أحدث المقالات

الأسباب، العوامل، والمعالجات

المقالة I.                     لماذا؟ ومن المسؤول؟

المقالة II.                   1ـ شيء عن المصطلح الفقهي

مما لا جدال فيه أن لكل عِلم من علوم الحياة مفردات خاصة واصطلاحات معيّنة لابدّ للدارس أو المتعلّم من إتقانها قبل الشروع في الاغتراف من بحرها أو السباحة في محيطها. وهذا يعني أنّ للفلسفة مثلاً مصطلحاتها، كما هي مصطلحات علم الكلام وعلم الاجتماع وعلم السياسة وعلم الفيزياء وعلم الفلك وغيرها. ولا محيص لأي عالم أو متعلم للعلوم الدينية وغيرها أن يتوافر على الإحاطة بمفردات اختصاصه وأدواتها قبل أية خطوة عملية تضعه في خضمّها أو السباحة في مياهها.

وحين نقول: إنّ الفقه الإسلامي هو علم كسائر العلوم، بل لعله الأعصى على الفهم أو صُيّر هكذا، وخاصة الاستدلالي منه، لما تحتويه متونه أو صارت تحتويه من مفردات خاصة لا يستطيع غير المختص الإلمام بها أو التوافر عليها، جعلَ من مهمة الدارس لهذا الفرع من المعرفة الإنسانية مهمة شاقة وعسيرة،.ولعلّ هذا هو السرّ الذي يكمن وراء تلك السنين الطويلة التي يقضيها طلبة العلوم الدينية في حلقات الدرس دون تقدّم يُذكر أو يلفت النظر. وبكلمة أُخرى عدم تناسب الجهد الكبير الذي يبذلونه في الدراسة وكذلك المدة الزمنية المستهلكة فيها، مع تحصيلهم العلمي أو المعرفي، اللهم إلاّ بمقدار حفظهم لتلك المصطلحات عن ظهر قلب واستخدامهم لها في مناسبة وغير مناسبة أحياناً، أو كما يقول العلامة محمد مهدي شمس الدين ـ ساخراً ومنفعلاً على سجيته طبعاً ـ : «إنّ نظام الحوزة نظام لا يفشل فيه طالب، ولا يرسب فيه طالب، وإنّ جميع المنتسبين إليه يتخرجون (علماء)»([1]).

وهذا يعني أنّ طلبة العلوم الدينية الأعزاء في عدم إدراكهم ما يصبون إليه معذورون؛ إذْ ليس العيب فيهم هنا، وإنما العيب في (نظام الحوزة) ـ كما يرى الشيخ شمس الدين طبعاً ـ لأنّ هؤلاء الطلبة أو معظمهم يتمتعون بمدارك ليست عادية ويحملون قسطاً وافراً من الذكاء، ومع ذلك فلا تستطيع إلاّ ثلّة قليلة منهم استيعاب هذا اللون من المعرفة الإنسانية أي (الفقه) وإحراز تقدّم واضح فيه، مع أنّ شأنه لا يختلف أو لا ينبغي أن يختلف عن شؤون العلوم والمعارف الأُخرى، كعلم النفس وعلم الاقتصاد وعلم الاجتماع، التي يحرز فيها الطلبة تقدماً واضحاً يتجاوزون فيه (السطوح والمقدمات)، بل يصل الكثيرون منهم إلى حيازة الشهادات العليا وبجدارة واقتدار، وخاصة الأذكياء والمثابرين منهم.

الملاحظ في دارسي علوم (الفقه) أنّ أحدهم لا يصل إلى مرحلة التخصص العالي (الفقاهة) إلاّ بشقّ الأنفس وبسنين مديدة، وربما لا نبالغ في القول أنّ سبعين بالمئة منهم أو أكثر يفنون أعمارهم في الدراسة وينتقلون إلى العالم الآخر دون أن يبلغوا هذه المرحلة أو يصلوا إليها.

ولا نريد هنا أن نُدخل السياسة و(القبائلية) الدينية في هذه الملاحظة، ولا نريد أن نحشر دور البيوتات في تحديد الأولويات وترجيح هذا ورفع ذاك، ولا دور الإعلام أو مافيات المال في هذا الصدد، لأنّ هذا خارج إطار البحث...، وإنما نريد أن نبقى في الدائرة العلمية البحتة، ونعيد طرح السؤال بشكل آخر: لماذا نرى أن نسبة عالية من طلبة العلوم الأخرى، كالفيزياء والكيمياء والرياضيات والطب و…، تصل إلى مرحلة التخصص والتنظير بوقت نسبي محدد، فينخرطون في الحياة العامة نافعين مؤثّرين في مجتمعهم، بينما نرى نظائرهم في علوم الفقه يكتفون، بل يتوقفون في حالة إعياء وعجز كاملين عن تحقيق طموحهم في الوصول أو مجرد التفكير بالوصول إلى المراحل العليا؟!

نعم، يمكن أن يكون السبب الرئيسي هو (نظام التعليم) ـ كما قال الشيخ شمس الدين، وأضاف: «هذا النظام لا يزال حتى كتابة هذه الكلمات على الحال التي كان عليها منذ مئات السنين، فهو يقوم على لا نظام، إنه فوضى، ففي ما عدا بعض الكتب المقرّرة بقوة التقليد، وليس لأنّها أصلح الكتب، لا يوجد أي نظام يحكم الحياة الدراسية على الإطلاق، وإنما هي الفوضى الكاملة الشاملة، وما أكثر (المشايخ) الذين يكتسبون صفتهم الدينية والعلمية من عدد السنين التي قضوها في النجف دون أن يكتسبوا منها شيئاً سوى بعض الحذلقة والفذلكة الكلامية…»([2]).

وإذا أردنا أن نضرب مثلاً على هذه الحذلقة أو الفذلكة واضطراب المصطلح وعدم وضوحه في الكثير من الأحيان في أذهان الطلبة، بل عدم وجود معاجم فقهيه تترجم للمصطلح الفقهي وتؤرخ له وتُعرّف به، لعرفنا أنّ القضية ليست ذكاء هذا الطالب أو غباء ذاك، وأنّ العبقرية لاشأن لها في فهم ألفاظ أو ملفوظات تتباين معانيها اللغوية، ولها مواضعاتها وحيثياتها الخاصة عند أهل كل فن. فلو سألنا (أينشتين) وهو أعلم علماء القرن العشرين في الفيزياء والرياضيات عن معنى مصطلح (قرينة الحكمة) أو (الاحتياط الوجوبي) مثلاً لما اهتدى إلى ذلك، أي لما اهتدى لما يُراد بهذين المصطلحين؛ لأنه يجهلهما على الإطلاق، ولا تشكّل عدم معرفته هذه نقصاً في ذكائه أو خللاً في مداركه.

وهكذا شأن طلبة العلوم الدينية الذين يُفاجَأون عادة وعند أول خطوة يخطونها في دراساتهم الفقهية، فيضطربون مع مصطلحات لم يألفوها، ويروح كل واحد منهم يفهمها بطريقته الخاصة، بل يروح بعضهم يستخدمها في مناسبة وغير مناسبة، أي يتحذلق بها ـ حسب تعبير شمس الدين ـ دون أن يعي خطورة ذلك عليه وعلى غيره تربوياً وتعليمياً. فمثلاً: يستخدمون ـ بدراية وبغيرها، وخاصة أثناء نقاشاتهم ـ المصطلحات التالية: «المصلحة في الجعل»، و«عرض لازم»، و«السنّة التشريعية والسنّة التقريرية»، و«العرف العملي والعرف الشرعي»، و«العقل النظري والعقل العملي»، و«العلة المركبة»، و«العلّة المستنبطة»، و«العلة المحضة»، و«العلة الموجبة»، و«الحجية»، و«الحجية الظاهرة»، و«حجية الحجة»، و«حجية الإجماع»، و«تعارض الأدلّة»، و«ترجيح الأقيسة»، و«الترتّب»، و«الترتيب»، و«التدليس»، و«التخصيص»، ومتفرعاته: «التخصيص بالسبب»، و«التخصيص بالصفة»، و«التخصيص بالبدل»، و«التخصيص بالاستقراء»، و«التخصيص بالتمييز»، و«التخصيص بالحال، وبالشرط، وبالأدلّة المنفصلة، والعادة»، و«التخصيص بالعلة، وبالغاية، وبالفحوى، وبالقرائن»، وعشرات التخصيصات الأخرى التي يدّل كل واحد منها على مدلول، ويُشير إلى معنى، ويرمز إلى بُعد،إضافةً إلى الأبعاد المستترة خلف الألفاظ، والتي تحتاج إلى دراسة معمقة وتأمل وإمعان نظر، ربما ينوء بحمله المعلّم فضلاً عن المتعلّم.

وإذا أضاف المعلّم مصطلحات أُخرى، من قبيل: «الأدلّة اللفظية»، و«الأدلّة اللبّية»([3])، ولم يحاول التفريق بين «السيرة العقلائية» و«سيرة المتشرّعة»([4]) مثلاً تكون القضية أعقد، والطامة أكبر.

المقالة III.                      2ـ دور اللسان العربي وأزمة الفهم اللغوي السليم

السبب الآخر الذي نريد التركيز عليه أو إلفات النظر إليه في محدودية التوفيق في الدراسات الحوزوية العليا هو أنّ علم الفقه في مرحلة التخصص لابدّ أن يُبتنى على دراسة علوم شتّى، لعل أولها علم (اللسان العربي) وما يتعلق به من نحو وصرف وفقه لغة وبلاغة، مع عدم إنكار فضاء الأدب والنقد من عدّة الفقيه، إذْ إنّ هناك من يعدّ قرض الشعر شرطاً مضافاً إلى هذه العدّة، كما هو المنقول عن الإمام الشافعي. فالمتيقّن إذاً أنّ الاجتهاد يتوقف على معرفة اللغة العربية، بل اللسان العربي، معرفة تتجاوز تراكيب الجمل واستخدامها ومعرفة معاني المفردات المعجمية واشتقاقاتها، بل الأمر أبعد من ذلك، إذ إنّ للعربية إيحاءات وإيماءات لا يفهمها غير أصحاب اللغة ومتذوقيها، أو كما يقول السيد المرتضى علم الهدى في أماليه ما نصه: «وللعرب ملاحن في كلامها وإشارات إلى الأغراض وتلويحات المعاني، ومن لم يفهمها ويتسرّع إلى الفطنة لها ممن تعاطى تفسير كلامهم وتأويل خطابهم كان ظالماً لنفسه، متعدياً طوره»([5]).

وقد وردت عن أئمة أهل البيت^ أقوال وأحاديث تؤكد هذا المعنى أو هذا المضمون، منها: «لا يستكمل المؤمن حتى يفهم معاريض كلامنا وإعرابه؛ فإننا قوم فصحاء أو بلغاء، وإنّ الكلمة منا لتنصرف على سبعين وجهاً،لنا في كل وجه منها المخرج»([6])، والسبب ـ كما هو معلوم ـ أنّ عمدة أدلّة الفقيه أو مصادره العامة عربية اللسان، وهما: الكتاب، أي كتاب الله؛ والحديث الشريف، أو ما يسمى (النص) في المصطلح الحديث، وما يلحقه من قراءات أو أفهام باتت تؤكد في العصر الحديث على فهم النص أو مفهوم النص، وليس على النص وحده، أي ما يريده النص أو يرمز إليه أو يعنيه أو يقصده([7]).

ويؤكد العديد من الفقهاء على دور اللغة العربية في عدّة الفقيه، وأنه بدونها لا يكون الإنسان فقيهاً، ويرى كثيرون أنّ كمال الاجتهاد يتوقف على علم المعاني والبيان والبديع([8])، وقد نُقل عن الشهيد الثاني والشيخ أحمد بن المتوج البحراني أنهما جعلا الثلاثة من شرائط أصل الاجتهاد([9]).

وفي « كفاية الأصول»، للآخوند الخراساني: «لايخفى احتياج الاجتهاد الى معرفة علوم العربية ـ في الجملة ـ ولو بأن يقدر على معرفة ما يُبتنى عليه الاجتهاد في المسألة، بالرجوع إلى ما دوّن فيه»([10]).

وقد عرّف الدكتور شعبان محمد إسماعيل (شروط الاجتهاد)، ثم قسّمها إلى قسمين: شروط شخصية، كالإيمان والتكليف والحرية والذكورة والعدالة وصحة الفهم وحسن التقدير. وقسّم الشروط العلمية إلى ما هو متّفق عليه..، وأدرج منها الأُمور التالية:

1 ـ أن يكون عالماً باللغة العربية؛ 2 ـ أن يكون عالماً بالقرآن الكريم ودقائق آيات الأحكام فيه؛ 3 ـ أن يكون عالماً بالسنّة القولية والفعلية والتقريرية([11]).

و هكذا جاء في كتاب «عمدة الاعتماد في كيفية الاجتهاد»، للشيخ مهذّب الدين أحمد بن عبد الرضا، من علماء المئة الحادية عشرة للهجرة، إذ ثبّت أنّ ما يتوقف عليه الاجتهاد في الأحكام الشرعية من العلوم اثنا عشر، منها: اللغة، والصرف، والنحو، والمنطق، والكلام، والتفسير([12]).

يُضاف إلى ذلك أنّ من العلوم التي يتوقف عليها الاجتهاد والتخصص، بل أهمها، هو علم أُصول الفقه، أي تلك القواعد الكلية والمرويات عن أئمة أهل البيت^،  وكذلك علم الحديث، وعلم الرجال، على تفصيل بين الأُصوليين والأخباريين؛ إذ لابد للأُصولي منه؛ لأنّ صحة السند عنده هي أضعف القرائن على صحة الحديث، فضلاً عن ارتكاز ذلك على مفهومي الرواية والدراية، وارتطام هذين الفهمين في ترجيح الأُولى على الثانية أو العكس، بل اشتراك وأهمية ذلك في المنهج الذي يتّبعه الفريقان في مقارنة الروايات بالكتاب والثابت من الحديث، ولفظ المتغيّر إذا اصطدم بالثابت، وما تحمله هذه الروايات في أحيان كثيرة من متن متين ومركّز، بل ومعقّد يحتاج أحياناً إلى فهم وتفكيك واستيعاب.

المقالة IV.                     3ـ غياب التفسير وعلوم القرآن، إشكالية مصادر التشريع

ومما يتوقف عليه الاجتهاد أيضاً هو إتقان علوم القرآن، أي علم التفسير ـ إن صحّ التعبير([13]) ـ ، وهو ما يتجاوز آيات الأحكام التي بنى عليها (الفقهاء) مبانيهم العامة؛ إذ إنّ هناك العديد من الآيات القرآنية الكريمة مفادها أحكامٌ في الفروع، ولم تُذكر في ما أسموه بآيات الأحكام، فضلاً عن العقائد والقيم والأخلاق القرآنية التي لابد للفقيه من التحلّي بها تأسياً بأخلاق الله واقتداءً برسوله والأئمة الميامين من آله (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

وهذا يعني ـ أول ما يعنيه ـ أنّ سيادة أو سيطرة الاتجاه التجزيئي للتفسير على الساحة الإسلامية لمدة ثلاثة عشر قرناً ـ حسب تعبير السيد الشهيد محمد باقر الصدر& ـ قد أبعد كتاب الله العزيز كثيراً عن أهدافه العظيمة التي من أجلها نزل؛ إذ راح كل واحد من المفسّرين يفسّر آيات الله آية آية لدعم اتجاهه الفكري والسياسي، فيبدأ بالقرآن وينتهي بالقرآن، لا كما يُفترض أن يكون التفسير، أي يبدأ من الواقع وينتهي بالقرآن، أو كما يقول السيد الشهيد: «… وهنا يلتحم القرآن مع الواقع، يلتحم القرآن مع الحياة؛ لأنّ التفسير يبدأ من الواقع وينتهي إلى القرآن، لا أن يبدأ من القرآن وينتهي بالقرآن، فتكون عملية منعزلة عن الواقع، منفصلة عن تراث التجربة البشرية، بل هذه العملية تبدأ من الواقع وتنتهي بالواقع..»([14])، ويضيف: «لم ينزل القرآن الكريم على رسول الله’ لكي يدرسه مجموعة من المتخصصين والمثقفين، وإنما نزل هذا الكتاب عليه لكي يُخرج الناس من الظلمات إلى النور،… إذاً فهو كتاب هداية، وليس كتاب اكتشاف»([15]).

وهذا هو الذي دفع السيد الشهيد إلى الدعوة للتفسير الموضوعي للقرآن ـ حسب تعبيره رضوان الله عليه ـ مقابل التجزيئي؛ لأنّ القرآن الكريم أولاً: دعوة لــ (حياة)، وليس (حكاية حياة)، حسب تعبير المرحوم سيد قطب؛ وثانياً: حسب فهم السيد الشهيد لا ينبغي أن يجعل المفسرون القرآن الكريم مصدراً للنزاع، أي إخضاع النص القرآني للرؤى المذهبية التي يتبنونها، حيث يلوي كلّ طرف من أطراف النزاع عنق النص لكي ينتصر كلّ منهم لمذهبه عبر تفسير هذه الآية أو تأويل تلك أو توجيه ثالثة.

وتصبح القضية فاجعة حسب تعبير السيد علي الخامنئي مرشد الثورة الإسلامية الإيرانية في معرض تعليقه على هذه القضية، ولاسيما حين يجري تجاهل التفسير بشكل كامل وعدم الاهتمام به أو تغييبه في جو الحوزات العلمية، إذ قال يوماً متشكّياً متوجّعاً ضمن كلام له في مدينة قم المقدسة مع طلبة العلوم الدينية: «…وإذا أراد أحد كسب أي مقام علمي في الحوزة كان عليه أن لا يُفسّر القرآن حتى لا يُتّهم بالجهل، إذْ كان يُنظر إلى الملاّ المحترم والعالم المفسر الذي يستفيد الناس من تفسيره على أنه جاهل ولا وزن له علمياً، لذا يضطر إلى ترك درسه، ألا تعتبرون أنّ ذلك فاجعة؟!»([16]).

إذاً يمكن القول: إنّ دارس الفقه يجب أن يتوفر على معرفة متخصصة في اللسان العربي وفي تفسير القرآن وعلومه لتترشح عملية الاستنباط عن رؤية شمولية وافية، تؤهّله لاستكمال تفاصيلها أو آفاقها أو فضاءاتها، كما يقول المعاصرون.

وليس هذا وحده الذي يَحول دون وصول العدد المفروض من الطلبة إلى الدراسات العليا، أو العدد المعتدّ منهم إلى مرحلة التخصص (أي الفقاهة)، وإنما يمكن تثبيت أسباب أخرى للتردّي المؤسف في نسبة النجاح أو محدودية التوفيق، نجملها اختصاراً في ما يلي:

المقالة V.                        4 ـ غياب الكتب التعليمية

يعدّ غياب الكتب التعليمية التي تُعنى بمراحل هذا العلم أو ذاك واحداً من أهم أسباب التعويق في الوصول إلى المراحل العليا في الدراسات الفقهية. وأهم مؤشر على ذلك أن المؤلف ـ عند تأليفه كتاباً معيناً لمستوى معين من الدارسين ـ لا يتدرج معهم في العرض العلمي مرتقياً من مرحلة إلى أخرى حسب الاستعداد ودرجة الاستيعاب، وإنما يختار لهم ما يحبّه ويهواه، دون الالتفات إلى استعداداتهم أو مطاليبهم. وأحياناً يختار لهم ما يحبه الجمهور وما يتماشى مع الواقع حتى لو كان هذا الواقع سيئاً ويحتاج إلى تغيير.

والملاحظ في كتب هذا العلم (الفقه) أنها لا تزال إلى يومنا هذا تفتقر إلى مثل هذه المؤلفات، بل إن معظم ـ إن لم نقل كلّ ـ المعتمد منها كمناهج مقرّرة وكتب دراسية معتمدة هي كتابات تعبّر عن رأي مؤلفيها في مناظراتهم مع أقرانهم في زمانها، سواء كانت هذه المناظرات فتوائية أو استدلالية، فكتاب الشرائع مثلاً، وهو من أدقّ المتون
أو النصوص الفقهية الفتوائية، وهو رسالة عملية تعبّر عن آراء المحقق الحلي وفتاواه،
يعدّ من المقدمات في دراسة الفقه، تسبقه دراسة رسالة عملية للدارس باعتباره متديناً مقلّداً، يجب عليه معرفة رأي من يجب عليه تقليده، لتقع أفعاله وتروكه صحيحه من الوجهة الشرعية، وكثيراً ما يُرى أنّ المعلم يختار تدريس الرسالة العملية التي يختارها هو، برغم اختلاف الدارسين في التقليد.

أقول: إن كتاب الشرائع هذا جاء متين العبارة غاية المتانة، ودقيقاً غاية الدقة، وهو بالتأكيد لم يُكتب للمتعلمين، وإنما للمعلّمين، فلا يصحّ أن يُستهلك فيه المتعلم أو يُستنزف دون قصد واضح أو هدف مرسوم.

وكمثال على ذلك ما كتبه مؤلفه المحقق الحلي& في شرائط الرهن، حيث قال: «ومن شرائطه: أن يكون عيناً مملوكاً، يمكن قبضُهُ، ويصحّ بيعُه، سواء كان مشاعاً أو منفرداً، فلو رهن ديناً لم ينعقد. وكذا لو رهن منفعةً، كسكنى الدار وخدمة العبد. وفي رهن المدبَّر تردُّد، والوجهُ أنّ رهن رقبته إبطال لتدبيره؛ أما لو صرّح بِرهن خدمته، مع بقاء التدبير، قيل: يصحّ؛ التفاتاً الى الرواية المتضمّنةِ جواز بيعِ خدمته; وقيل: لا؛ لتعذّر بيع المنفعة منفردةً، وهو أشبهُ»([17]).

وهكذا (اللمعة الدمشقية) للشهيد الأول، وشرحها للشهيد الثاني، فكلّ من المتن الأصلي والشرح كُتبا ليعبّرا عن رؤى صاحبه، علماً بأنهما في غاية الاختزال والتعقيد اللفظي، حتى أنّ صاحب الوسائل (الحر العاملي) أثبت في (الفوائد الطوسية) أنّ بعض عبائر اللمعة وفقراتها اختلف في مرادها أساطين الفقهاء، فكيف بالدارسين والمبتدئين؟! ولولا خشية الإطالة لأوردنا نماذج من العبارات المستغلقة والضمائر الموهمة، وإنْ كنا موقنين أنّ الطلبة الأعزاء والعلماء يعرفون من ذلك الشيء الكثير، ولا داعي لتأكيده أو إلفات الأنظار إليه، وكمثال فقط: يقول صاحب (اللمعة) في الصفحة الأولى في الموضوع الأول من (كتاب الطهارة) ما نصه: «فالماء مطهّر من الحدث والخبث، وينجس بالتغيّر بالنجاسة، ويطهر بزواله إن كان جارياً أو لاقى كرّاً قدره ألف ومئتا رطل بالعراقي، ثم يواصل مستأنفاً: «وينجس القليل والبئر بالملاقاة، ويطهر القليل بما ذكر، والبئر بنزح جميعه للبعير والثور والخمر والمسكر ودم الحدث والفقاع، وكرّ للدابة والحمار والبقرة، وسبعين دلواً معتادة للإنسان، وخمسين للدم الكثير والعذرة الرطبة، وأربعين للثعلب والأرنب والشاة والخنزير والكلب والهرّ وبول الرجل، وثلاثين لماء المطر المخالط للبول والعذرة وخرء الكلب، وعشر ليابس العذرة وقليل الدم، وسبع للطّير والفأرة مع انتفاخها وبول الصبي وغسل الجنب وخروج الكلب حياً، وخمس لذرق الدّجاج، وثلاثة للفأرة والحية والوزغة، ودلو للعصفور»([18]).

ويُبرر السيد المحقق محمد كلانتر للشهيد الثاني& شرحه لها بالقول التالي: قال الشارح «عليه رحمة الله ورضوانه» مبيناً لقول المصنف: <والشاك في الحدث متطهّر وفيهما محدث>: «إن لم يستفد من الاتحاد والتعاقب حكماً آخر».

علماً بأن أصل العبارة البليغة الموجزة في كتاب (اللمعة) هي كما يلي: «والشاكّ
في الطهارة محدث، والشاك في الحدث متطهّر، وفيهما محدث (أي الشاك في كليهما)»([19]).

ومن الجدير بالذكر أنّ كتاب (اللمعة الدمشقية) كلّه لم يتجاوز ثلاثمائة صفحة بالقطع المتوسط، إلاّ أنّ شرحه جاء بعشر مجلدات بالقطع الكبير كما هو معلوم. فهل يُعقل هذا؟!

المقالة VI.                     وقفة مع كتاب المكاسب

أما كتاب المكاسب (للشيخ الأنصاري)، وبرغم إجلالنا وتقديرنا لما فيه من الدقّة والتشقيق والعمق الفريد، إلاّ أنّ كثيرين أكّدوا أنه لا يصلح أن يكون كتاباً تعليمياً؛ لأنه يُظهر طول باع صاحبه فى صناعة الفقه، وأنه كسابقيه كُتبَ للعلماء لا للطلبة أو الدارسين أو المتعلمين، وهو أكثر الكتب المقررة في الحوزة الموقرة تعقيداً والتواءً، وهذا يعني أنه ينطوي على مخاطر تربوية وتعليمية خطيرة جداً؛ أما المخاطر التربوية فإنه يُعلّم المراء الذي نهى الإسلام عنه، وذلك لقدرة صاحبه& على تقليب وجوه الآراء، والاستدلال على إثباتها، ثم هدمها ونقضها أو تفنيدها، وفي نهاية المطاف يقوم بتثبيت الرأي الصحيح، أي بعد عمليات متصلة من النفي والإثبات، الأمر الذي يجعل الدارس أو يمرّنه على إتقان مهارة فائقة على الجدل والتشبث بالحجج الواهية أمام من يختلف معهم، وترويضه على السجال وعدم الإذعان والتسليم للحق بسهولة، اللهم إلاّ بوازع من خلق أو دين أو ضمير، أي تديّن حقيقي، وتربية عائلية مركّزة، وبيت علمي يستقيم أفراده جميعهم على الحق والهدى وتجاوز الاختبارات والابتلاءات والفتن.

هذه هي الخطورة التربوية؛ أما المخاطر التعليمية فمن الثابت في علم التربية والتعليم ونظريات التعلّم أنه لا يجوز إعطاء معلومة خاطئة في سياق المعلومات الصحيحة؛ لأن ذلك ربما يجعل المتعلم يحفظ المعلومة الخاطئة وينسى الصحيحة، بينما نجد في الكتاب المذكور مناقشات الشيخ الجليل في الأدلّة وكلمات الأصحاب مبنيّة على تلك المغالطات اللفظية وطرق الجدل وتمويه الحجج، ويبدو أنّ الشيخ الجليل قد بذل جهداً كبيراً في تأليفه ونظمه، ناهيك عن أضعاف هذا الجهد في درسه وتدريسه، وبدعوى أنّ هذا الكتاب إنما تم تأليفه من أجل تمرين الفكر، وإدخال الدارس في دورة تدريب على تقليب وجوه الرأي، وهي دعوى مازالت تحكم عقول الأساتذة والطلاب معاً، ولعلها منتزعة من العقلية الاستصحابية التي تقدس الموروث، وتحرص على تقديس تراث الأفذاذ من القدماء، فصار هذا الإفراط والتفريط مثلاً على حساب التفسير والأخلاق والتأريخ والعقائد التي لم يُبذل من أجلها مجتمعة ما بُذل في اكتناه هذا الكتاب وشرحه واستيعابه والدوران مع تقليباته ومغالطاته اللفظية وطرق الجدل والتمويه المعتمدة فيه بالقصد المذكور طبعاً.

ومن ناحية أخرى يبدو أنّ هذا الكتاب يناقض نظريات التعلّم وتدرّج العقل في إدراك واستيعاب المعلومات، حيث يتداخل في الكتاب الفكرة ونقدها في سياق واحد، أي إنه في أثناء عرض الفكرة يورد إشكاله عليها، ثم يجيب عن الإشكال، فيتعانق الإشكال والجواب على مساحة العرض، وكأنه جاء على صيغة: (إن قلتَ قلتُ). وبما أنّ النقد مرحلة متأخرة عن تلقي الفكرة واستيعابها يظهر مقدار التشويش الذي يحدثه هذا العرض المطعم بالنقد، ومع كل ذلك فإنّ اللوم بالتأكيد لايقع على صاحب الكتاب؛ لأنه لم يكتبه للمتعلمين، إنما اللوم كل اللوم يقع على أولئك الذين جعلوا من هذا الكتاب كتاباً مدرسياً للمبتدئين.

الملاحظة الأخرى حول هذا الكتاب أنه معنيّ بمادة واحدة فقط، وهي العقود، في وقت لا يُفترض الاهتمام بها على حساب المواد والمواضيع الأُخرى التي لا تقلّ أهمية عن موضوع العقود، إنْ لم نقل أنها أكثر أهميةً منها.

والملاحظ أنّ تحقيق هذا الكتاب أو التعليق عليه قد جاء أضعاف صفحاته، شرحاً للعبارات، وتفكيكاً للمتداخلات، وتعقيباً على موهمات وضمائر لابد من توضيحها، وفي ما يلي نموذج من هذه العبارات، ونموذج واحد فقط من عمومه.

قال&: «في خصوص ألفاظ عقد البيع: قد عرفت أنّ اعتبار اللفظ في البيع، بل في جميع العقود، مما نُقل عليه عقد الإجماع، وتحقق فيه الشهرة العظيمة، مع الإشارة إليه في بعض النصوص، لكن هذا يختص بصورة القدرة، أمّا مع العجز عنه، كالأخرس، فمع القدرة على التوكيل لا إشكال ولا خلاف في عدم اعتبار اللفظ، وقيام الإرشاد مقامه، وكذا مع القدرة على التوكيل، لا لأصالة عدم وجوبه كما قيل؛ لأنّ الوجوب بمعنى الاشتراط كما في ما نحن فيه هو الأصل؛ بل لفحوى ما ورد من عدم اعتبار اللفظ في طلاق الأخرس؛ فإنّ حمله على صورة عجزه عن التوكيل حمل للمطلق على الفرد النادر، مع أنّ الظاهر عدم الخلاف في عدم الوجوب»([20]).

ويلاحظ أنّ السيد محقق الكتاب دوّن على هذه العبارة أربع صفحات كاملات في الكتاب نفسه، شرحاً وتحقيقاً وتعليقاً وتعقيباً، مما يعرفه المختصون الكرام. ويلاحظ ذلك في عدد الصفحات التي وردت فيها هذه الفقرة.

المقالة VII.                   صيحة السيد الشهيد محمد باقر الصدر

وعن هذه النظرة الاستصحابية وتقديس الموروث وعدم الجرأة على اقتحام المسكوت عنه برغم الخلل الفاضح فيه حول ما يتعلق بالكتاب الحوزوي نستمع الى صيحة السيد الشهيد الصدر في هذا السياق وهو يقول: «لابد لنا أن نتحرر من النزعة الاستصحابية ومن نزعة التمسك بما كان حرفياً بالنسبة إلى كل أساليب العمل..، هذه النزعة التي تبلغ القمّة عند بعضنا، حتى أنّ كتاباً درسياً إذا أريد تغييره إلى كتاب دراسي آخر أفضل منه حينئذ تقف هذه النزعة الاستصحابية في مجال التدريس، وهذا أضأل مظاهر التغيير، حينئذ يُقال: لا…، ليس الأمر هكذا، لابدّ من الوقوف، لابدّ من الثبات والاستمرار على نفس الكتاب الذي كان يدرس فيه الشيخ الأنصاري أو المحقق القمي..»([21]).

وهي نفس الصيحة التي أطلقها السيد الخامنئي حول هذا الموضوع، حين أشار مندداً بحرص البعض على معرفة شبهة ابن كمونة، قائلاً: «.. وإلاّ ما شأن الجيل المعاصر بمثل هذه الشبهات، وأين هو من (شبهة ابن كمونة) التي لم تزد أمنية البعض إذا وفّق للقاء الإمام المهدي# يوماً أن يسأله عن جواب هذه الشبهة»، وأضاف: «إنّ (شبهة ابن كمونة) ليست مطروحة اليوم، وإنما هناك شبهات وأسئلة غيرها تشغل الأذهان وتساور الوعي الإنساني»، ثم دعا إلى تجديد الكتب الدراسية من قبيل: الرسائل، والمكاسب، والكفاية، والتي كان لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها أو مسّها([22]).

وعلى نفس المنوال في رفض العقلية الاستصحابية جاءت أقوال العديد من العلماء، وإليك هذا النص ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ : يقول السيد محمد حسين فضل الله: «إنّ الحوزات العلمية تحتاج إلى ثورة في الكتب والمناهج والأساليب الدراسية؛ لأننا لا نستطيع أن نواجه العصر بأفكار وأساليب كانت تعيش قبل ألف سنة…، ولذلك قد نجد كتاباً تستمر دراسته مئات السنين مع العلم أنّ التأريخ تجاوزه، ككتاب (معالم أصول الفقه)، كما نجد هناك كتباً فقهية لاتزال تُدرَّس كـ (شرح اللمعة الدمشقية) وغيره مع أنها تركّز على أُصول فقه تجاوزها الزمن..»([23]).

وهكذا تراوحَ التعامل مع مصدر الفقه الأول (كتاب الله تعالى) بيـن التغييب الكامل أو التفسير التجزيئي المتمذهب أو النظرة الاستصحابية التي تقدّس الموروث ولا تجرؤ على نقده أو محاكمته ضمن ظروف الزمان والمكان.

المقالة VIII.                وماذا في كتابَيْ: الكفاية والرسائل؟

وإذا قال قائل: إنّ طالب العلوم الدينية لابد له من دراسة كتاب الشيخ الجليل، أي (المكاسب)، وأحسنَ الظن بمعنى الكلمة المتكررة في كفاية الأُصول (فافهم)، فعليه أن يتأمل قليلاً ـ ودون نظرة استصحابية ـ إلى بعض ما جاء في كتاب «كفاية الأصول» هذا ليرى المسافة الشاسعة بين المنفتح والمغلق في اللغة العربية، وكيف تمت صياغة الجمل فيه ومقارنتها مع غيرها نحواً وصرفاً وبلاغة وبياناً. وكمثال على ذلك: يقول الشيخ الخراساني في كتابه، بل في أول جملة فيه بعد الحمد والصلاة ما نصه: « وبعد فقد رتّبته على مقدمة ومقاصد وخاتمة: أما المقدمة ففي بيان أمور: الأول: إنّ موضوع كل علم، وهو الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ـ أي بلا واسطة في العروض ـ، هو نفس موضوعات مسائله عيناً، وما يتّحد معها خارجاً، وإن كان يغايرها مفهوماً، تغاير الكلّي ومصاديقه، والطبيعي وأفراده».

ثم يدخل مباشرة في تعريف (المسائل) قائلاً: «والمسائل عبارة عن جملة من قضايا متشتّتة، جمعها اشتراكها في الدّخْل في الغرض الذي لأجله دُوّن هذا العلم، فلذا قد يتداخل (لاحظ) بعض العلوم في بعض المسائل، مما كان له دخْل في مُهمّين لأجل كلّ منها دُوّن علمٌ على حدة، فيصير من مسائل العلمين»([24]).

هذا وقد شُرحت هذه الفقرة الافتتاحية ووُضعت لها حواشي من قِبل المحقق الميرزا المشكيني بلغت ست صفحات بالقطع الكبير، وهكذا في عموم الكتاب، فهل تصدّق؟!

وإذا تصوّر القارئ الكريم أننا اقتطفنا هذه الفقرة قاصدين، فلنواصل قراءتنا في نفس الصفحة من الكتاب الأصل، إذ يقول الآخوند المحقق مستأنفاً: «لا يقال: على هذا يمكن تداخل علمين في تمام مسائلهما، فيما كان هناك متلازمان في الترتّب على جملة من القضايا، لا يكاد انفكاكهما (لاحظ).

فإنه يُقال: مضافاً إلى بُعد ذلك، بل امتناعه عادةً، لا يكاد يصحّ لذلك تدوين علمين وتسميتهما باسمين، بل تدوين علم واحد، يبحث فيه تارةً لكلا المهمين، وأخرى لأحدهما، وهذا بخلاف التداخل في بعض المسائل، فإنّ حسن تدوين علمين ـ كانا مشتركين في مسألة، أو أزيد ـ في جملة مسائلهما المختلفة، لأجل مهمين، مما لايخفى» انتهى. لاحظ الارتباك والتعقيد!!

وهكذا تنتهي صفحة واحدة من الكتاب المذكور، أما حواشيها ـ كما وضعها المحقق المشكيني ـ فقد بلغت ثماني صفحات كاملات بالقطع الكبير. علماً أنّ بعض هذه الحواشي والشروح جاءت أكثر تعقيداً من المتن نفسه. ولا نرى ضرورة لذكره أو عرضه، أو التعريض به (والعياذ بالله)، وساعد الله الدارسين.

وإذا ذهبنا إلى كتاب (فرائد الأصول) المدعو بـ (الرسائل)، الذي استصحبته العقلية الاستصحابية هو الآخر، لوجدنا القضية نفسها والهمّ نفسه برغم كل ما قيل فيه، ولنضرب مثلاً واحداً فقط يؤيِّد ما أشرنا إليه.

جاء في هذا الكتاب في سياق مناقشة الكاتب لـ (دليل الانسداد) ما نصه: «أما المقدمة الأولى فهي بالنسبة إلى انسداد باب العلم في الأغلب غير محتاجة الى الإثبات; ضرورة قلّة ما يوجب العلم التفصيلي بالمسألة على وجه لا يحتاج العمل فيها إلى إعمال أمارة غير علمية. وأما بالنسبة إلى انسداد باب الظن الخاص فهي مبنية على أن لا يثبت من الأدلّة المتقدمة لحجّية خبر الواحد حجّية مقدار منه يفي ـ بضميمة الأدلّة العلمية وباقي الظنون الخاصة ـ بإثبات معظم الأحكام الشرعية، بحيث لايبقى مانعٌ عن الرجوع في المسائل الخالية عن الخبر وأخواته من الظنون الخاصة إلى ما يقتضيه الأصل في تلك الواقعة، من البراءة أو الاستصحاب أو الاحتياط أو التخيير »([25]). وساعد الله الدارسين مرة أخرى، وهذا بعض ما نعنيه بأزمة العقل الشيعي.

وإذا ابتعدنا قليلاً عن الاستصحاب أو العقلية الاستصحابية فلنا أن نقول: ماذا كان طلبة الفقه يدرسون أيام المفيد والمرتضى والطوسي وابن زهرة؟! ألم يكونوا يدرسون كتاب الله وأخبار المعصومين؟! بل ما الذي درسه أولئك الفحول غير كتاب الله وسنّة المهديين، علماً أنّ ما صار لأولئك من طول الباع وخدمة الدين ما كان وما يزال يغبطهم الكثيرون عليه، إن لم نقل: إنهم فاقوا الكثيرين من المتقدمين والمتأخرين! إذاً فالقضية ليست مختصة بكتاب أو مصدر، وإنما بمنهج وعقلية ونظام.

يقول السيد (محسن الأمين) في هذا السياق أيضاً ما خلاصته: «إن المجتهدين في النجف الأشرف انهمكوا في علم الأصول والفقه الى درجة الإفراط، ويضرب على ذلك مثلاً بالميرزا حبيب الله الرشتي المتوفّى سنة 1312 هـ الذي كان أعظم المجتهدين تدريساً في زمانه، وكان يعمد في درسه إلى التطويل العجيب، حتى قيل: إنه بقي في تعريف (البيع) شهوراً، وكان ذلك مألوفاً في ذلك الزمان، ولكنه في رأي السيد محسن الأمين من قبيل (تضييع العمر في ما لا فائدة فيه)، ويقول السيد محسن الأمين: إنّ عشرات المجلدات الضخمة كُتبت في علم الأصول، فكان ذلك تعقيداً للعلم، و(تبعيداً لا تعبيداً)، ولو كانوا قد نقّحوا تلك الكتب وهذّبوها لكان عشرها كافياً»([26]).

ولعل هذا يقترب مما يُنقل عن العلامة الطباطبائي من أنّ موسوعة بحار الأنوار للعلامة المجلسي البالغة أكثر من مئة مجلد يمكن اختصارها بعد التنقيح والتهذيب إلى عشرة أو عشرين فقط([27]).

ونفس الشيء يُنقل عن السيد كاظم الحائري الذي قضى شهوراً طويلة في مسألة (المشتق) و(المتلبّس) و(المنقضي)، وغيره الذي قضى سنتين في هذا الموضوع، والثالث الذي قضى سنين مديدة في مبحث الحج!!

وهذا مايتداوله طلبة العلوم الدينية الشباب في الحوزة العلمية العربية في قم، ويتندّرون به حيناً، ويتألّمون منه أحياناً أخرى.

المقالة IX.                      5 ـ القفزات في المناهج المقررة، وفقدان المنهجية

إنّ عدم اتساق أو تساوق المناهج المقرّرة ووجود قفزات أو طفرات في المراحل الدراسية تعتبر عقبة في هذا السياق، وترتبط هذه الملاحظة مع الملاحظة السابقة في عدم اعتماد منهجية علمية في التأليف تخطيطاً أو إعداداً للمراحل الدراسية اللاحقة أو الممهدة؛ إذ يلاحظ أنّ كتابَيْ الشرائع واللمعة الدمشقية مثلاً، اللذين هما رسالتان عمليتان، لا يمهدان لدراسة كتابة المكاسب، بل لم يكن في ذهن شارحيهما أو مؤلفيهما على الإطلاق أنهما سيكونان كتابين مدرسييَّن، وعلى هذا لم يخطر ببالهما التوطئة لكتاب المكاسب الذي لم يكن مؤلِّفه قد ولد في زمانهما. ومن هنا فإن الانتقال من اللمعة الى المكاسب المحرمة يشكّل بالنسبة للطالب طفرة علمية غير مسبوقة بتمهيد أو مدخل أو توطئة، فيفاجأ الطالب أنه انتقل من عبارة فتوائية مضغوطة ومسبوكة بشكل معقّد لايستطيع تفكيك تعقيدها اللفظي، وأحياناً بتر العبارة أو عدم وفائها بالمراد، مع استخدام الضمائر البعيدة الموهمة التي قد تعود على هذا الاسم القريب أو ذاك البعيد، إلى كرّ الشيخ الأنصاري وفرّه، وانتقاله بين آراء الأصحاب ومناقشتها والإيراد عليها، بالإضافة إلى ما سبق من التعقيد والتواء العبارة وإيهامها، وبطبيعة الحال تشكّل هذه النقلة عقدة غير يسيرة أمام تقدم الدارس وتدرّجه العلمي.

كما أنّ الانتقال من المكاسب المحرّمة التي تُعتبر باباً متواضعاً من أبواب الفقه، إلى البحث الخارج يُعتبر هو الآخر عقبة أخرى؛ إذْ يجد الطالب نفسه منفتحاً على جميع أبواب الفقه في ما يتصل بالموضوع قيد البحث، بما في ذلك علم الرجال وعلم الحديث وبأُسلوب لم يكن قد ألفه بعد.

وإذا أضفنا طريقة الأُستاذ غير العلمية في عرضه للدرس، كأن يتداخل أسلوبه في كيفية الاستدلال والوصول إلى الرأي؛ تارة بترك المسألة للطالب؛ والأخرى بعرضها مباشرة؛ وإيهام الطالب بين هذه وتلك، وانهماكه بين تدوين الملاحظات أو تركها، وإنهاكه بين الطريقتين، كل ذلك ينهك ذهن الطالب أو يستنزفه ويتركه يتخبط في عدم إدراك منهجية أُستاذه الذي لا منهجية له أصلاً.

ولو كان الأستاذ يسلُك في درسه منهجاً وصفياً لبحثه، ويقوم بمنهجته منهجة علمية بتثبيت الخطوات العملية التي يسلكها في عملية الاستنباط وجعل البحث موضوعاً تطبيقياً لتلك الخطوات، لسهّل على تلامذته المهمة، وأعانهم على بلوغ الدرجة العلمية المتوخاة من هذه المرحلة أو تلك.

وتتضاعف أهمية هذا المنهج العلمي في المرحلة الأخيرة من مراحل دراسة الفقه.

ولتوضيح هذه الفكرة نقدم المثال التالي: إنّ أية خبرة أو مهارة يُراد تعلّمها أو إتقانها، سواء كانت هذه الخبرة أو المهارة حركية، أي عملية، كالسباحة أو قيادة السيارة أو الطائرة، أم كانت خبرة أو مهارة ذهنية، كاكتساب المعلومات أو برمجة المفاهيم، فإنّ الطريقة المثلى هي عرض الطريقة في البداية على شكل خطوات أو نقاط محدّدة، وبعد أن تتضح هذه الخطوات في ذهن المتعلّم نظرياً، يمكن إعادة تطبيقها أمامه عملياً، أو ترويضه على التمرّن عليها تطبيقياً ـ كما يقولون ـ، وبعدها يُطالب بإعادة التطبيق لوحده، أي نطالبه بالتمرين الذاتي تحت إشراف المعلم طبعاً، ثم نبين له أسباب الخطأ أو نقاط الخطأ في تطبيقاته؛ ليتسنى له عدم تكرارها في التمارين اللاحقة.

هذا على صعيد العملية الحركية أو التجربة التطبيقية، أمّا على صعيد العملية الذهنية أو الاستنباطية، أي الفكرية فإننا نلاحظ أنّ الطالب في الجامعات الحديثة يُمرّن على كتابة البحوث النظرية تحت رعاية وتوجيه الأُستاذ أو المشرف المختص لعدة مرات، إلى أن يشعر هو نفسه أو يطمئن أنه أصبح قادراً على كتابة بحثه لوحده، أو أن أخطاءه قد تقلّصت إلى أقصى حد ممكن يؤهله لكتابة بحث محترم أو مسؤول.

والمؤسف في حوزاتنا في طريقة اكتساب المهارات الذهنية عموماً هو اتّباع الطريقة الذاتية وتجربة محاولات الخطأ والصواب دون أي توجيه أو إشراف، شأن ذلك شأن إلقاء من يُريد تعلّم السباحة في الماء وتركه يتخبّط في النهر والإيعاز إليه بتحريك يديه ورجليه، بدون أي منهج أو برنامج نظري مُسبق يُساعده على اتقان تجربة السباحة بطريقة أسهل وفترة أسرع، بل حتى دون تنفيذ أي إجراء حركي أو تطبيقي أمامه يساعده على تفهّم أو استيعاب هذه الخبرة الحركية المهة.

ولهذا السبب غرق الكثيرون من طلبة الحوزة الأذكياء، وتمّ اغتيال أعمارهم وعبقرياتهم واستهلاكها في (المتلبّس) و(المنقضي) و(الترتّب) و(العصير العنبي) و(دليل الانسداد)، الأمر الذي قاد ويقود إلى أزمة حقيقية فعلاً في العقل الشيعي.

المقالة X.                        6ـ فقدان أو شحّ طرق التدريس

إنّ طرق التدريس أصبحت علماً قائماً بذاته له أصوله ومناهجه، وتعريفها أنها فن إيصال المعلومة للمتلقي أو الدارس بأفضل وأسرع طريقة، وهذا يعني أنّ لكل مادة دراسية طريقة خاصة لإيصالها وإفهامها للمتلقي، فمادة التأريخ لها طريقة، ولمادة الرياضيات طريقة أخرى، وهكذا الفيزياء والفلسفة وعلم الاجتماع والاقتصاد وغيرها.

ففن إيصال المعلومة هو غير معرفة المعلومة نفسها، ومن هنا نسمع التعبير الدارج في حوزاتنا «فلان مدرّس فاهم، إلاّ أنه قاصر العبارة»، ولو استعرنا العبارة المعاصرة وعرّفنا للدارس علم طرق التدريس لقال: «فلان مدرس فاهم، ولكنْ ليس له طريقة ناجحة في التدريس».

والذي يؤسف له أيضاً في هذا السياق هو سيادة النزعة الاستصحابية المارّة الذكر حتى مع طرق التدريس وأساليب العمل.

يقول السيد الشهيد الصدر في هذا السياق: «… ففي أساليب العمل الخارجي كانت لدينا حالة، أنا أستطيع أن أسميها (حالة النزعة الاستصحابية)، أي الاستصحاب الذي قرأناه في علم الأصول، وطبّقناه على أساليب العمل وطبقناه على حياتنا، فكنا نتجه دائماً إلى ما كان، ولا نفكّر أبداً في أنه هل بالإمكان أفضل مما كان..»([28]).

والمؤسف الآخر أنّ الكثيرين ممن يتصدون للتدريس ربما لم يسمعوا بعلم (طرق التدريس) أصلاً،.و هذا لا يعني بطبيعة الحال عدم وجود أساتذة أكفاء حازوا كفاءتهم بالخبرة والتجربة، وليس بالدراسة والعلم، ولكن هذا الاستثناء لايلغي القاعدة كما يقولون.

المقالة XI.                      7 ـ ضعف الاهتمام بالكفاءة أو اللياقة التدريسية

فقد جرى العرف في الحوزة على نظام (حلقة الدرس العباسية)، وتعني أنّ من ينتهي من دراسة مادة معينة يقوم بتدريسها حال الانتهاء منها، أي إنّ الذي ينهي كتاب الشرائع مثلاً على يد مدرس معيّن له الحق في تدريسه حال الانتهاء من دراسته، وهكذا حتى يصل الأمر إلى البحث الخارج. وهذا خلل فاضح بالتأكيد، ويؤثر على العملية التعليمية برمّتها؛ إذ إنّ هؤلاء المدرسين القاصرين سينقلون معلومات مبتورة، وربما محفوظة عن ظهر قلب ومشوشة إلى أذهان طلابهم؛ لأنهم لم يتوفروا على استيعاب المادة نفسها بفضاءاتها ومداراتها ولوازمها، وإنما الاكتفاء بها وحدها، ومن ثم تخويل الحافظ بنقلها إلى غيره، وهنا يأتي النقل المبتور أو المثلوم، إن لم نقل: النقل الخطأ أحياناً.

وبطبيعة الحال فإن هذا لا يعني أنّ جميع المدرسين هكذا، ولكن الاستثناء لايلغي القاعدة، كما ذكرنا قبل قليل؛ إذ إنّ هناك من المدرسين الجهابذة فعلاً من يستحق التقدير والاعتزاز بما يحمله من طرق جيدة وأسلوب ماهر وعرض دقيق ومهارة فائقة في إيصال المعلومة إلى أصحابها، وكأنهم مدرسون بالفطرة، إلاّ أنّ هؤلاء قد برزوا أو بزّوا الآخرين وتفوّقوا لقدراتهم الذاتية الخاصة، أي مواهبهم ومثابرتهم، وليس إلى الكتب أو المناهج أو طرق التدريس المألوفة في الكيان الحوزوي.

وهناك مفارقة أخرى لا نريد أن ننكأ جرحها تحصل أحياناً في هذا الإطار، وهي ابتلاء الحوزة ـ شأنها شأن كل الوجودات الأخرى ـ بمدرس كفوء غير مخلص، بل غير متديّن بالمعنى الحقيقي لكلمة تديّن، أو مدرس مخلص أو متديّن ولكنه غير كفوء، وهذه قضية لانريد بحثها أو الغوص فيها؛ لأنها خارج إطار هذا العرض المركّز الموجز، ولعل في إثارتها ما يستفزّ بعض القيّمين على هذا الكيان الإسلامي الشامخ، ولاسيما إذا تمّت المحاكمة بصوت عال أو جرى وضع النقاط على بعض الحروف في وضح النهار أو على ظهر الكتاب!!

وهذا سبب آخر من أسباب أزمة العقل الشيعي موضوع البحث.

المقالة XII.                   8 ـ عجمة اللغة الفقهية وارتباك المعنى

المشكلة الأخرى أو العائق الآخر في طريق التفوّق والتوفيق بالنسبة لطلاب الفقه هو عجمة اللغة الفقهية ـ إن صحّ التعبير ـ، خصوصاً بعدما اكتملت صناعة الفقه على أيدي بعض المتأخرين من علمائنا، بل والمعاصرين منهم، فقصور العبارة عن إفادة المعنى، والاختزال المخلّ، واستخدام الضمائر الموهم، والتعقيد اللفظي، سمة بارزة في كتب الفقه، يعرفها الدارسون والمدرّسون وكل من تعاطى قراءة هذا الفرع من العلوم الدينية، ويكفي أن يمرّ القارئ على كتب المتقدمين، كالشيخ المفيد والشيخ الطوسي، الفقهية، ويقارنها بكتب المتأخرين والمعاصرين، سواء كانت كتباً استدلالية أم فتوائية، فيكتشف سلامة اللغة ونقاءها عند المتقدمين، وعجمتها وارتباكها عند المتأخرين. وهذا إنْ دلّ على شيء فإنما يدلّ على المسافة الشاسعة بين قدرة الصنف الأول على فهم أحكام الآيات مثلاً ودلالالتها ومغازيها ومقاصدها والمستتر وراء نصوصها وعجز الصنف الثاني عن إدراك ذلك وهيبته وتهيّبه من التحرش بالموروث، وكذلك ضغط العقلية الاستصحابية، وأحياناً تعمّد التعقيد مع سبق الإصرار لغاية في نفس يعقوب، ويقوم المؤلف أحياناً بتلفيق الرؤى أو استعارتها وتمرير المتشابك فيها لمداراة الأمر الواقع بعبارة موهمة قد تأتي ـ على سبيل المثال ـ كما يلي:

جواب: الحكم بالحرمة مبني على الاحتياط، وإن كان الأقوى خلافه.

أو: الأحوط تركه، وإن كان للصحة وجه وجيه.

أو: الأحوط تركه، وإنْ كان الأقوى جوازه.

أو: لايجوز ذلك على الأحوط، وإن كان للحليّة وجه وجيه.

أو: الأحوط تركه، وإن كان للجواز وجه قريب([29]).

وأمثال ذلك مما يختمه العلماء بعبارة: (والله العالم)؛ انسلالاً أو انسلاخاً من الخوانق والمزالق من جانب؛ وعدم اقتحام الموروث المقدس أو تخطئته من جانب آخر؛ ومداراة الدهماء والعوام وما يسمّى المشهور من جانب ثالث، الأمر الذي يُربك الدارس أو المتعلم، ويتركه في حيرة لايُحسد عليها، وإحباط لايجد فكاكاً منه، وإنْ كان البعض يفسره تسامحاً أو مسامحة، برغم أنّ الكثيرين لايتسامحون فيه مع الأسف الشديد.

المقالة XIII.                 9 ـ الغياب النسبي لروح النقد العلمي

هناك نقطة ضعف أخرى في الدراسة الحوزوية يمكن وضعها تحت عنوان (غياب روح النقد العلمي للمسائل المحدثة والخلافية)، ولعل من أولى مقدمات روح البحث العلمي هذه هو عرض المسألة المستحدثة على الطلبة أو الأساتذة والمهتمين من أبناء الأمة قبل تثبيتها أو ترويجها، ومن ثم الاضطرار إلى الدفاع عنها حتى لو كانت خاطئة أو مدمّرة، وما يجرّ ذلك من جدل وسجال ربما تكون، بل كانت، ضريبته فادحة جداً، ومكلفة جرّت على المذهب وأتباعه الويلات.

ولعّل أهم أسباب غياب هذه الروح النقدية في الحوزة العلمية هو الفهم السلبي لمسألة التقليد، والانجرار مع مصطلح القداسة المارّ الذكر، وعدم استيعاب (العصمة)، مضافاً إلى ذلك حالات الاستصحاب وتقديس الموروث والخوف من التجديد والإبداع خشية أن يوضعا تحت عنواني الانحراف والبدعة، وما يتبع ذلك من تفسيق وتكفير واتهام جاهز بالزندقة والمروق والضلال، وهذه أزمة حقيقية أخرى يجب دراستها والتأمل فيها، كما مرّ ذكره.

المقالة XIV.                10 ـ عدم إقامة الدورات التأهيلية العامة

من الأمور التي ينبغي الالتفات إليها في الدراسات الفقهية والتي يمكن الإشارة إليها عبوراً، ويمكن اعتبارها نقاط ضعف جدّية، هي عدم فتح الدورات التخصصية لتأهيل كادر متقدم من الطلبة المتفوقين، وحشرهم في الروتين التقليدي الذي يأتي على الطاقات والمواهب، وكذلك عدم إتاحة الفرصة لما يمكن تسميته ممارسة الكفاءة، كالتدريس أو التبليغ أو الكتابة أو التحقيق، إلاّ في حدود ضيقة جداً، ربما لا توفّر أرضية اكتشاف المبلّغ المناسب ووضعه في المكان المناسب، فضلاً عن غياب اللغات الأجنبية أو قصرها على مدارس محدودة تحرم الطاقات المتوثبة من الأمة إتقان لغة أجنبية واحدة على الأقل تؤهّلهم للانفتاح على العالم واكتشاف آفاق الأديان الأُخرى وفضاءاتها، ولاسيما اللغة الإنگليزية، ودورها في التحكّم بعالم الكومبيوتر والانترنيت وثورة المعلومات والاتصالات الحديثة.

أما إذا جئنا إلى قضية الحقوق والرواتب والطرق المستخدمة في توزيعها على الطلبة فإن في ذلك ما ينكأ الجرح ويُثير السُخرية، بل يبعث على الازدراء ويُضحك الثكلى، وشرّ البلية ما يُضحك ـ كما يقولون ـ، وربما يحتاج تعديل هذه القضية إلى حركة تغييرية إصلاحية شاملة أو ثورة إصلاحية (كبرى)، ليست هذه الكلمات والالتماعات السريعة قادرة على التوفّر على تفاصيلها المضحكة المبكية([30]).

المقالة XV.                  كلمة أخيرة

ولا يفوتنا، ونحن في هذا العرض الموجز السريع، الذي أشرنا فيه إلى مسبّبات محدودية التوفيق في الحوزة العلمية، أن نؤكّد من ناحية أخرى أنّ لهذه الجامعة امتيازاً مهماً على بقية الجامعات أحياناً؛ لما فيها من حرية اختيار المادة الدراسية والأُستاذ والمدة الدراسية، إضافةً إلى حرية اختيار البحث، مؤكّدين في نفس الوقت على مفخرة هذه الجامعة فى تخريج العديد من جهابذة العلم والقلم ممن امتازوا بالأصالة والمعاصرة، والاطّلاع الواسع على نتاجات الفكر الحديث، وكان منهم مَن لم يُر أجدر منه في الكتابة لطبقة المثقفين بلغة العصر الحديث وإتقان المصطلحات الحديثة، وفي مقدمتهم الإمام المفكر الشهيد السيد محمد باقر الصدر في كتاباته الشهيرة في الفلسفة والاقتصاد والأسس المنطقية للاستقراء، وكذلك في فتاواه الواضحة ودراساته العميقة حول البنوك والأُصول ـ أي أصول الفقه ـ، وهكذا ما كتبه الشيخ المظفر والشيخ محمد جواد مغنية في دوراتهم الاستدلالية العريقة، وخاصة ما وضعه الأخير بين أيدي الطلبة المبتدئين، وتعريفهم بما سمّاه «فقه الإمام جعفر الصادق×»، وما جاء فيه من يُسر وسلاسة وتبسيط متعمّد وممدوح.

نعم، إنّ نظرة سريعة وبسيطة إلى ما كتبه هؤلاء وأمثالهم تُريك الفرق الشاسع بينهم وبين غيرهم ممن لم يستطع الانفكاك من النظرة أو النزعة الاستصحابية المارة الذكر، والتي تجاوزها الجيل ولم يعُد يعبأ بما تثيره من ردود أفعال ساذجة بقدر اهتمامه بترسيخ الأصلح وانتهاج الأصحّ، وبما يخدم مبادئ الأصول وثوابت الدين الحنيف.

أما ما كتبه أو يكتبه المعاصرون الآخرون، أمثال: العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين، والعلامة السيد محمد حسين فضل الله، وكثيرون غيرهم ومثلهم في الحوزة العلمية في قم المقدسة، كان في مقدمتهم الإمام الخميني، والشهيد المطهري، والسيد علي الخامنئي، والسيد محمود الهاشمي، والشيخ الشبستري، والدكتور عبد الكريم سروش، والشيخ صادق لاريجاني، والسيد الأشكوري، والشيخ محسن كديور، والدكتور مهدي الحائري، والشيخ واعظ زاده خراساني، وعشرات من العلماء المتنورين والمنفتحين على العصر، ممن يُعوّل عليهم إنقاذ الجيل المعاصر من طلبة العلوم الدينية، والسير بهم قُدماً تجاه تجديد هذا الدين وتفعيل مشاريعه الإحيائية الخالدة.

ولعلّ آخر وأبرز هؤلاء المجدّدين من أصحاب المشاريع الإحيائية هو المرجع الشهيد السيد محمد صادق الصدر، الذي أسّس، بل قاد، مشروعاً إصلاحياً جديداً في العراق لم يعرف له تأريخ التشيّع مثيلاً، وخاصة أنه جاء في ظل سلطة قمعية لم يعرف لها التاريخ مثيلاً أيضاً، فانبرى هذا المرجع إلى زيادة هذا المشروع الإحيائي، وغاص في مفردات الحياة اليومية للإنسان المسلم في العراق، فضلاً عن دعواته التجديدية الصريحة في تمييزه بين الحوزة الناطقة والحوزة الساكتة، ودعوته لتجديد مناهجها في الفكر والعمل، والإجهاز على العديد من موروثاتها التقليدية التي لم تنفع الأمة، بل أضرّتها، بل لم تنفع حتى الحوزة الشريفة نفسها، فعاشت أنانياتها وذاتياتها ـ على حد تعبيراته& ـ التي مرّ ذكرها ـ.

وأخيراً نقول، وباختصار شديد: إنّ الحوزة الشريفة شأنها شأن كل الوجودات والكيانات والمعاهد العلمية في العالم فيها الجيد الحسن، وفيها السيِّء الرديء، فيها الغث وفيها السمين، ودعوتنا في هذا البحث، بل أملنا، أن لايجتاح غثّ الحوزة سمينها، أو حسَنها رديئها، وأن تبقى منبراً ومثابة وملاذاً لتخريج العلماء والفضلاء الذين يشعرون بالمسؤولية ويرتفعون إلى مستواها ويستقطبون الأجيال حولها؛ وصولاً لترسيخ دين الله تعالى في الأرض، وإحياء نفوس المؤمنين الذين يُراد لهم في كل عقد أو كل عصر عَلَماً مجدداً، ومصلحاً فذّاً، يقود سفينتهم في هذا الموج، ويحفّزهم للعيش لهذا الدين، وليس الاعتياش عليه.

الهوامش

(*) باحث وناقد، من الوجوه الثقافية في العراق.

([1]) راجع كتاب (مواقف وتأملات في قضايا الفكر والسياسة)، سلسلة (اخترنا لك)، الطبعة الثانية، 1992، مقال للشيخ محمد مهدي شمس الدين تحت عنوان: <المرجعية آفاق وتطلعات>: 215.

([2]) المصدر السابق نفسه: 215.

ويبدو أنّ القضية تحسّنت بعض الشيء في حوزة قم بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وإنْ لم يكن التغيير بمستوى الطموح بعد، مع الأسف.

([3]) مجلة المنهاج، العدد 19، خريف 2000، دراسة للشيخ محمد هادي آل راضي تحت عنوان <الاجتهاد دراسة فقهية لظاهرة الاجتهاد الشرعي>: 338.

([4]) المصدر السابق.

([5]) أمالي المرتضى 1: 6.

([6]) التحفة السنيّة: 79.

([7]) يمكن مراجعة ما يكتبه أو كتبه بعض المثقّفين العرب المعاصرين حول (النص) و(مفهوم النص)، و(نقد النص)، مثل: نصر حامد أبو زيد وحسن حنفي وعلي حرب وأركون وغيرهم ممن أجادوا (لعبة النص) وأتقنوها، أو كما يقول المرحوم الشيخ محمد جواد مغنية في هذا السياق: «إن المشكلة ليست في النص، وإنما في فهم النص»، وهكذا كان يؤكد الشهيد المطهري ويحرص على تثبيته في عقول طلبة العلوم الدينية وإبعادهم عما كان يسميهم (المتيبسون) أو أصحاب العقول المتخشبة أو الأفق الضيق.

([8]) مجلة المنهاج، العدد 19، خريف 2000 ـ الدكتور عبد الهادي الفضلي، في موضوع تحت عنوان <دراسة فقهية لظاهرة الاجتهاد الشرعي>: 20.

([9]) المصدر السابق: 20.

([10]) المصدر السابق: 20.

([11]) المصدر السابق: 20، نقلاً عن كتاب <الاجتهاد الجماعي>: 37.

([12]) المصدر السابق: 21.

([13]) وقد تفرّع عن هذا العلم ما بات يسمى اليوم الهرمنيوطيقا أو علم التأويل أو علم تفسير النصوص أو إدراكها، وكل ما له صلة بالفهم والإدراك والتأوّل واستخراج المعاني من الألفاظ والتعابير.

([14]) المدرسة القرآنية، محاضرات سماحة الإمام الشهيد محمد باقر الصدر: 22، طبعة 2، بيروت، 1981.

([15]) المصدر السابق: 40.

([16]) من خطاب للسيد الخامنئي ألقاه في طلبة (البحث الخارج) في قم المقدسة، بتأريخ 12 ربيع الأول 1412هـ .

([17]) المحقق الحلي، شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام: 602ـ 676، كتاب الرهن 2: 67 الطبعة الأُولى، قم، دار التفسير.

([18]) الشهيد  الأول، اللمعة الدمشقية: 15، انتشارات دار الفكر، قم، كتاب الطهارة.

([19]) راجع: كتاب الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية، للشهيد العاملي الثاني: 12.

([20]) راجع: كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري 7: 7ـ10، مؤسسة دار الكتاب قم، الطبعة المحققة الأولى، 1396 هـ، ولاحظ التعقيد في استخدام الضمائر والجمل والكلمات.

([21]) راجع: كراس المحنة للسيد الشهيد الصدر الأول، وبرغم ذلك ورغم سلاسة أُسلوب السيد الشهيد، ولكنه اضطر لمجاراة الذهن الحوزوي بعبارات وجمل لم يجد فكاكاً من استخدامها، فتراه يكتب مثلاً: <… بأن يأخذ عدم قيام الدليل الخاص على الجعل الشرعي في موضوع الحكم المجعول في ذلك الجعل، فيكون عدم قيام دليل خاص على الجعل الشرعي قيداً في الحكم المجعول…> الحلقة الثالثة 1: 84 للسيد محمد باقر الصدر.

([22]) صحيفة (كيهان العربي) الإيرانية، الصادرة في 22 حزيران 1995م.

([23]) في حوار للعلامة السيد محمد حسين فضل الله مع صحيفة (كيهان العربي)، في عددها الصادر في 18 أيلول 1993.

([24]) المحقق الخراساني، كفاية الأصول (مع حواشي المحقق الميرزا أبي الحسن المشكيني) 44:1ـ50، تحقيق: سامي الخفاجي، منشورات الحكمة ـ قم الطبعة الأولى، 1413هـ.

([25]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، طبعة 1، 1419.

([26]) راجع كتاب (أعيان الشيعة)، للسيد محسن الأمين 421:5، وراجع كذلك كتاب (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث)، للدكتور علي الوردي 3:، وهذا من حسن الظن طبعاً وليس من شيمتنا هنا الحديث عن سوء الظن، لأن الحكاية (خطيرة) وإن (بعض الظن إثم) كما هو معلوم.

([27]) وهو ما يُنقل عن السيد الشهيد الصدر الأول الذي سمّى بحار الأنوار مازحاً يوماً (بحيرة الأنوار).

([28]) راجع كراس المحنة للسيد الشهيد الصدر، وكتابنا (الشهيد الصدر بين أزمة التأريخ وذمّة المؤرخين).

([29]) وهذا مانراه ونقرأه في العديد من أجوبة المراجع الموهمة المتردّدة، بل نمرّ عليه في العديد من فتاواهم ورسائلهم العملية والتي تعني اللاموقف، كما مرّ ذكره.

([30]) يمكن مراجعة تفاصيل هذه المسألة في كتابات الشهيد المطهري والسيد فضل الله وعلي شريعتي وحسن الكشميري وعادل رؤوف وغيرهم.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً