم وتعاليم أهل البيت^ إلاّ في كتاب «تبيين جهان وإنسان»، وأما العلوم النظرية والتجريبية المعاصرة فهي متخلفة عنها بمئات السنين.

([9]) لقد بقيت هذه الفلسفة عاجزة، وخاصّة في ما يتعلَّق بالإلهيات بالمعنى الأخصّ؛ وذلك لأن منطق هذه الفلسفة إنما يمكنه بيان التعريف الإيجابي فقط، وحيث لا وجود للكلّي خارج نطاق الذهن فإن جميع الجهود ستؤدي إلى تعريف واجب الوجود ذهنياً. وعندما نعمل على تسرية هذا التعريف إلى الأمور الخارجية سنقع في مصيدة التناقض، لنصل إثر ذلك إلى وحدة الوجود وما إلى ذلك. وأما طبقاً لمنهج أهل البيت^، فحيث يتمتّع في هذا المجال بالتعريف السلبي أيضاً لن تكون هناك من حاجة إلى المنطق الأرسطي أبداً، وفي الوقت نفسه لن نرتكب تناقضاً عند دراسة المسائل المتعلقة بالإلهيات بالمعنى الأخصّ أيضاً.

([10]) قال الأستاذ الشهيد مرتضى المطهري في ما يتعلَّق بالأسلوب الواقعي: «إننا إذا لم نتعرَّف إلى الذهن لن نفلح في تكوين فلسفة أبداً».

([11]) يقول رينان: «لقد علم سقراط الفلسفة للإنسان، وعمد أرسطو إلى تزويده بالعلم…». (تاريخ الفلسفة: 61).

([12]) بحيث إن الأرسطيين أنفسهم يستعملون الفصل في معنيين، وهما:

أـ الفصل المنطقي: إنّ هذا الفصل بمعنى أخصّ اللوازم التي تعرض على النوع، ويعتبر فصلاً، ويستعمل في التعاريف بَدَلاً من الفصول الحقيقية (لصعوبة تحصيل الفصل الحقيقي)، من قبيل: الناطق، الذي يستعمل بدلاً من الفصل الحقيقي للإنسان.

ب ـ الفصل الاشتقاقي: وهو يعني الفصل الذي يقوِّم النوع، ويحصِّل الجنس، ويعتبر مبدأ الفصل المنطقي. (نهاية الحكمة: 82).

بَيْد أنّه أوّلاً: قد أدّى من الناحية العملية ومساحة البناء الثقافي إلى نتائج إرسال المسلَّمات.

وثانياً: خلافاً لهذا الادّعاء بشأن المنطق فإن الفلسفة الأرسطية لم تتمكّن من الوفاء بتعهُّدها بشأن «الفصل»، وقد اتّخذت هذه «الفصول» عنصراً إحيائياً. وقد أدّى ذلك إلى وقوع ويل ديورانت في الخطأ؛ حيث اعتبر النـزعة الذهنية لدى أرسطو قائمة على أساس تجريبي، وقال: إن «فلسفة ما بعد الطبيعة» و«الأمور العامة» لأرسطو قامت على دعامته الأحيائية…». (تاريخ الفلسفة: 67).

بالالتفات إلى ما تقدّم يتّضح أن المشكلة لم تحلّ حتّى من خلال تقسيم الفصل؛ وذلك لتناقضه مع روح الفلسفة الأرسطية. وإنّ هذه التقسيمات إنما جاءت بعد اعتراض شيخ الإشراق السهروردي، وقد أدرجت ـ في مقام الإجابة عنه ـ في صلب الفلسفة الأرسطية، ولم يكن لهذا التقسيم من أثرٍ قبل اعتراضات شيخ الإشراق.

([13]) وذلك بسبب تسرُّب الإسرائيليات في النصوص التفسيرية، ولم تسلم منها ـ على ما تقدّم ـ حتّى التفاسير الشيعية. وبطبيعة الحال قد تقدم التماس العذر لهم بهذا الشأن هناك.

([14]) هذا في حين أنه ورد في نصوص أحاديث أهل البيت^ أنّ الإضافة في هذه الآية هي إضافة ملكية، بمعنى أنّه نفخ في آدم من روحٍ مخلوقة لله.

([15]) حكمة الإشراق، فصل التعريفات.

([16]) انظر: تبيين جهان وإنسان، فصل معرفة الإنسان.

([17]) يقول ديكارت: إن القواعد المنطقية رغم صوابيتها ومتانتها لا تبيِّن لنا مجهولاً، وإن فائدتها الحقيقية إنّما تكمن في معرفة المصطلحات، والحصول على قوّة التفهيم والبيان؛ لأن البرهان هو استخراج النتيجة من المقدّمات. وعليه إذا لم تكن المقدّمات معلومة لن تكون هناك من نتيجة، ولا يمكن الحصول على معلومٍ من خلال مجرّد القواعد المنطقية. وإذا كانت هناك مقدمات صحيحة فإن النتيجة ستكون حاصلة من تلقاء نفسها. إن العقل السليم يعمد بطبيعته إلى استخدام قواعد منطقية، دون أن يكون بحاجةٍ إلى هذا الجدل الذي يثيره المناطقة. (انظر: فرهنگ معين 5: 533 ـ 534). ويقول ويل ديورانت: …لقد كان المناطقة منذ عهد بيرون واستيوارت ميل يواجهون إشكالاً واحداً، وهو أن المقدمة الكبرى بنفسها تحتوي على النتيجة التي يراد إثباتها… (تاريخ الفلسفة: 60).

وقد طرح هذا الإشكال في الشرق من قبل أبي سعيد أبي الخير في القرن الهجري الرابع (357 ـ 440)، حيث أثار هذا الإشكال على ابن سينا، الذي كان يريد إثبات أن فكر الإنسان لا يقوى على كشف المجهولات، وأن الشكل الأول الذي يشكِّل الأساس للاستنتاجات العقلية يستلزم الدَّوْر. وقد أجيب عن هذا الإشكال بإجاباتٍ عديدة، نشير في ما يلي إلى موردين منها:

1ـ إنّ الذي أدّى بالبعض إلى الوقوع في هذه الشبهة هو أنه تصوّر أن العلم بالكبرى يحصل من خلال الاستقراء؛ لأن حصول الحكم الكلي في هذه الحالة يتوقّف على حصول الحكم بجميع آحاد المصاديق على نحوٍ إجمالي أو تفصيلي، وبذلك يكون الدَّوْر المذكور صحيحاً. بَيْدَ أن العلم بالكبرى لا يحصل دائماً من طريق الاستقراء، ويمكن لنا أحياناً أن نحصل على الحكم الكلّي للكبرى من خلال البرهان، الذي يدلّ على الملازمة بين الموضوع والمحمول، دون أن تكون هناك حاجةٌ إلى العلم بأحكام آحاد الأفراد، لا على نحو الإجمال، ولا على نحو التفصيل. ومن باب المثال إليك القضية التالية:

الصغرى: إنّ هذا الماء يغلي.

الكبرى: كلّ ماء يغلي تبلغ درجة حرارته مئة درجة.

النتيجة: إن هذا الماء تبلغ حرارته مئة درجة.

ففي هذا المثال عندما نعلم من طريق البرهان بوجود ملازمة بين غليان الماء وبلوغه مئة درجة يمكن لنا أن نحكم بأن كلّ ماء يغلي فإنه يكون قد بلغ مئة درجة.

2ـ يُقال: إن أحكام العقل على قسمين:

أـ أحياناً يكون موضوع الكبرى علّةً للحكم في الكبرى.

ب ـ أحياناً تكون علّة الكبرى غير الموضوع في الكبرى.

يرد إشكال الدَّوْر على الصورة الأولى فقط. وهو بدوره يزول بعد اكتشاف الملازمة. وأما على الصورة الأولى فلا يرِد الإشكال أصلاً. (انظر: نظرية المعرفة: 146).

وبطبيعة الحال يرد على إشكال الدَّوْر هذا أنّ القائلين به قد أقاموه للنقض على الشكل الأول من البرهان، في حين أنه نفسه برهانٌ من الشكل الأول؛ لأنهم صاغوه على شكل القضية التالية:

الصغرى: إن الاستنتاج من الشكل الأول يلزم منه الدَّوْر.

الكبرى: كلّ استنتاجٍ دَوْري باطل.

النتيجة: الاستنتاج من الشكل الأوّل باطل.

وعليه فإن كلّ إجابةٍ يتقدَّم بها المنتقدون للشكل الأول يمكن للمناطقة أن يجيبوا بها أيضاً.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً