أحدث المقالات

الشيخ محمد النجّار(*)

 

الأحكام الحكومية

«هي القرارات التي يتّخذها وليّ أمر المسلمين تحقيقاً لمصلحة المجتمع المسلم. وهذا اللون من الأحكام تابعٌ لظروف المجتمع المسلم، ورهنٌ بها. ومن هنا فهي قابلةٌ للتغيير إذا ما قضت ظروف أخرى مغايرةٌ لذلك»([1]).

أو هي القرارات التي يتّخذها وليّ الأمر؛ مراعاةً لمصلحة دائمية أو آنية في ضوء الأحكام الشرعية الثابتة، ومبادئ الإسلام العليا، وهي تابعةٌ لوجود المصلحة، وزائلة بزوالها. ولمّا كانت الحياة ومصالح الأمّة في تغيُّرٍ دائم كانت هذه الأحكام بالتَّبع في تبدُّل مستمر.

«وقد كانت هذه الأحكام تسمّى من قبل بـ (الأحكام السلطانية)، ويقصدون بها الأحكام التي تتقوّم برأي السلطة الحاكمة، النابع من شروط المحيط ومتطلَّباته»([2]).

ويطلق عليها اليوم (الأحكام الولائية، والتدبيرية، والإدارية).

وقد بحثها علماء الشيعة الماضين في باب القضاء والخصومات، رغم أنّها غير مختصّة به، وسريانها بالدرجة الأولى على أبواب إدارة الدولة وتنظيمها؛ ويعود سبب ذلك حقيقةً إلى أنّ الشيعة على طول التاريخ لم يكن لهم دولةٌ ونفوذ، ولم يكونوا مبسوطي اليد، وهو ما دعا أيضاً إلى قصر البحث في هذه الأحكام على القضاء، دون توسعتها بما يشمل إدارة الدولة.

وهي لا تختصّ بجانب محدَّد من جوانب الحياة، وإنّما تمتدّ على امتداد رقعة المساحة العبادية، والاقتصادية، والتجارية، والسياسية، والأسرة، والمجتمع، والقضاء، و… والمناط فيها هو تحقيق المصلحة، ودرء المفسدة عن الأمّة والنظام والحكم، من دون تعسُّف أو ظلم، مع مراعاة أحكام الشريعة الثابتة.

والأحكام الحكومية في الحقيقة تبتني على مسألة «أنّ للنبيّ والأئمّة^ شخصيتان: الأولى: بوصفهم مبلِّغين للعناصر الثابتة عن الله سبحانه؛ والأخرى: بوصفهم حكّاماً وقادة للمجتمع الإسلامي، يضعون العناصر المتحرِّكة التي يستوحونها من المؤشِّرات العامّة للإسلام، والروح الاجتماعية والإنسانية للشريعة المقدَّسة. وعلى هذا الأساس كان النبيّ| والأئمة^ يمارسون وضع العناصر المتحرِّكة في مختلف شؤون الحياة»([3]).

«والثمرة في ذلك أنّ تلك التدبيرات الآنيّة غير ملزمة للأجيال التي تأتي فيما بعد. وهذا أمرٌ طبيعي جدّاً. وهذه التدبيرات الآنية تعتبر سنّةً فرضتها الاحتياجات الراهنة القائمة آنذاك»([4]).

«فما كان يمارسه النبيّ بوصفه مبلِّغاً يعتبر حكماً شرعيّاً ثابتاً لكلّ زمان ومكان، وما كان يمارسه بوصفه حاكماً يدلّ على أنّ للحاكم صلاحيّة تمكِّنه من وضع أحكامٍ تتناسب مع المرحلة، ولا تتنافى مع الأحكام الثابتة، فهي لها مداليل (عدالة) ثابتة، لا نصٌّ ثابت»([5]).

إذن إنّ رسول الله| كان «يقوم بوظيفتين: وظيفة تبليغ الأحكام إلى الناس، وذلك عن طريق القرآن الكريم والسنّة الشريفة؛ ووظيفة رئاسة دولة المسلمين، يدير شؤونهم، ويسوس أمورهم. فما صدر منه من حديث بصفته مبلِّغاً هي أحاديث تشريعيّة؛ وما صدر منه بصفته رئيس الدولة وحاكماً يتمتَّع بالولاية العاّمة هي أحاديث إداريّة»([6]).

«والعلماء متَّفقون على أنّ للنبيّ| شخصيّات متعدِّدة، فهو نبيٌّ مكلَّف بالتبليغ وبيان التشريع العامّ للناس في كلّ زمان ومكان؛ وفي نفس الوقت هو حاكمٌ يقضي بين الناس..، وكذلك هو أميرٌ في الجيش، وهو حاكمٌ في نفس الوقت. ولا شكّ أنّ هناك أحكاماً مختلفة من حيث إنّها من التشريع العامّ أو من السياسية الشرعية؟ أي هذه الأحكام هل صدرت بصفته نبيّاً أم بصفته حاكماً وقائداً ووليّاً وأميراً؟»([7]).

وأحد الأدلة على ذلك هو أنّ رسول الله| لمّا سار إلى بدر نزل على أدنى ماء هناك، أي أوّل ماء وجده، فتقدَّم إليه الحباب بن المنذر، فقال: يا رسول الله، هذا المنزل الذي نزلته منزل أنزلك الله إيّاه، فليس لنا أن نجاوزه، أو منزل نزلته للحرب والمكيدة؟ فقال|: «بل منزل نزلته للحرب والمكيدة»([8]). والتاريخ التشريعي الممتدّ من زمان رسول الله| إلى آخر حاكمٍ إسلامي في عصرنا اليوم مليء بالأحكام الحكومية. «فكثيرٌ من نصوص السنّة لا تتضمَّن أحكاماً شرعيّة إلهيّة، بل تتضمَّن ما يُسمّى تدبيرات، وهي أحكامٌ تنظيميّة إدارية…»([9]).

وقد أوردتُ في هذه الدراسة ـ كمثال ـ أكثر من خمسين حكماً حكوميّاً صدر من نبيّ الإسلام محمد|، أو من الأئمّة^، وكذلك ما صدر من فقهائنا الأعلام المتأخِّرين عن عصر النصّ.

 

أحكام رسول الله| والأئمة^ الحكومية

1ـ حفر الخندق

وهو يوم الأحزاب، في السنة السادسة بعد مقدم رسول الله إلى المدينة بخمسة وخمسين شهراً. وكانت قريش تبعث إلى اليهود وسائر القبائل، فحرَّضوهم على قتال رسول الله، فاجتمع خلقٌ من قريش إلى موضعٍ يقال له: سلع، وأشار عليه سلمان الفارسي أن يحفر خندقاً، فحفر الخندق، وجعل لكلّ قبيلة حدّاً يحفرون إليه، وحفر رسول الله معهم، حتّى فرغ من حفر الخندق، وجعل له أبواباً، وجعل على الأبواب حَرَساً، من كلّ قبيلة رجلاً، وجعل عليهم الزبير بن العوّام، وأمره إنْ رأى قتالاً أن يقاتل. وكانت عدّة المسلمين سبعمائة رجل. ووافى المشركون، فأنكروا أمر الخندق، وقالوا: ما كانت العرب تعرف هذا. وأقاموا خمسة أيّام، فلمّا كان اليوم الخامس خرج عمرو بن عبد ودّ وأربعة نفر من المشركين: نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطّاب الفهري، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، فخرج عليّ بن أبي طالب إلى عمرو بن عبد ودّ، فبارزه وقتله، وانهزم الباقون، وكبا بنوفل بن عبد الله بن المغيرة فرسُه، فلحقه عليّ فقتله. وبعث الله عزَّ وجلَّ على المشركين ريحاً وظلمة، فانصرفوا هاربين لا يلوُون على شيءٍ، حتى ركب أبو سفيان ناقته، وهي معقولة، فلمّا بلغ رسول الله ذلك قال: عُوجِل الشيخ([10]).

وحفرُ الخندق كما هو واضحٌ هو عملٌ تدبيري، اقتضته الحرب والمكيدة، ومتطلَّبات الحال والزمان والمكان، ولا يمكن لأحدٍ اليوم ـ أيّاً كان ـ أن يقول بأنّ عمل رسول الله| وحفره الخندق سنّةٌ نبويّة أو حكمٌ شرعيّ.

 

2ـ صلح الحديبية، والحلق والنحر في الحل

خرج رسول الله في السنة السادسة للهجرة يريد العمرة، ومعه ناسٌ، وساق من الهدي سبعين بدنة. وساق أصحابه أيضاً. وخرجوا بالسلاح، فصدَّته قريشٌ عن البيت، فقال: ما خرجتُ أريد قتالاً، وإنّما أردتُ زيارة هذا البيت. وقد كان رسول الله رأى في المنام أنّه دخل البيت، وحلق رأسه، وأخذ المفتاح. فأرسلت إليه قريش مكرز بن حفص، فأبى أن يكلِّمه، وقال: هذا رجلٌ فاجر. فبعثوا إليه الحليس بن علقمة من بني الحارث بن عبد مناة، وكان من قوم يتألَّهون، فلمّا رأى الهَدْي قد أكلت أوبارَها رجع، فقال: يا معاشر قريش، إنّي قد رأيت ما لا يحلّ صدُّه عن البيت. فبعثوا بعروة بن مسعود الثقفي، فكلَّم رسول الله، فقال له رسول الله: يا عروة، أفي الله أن يصدّ هذا الهَدْي عن هذا البيت؟ فانصرف إليهم عروة بن مسعود، فقال: تاللهِ، ما رأيتُ مثل محمد لما جاء له. فبعثوا إليه سهيل بن عمرو، فكلَّم رسول الله وأرفقه، وقال: نخلّيها لكَ من قابلٍ ثلاثة أيام. فأجابهم رسول الله، وكتبوا بينهم كتاب الصلح ثلاث سنين، وتنازعوا بالكتاب لما كتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، حتّى كادوا أن يخرجوا إلى الحرب. وقال سهيل بن عمرو والمشركون: لو علمنا أنّك رسول الله ما قاتلناك، وقال المسلمون: لا تمحُها. فأمر رسول الله أن يكفّوا، وأمر عليّاً فكتب: باسمك اللهمّ، من محمد بن عبد الله، وقال: اسمي واسم أبي لا يذهبان بنبوّتي. وشرطوا أنّهم يخلون مكّة له من قابلٍ ثلاثة أيام، ويخرجون عنها حتّى يدخلها بسلاح الراكب، وأنّ الهدنة بينهم ثلاث سنين، لا يؤذون أحداً من أصحاب رسول الله، ولا يمنعونه من دخول مكّة، ولا يؤذي أحدٌ من أصحاب رسول الله أحداً منهم، ووُضع الكتاب على يد سهيل بن عمرو. فأمر رسول الله المسلمين أن يحلقوا، وينحروا هديهم في الحِلّ، فامتنعوا، وداخل أكثر الناس الرَّيْب، فحلق رسول الله ونحر، فحلق المسلمون ونحروا. وانصرف رسول الله إلى المدينة، ثم خرج من قابلٍ، وهي عمرة القضاء، فدخل مكّة على ناقةٍ بسلاح الراكب، وأخلَتْها قريشٌ ثلاثاً، وخلَّفوا بها حويطب بن عبد العزى، فاستلم رسول الله الركن بمحجنه، وصدق الله رسوله الرؤيا بالحقّ([11]).

فأمر رسول الله| بالحلق والنحر في الحِلّ ليس حكماً شرعيّاً إلهيّاً، وإنّما هو عملٌ تدبيري اقتضاه الموقف في ذلك الحين.

 

3ـ نهي رسول الله| عن أكل لحم الحُمُر الأهليّة يوم خيبر

كانت الحُمُر الأهليّة حمولة المسلمين في معركة خيبر، فخشي رسول الله| عليها من النفاد، فنهى عن أكلها، ولم يكن أكلها حراماً؛ ويشهد لذلك الروايات الكثيرة الواردة في ذلك، منها:

ما رُوي عن محمد بن مسلم وزرارة، عن أبي جعفر×، أنّهما سألاه عن أكل لحوم الحمر الأهلية؟ قال: «نهى رسول الله| عنها وعن أكلها يوم خيبر، وإنّما نهى عن أكلها في ذلك الوقت؛ لأنّها كانت حمولة الناس، وإنّما الحرام ما حرَّم الله عزَّ وجلَّ في القرآن»([12]).

وفي رواية أخرى عن أبي جعفر× قال: «نهى رسول الله| عن أكل لحوم الحمير، وإنّما نهى عنها من أجل ظهورها؛ مخافة أن يفنوها، وليست الحمير بحرامٍ، ثم قرأ هذه الآية: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (الأنعام: 145)»([13]).

ووردت أيضاً عن الإمام الكاظم×.

كما أخرجها كلٌّ من البخاري ومسلم في صحيحَيْهما، عن ابن عبّاس، قال: «لا أدري أَنَهى عنه رسول الله من أجل أنّه كان حمولة الناس، فكره أن تذهب حمولتهم، أو حرَّمه في يوم خيبر، يعني لحوم الحمر الأهلية»([14]).

فتحريم الحُمُر الأهلية من قِبَل رسول الله| لم يكن تحريماً تشريعيّاً، وإنّما هو إجراءٌ اتَّخذه رسول الله في وقتٍ معين، وهو في معركةٍ؛ من أجل الحفاظ عليها، واستخدامها لغرض الحمولة. ونستفيد من هذه الحادثة اليوم في تحريم صيد أنواع معيَّنة من الأسماك والطيور في أوقاتٍ خاصّة، وهي أوقات تكاثرها مثلاً.

4ـ نهي رسول الله| عن منع فضل الماء والكلأ

عن أبي عبد الله× قال: «قضى رسول الله| بين أهل المدينة في مشارب النخل أنّه لا يمنع نفع الشيء، وقضى| بين أهل البادية أنّه لا يمنع فضل ماء؛ ليمنع به فضل كلاء»([15]).

«وقضى| في أهل البوادي أن لا يمنعوا فضل ماء، ولا يبيعوا فضل الكلاء»([16]).

«ومقتضى الجمود على النصّ هو تحريم منع فضل الماء وفضل الكلأ عمَّنْ يحتاج إليهما؛ فإنّ التعبير بـ «قضى»، وظاهر النهي المحكيّ، هو التحريم. ولكنّ المشهور بين الفقهاء هو عدم حرمة منع مالك الماء والكلأ لما يفضل عن حاجته منهما، بل له أن يمنع ذلك عن غيره، وهذا يقتضي عدم الجمود على النصّ، بل فهم النهي على أنّه إجراء تنظيمي، لا أنّه حكم تحريمي، فقد كان المجتمع المسلم في عصر النبيّ| في أشدّ الحاجة إلى إنماء الثروة الحيوانيّة والزراعيّة، فألزم| ـ باعتباره حاكماً ووليّ الأمر ـ مَنْ يملك فائضاً عن حاجته من الماء والكلأ ببذله لمَنْ يحتاجه لريّ زرعه ورعي ماشيته وسقيها»([17]).

 

5ـ نهي رسول الله| عن ادّخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث

قال رسول الله| يوم الأضحى: «مَنْ ضحّى منكم فلا يصبحنّ بعد ثالثة وفي بيته منه شيءٌ، فلمّا كان العام المقبل قالوا: يا رسول الله، نفعل كما فعلنا العام الماضي؟ قال: كلوا، وأطعموا، وادَّخروا؛ فإنّ ذلك العام كان بالناس جهدٌ، فأردتُ أن تُعينوا فيها»([18]).

 

6ـ أمر رسول الله| بتغيير الشيب

ففي الحديث عنه|: «غيِّروا الشيب…». والحديث لا يدلّ على حكمٍ شرعي بالوجوب، ولا بالاستحباب، وإنّما هو إجراءٌ اتَّخذه الرسول لإدخال الرعب في قلوب المشركين المحاربين. ويدل على ذلك قول أمير المؤمنين× حين سُئل عن قول رسول الله: «غيِّروا الشيب، ولا تشبَّهوا باليهود»، فقال×: «إنّما قال ذلك والدين قُلٌّ، وأمّا الآن، وقد اتَّسع نطاقه، وضرب بجرانه، فامرؤٌ وما اختار»([19]).

ونستفيد هنا أنّ حكم رسول الله| الإداري ينتهي بانتهاء مقتضاه، كما في هذا المثال؛ بصريح قول أمير المؤمنين×.

 

7ـ زكاة الخيول

«فرض أمير المؤمنين× الزكاة على الخيل»([20]).

«فإنّ الصيغة التشريعية الثابتة وضعت الزكاة على تسعة أقسام من الأموال، غير أنّه ثبت عن الإمام عليّ× أنّه وضع الزكاة في عهده على أموال أخرى أيضاً، كالخيل مثلاً. وهذا عنصر متحرِّك يكشف عن أنّ الزكاة كنظرة إسلاميّة لا تختصّ بمالٍ دون مال، وإنّ من حقّ وليّ الأمر أن يُطبِّق هذه النظريّة في أيّ مجالٍ يراه ضروريّاً»([21]).

والسؤال هنا: هل يجوز اليوم فرض الزكاة على بعض المعادن، كالمطّاط، وبعض الحبوب، كالحمص والفاصولياء…، أم يُقتصر على الموارد التسعة المذكورة فقط لا غير؟!

 

8 ـ زكاة أرزّ العراق

بالإسناد عن حريز، عن أبي بصير، قال: قلتُ لأبي عبد الله×: هل في الأرزّ شيء؟ فقال: «نعم، ثم قال: إنّ المدينة لم تكن يومئذٍ أرض أرزّ فيُقال فيه، ولكنّه قد جعل فيه، وكيف لا يكون فيه وعامّة خراج العراق منه»([22]).

 

9ـ نهي النبيّ| عن بيع الثمرة قبل نضجها

عن الإمام الصادق× أنّه سُئل عن الرجل يشتري الثمرة المسمّاة من أرضٍ، فتهلك ثمرة تلك الأرض كلّها، فقال×: «قد اختصموا في ذلك إلى رسول الله|، فكانوا يذكرون ذلك، فلما رآهم لا يَدَعون الخصومة نهاهم عن ذلك البيع حتّى تبلغ الثمرة، ولم يحرِّمه، ولكنْ فعل ذلك من أجل خصومتهم»([23]). فالمنع عن بيع الثمرة قبل نضجها إجراءٌ تنظيمي إداريّ، وليس بشرعيّ ثابت؛ بدليل قول الإمام×: «ولم يحرِّمه»، وإنّما كان لفضّ الخصومة والنـزاع. وهذا في الحقيقة يتطلَّب تمحيصاً وتدقيقاً كبيراً من الفقيه؛ للتمييز بين الأحكام الحكومية والشرعية الصادرة من النبيّ|.

10ـ الأمر بالتحنُّك

وردت روايات أنّ حنك العمامة ينبغي أن يُلقى تحت الرقبة، لا في الصلاة فحَسْب، بل دائماً، ومن ذلك ما ورد عن النبيّ|: «الفرق بين المسلمين والمشركين التلحّي بالعمائم»([24]).

ويتمسَّك البعض بهذا الحديث ليقول بأنّ هذا يسري في كلّ الأزمنة دائماً. ويغفل هؤلاء أنّ هذا الأمر صدر كإجراء لمعارضة توجُّه المشركين الذين ما كانوا يتحنَّكون، بل كانوا يشدّون العمامة على رؤوسهم، وهو ما يسمى بالاقتعاط، وقد التفت فقهاء الشيعة المتقدِّمين أمثال الشيخ الصدوق إلى ذلك، فقال&: وذلك في أوّل الإسلام وابتدائه([25]).

فليس الأمر بالتحنُّك إذن حكماً شرعيّاً نهائيّاً… وإلاّ فاليوم؛ وبغياب هذا الشعار للمشركين، وبعد أن أصبح الجميع يربطون حنك العمامة إلى الأعلى، فإنّ التحنُّك من لباس الشهرة، وهو حرامٌ»([26]).

 

11ـ مَنْ أحيا أرضاً فهي له

ورد في الحديث عن النبيّ| أنّه «مَنْ أحيا أرضاً فهي له»([27])، أو «مَنْ أعمر أرضاً فهو أحقُّ بها»([28]).

وعن محمد بن مسلم قال: سمعتُ أبا جعفر× يقول: «أيُّما قوم أحيَوْا شيئاً من الأرض وعمروها فهم أحقُّ بها، وهي لهم»([29]).

يقول السيد الشهيد الصدر& هنا: «فالمبدأ التشريعي القائل مثلاً: إنّ مَنْ عمل في أرض، وأنفق عليها جهداً حتّى أحياها، فهو أحقُّ بها من غيره، يعتبر في نظر الإسلام عادلاً؛ لأنّ من الظلم أن يُساوى بين العامل الذي أنفق على الأرض جهده وغيره ممَّنْ لم يعمل فيها شيئاً. ولكنّ هذا المبدأ بتطوُّر قدرة الإنسان على الطبيعة ونموّها يصبح من الممكن استغلاله. ففي عصرٍ كان يقوم إحياء الأرض فيه على الأساليب القديمة لم يكن يُتاح للفرد أن يباشر عمليات الإحياء إلاّ في مساحاتٍ صغيرة، وأمّا بعد أن تنمو قدرة الإنسان، وتتوفَّر لديه وسائل السيطرة على الطبيعة، فيصبح بإمكان أفرادٍ قلائل ممَّنْ تؤاتيهم الفرصة أن يُحيُوا مساحةً هائلة من الأرض، باستخدام الآلات الضخمة، ويسيطروا عليها، الأمر الذي يزعزع العدالة الاجتماعية ومصالح الجماعة، فكانَ لا بدّ للصورة التشريعية من منطقة فراغٍ يمكن ملؤها حسب الظروف»([30]).

 

12ـ تحديد الأسعار

جاء في عهد الإمام عليّ× إلى مالك الأشتر أوامر مؤكَّدة بتحديد الأسعار، وفقاً لمقتضيات العدالة. فقد تحدَّث الإمام× إلى واليه عن التجّار، وأوصاه بهم، ثم أعقب× ذلك بقوله: «واعلم أنّ في كثير منهم ضيقاً فاحشاً، وشحّاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكُّماً في البياعات، وذلك باب مضرّة للعامة، وعيب على الولاة، فامنع من الاحتكار؛ فإنّ رسول الله| منع منه، وليكن البيع بيعاً سَمْحاً بموازين عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين، في البائع والمبتاع»([31]).

والشريعة تتيح للبائع البيع بأيّ سعر. فأمرُ الإمام بتحديد الأسعار، ومنعُ التجار عن البيع بثمنٍ أكبر، صادرٌ منه بوصفه وليّ الأمر، فهو استعمالٌ لصلاحياته في ملء منطقة الفراغ، وفقاً لمقتضيات العدالة الاجتماعية التي يتبنّاها الإسلام»([32]).

 

13ـ إيجاب الخمس في الذهب والفضة

ففي روايةٍ طويلة عن الإمام أبي جعفر×: «…وإنّما أوجبتُ عليهم الخمس في سنتي هذه في الذهب والفضّة التي قد حال عليهما الحول…»([33]).

ويعقِّب السيد الخوئي& على هذه الرواية بقوله: «إنّ لوليّ الأمر الولاية على ذلك، فله إسقاط الخمس عن التجارة، وجعله في الذهب والفضة، ولو مؤقَّتاً؛ لمصلحة يراها، مقتضية لتبديل البعض بالبعض…»([34]).

 

14ـ منع رسول الله| عن إيجار الأرض

عن رافع بن خديج قال: نهانا رسول الله| عن أمرٍ كان لنا نافعاً، إذا كانت لأحدنا أرضٌ، أن يعطيها ببعض خراجها أو بدراهم، وقال|: «إذا كانت لأحدكم أرضٌ فليمنحها أخاه، أو ليزرعها»([35]).

وفي روايةٍ أخرى عن رافع أيضاً: قال رسول الله|: «مَنْ كانت له أرضٌ فليزرعها، أو ليُزرعها أخاه، ولا يكاريها بثلثٍ ولا بربعٍ ولا بطعامٍ مسمّى»([36]).

«فعقد إجارة الأرض جائزٌ شرعاً، كما هو مشهور. وهذا النهي ليس حكماً شرعيّاً، وإنّما نهى| عن ذلك بوصفه وليّ أمر؛ حفاظاً على التوازن الاجتماعي؛ وللحيلولة دون نشوء كسب مترف لا يقوم على أساس العمل، في الوقت الذي يغرق فيه نصف المجتمع (المهاجرون) في ألوان العوز والفاقة»([37]).

 

15ـ إعطاء الوالي من عنده للفقراء والمساكين

عن الإمام الكاظم×: «إنّ الوالي يأخذ المال فيوجِّهه الوجه الذي وجَّهه الله له على ثمانية أسهم، للفقراء والمساكين يقسمها بينهم بقدر ما يستغنون في سنتهم، بلا ضيق ولا تقية، فإنْ فضل من ذلك شيءٌ رُدَّ إلى الوالي، وإنْ نقص من ذلك شيءٌ، ولم يكتفُوا به، كان على الوالي أن يموِّنهم من عنده، بقدر سعتهم، حتّى يستغنوا»([38]).

وهذا الحديث يؤكِّد على هدف الشريعة في القضاء على الفقر، ومحاولة جعل المجتمع في طبقات متقارِبة اقتصادياً، وهو ما يؤكِّد على أنّ الفقير ليس هو مَنْ لا يملك قوت يومه، وإنّما هو غير الملتحق بمستوى المعيشة في بلده. ومن هنا جاءت التأكيدات الكثيرة على إعطاء الزكاة داخل البلد، وعدم جواز إخراجها.

«فربّ مستوى من القدرة المعيشية يعتبر في بيئة معيَّنة فقراً، وفي بيئةٍ أخرى غير ذلك؛ لأنّ الغنى عبارة عن وجدان المستوى المتعارف من المعيشة لدى عامّة الناس. والفقر عبارة عن فقدان ذلك»([39]). «والإسلام لم يعطِ للفقر مفهوماً مطلقاً، ومضموناً ثابتاً في كلّ الظروف والأحوال، فلم يقُلْ مثلاً: إنّ الفقر هو العجز عن الإشباع البسيط للحاجات الأساسية، وإنّما جعل الفقر بمعنى عدم الالتحاق في المعيشة بمستوى معيشة الناس، كما جاء في النصّ، وبقدر ما يرتفع مستوى المعيشة يتَّسع المدلول الواقعي للفقر»([40]). لذا فإنّ مصداق فقير أثيوبيا يختلف عن مصداق فقير الكويت مثلاً، ولا يمكن أبداً إعطاء تعريفٍ واحد للفقير، وإنّما المهمّ في الأمر هو تحقيق تقاربٍ في مستوى المعيشة بين أبناء البلد الواحد، وما لذلك من آثار اجتماعية عظيمة، كما لا يخفى.

 

16ـ أسرى الحرب

للإمام أن يختار في أسرى الحرب التي تكون بإذنه العفوَ؛ أو أخذَ الفدية أو إطلاقَهم؛ أو الاسترقاقَ([41]). «وإنّ ولي الأمر هو المسؤول عن تطبيق أصلح الحالات الثلاث على الأسير، وأوفقها بالمصلحة العامّة»([42]).

 

17ـ خُمْس فاضل المؤونة

«ألمح الشيخ منتظري في كتاب (الخمس) إلى أنّ خمس فاضل المؤنة ضريبة فُرضت من قِبَل الأئمّة المتأخِّرين^ [أي بعد الإمام الرضا×] بصفتهم حكّاماً؛ لحاجة الشيعة لذلك.

قال في الكتاب المذكور: «ويمكن أن يُقال أيضاً: إنّ هذا القسم من الخمس وظيفة وميزانية حكوميّة جُعلت من قِبَل الأئمّة المتأخِّرين^ حسب الاحتياج، حيث كانت الزكوات ونحوها في اختيار خلفاء الجور. ولذلك ترى الأئمّة^ محلِّلين له تارةً، ومطالبين أخرى. وللحكومة الحقّة هذا النحو من الاختيار»([43]).

 

18ـ قلع نخلة ابن جندب

اعتبر بعض الفقهاء أنّ قلعَ نخلة سمرة بن جندب في القصّة المعروفة التي أنتجت لنا أوسع قاعدة فقهيّة، وهي: «لا ضرر، ولا ضرار، في الإسلام»([44])، عملٌ حكوميّ، استخدم فيه رسول الله صلاحيّاته كوليّ أمر وقائد دولة([45]).

وأعتقد أنّ هذه القاعدة المشهورة، والتي «لو بُني على العمل بعموم هذه القاعدة حصل منه فقهٌ جديد»([46])، هي حكمٌ حكومي، وليس ثانويّاً، بمعنى أنّ قلع رسول الله| لنخلة سمرة بن جندب، كما في مشهور الحادثة([47])، كان عملاً نابعاً من سلطة رسول الله|، وحكمه الحكوميّ المقتضي لمصلحةٍ أكبر. ولم يكن حكماً ثانوياً، بمعنى أنّ قلع النخلة من دون إحراز رضا صاحبها حرامٌ، ولكنّه في حالة الضرر يأتي حكمٌ ثانويّ يُحلِّل هذه الحرمة. والمسألة تحتاج إلى تأمُّلٍ وتدقيق ومجال بحثٍ أوسع من هذه الدراسة.

 

19ـ إطلاق سراح كل مَنْ يُعلّم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة

إنّ حكم رسول الله| بإطلاق سراح أسرى معركة بدر مقابل أن يُعلِّم كلُّ واحد منهم عشرة من المسلمين، الذين لا يجيدون القراءة والكتابة، كان عملاً تدبيريّاً حكومياً، لا شرعياً ثابتاً، اقتضته الحاجة الماسّة التي كان يعيشها المسلمون آنذاك من الجهل، مع احتياجهم الشديد إلى العلم والقراءة والكتابة، وخصوصاً في أيّام نزول الوحي، وتعلّم قراءة القرآن وحفظه.

 

20ـ تخريب بيوت بني البكاء وسط السوق

عن الأصبغ بن نباتة المجاشعي: إنّ علياً خرج إلى السوق، فإذا دكاكين قد بُنيت بالسوق، فأمر بها فخُرِّبت فسُوِّيت، قال: ومرّ بدور بني البكاء، فقال: هذه من سوق المسلمين، قال: فأمرهم أن يتحوَّلوا، وهدمها([48]).

 

21ـ جعل الطريق سبعة أذرع

عن رسول الله|: «إذا اختلفتم في الطريق فاجعلوه سبعة أذرع»([49]). فإذا صحَّ هذا الحديث سيكون من المُسلَّم به أنّ رسول الله| أراد أن يحلَّ نزاعاً حول الطريق، ولم يشأ سنَّ قانونٍ وحكمٍ ثابتٍ لجميع العصور، وإلاّ فلا يمكن اليوم تصوُّر شارعٍ عرضه ثلاثة أمتار ونصف، أو حتّى سبعة أمتار، ولا يمكننا القول أبداً: إنّ الشارع الشرعي أو المستحبّ هو سبعة أمتار، وما أكثر فهو خارج نطاق الشرع؛ لأنّ تحديد هذه المقادير تابعٌ لعوامل الحياة والطبيعة والزمان والمكان. فسبعة أمتار تكفي لعَرَبات الخيل، بينما اليوم لا يكفي سبعون متراً ـ في بعض المدن ـ لسير السيارات، وغداً لا يكفي أكثر من ذلك؛ نظراً لتزايد عدد المركبات، وتطوّر أشكالها، وآليّة حركتها.

 

22ـ طلب الرزق في مصر

ففي الرواية عن عليّ بن الحسن التيمي، عن عليّ بن أسباط، عن رجلٍ، عن أبي عبد الله× قال: ذكرتُ له مصر: فقال: «قال رسول الله|: اطلبوا بها الرزق…»([50]).

واليوم أهل مصر يطلبون الرزق في بلدان العالم. فهو حكمٌ حكوميّ ناظرٌ إلى ذلك الوقت الذي كانت فيه مصر محطّاً للتجارة والزراعة والصناعة. وكذا العراق وجميع دول العالم، مرَّتْ وتمرّ باستمرار بأيّام خيرٍ ونعمة، ثم ما تلبث أن تنتكس وتتقهقر، ثم تعود وتزدهر، وهكذا…

 

23ـ تحريم الإمام الصادق× المتعة على عمّار وسليمان بن خالد ما داما في المدينة

عن عليّ بن أسباط ومحمد بن الحسين جميعاً، عن الحكم بن مسكين، عن عمّار، قال: قال أبو عبد الله× لي ولسليمان بن خالد: «قد حرَّمت عليكما المتعة من قِبَلي ما دمتما بالمدينة…»([51]).

 

24ـ قطع نخيل بني النضير وحرقها

ما ذكره الزهري أنّ النبيّ| أمر بقطع نخيل بني النضير، فشقَّ ذلك عليهم، حتّى نادَوْه: ما كنت ترضى بالفساد يا أبا القاسم! فما بال النخيل تقطع؟! فأنزل الله تعالى ﴿مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾ (الحشر: 5)([52]). ومن الواضح أنّ الحكم الأوّلي هو المنع من قطع الأشجار، كما ورد في الروايات: «ولا تقطعوا شجراً، إلاّ أن تضطروا إليها»([53])، «ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تحرقوا زرعاً؛ لأنكم لا تدرون لعلّكم تحتاجون إليه»([54]).

 

25ـ حكم رسول الله| والأئمّة^ على بعض قضايا السوق

حكم رسول الله| والأئمّة^ على بعض قضايا السوق([55])، وتقييمهم^ لبعض الموضوعات، كما في الرواية عن أبي الجنيد: …فاشتريتُ سيفاً، فعرضتُه عليه ـ أي على أبي الحسن العسكري ـ فقال×: «رُدَّ هذا، وخُذْ غيره، قال: فردَدْتُه، وأخذتُ مكانه ساطوراً، فعرضتُه عليه، فقال: هذا نعم»([56]).

هذه الرواية تدلّ على أنّ للأئمّة^ رأياً في الموضوعات، وهي حتماً ليست أحكاماً إلهيّة، وإنّما أحكامٌ موضوعية، أو قُلْ: تدبيرية حكومية.

وهناك الكثير من هذه الأحكام التدبيريّة التي سنجدها في عمل الرسول الكريم| والأئمّة الأطهار^ إذا ما محَّصنا التاريخ، وغصنا في أعماقه.

فتاوى الفقهاء الحكوميّة

1ـ فتوى الميرزا الشيرازي بتحريم التنباك

وهي من أشهر الأحكام الحكوميّة الصادرة من فقهاء الأمّة، حيث أفتى الميرزا محمد حسن الشيرازي& بـ «أنّ استخدام التنباك والتتن بأيّ شكلٍ من الأشكال يعدّ محاربة للإمام الحجّة صلوات الله وسلامه عليه»([57]).

وخلاصة القصّة أنّه في عام 1892م منح شاه إيران امتياز إنتاج وبيع التبوغ لشركة بريطانية لعدّة سنوات، مقابل كمّيةٍ كبيرة من المال، كان الشاه بحاجةٍ إليها في وقته.

وعرف الزعيم الشيرازي& أنّ هذه الشركة الإنجليزية واجهةٌ لشبكة جاسوسيّة بريطانيّة، وعمل استعماريّ واسع في إيران، فحرَّم شراء واستعمال التبوغ في إيران، وأصدر بذلك فتواه المشهورة.

وما إنْ أصدرت المرجعية هذا الحكم في وقته حتّى امتنع المسلمون في إيران بكافّة طبقاتهم من استعمال التبوغ، حتّى اضطر الشاه إلى إلغاء المعاهدة التي عقدها مع الشركة البريطانيّة([58]).

ورغم المحاولات الكبيرة التي بذلتها الشركة البريطانية في استعمال التبوغ، وكسر المقاطعة الشعبية الواسعة، فإنّ المقاطعة ظلَّتْ قائمة.

وبذلك أفسد الميرزا الشيرازي& مؤامرة كبيرة حيكت ضدّ الأمّة الإسلامية؛ باستخدامه صلاحيّاته داخل منطقة الفراغ التشريعي، وتحريم ما هو مباحٌ شرعاً، بحسب حكمه الأوّلي.

وفتوى الشيرازي هذه حكمٌ حكومي واجب الاتّباع على جميع الفقهاء، فضلاً عن عوامّ الناس([59]).

 

2ـ التجنيد الإلزامي

وهو لم يكن في زمن الرسول| أو الأئمّة^، فلم يكن المسلمون بحاجة إليه. وأمّا اليوم؛ ومع المخاطر التي تحيط بالمسلمين من كلّ صوب، فإنّ التجنيد الإلزامي المفروض يعتبر إعداداً للقوّة المأمور به في القرآن الكريم. وقد اعتبره الشهيد الصدر& المثال الواضح للأحكام الحكوميّة، التي عبّر عنها& بالتعاليم، فقال: «ومثال التعاليم إلزام المسلمين القادرين بالتدريب على القتال، فإنّ هذا الحكم ليس حكماً شرعياً ثابتاً في كلّ الأحوال، ولم يدلّ عليه من الأدلّة الأربعة بهذه الصفة المعيَّنة، ولذا لا يوجد إلزامٌ بالتدريب أيام الرسول|»([60]).

 

3ـ تعدُّد موارد الاحتكار

الرواية الواردة عصر التشريع في احتكار موارد بعينها، وهي: الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والزيت، وبعضهم يضيف الملح، بينما اليوم تتعدّى هذه الموارد إلى الحبوب والأدوية والفواكه والخضار. بل يوجد كلامٌ في الأصناف الأربعة أو الخمسة المذكورة، هل هي مرادةٌ بعينها أم أنّها كانت طعام المسلمين آنذاك؟ لذا فإنّ احتكار الزبيب اليوم لا يشكِّل أزمة غذائيّة أو اقتصادية، بينما احتكار الوقود اليوم في الشتاء، وأدوية بعض أمراض القلب، يُسبِّب خللاً لا يمكن السكوت عنه بحالٍ من الأحوال.

وأفتى الفقهاء قديماً وحديثاً بإجبار المحتكِر على البيع، كما عن الشيخ الأنصاري في مكاسبه: «الظاهر عدم الخلاف ـ كما قيل ـ في إجبار المحتكِر على البيع…، بل عن المهذَّب الإجماع»([61]).

 

4ـ جواز التسعير

ذهب الفقهاء إلى مشروعية التسعير عندما تدعو الحاجة إليه، وإنْ لم يرِدْ فيه تشريعٌ خاصّ، بل ورد المنع في بعض الروايات([62])، ورأي أكثريّة الفقهاء([63]). وينقل هذا الجواز ـ على سبيل الفرض ـ الفقيه المتتبِّع السيد محمد جواد الحسيني العاملي، في كتابه مفتاح الكرامة، بقوله: «وفي المقنعة والمراسم أنّه يسعر عليه بما يراه الحاكم، وفي الوسيلة والمختلف والإيضاح والدروس واللمعة والمختصر والتنقيح أنّه يسعر عليه إنْ أجحف في الثمن؛ لما فيه من الإضرار المنفي»([64]).

 

5ـ الاكتفاء بذكر رقم المحضر العقاري

بدلاً من ذكر حدود العقار من الجهات الأربع، المشروطة سابقاً في تحديد العقار.

6ـ جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، والأذان، والمجالس الحسينيّة

نظراً لتغيُّر الزمان، وانقطاع تخصيص العطايا من بيت المال لمثل هذه الأمور.

 

7 ـ جواز التجسُّس

الذي أصبح اليوم وسيلةً لحفظ النظام، بعد تحريمه بنصٍّ قرآني: ﴿وَلاَ تَجَسَّسُوا﴾ (الحجرات: 12)، ورغم أنّه يدخل ضمن الأحكام الثانوية إلاّ أنّ مبادئ تشريعه تدخل ضمن الأحكام الحكومية، التي تُراعى فيها مصلحة البلاد.

 

8ـ جواز بيع الدم، والتشريح

أجمع فقهاء اليوم على جواز بيع الدم، والتشريح، بعدما كانا محرَّمين.

وقد حرُم بيع الدم؛ لنجاسته؛ ولكونه لا فائدة منه.

وأمّا التشريح فقد ورد النهي عن التمثيل، ولو بالكلب العقور([65]).

وأمّا اليوم فقد أصبح الدم ذا فائدة عظيمة، حيث يدخل كعنصرٍ أساسي لا يمكن الاستغناء عنه في العمليات الجراحيّة الطبية.

وأمّا التشريح فهو أداة علميّة عمليّة أيضاً، لا يمكن الاستغناء عنها في دراسة الطبّ.

 

9ـ مقاطعة بعض البضائع الأجنبية

من أجل الضغط السياسيّ والاقتصاديّ على تلك الدولة المنتِجة أو المصدِّرة لتلك البضائع.

 

10ـ إمكانيّة تحديد ملكيّة بعض الأشخاص

«تحديد ملكيّة بعض الأشخاص إذا رأى الحاكم أنّه من المصلحة بحقٍّ تحديد تملك هذا الشخص»([66]).

 

11ـ إيجاب الالتحاق بالجيش

فتوى الشيخ عبد الحسين لاري بأنّ مَنْ لا يلتحق بالجيش في مقاومة الإنجليز كأنّما تخلَّف عن جيش أسامة([67]).

 

12ـ تأميم النفط

في تأميم النفط أفتى السيد محمد تقي الخوانساري: «إنّ رفض هذا الحكم بمنزلة الردّ على رسول الله|»([68]).

 

13ـ تحريم الانتماء إلى الحزب الشيوعي

الفتوى المعروفة عن السيد محسن الحكيم&: لا يجوز الانتماء إلى الحزب الشيوعي؛ فإنّ ذلك كفرٌ وإلحاد، أو ترويج الكفر.

 

14ـ تحريم الانتماء إلى حزب البعث

الفتوى المعروفة عن السيد محمد باقر الصدر& بتحريم الانتماء إلى حزب البعث.

وتعتبر هذه الفتاوى المتقدِّمة أحكاماً حكومية؛ لأنها تصدر في زمان معيَّن وظرف خاصّ، وتنتهي بانتهاء ذلك الزمان وظروفه المحيطة.

 

15ـ فتاوى الإمام الخميني& في إدارة دولته

مجموعة الأحكام التدبيرية التي اتّخذها الإمام الخميني (الفقيه) في إدارة دولته الإسلامية، والتي منها: أمره& بتشكيل مجلس الشورى الإسلامي، وتعيينه مهدي بازركان رئيساً للوزراء، وحكمه بمصادرة أموال الشاه محمد رضا بهلوي، وتعيينه الشيخ محيي الدين أنواري والشيخ فضل الله محلاتي بعنوان أمراء الحجّاج، والعفو عن المسجونين بمناسبة حلول عيد الفطر المبارك، وتأسيس مجمع تشخيص مصلحة النظام، ووجوب المشاركة في الانتخابات، و«تحديد الحاكم الشرعي حدّاً لا يسمح بتجاوزه في عمليّة إحياء الأرض أو غيرها من مصادر الثروة الطبيعية، فيما إذا كان السماح المطلق مع نموّ القدرات المادّية والآلية لعملية الإنتاج يؤدّي إلى إمكان ظهور ألوان من الاستغلال والاحتكار التي لا يقرّها الإسلام»([69])، وتخريب بعض البيوت والمساجد في سبيل توسعة البلاد، وهدم المساجد المحرِّضة على الفتنة أو المتبنية لعقائد هدّامة، والمنع من صيد بعض الأسماك أو بعض الحيوانات في أوقات تكاثرها، والحدود والجمارك، ومنع دخول بعض البضائع من بعض البلدان، والمقاطعات الاقتصادية لبلدٍ معيَّن، والضرائب، وتحديد أسعار بعض الحاجيّات الضرورية، كالغذاء الرئيس والدواء، وحقوق الطبع، ولزوم بذل الزائد عن حاجة الإنسان أوقات المجاعة.

واليوم هناك الكثير من مستجدّات العصر، التي تتطلَّب فتاوى تتناسب وطبيعة هذه المستجدّات ومتطلَّبات العصر والحياة والمجتمع من جهةٍ، مع الحرص على تحقيق أهداف الشريعة والسير باتّجاه مؤشّراتها وعدم التقاطع مع مبادئها العامّة من جهةٍ أخرى.

كما يمكن القول: إنّ من مصاديق الأحكام الحكومية أيضاً إمكانية تبدُّل بعض الأحكام المباحة (غير المحرَّمة والواجبة) في المستقبل، وتعيين أحكامٍ جديدة لمستجدّات العصر ومتطلَّباته، كأنْ يُفتى في الغد بأنّ وجود فضائيّة إسلامية، أو العمل على الإنترنت، واجبٌ كفائي.

«فليست قليلة إذن هي الأحكام التي أُدرجت في الفقه؛ استجابةً لحاجات الناس الملحّة، أو جاءت جرياً على الأعراف السائدة في زمانٍ سابق»([70]).

 

الفرق بين الأحكام الحكومية والأحكام الإلهية الشرعية

1ـ الحكم الإلهي ثابتٌ دائم لكلّ الناس، في كلّ زمان ومكان؛ بينما الحكم الإداري مؤقَّت، خاصّ بأُناس معيَّنين، وبزمانٍ ومكانٍ محدودَيْن، ومرتبط بأسباب إيجاده وظروفه. وربما يمكن القول: إنّ الحكم الإلهيّ موضوعٌ على نحو القضيّة الحقيقية، بينما الحكم الإداري فهو على نحو القضيّة الخارجيّة.

2ـ الأحكام الأوّلية تُنسب إلى الشارع المقدَّس مباشرة، فهي أحكام إلهيّة؛ بينما تنسب الأحكام الولائية إلى الشارع بالواسطة، بمعنى وساطة أولي الأمر الذين فرض الله طاعتهم.

3ـ تكتسب الأحكام الثانوية إلزاميّتها من ذاتها؛ لأنّها حكمٌ شرعيٌّ منصوصٌ عليه؛ بينما تكتسب أحكام المساحة المفتوحة إلزاميّتها من لزوم طاعة أولي الأمر.

4ـ إنّ ملاكات الأحكام الأوّلية هي المصلحة الواقعيّة، وتشخيصها بيد الشارع المقدَّس؛ أمّا ملاك الأحكام الولائية هو المصلحة الظاهريّة، والذي يشخِّص هذه المصلحة هو الحاكم([71]).

5ـ كشف ملاكات الأحكام الأوّلية يكون بالدليل أو الأمارة؛ بينما كشف ملاكات الأحكام الولائيّة فعادةً ما تكون عقليّة أو عُرْفية.

6ـ موقف الفقيه من الأحكام الأوّلية هو الكشف؛ بينما موقفه من الأحكام الولائية هو التشريع.

7ـ في الأحكام الأوّلية يرجع كلُّ مكلَّف إلى مقلَّده؛ بينما في الأحكام الولائية الحكومية يجب على الجميع طاعة الحاكم الإسلامي.

8 ـ مجال الأحكام الأوّلية ممتدٌّ على كلّ مساحة الأحكام التكليفيّة الخمسة؛ بينما مجال الأحكام الحكومية يكون في المباحات بمعناها الأعمّ (أي بما يشمل المستحبّ والمكروه)، على رأي أغلب القائلين بها.

9ـ غالباً ما يكون تكليف الأحكام الحكومية صادراً في حقّ الجماعة؛ بينما يكون تكليف الأحكام الأوّلية على الفرد والجماعة، وإنْ كان الاتّجاه الفقهي السائد ـ وللأسف ـ هو فقه الأفراد، لا فقه المجتمع والأمّة، وهو ما أدّى إلى حصر آيات الفقه بالخمسمائة. فالجهاد مثلاً واجبٌ عينيّ على الأمّة عند اقتضائه، وكفائي على الأفراد إذا بلغ النصاب المطلوب حدّه.

وبعد هذه المقارنة المختصرة بين الأحكام الأوّلية والإدارية الحكومية يتبيَّن مدى أهمّية التفريق بين هذين الحكمين من ناحية عمليّة في عمليّة استنباط الحكم، أو في عملية إصدار الحكم. وهنا تأتي أهمّية الدعوة الرائدة لسماحة الدكتور الشيخ عبد الهادي الفضلي في «تدوين قوائم كاملة للأحاديث الإداريّة المنبثّة في كتب الحديث وموسوعاته، من خلال إحصائيات وافية؛ لتكون تلكم القوائم المرجع في هذا المجال»([72]).

 

إشكالٌ ودفع

إنّ القول بأنّ رسول الله| كان مبلِّغاً لأحكام الله سبحانه وتعالى من جهةٍ، وحاكماً ورئيس دولة من جهةٍ أخرى، فما صدر منه| بوصفه مبلِّغاً يُعتبر حكماً شرعياً ثابتاً، وسارياً لكلّ جيل وزمان ومكان، وما صدر منه| بوصفه حاكماً ورئيس دولة يعتبر حكماً تنظيميّاً حكوميّاً، يمكن الاستفادة من أهدافه التي راعاها رسول الله، ولا يعتبر حكماً شرعيّاً ثابتاً لكلّ جيل وزمان ومكان، هذا القول يتنافى وقول الله سبحانه وتعالى في وصف نبيِّه الكريم ومهمّته الإلهية: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾ (النجم: 3 ـ 4)، وقوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا…﴾ (الحشر: 7).

ويُجاب بأنّه لا معارضة أصلاً بين تصرُّف النبيّ كحاكمٍ، وسنِّه لقوانين ولائيّة، وبين الآية الشريفة التي تنفي نطق الرسول عن الهوى، فلا أحد يتجرّأ ـ والعياذ بالله ـ ويقول بخطأ النبيّ| في هذه الحادثة أو تلك، وإنّما نحن نقول: إنّ هذا الحكم لا يسري خارج هذا الموضوع. ففعله وقوله| صحيحٌ بلا أدنى شكّ في هذا المورد؛ لعصمته|، ولكنَّه لا يسري على غير هذا المورد؛ لاختلاف الموضوع في الحقيقة، نتيجة اختلاف ظروفه المحيطة. كما أنّه لا تلازم أو ترابط بين سنِّ وتشريع رسول الله| الأحكام التدبيرية في ظروف الحرب أو العسر أو الحاجة؛ باعتباره حاكماً ووليّ الأمر، وبين النطق عن الهوى الذي تنفيه الآية الشريفة عن رسول الله|. فحكمه التدبيري ليس (نطقاً عن الهوى) قطعاً، وبلا أدنى شكّ أو ريبة، ولا يمكن بحالٍ من الأحوال الربط بين الأمرين.

وأخذ ما أمر به رسول الله|، والانتهاء عمّا نهانا عنه، يكون أيضاً مختلفاً باختلاف طبيعة الحكم؛ فما كان حكماً شرعيّاً يؤخذ على نحو الاستمرار لكلّ زمان ومكان وظرف ومحيط، من دون دخالة للظروف فيه؛ وما كان حكماً حكوميّاً يطاع ويؤخذ أيضاً؛ لنصّ الآية القرآنية الشريفة بوجوب طاعة النبيّ|، والأمر بأوامره والانتهاء بنواهيه، ولكنْ بنحوٍ مؤقَّتٍ بحسب تدخل عوامل الحال والظروف، بمعنى أنّ أوامره| في ظرف الحرب تنتهي بانتهاء الحرب، كما في الأمثلة السابقة في حفر الخندق، أو النهي عن ذبح الحُمُر الأهلية، هذا من جهةٍ.

ومن جهةٍ أخرى فإنّ الحكم الشرعي أو الأمر الشرعي يؤخذ بنفسه ونصّه، كما في جزئيّات العبادات، والصلاة ثلاث ركعات للمغرب، وأربع للعشاء، وبجوهره وحكمته في ما كان قولاً أو فعلاً حكوميّاً، والتي تكون بنفس الوقت في أغلب الأحيان قواعد عامّة كلّيّة تشريعيّة، تُطبّق على مفرداتٍ أخرى مشابهة، بحسب اختلاف الزمان والمكان والآليّات. فمن غير المعقول ـ مثلاً ـ أن نستنّ بسنّته| ونحفر اليوم خندقاً حول المدينة في محاربة العدوّ، وإنّما أن نستنّ بحكمته ونحصِّن المدينة من دخول الأعداء، بحسب طرق التحصين باختلاف الأزمنة والأحوال، سواءٌ كان ذلك خندقاً أو سوراً أو إغلاق المنافذ الحدودية أو باتّفاقيات دوليّة أو معاهدات أو علاقات دبلوماسيّة مع دول الجوار، واستمالتهم أو تهديدهم حتّى لا يتخذ العدوّ أراضيهم مقرّاً له لحربنا.

كما يُستفاد من حكمته| بالاستفادة من سلمان؛ لكونه يمثِّل ثقافة الإمبراطورية الفارسية الأكثر تطوُّراً من الناحية العسكرية على التفكير القَبَلي العربي، فنستفيد من هذه الحكمة بضرورة الاستفادة من الخبرات الأجنبيّة العسكرية في حربنا مع العدوّ المتكافئ معنا، أو المتقدِّم علينا من ناحية الخبرة، كما كانت حرب الخندق تضمّ بين صفوفها اليهود المتفوّقين خبرةً على العرب في الدهاء والحرب.

ولا يمكن لأحدٍ اليوم ـ أيّاً كان ـ أن يقول بحفر خندق حول المدينة؛ استناناً بسنّة رسول الله|، وتطبيقاً لقوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا…﴾.

فجميع الأحكام الصادرة منه يجب طاعتها، والأخذ بها، والانتهاء بنهيها، ولكنّ هذا الأخذ والانتهاء يكون بشكلٍ دائم، وبنصّ قوله|، في الأحكام الشرعيّة، وبشكلٍ مؤقَّت، وبحكمة قوله أو فعله|، في الأحكام الحكومية.

إنّ الفهم الضيِّق والمحدود لمعاني الآيات الكريمة والسنن الشريفة يُصغِّر من روح إسلامنا الكبير، ويضعه أمام تهديد أو سخرية الآخرين.

كما أنّ عدم قبول كون النبيّ| مبلِّغاً عن الله سبحانه من جهةٍ، وقائداً ورئيس دولة من جهة أخرى، أو بتعبير آخر: عدم قبول القول بأنّ هناك نصوصاً وأفعالاً صدرت من الرسول الأكرم| ينظر إليها بصفة شرعيّة، أي إنّها تُعبِّر عن أحكامٍ شرعيّة إلهية، وهناك أقوالٌ وأفعالٌ أخرى صدرت عنه| لكونه قائداً ومديراً لشؤون الدولة والطبيعة والمجتمع، التي تقتضي بطبيعتها تحوُّلاً وتغيُّراً مستمراً، كما تتأثَّر بظروف دائمية أو مؤقَّتة، وأخذ كلّ فعل يصدر عنه| على أنّه حكمٌ شرعيٌّ أو سنّةٌ نبويّة يجب اتباعها أو الاقتداء بها، يؤدّي إلى نتائج وخيمة، تنعكس بأشكال تطرُّفيّة، إفراطاً وتفريطاً، على مستوى التشريع، فينتج الجمود على النصّ، أو الأخذ بالرأي، والقياس؛ أو على مستوى الواقع، فتنتج حركات متطرِّفة تدّعي لنفسها الإسلام، تأخذ ـ من دون فهمٍ وإدراك ـ كلّ ما نُسب إلى رسول الله| من قولٍ أو فعل أو تقرير، وتطبِّقه بحذافيره في هذا العصر، من دون مراعاة مقتضيات الواقع والحال والظروف المحيطة والزمان والمكان؛ أو حركات علمانيّة (لا دينية) تُنكِر على رسول الله| كلَّ فعلٍ رشيد، وتصِمُه ـ والعياذ بالله ـ وشريعته التي جاء بها بأنّها مجرّد طقوس دينيّة محضة، وأفعال أو قوانين انتهت بانتهاء مقتضياتها، أو بوفاة مُشرِّعها.

«إنّ عدم التفات الفقهاء إلى هذه النقطة في شخصيّة الرسول، بوصفه حاكماً ووليّ أمر يقوم على مصالح المسلمين، وعلاقتها بالتشريع، قد يؤدّي إلى تفسيرهم لبعض النصوص الإسلامية بشكلٍ خاطئ، واستنباطهم منها أحكاماً إسلامية لعصرٍ غير العصر الخاصّة به، مع أنّ مضمون هذه النصوص قد يكون عبارةً عن إجراء معيَّن محكومٍ بظروفه ومصالحه، اتَّخذه النبيّ بوصفه وليّ الأمر المسؤول عن رعاية مصالح المسلمين في حدود ولايته وصلاحيّته، فلا يعبِّر عن حكمٍ شرعيّ عامّ»([73]).

«إذن لا بدّ من إعادة النظر في ما يعتبره معظم الفقهاء الأصوليّين من السنّة حكماً شرعيّاً إلهيّاً، بينما كثير منها، أعني نصوص السنّة، لا تتضمَّن أحكاماً شرعيّة إلهيّة، بل تتضمَّن تدبيرات، وهي أحكامٌ تنظيميّة إدارية. وقد درج الفقهاء على اعتبار هذه أحكاماً شرعيّة، وهي ليست كذلك»([74]).

كما أنّ عدم التفرقة بين الحديث التشريعي والآخر الإداري جرّّ إلى إيجاد تعارض بين الأخبار والأحاديث، لا أساس له. لذا اعتبر الشيخ الدكتور عبد الهادي الفضلي التمييز بين هذين النوعين من الأحكام، أحد المرجِّحات التي تُستخدَم في رفع التعارض بين الأخبار والأحاديث([75]).

نعم، إنّ عدم التفريق بين ما هو حكمٌ شرعي ثابت دائم لكلّ زمان ومكان وما ما هو حكمٌ حكوميّ صدر بحسب مقتضيات صدوره، ولا يتمتَّع بصفة البقاء والدوام، أدّى على مرِّ العصور إلى نتائج سلبيّة، انعكست في الفتوى والواقع، وذلك من خلال عدِّ ما ليس من الدين في الدين، أو عدِّ ما هو في الدين خارجاً عن الدين؛ نتيجة لعدم التفريق بينهما.

لذا توجَّب على فقهاء الأمّة «تدوين قوائم كاملة للأحاديث الإدارية المنبثّة في كتب الحديث وموسوعاته من خلال إحصائيّات وافية؛ لتكون تلكم القوائم المرجع في هذا المجال»([76]).

وتَوَجَّب على دعاة الإسلام، والحركات الإسلامية على وجه القصد والخصوص، التمييز بين ما هو ثابتٌ وما هو متغيِّر من الدين، بين ما هو حكمٌ شرعيّ يجب تطبيقه، وسنّة نبويّة يُقتدى ويُحتذى بها، وما هو موضوعٌ يستجدّ ويتغيَّر بحسب تغيُّر المكان والزمان، وحكمٌ تدبيريّ اقتضته طبيعة المرحلة.

الهوامش:

(*) أستاذٌ جامعي، وكاتبٌ في الفقه الإسلامي، من العراق.

([1]) علي حب الله، دراسات في فلسفة أصول الفقه والشريعة ونظرية المقاصد: 513، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 2005م.

([2]) محمد مهدي الآصفي، صلاحيات الحاكم وسلطاته، قضايا إسلامية معاصرة، العدد 1: 208، 1997م.

([3]) محمد باقر الصدر، صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي، الإسلام يقود الحياة: 47، وزارة الإرشاد الإسلامي، ط2، طهران، 1403هـ.

([4]) محمد حسن الأمين، منطقة الفراغ…، بين الملء وسلطة السائد، مجلة الوعي المعاصر، العدد 2: 98، 2000م.

([5]) محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة: 47.

([6]) عبد الهادي الفضلي، دروس في أصول فقه الإمامية 2: 550 ـ 551، الغدير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط2، 2006م.

([7]) مصطفى البغا، الاجتهاد والحياة: 66، إعداد: محمد الحسيني، الغدير للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1996م.

([8]) تفسير ابن كثير 2: 304، تحقيق: يوسف عبد الرحمن المرعشلي، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1992م.

([9]) محمد مهدي شمس الدين، الاجتهاد والحياة: 17، إعداد: محمد الحسيني، الغدير للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1996م.

([10]) تاريخ اليعقوبي 2: 50، دار صادر، بيروت.

([11]) المصدر السابق 2: 55.

([12]) محمد بن يعقوب الكليني، الفروع من الكافي 6: 246، دار الكتب الإسلامية، طهران، ط3، 1367هـ.ش.

([13]) الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة 24: 119، مؤسّسة آل البيت^ لإحياء التراث، قم المقدّسة، ط2، 1414هـ.

([14]) صحيح البخاري 5: 79، باب غزوة خيبر، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1981م؛ صحيح مسلم 6: 65، باب تحريم أكل لحم الحُمُر الإنسية، دار الفكر، بيروت.

([15]) الكليني، الفروع من الكافي 5: 294.

([16]) الصدوق، مَنْ لا يحضره الفقيه 3: 238، جماعة المدرِّسين في الحوزة العلمية، ط2، قم المقدّسة، 1404هـ.

([17]) محمد مهدي شمس الدين، مجـال الاجتهـاد ومناطـق الفـراغ التشريعـي، مجلـة المنهـاج، العـدد 3: 25، تصدر عن مركز الغدير للدراسات الإسلامية، 1996م.

([18]) صحيح البخاري 6: 239.

([19]) نهج البلاغة (من كلام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب×) 4: 5، شرح: الأستاذ محمد عبده، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1412هـ.

([20]) وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة 6: 51، الباب 16 من أبواب استحباب الزكاة في الخيل، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط5، 1983م.

([21]) محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة: 50.

([22]) وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة 6: 41، دار إحياء التراث العربي.

([23]) الكليني، الفروع من الكافي 5: 175.

([24]) الصدوق، مَنْ لا يحضره الفقيه 1: 226.

([25]) المصدر نفسه.

([26]) مرتضى مطهري، الاجتهاد في الإسلام: 18، ترجمة: جعفر صادق الخليلي، مؤسسة البعثة، طهران.

([27]) محمد بن الحسن الطوسي، المبسوط 3: 271، المكتبة المرتضوية لإحياء آثار الجعفرية.

([28]) محمد باقر الصدر، اقتصادنا: 445، دار التعارف للمطبوعات، ط11، 1979م.

([29]) الكليني، الفروع من الكافي 5: 279.

([30]) الصدر، اقتصادنا: 724 ـ 725.

([31]) نهج البلاغة (من كلام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب×) 3: 100.

([32]) الصدر، اقتصادنا: 728.

([33]) وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة 6: 394، دار إحياء التراث العربي.

([34]) أبو القاسم الخوئي، مستند العروة الوثقى، كتاب الخمس: 203، المطبعة العلمية، قم، 1364هـ.ش.

([35]) سنن الترمذي 2: 421 ـ 422، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط2، 1983م.

([36]) ابن حزم، المحلّى 8: 221، دار الفكر، بيروت.

([37]) الصدر، الإسلام يقود الحياة: 63.

([38]) وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة 9: 266، مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث.

([39]) كاظم الحائري، الاجتهاد والحياة: 236، إعداد: محمد الحسيني، الغدير للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1996م.

([40]) محمد باقر الصدر، دور الدولة في الاقتصاد الإسلامي: 131، المنشور ضمن سلسلة اخترنا لك.

([41]) راجع مثلاً: السيد علي الخامنئي، أجوبة الاستفتاءات 1: 332، دار النبأ للنشر والتوزيع، الكويت، ط1، 1995م.

([42]) محمود زماني، دور الزمان والمكان في الاجتهاد لدى الشهيد الصدر، مجلّة فقه أهل البيت^، العدد 46، دائرة المعارف الإسلامية، إيران.

([43]) نقلاً عن: عبد الهادي الفضلي، دروس في أصول فقه الإمامية 2: 551 ـ 552، الغدير للطباعة، ط2، 2006م.

([44]) وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة 26: 14، مؤسّسة آل البيت^ لإحياء التراث.

([45]) راجع: قضايا إسلامية معاصرة، العدد 8: 84، 1999م؛ وكذا: علي حبّ الله، دراسات في فلسفة أصول الفقه والشريعة ونظرية المقاصد، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 2005م.

([46]) مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول 2: 465، لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم الأنصاري، مجمع الفكر الإسلامي، ط1، 1419هـ.

([47]) وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة 25: 428، مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث.

([48]) البيهقي، السنن الكبرى 6: 151، دار الفكر، بيروت.

([49]) المصدر السابق 6: 69؛ ونقله صاحب الجواهر 38: 38، دار الكتب الإسلامية، طهران، ط3، 1362هـ.ش.

([50]) وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة 12: 342، دار إحياء التراث العربي.

([51]) وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة 14: 450، دار إحياء التراث العربي.

([52]) السرخسي، المبسوط 10: 31 ـ 32، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، 1986م.

([53]) الكليني، الفروع من الكافي 5: 27.

([54]) المصدر السابق 5: 29.

([55]) راجع: سنن ابن ماجة 2: 751، باب الأسواق ودخولها، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع؛ وسائل الشيعة؛ جعفر مرتضى العاملي، آداب التجارة والسوق في ظلّ الدولة الإسلامية.

([56]) ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب 3: 519، المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف، 1956م.

([57]) عميد الزنجاني، تحريم تنباكو: 100، نقلاً عن: مجموعه آثار كنكره مباني فقهي حضرت إمام خميني (نقش زمان ومكان در اجتهاد) 7: 397، مؤسّسه تنظيم ونشر آثار إمام خميني، 1374هـ.ش.

([58]) محمد مهدي الآصفي، صلاحيات الحاكم وسلطاته، قضايا إسلامية معاصرة، العدد 1: 281.

([59]) روح الله الخميني، الحكومة الإسلامية: 172، مؤسّسه تنظيم ونشر آثار إمام خميني&، ط1، 1996م.

([60]) محمد باقر الصدر، أصول الدستور الإسلامي، أساس رقم 8: 44، المنشور ضمن: شبلي ملاط، تجديد الفقه الإسلامي (محمد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم)، ترجمة: غسان غصن، دار النهار للنشر، بيروت، ط1، 1998م.

([61]) مرتضى الأنصاري، المكاسب الحرمة 1: 213؛ وكذا: المحقق الحلّي، شرائع الإسلام 2: 21، منشورات الأعلمي، طهران.

([62]) وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة 17: 431، مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث.

([63]) محمد جواد الحسيني العاملي، مفتاح الكرامة 12: 361، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، ط1، 1424هـ.

([64]) مفتاح الكرامة 12: 371، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم، ط1، 1424هـ.

([65]) وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة 29: 128، مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث.

([66]) راجع: مرتضى مطهري، الإسلام ومتطلَّبات العصر، مجمع البحوث الإسلامية، ط1، بيروت، 1992م. وبنفس هذا المعنى عن الإمام الخميني&، في صحيفه نور 10: 138.

([67]) مجموعه آثار كنكره مباني فقهي حضرت إمام خميني (نقش زمان ومكان در اجتهاد) 7: 293.

([68]) نقلاً عن: محمد رحماني، أحكام حكومتي وزمان ومكان، مجموعه آثار كنكره مباني فقهي حضرت إمام خميني& (نقش زمان ومكان در اجتهاد) 7: 299.

([69]) الصدر، الإسلام يقود الحياة: 70.

([70]) كاتوزيان، كتاب الحياة الطيبة، تسلسل 2: 65، إصدار معهد الرسول الأكرم|، بيروت، ط1، 2003م.

([71]) علي حبّ الله، دراسات في فلسفة أصول الفقه والشريعة ونظرية المقاصد: 515.

([72]) عبد الهادي الفضلي، دروس في أصول فقه الإمامية 2: 552.

([73]) الصدر، اقتصادنا: 391.

([74]) محمد مهدي شمس الدين، الاجتهاد والتجديد: 86 ـ 87، المؤسّسة الدولية للدراسات والنشر، ط1، 1996م.

([75]) الفضلي، دروس في أصول فقه الإمامية 2: 552.

([76]) المصدر نفسه.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً