أحدث المقالات
تنامي الوقائع وانسداد باب الوصول للشريعة، قراءة ونقد

ذهب بعض العلماء ــ قديماً وحديثاً ــ إلى أنّ الدليل الوحيد على حجيّة خبر الواحد هو دليل الانسداد، فما هو الانسداد؟ وبأيّ استدلال يلزم انفتاح هذا الانسداد بالإقبال على خبر الواحد وغيره من الظنون؟

ذكر في بيان الانسداد وشروطه تقريبان([1]):

1 ــ إنه لا يُعقل لدى ملاحظة التغيير والتحوّل في نظام حياة البشر وظهور المواضيع والمسائل المستحدثة أن تقتصر مصادر سنّ القوانين على القرآن والسنّة؛ إذ إنّ ما يشتمل من الآيات على مضامين قانونية ويتعرّض لبيان الأحكام يعدّ قسماً يسيراً من القرآن([2])، أمّا الأخبار والروايات فقد تحّدثت عمّا كان معروفاً في عصر الصدور، وما دمنا مقيّدين بهذه المصادر؛ فلن يمكننا أن نبدي رأياً أو نصدر حكماً في خصوص المسائل المستحدثة.

2 ــ لا يمكن لدى ملاحظة التغييرات والانحرافات التي حصلت في عملية تدوين الروايات وروايتها أن يحصل لدينا اطمئنان بما هو متوفّر في كتبنا الحديثية، وهذا ما يُسقط هذه الروايات عن الاعتبار في مجال الاستناد القانوني، فيجب الإقبال على المصادر الظنيّة، حيث يكون خبر الواحد ــ بعد التعبّد بالظن وإثباته ــ واحداً من الطرق الظنيّة المعتبرة.

والجواب عن ذلك:

أ ــ إن مستحدثات المسائل لا تؤدّي ــ بأيّ حال ــ إلى انسداد الفهم واستنباط الأحكام الشرعية؛ إذ يمكن ــ بملكة الاجتهاد ــ إرجاع الفروع المستحدثة إلى الأصول الأساسية، واستنباط حكمها بسهولة؛ فليس الاجتهاد سوى امتلاك هذا التخصّص([3])؛ فالبحث عن حكم مسألة بين الأحاديث، والعثور عل نصّ لها لا يحتاج إلى ملكة الاجتهاد، فهذا أمر يمكن لأيّ محقق أن يقوم به. ولذا يعتبر بعض كبار العلماء أن تدوين رسالة عملية لا يدلّ على الاجتهاد المطلق؛ وإنّما هو حصيلة بحث متواصل على امتداد الفقه المستنبط، كما يرون أن 5% من الفقه والأحكام الشرعية تضمّنته الرسائل العملية، أمّا 95% الباقية فهي ممّا لم يذكر، ولم يعثر عليه، بل بقي في منأى عن أيّ نحو من أنحاء البحث والتحقيق. وليس المقصود أن هناك شكاً في غنى وكفاية المصادر، بل الإشكال في مدى جهد المحققين في مجال الاجتهاد.

فإذا نظرنا إلى أحد الأصول فيما يخصّ «خيار المجلس»، وهو رواية الفضيل: «البيٍّعان بالخيار مالم يفترقا»([4])، سنجد أنّ هذا الأصل لم يرد فيه توضيح حول ما يرتبط بكيفية وزمان ومكان انعقاد البيع ومجلسه؛ لكنّ المجتهد يمكنه أن يفهم جيداً أن «افتراق كلّ شيء بحسبه» فيحكم في المعاملات التي تجري بواسطة الهاتف بأن خيار المجلس فيها باق مادام الاتصال الهاتفي قائماً لم ينقطع.

وهذا الرأي رأي بنّاء، من شأنه أن يُحدث تحوّلاً في نظام تدوين الرسائل العملية، ويبدي من المسائل ما ينطبق وحاجات الإنسان العصرية ويوافق النظريات والاصطلاحات الحديثة، يذكر أحد العلماء ــ نقلاً عن الإمام الخميني ) ــ أنه بعد انتصار الثورة الإسلامية ومواجهته للظروف الجديدة في المجتمع قال: «لقد فهمنا الآن أنّ منهج بحثنا وكلامنا في الحوزة كان يناسب البحث داخل المدرسة فقط، ولا يمكن تقديمه للمجتمع»، وقد قال أيضاً جواباً على رسالة وجّهها إليه أحد فضلاء الحوزة: «ينبغي أن أبدي أسفي للنتائج التي توصّلتم إليها من الأخبار والأحكام الإلهية؛ فأنتم ترون ــ وفقاً لما ذكرتم في رسالتكم ــ أنّ الزكاة قد جُعلت للإنفاق على الفقراء وسائر الأمور التي ورد ذكرها فقط، ولما ازدادت مصارف الزكاة وبلغت المئات فلا سبيل؟! وعليه فالمراهنة لمّا كانت تحصل بالسبق والرماية بالقوس والسهم وعدو الفرس وغيرها مما كان يستعمل في الحروب السابقة، ستظلّ منحصرةً اليوم بهذه الموارد! والأنفال التي حلّلت للشيعة سابقاً يمكن لأيّ شيعي اليوم ودون أي مانع أن يُفني الغابات بواسطة الماكينات والوسائل الحديثة الضخمة، قاضياً بذلك على ما يكون موجباً لحفظ البيئة سليمةً، ومعرّضاً ملايين الناس للخطر، دون أن يكون لأحد الحقّ في منعه!.. وبالجملة ينبغي ــ بناءً على ما استفدتموه من الروايات والأخبار ــ أن تُمحى المدنية الحديثة تماماً، ويعود الناس إلى السكن في الأكواخ والصحاري إلى الأبد»([5]).

وعليه، فينبغي أن تتطوّر نظرتنا للأمور بما يتناسب والتطوّرات الحاصلة في النظام الاجتماعي والتكامل العقلي، ومع ذلك لا نستبعد مصادرنا في مجال الفقه والاستدلال، وهو معنى كون الفقه جواهرياً سلفياً في عين كونه متحركاً مرعيّاً فيه عنصرا الزمان والمكان.

أجل، ما ينبغي أن يتحوّل ويتغيّر بتحوّل الموضوعات وتغيّرها هو كيفية تطبيق الكليّات على المواضيع الجديدة، وكيفية استخراج ما ينطبق عليها من مصادرنا الأصلية، ولا ينبغي الشك في كفاية المصادر وغناها أو التردّد في أصالة ردّ الفروع المستحدثة إلى الأصول، خصوصاً وأنّ هذه الطريقة قد أيّدت بعدد من الروايات، منها ما رواه عبد الأعلى، عن الإمام الصادق %، أنه قال له: عثرت فانقطع ظفري، فجعلت على إصبعي مرارة، فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: «يُعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجلّ، قال الله تعالى: >وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ<، إمسح عليه»([6]).

أجل؛ إنّ الفقه المتحرّك ينبغي أن يتمتع بهذا النحو من الاستنباط الذي اتبعه الإمام الصادق %، حيث استعان بأصلٍ كلي في فهم مسألة جديدة ومستحدثة، مُرشداً الراوي إلى هذه الطريقة، فرغم أن أحكام جزئيات المسائل المستحدثة لم تَرد في القرآن أو السنّة، لكنْ يمكن العثور على أصولها فيهما؛ فإنه لا يمكن أبداً أن يتوقع من دستور دولة أن يستوفي جميع اللوائح القانونية فيه، وغالباً ما يكون دستور البلاد من العمومية والاختصار بما لا يمكن مقارنته ــ من حيث الحجم ــ بسائر القوانين الرسمية للبلاد، لكنّ ذلك لا يعني أن يكون الدستور مهملاً معرضاً عنه وساقطاً عن الاعتبار، بل هو عصارة وبناء تحتي لتمام القوانين الجارية والنافذة، وهذه النسبة نفسها موجودة بين القوانين الرسمية والقرارات التنفيذية لكلّ لائحة وقانون، والحقوقيون هم أولئك الذين يمكنهم أن يستنبطوا ويستخرجوا المواد القانونية من أصول الدستور والقرارات التنفيذية من المواد القانونية.

ولدينا في سلسلة أحكام الشريعة أصول أساسية أيضاً، يمكن أن يُستخرج منها مواد قانونية، وتوجد لدينا مواد قانونية تكون معياراً لتدوين القرارات التنفيذية، فهل يمكن القول: إنّ دولةً لها آلاف الصفحات في قوانين العمل والمسائل الحقوقية المتعلّقة بقسم صغير، مثل دائرة البريد والبرق والهاتف، كيف يمكن أن يتكوّن دستورها من 30 صفحة فقط؟! وكيف يقتنع العقلاء بمقارنة حجمية من هذا القبيل؟!

كلّما كان مجال نظر كاتب القانون أوسع كان عموم وشمول وانطباق وعمر وبقاء واعتبار وقيمة القوانين المدوّنة من قبله أسمى وأعظم، ففي رواية عن الإمام الصادق%، قال: «كتاب الله فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وفصل ما بينكم، ونحن نعلمه»([7])، ويقول % في نصّ آخر ــ بعد تذكيره بأنّ القرآن يضمُّ علم وحكم كلّ ما كان ويكون إلى يوم القيامة ــ ما نصّه: «اعلم ذلك كما انظر إلى كفّي إن الله يقول: فيه تبيان كلّ شيء»([8])، وفي حديث ثالث يقول ــ بعد تأكيده على جامعية القرآن ــ : «فاستنطقوه ولن ينطق لكم، أخبركم عنه إنّ فيه علم ما مضى، وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة، وحكم ما بينكم، وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون»([9])، وقد روى المعلّى بن خنيس، عن الإمام الصادق %، أنه قال: «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب الله (عز وجل)، ولكن لا تبلغه عقول الرجال»([10]).

أزمة الحديث الشريف وانسداد باب اكتشاف الشريعة، وقفة فاحصة

ب ــ وبعد أن أثبتنا أن التقدّم المذهل وحدوث وقائع ومواضيع جديدة لا يمكنهما أن يجعلانا نواجه طريقاً مسدوداً في استنباط القانون الذي ينطبق على الواقع، علينا أن نبحث ــ ثانيةً ــ هل أن تطرّق الوضع والجعل في نقل السنّة وروايتها على مرّ القرون وبُعدنا عن عصر المعصومين ( سدّا علينا الطريق نحو العلم والعلمية أم لا؟!

والجواب عن ذلك هو:

1 ــ إن احتمال الصدق والكذب ــ وهو أمر ذاتي في كلّ خبر ــ لو كان موجباً للاعتقاد بانسداد باب العلم والعلمي في الروايات المرويّة عن المعصومين، للزم أن نقول بثبوت هذا الانسداد في عصر الانفتاح أيضاً، حيث كان الأئمة المعصومون ( بالنسبة إلى من لا يمكنهم أن يسمعوا الكلام مشافهةً من النبي والإمام، بعيدين، فباب العلم منسدّ عليهم أيضاً؛ لأنهم كانوا ملزمين بأن يأخذوا العلوم بواسطة الرواة والمخبرين، فإن الوضع والغش كان جارياً منذ عصر الرسول الأكرم 2 حتى قال هو عن ذلك: «أيها الناس قد كثرت عليَّ الكذّابة»([11])، وهو ما لا يمكننا إلزام جميع المكلّفين في زمان المعصومين ( به، فنلزمهم أن يفتحوا هم باب العلم، ونأمرهم بوجوب إيصال أنفسهم إلى الإمام %، وأخذ العلم منه. ولو فرض تمكّنهم من الوصول إلى الإمام، فإن الإمام لا يكون قادراً في كلّ وقت على إبراز الحكم الواقعي، بل كان احتمال التقية ورعاية المصالح الأخرى موجوداً أيضاً، وحينئذ فلابدّ من أخذ المراد بعد إجراء أصالة عدم التقية وأصولٍ أخرى غيرها؛ مع أنّ هذه الأصول ظنية أيضاً، وعليه فباب العلم منسدّ علينا حتى في عصر المعصوم؛ حيث لا يمكن دائماً تلقي المعارف من المعصوم بصورة مباشرة.

3 ــ إنّ أيّ خبر في العالم إذا أخضع للدقة والتجزءة العقليين يمكن أن يقال عنه: إنه لا يوجب علماً قطعياً لا احتمال معه، وحتى الروايات التي كانت تروى في عصر الأئمة( لم يكن لها مثل هذا الحظّ من العلم؛ فقد قال الميرزا القمّي ) في القوانين: «من الواضح الجليّ الذي لا يقبل الإنكار أنّ كلّ واحد من أصحاب الأئمة ( المتردّدين عندهم السائلين عنهم، كانوا يأخذون الخبر وينقلون إلى غيرهم العمل، ولم يكن يحصل بخبر كلّ واحدٍ منهم العلم للسامع، ومع ذلك كان أئمتهم ( مطّلعين على طريقتهم، ويقرّونهم على ذلك، واحتمال أنّ كلّ ذلك كان من القرائن المفيدة للعلم مما يأباه العقل السليم والفهم المستقيم»([12]).

3 ــ إنّ الخبر الواحد إذا تناقله عشرة في مجلسٍ واحد؛ يخبر كلّ واحد منهم صاحبه، فإنّ ما سيسمعه عاشرهم يباين ما قاله أوّلهم مباينة واضحة، مع أن مبادلة الخبر قد وقعت في مجلس واحد وبفاصل زمني قصير، وما هذا إلا بسبب ما تقتضيه طبيعة نقل الخبر من تغيير.

4 ــ ورغم ما لماهية الخبر من اقتضاء الاختلاف والتغيير فإنّ الأخبار والتقارير كانت من جملة المصادر الأصلية للعلوم الإنسانية، ومن ركائز تثبيت نظام حياة البشر، وكلّ خبر وتقرير يحظى بنسبة من الاعتقاد تتناسب ودرجة الوثوق الحاصلة منه، وكما أنّ الاعتماد على كلّ خبر قبل التحقيق والتفحّص في صحته يعتبر أمراً مرفوضاً وغير معقول، كذا فإن رفض جميع الأخبار يعدّ أمراً مستنكراً ومستهجناً أيضاً.

5 ــ إنّ ما روي في محاسن ومثالب الرواة أو اكتسب في عملية تقييم الروايات صفة الصحّة والضعف مستفادٌ من أخبار الآحاد أيضاً، وحينئذ ستكون روايات الجرح والتعديل قابلةً للتأمل والإشكال، خصوصاً بالنسبة إلى الناقدين لأمر رواية الحديث؛ إذ كيف يمكن لأفراد كالغضائري أن يطعنوا في كلّ من لا يعتقد به؟!

6 ــ بناءً على اعتبار هذا الاحتمال لا يبقى لدينا رسالة أو كتاب لا يتطرّق إليهما احتمال الخطأ والاشتباه؛ فقد حدث لأحد المحقّقين لدى تصحيحه مقالةً لأحد الأعلام أن وجد بعض الآيات قد كُتبت خطأ، رغم أن كاتب المقالة كان قد نقلها من القرآن مباشرةً، فهل يمكن أن نعتبر مثل هذا الاحتمال حينئذ؟ إن أخذ هذا الاحتمال بنظر الاعتبار يجعلنا عاجزين عن الاعتماد على أيّ كتاب، وحينئذٍ فهذا الاحتمال ينبغي أن لا يُلتفت إليه من وجهة نظر العقل.

7 ــ إنّ عملية وضع الأحاديث كانت تقع في العهد الأوّل للحديث غالباً، وقد أضيف إليها على مرّ الأيام ومضي الزمان، وتدوين الجوامع، وتكثير الكتب وطبعها واستنساخها، إمكانات أخرى لضبط الحديث؛ وعلى هذا الأساس فإنّ مسألة الوضع والغش لا ملازمة بينها وبين التأخر عن عصر المعصوم، بل إنّ المجال لوضع وجعل الحديث صار في الفترة الأخيرة أضيق؛ وذلك لتوفّر إمكانات الطبع والنشر والتحقيق والضبط، فنحن ورثة غث ذلك العهد وسمينه.

8 ــ لمّا كان وضع الروايات قد بلغ من الكثرة ــ حتى في عصر الرسول 2 ــ ما جعله يدعو الناس في إحدى خطبه إلى إعمال الدقة في تنقية الأحاديث، فلو كان لتطرّق الوضع في الأحاديث هذا الحجم من الضرر؛ لأوجب 2 أن ينظر إليها عموماً بنظرة الشك والردّ، ولجاء في ردّ خبر الواحد ما جاء في كلمات أئمة الدين في ردّ القياس من بيانات مختلفة، خصوصاً وأنّ الاستفادة من خبر الواحد في الأحكام هي من الكثرة بما لا يقبل مقارنتها باستخدام القياس.

9 ــ لو كان في الحديث كلّ هذه الإبهامات بنحوٍ لا ينفع معها أيُّ إقدام بنّاء وترميمي يجعل لبنائه من الاستقامة ما يمكن معه قبوله، لما كان ذلك الحديث مفيداً للظنّ أيضاً؛ كي نجعل الحجية للظنّ المطلق عن طريق دليل الانسداد.

10 ــ كيف يمكن لإثبات عدم قابلية أخبار الآحاد للاعتماد عليها التمسّكُ بكون رواة أكثرها بقالين أو .. في حين يقال في ردّ السيرة والإشكال عليها بأنها تختلف عن السيرة القائمة في عصر المعصوم، فإنّ الرواة في عصره كانوا أفراداً من ذوي الخبرة والاطلاع، ولا يمكن مقارنتهم بمن في عصرنا اليوم؟ أفليس هذا تناقضاً في الكلام؛ حيث يدّعى في موضع أنّ الرواة في عصر الإمام كانوا بقّالين، ويدّعى في موضع آخر أنهم كانوا رجالاً متميّزين ممتدحين؟!

وبعد أن اختلط الغث بالسمين، ولزم التحقيق في الروايات لمعرفة جواهرها، وعروض الإجمال على هوية الخبر؛ هل يمكننا التمسّك بالدسّ والغشّ والبعد عن عصر المعصوم لنثبت انسداد باب العلم والعلمي علينا، خصوصاً مع أن العلم أعمّ من الجزم وما هو منزّل منزلته([13])؟ وألا يمكن إثبات حجية أخبار الآحاد الموثوق بها والمحقّق عنها عن طريق دليل العقل والسيرة العقلائية اللذين يرجعان معاً إلى الانتقال من العلم المباشر إلى العلم الغائب؟ ولو ادّعى أحدٌ حصول الوثوق النسبي له من هذه الأخبار، فهل يمكننا أن نردّ ذلك بحجّة انسداد باب العلم والعلمي؟ هل أنّ معنى باب العلم والعلمي إدراك زمان الإمام المعصوم %؟ وماذا تُرى يمكن أن نصنع بجميع مراجعات أهل الخبرة فإن قولهم خبرُ واحد أيضاً؟ وماذا نفعل بالمعارف والعلوم البشرية التي يرجع 85 بالمئة منها إلى كلام وأخبار الغير؟ وماذا يمكن إبرازه من حكم بشأن ذلك؟

السنّة الشريفة، الوثاقة أم الوثوق

انتهينا ــ في دراسة سابقة ــ من تحليل الأدلّة الشرعية المتعلّقة بخبر الواحد، وخرجنا بنتيجة مفادها أن أيّاً من الأدلّة لا يمكنه أن يدلّ على حجية خبر الواحد غير سيرة العقلاء المستندة إلى حكم العقل والناشئة من دافع عقلي، والآمرة بضرورة الاعتناء بالأخبار الموجبة للوثوق، وإلاّ اختلّ نظام حياة الناس وعجز الإنسان عن تلبية حاجاته الفكرية؛ لأنّ المعتمد عند العقل البشري إما العلم المباشر أو العلم الغائب([14]).

فإذا كان مناط الحجية حصول الوثوق؛ فسيُعتنى بالعدالة والوثاقة بمقدار مدخليتهما وتأثيرهما على منحنى الوثوق، وطبيعي أنّه سيكون لخبروية الراوي ومعرفته بالحديث، أي درايته به وإدراكه ووكالته عن الإمام، وللدراسات العقلية حول الرواية دورٌ أكبر في رفع النقص وتأمين عامل الاطمئنان وتحقيق نصابه؛ وذلك باعتبار ما عرض من تغيّرات وتحولات أشرنا إليها في عملية تدوين الحديث وروايته؛ فإنّ كثيراً من النواقص التي حدثت أثناء تدوين الحديث حدثت دون قصد من الراوي؛ وذلك نتيجةً لسذاجته أو عدم دقّته أو خبرته في معرفة الحديث، هذا مع أنّ شهادة الغضائري والنجاشي وأمثالهما على الوثاقة شهادةٌ عن حدس، وبديهيٌ أنّ شهادةً من هذا النوع لا اعتبار لها.

ويبدو أن الدليل على دخل الخبروية في تحصيل الوثوق والاطمئنان ــ خصوصاً إذا لاحظنا عنصر النقل بالمعنى في كلام أئمة الدين( ــ أقوى دليليةً؛ فإنّ هذا الأمر له انعكاساته على التصوّرات الحاصلة عند العوام من كلام المتكلّمين والاستنتاجات الخاطئة لفقيه ما إذا عرضت على «الأفقه»([15]) يكتشف خطأه ونقصه ويفهم أنه أخطأ فيما فهمه واستنتجه، بل لو نقل جواب مسألة شرعية عن فقيه وكان خطأ، فإنّ أهل الخبرة سيفهمون أن ذلك الفقيه لم يقله ويذكرون صحيحه.. وعليه فإنّ الرجل من أهل الخبرة يعدّل النقل المعيوب ويرجعه إلى أصله؛ فإذا تلقى كلاماً سليماً لا انحراف فيه اطمأنّ إلى سلامة نقله؛ ذلك الاطمئنان الذي لا تكفي لتحصيله مجرّد الوثاقة، بل إنّها تكون مفيدةً ومؤثرة إذا ضمّت إليها خبروية الراوي وتخصّصه.

يقول الشيخ الأنصاري ) في هذا الخصوص: «قد ادّعى في الوسائل تواتر الأخبار بالعمل بخبر الثقة، إلاّ أن القدر المتيقّن منها هو خبر الثقة الذي يضعُف فيه احتمال الكذب، على وجه لا يعتني به العقلاء، ويقبّحون التوقف فيه لأجل ذلك الاحتمال»([16]).

ويقول في موضع آخر بعد جمعه لأدلّة حجيّة خبر الثقة: «لكنّ الإنصاف أنّ المتيقَّن من هذا كلّه الخبر المفيد للاطمئنان، لا مطلق الظنّ»([17]).

وعليه؛ فالوثاقة جزء علّة حصول الوثوق؛ وهي وإن كانت تعدّ أساساً قوياً يمكن الاعتماد عليه فيما إذا لم يكن لها ما يضادّها؛ لكنها لا تفي برفع النواقص والعيوب جميعها؛ فخبر الثقة يؤدّي إلى تحصيل 60 بالمئة من اطمئنان الإنسان مثلاً، لكنّ هذا غير كاف لبلوغ حدّ الوثوق والاطمئنان، وتبقى 10 ــ 20 بالمئة من الخلل يمكن التثبّت منه عبر النقد العقلي فيما يرتبط بزمان الصدور والظروف المحيطة به، وتفكير الراوي وأمور أخرى، لكنّ مجال إجراء مثل هذه الدراسات والتحقيق في معرفتنا للحديث غير موجود، وفي الحقيقة فإن التحقيقات الخبروية في الأحاديث قلّما حدثت، فلم تطرح أسئلة من قبيل: لماذا وجدت هذه الرواية في كتاب العالم الفلاني بعد 5 قرون ولم توجد قبله؟ ما هي الصيغ الأخرى لنقل هذا الحديث؟ ما هي ظروف الراوي في زمان تلقي الرواية؟ كم كان عمره حينذاك؟ هل كان يمكنه أن يتعلّم الرواية جيّداً ليعيدها فيما بعد بلا نقص وخلل؟ هل كانت جهة صدور الرواية بيان الحكم الواقعي أو التقية؟ وغيرها من الأسئلة.

إنّ من اعتبروا كفاية الوثاقة في الراوي للاعتماد على الرواية حصروا ــ في الحقيقة ــ الشروط والضوابط العامة الموجبة لتحصيل الاطمئنان والوثوق في حدود الوثاقة، وقالوا: إنّ قول الثقة يوجب الاطمئنان والوثوق، وهذا الحدس صادق إلى حدّ ما؛ لكن ينبغي أن لا يتحوّل ذلك وسيلةً لتبرير الفرار من التنقيب والنقد والتتبّع؛ فالروايات يجب أن تتحوّل من مجرّد كونها خبراً يغلب عليه طابع الإحساس وأمراً ذا هوية حسيّة محضة إلى أصل علمي ذي هوية إدراكية، وهذا لا يكون إلاّ في ظلّ التتبع والتحقيق.

يقول العلامة المامقاني ) ــ بعد دراسة الأقوال في حجية الخبر؛ لإثبات الحاجة إلى علم الرجال ــ ما نصّه: «إنّ الحقّ الحقيق بالقبول ــ كما نقّحناه في علم الأصول ــ أنّ العمل بالأخبار إنما هو من باب الوثوق والاطمئنان العقلائي، ومن البيّن الذي لا مرية فيه لذي مسكة مدخلية ملاحظة أحوال الرجال في حصول الوثوق وعدمه وحدوثه وزواله، فالأخذ بالخبر من دون الرجوع إلى أحوال رجاله تقصيرٌ في الاجتهاد، وهو غير جائز، كما لا يجوز الفتوى قبل بذل تمام الوسع.. لا ريب في أنّ كلّ خبر ــ من حيث هو ــ يحتمل الصدق والكذب؛ فتقديم أحد هذين الاحتمالين على الآخر لابدّ له من مرجّح ودليل؛ لئلاّ يلزم الترجيح بلا مرجّح الذي اتفق العلماء على بطلانه وقبحه، والمرجّح على قسمين: قطعي وظني، وكلَّ منهما إمّا داخلي أو خارجي، والقطع الداخلي هو التواتر، والخارجي هو الاحتفاف بالقرائن المورثة للقطع، والظني الداخلي هو عدالة الراوي ووثاقته»([18]).

ففي هذا المقطع الطويل جعل الاطمئنان العقلائي وحصول الوثوق والعوامل المؤثرة فيه ركيزةً وأساساً للاعتماد على خبر الواحد وقبوله.

كان عليّ % إذا أراد أن يطمئنّ بصدق الراوي حلّفه، فهو يقول: «فإذا حلف صدّقته»([19]).

والخلاصة: إننا نقول بحجية خبر الواحد الموجب لحصول الاطمئنان النسبي لنا، وهذا النحو من الأخبار موجود بوفرة في الأصول وكليات الأحكام اللازمة، فمن الممكن أن لا يتمتع خبرٌ ما بتلك القوة من حيث السند، لكنه قد يشتمل على بعض الجهات التي توجب حصول نصاب الوثوق والاطمئنان اللازم.

 *     *     *

الهوامش



([1]) التقريبان المذكوران يرجعان في الحقيقة إلى تحليل المقدّمة الأولى من مقدمات الانسداد، أي كيف لنا أن نبين أن باب العلم والعلمي منسدّ علينا؟

([2]) يذكر الشيخ الشهيد المطهري في كتاب «التعرّف على العلوم الإسلامية» أن 1/13 من الآيات القرآنية هي آيات أحكام، ويذكر السيوطي في الإتقان إنها تبلغ 1/6 منها.

([3]) جاء في رواية عن الإمام الصادق %: «علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع»، بحار الأنوار 2: 345.

([4]) وسائل الشيعة 12: 346.

([5]) الصحف الصادرة بتاريخ 2/7/1367ش (1988م).

([6]) وسائل الشيعة 1: 327.

([7]) الكافي 1: 61.

([8]) المصدر نفسه.

([9]) المصدر نفسه.

([10]) المصدر نفسه.

([11]) المصدر نفسه: 62.

([12]) القمي، قوانين الأصول: 438، طبع عبد الرحمن.

([13]) هذا التعبير من المحقق الحائري، راجع له: درر الفوائد: 394.

([14]) المراد من العلم الغائب أخبار الغير.

([15]) هو إشارة إلى الرواية المشهورة المأخوذة من خطبة لرسول الله 3 ألقاها في آخر حجّة له؛ حيث قال: «ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه»، انظر: بحار الأنوار 2: 142.

([16]) الأنصاري، فرائد الأصول: 144، طبع جماعة المدرّسين.

([17]) المصدر نفسه: 161.

([18]) المامقاني، تنقيح المقال 1: 174.

([19]) أحكام الفصول 1: 354.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً