أحدث المقالات

ترجمة: مشتاق الحلو

المسيرة العلمية والحاجة إلى رقابة وإحياء متجدِّدين

كل ظاهرة في حياة الإنسان قد تصاب بآفات خلال مسيرتها، فتحرفها عن منشئها، أو تمنعها عن التطور، أو تعرقل حركتها نحو الكمال، وقد تصيبها بالجمود والضمور تماماً. ولمنع حدوث مثل هذه الآفات والأضرار ينبغي وجود رقابة خارجية دائمة. وتنشأ عمليات المتابعة والرقابة داخل المنظمات والمؤسسات من هذه الحقيقة؛ فتساهم معرفة الآفات التي قد تعرض على أي ظاهرة في تحاشيها ومعالجة أضرارها.

والاجتهاد ـ بصفته ظاهرة معرفية في مجال الدراسات الدينية ـ غير مستثنى من هذه القاعدة؛ فمن الضروري أن يخضع لرقابة خارجية مستمرة، لتحول دون ابتعاده عن مناشئه الأصيلة، وليتابع مسيرته بإتقان وسرعة.

وقد التفت الفقهاء منذ العهود القديمة لهذا الأمر، فما إن يجدوا زلّةً عند فقيه حتى يتخذوا موقفاً صارماً منه، ويبدو أنّ اتهام ابن إدريس المجتهدين بعد الشيخ الطوسي بالتقليد جاء في هذا السياق؛ إذ كان يريد منع الفقهاء من ممارسة الاستنباطات التي لا تنبع من بحث وتتبع وتمحيص؛ لذلك نراه يقول في مسألة طهارة ماء البئر: >وأيضاً فالشيخ أبو جعفر الطوسي&، الذي يتمسك بخلافه ويقلّد في هذه المسألة، ويجعل دليلاً يقوي القول والفتيا بطهارة هذا الماء في كثير من أقواله، وأنا أبيّن إن شاء الله، أنّ أبا جعفر&، يفوح من فيه رائحة تسليم المسألة بالكلية، إذا تؤمّل كلامه وتصنيفه حقّ التأمل وأُبصر بالعين الصحيحة وأحضر له الفكر الصافي<([1]).

كذلك حُكْم ابن داود على ابن إدريس، بأنه أعرض عن روايات أهل البيت([2])، يعدّ شكلاً من أشكال تشخيص الآفات؛ إذ إنّ الإعراض عن روايات أهل البيت إحدى الآفات الكبيرة في عملية الاستنباط. وحين يصرخ صاحب الجواهر معترضاً على بعض الفقهاء، بأنّ بعض استنباطاتهم وفتاواهم خرافة، وصان الله الفقه من شرورها، يشير إلى آفة أخرى، وهي الجمود والتحجر في فهم الروايات والنصوص الدينية([3]). وقد تعدّ مآخذ الغزالي والملا صدرا على الفقهاء شكلاً من أشكال كشف الآفات([4])! وإن تجاوزا حدودهما وأهانا الفقهاء!

ومن الفقهاء الشيعة المعاصرين، هناك من أكّد على وجود بعض الآفات؛ فقد تحدّث الإمام الخميني في رسالته إلى الحوزويين عن عدم كفاية الاجتهاد المصطلح([5])، وأنّ التحجّر والجمود في فهم الأخبار يؤدي إلى تقوقع الفقه([6]). أما الشهيد مطهري، فطرح مجاراة العوام مشكلةً من مشاكل الفقه([7])، واعتبر الشهيد السيد محمد باقر الصدر النزعة الفردية مشكلةً أخرى([8]). كما عدّ الشيخ جعفر السبحاني خمس آفات تعرض على عملية الاجتهاد والاستنباط، وهي: عدم مراجعة المصادر المتعارفة، الاهتمام بالأمور الهامشية، إسقاط الواقع الاجتماعي على الفقه، عدم الاهتمام بالقضايا بشكلها الحقيقي، وعدم البحث المستوفي في القرآن والسنّة([9]). كذلك اعتبر العلامة فضل الله والعلامة شمس الدين ـ من فقهاء لبنان ـ عدم الاهتمام بمقاصد الشريعة مشكلةً في عملية الاستنباط([10]). وتحدّث الأستاذ محمد رضا حكيمي في رسالةٍ إلى الحوزويين عن آفات التحجّر والنظرة الجزئية في الفقه، والابتعاد عن الرؤية القرآنية([11]). وأكّد الشهيد بهشتي على وجود ست آفات في البحوث الفقهية: عدم التتبع الكافي، عدم تقييم المصادر، عدم استخدام المناهج المقارنة، النظرة الجزئية في الدراسات الدينية، الخطأ في فهم النصوص، وتأثير النوازع السلوكية والمذهبية على الفهم([12]).

إنّ معرفة آفات الاجتهاد هو ـ في الحقيقة ـ مطالعة خارجية لظاهرة الاجتهاد؛ وينبغي بناء هذه المطالعة على أنموذج صحيح وسليم من الاجتهاد، كي يتسنى لنا اكتشاف السلبيات والآفات التي طرأت عليه من خلال مقارنة الحالة الفعلية به، ولمعرفة الأنموذج السليم، نشير إلى التعاريف التي قدّمها بعض علماء الفقه والأصول للاجتهاد.

يقول المحقق الحلي: وهو في عرف الفقهاء بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية، وبهذا الاعتبار يكون استخراج الأحكام من أدلة الشرع اجتهاداً([13]). لكن العلامة الحلي، يعرفه بالشكل التالي: هو استفراغ الوسع في النظر فيما هو من المسائل الظنية الشرعية على وجهٍ لا زيادة فيه([14]). ويقول الفاضل التوني: المشهور أنه استفراغ الوسع من الفقيه في تحصيل الظن بحكم شرعي. وعندي أن الأولى في تعريفه: أنه صرف العالم بالمدارك وأحكامها نظره في ترجيح الأحكام الشرعية الفرعية([15]). ويعرفه السيد الخوئي: تحصيل الحجّة على الحكم الشرعي([16]). ويقول الإمام الخميني: تحصيل الحكم الشرعي المستنبط بالطرق المتعارفة لدى أصحاب الفن أو تحصيل العذر كذلك([17]).

يمكننا استخلاص الميزات التالية للاجتهاد السليم من التعاريف آنفة الذكر: 1ـ بذل قصارى الجهد الفكري والعلمي. 2ـ البحث والتعمّق في جميع الأدلة المتوفرة. 3ـ استخدام الأساليب المتعارفة في الاستنباط؛ فإذا فقدت عملية الاجتهاد أياً من هذه المواصفات، يكون الاجتهاد منحرفاً عن مساره الطبيعي.

وتجدر الإشارة إلى أنّ مسألة البحث عن آفات عملية الاجتهاد، وإن كانت قديمة ولها جذور في التراث، إلا أنّه لم تقدّم حتى اليوم دراسة مستقلة في هذا المجال، وهذا المقال يسعى ـ معتمداً على آراء الفقهاء والأصوليين، ومستعيناً بملاحظاتهم على الفقه السائد ـ للخروج بقائمة بالآفات والمشاكل التي تواجه الفقه اليوم والبحث فيها. وكما سيتضح من خلال البحث، فإنّ جملة الفقهاء والمجتهدين أقرّوا بجميع الآفات التي سنذكرها، لكن تناول كلّ منهم مجموعة منها. ومن الواضح أنّ بحث هذه المشاكل لا يعني ابتلاء جميع الفقهاء بها، بل قد يكون رسخ بعض منها ـ لا إرادياً ـ في بعض عمليات الاستنباط، وجاء ذكرها للتنبيه عليها والتحذير منها.

آفات الاجتهاد والعناصر السلبية

وفيما يلي نتناول هذه الآفات بإيجاز، ونذكر شواهد عليها من كلام الفقهاء:

 

1ـ مأساة الانقطاع عن القرآن في الاجتهاد الفقهي

يقول العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان عن انقطاع العلوم الإسلامية وابتعادها عن القرآن< أنك إن تبصرت في أمر هذه العلوم، وجدت أنها نظمت تنظيماً لا حاجة لها إلى القرآن أصلاً، حتى أنه يمكن لمتعلم أن يتعلمها جميعاً: الصرف والنحو، والبيان، واللغة، والحديث، والرجال، والدراية، والفقه، والأصول، فيأتي آخرها. ثم يتضلّع بها، ثم يجتهد ويتمهر فيها، وهو لم يقرأ القرآن، ولم يمسّ مصحفاً قط. فلم يبق للقرآن بحسب الحقيقة إلا التلاوة لكسب الثواب، أو اتخاذه تميمة للأولاد، تحفظهم عن طوارق الحدثان<([18]).

ويؤكد السيد الخامنئي على الموضوع عينه، قائلاً: «… قد ذكرت هذا الأمر مراراً، إنّ دروسنا الحوزوية وضعت بشكل لا يحتاج الطالب مراجعة القرآن إطلاقاً، منذ أن يبدأ بالدراسة من «اعلم أيّدك الله» وحتى الاجتهاد. فهل تحصل له أية مشكلة إن لم يرجع إلى القرآن؟ هل يتلكّأ في دراسة الرسائل؟ أو تتعطل مطالعة المكاسب؟ إذ لا يعترض القرآن مسيرنا العلمي والدراسي. قد يكون هناك عالم دين لم يتعرف على القرآن قط، وهو عالم بموجب المصطلحات السائدة<([19]).

وقد أشار عدد آخر من المفسرين إلى النقطة ذاتها([20])؛ فيروي الشيخ مطهري أنّه حين اطّلع أحد علماء النجف عن اشتغال العلامة الطباطبائي بكتابة تفسير الميزان، ردّ بأنّ العلامة ذبح نفسه([21]). ويشكو الإمام الخميني في إحدى رسائله هجر القرآن، خاصة من قبل رجال الدين([22]). ويقول الشيخ السبحاني: والضرر الخامس الذي يمكن أن يصيب الفقه، عدم التحري الدقيق في مضامين الكتاب والسنة، ذلك أنه توجد في الآيات القرآنية الكريمة مجموعة من أدلّة الأحكام غفل عنها الفقهاء، وإنّ هذا النوع من الاستنباطات موجودة في كلام الأئمة الأطهار^. وإنّ هذا يستلزم شكلاً من أشكال معرفة القرآن ليتبيّن في ظلال الآيات القرآنية قسم من الأحكام التي يبدو أنها لم يرد نصّ فيها([23]).

إنّ الابتعاد عن القرآن بحدّ ذاته يستتبع مشاكل أخرى، منها:

1 ـ 1 ـ إفقار المنابع الاجتهادية أو تقليص آيات الأحكام

يعتبر الفقهاء عدد آيات الأحكام خمسمائة آية، أو دون ذلك([24])، لكن لا تستخدم هذه الآيات كثيراً في عمليات الاستنباط؛ فبعضه مكرر، وآخر يبيّن ضروريات الأحكام، وما يستند إليه الفقيه ضئيل؛ لذلك حين يستدل الأصوليون لضرورة علم الرجال وفائدته، يؤكدون على أن الروايات هي المستند في غالب الأحكام([25])، لكن من منظار آخر، قد تكون جميع الآيات مصدراً لاستنباط الأحكام، فالقرآن جميعه آيات أحكام. يقول الشيخ محمد مهدي شمس الدين، بعد ذكر قصص نساء في القرآن كمريم وزوجة فرعون وبنات شعيب وبلقيس ملكة سبأ: >فيمكن القول إنّ هذه القصص تكشف عن مبادئ ثابتة في الشريعة الإسلامية، يمكن للفقيه أن يأخذها في اعتباره عند البحث عن الحكم الشرعي والاستدلال عليه في مقام الاجتهاد والاستنباط. ففي الأحكام ما لا مرجع له من كتاب الله إذا اقتصرنا على المبادئ العامة وأهملنا مرجعية ما سميناه الرؤية القرآنية. أما إذا اعتبرنا هذه الرؤية مرجعاً، فإنّ مرجعية القرآن تثبت لجميع الشريعة وليس لبعضها ..<([26]).

والموضوع عينه، يطرحه باحثون آخرون بصورة مختلفة؛ فقد عدّوا جميع آيات القرآن آياتَ أحكام، سواء ما يخص العقائد أم التاريخ والقصص، وحتى الأمثال، وأتوا بشواهد من روايات الأئمة في استنباط الأحكام منها([27]).

1 ـ 2 ـ مشكلة تقديم الروايات على ظهور القرآن وصريحه

يقول القرآن الكريم صراحةً أن اشهدوا لله وإن عادت الشهادة عليكم أو على أهلكم بالضرر: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالأَْقْرَبِينَ} (النساء: 135)، لكن الشيخ الطوسي في كتاب الخلاف يفتي بأنّ شهادة الابن على أبيه مرفوضة بدلالة الروايات والإجماع([28])، ويتردد المحقق الحلي في كتاب الشرائع في هذه الفتوى([29])، أمّا الشيخ النراقي، فبعد ذكره أقوال مخالفي قبول شهادة الابن على أبيه، ينقل عن السيد المرتضى والشهيد وجماعة آخرين أنّهم يرفضونها. ويقول: إنّ دليلهم هو عمومات قبول الشهادة والآية القرآنية. ثم يتابع قائلاً: إنّ العمومات تخصّص بالرواية المرسلة، التي نقلها كتاب من لا يحضره الفقيه، والآية لا ظهور فيها ولا صراحة. ثمّ يؤوّل الآية ويقول: إنّ الآية تتحدث عن تحمّل الشهادة لا تقديمها، وحتى لو قلنا: إنّها تدلّ على أداء الشهادة، لا يقصد بها الشهادة عند القاضي بل الأجر الأخروي و…([30]). وتتبع الكتب الفقهية يكشف لنا نماذج كثيرة من هذا القبيل([31]).

مشكلة الخطأ في نقل الآيات القرآنية في المباحث الفقهية

وفي ختام هذه النقطة نذكّر بأنّ الفقهاء في بعض الأحيان يعتمدون على نقل الكتب الفقهية للآيات القرآنية، فيقعون في أخطاء نتيجة عدم مراجعتهم للقرآن، يقول السيد الخوئي: لا يخفى أنّ الأصحاب (قدّس الله أسرارهم) نقلوا الآية المتقدمة في مؤلّفاتهم بلفظة: إن لم تجدوا؛ فإن لم تجدوا، وهو على خلاف لفظة الآية الموجودة في الكتاب. بل لا توجد هاتان اللفظتان في شيء من آيات الكتاب العزيز؛ فإن ما وقفنا عليه في سورتي النساء والمائدة: «فلم تجدوا»، كما أن الموجود في سورة البقرة: «ولم تجدوا كاتباً …»، فراجع. وظنّي أنّ الاشتباه صدر من صاحب الحدائق، وتبعه المتأخرون عنه في مؤلفاتهم اشتباهاً، ولا غرو فإنّ العصمة لأهلها([32]).

2ـ الفقه ومأزق النظرة الفردانية

النظرة الخارجية لبعض فتاوى الفقهاء، كجواز الحيلة في الربا واعتبار الزكاة والجهاد و.. أمراً ضررياً وعدم اعتبار حقّ للمؤلف وتجويز قلع الأشجار إن لم تكن ملكاً لأحد وتجويز تملّك الكنوز إن لم تكن ملكاً لأحد و… تكشف عن سعي الفقهاء لحلّ مشاكل الأفراد من خلال عملية الاستنباط، فلا يأخذون بنظر الاعتبار مصالح المجتمع الإسلامي، علماً أنّ سبب ظهور هذه النظرة هو ابتعاد الشيعة عن السلطة والحكومة وإدارة المجتمع.

ويصف السيد الصدر ـ أحد الفقهاء والعلماء الشيعة ـ هذه المشكلة فيقول: اتجه الاجتهاد لدى الشيعة نحو هدف واحد، وهو تطبيق الشريعة في إطار الحياة الفردية للمسلمين، هذه العقلية التي تكوّنت نتيجة ابتعاد الشيعة عن النظام السياسي، استتبعت مضار عديدة: 1ـ اهتمّ الفقه بالمواضيع الفردية أكثر من اهتمامه بالمواضيع الاجتماعية. 2ـ أصبحت نظرة الفقيه للشريعة فردية؛ ولهذا اعتبر قانون الدية والقصاص معارضاً لقاعدة لا ضرر. 3ـ بحث الفقيه دوماً عن حلّ لمشاكل الفرد؛ لذلك عدّ الربا مشكلةً للفرد المسلم، وصار يبحث عن سبل لإزالتها عن طريقه ولم يعتبرها معضلة اجتماعية. 4ـ أثرت هذه النزعة الفردية على فهم النصوص؛ لذلك لم يعتبر الفقيه أية شخصية اجتماعية للنبي والإمام، ولم ينظر لهما قطّ كحاكمين ورؤساء دول، وعدّ جميع أقوالهم وأفعالهم تبييناً للأحكام الشرعية. 5ـ لم يتعامل الفقهاء مع النصوص الشرعية بهدف تطبيقها على الواقع واستنباط القواعد منها؛ لذلك كان يلتزم بأحكام مختلفة في موضوع واحد، ولم يجد أحد ضيراً في الأمر([33]). ومعنى هذا أنّه قلّما التفت أحدٌ للبعد الاجتماعي للإسلام ولحياة الناس، والرسائل العملية تعكس ذلك.

يقول الإمام الخميني بصدد مقارنة الرسائل العملية بالمصادر الدينية: >يختلف القرآن وكتب الحديث التي تشكل مصادر الأحكام والقوانين الإسلامية ـ من حيث الشمولية والتأثير في الحياة الاجتماعية ـ كلّ الاختلاف عن الرسائل العملية التي يكتبها المجتهدون والمراجع المعاصرون؛ فنسبة الأمور الاجتماعية التي تطرّق لها القرآن للعبادات أكثر من مائة ضعف<([34]).

ويقول الدكتور علي رضا فيض في لقاء معه: >أحد الأمور التي ينبغي دراستها فيما يتعلّق بسعة الفقه، هو السبب الذي دعا علماءنا في الماضي إلى تحديد المسائل المبحوثة فكانت تختص بالجانب الفردي، ولم يتناولوا الجانب الاجتماعي إطلاقاً. حتى الأمثلة التي كانوا يأتون بها (لقاعدة لا ضرر على سبيل المثال) كانت تتطرق إلى الجانب الفردي فقط، فيبحثون في رؤية شخص ضرراً يلحق بآخر أو يُلحقه هو بآخر، ولم ينتقلوا قط من الفرد إلى المجتمع…<.

ويقول الدكتور كرجي في اللقاء نفسه: >كانوا ينظرون إلى الأمور الاجتماعية أيضاً من زاوية فردية، فمثلاً تصوّروا الزكاة كالصلاة، فكما علينا أن نصلّي، من واجبنا دفع الزكاة، والحال أنّها ليست سوى ضرائب مالية<([35]).

3ـ الاجتهاد الفردي والاجتهاد الشوروي

الاجتهاد الفردي آفة ابتلى بها الاجتهاد في القرون الأخيرة، حيث يقوم شخص بمفرده باستنباط الحكم الشرعي دون استشارة أقرانه، وتعدّ هذه المسألة مشكلة حقيقيّة نظراً لسعة الفقه وتنوّعه وتشعبه؛ إذ تتعدّى الإحاطة بكافة أبعاده والعلوم المرتبطة به قدرات شخص واحد وطاقاته، فينبغي أن يلجأ العلماء إلى استشارة بعضهم، ومن ثم يصدرون الفتاوى.

وقد تداول المفكرون الإسلاميون ـ ومنذ نصف قرن ـ هذا الموضوع، لكنهم لم يحققوا شيئاً حتى الآن، نعم، مجلس خبراء الدستور في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وفيه عدد من الفقهاء، يدرس مطابقة القوانين التي يصادق عليها مجلس الشورى للشريعة وعدم مخالفتها لأحكام الإسلام، ويعدّ نوعاً من الاجتهاد الشورائي في المسائل غير العبادية.

يقول الشيخ مطهري في ضرورة المشورة الفقهية: >لديّ اقتراح آخر أقدّمه وأظن أنّ لتكرار هذه الأمور فائدة؛ فقد ظهرت اليوم اختصاصات في العلوم كافّة، أدّت إلى حصول تطوّرات هائلة. إضافة لذلك، التعاون والشراكة العلمية بين العلماء والمختصين في كل مجال لعب دوراً مهماً في هذا التقدم؛ ففي عالمنا اليوم لا قيمة لرأي الفرد ونشاطه، فالتفرّد لا يقدّم شيئاً، والعلماء مشغولون دوماً بتداول آخر نتاجاتهم … فلو وجد مجلس شورى فقهي يحقق مبدأ تبادل الآراء، لزالت كثيرٌ من الخلافات في الفتاوى، فضلاً عن التقدم والتطور الذي سيحدث في الفقه نفسه. إذا كنّا ندّعي أنّ فقهنا أحد العلوم الحقيقية في الدنيا، فلا مفرّ من استخدام الأساليب التي تتبع في سائر العلوم، وإلا سيعني ذلك أنّ الفقه ليس في عداد العلوم<([36]).

ويقترح السيد محمود الطالقاني أيضاً تشكيل شورى الفقاهة، فيقول: >بناء على ما مضى، أقترح تشكيل شورى إفتاء برئاسة أحد العلماء البارزين أو مجموعة منهم، منتخبين من قبل عامة الناس في أحد المراكز العلمية، فيعقد جلساته كلّ شهر، أو في فترات زمنية أخرى، يتداول فيها الأمور الخلافية ومواضيع الساعة أو بتعبير الرواية: «الحوادث الواقعة». كما يدعى علماء المدن البعيدة أيضاً لحضوره، كي يطرحوا المشاكل التي يواجهونها وحلولهم لها وأدلّتهم عليها. ولتطرح هذه المواضيع في حلقات الدرس، وترفع خلاصة الآراء عنها. وينطبق هذا النهج مع ما نقل عن الإمام الصادق× من أنه كان يجمع الفقهاء وتلاميذه في كل عام بمنى، ويطرح عليهم بعض المواضيع<([37]).

ولخصت جماعة أخرى انطباعها ـ بعد دراسة الجوانب العلمية لهذه الفكرة ـ على النحو التالي: «… نظراً للمقدّمات أعلاه توصّلنا إلى النتائج التالية: 1ـ التقليد ليس سوى تبعية الجاهل للعالم. 2ـ ليس في الشريعة صورة محدّدة ومعينة عن التقليد. 3 ـ لذلك، اتخذ التقليد أشكالاً مختلفة على مرّ الزمن، وآخر صورة له كانت تقليد الأعلم. 4 ـ إذاً، إن حصلنا على صورة أدق وأفضل علمياً لتحقق هذا المبدأ فعلينا اتباعها. 5 ـ إنّ تأسيس شورى الفقهاء واتباع رأي الأكثرية هو صورة أفضل وأدق وأقرب للصواب وإحراز الواقع، واحتمال الخطأ فيها أقلّ بكثير من الحالات الأخرى. 6ـ لا تتعارض هذه الطريقة واتّباع الأعلم، بل هي صيغة أكمل من تلك وأقرب للواقع<([38]).

ويقول السيد مصطفى الخميني عن الاجتهاد الجماعي والشورائي ما يلي: >وبالجملة، بعدما لم يكن للشرع منهج جديد في الاحتجاجات والاستدلالات ولم يكن له طريق بديع في ذلك، فلابدّ من المواظبة على الطريقة العقلائية. وأمّا في عصرنا، فلابدّ من الاهتمام بالأمر ولا يكفي مجرد الرجوع إلى العام ومخصّصه؛ لأنه كثيراً ما نجد تبدل الآراء وتخلّفها عن الواقع في عصر واحد وشخص فارد؛ فإذا كان ذلك كثير الدور، فلابدّ من اتخاذ السبيل العقلائي والطريقة الموجودة وهي التبادل مع الشركاء وأهل الفن في الأنظار العلمية والآراء الفقهية العلمية، حذراً من وقوع الناس في الخلاف وفي مفاسد النفس الأمارة… ولأجل ذلك تُشْكِل حجية فتاوى فقهائنا المعاصرين جداً؛ ولأجل ذلك وذاك ترى تبدّل رأيهم في مسألة طول عمرهم ومدة حياتهم تبدلاً غير مرة، ورجوعاً غير عزيز، فما هي العادة اليومية من الجلوس في زوايا دورهم والإفتاء حسب أفكارهم الوحيدة، مع ما في المسألة العصرية من المصائب العلمية والمعضلات الفنية، ليست بعادة مرضية وبطريقة عقلائية مألوفة والله المستعان<([39]).

وتكشف هذه الأفكار ـ التي نقلت بإيجازـ واقعية أصحابها وإدراكهم لظروف زمانهم وتطلّعهم للمستقبل، خاصة وأنّ بعضها يعود إلى ثلاثة عقود مضت، لكن لا تتجاوز هذه الأفكار طرح أصل المسألة وضرورتها، ولم تلحظ قط ظروف تطبيقها وآلياته؛ فعلى المفكرين في العالم الإسلامي بحث آليات هذا الأمر وسبل تحقّقه، ويبدو أنّ بإمكاننا التمسك بالسيرة العقلائية ـ التي تعدّ الأساس لمباحث الاجتهاد والتقليد ـ لإثباتها؛ فعقلاء العالم يعتبرون المشورة أقرب للصواب، كما يمكننا الاحتجاج بالأدلة العامة للمشورة، أما بعض الأحاديث التي تدعو للرجوع إلى الأفراد، فهي تخصّ الحالات التي لا يتعدى الإفتاء فيها نقل الرواية، أو قد تعود إلى فترة كان الفقه فيها محدوداً ولم تتكوّن بعدُ العلوم المرتبطة به.

كذلك يمكننا التمسك بالحديث التالي بوصفه مؤيداً لهذا الرأي، والذي ورد في مصادر أهل السنّة: (عن الإمام علي×) قلت: >يا رسول الله! إن عرض لي أمر لم ينزل فيه قضاء في أمره ولا سنّة، كيف تأمرني؟ قال: تجعلونه شورى بين أهل الفقه والعابدين من المؤمنين، ولا تقضي فيه برأي خاصة<([40]).

4 ـ ظاهرة الجمود في فهم النصوص وتفسيرها

الآفة الأخرى التي ابتلي الفقهاء بها تكمن في التشبث بألفاظ النصوص الدينية، وخاصة الروايات، أي وقوف الفقيه على الموارد المذكورة في الرواية دون تعميمها على ما يشبهها شبهاً قطعياً، وهذه المعضلة كانت من ميزات الإخباريين كما أصابت كثيراً من الأصوليين والمجتهدين. أمّا المخرج منها فهو الاجتهاد في فهم النص، مع رعاية أطر الرواية وحدودها. بعبارة أخرى: حين يكون النص ظنّي الدلالة ينبغي أن يفهم ويفسّر بلحاظ أنّ قائله حكيم بصير عارف بالإنسان وبخفايا الأمور، أما التعامل بذهنية مغلقة مع الروايات فلا ينتج سوى صورةً ضعيفة وهزيلة عن الشريعة.

حين أفتى الإمام الخميني بحلية الشطرنج وشرط أن لا يعتبره العرف قماراً ولا يتضمّن ربحاً وخسارة، رفض بعض تلامذته فتواه وانتقدوه؛ فكتب رداً عليهم: >حريّ بي إعلان أسفي وحزني لما استنبطتَه من الأخبار والأحكام الإلهية؛ فبناء على ما كتبتَ، تصرف الزكاة على الفقراء وعلى ما ورد ذكره في الروايات فقط، واليوم حيث تضاعفت مواضع صرفها مئات الأضعاف، لا طريق إلى ذلك؛ كذلك الرهان في «السبق والرماية» خاص بالقوس والسهم أو ركوب الخيل وأمثالها وما كان حاضراً في الحروب قديماً، واليوم يقتصر عليه أيضاً. والأنفال التي أبيحت للشيعة تعني أنّ بإمكانهم تدمير الغابات والطبيعة بالأجهزة الحديثة وتعريض أرواح الملايين للخطر وليس لأحد منعهم، أما المساجد والبيوت التي تحول دون فتح طرق جديدة لتجنب زحمة السير وحفظ أرواح آلاف الناس، فيفترض أيضاً أنّه لا يجوز تخريبها و…. وفي جملة واحدة، إنّ أسلوبكَ في الاستنباط من الأخبار والروايات يعني زوال المدنية الحديثة بالكامل وعودة الناس إلى الأكواخ أو الصحاري<([41]).

وإضافةً لما ورد في الرسالة، يفتي الإمام الخميني في القصاص الذي وردت الروايات بإقامته بالسيف، يفتي بجواز استخدام الآلات الحديثة فيه([42]).

ويمكننا عدّ الأمور التالية نماذج على الجمود في فهم النص: الفتوى بحرمة الشطرنج في حال لم يترتب عليه ربح ولا خسارة. حصر القصاص بالسيف فقط. حصر حرمة الاحتكار بالحنطة والشعير والتمر والزبيب في الأزمنة كافة. تخصيص لفظ «قوم» في الروايات بالرجال وعدم إجراء نزح النساء لتطهير ماء البئر. وجوب القضاء عن الوالد من قبل الولد البكر. حصر خيار الحيوان بالمشتري. حصر جواز الربا بين الوالد وولده. حصر صحة المعاملات بإيقاعها بالألفاظ العربية.

ويكشف التأمل في النصوص عن عدم وجود مبرّر لهذه التخصيصات، بل يمكن القول: إنّ القاعدة الأولية في الموارد التالية هي التعميم، إلا إذا جاء دليل قطعي على خلافه، وهذه الموارد هي: 1ـ استعمال اللفظ المذكّر في بيان الأحكام. 2ـ ذكر آلات خاصة لتنفيذ الأحكام. 3ـ ذكر ألفاظ محددة لانعقاد المعاملات والإيقاعات. 4ـ ذكر شواهد لمواضيع الأحكام.

كذلك يمكننا استخدام القواعد التالية لاجتناب الجمود أو التجني على النصوص: أ ـ الالتفات إلى التعليلات المذكورة في الروايات. ب ـ التوجّه للمقاصد العامة للشريعة. ج ـ الاستفادة من الفهم الاجتماعي والعرفي([43]).

5 ـ آفة عدم الالتفات إلى أهداف الدين ومقاصد الشريعة

ليست التعاليم الدينية مجموعة أوامر ونواهي وأحكام فردية واجتماعية فحسب، بل تشكّل العقائد والأخلاق الدعائم الأساسية لصرح الدين، والأحكام ليست إلا قشوراً ظاهرية لهذه التركيبة؛ فللأحكام الفردية والاجتماعية أهدافٌ ومقاصد، وكذلك للتركيبة في مجموعها، فإن لم تلاحظ استنباطات الفقهاء الأهدافَ الكلية للدين ومقاصد الشريعة فسوف يجعلها ذلك سقيمةً تحتاج للعلاج.

بالطبع، ليس اكتشاف أهداف الدين ومقاصد الشريعة جميعاً، وكذا تبويبها بالعمل الهيّن، ولم يقم أحد به بشكل كامل حتى اليوم، لكن يمكننا معرفة بعض منها بسهولة من خلال ما تؤكد عليه النصوص وكثرتها، كما أنّ علماء المسلمين أشاروا إلى بعضها، وينبغي أن يلحظ ما استنبط في هذا الخصوص إلى الآن في عمليات الاجتهاد؛ إذ إنّ تتبع الأدلة الجزئية والإصرار على الدلالة وظهور الأدلة لا يفي بالغرض، بل يجب فهم الدليل الجزئي وإظهاره في إطار الأهداف والمقاصد العامة.

وفيما يلي، ننقل رأي بعض الفقهاء المعاصرين في هذا الموضوع:

1 ـ يعتقد العلامة السيد محمد حسين فضل الله أنّ بالإمكان اكتشاف ملاك كثير من الأحكام وعلتها؛ إذ يقول: >ومن هنا نتصوّر أنّ القول بعدم إمكان إدراك الملاك بالمطلق هو قول غير دقيق، لأننا إذا لم نستطع إدراك الملاك في الأحكام التوقيفية كالعبادات وأمثالها، فإنه بإمكاننا أن ندرك الملاكات في المعاملات، أو بعض الأحكام الأخلاقية، وغير ذلك. ولكنّ المشكلة هي الاستغراق في التعبدية، والتعامل مع الفقه بمنطق الأسرار والتعبد المحض، ويحضرني ما يقال في تطهير بعض النجاسات كالمتنجس بالبول؛ فإنهم يتحدثون عن اشتراط غسلتين بالماء القليل ويؤكدون على التعددية، بحيث لو غسلنا ـ كما قال بعضهم ـ الموضع المتنجس بقطرتين على التوالي فإنه يطهر، ولكننا مع ذلك لو أهرقنا إبريقاً كاملاً دفعة واحدة بلا تعدد، فإنه لايطهر؛ وذلك لأن التعددية شرطٌ في التطهير<([44]).

2 ـ يعتبر العلامة شمس الدين أيضاً مقاصد الشريعة قابلةً للكشف في غير العبادات، فيقول في هذا الخصوص: >التعبد في العبادات المحضة أمرٌ لا ريب فيه ومسلّم به. وأمّا في مجالات المجتمع فيما نسميه الفقه العام، وبعض الفقه الخاص في باب الأسرة أو المكاسب الفردية مثلاً، نحن لا نعتقد للتعبد معنى على الإطلاق، ولابدّ أن تنزل الأمور وفقاً للأدلة العليا في الشريعة وللقواعد العامة في الشريعة التي هي الأساسية، لابد أن تنزل على مقاصد الشريعة وعلى ما نفهمه من المناطات… أنا أذكر مثالاً بسيطاً.. وهو أن يبدأ المؤمنون طعامهم بالملح ويختمونه بالملح بدعوى أنه مستحب.. أنا لا أفهم باب التعبد في هذا الأمر، أنا أفهم أن الملح مادة غذائية لها صلة بالجسد وكيمياويات الجسد، وأن الإنسان يفقد في البلاد الحارة كميةً من ماء جسده بالتعرق فيحتاج إلى تعويضها. وأما في البلاد الباردة أو في البلاد المعتدلة إن كانت نسبة الملح في الطعام عالية، قد لا يحتاج الإنسان إلى مزيد من الملح، وبالتالي قد يكون من غير الراجح أن يستعمل الملح في طعامه<([45]).

ويستنتج شمس الدين من هذه المقدمات ما يلي: >نحتاج (كما ذكرتم) إلى أن نتعامل مع نظام العبادات بمنهج يختلف عن المنهج الذي نتعامل به مع تشريع الأمور الوضعية في الفقه العام، أي فقه الأمة ككل وفقه المجتمع وعلاقات المجتمع وفقه الأفراد داخل المجتمع في علاقاتهم مع الدولة أو مع الجماعات أومع بعضهم البعض. والمبدأ الأساسي ـ إلا أن يثبت خلاف ذلك بنصّ قاطع ـ أنه لا يوجد تعبّد في باب المعاملات العام، يعني في الفقه السياسي والتنظيمي والاقتصادي والأسروي والاجتماعي، لا يوجد تعبّد، لابدّ أن تلتمس مقاصد الشريعة هنا<([46]).

3 ـ يعتقد الشيخ محمد جواد مغنية أنّ المعاملات لا تقبل التعبّد، ويمكن الوصول إلى المصلحة والغاية فيها، فيقول: «لأنّ المعاملات لا تعبّد فيها ومصلحتها ظاهرة في الغالب… أمّا في المعاملات فينبغي التوفيق القريب بين النص والمصلحة المعلومة<([47]).

4 ـ أما الأستاذ الشيخ محمد هادي معرفة، فهو من الفقهاء الذين يرون ملاكات الأحكام في غير العباديات واضحة؛ إذ يقول في مقال حمل عنوان: «الواقعية في فكر الإمام الخميني الفقهي»: >إحدى خصائص الفقه العجيبة في الإسلام الحقيقي، واقعيتُه؛ إذ تلاحظ «المصالح الواقعية» في جميع أبعاد الشريعة؛ فقد حدّد الذوق الفقهي منذ اليوم الأول بعبارة «الأحكام الشرعية تابعة للمصالح الواقعية». ولذلك قالوا بأنّ «الأحكام الشرعية ألطاف في الأحكام العقلية»، أي أنّ ما يقوله الشرع يمكن للعقل أن يراه بعين البصيرة ـ شرط أن لا تحجبها الأوهام ـ من هنا جاء تطابق العقل والشرع. فأحكام الشريعة ـ سواء في باب العبادات أم المعاملات ـ قائمة جميعها على الواقعية، وفي الحقيقة تحافظ على مصالح الإنسان الواقعية لتُسعده وتلبي حاجاته الفطرية في الدنيا والآخرة.

لذلك، فالفقيه القدير هو من يمكنه مشاهدة الأمور اليومية بنظرة واقعية، ومن ثم الرجوع بنفس النظرة إلى المصادر الفقهية، وهذا ما يسمّونه «شمّ الفقاهة»؛ فالفقيه من يمتلك اطلاعاً كاملاً على جوانب الشريعة كلّها وملاكات الأحكام الشرعية ما عدا العبادات، وقد كان كبار الفقهاء ـ لا سيما القدماء منهم ـ ينظرون إلى الفقاهة من هذا المنظار، ويتحركون نحو مصادر الفقه للاستنباط الصحيح؛ فكانوا في تجديد مستمر للفقاهة، جاعلين الفقه حياً وملبياً لحاجات المجتمع، فقد وجدوه مجيباً لمسائل الإنسان كلّها في كافة أبعاد حياته؛ لذلك كان الفقه الإسلامي ـ من منظار شيعي ـ جامعاً وكاملاً ومستمراً في التطور والتوسع، ولم يغلق باب الاجتهاد فيه قط، ويبقى دائماً منفتحاً للأمور اليومية<([48]).

ويعلّق الشيخ معرفة في الهامش، موضحاً رأيه: >الوضوح مفقود في ملاكات العبادات فقط، إذ لا يمكن لأحد اكتشاف أسرار العبادات جميعها، أمّا سائر الأحكام الشرعية فمن الممكن معرفة ملاكاتها؛ فكبار الفقهاء ـ لا سيما القدماء منهم ـ كانوا في سعي دائم لمعرفة ملاكاتها، وقد نجحوا في هذا الأمر<([49]).

5 ـ ويقول الأستاذ الشيخ مرتضى مطهري: >لم يتطرّق الإسلام إلى ظاهر الحياة وصورتها الشكلية إطلاقاً، بل تعاليمه متوجهة إلى الروح والمعنى وإلى السبيل الذي يوصل البشر لتلك الأهداف والمعاني. وقد اهتم الإسلام بالأهداف والمعاني وبيان السبيل الموصل إليها، وترك البشر أحراراً فيما سواها؛ لذلك نأى بنفسه عن أيّ اصطدام مع الثقافة والحضارة والتطور. ليس هناك آلية مادية أو صورة ظاهرية مقدسة في الإسلام، بحيث يتوجب على المسلم الحفاظ عليها، فاجتناب التضاد مع مظاهر التنمية العلمية والحضارية هو أحد الوجوه المهمة التي سهّلت عملية تناغم الدين مع متطلّبات العصر، وقد قضى على موانع البقاء والخلود الخطيرة<([50]).

ويقول في موضع آخر: >لهذا الأمر منشأ آخر، لو عرفناه لقمنا بعمل أفضل، وهو أنّ القوانين الإسلامية ـ على حد التعبير المعاصر ـ وإن كانت سماوية، لكنّها في الوقت نفسه أرضيةً أيضاً، أي إنها قائمة على المصالح والمفاسد الموجودة في حياة البشر، بمعنى أن ليس فيها مسحة رمزية وسرية، بحيث يقال: «لا علاقة لحكم الله بهذه الأمور، قد وضع الله حكماً يعرف هو أسراره». بل الإسلام يؤكّد على أنّ كلّ حكم يضعه يعود بالمنفعة إلى البدن أو الروح أو الأخلاق أو العلاقات الاجتماعية وما شاكلها؛ فهي ليست أموراً رمزية خارجة عن إدراك البشر.

ويشير القرآن إلى المصالح والمفاسد التي تتولاها أحكامه، كما أنّ هذا الأمر من ضروريات الإسلام، وقد جمع الشيخ الصدوق الروايات التي تشير إلى فلسفة الأحكام في كتاب «علل الشرايع»، الأمر الذي كشف عن اهتمام النبي والأئمة منذ صدر الإسلام بتبيين فلسفة الأحكام<([51]).

6 ـ ويحذّر الأستاذ محمد رضا حكيمي من عدم الالتفات إلى أهداف الدين، قائلاً:>الفقه المصطلح ليس تفقهاً في الدين بل في قسم منه، بمنأى عن باقي الأقسام، غافلاً عن أهداف الدين الأساسية في صناعة الفرد والمجتمع، أي التربية والسياسة، مستبعداً هذين الأمرين الأساسيين. ومن الواضح أنّ التفقه في قسم من التعاليم الدينية واستيعابها ليس بتفقه؛ لأنه منعزل عن سائر الأقسام ومحروم من تأثيرها على عملية الاستنباط. وبالتعبير المصطلح: لم يحقق «استفراغ الوسع» بالمعنى الحقيقي الجامع؛ إذ لم تلحظ جميع الأبواب والمسائل وأهداف الدين، ولم تتبيّن مسألة «الأهم» و«المهم» في عملية بناء الفرد والمجتمع، تلك التي تشكّل الهدف الأساس للدين<([52]).

ويقول في موضع آخر: >يعلم الله ويشهد العقل ويصرّح النقل وتثبت التجربة أنّ الاهتمام بـ «أحكام الدين» من دون التوجه إلى «أهداف الدين»، ليس اهتماماً بـ«الأحكام»، فلا تستنبط «الأحكام» بشكل صحيح وسليم إذا لم تؤخذ «الأهداف» بعين الاعتبار، ويكون لها حينذاك مضموناً إلهياً<([53]).

6ـ عدم دراسة المواضيع بشكل مهني وتخصّصي، وعدم الاستفادة من العلوم الحديثة

يترتب كلّ حكم شرعي على موضوع خاص يحمله بوصفه مركباً له، ويقول الفقهاء في تعريف الموضوع: هو الأمر الذي يترتب عليه الحكم الشرعي. ويصنّف الفقهاء المواضيع في مجموعات مختلفة، لكنّهم يختلفون في تحديد ما يقع منها على عاتق الفقيه، ويقسّم السيد محسن الحكيم المواضيع إلى شرعية وعرفية، وكلاً منها إلى بيّن وغير بيّن، ويعدّ تشخيص الموضوعات غير البيّنة فقط من مسؤولية الفقيه([54]). أمّا صاحب العروة الوثقى، فيقسّم المواضيع إلى أربعة أصناف: شرعية، وعرفية، ولغوية، وخارجية. وقد عدّ تشخيص المواضيع الشرعية فقط من واجب الفقيه([55]).

ولا شك أنّ الموضوعات الشرعية تقع في دائرة الدراسات الفقهية والدينية؛ لكن هناك خلاف بين الفقهاء في ما يخص سائر الموضوعات؛ فبديهي أنّ المواضيع العرفية والخارجية الصرفة، لا يمكن معرفتها من خلال الدراسات الدينية، ولابد من الاستعانة بالعرف والاختصاصات في هذه الأقسام. ومع اتساع دائرة العلوم، تتوفر اليوم إمكانية معرفة هذه المواضيع بشكل أفضل؛ فإن لم يهتم الفقهاء بهذا الأمر ولم يستعينوا بالمختصّين، فسوف لا تأخذ فتاواهم موقعها المفترض.

يرسم الأستاذ محمد رضا حكيمي أحد السبل لبلوغ الاجتهاد المطلوب، كما يلي: >استعانة المجتهد ـ قبل صدور الفتوى ـ بآراء المختصين حسب المواضيع، خاصة في الموضوعات الثورية والاقتصادية والسياسية والدفاعية والثقافية والعالمية؛ ففي كثير من الحالات، يغيّر التشخيصُ المهني للموضوع الحكمَ، وبعبارة أدق: يعين على فهم الموضوع بأبعاده كافة بشكل أفضل، فيستنبط الحكم بمزيد من الدقة وبما هو أقرب إلى الصحة<([56]).

7ـ تغيب المقارنات أو عدم الاهتمام بالفقه المقارن

شهد الفقه الإسلامي طوال تاريخه مسارات فكرية عديدة، أدّت إلى انقسامات وظهور أسماء مختلفة كفقه المذاهب وفقه الإخباريين والفقه الظاهري و… ولا شكّ في أنّ هذه المدارس جميعها لاحظت الأخريات وطرحت آراءها نظراً لذلك، وإن ذهب بعضها في مسار مستقل لا يتقاطع مع الآخر، لكن في الفترات الأولى لتكوّن الفقه، كانت هذه الشعب أقرب إلى بعضها؛ بسبب محدودية المسائل والفضاءات الجغرافية؛ لذلك تؤدّي قراءة الآراء الفقهية لمذهب معين ـ بعيداً عن آراء المذاهب الأخرى ـ إلى سوء فهم في كثير من الأحيان، مما ينتهي إلى الخطأ في الاستنباط.

ويعتبر السيدُ البروجردي الفقه الشيعي ناظراً للفقه السني وتعليقةً عليه، ومن الواضح أنّ التعليقة لا يمكن فهمها دون النص والمتن؛ إنّه يقول في هذا الخصوص: >لعلّ فتوى من علماء أهل السنة أدت إلى تقدّم أصحاب الإمام بالسؤال إليه، وأجابهم على السؤال. فإذا ما فهمنا تلك الفتوى تمكّنا من فهم إجابة الإمام بشكل أفضل<([57]). ويقول: «الفقه الشيعي حاشية على فقه أهل السنة<([58]). ويقول بعض تلامذته حول منهجه: كان لديه تسلّط خارق على آراء فقهاء أهل السنّة، ولذلك تمتع باستنباطات جيدة([59])، ويقول الشيخ واعظ زاده عن هذا المنهج: كان السيد البروجردي يرى أنّ مراجعة فتاوى أهل السنّة ورواياتهم تمكّننا من فهم روايات الأئمة، والخروج بفتاوى أفضل؛ فكان يرى أنّ الفقه الشيعي بمثابة حاشية على الفقه السنّي؛ فقد كانت فتاوى فقهاء السنة هي الرسمية والسائدة في تلك العصور([60]). وقد نقل تلامذة آخرون هذا الأمر أيضاً([61]).

ويقول الشيخ لطف الله الصافي الكلبايكاني ـ رداً على سؤال عن دور معرفة أقوال علماء أهل السنّة في عملية استنباط الأحكام الشرعية ـ: حين ندرس روايةً بعيداً عن الجو والظروف التي صدرت فيها، فسوف يقتصر اطلاعنا على المعنى الظاهري للألفاظ، لكن لو تعرّفنا على ظروف صدورها والآراء العلمية التي كانت سائدة آنذاك، فلعلّ قرينةً حالية تغيّر فهمنا لها أو توسّعه؛ وعلى سبيل المثال، قد أقول في هذا المجلس شيئاً نظراً لحادثة حدثت هنا، ويعرف الحاضر في المجلس ملابسات الحديث وصلته بالحادث؛ أمّا إذا نقل الحديث نفسه خارج المجلس دون بيان ملابساته، فلعلّ بعضاً آخر يفهم منه أمراً آخر؛ إذاً لا يجوز للمجتهد إغفال الأقوال والآراء القائمة في عصر صدور الرواية([62]).

ويبيّن الشهيد بهشتي أحد مآخذه على البحوث الفقهية والدينية قائلاً: قلّما استخدم منهج المقارنة، في حين يمكن لهذا المنهج أن يكون مفيداً جداً في معرفة الإسلام بشكل دقيق([63]).

وقد كان هذا الأمر سائداً بين الشيعة إلى القرن السابع، فكانوا لا يمارسون الاستنباط والإفتاء إلا بعد التسلّط والجولان في فقه أهل السنّة؛ فنجد الشيخ الطوسي (460ﻫ) يؤلّف كتاب «الخلاف»، والعلامة الحلي (726ﻫ) كتاب «تذكرة الفقهاء» اعتماداً على هذا المنهج، لكن ترك هذا المنحى فيما بعد إلى عصرنا الحاضر، حيث أحياه السيد البروجردي وما زلنا نجده عند بعض تلاميذه.

8 ـ القطيعة أو ابتعاد الفقه عن الأخلاق

يصنّف العلماء تعاليم الدين ـ في ضوء القرآن والسنّة ـ إلى ثلاثة أقسام: العقائد، والأخلاق، والفقه. وقد استخرجوا هذا التقسيم من الآية الكريمة: {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ} (الجمعة: 1؛ كذلك انظر: البقرة: 129، 151؛ آل عمران: 164)، وكذلك من الحديث الشريف: «العلم ثلاثة: آية محكمة أو فريضة عادلة أو سنّة قائمة»([64]).

يقول الشيخ صالح المازندراني في شرح هذا الحديث: >ووجه حصر العلم في الثلاثة ظاهر؛ لأنّ العلوم النافعة إما متعلقة بأصول العقائد أو بفروعها، والثانية إما متعلقة بأعمال الجوارح، أو بأفعال القلب من محاسن الأخلاق ومقابحها والاعتبار والاتعاظ، وجميع ذلك مندرج في الثلاثة المذكورة<([65]). ويعتمد صدر المتألهين أيضاً هذا الرأي في شرحه([66]).

لا يمكن الفصل بين هذه المجالات في مقام تحقّقها في حياة الإنسان، وإن أمكن ذلك في مجال التعليم والتعلّم؛ وبناء على ذلك فإن لم يلحظ الفقيه في عملية الاستنباط سوى الفقه فلن تحصل فتواه على الموقع المطلوب.

ويتجلّى الاهتمام بالأخلاق في الإفتاء في مجالات عديدة:

1ـ التعامل باحترام مع أقوال سائر الفقهاء وآرائهم، أي عدم استنقاص الآخرين حين نقدهم. يذكر الشهيد بهشتي إحدى صفات الباحثين الإسلاميين على النحو التالي: >الباحث اللائق هو من يراعي الأدب واللياقة والاحترام في حديثه وكتاباته، خاصة تجاه سائر الباحثين وآرائهم، فأيّ كلام جارح يصدر من عالم تجاه الآخرين أو آرائهم، ينمّ عن وقوع الكاتب أو المتكلم تحت تأثير أحاسيسه وميوله، وهذا ما يقلّل من قيمة عمله؛ إذ إنّ أحد شروط كمال البحث بعده عن التأثيرات الذاتية والميول الشخصية أو المسلكية<([67]).

2ـ التواضع العلمي؛ إذ يجتنب الفقيه المتخلّق استعمال ألفاظ تظهره وكأنه أفضل من الآخرين، ويضع بعين الاعتبار أنّ فهمه محدود وقد يقع في خطأ أو زلة؛ فالمبالغة في ادعاء المعرفة والعلم بعيدة كلّ البعد عن الأخلاق.

3ـ مراعاة الأسلوب الأخلاقي في بيان الفتوى في بعض الموضوعات.

9ـ الفقه ومشكلة الابتعاد عن قضايا العصر والاهتمام بالأمور البالية

معرفة العصر والحضور فيه وإدراك ظروف كلّ مرحلة من الحياة، واجبٌ وضعته المعارف الدينية على عاتق العلماء؛ فالفقهاء والمجتهدون الذين يفوقون الآخرين في مجال من المعارف الدينية، ينبغي أن يكونوا عارفين بعصرهم بطريق أولى، وقد خصّص الأستاذ محمد رضا الحكيمي فصلاً من كتاب «الحياة» لهذا العنوان، ونقل فيه كثيراً من الروايات([68]). كما جاء في رسالته إلى الحوزويين: >المرجع والعالم الديني والفقيه والأستاذ و… إن لم يكن عارفاً بزمانه فسوف تهجم عليه اللوابس، أي ستلبس الأمور رداءً آخر ظاهره الصلاح والإغراء، وبديهي أنّ المراد بـ «الزمان» في الحديث الشريف: «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»، وأمثاله، ليس «الوقت» بل «الزمان الثقافي»، أي لا يريد اليوم والشهر والسنة التي تمرّ على البشرية، بل الظروف والآراء والثقافة و… التي تعيشها<([69]).

إنّ معرفة ملابسات العصر والحضور في المجتمع يحقق النتائج التالية:

1ـ حين تناول المواضيع، توضع الأمور التي يبتلى بها الناس ويحتاجون إليها موضع الاهتمام، وتجتنب الموضوعات النادرة التي قد لا تواجه الفرد طوال حياته. ولا يعني ذلك أنها لو حدثت سوف لن تكون هناك إجابة لها بل المقصود عدم دخول القضايا النادرة والمواضيع الخيالية والافتراضية في متن الفقه الإسلامي والفتاوى؛ فمثلاً، ما هو احتمال حدوث مسألة «مسترسل اللحية»([70]) الذي يريد أخذ ماء فائض من لحيته للمسح في الوضوء؟!

يقول الشيخ جعفر السبحاني في هذا الخصوص: >وهنا يمكن أن يتصوّر ضرر آخر يصيب الفقه، وذلك هو إلغاء الجانب العملي فيه ليتخذ شكلاً فكرياً، ويتحوّل إلى تمارين؛ ففي الفقه الإسلامي توجد أحياناً مسائل ربما لا تحدث مرةً واحدة طوال قرن كامل، رغم أنّ البحث في مسائل كهذه هو رياضة ذهنية، لكن لمّا لم تكن لها صلة بحياة الإنسان فإن إضاعة الوقت فيها يخرج الفقه عن حالته الحيوية والمتطورة إلى العالم الفكري. فالمسائل ذات العلاقة بالرقيق الذين كانوا يدعون بالإماء والعبيد، من البديهي أنها كانت تبحث في القرون الماضية لوجود حاجة إليها لكنها الآن لا تجد لها مصداقاً على أرض الواقع<([71]).

2ـ السعي في فتح أبواب جديدة لم تكن لها حاجة فيما مضى أو لم تبلغ معرفة الفقهاء بها درجة يفتح من أجلها باب مستقل، كالأمور التي تبحث اليوم كملاحق للرسائل العملية أو الكتب الفقهية الاستدلالية تحت عنوان المسائل المستحدثة، كبدل الإخلاء والتشريح الطبي و… فينبغي أن تأخذ هذه الأمور مكانها الطبيعي في المنظومة الفقهية، وكذلك النظام التعليمي الحوزوي، كفتح أبواب تحت عنوان فقه الحكومة وفقه النساء وفقه القضاء و…([72]).

3ـ عدم الاعتماد في عملية إعادة صياغة الفقه وتبويبه على ما توصّل إليه القدماء؛ فإنّ تلك الصياغة كانت مواكبة للحركة العلمية في عصرها، لكنّ مرور الزمن يقتضي مثل هذه التغييرات والإضافات، وقد قام السيد محمد باقر الصدر بهذا الأمر المهم في كتاب «الفتاوى الواضحة»([73])، وقدّم بعض الباحثين اقتراحات أخرى في هذا الموضوع([74]).

وينبغي الالتفات إلى أنّ تركيبة الأبواب الفقهية ـ كسائر آراء الفقهاء الماضين ـ من الجائز نقدها وإكمالها. وكما أنّ الفقيه اليوم لا يخشى نقد الآراء بل يتفاخر به، كذلك هو حال التركيبة الكلّية للفقه الإسلامي.

10ـ كارثة النزعة العوامية أو مجاراة العوام

يعتبر الفقهاء والمجتهدون أنفسهم حين استنباط الحكم الشرعي ملزمين باتباع الأدلّة المعتبرة، ويقومون بالفتوى على أساسها، لكن قد تعرض أمور أمام الفقيه تمنعه من اتباع الدليل، وهي: الإجماع والشهرة ورضا أو عدم رضا عامة المتدينين. ومن الممكن تبرير الخشية من الإجماع والشهرة؛ إذ على فرض تحققهما يدلان على فهم العلماء القريبين من عصر الحضور للموضوع بشكل آخر؛ فقد يكون لديهم شاهد أو دليل أو مؤيد أو قرينة فُقِدوا إثر مرور الزمن؛ علماً أنّ هذا الموضوع أيضاً محل تأمل، وقد أفتى كثير من الفقهاء خلاف الشهرة والإجماع، لكنهم خشوا في مسائل أخرى مخالفتهما، وهذا الاضطراب غير مبرر في الحركة الفقهية.

لكن حتى لو بررنا الخشية من الإجماع والشهرة، لا يمكننا تبريرها في مخالفة عامة المتدينين، والتي سمّيناها «العوامية». وقد امتنع بعض الفقهاء من إبداء رأي جديد مهابةً لعامة الناس. يقول الشيخ محمد جواد مغنية: >وقد عاصرت ثلاثة مراجع كبار من أهل الفتيا والتقليد: الأول كان في النجف الأشرف وهو الشيخ محمد رضا آل يس، والثاني في قم وهو السيد صدر الدين الصدر، والثالث في لبنان وهو السيد محسن الأمين، وقد أفتوا جميعاً بالطهارة [لأهل الكتاب]، وأسرّوا بذلك إلى من يثقون به، ولم يعلنوا خوفاً من المهوّشين، على أن يس كان أجرأ الجميع. وأنا على يقين بأنّ كثيراً من فقهاء اليوم والأمس يقولون بالطهارة، ولكنهم يخشون أهل الجهل والله أحق أن يخشوه<([75]).

وينقل الشيخ مطهري عن السيد البروجردي، أنه قال في أحد دروسه: >لا عجب، فالتقية أهم وأعلى منّا. كنت أتصور في أول أيام مرجعيتي العامة أنّ عليّ الاستنباط وعلى الناس العمل، فكلّ ما أفتي به سوف يعمل به الناس، لكن في بعض الفتاوى (التي خالفت فيها ذوق العامة) وجدت الأمر ليس كذلك<([76]). كذلك يقول الشيخ مطهري عن الشيخ عبد الكريم الحائري، مؤسّس حوزة قم العلمية بأنه: >ارتأى تمرّس بعض الطلاب في اللغات الأجنبية ومقدّمات العلوم الحديثة، كي يتمكّنوا من عرض الإسلام في الأجواء الأكاديمية وحتى تبليغه في الدول الأجنبية، وحين انتشر هذا الخبر، ذهب بعض العوام وأشباههم من طهران إلى قم، وحذّروا الشيخ الحائري بأنّ هذه الأموال التي يدفعها الناس بوصفها سهم الإمام، ليست لتعلّم طلاب العلوم الدينية لغة الكفار؛ فإن استمرّ هذا الوضع فسنفعل كذا وكذا! فرأى الشيخ أنّ استمرار هذا الأمر سوف ينتهي بانهيار الحوزة وفساد الأمر من الأساس، فانصرف عن رأيه بشكل مؤقت<([77]).

وقد أجاب الإمام الخميني مجلسَ صيانة الدستور رداً على سؤالهم عن طلاق الحاكم، قائلاً: >الاحتياط هو إلزام الزوج بنصحه بالطلاق، وإن لم ينفع يجبر عليه، لكن مع مراعاة احترامه، وإن لم يتحقق تطلّق المرأة بإذن الحاكم الشرعي. ولو كنت أجرأ لكان هناك حلّ آخر، وهو أسهل<([78]).

الهوامش

(*)أستاذ جامعي متخصّص في علوم الحديث، ورئيس تحرير مجلة علوم الحديث الفارسية، من أبرز المساهمين في مشروع فلسفة الفقه، له مؤلّفات عدّة في الفقه والحديث و..

([1]) إبن إدريس الحلي، السرائر 1: 66؛ كذلك راجع: منتجب الدين، الفهرست: 5.

([2]) رجال ابن داود: 498.

([3]) جواهر الكلام 8: 300.

([4]) راجع: إحياء علوم الدين 1: 17؛ وشرح أصول الكافي 2: 19.

([5]) صحيفه امام (فارسية) 21: 177.

([6]) المصدر نفسه: 150.

([7]) مرجعيت وروحانيت (فارسي): 182.

([8]) دائرة المعارف الشيعية 3: 32، 33.

([9]) مجلة الحياة الطيبة، عدد6 ـ 7: 87، 88.

([10]) الاجتهاد والحياة: 21، 22، 44، 45.

([11]) مجلة آينه بجوهش، العدد التاسع: 64، 65؛ والعدد العاشر: 65 فما بعد.

([12]) مجلة حوزه (فارسية)، «طرح كوششي تازه در راه شناخت تحقيقي اسلام»، العدد 15: 41، 42.

([13]) معارج الأصول: 179.

([14]) مبادئ الوصول إلى علم الأصول: 240.

([15]) الوافية: 243.

([16]) التنقيح، الاجتهاد والتقليد: 22.

([17]) الاجتهاد والتقليد: 9.

([18]) الميزان في تفسير القرآن 5: 276.

([19]) مجلة بيّنات (فارسية)، العدد 1: 5، 6.

([20]) راجع: الفرقان في تفسير القرآن 1: 33 ـ 35.

([21]) ده كفتار: 220.

([22]) صحيفه امام (فارسية) 21: 78، 394، 395.

([23]) مجلة الحياة الطيبة، العدد 6 ـ 7: 88.

([24]) كنـز العرفان 1: 5.

([25]) معجم رجال الحديث 1: 19، 20.

([26]) مسائل حرجة في فقه المرأة المسلمة، الكتاب الأول: الستر والنظر: 40، 41.

([27]) حولية بجوهشهاي قرآني (فارسية)، «كستره مباحث فقهي قرآن»، العدد 4: 47.

([28]) الخلاف 2: 623.

([29]) شرائع الإسلام 4: 119.

([30]) مستند الشيعة 18: 247 ـ 249.

([31]) راجع: الفرقان في تفسير القرآن 1: 30.

([32]) التنقيح، كتاب الطهارة 1: 30، 31.

([33]) دائرة المعارف الإسلامية الشيعية، مج 3، ج 3: 33، 34.

([34]) ولايت فقيه (فارسي): 5.

([35]) حولية متين (فارسية)، العدد 15 ـ 16: 5، 6.

([36]) مرجعيت وروحانيت (فارسي): 63 ـ 65.

([37]) المصدر نفسه: 210، 211.

([38]) المصدر نفسه: 226.

([39]) تحريرات في الأصول 5: 289، 290.

([40]) كنـز العمال 5: 812، ح14456.

([41]) صحيفه امام (فارسي) 21: 150.

([42]) تحرير الوسيلة 2: 535، المسألة 11.

([43]) للمطالعة أكثر في هذا الموضوع، راجع: مهدي مهريزي، حديث بجوهي (فارسي)، الكتاب الأوّل: 159 ـ 167؛ وله أيضاً: فقه بجوهي (فارسي) 1: 312، 315 ـ 317.

([44]) الاجتهاد والحياة: 44.

([45]) المصدر نفسه: 21.

([46]) المصدر نفسه: 22.

([47]) فقه الإمام الصادق 3: 158.

([48]) مجلة كيهان انديشه، «واقع نكري در بينش فقهي امام …»، ع29: 39، 40.

([49]) المصدر نفسه: 40.

([50]) ختم نبوت (فارسي): 77، 78.

([51]) اسلام ومقتضيات زمان 2: 27.

([52]) مجلة آينه بجوهش، ع9: 65؛ كذلك راجع: مجلة نقد ونظر، «أهداف دين وأحكام دين»، العدد 1: 121.

([53]) نقد ونظر، ع1: 121.

([54]) مستمسك العروة الوثقى 1: 105.

([55]) العروة الوثقى 1: 25.

([56]) آينه بجوهش، ع10: 65؛ وللتوسع في هذا الموضوع، راجع: مجلة حوزة (فارسية)، ع56 ـ 57: 269؛ ونقد ونظر، ع5: 87، «جايكاه موضوع شناسي در اجتهاد».

([57]) مجله حوزه، ع43 ـ 44: 42، لقاء مع آية الله سلطاني.

([58]) المصدر نفسه: 208، لقاء مع آية الله واعظ زاده الخراساني.

([59]) المصدر نفسه: 112، لقاء مع الشيخ صافي الكلبايكاني.

([60]) المصدر نفسه: 215.

([61]) راجع: المصدر نفسه: 43، 44، 249، 250، 176، 177؛ كذلك انظر: نقد ونظر، ع1: 216.

([62]) المصدر نفسه: 122.

([63]) مجلة حوزه، ع15: 41، 42.

([64]) الكافي، ج1، باب صفة العلم وفضله، ح1.

([65]) الملا صالح المازندراني، شرح أصول الكافي 2: 26.

([66]) الملا صدرا، شرح أصول الكافي: 128، (الطبعة الحجرية).

([67]) مجلة حوزه، ع15: 44.

([68]) الحياة 1: 156، 157.

([69]) مجلة آينه بجوهش، ع15: 65، نامه.

([70]) العروة الوثقى 1: 117، أفعال الوضوء، المسألة: 25.

([71]) مجلة الحياة الطيبة، ع6 ـ 7: 87.

([72]) يقترح الأستاذ محمد رضا حكيمي إضافة الأبواب التالية للفقه: كتاب التكاثر، كتاب العدل والقسط، كتاب الزكاة الباطنية، كتاب الفن، كتاب التربية والتعليم، كتاب الطب الحديث. (ترجمة «الحياة» الفارسية: 4: 261 ـ 264؛ و5: 296 ـ 300.

([73]) الفتاوى الواضحة: 99، 132 ـ 134، بيروت، دار التعارف للمطبوعات.

([74]) راجع: مقالات وبررسي ها، الكتاب 73 (3): 114 ـ 119؛ وعباس علي عميد زنجاني، فقه سياسي 2: 25.

([75]) فقه الإمام جعفر الصادق 1: 33.

([76]) ده كفتار: 302.

([77]) المصدر نفسه.

([78]) مجموعه نظرات شوراي نكهبان(فارسي) 2: 73.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً