أحدث المقالات

ترجمة: ضياء الدين الخزرجي

المقدمة ــــــــــ

وسائل الاستطلاع ونقل الخبر تجربةٌ معروفة قديماً([1])؛ ولا يهمّنا في هذه الدراسة أن نعدّها من الابداعات التي امتاز بها الإمام علي C فترة حكمه، بل هدفنا استعراض الأساليب والنماذج التي تميّز بها حكمه آنذاك، وكيف استطاع توظيفها لصالح النظام الإسلامي لأجل الوصول إلى أهدافه.

لقد كان C يرى أهمية الاستطلاع ونقل الخبر في جانبين أساسيين من حكمه هما: الجانب العسكري، والجانب المدني، فالجانب العسكري هو ما يشمل الحدود والثغور وحفظ التوازن والأمن فيها، أما الجانب المدني فهو الذي يُعنى بالمجتمع والأجهزة التابعة للنظام، وأجهزة الرقابة والمحاسبة.

لقد اعتمد الإمام علي C بخصوص هذا الأمر في الجانب العسكري على جهتين:

1 ــ أجهزة الأمن والمخابرات:

وهي الأجهزة التي تعمل ضمن الإدارة العسكرية، ومهمّتها: توظيف الأخبار في الداخل وإيصالها إلى القائد لتسهيل أمر المراقبة؛ ويعبّر عنه اليوم بأجهز الأمن والاستخبارات.

2 ــ القوّات المسلّحة الخاصة:

التي تتحرك جنباً الى جنب مع القوات العسكرية، أو قبل قدوم القوات المقاتلة للشروع في العمليات العسكرية لمراقبة تحرّكات العدو؛ واستطلاع المنطقة، ثم إرسال التقارير الإخبارية إلى الجهات الأمنية العسكرية، ويعبّر عنها اليوم بالاستخبارات العسكرية، فمن وصاياه C العكسرية لقادة الجيش والحرس: ((واجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال ومناكب الهضاب، لئلا يأتيكم العدوّ من مكان مخافة أو أمن، واعلموا أن مقدّمة القوم عيونهم، وعيون المقدّمة طلائعهم))([2]).

أمّا الاستطلاع في الجانب المدني؛ فقد اعتمد على عدّة وسائل هي:

1 ــ العناصر الحكومية المعينة والثابتة.

2 ــ فرق الاستطلاع والبعثات المرسلة للقيام ببعض المهام.

3 ــ التقارير والأخبار التي يبلغها الناس للأجهزة الأمنية.

4 ــ الحضور الدائم والمستمر للأمّة في الساحة، ومشاركتها الجادّة.

5 ــ الفِرق والقوى التي تنفذ في أوساط الناس لحفظ الأمن والنظام، كأجهزة الحسبة، وهي إدارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السابق.

عقلانيّة الرقابة ــــــــــ

هناك حقيقة هامّة ينبغي التأكيد عليها قبل الدخول في البحث، وهي: أنّ الرقابة الإسلامية باعتبارها مستوحاةً من وظيفة رسالات الأنبياء، وجزءاً من مستلزماتها العملية، تخضع لمقولة الرحمة واللطف الإلهي؛ حيث قال تعالى: >وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين< (الأنبياء: 107)، وانطلاقاً من هذا المفهوم؛ تغدو الرقابة توأماً للرأفة والرحمة؛ وتتجلّى لها مفاهيم وأبعاد مختلفة من خلال فهم تلك الماهية .. منها:

1 ــ الرقابة الإرشادية.

2 ــ الرقابة على التنظيم والتنفيذ.

3 ــ الرقابة لأجل التقويم.

4 ــ الرقابة لتقصّي الحقائق والمتابعة، للتعويض عن الخسائر والأضرار.

5 ــ سياسة التفقّد ومراقبة الأحوال الشخصية عموماً، المادية منها والمعنوية… فيكون حاصل عمل تلك القوى في تلك الأجهزة متمثلاً في الأمور التالية: الإدارة والإشراف والتدبير، ووضع البرامج والخطط لسياسة الدولة، وما يتعلّق بالقضاء والمحاكم العامّة، فإن الحساسية اتجاهها هي نفسها تلك الموجودة لدى أجهزة المحاسبة، لذا ينبغي توخّي الدّقة والحذر التام في بناء هذه الأجهزة وصيانتها والحفاظ على محتواها العملي للسير على استراتيجية معينة ومحدّدة، ليتمّ عبرها تحقيق أهداف الدولة وطموحاتها.

ويجب ألاّ يُتغافل عن دور القوى الشعبية ونظراتها الاعتقادية والوعي الذي تمتلكه والمؤهلات العلمية التي تتمتع بها في المحافظة على أصالتها ودوامها.. فقد أكّد الإمام علي C على مفردتين هامتين في هذا المجال هما: الوفاء، والصدق، أي الالتزام الديني والعملي..قال C: ((يستدلّ على إدبار الدول بأربع؛ تضييع الأصول، والتمسّك بالفروع، وتقديم الأراذل، وتأخير الأفاضل))([3])، وقال أيضاً: ((تولّي الأراذل والأحداث الدول دليل على انحلالها وإدبارها))([4]).

ويتحقّق هذا الهدف عبر التجربة المريرة المنطوية على المعاناة والتضحيات، وذلك من خلال تصدّي الرجال الأكفاء ــ ممّن ثبت صلاحه وصدقه في الدول الماضية الصالحة ــ لتلك المناصب الحكومية أولاً؛ وممن بان فضله وجلالته فيها ثانياً.

فلسفة الرقابة ــــــــــ

الدفاع عن المظلومين وتسليم المعاندين والمجرمين إلى العدالة لينالوا جزاءهم العادل من الأصول المسلّمة والواضحة، ونظراً لتمتّع الحاكم الإسلامي بالنفوذ وإدارة البلاد من جهة، وكونه المسؤول عن تأمين الحقوق والحريات لآحاد الشعب من جهة أخرى، فشرطه العقلي يقتضي أن يعرف موارد الظلم والظَلَمة الذي يعمّ البلاد.

وليس للحاكم التنحّي، لما يملكه من النفود والإمكانات الواسعة؛ كما ليس له اختيار العزلة، وترك الأخبار تصله أو تطرق بابه دون ملاحقتها، وبعبارة أخرى: ينبغي للحاكم أن يجعل الأمة تتحسّس وجوده في المجالات والمناسبات كافّة، وعليه أن يرسل العيون والمراقبين ليجسّوا له الأخبار ويطلعوه على الأوضاع السائدة في البلاد.

وهنا يمكن الإشارة إلى قضية أخرى، وهي ظاهرة الفتنة التي تعني الفوضى والانحلال، واختلال النظم، وفقدان الرقابة في المجتمع، وهو ما يعبّر عنه أحياناً بالثورة، ويعتبر القرآن الكريم ظهور الفتنة وبروزها في المجتمع ناشئ عن مخالفة الأوامر الإلهية وحالة العصيان وعدم الاستجابة، قال تعالى: >فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة…< (النور:63)، إنّ الحدّ من اتساع نطاقها واتخاذ الأساليب المتقنة للتصدي لها إنما هو مسؤوليةٌ ملقاةٌ على عاتق الأمة بأسرها، قال تعالى: >واتقوا فتنةً لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة…< (الأنفال: 25)، فيتوجّه الخطاب في الآية على الخصوص إلى الحاكم باعتباره المسؤول عن إدارة أمور البلاد، وفي كونه المصداق الأكمل والأعلى لهذا الخطاب الإلهي.

من هنا، تساعد معرفة تلك العوامل التي تقوّي ظهور الفتنة في المجتمع، على القيام بالتكليف لرفعها، وهو استلزام عقلي محض.

ويعدّ من الواجبات ــ من باب المقدّمة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يتمّ بموجبه تأسيس الأجهزة المعنية بأمور الحسبة داخل النظام ــ تأسيسَ جهاز داخل السلطة يقوم بالرقابة والإشراف على المجتمع؛ أي سراية الوجوب من ذي المقدمة الى المقدمة كما ورد في اصطلاح الأصوليين، فلا يجوز في النظام الإسلامي ــ بالتأكيد ــ مواجهة الفساد والمفسد أو إدانة أحد دون تحقيق ومتابعة لإثبات ذلك، ومن ثم استخراج الحكم المقتضي بشأنه من الشريعة النبوية، متناسباً مع ميزان الجريمة ونوعها، فلا يحقّ لأيّ مسؤول قضائي تنفيذ الأحكام قبل تعيينها من قبل المحاكم الصالحة، وهذا معناه أنّ الرقابة حقّ نشأ من الولاية القضائية للحاكم، لا من ناحية الطابع الحكومي الخاصّ به، وقد قيل: إن بناء الدولة إنّما هو من الوظائف الأساسية والمهمّة للأنبياء والتي يتمّ عبرها إقامة القسط والعدل في المجتمع.

فعلى الحاكم الإسلامي الذي يتصدّى لمسؤولية إدارة الأمّة التحقيق والبحث عن حالات الشذوذ، وعدم الانسجام والتوازن في المجتمع، ومكافحتها بالأساليب المتقنة.

والجدير بالذكر هنا أن أجهزة المراقبة والتفتيش تعدّ جزءاً من أجهزة النظام الواسعة والكبرى، لا شعبةً من شعب القضاء، أي أنّها جهاز مستقلّ يمارس وظائفه بنفسه، وهو حلقة الاتصال التي تربط الحاكم الإسلامي ببقية الأقسام الحكومية التي يُشرف عليها النظام وتخضع له.

ويمكن للحاكم الإسلامي ــ حسب صلاحيّاته وما يراه من مصلحة عامّة ــ أن يفوّض مسؤولية إدارة تلك الأجهزة والدوائر إلى رئيس القضاء أو أيّ شخص آخر؛ لأنّ تعيين رئيس هذه الأجهزة والأعمال الأخرى التي تخصّها من صلاحيات رئيس الحكومة، وجزء من وظائفه، باعتبار أنّ كلّ هذه الوظائف وعامّة الموظفين إنّما يتم تحت إشراف ولي أمر المسلمين في المجتمع الإسلامي وضمن الحدود التي يرسمها، إلاّ أن يوكّل غيره للقيام بمهامّ ولايته، كما جاء ذلك في عهد الإمام علي C لمالك الأشتر بعد تعيين مهامه قائلاً له: ((ثم تفقّد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإنّ تعاهدك في السرّ لأمورهم، حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعيّة. وتحفّظ من الأعوان فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانةٍ اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك، اكتفيت بذلك شاهداً، فبسطت عليه العقوبة في بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلّة ووسمته بالخيانة، وقلّدته عار التهمة…))([5]).

وقد استدرك عليّC على ابن هرمة خيانة ــ وكان على سوق الأهواز ــ فكتب إلى رفاعة بن شدّاد البجلي ــ قاضي الأهواز ــ : ((فإذا قرأت كتابي هذا، فَنَحِّ ابن هرمة عن السوق؛ وأوقفه للناس، واسجنه، وناد عليه، واكتب إلى أهل عملك لتعلمهم رأييَ فيه، ولا تأخذك فيه غفلة ولا تفريط، فتهلك عند الله عزوجل من ذلك.. فإذا كان يوم الجمعة، فأخرجه من السجن واضربه خمساً وثلاثين سوطاً، وطُف به في الأسواق.. فمن أتى عليه
بشاهد فحلّفه مع شاهده، وادفع إليه من مكسبه ما شهد به عليه، ومُر به إلى السجن مهاناً مقبوضاً، واحزم رجليه بحزام… ولا تدع أحداً يدخل إليه))([6]).

لقد اتضح من تلك السياسة التي رسمها الإمام علي C في رسالته لمالك الأشتر ــ خصوصاً فيما يخصّ بعث العيون والجواسيس، وتفريقهم لاقتناص الأخبار واصطيادها من المجتمع ــ أنّ الخبر الواحد لا يوجب علم القاضي، بل ينبغي عليه المتابعة والبحث عن الأدلّة والبراهين القاطعة التي توصله إلى الحكم عن طريق الاستعانة بالشهود أساساً؛ وهذا المورد ــ في الواقع ــ من جملة القضايا التي لا تحتاج إلى المرافعة، بل تُحسم بأساليب نظام التفتيش.

دور الاستخبارات وأهميّتها في الحكم العلوي ــــــــــ

ورد استعمال كلمة ((العين)) في المعنى المجازي، كما استعملت في المعنى الحقيقي أيضاً، والاستعمال الخاص لها يقصد منه عيون القائد أو الحاكم، وكذلك في المبعوث من قبل النظام إلى بعض المناطق لاستطلاع الأوضاع ودراستها ثم إرسال تقاريره ونتائج بحوثه إلى الجهات المعنيّة لدراستها، ووضع الحلول لها.

لقد أشارت النصوص والشواهد التاريخية أن علياً C كان قد اعتمد رجالاً في حكمه للقيام بتلك المهمة، ومن بينهم: أبو الأسود الدؤلي، حيث كان عامله على البصرة، وقد أعرب الإمام عن ارتياحه له، وطمأنه بأنّ التقارير والأخبار التي يبعثها إليه ستكون في غاية السرّية والكتمان، وأنّه لن يُطلع عليها ابن عباس أبداً([7]).

وهناك نماذج أخرى أيضاً توضح اتخاذه لتلك السياسة:

منها: ما رواه محمد القرشي أن أميرالمؤمنين C ولّى أبا الأسود الدؤلي القضاء ثم عزله، فقال له أبو الأسود: لم عزلتني وما خنت ولا جنيت؟!
فقال C: ((إنّي بلغني أنّ كلامك يعلو كلام خصمك))([8]).

وروى حبيب الله الخوئي أيضاً ما يدلّ على ذلك قائلاً: كتب علي C إلى قثم بن العباس، الوالي والقاضي على مكة: ((أمّا بعد؛ فإنّ عيني بالمغرب كتب إليّ يعلمني أنه وجّه إلى الموسم أناس من أهل الشام، العمي القلوب، الصمّ الأسماع؛ الكمه الأبصار، فأقم على ما في يديك قيام الحازم الصّليب، والناصح اللبيب، التابع لسلطانه، المطيع لإمامه، وإياك وما يعتذر منه، ولا تكن عند النعماء بطراً، ولا عند البأساء فشلاً))([9]).

وقد أفشل الإمام المؤامرة التي أوشكت على الوقوع في حينها، وقرب زمانها.. فقد روي أنّ معاوية بن أبي سفيان دعا إليه يزيد بن شجرة الرهاوي وهو من أصحابه، فقال له: إني أريد أن أوجهك إلى مكّة لتقيم للناس الحج وتأخذ لي البيعة بمكّة وتنفي عنها عامل علي، فأجابه إلى ذلك، وسار إلى مكّة في ثلاثة آلاف فارس، وبها قثم بن العباس عامل علي C؛ فلما سمع به قثم، خطب أهل مكّة وأعلمهم بمسير الشاميين ودعاهم إلى حربهم، فلم يجيبوه بشيء، فعزم على مفارقة مكّة واللحاق ببعض شعابها، وفي الأثناء وصلته رسالة أمير المؤمنين التي حذّره فيها من الشاميين، فاستشار كبار قومه في ذلك، وهكذا فشلت المؤامرة بتدبير من أبي سعيد الخدري…([10]).

وبعث الإمام C رسالةً إلى سهل بن حنيف، عامله على المدينة، يُعلمه بهروب بعض أصحابه إلى معاوية والتحاقهم به، وقد عبّر بكلمة ((بلغني)) في رسالته قائلاً: ((بلغني أنّ رجالاً من أهل المدينة يخرجون إلى معاوية…)) وأوصاه بوصايا عديدة فيما يخصّهم([11])، ثم أعرب عن ارتياحه وتفقّده له، وخيّره في القدوم إليه متى شاء، ثم دعا له في آخر الرسالة..

وفي رسالة أخرى بعثها C إلى محمد بن أبي بكر، عامله على مصر، وهي تنمّ عن دراسة واعية وعميقة للأوضاع المستجدّة هناك، حيث أعرب فيها عن تفقّده واهتمامه بأموره؛ واستعمل أيضاً كلمة ((بلغني)) في تلك الرسالة قائلاً: ((أما بعد، فقد بلغني موجدتك من تسريحي الأشتر إلى عملك؛ وإني لم أفعل ذلك استبطاءً لك في الجهد، ولا ازدياداً في الجدّ، ولو نزعت ما تحت يدك من سلطانك، لوليتك ما هو أيسر عليك مؤونة، وأعجب إليك ولاية))([12]).

واتضح بعدها أن مالك كان هو الرجل الوحيد المناسب القادر على مواجهة الأزمة التي حلّت بالبلاد لإدارتها. وكان الإمام C في الأزمات والفتن التي يمرّ بها ولاته يقدّم كلّ دعم وإسناد ــ وذلك عبر أجهزة الرقابة التي يمتلكها ــ إلى عمّاله وموظفيه في الإدارة الحاكمة؛ ويشهد لهذا رسالته التي بعثها لابن عباس، وقد طلب منه تحسين أسلوبه ومعاملته لبني تميم، حيث كشف له عن غوامض أسراره التي خفيت عن أبصار ابن عباس ومسامعه([13]).. معتمداً في ذلك كلّه على عيونه التي بثّها هناك لانتزاع الأخبار وإرسالها خفيةً إليه.

وكان أيضاً يقدّم دعمه ونصائحه لعامله زياد بن أبيه، وكذا متابعة أحواله الخاصّة، فكتب C إليه كتابه بعد أن بلغه أنّ معاوية كتب إلى زياد بن أبيه يريد خديعته باستلحاقه، فقال: ((وقد عرفت أنّ معاوية كتب إليك يستزلّ لبّك، ويستفلّ غربك، فاحذره…))([14]).

ويتّضح من هذه الرسالة شدّة رقابته لعمّاله والمنصوبين من قبله لإدارة الحكم، وحرصه التام على متابعتهم ومعرفة أحوالهم، بل إنّ تبادل الرسائل والكتب الشخصيّة الخاصة فيما بينهم لم يكن بخافٍ عن أنظاره C أيضاً، بل كان مطّلعاً عليها، عارفاً بها؛ وكان هذا هو الحلّ السلمي المناسب في مواجهة الأزمة وإدارتها.

ولأجل تخفيف الصدمة التي نجمت عن بعض تصرّفات المسؤولين من قبله، وتقديم العون والدعم لهم في إدارتهم البلاد، أرسل C رسالةً الى عمر بن أبي سلمة الأرحبي ــ عامله على البحرين ــ ذكر فيها بعض الأمور المتعلّقة بالأوضاع السائدة هناك فقال: ((أمّا بعد، فإنّ دهاقين أهل بلدك شكوا منك غلظة وقسوة، واحتقاراً وجفوة، ونظرت في أمرهم فلم أرهم أهلاً لأن يدنوا لشركهم، ولا أن يُقصوا ويجفوا لعهدهم، فالبس لهم جلباباً من اللين تشوبه بطرف من الشدّة، وداول لهم بين القسوة والرأفة،وامزج لهم بين التقريب والإدناء، والإبعاد والإقصاء))([15]).

لقد أعربت هذه الرسالة عن متابعة الإمام لتلك الأوضاع، والاستماع إلى الشكاوى والتقارير التي يبعثها أفراد الشعب إليه، ومعالجتها، وكذا إحالة البحث والتحقيق عن تلك الحالات الشاذّة في المجتمع إلى ثقاته والمعتمدين لديه في أموره الخاصة، سواء كانوا عمالاً لأجهزة الحسبة أو غيرهم.

أمّا المحافظة على المظاهر الإسلامية والتقيّد بها، خصوصاً من قبل مسؤولي الحكومة، فكانت من المسائل المهمة التي كان C يذكّر بها عمّاله وموظّفيه، إنّ خروج المسؤولين عن المظاهر الإسلامية المتعارفة؛ وانشغالهم بالترف والبذخ والملذّات، والبحث عن رفاهية العيش ولذته بحجّة الاستناد إلى الآية الشريفة التي تشير إلى أنه مما أحلّه الله تعالى: >قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيّبات من الرزق<، من الأمور المذمومة والقبيحة، فقد نهى عنها الإمام علي C؛ وكانت تستدعي الملاحقة والعقاب أحياناً. ومن الأمثلة على ذلك ما ارتكبه شريح القاضي من أفعال موهنة أوقعته في شراك الدنيا ولذائذها؛ علماً أنّ الإمام C لم يترك أمر القضاة دون الوصية بهم ورعاية شؤونهم، ويمكن معرفة ذلك من خلال وصيّته لمالك الأشتر بالرفق بالقضاة وتأمين حاجاتهم المعاشية.

فقد بلغ أمير المؤمنين C أنّه ــ أي شريحاً ــ اشترى لنفسه بيتاً بثمانين دينار!! ــ وقد ورد في الأخبار أن شريحاً كان يتقاضى مبلغاً شهرياً من بيت المال قدره خمسمائة درهم([16]) ــ فأحضره الإمام C وسأله عن ذلك قائلاً: بلغني أنّك ابتعت داراً بثمانين ديناراً، وكتبت لها كتاباً وأشهدت فيه شهوداً!! فقال له شريح: قد كان ذلك يا أميرالمؤمنين، قال: فنظر إليه نظر المغضب ثم قال له: ((يا شريح، أما أنه سيأتيك من لا ينظر في كتابك، ولا يسألك عن بيّنتك، حتى يخرجك منها شاخصاً، ويسلمك إلى قبرك خالصاً؛ فانظر يا شريح لا تكون ابتعت هذه الدار من غير مالك، أو نقدت الثمن من غير حلالك، فإذا أنت قد خسرت دار الدنيا ودار الآخرة))([17]).

ولا يرى النبي 2 وعلي C مشروعية استغلال السلطة والنفوذ للوصول إلى المنافع الخاصّة، والتوسّع فيها، يقول باقر شريف القرشي حول سيرة النبي 2: ((على وليّ وقائد المسلمين أن يتفقّد شؤون ولاته وعمّاله، ويرسل العيون لتحرّي أعمالهم وتصرفاتهم، ومحاسبة دخلهم الفردي ونفقاتهم؛ وأموالهم الخاصّة بهم، فإنْ رأى منهم خيانةً لبيت المال، أو تقصيراً في واجبات أحدٍ منهم، عزله وأنزل به أقصى العقوبات، وصادر أمواله)).

لقد وضع النبي 2 تخطيطاً فريداً وأسلوباً بديعاً في المحاسبة المالية لعمّاله، ومعرفة دخلهم الفردي ونفقاتهم؛ فمثلاً كان 2 قد استعمل رجلاً من الأزد على صدقات بني سليم، فلما جاءه حاسبه، فقال الرجل:هذا مالكم وهذا هدية، فغضب 2 وقال: ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي لي، ألا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه شيء إن كان صادقاً؟!.. والذي نفس محمّد بيده لا نبعث أحداً منكم فيأخذ منه شيئاً إلاّ جاء يوم القيامة يحمله على رقبته، ثم رفع يديه إلى السماء فقال: اللهم هل بلّغت، ثلاثاً، اللهم اشهد([18]).

وطبّق الإمام علي C هذا الأسلوب في حكمه سائراً على نهج رسول
الله 2، وقد نقلت شواهد كثيرة على ذلك، فمنها قضية ابن عباس وتلك الأموال التي قام بنقلها إلى مكّة، مدعياً أنّها له لا لبيت المال، وأصرّ عليه الإمام C كثيراً وشدّد في الحساب لمعرفة حال تلك الأموال وطريقها، وكان C يحذّر كلّ من احتمل أن تسوّل له نفسه أن يحاول انتهاز نفوذه ومنصبه للحصول على الأطماع والمنافع اللامشروعة، فقد جاء في كلام له لزياد بن أبيه، خليفة عامله عبدالله بن العباس على البصرة: ((وإنّي أقسم بالله قسماً صادقاً، لئن بلغني أنّك خنت من فيء المسلمين شيئاً، صغيراً أو كبيراً؛ لأشدنّ عليك شدّة تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر، ضئيل الأمر))([19]).

إنّنا نعلم أن ابن عباس لم يكن محتالاً أو راضخاً للحرام، بل كان فعله هذا استغلالاً للرئاسة والسلطة لا غير، وكما ادعى هو نفسه فإنّ تلك الأموال ــ وحسب تحليله ــ كانت هدية! ونعلم أيضاً أن ابن عباس لم يحضر عند الإمام C لمحاسبة تلك الأموال ومعرفة طريقها، بل فضّل الهروب الى شعاب مكّة، لعلمه بأنّ الإمام C سيرجع تلك الأموال كلّها إلى بيت المال، لكن ابن خلدون ذكر أن الذي أخبر الإمام C بتلك الأموال هو أبو الأسود الدؤلي([20])، ولوّح إلى عدم صحّة هذه الأخبار وعدم مطابقتها للواقع؛ لأنّ ابن عباس كذّب هذه المزاعم في رسالته التي بعثها إلى الإمام C؛ ولم يُعر الإمامُ أهميةً لتكذيبه؛ وأصرّ عليه في عدّة رسائل بعثها إليه بأن يبين له كيفية وصول تلك الأموال لمعرفة طريقها، وأن يقدّم له الحجج والأدلّة الكافية في ذلك. وفي ذلك كلّه يمتنع ابن عباس عن البيان.

إن المنـزلة الرفيعة التي حازها أبو الأسود الدؤلي حسب الرواية، والرسالة التي بعثها الإمام C إليه في الثناء عليه والشكر له على صنيعه بعد تلك الأحداث، والحكم بتعيينه عاملاً له على البصرة بعد عزله لابن عباس، والأدلّة والشواهد الكثيرة كلّها تثبت ولاء أبي الأسود الدؤلي وإخلاصه للإمام علي C، ولا يبقى أيّ مجال للشك والترديد في اعتماد الإمام C عليه وارتياحه له.

ونشير هنا إلى الشعور الذي كان ينتاب الإمام C حول تلك الأوضاع؛ والحساسية والأهمية التي كان يبديها في مواجهة ازدياد القدرة والنفوذ لبعض النفعيين والمصلحيين وأذيالهم؛ والسياسة الحازمة الخاصّة التي انتهجها C في الحدّ من هذه الظاهرة ومواجهتها، قال C في هذا الشأن واصفاً أموال المسلمين: ((والله لو وجدته قد تُزوّج به النساء، وملك به الإماء لرددته)).

يقول ابن ميثم في شرح نهج البلاغة: خطب الإمام C هذه الخطبة في المدينة، ولم يُذكر المقطع الأوّل منها في بعض المواضع؛ فقال C: ((ألا وأنّ كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال، فإنّ الحقّ لا يبطله شيء))([21]).

وقد علّق ابن أبي الحديد في ذيل هذه الخطبة قائلاً: ((وعثمان قد أقطع القطائع صلةً لرحمه، وميلاً إلى أصحابه، عن غير عناءٍ في الحرب ولا أثر)).

ومن خلال تلك السياسة التي طبقها الإمام C في مراقبة عمّاله ومتابعتهم، وتفقّد شؤون ولاته بإرساله العيون عليهم لتحرّي أعمالهم، ووصاياه في رعاية المظاهر الإسلامية والشؤون الأخلاقية، واجهنا في سياسته تلك بعضَ الأحداث التي تناسب أن نستلهم منها العبرة والاعتبار .. كالذي جرى مع سعد الذي أرسله C من قبله إلى زياد بن أبيه، خليفة عامله عبدالله بن عباس على البصرة، والحوار الذي دار بينهما ثم الرسالة التي أرسلها الإمام C إلى زياد يعنّفه فيها ويحذّره من مغبّة تصرفاته والتفاهم مع سعد للاتفاق على صيغة مشتركة في العمل وترك الخصومة والنـزاع.

قال ابن أبي الحديد: ((أرسل علي C سعداً مولاه إلى زياد ــ وكان خليفة لابن عباس على البصرة ــ يحثّه على حمل مال البصرة إلى الكوفة، وكان بين سعد وزياد ملاحاة ومنازعة، فعاد سعد وشكاه إلى علي C وعابه، فكتب علي C إلى زياد: أما بعد؛ فإن سعداً ذكر أنك شتمته ظلماً، وهدّدته وجبهته تجبراً وتكبراً… وقد أخبرني أنك تكثر من الألوان المختلفة في الطعام في اليوم الواحد؛ وتدهن كلّ يوم، فما عليك لو صمت أياماً، وتصدّقت ببعض ما عندك محتسباً، وأكلت طعامك مراراً قفاراً، فإن ذلك شعار الصالحين، أفتطمع وأنت متمرّغٌ في النعيم، تستأثر به على الجار والمسكين، والضعيف والفقير، والأرملة واليتيم أن يحسب لك أجر المتصدقين… وأخبرني أنك تتكلّم بكلام الأبرار وتعمل عمل الخاطئين؛ فإن كنت تفعل ذلك فنفسَك ظلمت، وعملَك أحبطت؛ فتُب إلى ربك، يصلح لك عملك…))([22]).

فهل هناك دليل أقوى وأبلغ من صدق لهجة ذلك المعوّز الذي لا يرى له ملجأ إلا الله ولا يرى غير الإمام علي C قائداً إلهياً يشكو له أمره؟

لقد كانت سياسة الإمام C جليةً وواضحة في مواساته المظلومين والمحرومين، ومثابرته في تفقّدهم ومتابعة أمورهم ورفع معاناتهم في السنوات الخمس من حكمه. وكان C من القادة المعدودين في العالم في نوع أساليبه في الحكم؛ فقد كان يستلم تقارير الأمّة وشكاواها في تعبيرها عن معاناتها؛ وكان يتابع الأمور بجدّ، ويستمع لتلك الأخبار والقضايا التي تصله فينظر في صحّتها وسقمها؛ ثم يضع الحلول لمعالجتها؛ لتعطي تلك التقارير والاخبار جميعها ــ التي ترسلها له الأمة وكذلك المعنيين في هذه الأجهزة داخل الحكومة ــ ثمارها.

فمن نماذج عدله C ما روي من أن سودة بنت عمّار الهمداني قدمت على معاوية شاكيةً من عامله بسر بن أرطاة وقد جار فيهم، فغضب معاوية وقال: والله لأحملنكِ إليه على قتب شوس؛ فينفذ فيك حكمه، فأطرقت رأسها ساعة، ثم رفعت رأسها باكية حزينة وهي تنشد وتقول:

صلّــــــــى الإلـه على روحٍ تضمّنهـا     قبـر فأصبح فيه العدل مدفوناً

قد حالف الحـقّ لا يبغي به بدلاً     وصار بالحـق والإيمان مقــــروناً

فقال لها معاوية: يا سودة، من هذا الذي قلت فيه هذين البيتين؟ قالت: هو والله أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب C، إعلم يا معاوية، أني جئته مثل مجيئي لك شاكيةً إليه من رجل ولاه علينا، وجار فينا، فصادفته قائماً يريد الصلاة فعلم حين رآني شاكية، فأقبل عليّ بوجه طلق؛ ورحمة ورفق؛ وقال لي: ألك حاجة؟ فقلت: نعم يا مولاي، فأخبرته، فبكى رحمةً لي ثم قال: اللهم أنت الشاهد عليّ وعليهم، وإني لم آمرهم بظلم خلقك، ثم أخرج قطعة جلد فكتب: ((بسم الله الرحمن الرحيم، >قد جاءَكُم بيّنةٌ من ربكم فأوفوا الكيلَ والميزانَ ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلك خير لكم إن كنتم مؤمنين< فإذا قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يديك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك والسلام))، ثم دفع الرقعة إليّ فأخذتها منه، فوالله ما ختمه بطين ولا خزمه بخزام، فجئت بالرقعة إلى صاحبه فانصرف عنا معزولاً.. فقال معاوية: اكتبوا لها كما تريد واصرفوها إلى بلدها غير شاكية([23]).

إنّ على الحاكم الإسلامي الحكيم المحنّك أن يفكّر قبل كلّ شيء بمصالح الأمة ومنافعها، فالأمّة تضحّي بنفسها متى ما كانت راضيةً عن حكّامها؛ فتتولّد لديها حالة الرضا والانقياد لحكّامها متى ما شعرت بأنّ النظام واقف إلى جانبها، وهو لها كالأب الحنون والمحامي المخلص الذي يبذل كلّ ما بوسعه للدفاع عن حريمها ووحدتها، أمّا إذا لم تتحسّس منه هذا الشعور، ولم تر له استجابةً وتلبية لدعواتها ورغباتها؛ بل ترى الأسوأ من ذلك كلّه، وهو تسلّط الحاكم بمنح عمّاله وموظفيه نفوذاً وتسلّطاً أوسع على رقابها عمّا في السابق؛ والدفاع مستميتاً عنهم وتبرير أفعالهم، فلا يبقى أمامها طريق سوى ترك الديار والرحيل إلى أماكن أخرى، وترك الحاكم في تلك الأرض وحيداً، وحينها تصبح تلك الأرض بلقعاً بلا أمة ولا شعب يدافع عنها، فهل يا ترى يحكم الحاكم على التراب والطين وأرضٍ خاوية على عروشها بعد ترك أهلها لها؟! ومن أين يؤمّن خزينة بلده؟

إنّ هذا درس عملي يتجلّى في سيرة الإمام علي C وموعظةٌ مفيدة
يقدمها C للأجيال للانتفاع بسيرته وأسلوبه في الحكم، قال C: ((فلعمري، لأن يعمروا أحبّ إلينا من أن يخربوا، وأن يعجزوا أو أن يقصروا في واجب من صلاح البلاد)). هذا كلام وجهه لقرضة بن كعب الأنصاري عامله على ((بهقباد الأعلى))؛ وقد ضمّنه في رسالته إليه قائلاً: ((أما بعد فإنّ رجالاً من أهل الذمّة من عملك ذكروا نهراً في أرضهم قد عفا وأدفن؛ وفيه عمارة للمسلمين، فانظر أنت وهم؛ ثم اعمر وأصلح)) مطالباً معالجة الموقف وحسم النـزاع([24]).

وكان له C موقف مشابه آخر مع عامله زياد بن أبيه، عامله في حينها على فارس ونواحيها بعد عزل ابن عباس عنها، وقد بلغه أنه يتعجّل الخراج الثقيل قبل أوانه بلا مهلة، فاستدعاه إليه وسأله عن ذلك؛ وجرى بينهما كلام طويل بعد أن نهاه عن تقدّم الخراج قائلاً له: ((استعمل العدل، واحذر العسف والحيف، فإنّ العسف يعود بالجلاء، والحيف يدعو إلى السيف))([25]).

إنّ هذا الشعور الذي يمتلكه القائد الإلهي بالمسؤولية تجاه الأمّة لا يمكن أن يعزله أو يبعده عنها، أو يتركها ويراقب الأمور عن بعد، مكتوفاً بلا حراك، أو يتفاعل مع معاناة الأمة فقط فيما لو طرقت الحوادث بابه أو اشتمل الخطر جنابه، ووصلت إليه المظالم على عتبة قصره، بل عليه أن يبقى العاشق والمتفاني في خدمة الأمّة، والراعي الذي يبحث جاهداً ومثابراً لرفع المعاناة عنها، وعليه أن يطرق الأبواب كلّها، ويتشبّث بالطرق والوسائل جميعها مما يوصله إلى أهدافه وأغراضه لتحقيق طموحات الأمّة.

وهكذا كان علي C في بسطه العدالة وتحقيقها، وإشاعة الأمن والاستقرار في البلاد، قال C في نداءٍ وجّهه إلى الأمّة، طالباً منها الدعم والإسناد لحكمه: ((أيّها الناس، أعينوني على أنفسكم، وأيم الله، لأنصفنّ المظلوم من ظالمه، ولأقودنّ الظالم بخزامته، حتى أورده منهل الحق وإن كان كارهاً))([26]).

وكان C إذا سيّر الجيوس، يرسل برسائله إلى كلّ من كان في مسيرهم، ويطلب منهم مراسلته مباشرة من دون مضايقة أو رعاية لروتين أو تشريفات أو رتب، لإخباره عن قادته وجنوده إن كانوا قد انتهبوا لهم مالاً، أو لاقوا منهم إيذاءً أو استهانة؛ ليقوم هو بمعالجتها، فقد ورد في كتابٍ له C: ((من عبدالله أميرالمؤمنين إلى من مرّ به الجيش من جباة الخراج؛ أما بعد: فإنّي قد سيّرت جنوداً هي مارّة بكم إن شاء الله، وقد أوصيتهم بما يجب لله عليهم، من كفّ الأذى، وصرف الشذى، وأنا أبرأ إليكم وإلى ذمّتكم من معرّة الجيش إلاّ من جوْعة المضطّر، لا يجد عنها مذهباً الى شبعه، فنكّلوا من تناول منهم شيئاً ظلماً عن ظلمهم، وكفّوا أيدي سفهائكم عن مُضارّتهم، والتعرّض لهم فيما استثنيناه منهم، وأنا بين أظهر الجيش، فارفعوا إليّ مظالمكم؛ وما عراكم مما يغلبكم من أمرهم؛ وما لا تطيقون دفعه إلاّ بالله وبي؛ فأنا أغيّره بمعونة الله، إن شاء الله))([27]).

فرق التفتيش والمراقبة ــــــــــ

كان الإمام علي C يرسل بفرق التفتيش والمراقبة إلى سائر البلاد وأطرافها؛ ويبعث معهم الرسائل، للتعرّف على الأوضاع السائدة فيها، وما ينبغي فعله، منها ما بعثه إلى مالك بن كعب الأرحبي عامله على عين التمر، وقد أمره بتفتيش مناطق واسعة من السواحل المطلّة على الفرات، جاء فيها: ((أما بعد، فاستخلف على عملك، واخرج في طائفةٍ من أصحابك حتى تمرّ بأرض كورة السواد، فتسأل عن عمّالي، وتنظر في سيرتهم فيما بين دجلة والعذيب، ثم ارجع إلى البهقباذات، فتولّ معونتها، واعمل بطاعة الله فيما ولاك منها؛ واعلم أنّ كلّ عمل ابن آدم محفوظٌ عليه، مجزى به، فاصنع خيراً، صنع الله بنا وبك خيراً، وأعلمني الصدق فيما صنعت، والسلام))([28]).

لقد كان القليل من عمّاله C في البلاد الإسلامية ممن تجاوز حدوده ولم يرعَ للأمّة حقّها، فأجحف وظلم، وابتلع الأموال التي تعود إلى بيت المال، وكان الإمام قد واجههم في كلّ ذلك، وجابههم بعنف وقسوة لا نظير لها في التاريخ الإسلامي العام، ومن بينهم: القعقاع بن شور المتقدّم ذكره، والمنذر بن الجارود؛ الذي قال له الإمام C: ((ولئن كان ما بلغني عنك حقّاً، لجَمل أهلك وشسع نعلك خير منك))([29]).

وكذا مصقلة بن هبيرة الشيباني عامله على أردشير خُرة الواقعة في نواحي فارس؛ فقد أرسل C له رسالة أعرب له عن سخطه عليه قائلاً: ((بلغني عنك أمرٌ إن كنت فعلته، فقد أسخطت إلهك، وعصيت إمامك!!: إنك تقسم فيء المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم، وأريقت عليه دماؤهم، فيمن اعتامك من أعراب قومك، فوالذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، لئن كان ذلك حقّاً لتجدنّ لك عليّ هواناً؛ ولتخِفنَّ عندي ميزاناً، فلا تستهن بحقّ ربّك، ولا تصلح دنياك بمحق دينك، فتكون من الأخسرين عملاً))([30])، وقد وردت الرسالة الأربعون له C بهذا المعنى نفسه، وهي مختصرة ولا يعرف لمن أرسلها، وربما هناك نقل آخر للرسالة المتقدّمة، وقد جاء في آخرها أنه قال: ((فارفع إليّ حسابك، واعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس، والسلام))([31]).

العقل الأمني والمفاهيم الإنسانية الرؤوفة ــــــــــ

اتضح من خلال هذه الدراسة ومتابعة جوانبها أنّ القائد الناجح والحاكم الصالح هو الذي يمتلك نشاطاً مضاعفاً تجاه الأمّة، وذلك من خلال إعمال الرقابة والتفتيش، والمتابعة لأجهزة الحكومة ومؤسّسات البلاد؛ وإحاطته التامّة بما يجري في أوساط الأمّة.

لكن جلّ البحث وأهميته إنّما يدور حول محور المسؤولية والمعنيين بها في قسم المحاسبة المالية، إنّ اهتمام الحاكم الإسلامي بالأمّة ومعرفة حاجياتها العامّة يشكل 50% من وظيفته الفعلية، وهي أشبه بالحالة الاندفاعية أو التعويضية، لكن تبقى مهمّة الحاكم في مسؤولية الرقابة والمتابعة للأوضاع العامة متأصّلةً في النصف الآخر المتبقي منها، وهي ذات جانب إيجابي وعمراني.

فالسؤال عن أحوال المواطنين، وسلامتهم، وأمور معاشهم وأمورهم العادية وعلاقاتهم مع بعضهم الآخر ومتابعتها إنّما هي مسائل أخلاقية ينبغي بحثها في ((علم النفس)) الإداري، وهي أساليب أخلاقية تربوية وأبوية صادقة يتخلّق بها الإنسان العظيم صاحب الهمّة العالية، ويقوم بممارستها، وبتطبيقها سوف تتضاعف عظمته وتعلو رتبته ويعظم شأنه، وهي في الواقع نوعٌ من التواضع والخلق العظيم الصادق الذي يؤثر كثيراً على مستوى العلاقات الاجتماعية المتبادلة بين الأمّة وقادتها؛ ومن آثار الجمال المعنوي، كما قال الشاعر الإيراني: ((إن التواضع من الفقير سيرته.. أما التواضع من الغني والعظيم فمنقبته)).

فالتفقد ــ بهذا المعنى ــ إنّما هو الإدارة الوجدانية والعاطفية في المسائل الإنسانية، وهي تدلّ على عظم الشعور والإحساس المتبادل بين القائد والأمة، مما يؤدّي إلى تقوية الأواصر بينهما، تلك الأواصر والعلاقات التي لا تبتني على الإطاعة انطلاقاً من الأمر الإداري أو الحكومي، والاستجابة لها، بل هي حالة وجدانية وعاطفية ناشئة من عمق الشعور المتأصل في الباطن ((يحبّهم ويحبونه))، وهو شيء من العلاقة الروحية المتبادلة بين الولد وأبويه.

والداعي الأساسي والرئيس في هذا النوع من التفقّد والرعاية هو العشق والحبّ، فإذا وجدنا هذا النوع من التفقّد سائداً أوساط الأمة؛ فهو تعبير عن شكرها وامتنانها وتقديرها؛ والشكر هذا يتمّ في مقابل اللطف هنا. يقول الشاعر الإيراني المعروف حافظ الشيرازي: ((ليس من المروءة والعدالة ألاّ يتفقّد الملك حال رعيته أو كان بجواره مسكين. فاحترم قلبي فالذباب يعبد قطعة السكّر، ولكي يكون لك مريداً أمامه وقت طويل)).

ومن وصايا أمير المؤمنين C لمالك: ((ثم تفقّد من أمورهم ما يتفقّد الوالدان من ولدهما، ولا يتفاقمن في نفسك شيء قويتهم به، ولا تحقّرن لطفاً تعاهدتهم به وإن قلّ، فإنّه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك، وحسن الظن بك، ولا تدع تفقّد لطيف أمورهم اتكالاً على جسيمها، فإنّ لليسير من لطفك موضعاً ينتفعون به، وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه))([32]).

وينبغي أن يتركّز هذا التفقّد والسؤال عن الحال، النائين عن الديار والساكنين في المناطق البعيدة، فينبغي إرسال المبعوثين والمفتشين لتقديم المعونة لهم وقضاء حوائجهم؛ لأنّ العيون والمفتشين الذين ترسلهم السلطة للمراقبة إنما يهتمون أو يعتنون بأمر الوجهاء وأصحاب النفوذ في الأمّة، مع وجود الأكثرية الساحقة من الطبقة الضعيفة والمنسية فيها.

وقد جاء في جانب آخر من وصيته C لمالك الأشتر بخصوص الطبقات المسحوقة والمعدمة: ((وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون (أي أجهزة المراقبة) وتحقّره الرجال، ففرّغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم؛ ثم اعمل فيهم بالأعذار إلى الله يوم تلقاه، فإنّ هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم))([33]).

وعليه، فإنّ من بين الطرق الآمنة والأصيلة في المراقبة والمتابعة لمعرفة ما يجري في الأمّة ودراسة أوضاعها العامة والوقوف على احتياجاتها، فسح المجال لها لحمل أعباء المسؤولية عن الحاكم، وفتح الأبواب على مصراعيها أمامها وعلى مختلف طبقاتها واتجاهاتها، لتوصل له الأخبار، وتكشف له عمّا في ضميرها وبواطن أمورها، ومن ثم معرفة همومها ومعاناتها ومعالجتها، فلا يمكن التوصّل إلى تلك الحلول ومعالجتها إلاّ من خلال هذه الأساليب.

قال علي C في وصية له إلى القثم بن العباس: ((ولا يكن لك إلى الناس سفيرٌ إلاّ لسانك، ولا حاجب إلاّ وجهك، ولا تحجبنّ ذا حاجة عن لقائك بها، فإنها إن ذيدت عن أبوابك في أوّل وردها لم تحمد فيما بعد على قضائها))([34]).



[1]) قال تعالى حول قصّة سليمان والهدهد في القرآن الكريم: ((وتفقّد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين * لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتينّي بسلطان مبين)) النمل: 20 ـ 21. قال الرضا C: لما سيّر النبي 2 جيشاً وأمّر عليه قائداً، جعل عليه من يعتمد عليه من الأفراد المخلصين ليأتوه بالأخبار تباعاً، انظر: بحار الأنوار 100: 61.

[2]) نهج البلاغة، الرسالة 11، تحقيق الدكتور صبحي الصالح.

[3]) الآمدي، الأرموي، شرح غرر الحكم ودرر الكلم: 450، مطبعة جامعة طهران.

[4]) المصدر نفسه 3: 295.

[5]) نهج البلاغة، الرسالة 53.

[6]) نهج البلاغة، 53، علي أصغر إلهامي نيا، الحكومة الإسلامية، العدد الرابع، السنة الخامسة 18، الرقابة على العاملين في الحكم العلوي: 260، (النقل الخبري) أبو حنيفة، القاضي النعمان بن محمد التميمي، دعائم الإسلام، انتشارات آل البيت، قم؛ ج2: 532.

[7]) المحمودي، نهج السعادة5: 97؛ وأنساب الأشراف2: 169.

[8]) مجلة الحكومة الإسلامية، العدد 18: 262، نقلاً عن معالم القرية في أحكام الحسبة: 203، كامبرج، عام 1937م.

[9]) نهج البلاغة، الرسالة 33.

[10]) منهاج البراعة20: 50.

[11]) نهج السعادة5: 17.

[12]) نهج البلاغة، الرسالة 347.

[13]) نهج البلاغة، الرسالة 18.

[14]) نهج البلاغة، الرسالة 44.

[15]) المصدر نفسه، الرسالة 19؛ والميرزا حبيب الله الخوئي، منهاج البراعة18: 332.

[16]) انظر: معالم القربة في أحكام الحسبة، فصل القضاء.

[17]) نهج البلاغة، الرسالة 34؛ وبحار الأنوار41: 155.

[18]) باقر شريف القرشي، النظام الحكومي والإداري في الإسلام: 435، مؤسسة التحقيقات التابعة للحرم الرضوي، عام 1996م؛ ونقلاً عن ابن القيم الجوزي، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: 248؛ والقاضي أبي يعلى؛ الأحكام السلطانية، قام بالتصحيح محمد حامد الفقي؛ دفتر التبليغات الاسلامي، قم، ج1: 72، الهامش نقلاً عن مسلم والبخاري عن أبي حميد الساعدي.

[19]) نهج البلاغة، الرسالة 20.

[20]) ابن خلدون، تاريخ العبر 1، فصل أميرالمؤمنين C.

[21]) ابن أبي الحديد المعتزلي،شرح نهج البلاغة1 ـ 2: 295.

[22]) ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة16، الباب 44: 196.

[23]) بحار الأنوار41: 119، نقلاً عن كشف الغمة1: 173.

[24]) أحمد بن أبي يعقوب اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي2: 203.

[25]) نهج البلاغة، الحكمة 476، ص229، د.صبحي الصالح، طباعة دورة تضمّ سبعة مجلدات (ترجمة محمد الدشتي) المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة، ج1.

[26]) نهج البلاغة، في كلام له C رقم 136، د.صبحي الصالح.

[27]) نهج البلاغة، الرسالة 60، د. صبحي الصالح.

[28]) أحمد بن يعقوب اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي2: 204، دار صادر، بيروت.

[29]) نهج البلاغة، الرسالة 71.

[30]) نهج البلاغة، الرسالة 43، د.صبحي الصالح.

[31]) نهج البلاغة، الرسالة 40، د.صبحي الصالح.

[32]) نهج البلاغة، الرسالة 53.

[33]) المصدر نفسه.

[34]) نهج البلاغة، الرسالة 67، د. صبحي صالح.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً