أحدث المقالات

الإصلاح بين جدلية الحقيقة والمصلحة

إيمان شمس الدين

مقدمة

الحركة نحو الكمال هي حركة فطر عليها الإنسان أي هي موجودة فيه بالقوة وتحتاج أن تتحول إلى فعل تعود ترجمته إلى إرادة الإنسان واختياره بحرية لنوعية هذا الكمال , ولعل أوضح ما يعبر عن هذه الحركة التكاملية الدؤوب هي كلمة الاصلاح. وقد جاء في الأثر:مغبون من تساوى يوماه وملعون من كان امسه أفضل من يومه. وهذه الكلمات هي دعوات صريحة من قبل أهل الوحي ليكون الإنسان في حالة كدح دائم نحو الترقي من حال إلى حال أحسن منه.

وبما أن موضوع الأنبياء والأوصياء بل موضوع الأديان ككل هو الإنسان فقد أولت الشريعة المقدسة أهمية عظمى لكل ما يقوم مسيرة هذا الإنسان ويدفعه باستمرار نحو الأفضل. ولكن الأفضل ونتيجة الجدل الإنساني يختلف من منظور ورؤية إلى منظور ورؤية أخرى باختلاف منابع الفكر ومهد الايديولوجيات التي تنطلق منها فكرة الأفضل والأكمل.

يقول الإمام علي عليه السلام:”اللهم إنك تعلم إنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان,ولا التماس شيء من فضول الحطام,ولكن لنرد المعالم من دينك,ونظهر الإصلاح في بلادك,فيأمن المظلومون من عبادك,وتقام المعطلة من حدودك”

ولذلك نجد أن التاريخ الإنساني يزخر بالحركات الإصلاحية التي سعت نحو تطور المسيرة الإنسانية على كافة المستويات خاصة تلك الحركات التي ركزت على تطوير الفكر والارتقاء بمستوى الوعي الإنساني ورفع الظلم وإرساء مبدأ العدالة وهو أحد أهم المباديء التي سعى إلى إرسائها الانبياء والأوصياء والمصلحين الحقيقيين.ولعل مفهوم الإصلاح ليس مفهوما طرأ على ساحة الفكر الإنساني في العصور الأخيرة بل هو مفهوم كما اسلفنا حمله الإنسان في أحشاء فطرته بالقوة منذ توليه المسؤولية الخلافية على الأرض.

وبما أن الإصلاح حركة جوهرية تبدأ من النفس وتتجه نحو كل مضامين الحياة فإنه من الضروري أن نسلط الضوء على عملية الإصلاح التي بدأت بذورها بالنضوج فيما يخص حركات الإصلاح في الفكر الديني أو إحياء الفكر الديني التي طرحها إقبال في كتاب له اسمه إحياء الفكر الديني في الاسلام ,ولعل فكرة الإحياء أو الاصلاح والتي تتعلق في فهم الدين وإنتاج المعرفة وآليات إنتاج المعرفة الدينية وليس كما ينصرف ذهن البعض إحياء الدين نفسه أو إصلاحه بل إحياء وإصلاح التفكير بشأن الدين وبعبارة أخرى كما يقول الشهيد مطهري:”غسل الأدمغة مما تراكم فيها من انحرافات وتشويهات بشأن الدين.وماورد من الروايات عن الدور الذي يمارسه المهدي الموعود عليه السلام بشأن تجديد الدين فإنما يعني هذا اللون من التجديد,تجديد يتجه إلى إحياء السنة وإماتة البدعة”.وفكرة الإحياء نجدها واردة في روايات أهل البيت عليهم السلام والقرآن الكريم,ففي الرواية قالوا:”أحيو أمرنا” وفي القرآن قال تعالى في سورة الأنفال آية 24:”يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم” أي أن أحكام الاسلام حية لا يعتريها الموت ولكن فهم هذه الاحكام والفكر الذي يدور حولها هو موضوع بحث المطالبين بالاحياء أو التجديد أو الاصلاح. وهذه الحركات كان لها صولات وجولات في الساحات الدينية والثقافية ومخاضات عسيرة تكسر على أعتابها الكثير منها وصمدت أخرى أمام العديد من المواجهات العنيفة والشخصانية في كثير من الاحيان لتكمل مسيرتها نحو أهدافها التي رسمتها في إعادة بلورة رؤية جديدة من رحم الدين في فهمه والتنظير له وإعادة إنتاج المعارف المستلهمة منه.

مفهوم الإصلاح:

الإصلاح يعني التنظيم والترتيب وهو حركة تحدث تغييرا نحو الأصلح والأكمل,أي حركة ديناميكية مستمرة.

والمصلح هو الشخص أو المجموعة التي تقوم بعملية التغيير نحو الأصلح والأكمل وتعمد إلى تقديم رؤية إصلاحية .ويجب أن نميز بين المصلح والصالح,فالمصلح هو الشخص الذي يحمل هم التغيير نحو الاهداف التي تحقق الإصلاح على المستوى الاجتماعي والفكري وغيره من الساحات الحياتية,أما الصالح فهو من يقدم خدمة للإنسانية إلا أنها لا تحدث عملا تغييريا هادفا كالطبيب الذي اخترع المصل للوقاية من الأمراض المعدية فهو قدم خدمة للبشرية ولكن عمله لا يصنف على أنه عملا إصلاحيا.

 
 

حركة الإصلاح في إنتاج المعرفة الدينية(الفكر الديني):

لقد طرح محمد إقبال صاحب الفكر الإحيائي للدين تساؤلا مهما هو:هل الاسلام الحقيقي موجود اليوم بين المسلمين؟ وأجاب قائلا: ن الاسلام موجود بين المسلمين وغير موجود.موجود في المظاهر التي تسود حياة المسلمين أو بعبارة أخرى موجود على مستوى الشعائر الاسلامية,فالمسلمون يقومون بالشعائر الإسلامية كالصلاة والأذان وغيره حسب الاحكام الاسلامية لكنهم يفتقدون لما يخلق فيهم روحا اسلامية,فالروح الاسلامية ميتة في المجتمع الاسلامي.فالاسلام لم يمت في رأي إقبال بل المسلمون هم الذين ماتوا.

ولعل تعبير الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة يصور واقع المسلمين حيث يقول:”ولبس الاسلام لبس الفرو مقلوبا” 

في العقود الأخيرة وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران بدأت بذرة الحركات الإصلاحية المطالبة بإعادة النظر في العديد من المسائل الحيوية في الفكر الديني أهمها:

1.المناهج الحوزوية وإعادة بلورة رؤية إصلاحية لا تهمل الماضي بل تراكم عليه بكل ما هو جديد وأصيل وتعيد النظر في هذه المناهج بما يحاكي الزمان والمكان.وهو من باب أن مكونات الحياة الاجتماعية والمعرفية في كل زمن تختلف عن الزمن الآخر بل مستجدات الاحداث والحياة تختلف وتتراكم وتتسع لذلك أفق العقل يتسع تدريجيا ويراكم من خبرات السابقين وينميها مما يتطلب إعادة النظر في المناهج الدراسية خاصة أن إعادة النظر هي فكر إنساني وليس وحياني معصوم. 

2.آليات التدريس الحوزوي وتطوير النظم الدراسية على كافة المستويات.

3.إعادة النظر في طرق الاستنباط الفقهي وتجديد الاجتهاد لكي يغطي أكبر مساحة من الحياة بجميع مصاديقها.والاعتدال في عملية استنباط الأحكام بين الفرد والمجتمع لأن الإسلام في نظريته لم يفاضل أحدهما على الآخر كالليبرالية التي آمنت بأصالة الفرد أو الشيوعية التي آمنت بأصالة المجتمع.

4.الفهم وأثره على بلورة الفكر الديني والنظرية الإسلامية وهنا نقصد فهم العقل للنص وماهية مرجعية النص فالجدل هو جدل دائر بين فهم العقل للنص ومرجعية النص.

ولقد انطلقت هذه المطالبات في بداية الأمر من أفراد في الحوزة إلا أنها ما لبثت هذه المطالبات الفردية أن تحولت إلى جماعات منظمة انطلقت كل منها في مشاريعها الإصلاحية من إيديولوجيات فكرية ونظريات إصلاحية تأثر بعضها بشكل كبير بالنظريات الغربية,ولقد انضم إلى الجبهة الإصلاحية أفراد من خارج الحوزة العلمية من الاكادميين والمثقفين وأكثرهم كان لديهم اطلاع كبير على ما تعانيه الحوزة من مشاكل على المستوى المنهجي وعلى مستوى الآليات التطبيقية للدروس الحوزوية.

وإذا ما عدنا إلى بذور المطالبات الإصلاحية نجدها في واقع الأمر بدأت من رحم الحوزة العلمية ومن أفرادها,ولعل أبرز قيادات الإصلاح في الفكر الديني ومنه الشعائري: الشيخ النائيني والسيد محسن الأمين والشهيد الشيخ مرتضى مطهري,والسيد الشهيد محمد باقر الصدر,والإمام الخميني, جمال الدين الأفغاني ومحمد إقبال وعبد الرحمن الكواكبي وغيرهم كثر لا يسعني في هذه العجالة سوى ذكر بعضهم وأكثرهم تأثيرا من وجهة نظري القاصرة.

والحركات الإصلاحية تختلف في غاياتها باختلاف شخوصها ويعود هذا الاختلاف إلى الجدل الإنساني للإنسان مع نفسه من جهة ومع أخيه الإنسان من جهة أخرى.

فهناك مصلحون ثاروا على المألوف ليس طلبا للإصلاح بل طلبا لمآرب أخرى,وحينما حققوا وظفروا بما يريديون مارسوا نفس ممارسات من ثاروا عليهم أي أن غاية الإصلاح لديهم كانت للوصول إلى مركز أو موقعية معينة تحقق لهم طموحاتهم المتعلقة بالأنا وجدليتها.ومصلحون آخرون حينما تضررت مصالحهم وأناهم ثاروا لكي يدركوا موقعية معينة وحينما ادركوها استمروا على نفس المسلكيات القديمة التي نهضوا ضدها ولكن ثورتهم ضدها كانت لأجل مصالحهم التي تضررت .

أما الفئة الثالثة فهي فئة المصلحين الذين نهضوا وهمهم الإنسان ورفع الظلم عنه وإعادة صياغة حياته وفق أسس العدالة والرقي بوعيه إلى أعلى مراتب حتى لو تضررت مصالحهم ولو تعرضوا لكل أنواع الظلم والاضطهاد فهدفهم هو الإصلاح وإن حققوا ما أرادوا لم يتطلعوا إلى موقعية بل يفضلون وجودهم بين الناس خداما لهم وهذه الفئة هي التي تنشد الإصلاح الحقيقي.

ولقد انقسمت الحركات الإصلاحية المطالبة في تجديد الفكر الديني إلى:

1.حركات طالبت بالإصلاح الكامل والشامل والانقلاب على كل ما هو تقليدي ومألوف في الحوزة فضحت بعنصري الإسلام المهمين للاعتقاد به وهما الأصالة والخلود وقد تأثرت بشكل كبير بالنظريات الغربية في الفكر الديني التي ثبتت نجاعتها في الغرب وتناسوا أن منطلقات هذه النظريات وأسبابها تختلف في جوهرها عن الواقع الإسلامي لأن تلك كانت ركيزتها الثورة على الكنيسة وحكمها باسم الدين أما هنا فإن الواقع مغاير تماما وإن تشابه في بعض جزئياته وفي مشهديته العامة ولكن مختلف تماما في المرتكزات. وهذه الحركات قامت على أسس علمانية ترتبط بإيديولوجيا بعيدة عن الاسلام وحركة من هذا القبيل كما يقول الشهيد محمد باقر الصدر:”لا هي قادرة على تفسير الاسلام تفسيرا صحيحا ولا هي قادرة على اقناع الجزء الاعظم من الناس بوجهة نظرها في تفسير الاسلام مادامت لا تملك أي طابع شرعي يبرر لها أن تكون في موقع التفسير للاسلام ومفاهيمه وأحكامه”

2.حركات طالبت بالإصلاح مطالبة بالتغيير المنهجي في أبجديات الحوزة العلمية وخلطت في مرتكزاتها ومبانبها بين النظريات الإسلامية والغربية بل تأثر بعض شخوصها بالنظريات الغربية تأثرا كبير ظنا منها أن التطور الغربي وما وصل إليه على مستوى التنظير الاجتماعي والفكري قادر على أن يسد الثغرات التي عجز عن الإجابة عليها الفكر الديني أو رجالاته ووجدت أن سد هذه الثغرات من خلال هذه النظريات قادر على أن يجعل من الإسلام حاضرا في الساحات التي غاب عنها نتيجة التقصير وليس القصور, فضحت بالأصالة لأجل الخلود.

3.حركات طالبت بالإصلاح الحقيقي والتغيير المنهجي المرحلي الآخذ بالحسبان عنصري الأصالة والخلود وهي حركات نهضت من رحم الحوزة وضمت مجموعة معتبرة من الشباب الحوزوي الذي أدرك خطورة استمرار وضع الحوزة على ما هو عليه على مسيرة الإسلام وطرح الفكر الإسلامي وحضوره الخالد في ساحات الفكر الإنساني والعملاني أيضا في الساحات الاجتماعية وقدرته على حل كثير من المشكلات الإنسانية والاجتماعية وكيف سيؤثر ذلك على استمرارية النظريات الإسلامية في الحياة الإنسانية على المستوى العملاني. وهي حركة قامت على أساس الاسلام وارتبطت به كإيديولوجيا ومرجعية فكرية وارتبطت ارتباطا وثيقا بمصادره الحقيقية في الامة. “وهذه الحركات بحكم إدراكها العميق للاسلام ووعيها الثوري عليه قادرة على تفسير الاسلام والتمييز بينه وبين السنن والاعراف الاجتاعية التي خلقتها العادات والتقاليد ومختلف العوامل والمؤثرات المتحركة في المجتمع,كما انها بحكم ارتباطها بالمصادر الشرعية للاسلام في الامة وبحكم ما تمارسه بوضوح من خطوط الاسلام الصالحة التي تجمع الأمة على اسلاميتها …تكون قادرة على اقناع الامة والجزء الاعظم من المحافظين فيها بالتفسير الصحيح للاسلام وفصله عن كل أوضاع التخلف من عادات وسنن وأخلاق.وبهذا تتحول كثير من الطاقات السلبية إلى طاقات إيجابية في عملية البناء”

 

الجبهات التي واجهها الإصلاحيون:

إن أي حركة تجديد في العالم الإسلامي تستهدف إعادة النظر في المباني الفكرية للفكر الديني تصطدم بمجموعة من الأعراف والتقاليد الممتزجة بالدين مما أكسبها بالتقادم درجة قوية من التقديس الديني حتى باتت جزءا منه في فهم وإدراك الكثيرين,لذلك تواجه هذه الحركات التجديدية جبهات معارضة تتراوح شدتها وضعفها اعتمادا على نوعية الاصلاح المطلوب.ولقد واجه المشروع الإصلاحي الحقيقي عدة جبهات كان أشدها عليه على الاطلاق تلك التي انطلقت من رحمه ووجهت له ضربة قاصمة لسوء التقدير وعدم المضي ضمن مرحلية ومنهاجية منطقية تستطيع أن تعيد الرونق من جديد للفكر الديني وهذه الجبهات هي:   

1.جبهة داخلية تمثلت في اختلاف الرؤى المطروحة للاصلاح نتيجة اختلاف المنطلقات والأهداف والغايات وبالتالي اختلاف الآليات.ولعلني أرى أن أيضا جدلية الأنا دخلت على خط الخلافات.

فجهة كانت أهدافها تنطلق نحو المطالبة للتغيير من أجل المصلحة وليس من أجل الحقيقة وهي جهة لها قاعدة عريضة تحمل في مكنوناتها النفسية رفضا مبطنا لوجود طبقة علماء الدين بل لا ترضى بقيادة العالم للساحة وهي متأثرة بشكل كبير بالفكر الغربي بل هي ترى أن ما قام به الغربيون ضد الكنيسة في العصور الوسطى كان السبب الحقيقي نحو ازدهار الغرب وتقدمه في مناحي الحياة المادية ولكنها غفلت عن المناحي المعنوية وجهة أخرى خلطت بين المفاهيم الاسلامية والمفاهيم الغربية ولم تستطع لقصور نظرتها بلورة رؤية علمية واضحة فطرحت مشروعها الاصلاحي خالطة الغث بالثمين دون وجود خطة حقيقية وواقعية على أساس علمي واضح بل غير متعمقة في المسائل الحوزوية العميقة وقد نطلق على بعض أفكارها بأنه فكر التقاطي سطحي غير عميق.وبالطبع لا يمكننا أن ننكر أن ممارسات الكثير من العلماء وقصور الساحة العلمائية عن الرد عن كثير من المشكلات الاجتماعية والسياسية كان سببا -قد يكون غير مباشر- في تشكل هذه الجبهة العريضة ولا نغفل أبدا عن المؤامرة التي تتعرض لها الحوزة دائما ولكننا أيضا لا ننكر أن الحوزة هيأت الأرضية للتآمر عليها بدون قصد. ولقد أثرت أطروحات هذه الفئة بشكل كبير على المشروع الإصلاحي برمته بل لا يمكننا إلا أن نقول أن الإفراط في الطرح الإصلاحي الغير ممنهج والغير دقيق والغير علمي والغير مرحلي ومنطقي أدى فعليا إلى تعرض المشروع الإصلاحي الحقيقي إلى الخطر بل بطأ من مسيرته.هذا إضافة إلى عدم قدرة شريحة كبيرة منهم في التعاطي الهادئ مع معارضيهم والشخصانية في طريقة المواجهة والطرح أديا إلى تغييب الحقيقة والمعرفة والمشروع الإصلاحي لحساب التراشقات الشخصانية وهو ما سنسلط الضوء عليه في الجبهة الثانية.وكما أن هذه الشريحة عجزت عن اختراق صفوف الجماهير بلغة مبسطة وأفكار واقعية لأن أي نظرية إصلاحية عليها ان تخرج من رحم الواقع المعاش,إلا أن طبيعة الطرح النخبوي لم يستطع أن يحاكي الجماهير وأحست تلك الجماهير أنها في واد ومطالبات الاصلاحيين في واد آخر,بل أحس الكثيرين أن مطالبات الإصلاح التي ينادي بها هؤلاء وكأنها تريد أن تسلب منهم تدينهم ومبادئهم ومقدساتهم نتيجة حدة الطرح والنقد دون طرح بدائل ناجحة وعقلانية.وبدت هذه الشريحة العريضة من المنادين بالاصلاح والتغيير والتجديد وكأنها في أبراج عاجية تترفع عن هموم الناس اليومية وآهاتهم بل لا تستطيع أن تخاطب عقولهم ووترتقي بمستوى أفهامهم.    

2.جبهة خارجية تمثلت في جهتين:

أ.التقليدييون من العلماء والمتدينين الإسلاميين المثقفين والأكادميين.

وهم مجموعة من العلماء والمتدينين المسلمين الذين عاشوا في القرنين الأخيرين,وحصروا اهتمامهم فقط برفض الثقافة والحضارة الغربية ومحاربتها,وذلك بدافع من غيرتهم على الدين وتمسكهم بالمعارف والأحكام الدينية

وقد تكون هذه الجبهة نشأت إما كرد فعل على الإفراط في الطرح الاصلاحي أو هي فعل موجود يرى أن التعبد بكل ما يتعلق تاريخيا بالدين وعصر الرسالة هو طوق النجاة من المعاصي,بل يتعدى وضعه إلى تفسير الحياة والدين تفسيرا بعيدا عن واقع المجتمع وما يعانيه من أزمات أخلاقية وسلوكية نتيجة غياب الطرح الحضاري الإسلامي الذي يرتقي بالإنسان وقد يميل بعضهم إلى العلمانية العملية من خلال نظريات تبناها بعضهم وهي أن الإسلام هو إسلام عبادات وعرفان وأما الساحة الاجتماعية فالاسلام بعيد عن ثغراتها. وكما يقول د.عبد الجبار الرفاعي في نظرته عن الدين:الدين يعمل على تطهير الباطن وترسيخ النزعة الإنسانية والمعنوية وتىبية الذوق الفنيومنح العواطف رقة وشفافية بدلا من ذلك يتحول الدين إلى وسيلة للكراهية وأداةللاحتراب والصراع”

 والجبهة الأشد على الطرح الاصلاحي الحقيقي المطالب بالتجديد هي التي تشكلت كرد فعل,لأن غالبا رد الفعل يكتنز في داخله شظايا مؤلمة بل قد تكون مهلكة.

وتحول الطرح العلمي للأفكار والرؤى إلى احتراب شخصاني أطاح النظريات العلمية والحواريات العلمية من خلال قتل طارحها اجتماعيا وحوزويا وإقصائه عن دائرة الحضور الاجتماعي والعلمي مما أثر في عملية الارتقاء العلمي والفكري وفي تخلف الإبداعات الفردية والجماعية ونشر ثقافة الخوف بين صفوف المصلحين الحقيقيين وهو خوف على مكانتهم الاجتماعية والحوزوية مما حدا بتخلف الكثيرين عن ركب ثقافة الاختلاف والرأي الآخر والحوار العلمي الرصين وإحلال بديل له هو ثقافة الخوف والإرهاب الفكري.

ولكن إلى أي مدى يتواءم هذا السلوك مع ما صرح به الإمام الحسين عليه السلام أمام كبار الصحابة أيام معاوية عام 60 للهجرة حيث قال:”..اللهم إنك تعلم أنه لم يكن ما كان منا تنافسا في سلطان,ولا التماسا من فصول الحطام,ولكن لنر المعالم من دينك,ونظهر الإصلاح في بلادك,ويأمن المظلومون من عبادك ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك”

مع ان الإمام علي عليه السلام يقول:” كثرةالوفاق نفاق وكثرة الخلاف شقاق “

إلا أن البعض من من ناشدي الاصلاح والتجديد الحقيقي قدموا انفسهم قرابين وشهداء على هذا الطريق ويقول الدكتور علي شريعتي بهذا الصدد:”إن الإنسان في مدرسة الاسلام مسؤول ولو كان لوحده,مسؤول لو واجهته قوة غاشمة متحكمة في المصائر..ذلك أن المسؤولية يحددها الوعي والإيمان لا القوة والإمكان فمن كان أكثر وعيا كان أكثر مسؤولية..”

اتباعا لما قاله تعالى:”أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين”

                            “وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين”

يقول الشهيد محمد باقر الصدر حول حركة التجديد وما تواجهه:”إن أي حركة تجديد في العالم الإسلامي تصطدم حتما بعدد كبير من الأعراف والسنن الاجتماعية والتقاليد السائدة التي اكتسبت على مر الزمن درجة من التقديس الديني,وأصبح من المستحيل بالنسبة إلى جزء كبير من الامة أن يتخلى عنها بسهولة وهذا يؤدي بكل حركة تجديد تستهدف بناء الامة من جديد إلى مواجهة توتر نفسي كرد فعل على ما تمارسه من عملية التغيير وتحفز ديني للمعارضة وصمود في وجه القيم والمفاهيم الجديدة.” 

ولعل أهم الاٍسباب في هذا الاندماج بين العوام والتقليديين هو:

1.قدرة التقليديين على اختراق العوام بلغة خطابية عاطفية شعاراتية وشعائرية تركز على البعد العاطفي   والنزول عند رغباتهم بالقدر الذي ينطلق ليس من ثوابت دينية فقط بل من امتزاجات للعادات والتقاليد مع مفاهيم دينية.

2.التواصل الدائم بين التقليديين والعوام تواصلا يأخذ في الحسبان التبسيط ,والمذهبة والرضوخ لأسر التاريخ وإثارة القضايا التاريخية المذهبية التي تركز على الجانب العاطفي ولا توسع من المدارك.

3.الالتزام الذي يبديه التقليديون في الاطر الدينية والحفاظ على الظاهر المتدين والالتزام بالطقوس الدينية والشعائرية..

ب.الجماهير والعوام مع تحفظي على لفظة العوام.

يقول الشهيد مرتضى مطهري في بحثه حول جماعة العلماء:” إن الآفة التي أصابت مجتمعنا الديني بالشلل وأقعدته عن العمل هي “الإصابة بالعوام” وهي أشد بلاء من الاصابة بالسيول أو الزلازل أو لسع العقارب والحيات.إن أصل هذه الآفة هو نظامنا المالي.إن منظومتنا الدينية على أثر إصابتها بهذه الآفة,لا تستطيع أن تكون طليعية وأن تهدي القافلة بالمعنى الصحيح للهداية.إنما مضطرة للسير وراء القافلة”

وبهذه الكلمات نختصر الكثير من المعاناة المرتبطة بالنظام المالي المتعلق بالاخماس والذي أثر بشكل كبير على تطور الفكر الديني وكان سببا غير مباشر في تعطيل مسيرته الحقيقية وغيبت حقيقة الاصلاح من أجل مصلحة ويقول الشهيد مطهري أيضا في ذلك:” المعيار الأساس في مجتمعنا هو الشعار ولا شغل لنا بالعمل والروح….مجتمعنا علوي الشعار وضد علي روحا ومضمونا..والويل الويل لمن يريد أن يكون علويا في صراحته وصلابته ويقدم الإسلام على المشايخ”.

ويقول في مورد آخر:” ليس أمام مجتمعنا الديني سوى السكوت في موضع الكلام,والسكون في موضع الحركة,والنفي في موضع الاثبات,لأن ذلك ينسجم مع طبيعة العامة,إن من سمات غلبة العامة من الناس هي منشأ رواج الرياء والمجاملة والتظاهر وكتمان الحقائق والاهتمام بالمظاهر وشيوع الألقاب والمقامات والتطلع إلى المراكز العليا في مجتمعنا الديني مما لا نظير له في العالم.إن غلبة العوام هي التي تدمي قلوب أحرارنا وطلاب الاصلاح فينا”

ويقول الإمام علي عليه السلام:”لا تثنوا علي بجميل ثناء لإخراجي نفسي من الله من البقية في حقوق لم أفرغ من أدائها وفرائض لابد من إمضائها,فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة, ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به أهل البادرة,ولا تخالطوني بالمصانعة,ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي ولا التماس إعظام لنفسي,فإنه من استثقل الحق أن يقال له,أو العدل أن يعرض عليه,كان العمل بهما أثقل عليه”. 

وأعتقد هذه الكلمات كافية ووافية عن أي إضافة وتعليق.ولعل ما يجعل للعوام نفوذ كبير في ساحة العلماء وخاصة التقليديين هي الحقوق الشرعية المالية أي السلطة المالية وكلنا يتذكر قضية مؤسس الحوزة العلمية الشيخ الحائري اليزدي في بدايات القرن العشرين حينما وضع في مناهج الحوزة اللغة الإنجليزية كيف تراجع تحت وطأة ضغط العوام ونفوذهم المالي.والقصص كثيرة في هذا الصدد.

ونخلص إلى أن المشروع الاصلاحي المطالب بتجديد الفكر الديني عطل مسيرته الإصلاحيين المفِرطين والتقليديين المفرطين الذين أيضا قيدتهم سلطة العوام فرضوا بها وضحى كلا الطرفين بالحقيقة لأجل المصلحة.    

 وما يحتاجه المشروع الإصلاحي الناشد للتجديد الديني هو:

1.مشروع توعوي يركز على جانبي الفكر والعاطفة ويحاول معالجة المغالطات الفكرية بطريقة ممنهجة ودقيقة ومرحلية ومنطقية مع طرح البدائل الحقيقية .

 2. التركيز على وعي الجماهير والارتقاء التدريجي به وطرح الإصلاحات خاصة فيما يتعلق بالشعائر المذهبية طرحا تدريجيا مستوعبا لكافة الاطياف مع طرح بدائل واقعية وقادرة على استقطاب العدد الأكبر.”فكلما ازداد وعي المجتمع وروح الحركة والاندفاع فيه كان أقرب إلى الحياة,وكلما هبط عنده الوعي وخمدت فيه روح التحرك كان أقرب إلى الموت والاسلام دين الحياة ودين الحياة لا ينسجم مع الجهل والعجز و الضعف ومن يقف في وجه تصاعد وعي المسلمين والجماهير ليس من الاسلام في شيء”.

3.تبسيط اللغة والألفاظ التي يخاطب بها الناشدين للاصلاح مع الناس لأن وعي الناس هو الضامن الوحيد لاستيعاب كافة الشرائح حتى التقليديين منهم.

4.الابتعاد عن الشخصانية في الطرح والحوار العملي الجاد والتركيز على إصلاح الأفكار لا إصلاح الأشخاص.

 5.وأهم نقطة أعتبرها جديرة بالذكر بعد الاحداث السياسية الاخيرة التي حدثت في الجمهورية الإسلامية الإيرانية اختلاط السياسي بالفكري والثقافي في مشروع الاصلاح مما عرض المشرع الاصلاحي ومطالبات التجديد في الفكر الديني إلى خطر كبير خاصة بعد نجاح التقليديين في استقطاب الشارع والجماهير بالخطابات الشعاراتية العاطفية وبطريقة شعبوية مما يتطلب إعادة صياغة المشروع الاصلاحي بطريقة تتناسب والظروف والتطورات الجديدة.وخاصة فصل السياسي عن الفكري والثقافي لأن إصلاح الفكر أولى وأهم ومدعاة لاصلاح الفكر السياسي أيضا وأعتقد أن غربلة المصلحين الحقيقيين لكل الشوائب الموجودة في هذا التيار المطالب بفكرة التجديد أو الاحياء أو الاصلاح في الفكر الديني وعدم التواني من التخلص وعلنا من أولئك المندسين أو المنحرفين عن واقع الاصلاح المطلوب وعن حقيقة الاصلاح المطلوب لأن التضحية بهؤلاء أولى من التضحية بالمشروع الحقيقي المطالب بهذه المطالبات والتضحية بهم أولى من التضحية بالاسلام وسمعته بل التضحية بهؤلاء ومصالحهم أولى من التضحية بالحقيقة والله لن يغير ما بقوم كما جاء في الآية الكريمة حتى يغيروا ما بأنفسهم وأعتقد أن وجود هؤلاء في داخل المطالبين الحقيقيين بالاصلاح هو بذرة غير سوية وعائق حقيقي في طريق الاصلاح والتغيير والتجديد لذلك التخلص منهم هو بمثابة التغيير بالنفس حتى يتغير القوم .

6.مشروع إعلامي قادر على محاكاة الجماهير والفئات المختلفة ضمن خطة إعلامية فكرية مدروسة تستطيع إحداث تغيير مفاهيمي وفكري بطريقة غير مباشرة ومحببة وقريبة إلى واقع الجماهير.

7.البدء الفعلي من العلماء أصحاب راية التجديد في الفكر الديني والمصلحين الحقيقيين بطرح مشروع إصلاحي للنظام المالي على أن يكون فيما بعد نموذج يفرض نفسه على الساحات الحوزوية حتى نحد من سلطة العوام من جهة ومن قوة التقليديين من جهة أخرى ولسنا هنا نقصد المواجهة والمنع ولكننا نريد وضع حلول واقعية وعملية لكي نزلل العقبات أمام المشروع الحقيقي للتجديد في الفكر الديني في وقت أصبحت الحملات كلها تشن على الدين الاسلامي من الثغرات التي خلفها الفهم التقليدي له مما استقطب الطاقات والقدرات العقلية التي يمتلكها المسلمين وحتى نعيد للاسلام حضوره الواعي والحراكي والثوري في النفوس والعقول.

8.التنسيق الفعلي بين المطالبين بالتجديد بالفكر الديني والاصلاحيين الحقيقيين المنطلقين من فهم واعي يحافظ على عنصري الأصالة و الخلود وتتبنى الطرح الحضاري للاسلام ليتم التحرك كل من موقعه وبشكل هادئ ورزين ومتزن للعمل أو البدء الفعلي بطرح الإصلاحات التي يتطلبها بناء الفهم الأقرب إلى واقع الاسلام والاخذ بالحسبان الانتقادات التي توجه من قبل الأصوليين أو التقليديين لأحقية بعض ما يوجه منهم من انتقادات علمية لها أسسها ومبانيها الفكرية السليمة والنظر إلى ماقيل وليس إلى من قال مع احترامنا الشديد والتوقير الكبير لمن قال ولكن لكي نبتعد عن الشخصانية في قضية التجديد في الفكر الديني,إضافة إلى الثبات والتدرج في الطرح وعدم الاستسلام للرياح القادمة من معارضي مشروع التجديد بل يجب أن تمتلك هذه المجموعة القدرة على المحاججة العقلية والاحتواء والطرح العلمي الجاد المتجرد. ولعل أبرز ما يمكن الاستناد إليه في قضية الاستمرار والمواصلة الآية الكريمة الحاكية عن السنة الإلهية وقانون الخليقة:”أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاضحى السيل زبدا رابيا يوقدون عليه النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء واما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال” وهو رد لمن يشكك في جدوى الكفاح من أجل الحق والعدل على طريق الحقيقة والاستقامة والاصلاح.

وأعتقد أن هناك الكثير من الرؤى والأفكار القادرة على تشكيل رؤية وبلورة خطة عملية تنهض فعليا بمستوى الطرح والتجديد وهو ما بتنا بأمس الحاجة إليه في ظل التراجع على مستوى الساحات العربية والاسلامية وهجرة العقول التي نعاني منها لعدم وجود مشروع إسلامي بفهم حضاري يستقطب هذه العقول والقدرات لتصب في صالح البناء الحقيقي لثقافة الامة ووعيها.      

 

 


نهج البلاغة:الخطبة 131

إحياء الفكر الديني في الاسلام-الشهيد مرتضى مطهري- دار التيارالجديد ص 13

نهج البلاغة: الخطبة رقم 107

الاسلام يقود الحياة-دار الكاتب الاسلامي ص 178

الشهيد محمد باقر الصدر-مصدر سابق

شخصية المرأة:دراسة في النموذج الحضاري الإسلامي لمحمد تقي سبحاني.

تحف العقول لأبي محمد الحسن الحراني ص 172 – بيروت – دار الأعلمي 1974.

آل عمران آية 142
آل عمران آية 146

الاسلام يقود الحياة-دار الكتاب الاسلامي-ص 177

 الشهيد مرتضى مطهري- إحياء الفكر في الاسلام دار التيار الجديد- ص23

الرعد- آية 18

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً