أحدث المقالات

قراءة نقدية مقارنة بين التحليل والتحريم

المقدمة

من المسائل المستحدثة التي احتدم النزاع حولها في عصرنا هذا، والتي تعتبر من المسائل الغريبة التي توصّل إليها العلم حديثاً بوسائله التكنولوجية المتطوّرة، مسألة الاستنساخ البشري، أو ما يسمى في اصطلاحات الطب الحديث، «بعمليات الهندسة الوراثية».

وما زالت هذه المسألة إلى يومنا من المسائل التي لا تتجاوز في بعدها العملي دائرة العمل التجريبي في مختبرات البحث العلمي، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى فالشريعة التي جاء بها سيد المرسلين النبي الأعظم‘ـ على ما نعتقد به ـ تضم بين دفتيها حكم جميع وقائع الحياة على مرَّ العصور والأدهار، وهذا هو سِرّ الحياة الدائمة في آيات الكتاب المجيد قال تعالى: {وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: 89). وقوله‘: «ما من واقعة إلاّ ولها حكم»([1]).

لمحة تاريخية حول الاستنساخ

أصل فكرة الاستنساخ بدأ من ألمانيا في العقد الثالث من هذا القرن، ولكن العملية لم يساعدها التوفيق. ثم تكررت المحاولة قبل خمسين سنة تقريباً من الآن، أي في حدود عام (1958 ـ 1960م)، وكان موضوع التجربة هذه المرّة النباتات، وقد نجح العمل فيها، حيث جاءت نقطة التحوّل بعد أن نجح العلماء في استنساخ النبات، وكان بالطبع فتحاً جبّاراً في ميدان العلم الحديث. وقبل خمس عشرة سنة تقريباً من الآن، أي في حدود عام (1990 ـ 1993م) تمكّن العلماء من استنساخ توأم من بويضة ولكن ما لبثا أن ماتا. وقبل عشر سنوات من الآن تمكّن العلماء من ولج خلية جنينية مع خلية جسدية عن طريق التيار الكهربائي، ليحصلوا ولأول مرّة في تاريخ الإنسان على نسل لم يتمّ بالمعاشرة الجنسية، أي عن طريق تلقيح البويضة بالحيوانات المنوية، إلى أن توصّل العلماء إلى استنساخ النعجة «دولي»([2]) بالطريقة التي سوف نذكرها إجمالاً وتفصيلاً، فتولّد جنين طبق الأصل من صاحب الخلية الأصل، وتمّت هذه العملية بنجاح بعد (337 محاولة فاشلة). وانقدحت في أذهان العلماء حينها فكرة استخدام هذه الطريقة التقنية الحديثة، التي لا تختلف من حيث الجوهر والروح عن طريقة الأنابيب في إنتاج بشر من أفراد النوع الإنساني، متشابهين في الشكل والمظهر مع الخلية الأُم.

وأثار هذا الأمر في الأوساط الدينية واللادينية مخاوف كثيرة وخطيرة، لأن نجاح مثل هذا العمل على مستوى التطبيق في حياة الإنسان الذي يعيش على وجه هذه الكرة الأرضية، قد يغيِّر بحق وجه هذه الحياة التي نعيش فيها منذ آلاف القرون، وتتغير طبيعة الأحكام والقوانين التي تربط بني البشر ببعضهم البعض بشكل جذري ـ لما سنأتي إليه من خلال هذا البحث ـ رغم أنّ العملية المذكورة لا تتعدى إلى يومنا هذا ميدان البحوث العلمية.

وكما أشرنا، فمسألة الإستنساخ البشري لا تختلف كثيراً من حيث الجوهر والمضمون مع الأنابيب، إلاّ أن الأنابيب والتلقيح الصناعي قد سبقتها من جهة الفترة الزمنية في ميدان العلم والعمل معاً، كما هو المصرّح به من أهل الخبرة في هذا الميدان.

وقد أخذت مسألة الأنابيب طريقها إلى النجاح بدون أن تأخذ تلك الضجّة التي أثارتها مسألة الاستنساخ البشري، ولذا نجد فقهاء الشريعة وغيرهم من أصحاب المدارس الوضعية تعاملوا مع هذه المسألة بكثير من الهدوء والطمأنينة، وصدرت منهم الإجابات التي شجّعت على مثل هذا العمل بما يتناغم وينسجم و طريق سعادة البشرية، وخاصّة إذا كان مثل هذا العمل يوفر لبني البشر الحياة الأسرية السعيدة، مع غض النظر عن الجوانب السلبية التي أحاطت العملية المذكورة، فما من شيء في عالمنا إلاّ ويحمل بين طياته، الإيجابية والسلبية، ولا تتم لنا السعادة في شيء إلاّ إذا اقتدينا بالجوانب الإيجابية، وطرحنا سلبيات العمل وراء ظهورنا، ولكن،حين وصل الأمر إلى الإستنساخ البشري ولوازمه المستخدمة والقاتلة، أُربكت البشرية جمعاء، بما فيهم المجتمعات اللادينية.

ما هو الاستنساخ؟

الاستنساخ عبارة عن أخذ نواة من خلية جسدية حيوانية، من أي عضو من أعضاء الجسم الحيواني عدا الأعضاء التناسلية من كائن حيواني (لا بشرط)، وبالطبع فإن هذه النواة تحمل جميع الصفات الوراثية المعّبر عنها بالجينات لذلك الكائن الحيواني . ثم يتم زرع هذه النواة في بويضة غير مخصبة من خلية جنسية؛ قد فرغت نواتها بشكل كامل، مع الحفاظ على محيطها الغذائي المعبّر عنه بالسايتوبلازم فيتم من خلال هذهِ العمليةِ تنشئة الجنين أو المخلوق الآخر، الذي يكون نسخة طبق الأصل للكائن الحيواني التي أخذت منه تلك النواة، كالكتاب الذي منه آلاف النسخ، فيؤتى بها متشابهة تمام الشبه لأصله.

وإن شئت فقل: إن عملية الإستنساخ البشري تتلخص خطواتها بنقل النوات التي تحتوي على سرّ الحياة من خلية حيوانية جسدية إلى خلية حيوانية جنسية أنثوية(بويضة)، ثم إعادتها بعد التلقيح إلى رحم امرأة أُخرى ليحصل الجنين بعد ذلك، كما في الطريق الطبيعي الحاصل بإذن الله تعالى.

وقد عُرّف الإستنساخ البشري على ما قررته مؤسسة مجمع الفقه الإسلامي، ما نصّه: «من المعلوم أن سنّة الله في الخلق أن ينشأ المخلوق البشري من اجتماع نطفتين اثنتين، تشتمل نواة كل منهما على عدد من الصبغيات (الكروموسومات)، يبلغ نصف عدد الصبغيات التي في الخلايا الجسدية للإنسان، فإذا اتحدت نطفة الأب (الزوج) التي تسمّى الحيوان المنوي بنطفة الأُم (الزوجة) التي تسمّى البويضة؛ تحولتا معاً إلى نطفة أمشاج أو لقيحة، تشتمل على حقيبة وراثية كاملة، وتمتلك طاقة التكاثر، فإذا انغرست في رحم الأُم تنامت وتكاملت، وولدت مخلوقاً مكتملاً بإذن الله تعالى، وهي في مسيرتها تلك تتضاعف فتصير خليتين متماثلتين فأربعاً فثمانياً … ثم تواصل تضاعفها حتّى تبلغ مرحلة تبدأ عندها بالتمايز والتخصص، فإذا انشطرت إحدى خلايا اللقيحة في مرحلة ما قبل التمايز إلى شطرين متماثلين تولّد منهما توأمان متماثلان. وقد أمكن إجراء فصل اصطناعي لأمثال هذه اللقائح، فتولّدت منهما توائم متماثلة، ولم يبلغ بعد حدوث مثل ذلك في الإنسان، وقد عدّ ذلك نوعاً من الإستنساخ أو التنسيل، لأنّه يولّد نسخاً أو نسائل متماثلة، وأطلق عليه الاستنساخ بالتشطير.

وثمّة طريقة أُخرى لاستنساخ مخلوق كامل، تقوم على أخذ الحقيبة الوراثية الكاملة على شكل نواة من خلية من الخلايا الجسدية، وإيداعها في خلية بيضة منزوعة النواة، فتتألف بذلك لقيحة تشتمل على حقيبة وراثية كاملة، وهي في الوقت نفسه تمتلك طاقة التكاثر، فإذا غرست في رحم الأُم تنامت وتكاملت وولّدت مخلوقاً مكتملاً بإذن الله تعالى. وهذا النمط من الاستنساخ الذي يعرف باسم (النقل النووي) أو (الإحلال النووي للخلية البيضية)، وهو الذي يُفهم من كلمة الاستنساخ إذا أطلقت، وهو الذي حدث في النعجة (دوللي)، على أن هذا المخلوق الجديد ليس نسخة طبق الأصل، لأنّ بيضة الأُم المنزوعة النواة تظل مشتملة على بقايا نووية في الجزء الذي يحيط بالنواة المنزوعة، ولهذه البقايا أثر ملحوظ في تحوير الصفات التي ورثت من الخلية الجسدية، ولم يبلغ أيضاً عن حصول ذلك في الإنسان.

فالإستنساخ إذاً هو: توليد كائن حي أو أكثر، إما بنقل النواة من خلية جسدية إلى بيضة منزوعة النواة وإما بتشطير بيضة مخصبة في مرحلة تسبق تمايز الأنسجة والأعضاء»([3]).

التمييز بين التلقيح الصناعي أو زراعة الأنابيب ومسألة الاستنساخ البشري

اتضح لنا أن جوهر وروح المسألتين واحد، ولكن الفارق الأساسي بينهما يكمن بأن تؤخذ في مسألة التلقيح الصناعي خلية جنسية مع خلية جنسية أُخرى، من طرفي الرجل والمرأة وتجري عملية التلقيح بينهما بشكل طبيعي، لينجر الأمر فيها إلى التلقيح الطبيعي فيتكون الجنين مشتركاً بين الصفات الوراثية لكل من الرجل والمرأة.

وأما في الاستنساخ البشري، فالمأخوذ من أحدهما والتي يراد الاستنساخ على ضوئها، هي خلية حيوانية جسدية من أي عضو من أعضاء الجسم الحيواني، والتي تحتوي على نواة حاملة معها (64) كروموسو، يجمع معه جميع الصفات الوراثية لذلك الكائن الحي، وبالتالي يتم حقن تلك النواة في خلية حيوانية جنسية أنثوية، وتفرّغ نواتها منها، ومن خلال الجمع بينهما يحصل على خلية حيوانية جنسية، نواتها من خلية حيوانية جسدية، ككائن حيواني ومحيطها الغذائي من نفس تلك الخلية الحيوانية الجنسية، وعن طريق التحفيز لانقسام تلك النواة يحصل تكوّن الجنين، فحينها يكون الجنين أو المخلوق الجديد مشابهاً تماماً لذلك الكائن الحيواني الذي أخذت النواة منه.

فاتضح أن كل من التلقيح الصناعي وزراعة الأنابيب، ومسألة الاستنساخ البشري من حيث روح العمل فيها واحد، لكن الطريقة التي تكوّن فيها الجنين لكل منها يختلف عن الآخر اختلافاً جذرياً. لذا فإن خطورة الاستنساخ البشري، لم تكن موجودة في مسألة التلقيح الصناعي الذي قبله علماء الشريعة قاطبة. قال السيد الخوئي+ في تكملة المنهاج كافي مسألة (45) ما نصّه: «يجوز تلقيح الزوجة بنطفة زوجها، نعم لا يجوز أن يكون المباشر غير الزوج إذا كان ذلك موجباً للنظر إلى العورة أو مسّها، وحكم الولد منه حكم سائر أولادهما بلا فرق أصلاً»،وقال في مسألة أرفع من سابقتها، ما نصّه: «يجوز أخذ نطفة رجل ووضعها في رحم صناعية وتربيتها، لغرض التوليد حتّى تصبح ولداً، وبعد ذلك، هل يلحق بصاحب النطفة؟ الظاهر أنه يلحق به وثبت بينهما جميع أحكام الأبوة والبنوة، حتّى الإرث، غاية الأمر أنه ولد بغير أُم» ([4]). وفي سؤال آخر محصله: التلقيح الصناعي الذي يحصل في الأنابيب بواسطة الجمع بين مائَي الزوج والزوجة هل هو جائز؟ يقول السيد الخوئي: «لا بأس به في نفسه، ما لم يلازم محرماً، والله العالم»([5]).

وهنا ملاحظة مهمة جداً، يمكن أن تشكّل فارقاً أساسياً بين التلقيح الصناعي والاستنساخ البشري، وهي أن التلقيح الصناعي ولادة بمساعدة ماء الرجل، وهذا بخلاف الاستنساخ البشري، فإنها ولادة من غير ماء الرجل، لأن المحور في العمل فيها هي الخلية الحيوانية الجسدية لا الخلية الجنسية.

التأثيرات الميدانية لظاهرة الاستنساخ في المجتمعات البشرية

1 ـ إن من سمات المجتمعات الإنسانية ضرورة الاختلاف والتمايز بين أبنائها، والاستنساخ البشري يلغي هذهِ النسخة من أساسها، وبالتالي تضحى المجتمعات البشرية مجتمعات بلا تمايز ولا اختلاف بين أبنائها.

2 ـ يترتب على ما تقدم اختلال النظام العام، الذي تسير عليه البشرية جمعاء، وحصول الهرج والفوضى، لأجل تشابه النسخ بين أفرادها.

3 ـ في جريان المعاملات التي يفرزها كون الإنسان مدنياً بطبعه، لا يمكن وفق عملية الاستنساخ البشري أن يتم التمييز بين طرفيها، وبسقوط المعاملات تتوقف عجلة الحياة بأسرها، لأن الحياة البشرية بجميع أبنائها قائمة على وقوع المعاملات بينها.

4 ـ وفق عملية الاستنساخ البشري تذهب الحقوق بين أفراد النوع الإنساني، وبسقوطها يسقط الحق والعدل القائم عليها، وعندها لا يملأ هذهِ المجتمعات إلاّ الظلم والجور بين أبنائها.

5 ـ وفق عملية الاستنساخ البشري تسقط الأنساب والمواريث حيث لا يتميّز الولد عن الأجنبي.

6 ـ إن الأطباء والعلماء المختصين في هذا الميدان يتحملون بدرجة كبيرة تشوّه خلق الإنسان أو اختلاف نظام تركيبه الهرموني أو الأعضائي أو غيرهما، عن طريق عملية الاستنساخ البشري، ولحدّ الآن لم يستطيعوا التخلّص من هذه المشكلة العويصة، لأنّ انضباط التركيبة الفسلجية غير مضمون بواسطة الهندسة الوراثية، وحتى لو تخلّص العلماء من هذه المشكلة في المستقبل ـ وهي قيد الدراسة إلى زماننا هذا ـ فمن يضمن بعد نجاح تطبيقها أنْ لا تحمل بين طياتها أضراراً كبيرة وأخطاراً فادحة، كما حصل في جنون البقر في بريطانيا، حيث كان سبب المرض حصيلة تغذية وصفت بأنها مفيدة وعلمية، تعطى للأبقار لأجل أن يشتد الدر في ألبانها مع نموها سريعاً، وكبر وزنها، كي تستحصل من خلال ذلك الأرباح، ولكن نتيجة هذا العمل كانت سلبيةً وعكسية، حيث أدّت بعد فترة من تناولها إلى اضطراب شديد في حياة البقر، وضعف قوائمها عن العمل، وفساد فطرتها مما أدّى إلى جنونها.

7 ـ من الأمور الشديدة الإنكار في هذه العملية هو العبث في الخلقة.

8 ـ ومن نتائج الإ ستنساخ البشري، التكثّر لشخصية واحدة بأعداد كبيرة.

أـ نظرية تحريم الاستنساخ البشري، الأدلّة والشواهد

1 ـ إشكالية تغيير خلق الله

الدليل الأول: قوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا*لَعَنَهُ اللَّهُ ۘ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا*وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (النساء: 119).

فالاستنساخ تغيير لخلق الله تعالى، و حيث إن تغيير خلق الله تعالى محرّم، لأنه مما يأمر به الشيطان على ما يقتضيه ظاهر هذه الآية، ومعلوم أن الشيطان لا يأمر إلاّ بالفحشاء والمعاصي،يكون مثل هذا العمل محرماً ومنهياً عنه في الشريعة لا محالة.

لكن يناقش بأن الكبرى وإن كانت تامّة، لكن تطبيقها على هذه الصغرى ليس تاماً، لأن العملية المذكورة ليست من باب الخلق والإيحاء، بل لا تتعدى العمل الإعدادي ليس إلاّ، فهي إن صح التعبير عملية تلقيح صناعي ولكن بطريقة أُخرى.

وإن شئت فقل: إنها تلقيح صناعي معدل، تنقل فيه النواة الحاملة للصفات الوراثية الكاملة لصاحب الخلية إلى داخل الخلية الجنسية (البويضة) مع تفريغها من النواة التي تحملها، والمحافظة على سائلها الخلوي (السايتوبلازم) لتعاد بعد ذلك عن طريق التلقيح إلى الرحم من امرأة أُخرى، ليحصل بعد ذلك الانقسام باتجاه تكوّن الجنين بالطريق الذي أراده الله تعالى، والذي يحدد اتجاه هذا الانقسام بهذا الطريق ـ أي بطريق تكوّن الجنين لا بطريق النمو ـ هو السائل الخلوي التي تحتويه تلك البويضة. فهذه العملية لا تتعدى حينئذٍ عملية التلقيح الصناعي، التي جوّزها العلماء وفق شروط خاصّة.

كما أن العمل المذكور قد يكون دليلاً على حقّانية القرآن الكريم، وقد ذكرت لنا بعض الآيات القرآنية في حق عيسى× أنه خُلِقَ لا عن طريق ماء الرجل، وهذه العملية كذلك، فيمكن القول: إن العلم الحديث بوسائله التقنية المتطوّرة وصل إلى سر من أسرار القرآن الكريم، وهذا عمل إيجابي وليس بسلبي، كما هو واضح.

ومع التسليم بما ذكر، والتنزّل عما قلناه، فإن الحدّ الأوسط لكل من الصغرى والكبرى غير متوفر في المقام، وبالتالي لا يصح الإستدلال المذكور، لأن صحة النتيجة والتصديق بها لا يتمّ فقط في سلامة المقدمات كما هو في الاستدلال المذكور، بل يشترط في صحتها ـ مضافاً إلى ذلك ـ تحقيق الواسطة في الإثبات، التي تفيد العلم بثبوت الأكبر للأصغر، وهو غير حاصل في المقام. فإن تغيير خلق الله تعالى في الصغرى يراد به الخلق والإيجاد، وأما في الكبرى فيراد منه الخروج عن حكم الفطرة، وترك تعاليم الشريعة التي جاء بها النبي الأعظم‘ وما سبقه من الشرائع السماوية الحقّة، وذلك يحصل بأمر الشيطان، بتحليل الحرام وتحريم الحلال الذي نصّت عليه الشريعة الحقّة.

والتفسير المذكور هو الذي دلّت عليه الآية القرآنية: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ (الروم: 30).

ومع عدم تمامية كلا المقدمتين، بالوجهين المذكورين، لا يتم لنا الاستدلال المذكور.

2ـ الحظر الأخلاقي للاستنساخ

قد يُقال في حرمة الاستنساخ البشري، كما قيل في حرمة الإخصاب الصناعي، أو ما يسمى بأطفال الأنابيب، من أن كل من التلقيح الصناعي ومسألة الاستنساخ تشكّل جريمة كبرى ضد مسألة الزواج وبناء الأسرة والمجتمع([6])،فالحرمة ناشئة من الحرمة الأخلاقية.

ويناقش بأنه لا ملازمة بين الحرمة والقبح الأخلاقي والحرمة الشرعية، التي هي كل كلامنا الذي نحن فيه، مع أنه في مسألة التلقيح الصناعي قد يكون الأمر عكس ما ذكر، ولذا جوّز فقهاء الشريعة والقانون مسألة أطفال الأنابيب تحت ظروف خاصّة وبشروط معينة، والأمر عندهم محل اتفاق.

 

3ـ منع السنّة النبوية عن ممارسة الاستنساخ

يُستدل على حرمة الاستنساخ البشري برواية أُوردها عن طريق أهل السنّة،جاءت في صحيح البخاري عن النبي‘ أنه قال: قال الله تعالى: «ومن أظلم ممن ذهب بخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا شعيرة»([7]).

فالاستنساخ محاولة من بني البشر أن يخلقوا مثل خلق الله تعالى، ولازم ذلك أن يجعل البشر من نفسه نداً لله تعالى، وهذا من أوضح وأعلى مصاديق الظلم. وبمقتضى قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، يثبت المطلوب من حرمة العمل المذكور.

ويجاب عليه: أن الاستنساخ البشري، من سنخ الإعداد لا الخلق والإيجاد كما هو واضح. كما أن قاعدة الملازمة التي أثبت المستدل عن طريقها حرمة الاستنساخ البشري، تُعَدْ من أكذوبات القواعد الأصولية التي اشتهرت على لسان أصحاب الفن، والتحقيق في هذا الأمر مذكور في علم الأصول.

4ـ الحظر القرآني للاستنساخ

قول تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (الروم: 22).

إن مقتضى القول بالاستنساخ هو عدم التمايز والاختلاف بين النسخة والأصل، وهذا مخالف لما اقتضتها حكمة الله سبحانه وتعالى كما هو ظاهر الآية المتقدمة، حيث إن التمايز والاختلاف ضرورة من ضرورات المجتمع الإنساني بين أفراد بني الإنسان. هذا ومضافاً إلى أن والنظام العام متوقف عليها. وعليه يكون الاستنساخ البشري من الأمور التي توجب اختلال النظام وحصول الهرج والفوضى. فمثلاً في باب النكاح يختلط الأمر بين الزوج والأجنبية، وبين المحرم وغير المحرم، وهكذا في بقية المعاملات، حيث لا يمكن تمييز طرفيها، فلا يعرف الموجب من القابل، وكذا في القضاء والشهادات لا يمكن تمييز المدُعّي من المدعى عليه، وهما عن الشهود، والملاك عن غير الملاك. وهكذا في بقية الأمور كالمدارس والإدارات والامتحانات، حيث يسهل إرسال النسخ بدل الأصل، فتضيع الحقوق، وكذا في الأنساب والمواريث حيث لا يتميّز الولد عن الأجنبي. كما أن النسخ لا يعتبر ولداً شرعياً، فتضيع الأنساب والمواريث، وقس على ذلك في كل جوانب الحياة المختلفة حيث لا يبقى نظام ولا مجتمع([8]).

لكنّ هذا الكلام وإن كان حقاً،بيد أنه غير ناظر إلى العنوان الأولي الذي هو محل الكلام، فما وقع من المستدل لم يقصد، وما قصده خارج تخصصاً، ولا يلتفت إلى مَن قال: «إن الهندسة الوراثية لو أعملت لاستلزمت ممانعة حصول الفوارق، فقد يكون فوارق من جهة ما يستحسنه كل ما يفارق الآخر، فينحفظ الفارق. مضافاً إلى عدم الفارق بين التحسين وأكل السفرجل أو طريقة الاستنساخ، إذ تحسين الخلقة أمر مرغوب فيه شرعاً فلا ينافي أغراضه»([9]).

لأن المذكور أعلاه خلاف المدعى، فإن تمّ كلامه فلا نزاع في المقام حتّى يقع فيه خلاف بين مَنْ يحلله ويحرمه، وهذا منه غريب جداً.

ولنا وجه على التحريم، وإن كان يرجع إلى ما قاله المستدل، ولكن بغير الطريق المذكور في المقام وسيأتي بيانه لاحقاً.

5ـ الاستنساخ ومعجزة خلق عيسى×

قد يُستدل على حرمة الاستنساخ البشري عن طريق معجزة النبي عيسى× في ولادته. فإن تحدي القرآن الكريم لمعجزة النبي عيسى× في تحققه في الدنيا من غير ماء الرجل يمنع من التصديق بوقوع الاستنساخ البشري خارجاً، لأنه على القول به يلزم منه تحقق الجنين بنفس طريق المعجز الذي كان للنبي عيسى، وهذا يلزم أن لا تكون المعجزة التي كانت للنبي عيسى بمعجزة. لأن المعجزة هي ما يعجز الخلق عن الإتيان بمثله، أما صِرْفاً، وإما أن تكون ليست من مقدورات البشر لعدم قوة النفس وخواص الأسماء([10]). فالتصديق بما حصل لعيسى× من المعجزة الإلهية يلازم امتناع التصديق بالاستنساخ، وهذا المعنى يلازم حرمته شرعاً.

ويناقش بأن وقوع الإستنساخ البشري خارجاً ليس معناه بطلان التحدي بالمعجزة الإلهية التي حصلت لعيسى في ولادته، لأن الإستنساخ كما تقدم هو عبارة عن تلقيح صناعي معدل، فيكون من باب الإعداد، لا من باب الإيجاد والخلق، حتّى يخل في مسألة التحدي بالمعجزات الإلهية. ولا يلتفت إلى قول مَنْ يقول: «إن الآيات الكريمة غير صريحة في أن ولادة عيسى× من غير أب هو المعجزة»([11]). فإن القرآن الكريم قد نصّ صراحة على كون ولادة عيسى من المعجزات الإلهية، قال تعالى: إِنَّ مَثَلِ عِيسى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدِم وهذه قرينة لفظية على أن ولادة عيسى معجزة من المعاجز الإلهية.

6ـ الاستنساخ والتدخّل في الفعل الإلهي

قد يُستدل على حرمة الاستنساخ البشري عن طريق مدخل عقائدي، فإن الإستنساخ البشري يوصف القائم به أنه خالق وفاعل ـ وهذا نحو من أنحاء التشكيك في الدين، وتحدي لقدرة الخالق، وسدّ لباب معرفة الله تعالى، وتدخل في فعل الله تعالى وإذا كان كذلك حرم.

ويجاب بأن اللوازم التي ذكرت لا موضوعية لها اصلاً في البحث العقائدي، لأن الطريقة المذكورة هي من باب الإعداد لا من باب الإيجاد والخلق حتّى يتم ما ذكر.

7ـ الاستنساخ وقطع الرحمة الأبوية

قد يستدل على حرمة الإستنساخ البشري بأن العملية المذكورة تؤدي إلى قطع الرحم، فإن تطبيق الإستنساخ البشري على مستوى الواقع الخارجي يلزم منه قطع الرحم، وانتفاء الرحمة الأبوية من طرف الأب والأم، وبالتالي مخالفة ذلك لأغراض الشارع المقدّس التكوينية.

وفيه: أن مسألة الاستنساخ البشري تقع في طريق موازاة التلقيح الصناعي، لا أنها تقع في النقطة المقابلة لها، فكما أن العمل بالتلقيح الصناعي جارٍ على مستوى العمل الخارجي، ولم يلزم منه المحذور المتقدم فكذا الإستنساخ ولذا فإن عملية الإستنساخ البشري لا تتعدى التلقيح الصناعي المعدل.

8ـ الإستنساخ وتشوّهات الخلقة

قد يُستدل على حرمة الاستنساخ البشري عن طريق النظر إلى نفس نتاج العملية المذكورة. فإن ما ثبت عند أصحاب الاختصاص في مجال الطب، أن انضباط التركيب والفسلجة وغيرها غير مضمون بواسطة الهندسة الوراثية، مما يجعل عملها بالطريقة المذكورة موجباً لتشوّهات في الخلقة الإنسانية التي خلقها الله تعالى في أحسن تقويم بمقتضى قاعدة «كل يعمل على شاكلته» فلا يوجد في الإمكان أبدع مما كان من خلق الإنسان.

ولا زالت التشوّهات التي تنتجها هذه العملية خارجة عن مجال السيطرة عليها. وإذا كان الأمر كذلك فلا مانع من حرمتها.

ونقول: إن هذا الكلام وإن كان مقبولاً، ولكنه مفروض الدعوى، وإبداء نظر الشرع فيه يكون بعد النجاح وتحقق العمل بها في واقع الناس الاجتماعي. فيكون الدليل المذكور خارج تخصيصاً لا تخصصاً.

9ـ الاستنساخ والتصرّف في ملك الغير

وقد يستدل على حرمة الاستنساخ البشري عن طريق حرمة التصرف فيما هو في يد من صاحب الخلقة؛ فإن الإنسان ليس مالكاً لجسده، بل وكيلاً وقيماً من الله تعالى عليه، فالأصل الأولي عدم جواز تصرفه إلاّ بما قد أذن له في ذلك، ولا دليل على مثل ذلك التصرف، وقد استحسنه بعض وقال عنه: إنه متين([12]) .

وفيه: إن التصرف المحرم، هو التصرف المستلزم للضرر المعتدّ به لا كل ضرر ابتنى عليه الدليل، فلا يتمّ وجه الاستدلال به.

ب ـ نظرية إباحة الاستنساخ؛ الأدلة والمستندات

1ـ أصالة البراءة عن حرمة الاستنساخ

قد يستدل على جواز الاستنساخ البشري بأنه لا دليل على حرمة هذا العمل بحسب العنوان الأولي، فلو نجحت هذه الطريقة في تكوّن الجنين من غير ماء الرجل، فلا بأس بها إن لم تقارن محرماً([13]) .

وفيه: إن عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود، وسيأتي ـ بعد استعراض أدلّة القائلين بالحرمة والجواز ومناقشتها ـ الدليل على حرمة هذا العمل بعنوانه الأولي إن شاء الله تعالى. وأما قوله: «عدم مقارنة هذا العمل المحرم» فهو محل اتفاق بين القائلين بالجواز والحرمة، ولا خصوصية له في المقام كما هو معلوم، فذكره أشبه بالزائد فيما نحن فيه.

2ـ عدم الضرر في عمليات الاستنساخ

قد يستدل على جواز عمليات الاستنساخ البشري بعدم الضرر من هذه العملية.

وفيه: إن الإستدلال المذكور ذكر على نحو القضية الشرطية، وكما هو ظاهر بأن القضية الشرطية صادقة وأن كذبت طرفيها، فيكون الجواب عن السؤال المطروح بجواز تلك العملية أو حرمتها، كلا جواب مضافاً إلى أن الذي ذكر هو خروج عن العنوان الأولي، الذي يدور حوله الحديث المذكور فما ذُكر في القضية الشرطية هو العنوان الثانوي لا غير.

3ـ فقدان عنوان الزنا وأمثاله في الاستنساخ

إن الذي ثبت حرمته بحسب ما ورد في النصوص الشرعية ما كان تكوّن الجنين يأتي فيه عن طريق الزنا، ويلحق به على الأحوط وجوباً تلقيح بويضة المرأة حيمن الرجل الأجنبي تلقيحاً صناعياً خارج الرحم، بحيث ينتسب الكائن الحي لأبوين أجنبيين ليس بينهما سبب محلل النكاح. وأما ما عدا ذلك (مما يرجع إلى استخدام نواميس الكون التي أودعها الله تعالى فيه، والتي يكون في استكشافها المزيد من معرفة آيات الله تعالى وعظيم قدرته ودقّة صنعته) فلا يحرم في نفسه إلاّ أن يقارن محرماً، فتكون حرمته بالعنوان الثانوي كالنظر إليه ولمس ما يحرم لمسه، فيكون محرماً لحرمة ذلك الأمر([14]).

وفيه: إن تعامل الفقيه مع الوقائع ـ وأخصّ منها المسائل المستحدثة على وجه الخصوص ـ ليس منحصراً بتلك الدائرة التي ذكرها المستدل ضمن استدلاله المذكور، كما هو واضح لمن تتبع مناهج المعرفة عند الفقيه في كيفية تعامله مع المسائل المستحدثة، فإن فقهاء الشريعة والقانون ذكروا طرقاً قد أحصيناها إلى عشرة طرق فما فوق في كتاب مستقل وضعناه بخصوص هذا الأمر. وسيأتي بيان أحدها ضمن الدليل الذي نريد أن ذكره بخصوص الإستنساخ البشري في آخر مناقشة أدلّة القائلين بالجواز والتحريم. وبالتالي يكون كلام المستدل من إباحة إنتاج هذا الكائن الحي بهذه الطريقة أو غيرها مما يرجع إلى استخدام نواميس الكون التي أودعها الله تعالى فيه، لا وجه له.

 

4ـ الحثّ الشرعي على تحسين الخلقة

إن تحسين الخلقة أمر مرغوب فيه في الشريعة، سواءً كان من الناحية البدنية أم الروحيّة، نظير ما ورد من أكل الحامل للسفرجل وكذا ما ورد من الجماع في ساعة معينة، أو على وضوء الروايات الواردة في استحباب الجماع في أيام التشريق في الحج والصوم فهذه الروايات تدلّ بظاهرها على أن الشريعة ترخّص في كل أمر يصلح أن يكون طريقاً لتحسين الخلقة، والإستنساخ من تلك الطرق التي أوجدها العلماء المختصون لتحسين الخلقة

ونقول: إن ما ذكر من الكبرى، وإن كان تامّاً ولا نزاع فيه بين أحد ممن تصفّح روايات أهل البيت والسنّة المطهرة فضلاً عن مَنْ تفقه فيها إلاّ أن الخلل في تطبيقها على صغراها،حيث إن التجارب العلمية في مختبرات البحث العلمي تثبت للإستنساخ العكس مما قيل في الإستدلال تماماً، حيث إن الأطباء أجمعوا بحسب تجاربهم أن انضباط التركيبة الفسلجية في خلايا الإنسان الجسدية والجنسية غير مضمونة النتائج بواسطة الهندسة الوراثية، وأن التشوهات الحاصلة من هذهِ العملية قد حيّرت أصحاب الاختصاص إلى يومنا هذا. فتشبيه مسألة الإستنساخ البشري بأكل السفرجل مثلاً أو الجماع في ساعات محددة، ناشئ من القصور في المبادئ التصورية لمسألة الاستنساخ البشري ليس إلاّ.

 

5ـ اختيار الزوجة وتحسين النسل

إن الروايات الواردة تنصّ على اختيار الزوجة من الأقوام المختلفة، وهذا يصبّ في تحسين النسل البشري وتجويد الجينات، وكذا الإستنساخ البشري يقع في هذا الطريق.

إن الخلل المذكور في الإستدلال هو من ناحية المبادئ التصورية للمسألة المتنازع فيها، لا في مبدئها التصديقي الذي ذكره المستدل، فإن التسليم بكبرى القياس المذكور مما تسالم عليه الجميع فضلاً عما استدلّ به من النصوص.

 

6ـ الاستناد إلى السيرة العقلائية في الترخيص بالإستنساخ

لقد قامت المسيرة العقلائية على تخصيب الحيوانات من زمن الشارع حتى يومنا هذا. لم تمانع في إجراء تخصيب الحيوانات، حيث يُلقّح فصيل نجيب جيد منها بفصيل آخر لكي ينجب الفصيل المتولد بأخذه الصفات الجيدة من الفصيلين المتلاقحين، كما هو الحال في البغل أو بعض أنواع البقر وغيره. وهذا مما يدلّ على مشروعية غرض الهندسة الوراثية التي هي تحسين الخلقة، خاصة أن مثل هذه السيرة كانت جارية من زمن الشارع إلى يومنا هذا.

وفيه: إن سُلّم بما يدعى من جريان هذه السيرة العقلائية في زمن الشارع في أمر تهذيب الحيوانات لإنتاج ما هو الأفضل منها، إلا أن الغفلة حصلت من المستدل عندما قاس أمر الحيوان، الذي لا تكاليف إلهية عليه بالإنسان، صاحب التكاليف الإلهية والشرايع السماوية والمجتمعات البشرية ذات النظم العقلائية، فإن كل من قاس الحيوانات بالإنسان، يجد الفارق بينهما لا متناهي، فكيف جوّز مثل هذا الأمر بالإنسان بعد أن جوزه في الحيوان؟! وهذا منه في غاية الغرابة.

وهكذا الحال في الاستدلال بالسيرة في النباتات من عملية التركيب بين أغصان الشجر المختلفة في النوع وغيرها من عمليات التطوير والتغيير في النباتات، فإن هذا يدلّ بإطلاقه على قبول مطلق التغيير في الخلقة التكوينية الإلهية، ومنها إباحة تكوين الجنين عن طريق الاستنساخ البشري، فلا مانع من هذا العمل إن كان يسير باتجاه الأحسن([15]).

وفيه: إن الكلام المتقدم عارٍ عن الصحة، ولا يحتاج إلى تعليق، فإنّه في غاية السقوط لما عرفت من المواقف المتقدّمة من هذا البحث، فإنّ مقايسة ما نحن فيه بالنباتات لا يخطر على الذهن أصلاً، فكيف تمم به المستدل الاستدلال لا أعرف؟!

7ـ الاستنساخ سبيل لإثبات حقيقة القرآن

إن الاستنساخ هو تكوّن الجنين من غير ماء الرجل، والقرآن الكريم دلّت آياته الكريمة على ولادة عيسى× بنفس هذا الطريق، الذي لم تجد له البشرية لحدّ الآن تفسيراً واقعياً علمياً، فجاءت تجربة الاستنساخ برهاناً حول هذه القضية. وعليه يكن الاستنساخ البشري طريقاً لحقانية القرآن الكريم، فلا مانع من تطبيق هذا العمل خارجاً.

وفيه: إن طريق إثبات حقانية القرآن الكريم لا تنحصر بقبول مسألة الاستنساخ البشري والعمل بها خارجاً. فإن حقانية القرآن الكريم مستبطن بالنظر إلى نفس آياته، فإنه قرآن يصدق بعضه بعضاً، ولا يحتاج إلى مَنْ يصدقه من الخارج. قال تعالى: أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً .

كما أنّ الطريقتين المذكورتين في تكوّن الجنين، أعني طريقة الاستنساخ البشري التي لم تثبت واقعيتها في ميدان العمل بعد، وطريقة ولادة مريم لعيسى×، التي تحدّى بها القرآن المشركين، لا وجه للمقايسة بينهما لا من قريب ولا من بعيد، فإن ولادة عيسى كانت بطريق غيبي وعملية الإستنساخ البشري ـ إن وجدت ـ فهي بطريق مشهود ومعلوم عند الجميع، وأين هذا من ذاك؟!، كما أن الشبه في النسخة التي تعطيها عملية الإستنساخ البشري غير موجود في حق عيسى ومريم‘، وربط المستدل هذا بذاك من الغرائب التي لا دليل عليها إلاّ الاستحسان، هو غير نافع في مدرسة أهل البيت^ .

الاستنساخ في ضوء نظرية مقاصد الشريعة

إن للشارع المقدس أغراضاً وسنن تكوينية، وهذه السنن والأغراض الإلهية تقع في طول التشريع ومؤدى هذا الأمر، أن كل أمر وغرض تكويني يعلم أنه من فعل الله سبحانه وتعالى سواءً بطريق الكتاب العزيز أم بطريق السنّة المعتبرة أم بغيرهما، فلا يمكن أن يصادمه التشريع الإلهي، بل لابدّ أن يكون في وفاق معه وتناسب، لأن التشريع الإلهي كما لا يصادم الفطرة،كذا لا يصادم السنن التكوينية الإلهية، وهذا ما اصطلح عليه: إن كل ما عُلِمَ وقطع أو حكم العقل أنه غرض تكويني لله تعالى؛ فلابدّ أن يكون الغرض التشريعي مناسباً له.

ومحصل الكلام: «إن كل ما يخالف أغراض التكوين فإنه لا مسوّغ له شرعاً في تجويزه والعمل به».

وهذه القاعدة على غرار قاعدة «ما حكم به العقل حكم به الشرع» ولكن ما نحن فيه في مورد العقل النظري، والقاعدة الثانية في مورد العقل العملي.

وبيان هذا الأصل المبني على مقاصد الشريعة، هو أن التشريع لتكميل الحقيقة التكوينية لا المصادمة مع كمالاتها، لما تقرر من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد، وأنّها ألطاف لتكميل الشارع «فعل ما» يتناقض مع تلك الأغراض التكوينية، المخبر عنها في الكتاب والسنة أو التي حكم بها العقل النظري وأدركها.

إذا عرفت ذلك، فنقول: أن جميع اللوازم المذكورة لمسألة الإستنساخ البشري والتي تتنافى مع ما هو في طريق الكمال، لا يمكن أن تكون أغراضاً للشريعة، وأكثر من ذلك، هي من الأمور التي عُلِمَ أن الشريعة لا تسوّغها، فتكون هذه اللوازم غير سائغة للشريعة حتى لا تكون مصادمة للأغراض والسنن التكوينية. وبالتالي تكون عملية الإستنساخ البشري محرمة تشريعاً، وإن بيان تلك اللوازم الناتجة من عملية الإستنساخ التكوينية فهي ما جاء في مجموع من الآيات في الكتاب الكريم من تكريم الإنسان وتسخير كل شيء له. منها قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالأَْرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لآَياتٍ لِلْعالِمِينَ} ( الروم: 22) وغيرها من الآيات([16]).

وفيه: «بطلان أصل النظرية المسماة بنظرية المقاصد، لكون الأساس التي ابتنيت عليه هو القياس والاستحسان، الذي ثبت بطلانه في علم الأصول».

النظرية المختارة في الإستنساخ البشري

فالصحيح عدم صحّة أي دليل على التحريم ولا الحلية، لكن بيد الفقيه صلاحية المنع عندما يجد الحاجة لإصدار أحكام ولائية في هذا الصدد.

الهوامش

(*) أستاذ الفلسفة في الحوزة العلمية في قم، من العراق.

([1]) جامع أحاديث الشيعة: ج1، م133 ـ 143.

([2]) والذي قام بهذه العملية هو العالم الاسكوتلندي (آيان ويلمون).

([3]) ما صدر من مؤتمر مجمع الفقه الإسلامي في شهر صفر 1997م.

([4]) منهاج الصالحين، ج1: 427.

([5]) صراط النجاة: ج3: 269.

([6]) الاستنساخ في ميزان الشريعة الإسلامية: 17.

([7]) صحيح البخاري، ج8: 218.

([8]) صراط النجاة، ج3: 394.

([9]) فقه الطب: 100.

([10]) الفتوحات المكية، ج1 :275.

([11]) فقه الطب، الشيخ محمد السند: 102.

([12]) المصدر السابق: 115.

([13]) من فتاوى آية الله السيد كاظم الحائري (حفظه الله).

([14]) فقه الاستنساخ البشري لآية الله السيد محمد سعيد الحكيم: ص18.

([15]) المصدر نفسه.

([16]) الفرقان: 54، المرسلات:20، الطارق:6، النور:45، النجم:46، القيامة:37، الواقعة:58.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً