أحدث المقالات

إمامة أهل البيت طبقاً للمنهج الاستقرائي نموذجاً

ـ القسم الأوّل ـ

د. الشيخ صفاء الدين الخزرجي(*)

خلاصة ــــــ

تناولت هذا الدراسة إثبات قابلية الفكر الكلامي للتجديد على صعيد المنهج الاستدلالي وأدوات الاستدلال العلمي، وذلك من خلال تطبيق المنهج الاستقرائي وحساب الاحتمالات؛ لإثبات واحدة من أهمّ مسائل علم الكلام التي طالما احتدم حولها الصراع الفكري بين المسلمين، ألا وهي مسألة الإمامة، وإمامة الأئمة الاثني عشر، وذلك من خلال تطبيق الخطوات الخمس المتَّبعة والمعروفة في المنهج الاستقرائي على مسألة إمامة الأئمة الاثني عشر^، وتوظيف كلّ ما يمكن التمسُّك به لذلك ـ من النقل والعقل والاعتبار ـ، واعتباره قرينة ظنية تفيد قيمةً احتمالية، تُضاف إلى باقي القيم الاحتمالية حتّى نصل إلى اليقين بصحّة الفرضية المختارة، وضآلة الاحتمال المخالف لها.

مدخلٌ ــــــ

 المراقب لحركة علم الكلام الاسلامي يجد أنه قد أُشبع البحث في مسائل هذا العلم بكلّ اتجاهاته، الأشعري والمعتزلي والإمامي وغيرها ـ طوال الألفية الهجرية الماضية ـ، وفقاً للمنهج الاستدلالي القياسي المدرسي؛ ولذا لم يعدّ الجهد الكلامي المبذول ما بعد زمن العلامة الحلي في القرن الثامن الهجري وما بعده ـ عدا المائة الأخيرة ـ في كثير من إسهاماته يحتوي على إضافات مضمونية أو منهجية جديدة في هذه المسألة، فهو لا يتجاوز أن يكون إعادة تظهير وإنتاج جديد للبحث السابق، ولكنْ بصياغات أكثر وضوحاً وأبلغ بياناً من ذي قبل، وهذا لا يلغي بالطبع أن تكون هناك محاولات تجديدية أو تعميقية في بعض نواحي هذا البحث([1])، إلاّ أنّ السمة العامّة هو ما ذكرناه؛ وذلك بسبب توقُّف البحث الاجتهادي والتخصُّصي في علم الكلام منذ القرن الثامن على جهود العلامة الحلّي الكلامية ومدرسته، حيث تمّ التركيز على اختصاصين فقط من بين سائر الاختصاصات الإسلامية الأخرى، ألا وهما: الفقه؛ والأصول.

والسؤال المطروح بشكل أساس هو ما يلي: هل يمكن التجديد في مسائل ومناهج الاستدلال الكلامي باستحداث موضوعات كلامية جديدة ومناهج استدلالية إثباتية مختلفة عن المنهج التقليدي والمدرسي السائد، أو محاولة تطويره والارتقاء به، أم أنّ البحث الكلامي قد توقَّف واستوفى غرضه على صعيد المنهج والمضمون معاً، ولم يعُدْ يمكن تقديم شيءٍ جديد فيهما؟

والجواب: أجل، إنّ التجديد المنهجي والمضموني ممكنٌ، بل واقع، وإنْ كان جزئياً ومحدوداً وبطيئاً.

أمّا التجديد المضموني فهو ما طرح على بساط البحث الكلامي أخيراً، وعرف بمسائل الكلام الجديد، بناء على استبعاد فرضية أنه علم كلام جديد مستقلّ برأسه مقابل علم الكلام القديم، كما هو مختار بعض الأعلام المعاصرين([2]).

وأمّا التجديد المنهجي فهو ما طرحه السيد الشهيد الصدر في المنهج الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات وتجميع القرائن الظنية، وطبّقه على بعض المسائل الكلامية في التوحيد والنبوة.

والدراسة الماثلة هي محاولةٌ تطبيقية جديدة لهذا المنهج في مسألة الإمامة، وبالتحديد مسألة إمامة الأئمة الاثني عشر^. ويعتبر البحث في موضوعة الإمامة من الموضوعات بالغة الأهمية في الفكر الكلامي لدى المسلمين عامّة، حتّى قيل: إنّ «أعظم خلاف بين الأمّة خلاف الإمامة؛ إذ ما سُلّ سيفٌ في الإسلام على قاعدة دينية مثلما سُلّ على الإمامة في كل زمان»([3])؛ وذلك لأنّ الوضع في كلّ مذهب من المذاهب إنّما يتقرّر في ضوء هذه القاعدة خاصة؛ ولذا عدّها الإمامية من الركائز ومن أصول الدين([4])، وكرّسوا جهدهم الكلامي من أجل تثبيتها، حتّى عُرفوا بين المذاهب بـ (الإمامية) نسبةً إليها، وذلك لوفرة النصوص الواردة بشأنها من الفريقين، ممّا يضع الباحث ـ أيّاً كان اتجاهه ـ أمام مسؤولية دراستها ومعالجتها بمنهجية علمية دقيقة، ومن ثم تحديد الموقف الصحيح إزاءها، باعتبار تواترها سنداً، وأهمية مضمونها دلالة، لأنّها تريد تحديد مصير أُمّة ومستقبل رسالة، ومن هنا فليس من الوارد إطلاقاً إهمالها، أو المرور عليها مرور الكرام، أو تقديم معالجات سطحية فيها.

السابقة التأريخية لتطبيق المنهج الاستقرائي في علم الكلام ــــــ

لا شَكَّ أنّ محاولة إدخال المنهج الاستقرائي لأول مرّة في دائرة المعارف الدينية والعلوم الشرعية يرجع إلى فترة قريبة، وذلك على يد السيد الشهيد الصدر&. ويعدّ هذا الانجاز العلمي بحقٍّ من إبداعاته القيِّمة، التي حقّق من خلالها نقلة نوعية على مستوى المنهجية الاستدلالية في هذه العلوم، وليس على مستوى الاستدلال فحَسْب، كما سيأتي التمييز بينهما في كلامه.

وقد بدأ الشهيد الصدر بذرة إبداعه هذا في علم الأصول، ثم شيّد أُسسه النظرية في كتابه القيّم «الأسس المنطقية للاستقراء». فلقد «تعرَّض السيد الصدر ضمن أبحاثه الأصولية ـ لدى مناقشته للأخباريين في مدى حجّية البراهين العقلية ـ إلى نمط التفكير المنطقي الأرسطي، ونقده بما لم يسبق إليه أحدٌ، وبعد ذلك طوّر من تلك الأبحاث، وأكملها، وأضاف إليها ما لم يكن يناسب ذكره ضمن الأبحاث الأصولية، فأخرجها باسم «الأُسس المنطقية للاستقراء»([5]). ثم قام بتطبيق هذه النظرية في عدّة مجالات معرفية وعلوم شرعية، نكتفي بالإشارة إلى عناوينها فقط، وهي:

أـ نظرية المعرفة([6]).

ب ـ علم الأصول([7]).

ج ـ علم الرجال([8]).

دـ علم الكلام([9]).

ولا نريد الخوض في هذه المجالات بشكلٍ تفصيلي([10])؛ لخروجها عن الغرض المقصود، ولكنْ نتوقَّف عند تطبيق هذه النظرية في علم الكلام؛ لمناسبته مع موضوع بحثنا؛ وأيضاً لكون البحث الكلامي هو الغرض الأساس في وضع أصل النظرية عند مؤسِّسها، أعني السيد الشهيد، كما سيتّضح لاحقاً.

نماذج تطبيقية للمنهج الاستقرائي في علم الكلام ــــــ

لقد أفاد الشهيد الصدر من المنهج الاستقرائي في أهمّ مسائل علم الكلام حساسية، ألا وهي مسألة إثبات الصانع سبحانه، فاتحاً بذلك باباً معرفياً واسعاً على مستوى المنهجية الاستدلالية في هذا العلم، وليس على مستوى الاستدلال فحَسْب؛ إذ ثمّة فرقٌ بين المنهجية الاستدلالية وبين الاستدلال ذاته، «فأنت قد تستدلّ على أنّ الشمس أكبر من القمر بأنّ العلماء يقولون ذلك، والمنهج هنا هو اتخاذ قرارات العلماء دليلاً على الحقيقة؛ وقد تستدلّ على أنّ فلاناً سيموت بسرعةٍ بأنك رأيت حلماً ورأيت في ذلك الحلم أنّه مات، والمنهج هنا هو اتخاذ الأحلام دليلاً على الحقيقة؛ وقد تستدلّ على أنّ الأرض مزدوج مغناطيسي كبير، ولها قطبان: سالب؛ وموجب، بأنّ الإبرة المغناطيسية الموضوعة في مستوىً أفقي تتجه دائماً بأحد طرفَيْها إلى الشمال وبالآخر إلى الجنوب، والمنهج هنا هو اتخاذ التجربة دليلاً. وصحّة كل استدلال ترتبط ارتباطاً أساسياً بصحّة المنهج الذي يعتمد عليه»([11]).

لم يقِفْ الصدر عند عتبة التنظير مكتفياً بتشييد نظريته فحَسْب، بل اقتحم ميدان التطبيق العملي، فكانت باكورة تطبيقاته في علم الكلام، وذلك من خلال التطبيقات التالية:

التطبيق الأوّل: إثبات الصانع تعالى ــــــ

وهذه المسألة تشكِّل ـ بلا شَكَّ ـ حجر الزاوية في علم الكلام الاسلامي، وفي الفكر الديني بشكلٍ عام؛ ولذا تكثَّفت جهود الفلاسفة والمتكلِّمين لإثباتها، كما تكثَّفت في مقابلها جهود الفكر الإلحادي لنفيها. والأدلة على إثباتها متنوعة وكثيرة، كان آخرها ما انتهى إليه السيد الشهيد الصدر من الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات، الذي أشار إليه في الأسس المنطقية، وأورده مفصّلاً في بحثه التمهيدي لرسالته العملية «الفتاوى الواضحة»، والموسوم بـ «موجز في أصول الدين».

وفي الأساس إن هذه المسألة كانت هي الباعث لدى الشهيد الصدر لوضع دراسته الشاملة في كتابه الفذّ «الأسس المنطقية للاستقراء»، الذي خلص فيه إلى القول في كلمته الختامية عن هذه الدراسة: إنها جاءت لتبرهن «على حقيقة في غاية الأهمية من الناحية العقائدية، وهي الهدف الحقيقي الذي توخَّيْنا تحقيقه عن طريق تلك الدراسة، وهذه الحقيقة هي: أنّ الأسس المنطقية التي تقوم عليها كل الاستدلالات العلمية المستمدّة من الملاحظة والتجربة هي نفس الأسس المنطقية التي يقوم عليها الاستدلال على إثبات الصانع المدبِّر لهذا العالم، عن طريق ما يتَّصف به العالم من مظاهر الحكمة والتدبير، فإن هذا الاستدلال ـ كأيّ استدلالٍ علميّ آخر ـ استقرائي بطبيعته»([12]). كما عرَّف السيد الشهيد كتابه الأسس في عنوانه الرئيسي بأنه: «دراسة جديدة للاستقراء، تستهدف اكتشاف الأساس المنطقي المشترك للعلوم الطبيعية وللإيمان بالله»، ممّا يعني بأنّ المنطلق العقائدي كان هو المنطلق الأساس لطرح نظرية الاحتمال والمنهج الاستقرائي في هذا الكتاب.

التطبيق الثاني: إثبات النبوّة ــــــ

وهي ثاني أهم مسألة في علم الكلام قام السيد الصدر بتطبيق نظريته فيها بخطواتها المتقدّمة. فهذا المنهج كما كان صالحاً لإثبات القضية الأولى في علم الكلام فإنه صالحٌ أيضاً لإثبات القضية الثانية فيه. فـ «كما ثبت الصانع الحكيم بالدليل الاستقرائي ومناهج الاستدلال العلمي كذلك تثبت نبوّة محمد‘ بالدليل العلمي الاستقرائي، وبنفس المناهج التي نستخدمها في الاستدلال على الحقائق المختلفة في حياتنا الاعتيادية وحياتنا العلمية»([13])، وذلك انطلاقاً من عقيدته بأنّه يمكن الإفادة من هذا المنهج في الكثير من العلوم والمعارف العقدية وغيرها.

لقد توقَّف الشهيد الصدرـ صاحب النظرية ـ في تطبيق المنهج الاستقرائي بشكلٍ صريح عند هاتين المسألتين في تراثه الكلامي، تاركاً الباب مفتوحاً وراءه لمزيدٍ من التطبيقات العقدية والكلامية.

التطبيق الثالث: إثبات كون الإمامة بالنصّ ــــــ

تعتبر مسألة كون الإمامة بالنصّ حجر الزاوية في نظرية الإمامة. وقد بحث السيد الشهيد الصدر هذه المسألة طبقاً للمنهج الاستقرائي، ولكنْ بشكلٍ غير معلن ومن دون تصريح بذلك، أي من دون أن يطبِّق خطوات المنهج الخمس على المسألة بشكلٍ واضح، كما فعل في بحث إثبات الصانع، وبحث النبوّة. ولكنّ روح البحث وسياقه كانت وفقاً للمنهج المذكور. ومن هنا فإن البحث في هذه المسألة بحاجةٍ إلى محاولة اكتشاف خطوات المنهج المضمَّنة داخل البحث، وإعادة تظهيرها وتطبيقها بشكلٍ منضبط ودقيق. ولعلَّنا نوفَّق لذلك في دراسةٍ أخرى.

محاولةٌ تطبيقية رابعة ــــــ

يمكن اعتبار موضوع البحث لإثبات إمامة الأئمة الاثني عشر^ طبقاً للمنهج الاستقرائي المحاولة التطبيقية الرابعة للمنهج المذكور في إحدى أهم الموضوعات الكلامية، بعد مسألتَيْ إثبات الصانع وإثبات نبوّة النبيّ‘. فهذه المحاولة في الواقع تعتبر خطوةً جديدة في الطريق الذي فتحه الشهيد الصدر أمام الباحثين في هذا المجال.

وقد تمّ في هذه المحاولة التجديدية تطبيق الخطوات الخمس المعروفة ـ والآتي ذكرها ـ لهذا المنهج على مسألة الإمامة. واستدعى ذلك في الخطوة الأولى حشد أكثر الأدلة الواردة بشان أهل البيت^ من الكتاب والسنّة والعقل والاعتبار، للتعامل معها على أساس قيمتها الاحتمالية والمنطقية.

ثم طُرحت في الخطوة الثانية الفرضية الصحيحة لتفسير هذه الأدلة في ضوء إمامة أهل البيت^.

وأما في الخطوة الثالثة فقد طُرحت باقي الفرضيات المخالفة للفرضية الصحيحة، مع مناقشتها وبيان فسادها.

وفي الخطوة الرابعة تمّ التوصُل إلى أنه إذا كانت الفرضيات المخالفة لا تنهض لتفسير كلّ هذه الأدلة الواردة بشأن أهل البيت^، فمن المؤكَّد جدّاً إذن صحة فرضية إمامتهم وولايتهم^؛ لأن الأمر لا يخلو من صحّة أحد هذه الفرضيات المطروحة، وقد تمّ إبطال باقي الفرضيات، فينحصر الأمر في الفرضية المختارة، فتكون هي المتعيِّنة.

وأما الخطوة الخامسة والأخيرة فقد تمّ الربط فيها بين الترجيح الذي تقرّر في الخطوة الرابعة لفرضية الإمامة وبين ضآلة الاحتمال للفرضية المعاكسة. وهذا الربط بين النقطتين يعني أنّ درجة الترجيح للفرضية الأولى تتناسب عكسياً مع ضآلة الاحتمال للفرضية الثانية، فكلّما كان هذا الاحتمال أكثر ضآلة كان ذلك الترجيح أكثر إقناعاً وأكبر قيمةً.

وعلى كلّ حال فإن مزية هذه الدراسة تكمن في محاولة التجديد في منهج البحث الكلامي في مسألة الإمامة، وذلك من خلال تطبيق المنهج الاستقرائي فيها كآليةٍ جديدة تضاف إلى آليات الإثبات الكلامي.

وأما منهجية البحث فهي تقوم على مجموع دليلين:

1ـ الدليل النقلي: ويقصد به الأعمّ من الدليل الروائي والتأريخي. وهذا يمثِّل مادّة الدليل.

2ـ الدليل الاستقرائي: وهو الذي يعتمد على حساب الاحتمالات وتجميع القرائن. وهذا يمثِّل صورة الدليل.

حول المنهج الاستقرائي ــــــ

قبل الخوض في تطبيق المنهج الاستقرائي على مسألة الإمامة ينبغي التعرُّف على هذا المنهج وشرحه من خلال النقاط التالية:

 

1ـ تحديد منهج البحث ــــــ

أشرنا إلى تنويع المناهج الاستدلالية في مسألة الإمامة، وأنها على صنفين:

أـ المنهج المدرسي الذي يستمدّ مادّته من النقل تارةً، ومن العقل أخرى. وهذه المادّة تقع تارةً في صغرى الدليل، وأخرى في كبراه.

وخاصّية هذا المنهج هي أنّ القيمة العلمية والمنطقية للدليل فيه هي قيمة استقلالية، وليست انضماميةً بلحاظ الأدلة الأخرى، ومن هنا فإنّه لو تمّ تفنيد أيّ دليل منها من قبل الخصم فإنّه يفقد قيمته العلمية آنذاك، ويخرج عن دائرة الاستدلال، وهكذا حتى تصل النوبة إلى أصل الدعوى فتسقط من رأس أيضاً.

وقد كان هذا المنهج ـ ولا زال ـ هو المنهج الحاكم على المدرسة الكلامية لدى المسلمين كافّةً، منذ أكثر من ألف سنة.

ب ـ المنهج الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات، والخاصّية في هذا المنهج هي على عكس المنهج السابق، كما سيأتي بيانه في النقطة الثالثة.

وعلى أيّ حالٍ فإنّ المنهج المعتمد لدينا في بحوث هذه الدراسة هو المنهج الاستقرائي، وسوف نأتي على ذكر خصائص ومزايا هذا المنهج، بعد أن نبيِّن خطواته في النقطة اللاحقة.

2ـ الاستقراء بين المنطق الأرسطي والمنهج الاستقرائي ــــــ

يشترك المنهج الأرسطي والاستقرائي في تعريف الاستقراء بأنه كل استدلال يسير من الخاصّ إلى العامّ. ولا خلاف بينهما في دخول الاستقراء الناقص في هذا التعريف، إنما الخلاف في دخول الاستقراء التامّ فيه؛ فقد اعتبره المنطق الأرسطي منه، فيما أخرجه المنهج الاستقرائي؛ باعتبار عدم انطباق التعريف عليه؛ وذلك لكون النتيجة فيه مساوية لمقدّماتها، فلا يكون السير من الخاصّ إلى العامّ.

وهذه ملاحظةٌ منهجية يسجِّلها المنهج الاستقرائي على المنهج الأرسطي. ولذا يقول السيد الشهيد الصدر مدافعاً عن المنهج الاستقرائي: «ونحن إذا قارنّا مفهومنا عن الاستقراء بالمفهوم الأرسطي نجد أن الاستقراء في مفهومنا لا يمكن أن يقسم إلى: استقراء كامل؛ واستقراء ناقص؛ لأننا نريد بالاستقراء كلّ استدلال يسير من الخاصّ إلى العام، والاستقراء الكامل لا يسير من الخاصّ إلى العام، بل تجيء النتيجة مساوية لمقدّماتها، كما رأينا في المثال الثاني للاستنباط الذي قدَّمناه سابقاً. ومن أجل ذلك يعتبر الاستقراء الكامل استنباطاً، لا استقراء. وإنما الاستقراء الذي يسير من الخاص إلى العام هو الاستقراء الناقص فقط. وعلى هذا الأساس نعرف أن تقسيم المنطق الأرسطي للاستقراء إلى: كامل؛ وناقص، كان لتجاوزه عن المفهوم الذي حدَّدناه للاستقراء، واتخاذ الاستقراء تعبيراً عاماً عن كلّ استدلال يقوم على أساس تعداد الحالات والأفراد»([14]).

3ـ خطوات المنهج الاستقرائي ــــــ

يتحدَّد المنهج الاستقرائي في خمس خطوات لا بُدَّ من توفُّرها لكي ينتج. وهذه الخطوات هي:

الأولى: أن نواجه عدّة ظواهر في المجال الذي نريد تطبيق المنهج الاستقرائي فيه، كالمجال الحسّي مثلاً.

الثانية: أن ننتقل بعد ملاحظة الظواهر وتجميعها إلى مرحلة تفسيرها. والمطلوب في هذه المرحلة أن نجد فرضية صالحة لتفسير تلك الظواهر وتبريرها جميعاً. ويقصد بكونها صالحةً لتفسير تلك الظواهر أنها إذا كانت ثابتةً في الواقع فهي تستبطن أو تتناسب مع وجود جميع تلك الظواهر التي هي موجودة فعلاً.

الثالثة: نلاحظ أن هذه الفرضية إذا لم تكن ثابتة في الواقع ففرصة تواجد تلك الظواهر كلها مجتمعة ضئيلة جدّاً، بمعنى أنه على افتراض عدم صحة الفرضية تكون نسبة احتمال وجودها جميعاً إلى احتمال عدمها أو عدم واحد منها على الأقلّ ضئيلة جدّاً، كواحد في المائة أو واحد في الألف.

الرابعة: نستخلص من ذلك أنّ الفرضية صادقة. ويكون دليلنا على صدقها وجود تلك الظواهر التي أحسَسْنا وجودها في الخطوة الأولى.

الخامسة: إنّ درجة إثبات تلك الظواهر للفرضية المطروحة في الخطوة الثانية تتناسب عكسياً مع نسبة احتمال وجود تلك الظواهر جميعاً إلى احتمال عدمها على افتراض كذب الفرضية. فكلما كانت هذه النسبة أقلّ كانت درجة الإثبات أكبر، حتّى تبلغ في حالاتٍ اعتيادية كثيرة إلى درجة اليقين الكامل بصحّة الفرضية([15]).

وهذه الخطوات لا بُدَّ من توفُّرها في كلّ مجالٍ يراد تطبيق المنهج الاستقرائي فيه، سواء كان ذلك المجال من مجالات الحياة الاعتيادية أو من المجالات العلمية.

وتوضيحاً للفكرة نعرضها ضمن نموذجين تطبيقيّين من كلا المجالين:

النموذج الأوّل: من حياتنا الاعتيادية، وهو أن يفترض وصول رسالةٍ ما إليك بالبريد، فتقرأها وتعرف أنها من أخيك، لا من شخصٍ آخر، من خلال عدّة قرائن، فإنك بذلك قد مارسْتَ استدلالاً استقرائياً قائماً على حساب الاحتمال لإثبات هذه النتيجة، مهما كانت هذه القضية واضحةً بنظرك. والخطوات التي قمْتَ بها هي ما يلي:

الخطوة الأولى: مواجهة عدّة ظواهر في الرسالة، من قبيل: إنها تحمل اسماً يتطابق مع اسم أخيك تماماً؛ وإنها بخطه الذي تعرفه في كتابة الألف والباء والتاء وغيرها؛ وإنها بنفس أسلوبه في التعبير ونقاط الضعف والقوّة وطريقة الإملاء والأخطاء الإملائية التي يقع فيها عادةً؛ والرسالة تحمل مطالب تتَّفق تماماً مع حاجات أخيك.

الخطوة الثانية: مواجهة فرضيتين لتفسير هذه الظواهر: إحداهما: صالحة لتفسيرها، وهي أن تكون من أخيك؛ والثانية: أن تكون من غيره.

الخطوة الثالثة: إذا لم تكن فرضية أنها من أخيك صالحة، وكانت من غيره، فما هي فرصة أن تتواجد فيها كلّ تلك المعطيات والظواهر المذكورة في الخطوة الأولى؟

إن هذه الفرصة بحاجةٍ إلى مجموعة كبيرة من الافتراضات؛ لأننا لكي نحصل على كل تلك المعطيات يجب أن نفترض أن شخصاً آخر يحمل نفس الاسم، ويشابه أخاك في أسلوبه وعباراته وتنسيق الكلمات وطريقة الإملاء والأخطاء الإملائية، وأن تكون طلباته نفس الطلبات لدى أخيك. وهذه مجموعةٌ من الصُّدَف يعتبر وجودها جميعاً ضئيلاً جدّاً، وكلّما ازداد عدد هذه الصدف التي لا بُدَّّ من افتراضها تضاءل الاحتمال أكثر فأكثر.

الخطوة الرابعة: إذا كان احتمال فرضية كون الرسالة من غير أخيك ضئيلاً جدّاً فمن الراجح جدّاً بدرجةٍ كبيرة ـ بحكم تواجد هذه الظواهر فعلاً ـ أن تكون الرسالة من أخيك.

الخطوة الخامسة: أن تربط بين الترجيح الذي قرَّرته في الخطوة الرابعة ـ الذي مؤداه أنّ الرسالة من أخيك ـ وبين ضآلة الاحتمال التي قررتها في الخطوة الثالثة ـ وهي ضآلة احتمال أن تتواجد كل تلك الظواهر في الرسالة بدون أن تكون من أخيك ـ، ويعني الربط بين هاتين الخطوتين أن درجة ذلك الترجيح تتناسب عكسياً مع ضآلة هذا الاحتمال، فكلّما كان هذا الاحتمال أقلّ درجةً كان ذلك الترجيح أكبر قيمة وأقوى إقناعاً، وإذا لم تكن قرائن عكسية تنفي أن تكون الرسالة من أخيك فسوف تنتهي من هذه الخطوات الخمس إلى القناعة الكاملة بأن الرسالة من أخيك([16]).

النموذج الثاني: وهو في المجال العلمي. وله أمثلةٌ عديدة، نكتفي بواحد منها، وهو تطبيق خطوات المنهج على إمامة الأئمة الاثني عشر^ موضوعة البحث في هذه الرسالة. والخطوات التي يمكن افتراضها هنا حَسْب المنهج المذكور هي:

الخطوة الأولى: أن نواجه مجموعة من المعطيات والوثائق والشواهد والقرائن التأريخية والنقلية ـ من الكتب السماوية السابقة ومن القرآن الكريم والسنّة الشريفة والواقع التأريخي للمسلمين ـ الدالّة على إمامة جماعة تخلف النبيّ‘ من بعده باستخلافٍ منه، وقد ورد في بعضها تعييينهم بالعدد، وفي بعضها تعييينهم بالاسم، وفي بعضها تحديدهم بمواصفات وعناوين عامّة ـ كالعترة، وأهل البيت، وأولي الأمر ـ لا تنطبق إلاّ عليهم، وفي بعضها تذكر فضائلهم، بل تفضيلهم على الأمّة جميعاً، وفي بعضها تخصّهم بأحكامٍ فقهية لا يشاركهم فيها أحدٌ من الأمة، ممّا يعني تخصيصهم بمزيّة خاصة بهم، وهكذا.

الخطوة الثانية: أن نواجه فرضية القول بإمامتهم كفرضية تفسِّر لنا النصوص السابقة؛ باعتبار صلاحية هذه الفرضية لتفسير جميع المعطيات السابقة.

الخطوة الثالثة: إذا لم تكن الفرضية المذكورة صالحةً لتفسير المعطيات والنصوص السابقة ـ رغم كثرتها وتنوُّعها ـ فما هي إذن الفرضية البديلة لكلّ ذلك؟

يمكن أن تكون الفرضية البديلة لتفسير كل تلك المعطيات هي فرضية إثبات فضيلة لأهل البيت^ باعتبار قرابتهم من النبيّ‘، وكذلك لصلاحهم وعلمهم، أي إن الحيثية التعليلية لفضلهم مركَّبة من هذه العناصر الثلاثة: الصلاح؛ والعلم؛ والقرابة، وإلاّ فإن كلّ واحد من هذه العناصر الثلاثة يمكن أن يتّصف به غيرهم، نعم الفصل المميِّز فيها هو القرابة، كما لا يخفى.

ولكنّ هذه الفرضية تستبطن افتراضات عديدة، فهي تستبطن افتراض ارتكاب مخالفة الظاهر في جميع الألفاظ الواردة في هذه المعطيات وحملها على غير ظواهرها وسياقاتها، كما تستبطن أيضاً افتراض أن النبيّ‘ لم ينطلق في تحديد الموقف تجاه قرابته من منطلق رسالي، بل انطلق في جميع هذه المعطيات والبيانات ـ ومنذ صدر الدعوة حتّى ختامها ـ من منطلق أُسَري وعاطفي؛ تكريساً لمبدأ القرابة والعشيرة الذي أراد أن لا يكون هو المعيار في التفاضل، كما تستبطن أيضاً افتراض أن يكون كل هذا الحشد الهائل من المعطيات متناسباً كمّاً وكيفاً مع أهمّية القضية التي يُراد إثباتها، وهي قضية فضيلة قرابته‘، ووجوب احترامهم، بمعنى أنّ قضية بهذا الحجم وبهذا المستوى تستدعي بشكلٍ منطقي وطبيعي ورود كلّ هذه البيانات القرآنية والنبوية على طول خطّ الدعوة، وبمختلف الأشكال الفعلية والقولية، كما تستبطن أيضاً افتراض أن تكون بعض البيانات النبوية مفرغة من معناها ومهملة لا تحمل معنىً محصَّلاً في نفسها، كما في الأحاديث الواردة في تحديد عدد الأئمة أو الخلفاء أو الأمراء بالاثني عشر، فإنا إذا لم نفسِّرها بإمامة أهل البيت^ فلا بُدَّ من تفسيرها بغيرهم، وستعرف تخبُّط باقي المدارس غير الإمامية في تفسيرها بغيرهم، وفي بيان المراد بها عندهم ـ كما سيأتي بيانه مفصَّلاً ـ بما لا يرجع إلى معنى محصَّل، حتّى اعترف بعضهم بالعجز عن تفسيرها تفسيراً مقنعاً([17]).

الخطوة الرابعة: إذا كان احتمال تفسير اجتماع كلّ هذه المعطيات لتأكيد فضيلتهم ـ فقط ـ ضعيفاً فمن الراجح إذن جدّاً صحة الفرضية الأولى التي تذهب إلى التأكيد على إمامتهم وولايتهم^.

الخطوة الخامسة: أن نربط بين الترجيح الذي قرَّرناه في الخطوة الرابعة لفرضية الإمامة وبين ضآلة الاحتمال للفرضية المعاكسة، ويعني الربط بين هاتين النقطتين أنّ درجة الترجيح للفرضية الأولى تتناسب عكسياً مع ضآلة الاحتمال للفرضية الثانية، فكلّما كان هذا الاحتمال أكثر ضآلةً كان ذلك الترجيح أكثر إقناعاً وأكبر قيمة.

أقول: وهذا هو المنهج الذي سنتَّبعه في مباحث هذه الدراسة لإثبات إمامة أهل البيت^ عبر تطبيق الخطوات الخمس المذكورة.

4ـ مزايا المنهج الاستقرائي ــــــ

المزية الأولى: انضمامية القيمة ــــــ

إنّ القيمة العلمية في المنهج المذكور لا تتولَّد من دليلٍ أو قرينة واحدة، كما هو المنهج الاستدلالي التقليدي، بل هي حاصل ضرب القيم الاحتمالية للقرائن المتوفِّرة. وعليه فالقيمة وفقاً لهذا المنهج انضمامية، بمعنى أنها إذا سقطت فيه قرينة عن صلاحية الاستدلال خرجت بمفردها، وبقي الباقي صالحاً للاستدلال، ولا ينهار الدليل بأكمله.

المزية الثانية: إعادة توظيف الأدلة الخارجة عن الاستدلال ــــــ

يتيح هذا الدليل ـ مضافاً إلى قيمته في نفسه ـ الفرصة أمام الباحث مرّة ثانية لتوظيف الأدلة الخارجة عن دائرة الاستدلال، والمزعوم سقوطها من قبل الخصم عن إفادة اليقين حَسْب المنهج المدرسي، فإنّه يمكن الإفادة منها كاحتمالات وقرائن ظنية في المقام؛ لأنّ المناقشة ـ عند المناقش ـ قد تكون في إفادة الدليل درجة اليقين، وليست في إفادته الاحتمال أو الظنّ([18]).

وقد أفاد بعض الفلاسفة الإلهيين في الغرب من المنهج الاستقرائي أو من نظرية الاحتمال في ترميم وإعادة توظيف بعض الأدلة التي نوقش في دلالتها على إثبات وجود الله تعالى من قبل بعض الفلاسفة ـ من أمثال: هْيُوم وكانْت ودارْوِن ـ بعد عصر النهضة في الغرب، فلجأ هؤلاء الفلاسفة من أنصار الإلهيات الطبيعية ـ بعد أن خضعوا لإشكالات المستشكلين على الأدلة المدرسية في الفكر الكلامي المسيحي، والتي استمرّت قروناً قبل عصر النهضة ـ إلى منهج الاحتمال والقرائن لمواجهة موجة الإنكار لإثبات وجود الله تعالى، بعد التنزُّل في التعامل مع الأدلة المطعون فيها سابقاً على أنها قرائن في المنهج الاستقرائي([19]).

المزية الثالثة: سعة دائرة المنهج ــــــ

إنّ دائرة الإثبات في كلّ دليل تنسجم عادةً مع طبيعة الدليل فيه. فالدليل الحسّي دائرة إثباته الحسّ، والدليل العقلي دائرة إثباته العقل، والدليل النقلي دائرة إثباته النقل. وأما منهج الدليل الاستقرائي فهو منهجٌ استدلالي عقلائي عامّ وشامل لجميع نواحي الحياة العلمية و العملية معاً على السواء؛ فإنّ هذا المنهج في الوقت الذي يصلح لإثبات قضية نظرية هامّة بمستوى وجود الصانع سبحانه، يصلح أيضاً لإثبات قضية حياتية بسيطة، من قبيل: إنّ هذه الرسالة الواصلة إليك بالبريد ـ مثلاً ـ هي من أخيك، لا من شخصٍ آخر، فإنّ «منهج الاستدلال على وجود الصانع الحكيم هو المنهج الذي نستخدمه عادةً لإثبات حقائق الحياة اليومية والحقائق العلمية، فما دمنا نثق به لإثبات هذه الحقائق فمن الضروري أن نثق بصورةٍ مماثلة لإثبات الصانع الحكيم، الذي هو أساس تلك الحقائق جميعاً. فأنتَ في حياتك الاعتيادية حين تتسلم رسالة بالبريد، فتتعرَّف بمجرد قراءتها على أنها من أخيك؛ وحين تجد أن طبيباً ينجح في علاج حالات مرضية كثيرة، فتثق به وتتعرَّف على أنه طبيب حاذق؛ وحين تستعمل حقنة بنسلين في عشر حالات مرضية، وتصاب فور استعمالها في كلّ مرّةٍ بأعراض معيَّنة متشابهة، فتستنتج من ذلك أن في جسمك حساسية خاصة تجاه مادة البنسلين، أنت في كلّ هذه الاستدلالات وأشباهها تستعمل في الحقيقة منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات.

ونفس المنهج يستخدمه العالم الطبيعي في تعامله مع حقائق الكون لتحليلها وفهمها، فهو «حينما لاحظ خصائص معينة في المجموعة الشمسية، فيتعرَّف في ضوئها على أنها كانت أجزاء من الشمس وانفصلت عنها؛ وحينما استدلّ على وجود (نبتون) أحد أعضاء هذه المجموعة، واستخلص ذلك من ضبط مسارات حركات الكواكب، قبل أن يكتشف نبتون بالحسّ؛ وحينما استدلّ في ضوء ظواهر معينة على وجود الإلكترون، قبل التوصُّل إلى المجهر الذري، إن العالم الطبيعي في كل هذه الحالات ونظائرها يستعمل في الحقيقة منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات»([20]).

المزية الرابعة: إفادة الدليل للوثوق بدرجةٍ عالية ــــــ

إنّ درجة الوثوق الحاصلة من منهج الدليل الاستقرائي يمكن تقويمها من خلال مقياسين:

الأوّل: المقياس المنطقي، أي من خلال تحليل هذا الدليل منطقياً، واكتشاف الأسس المنطقية والرياضية التي يقوم عليها. وهذا ما تكفَّل به كتاب الأسس المنطقية بشكل تفصيلي.

الثاني: المقياس التطبيقي والعملي لهذا المنهج، الذي يعتمده العقلاء عادةً في حياتهم الاعتيادية واستدلالاتهم العلمية والتجريبية، كما لاحظنا ذلك في الأمثلة السابقة، حيث يركنون إلى النتيجة الحاصلة منه، ويثقون بها، ويرتِّبون الآثار عليها، وإنْ لم تكن الأسس الرياضية والمنطقية واضحةً لديهم تفصيلاً.

وعليه، فإنه كما يمكن اعتماد المقياس الثاني في مختلف نواحي الحياة لدى العقلاء يمكن اعتماده أيضاً في اعتقاداتهم وأصول دينهم؛ إذ ما الفرق بين القضية التجريبية والقضية العقدية إذا كان المنهج ينتج مستوى واحداً من الوثوق والاطمئنان؟

وقد اعتمد السيد الشهيد كلا المقياسين بما يناسب مستوى المخاطب في كلٍّ منهما؛ فقد اعتمد الأول في «الأسس المنطقية»، واعتمد الثاني في كتابه «موجز في أصول الدين». وسوف نشير بإيجازٍ شديد إلى الأول تحت عنوان: (القيمة المنطقية للمنهج الاستقرائي). وعليه فإنا ومن خلال ما تقدَّم عرضه من الأمثلة السابقة نكون قد جمعنا ـ إلى حدٍّ ما ـ بين كلا المقياسين.

ولمّا كانت درجة الوثوق والإقناع في المنهج الاستقرائي عاليةً عند العقلاء ـ لاعتماده على قرائن كثيرة يصعب ردّها أو رفضها جميعاً مرّةً واحدة ـ فقد استخدم القرآن الكريم ـ وهو أوّل مَنْ استخدم ذلك ـ ذات المنهج في إثبات الحقائق العلمية والقرآنية، كما نلاحظ ذلك في قوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (فصّلت: 53)، حيث لم يقتصر المنهج القرآني على إراءة آيةٍ واحدة لهم، بل توسَّع إلى ذكر عدّة آيات. كما أنه لم يكتفِ بنوع واحد منها، بل نوّعها إلى آيات أنفسية وآفاقية. ونجد تطبيق المنهج أيضاً في قوله تعالى: ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللهِ﴾ (الروم: 50)، وكذا قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ (البقرة: 164)، فإنه ذكر أكثر من آية من آيات الآفاق لإثبات المطلوب. وكذا نجد نفس المنهج في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنْ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ (الروم: 20 ـ 25).

5ـ القيمة المنطقية للمنهج الاستقرائي ــــــ

ينقسم الاستقراء إلى: تامّ؛ وناقص. ولا شَكَّ في دليلية التامّ منه؛ لإنتاجه اليقين. وأمّا الناقص منه ـ باعتبار أنه لا ينتج يقيناً، ولا يمكن تعميم الحكم فيه ـ فلا يمكن اعتباره دليلاً تامّاً([21]). هذا بحَسَب ما انتهى إليه المنطق الأرسطي.

وقد حاول السيد الشهيد الصدر، من خلال نظرية الاحتمال، أن يرتقي بنتيجة الاستقراء الناقص إلى إفادة اليقين والجزم. والمراد باليقين هنا هو اليقين الموضوعي الذي يستمدّ مبرّراته من الواقع الموضوعي، في مقابل اليقين الرياضي واليقين الذاتي([22]).

ويمكن عرض خلاصة محاولته ـ بإيجازٍ ـ في ثلاث خطوات:

الخطوة الأولى: يعترف فيها الشهيد الصدر مبدئياً بقصور درجة التصديق الناتجة من القضية الاستقرائية عن إفادة اليقين؛ «لأنّ درجة التصديق بالقضية الاستقرائية المستنبطة من الدرجات الأخرى للتصديق وفق المرحلة الاستنباطية للدليل الاستقرائي لا يمكن أن تبلغ أعلى درجة للتصديق، وهي الجزم واليقين؛ لأنّ هناك قيمةً احتمالية صغيرة دائماً تمثِّل الخلاف، فلا يمكن ـ إذن ـ أن يحصل التصديق الاستقرائي على أعلى درجة بوصفها درجة موضوعية مستنبطة».

الخطوة الثانية: من أجل معالجة هذا النقص في الدليل الاستقرائي لا بُدَّ من افتراض مصادرة فيه، مؤدّاها افتراض أنّ التصديق الاستقرائي يحصل على أعلى درجة بوصفها درجة موضوعية أولية، ويعتبر «هذا الافتراض مصادرةً، مثل المصادرة التي تحتاجها أيُّ عملية استنباطية، لأنّ أيَّ استدلال استنباطي يتوقَّف ـ كما عرفنا سابقاً ـ على افتراض مصادرةٍ مؤداها أنّ هناك درجات موضوعية للتصديق معطاة بصورة مباشرة، دون أن تكون مستنبطة من درجات أخرى».

الخطوة الثالثة: صياغة المصادرة وفذلكتها. وقبل بيان ذلك يشير الشهيد الصدر إلى نقطةٍ هامّة في المقام، وهي: إنّ هذه المصادرة لا علاقة لها بالواقع الموضوعي وحقائق العالم الخارجي، وإنّما ترتبط هذه المصادرة بالمعرفة البشرية نفسها، وطبيعة حركتها ضمن قوانين الذهن البشري. «إنّ المصادرة التي يفترضها الاستقرائي في مرحلته الثانية لا ترتبط بالواقع الموضوعي، ولا تتحدَّث عن حقيقة من حقائق العالم الخارجي، وإنّما ترتبط بالمعرفة البشرية نفسها»([23]).

وأما صياغة المصادرة باختصارٍ فهي كالتالي: إنه كلّما تجمَّع عددٌ كبير من القيم في محور واحد، فحصل هذا المحور ـ نتيجة لذلك ـ على قيمة احتمالية كبيرة، فإنّ هذه القيمة الاحتمالية الكبيرة تتحوَّل ـ ضمن شروط معينة ـ إلى يقين. فكأنَّ المعرفة البشرية مصمَّمة بطريقة لا تتيح لها أن تحتفظ بالقيم الاحتمالية الصغيرة جدّاً، فأيّ قيمة احتمالية صغيرة تفنى لحساب القيمة الاحتمالية الكبيرة المقابلة، وهذا يعني تحوُّل هذه القيمة إلى يقين. وليس فناء القيمة الاحتمالية الصغيرة نتيجة لتدخُّل عوامل بالإمكان التغلُّب عليها والتحرُّر منها، بل إنّ المصادرة تفترض أنّ فناء القيمة الصغيرة وتحوُّل القيمة الاحتمالية الكبيرة إلى يقينٍ فرضه التحرُّك الطبيعي للمعرفة البشرية؛ نتيجة لتراكم القيم الاحتمالية في محور واحد، بحيث لا يمكن تفاديه والتحرُّر منه، كما لا يمكن التحرُّر من أيّ درجةٍ من الدرجات البديهية للتصديق المعطاة بصورة مباشرة، إلاّ في حالات الانحراف الفكري.

فلا يشبه تحوُّل القيمة الاحتمالية الكبيرة إلى يقين وفناء القيم الاحتمالية الصغيرة التحوُّلات الذاتية لبعض القيم الاحتمالية إلى يقين بسبب عوامل نفسية، من قبيل: التشاؤم أو التفاؤل أو غير ذلك، فقد يتحوَّل احتمال الوفاة عند شخصٍ مقدم على عملية جراحية إلى يقينٍ بسبب التشاؤم الذي يسيطر على نفسه، ولكنّه يقين يمكن إزالته إذا تحرَّر الشخص من نزعته النفسية، وحصر اتجاهه في النطاق الفكري فحَسْب، وأما اليقين الذي تفترضه المصادرة فهو يقينٌ لا يتاح إزالته ما دام الإنسان سويّاً في تفكيره، مهما حصر اتجاهه في النطاق الفكري، وتحرَّر من العوامل الدخيلة([24]).

تطبيق المنهج الاستقرائي لإثبات إمامة الأئمّة^ ــــــ

قبل بيان تطبيق المنهج ينبغي التصدير بمقدّمة نشير فيها إلى:

موقع بحث الإمامة في منظومة البحث الكلامي، وتعريفها ــــــ

هناك بحثان رئيسان في بحث الإمامة تركَّز عليهما الجهد الكلامي لدى المتكلِّمين كافّة:

الأوّل: هل أنّ الإمامة بالنصب والتعيين من قبل الله سبحانه أم بالانتخاب من قبل الأمّة؟

الثاني: إنّه بناء على كونها بالنصب ـ كما هو مذهب الإمامية ـ فمَنْ هم الأئمة الذين تمّ نصبهم وتعيينهم؟

وموضوع البحث في هذه الدراسة هو الثاني، أي إنه بحثٌ صغروي ومصداقي. وأما البحث الأول، وهو البحث الكبروي، فخارجٌ عن عنوان الدراسة، وإنْ كان في الكثير من أدلة البحث الصغروي ما يدلّ بالملازمة على أنّ الإمامة بالنصّ، كحديث الأئمة الاثني عشر، وحديث الثقلين، وحديث السفينة، وغيرها، فإنّ لهذه الأدلة دلالة مطابقية وهو تعيين المصداق، ودلالة التزامية وهو صدورها عن المشرِّع، ممّا يدلّ بالملازمة على أنهم منصوبون من قبله.

قد يقال: إنّ التراتبية المنطقية للبحث تقتضي أن يكون ثمّة بحثٌ آخر يلي البحث الصغروي؛ لكي يتمّ التسليم بنتيجته، ألا وهو إبطال الفرضية البديلة لإمامة أهل البيت^، وهي نظرية الخلافة الراشدة بالانتخاب، التي تمتلك من الأدلة ـ بنظر أصحابها ـ ما يبرِّرها، فما لم يتمّ إبطال ذلك ونفيه فإن الفرضية البديلة تبقى قائمة، ولا يكفي إثبات البحث الصغروي لوحده.

والجواب:

 إنّ جميع الأدلة المدَّعى دلالتها على الفرضية البديلة لإمامة غير أهل البيت^ مبنية على نظرية الانتخاب والاختيار، والمفروض الفراغ عن بطلان هذه النظرية في المرحلة السابقة كأصلٍ موضوعي؛ لأن بحثنا مبتنٍ على كون الإمامة بالنصّ.

وأما تعريف الإمامة فهي رئاسةٌ عامّة في أمور الدين والدنيا لشخصٍ من الأشخاص نيابةً عن النبيّ‘([25]). وعليه فإنّ الأئمة الذين نحن بصدد إثبات إمامتهم هم حجج الله، المنصوبون من قبله سبحانه على الخلق، ولهم الولاية المطلقة عليهم، الذين أوّلهم أمير المؤمنين عليّ×، وآخرهم المهديّ المنتظر#.

وعرَّفها أهل السنة بما يلي:

أـ رئاسة عامّة في أمور الدين والدنيا([26]).

ب ـ خلافة الرسول في إقامة الدين، بحيث يجب اتّباعه على كافّة الأمّة([27]).

ج ـ نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا([28]).

والتعريف الأول أقرب إلى تعريف الإمامية.

وقد يقال: إذن، لا فرق بين الإمامية وغيرها في تعريف الإمامة، فأين الخلاف بينهما؟

والجواب: إنّ الخلاف يكمن في فهم الإمامة، وتفسير ماهيتها، وبيان اقتضاءاتها وشروطها. فالإمامية ترى في الإمامة استمراراً لوظائف النبوّة، ما عدا الوحي. ومن هنا اشترطوا فيها النصّ والعصمة؛ لأنهما شرطان في النبوة. فالرئاسة العامة للدين والدنيا نيابةً عن النبي‘ لدى الإمامية إنّما تكون للمعصوم، الوارث لعلم النبي‘، المنصوب من قبله. فهذا المستوى من الرئاسة هو الصالح لتولّي الإمامة. بينما تكتفي المدارس الأخرى في هذه الرئاسة الدينية والدنيوية بمستوى أدنى، وهو الاجتهاد مع العدالة، ولذا اشترطوا في علم الإمام وفهم الدين (الاجتهاد) فقط لا أزيد، وفي حفظ السلوك والاستقامة وسلامة تطبيق الدين والشريعة (العدالة)([29]) لا أكثر أيضاً.

وعليه، فإن التعريفين وإنْ كانا مشتركين لفظاً ومفهوماً، إلاّ أنهما يختلفان تفسيراً ومضموناً في تحديد دور الإمامة ومعرفة موقعها.

وقد أثَّر هذا الاختلاف في تصنيف مسألة الإمامة في الأصول أوالفروع لدى الفريقين. والسبب هو ما ذكرناه من أن الإمامية ترى قيام الإمامة مقام النبوة في الوظائف، وعليه فلا شَكَّ أنّ المسألة عندهم تكون من الأصول، ولا دخل للمكلَّفين فيها. والأمر معكوسٌ لدى غيرهم، حيث ينيطونها بفعل المكلَّفين، ويرَوْنها من صلاحيات الأمّة، وأنّها من الفروض الكفائية عليها. قال التفتازاني: «لا نزاع في أنّ مباحث الإمامة بعلم الفروع أليق؛ لرجوعها إلى أنّ القيام بالإمامة ونصب الإمام الموصوف بالصفات المخصوصة من فروض الكفايات، وهي أمور كلية تتعلّق بمصالح دينية أو دنيوية لا ينتظم الأمر إلاّ بحصولها، فيقصد الشارع تحصيلها في الجملة، من غير أن يقصد حصولها من كلّ أحد. ولا خفاء في أنّ ذلك من الأحكام العملية، دون الاعتقادية»([30]).

وأخيراً، فإنّ الموضوعية والتجرُّد في كل بحث علمي ضرورتان لا مناص عنهما لتأكيد مصداقية البحث، وإلاّ فإن البحث يفقد مصداقيته مهما كان وزنه أو حجمه. وتتضاعف أهمّية هذا الشرط كلّما تضاعفت أهمّية البحث. ولا أظنّ أنّ بحثاً يتعلّق بتحديد مستقبل الرسالة الخاتمة أو مصير الأمة ـ كبحث الإمامة ـ لا يثير اهتمام أتباع تلك الرسالة مهما كان انتماؤهم المذهبي، ولا سيَّما أنها الرسالة الخاتمة التي لا تعقبها رسالة أخرى للتدارك والتصحيح.

من هنا فإنّ أهمية البحث في هذا الموضوع لكلّ مسلم ـ مهما كان انتماؤه المذهبي ـ تنبع من كونه يشكِّل مسؤولية شرعية في عنقه، كما أنّ الموضوعية والتجرّد عن الرواسب المذهبية المسبقة في البحث هي مسؤولية شرعية أخرى لا تقلّ أهمية عن سابقتها.

ومن هنا فإنّه يتوجَّب على الباحث الدخول في هذا البحث بروح المتطلِّع إلى معرفة الحقيقة، المتحرِّر عن جميع العصبيات والرواسب المذهبية المسبقة، بحيث يتم التعامل مع جميع القرائن والأدلة المتوفِّرة أمامه في البحث بروحٍ علمية ورياضية محضة، مهما كانت النتيجة التي ينتهي إليها البحث أو التحقيق.

ونصل هنا بعد هذا التصدير إلى التطبيق العملي للمنهج الاستقرائي من خلال خطواته الخمس التالية:

الخطوة الأولى: ملاحظة الأدلة والقرائن على إمامة الأئمة الاثني عشر ــــــ

وتعتبر هذه الخطوة أهم خطوة من الخطوات الخمسة، وأكثرها تفصيلاً، حيث سيتمّ فيها استعراض الأدلة على إمامة الأئمة الاثني عشر^، مع مراعاة الاختصار في شرح كلّ واحد منها، والاقتصار فيه على مقدار الضرورة والحاجة.

الخطوة الأولى هي أن نواجه مجموعةً كثيرة من النصوص والقرائن والإثباتات الدالّة على وصيّة النبي‘ بجماعةٍ من أهل بيته، واهتمامه بهم كثيراً. فبعض هذه النصوص تضبطهم بالعدد، وبعضها تُعنى بأصل استخلافهم، من دون تعرُّض للعدد.

ويمكن تصنيف هذه الأدلة أو القرائن إلى صنفين:

الأوّل: الأدلة المجرَّدة عن العدد.

الثاني: الأدلة المشتملة على العدد.

وقبل استعراض هذين النوعين تنبغي الإشارة إلى نقطةٍ هامة تتّصل بدلالة هذه الأدلة، وهي أنّ دلالتها ليست بمستوىً واحد؛ فالبعض منها ـ كحديث الثقلين أو حديث الاثني عشر ـ يعدّ دليلاً مستقلاًّ بذاته؛ والبعض الآخر ـ كورود الاثني عشر في التوراة مثلاً ـ يعدّ قرينة في المقام، لا دليلاً مستقلاًّ بذاته، وإنّما اعتبرنا الأول من القرائن الظنية ـ مع كونه يقينياً ومستقلاًّ بذاته ـ من باب التنزُّل، وجرياً مع مقتضيات هذا المنهج، وذلك لكي يدخل في سلك الاستدلال الاستقرائي كقرينة ظنية ـ بالمستوى الأدنى ـ على فرض سقوطه عن إفادة اليقين بحَسَب الاستدلال المدرسي السائد، وهذه هي إحدى فوائد المنهج الاستقرائي.

وتجدر الإشارة إلى أن السند القطعي في الآيات القرآنية والأحاديث المتواترة تعتبر بنفسها قرائن تُضاف إلى قرائن الدلالة، وتضاعف من القيمة المنطقية للمنهج الاستقرائي.

أوّلاً: القرائن المجرَّدة عن العدد ــــــ

وهذه القرائن أو الأدلة التي تعنى بالمعدود، دون التركيز على العدد، يمكن تقسيمها إلى قسمين:

القسم الأوّل: ما دلّ على إمامة بعض الأئمة، المؤدّي بالملازمة إلى إمامة الباقين منهم، كما هو الأمر في كلّ ما دلّ على إمامة الإمام عليّ× بخصوصه من الكتاب والسنّة، كآية التبليغ، وآية الولاية، وآية إكمال الدين، وحديث الغدير، وحديث الوصية، وحديث المنزلة، وحديث الدار، ونحوها.

ووجه الدلالة فيها واضحٌ؛ لأن وصية الإمام علي× للإمام من بعده إمّا هو من باب الإنشاء والتنصيب ـ وهي إحدى طرق تنصيب الإمام لدى المسلمين كافّة([31]) ـ وإما من باب الإخبار بإمامة الإمام من بعده، وهو لا يكذب؛ لمكان عصمته عند الإمامية، أو عدالته عند غيرهم.

وهذه الأدلة مفصّلة لا يسعنا الخوض في تقرير دلالتها. ولذا نحيل القارئ على مظانّها؛ رَوْماً للاختصار([32])، ولكنْ ننبِّه إلى أن كل واحدٍ منها يُعَدّ قرينةً إثباتية مستقلّة، إلاّ أننا نعتبرها تشكّل بمجموعها ـ وفقاً للمنهج الاستقرائي ـ قرينةً ظنية واحدة.

وأمّا القيمة الاحتمالية لهذه القرينة فهي ـ ولا سيَّما حديث الغدير ـ تفيد على المستوى السندي والدلالي ظنّاً قوياً (80% إلى 90%) على المطلوب، وأمّا الاحتمال المقابل (وهو 10% إلى 20%) ـ إنْ لم نقُلْ بسقوطه ـ فهو ضعيفٌ جدّاً جدّاً؛ إذ كيف للعقل السليم ـ لو أخذنا حديث الغدير مثلاً ـ أن يصدِّق بأن رئيساً أو ملكاً ما جمع أمته أو شعبه في يوم شديد الحرّ، وكانوا في سفرٍ، فحبس مَنْ كان معه وسط الطريق، وانتظر برهةً قدوم اللاحق منهم، ورجوع السابق؛ ليبلِّغهم باهتمام كبير وحفاوة عظيمة، قبل وفاته، وقد ارتقى المنبر، والكلّ ينتظر منه نبأً عظيماً قد اشرأبَّت له الأعناق، ما مفاده: اعلموا أني أحبّ ابن عمّي هذا، فأحبوه! فما حكم العقل والعقلاء في مثل هذا الانسان؟! بل هل اتَّفق في تأريخ البشرية سابقاً أو لاحقاً أن قام رئيس قوم، أو حتّى رئيس عشيرة أو قبيلة، بمثل هذا؛ كي يكون نبيُّنا ثاني مَنْ فعل ذلك، وهو سيّد النبيّين، فضلاً عن سائر الخلق أجمعين؟ فلا ندري كم تبدو هذه الأمة مستعدة للحطّ من شأن نبيِّها؛ كي تدفع النصّ الجليّ عن أهله؟([33]).

القسم الثاني: القرائن والأدلة الدالّة على إمامتهم جميعاً. ولكنّ هذه القرائن تارةً تثبت إمامتهم بالملازمة من خلال عنوان عام ـ كعنوان طاعة أولي الأمر ـ؛ وأخرى تثبت إمامتهم بالملازمة من خلال عنوان خاصّ، كعنوان العترة أو أهل البيت؛ وثالثة من خلال القرائن العقلية والاعتبارية. فهذه ثلاثة أنماط. وإليك البيان في كلّ واحدٍ منها:

النمط الأول: القرائن الدالة على ثبوت الإمامة للعنوان العام ــــــ

القرينة الأولى: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ﴾ (النساء: 59).

وتقريب الاستدلال بالآية يكون من خلال ملاحظة أمرين:

الأوّل: إن الآية تأمر بطاعة (أولي الأمر) مطلقاً، من غير تفصيل أو تقييد، فدلَّ ذلك على عصمتهم، وإلاّ لو لم يكونوا معصومين للزم الإغراء بالمعصية. ولا مصداق لهذه الآية غير أهل البيت^؛ وذلك لثبوت عصمتهم بمقتضى آية التطهير، وبمقتضى حديث الثقلين الدالّ على لزوم التمسُّك بهم مطلقاً؛ لكونهم أماناً من الضلال، وهذا هو معنى العصمة. هذا مضافاً إلى أنه لم يدَّع أحدٌ من الأمة العصمة لنفسه غيرهم، فتكون الآية فيهم حَصْراً.

الثاني: إن القول بعصمتهم^ يستلزم ويستبطن حجِّية قولهم، وثبوت مرجعيتهم للأمّة، وهذا هو معنى الإمامة.

القرينة الثانية: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ (التوبة: 119).

وتقريب الاستدلال بها بنفس ما تقدَّم في الآية السابقة تماماً.

القرينة الثالثة: قوله تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ (النساء: 83).

وتقريب الاستدلال بها بنفس ما تقدَّم في الآية السابقة تماماً([34]).

والقيمة الاحتمالية لهذه القرائن الثلاث؛ باعتبارها قطعية الصدور، هي (100%)، وأمّا القيمة الاحتمالية للدلالة فهي بمعدل (80% إلى 90%)، والاحتمال المخالف هو بمعدل (10% إلى 20%). والسبب في ضعف هذا الاحتمال هو عدم إجابته على الملازمة الواضحة بين لزوم طاعة أولي الأمر مطلقاً ـ سواء قلنا: إنهم العلماء أو الأمراء أو أمراء السرايا ـ أو اتّباع الصادقين مطلقاً أو لزوم الرجوع والردّ إلى أولي الأمر وبين عصمتهم.

النمط الثاني: القرائن الدالة على ثبوت إمامتهم بالعنوان الخاص ــــــ

ذكرنا أن هذا النمط يثبت الإمامة لأهل البيت^ بعنوانهم الخاص، كعنوان العترة، أوأهل البيت، أو أولي الأمر، ونحو ذلك.

القرينة الأولى: حديث الثقلين ــــــ

1ـ أهمّية الحديث وطرقه ــــــ

 وهو من النصوص المتَّفق عليها بين الفريقين، والواردة بعدّة طرق. فقد أخرج السيد هاشم البحراني لهذا الحديث تسعة وثلاثين طريقاً من طرق أهل السنّة، واثنين وثمانين طريقاً من طرق الشيعة عن أهل البيت^([35]).

وقد تكرّر صدور الحديث عن النبي‘ في عدّة مواضع، ممّا يعرب عن أهميته البالغة وخطورة موضوعه؛ ولذا قال ابن حجر: «ثم اعلم أنّ لحديث التمسُّك بذلك طرقاً كثيرة، وردت عن نيف وعشرين صحابياً، ومرّ له طرق مبسوطة في حادي عشر الشبه، وفي بعض تلك الطرق أنّه قال ذلك بحجّة الوداع بعرفة، وفي أخرى أنه قاله بالمدينة في مرضه، وقد امتلأت الحجرة بأصحابه، وفي أخرى أنه قال ذلك بغدير خم، وفي أخرى أنه قال (ذلك) لمّا قام خطيباً بعد انصرافه من الطائف ـ كما مرّ ـ. ولا تنافي؛ إذ لامانع من أنه كرَّر عليهم ذلك في تلك المواطن وغيرها، اهتماماً بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة»([36]).

2ـ نصّ الحديث ــــــ

1ـ روى الترمذي، في صحيحه، عن زيد بن أرقم قال: «قال رسول الله‘: إني تاركٌ فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلوا بعدي: الثقلين، أحدهما أعظم من الآخر؛ كتاب الله، حبلٌ ممدود من السماء إلى الأرض؛ وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرَّقا حتى يَرِدا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما»([37]).

2ـ وروى الحاكم النيسابوري، عن زيد بن أرقم قال: «لمّا رجع رسول الله‘ من حجّة الوداع، ونزل غدير خمّ، أمر بدوحات فقُمِّمْنَ، فقال: كأني دُعيتُ فأجبتُ، إني قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله تعالى؛ وعترتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يتفرَّقا حتّى يَرِدا عليَّ الحوض».

ثم قال‘: «إنّ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ مولاي، وأنا مولى كل مؤمن، ثم أخذ بيد عليٍّ ـ رضي الله عنه ـ فقال‘: مَنْ كنت مولاه فهذا وليُّه، اللهم والِ مَنْ والاه، وعادِ مَنْ عاداه».

ثم قال: (هذا حديثٌ صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرِّجاه بطوله)([38]).

وقد صحَّحه الألباني من عدّة طرق([39]).

3ـ مصادر الحديث ــــــ

روَتْ حديث الثقلين مصادر الفريقين، وقد عدّ منها بعض المحقِّقين مائة وواحد وستون مصدراً من مصادر أهل السنّة خاصة([40]).

4ـ راوة الحديث ــــــ

روى هذا الحديث جملة من أئمة أهل البيت^ وكبار الصحابة وأمهات المؤمنين. ونحن نورد أسماء بعضهم:

1ـ الإمام علي×.

2ـ فاطمة الزهراء÷.

3ـ الإمام الحسن بن عليّ×.

4ـ أمّ سلمة.

5ـ عبد الله بن عبّاس.

6ـ سلمان الفارسي.

7ـ أبو ذرّ الغفاري.

8ـ حذيفة بن اليمان.

9ـ جابر الأنصاري.

10ـ أبو سعيد الخدري.

11ـ زيد بن أرقم.

12ـ حذيفة بن أسيد.

13ـ أنس بن مالك.

14ـ أبو رافع، مولى رسول الله‘.

15ـ جبير بن مطعم.

16ـ عبد الله بن حنطب.

17ـ ضمرة الأسلمي.

18ـ أمّ هاني بنت أبي طالب([41]).

5ـ دلالة الحديث ــــــ

دلّ الحديث على الأمور التالية:

أوّلاً: وجوب التمسُّك بهم؛ لأنّ في ذلك أماناً من الضلال والهلاك.

ثانياً: حرمة التخلّف عنهم أو التقدّم عليهم والابتعاد عنهم، وهو عبارةٌ أخرى عن إمامتهم.

ثالثاً: عصمتهم، وإلاّ كان في الإرجاع إليهم إغراءٌ بالمعصية، وهو قبيحٌ، تثبت حجِّية قولهم ومرجعيتهم للأمة، وهذا هو معنى الإمامة.

رابعاً: بقاء إمامتهم إلى يوم القيامة وعدم خلوّ الأرض منهم. قال ابن حجر: «وفي أحاديث الحثّ على التمسُّك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهّل منهم للتمسُّك به إلى يوم القيامة، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك؛ ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض ـ كما يأتي ـ، ويشهد لذلك الخبر السابق: في كلّ خَلَفٍ من أمّتي عدولٌ من أهل بيتي»([42]).

إنْ قلتَ: إنه قد ورد في مصادر الجمهور ما يدل على إمامة الخلفاء عندهم كقوله‘: «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديّين»([43])، وقوله‘: «اقتدوا باللذين من بعدي، أبي بكر وعمر»([44]).

قلتُ: الجواب على الحديث الأوّل من وجوه:

الأوّل: إن هذا الحديث لم يَرِدْ من طرقنا، وعليه فهو غير ملزم لنا، وليس حجّةً علينا، وهذا بعكس حديث الثقلين؛ فإنه حجّة على كلّ مَنْ رواه، وقد رواه الفريقان كما عرفْتَ.

الثاني: إنه لم يَرِدْ في هذا الحديث تسمية الخلفاء، وعليه فمن المحتمل ـ لو لم نقطع به ـ إرادة الأئمّة الاثني عشر^، فحملُه على غيرهم من غير معيِّن هو من التمسُّك بالعام في الشبهة المصداقية. وهذا بعكس تفسيره بأهل البيت^؛ وذلك لتوفُّر القرائن على صحته، كحديث الثقلين والسفينة والأمان وغيرها؛ وذلك لأن كلامه‘ يفسِّر بعضه بعضاً. وعليه فإن تفسيره بغيرهم هو أوّل الكلام.

وأما الجواب على الحديث الثاني فيَرِدُ عليه ما أوردناه في الوجه الأوّل على الحديث السابق.

6ـ معارضته بحديث «وسنّتي» ــــــ

قد يُثار بوجه هذا الحديث معارضته بحديث «وسنّتي» أو «وسنّته»، الذي رواه الحاكم والبيهقي والدارقطني، عن ابن عبّاس وأبي هريرة. ورواه أيضاً مالك وابن هشام لكنْ مرسلاً عن النبيّ‘ ([45]).

أـ فقد روى الحاكم، بإسناده عن ابن عبّاس، عن النبيّ‘، في حجة الوداع قال: «أيها الناس، قد تركتُ فيكم ما إنْ اعتصمتم به فلن تضلّوا أبداً: كتاب الله؛ وسنة نبيه‘»([46]).

ب ـ وروى البيهقي، عن أبي هريرة، عن النبيّ‘ قال: «إني قد خلَّفت فيكم ما لن تضلوا بعدهما ما أخذتم بهما ـ أو عملتم بهما ـ: كتاب الله؛ وسنتي، ولن يتفرَّقا حتّى يَرِدا عليَّ الحوض»([47]). ونحوه عن الدارقطني([48]).

ويَرِدُ عليه:

 

1ـ المناقشة السندية ــــــ

أما الحديث الأول ففي سنده ابن أبي أُوَيْس، وهو متَّهم بالضعف وسرقة الحديث ووضعه والكذب([49]). مضافاً إلى الكلام في الراوي المباشر عن ابن عبّاس، وهو عكرمة، فإنه متَّهمٌ بالكذب أيضاً([50]).

وأما الحديث الثاني ففيه صالح بن موسى الطلحي الكوفي، وهو ضعيف الحديث ومنكره([51]).

وأما حديث مالك وابن هشام فمرسلٌ لا يحتجّ به. لكنْ ذكر السيوطي أنّ ابن عبد البرّ ذكر له سنداً، فيكون الحديث مسنداً([52]).

إلاّ أنّ هذه المحاولة أيضاً غير مجدية؛ لاشتمال السند على كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، وقد نقل ابن حجر عن جماعة تضعيفه والقدح فيه([53]).

2ـ المناقشة الدلالية ــــــ

إنّه على فرض صحّة الحديث فإنه لا يعارض سابقه؛ وذلك لعدم تحقُّق التعارض بينهما صغروياً، لأنّ التعارض هو التنافي، بمعنى كون أحدهما مثبتاً والآخر نافياً، ولا تنافي بين الحديثين، بل هما مثبتان، فأحدهما يثبت السنّة والآخر يثبت العترة، ومن الواضح أنّ العترة ليست في عرض السنّة، حتّى تنفيها، بل هي في طولها، بمعنى أنها ناقلةٌ ومبيّنة لها.

وعليه، يكون النبيّ محمد‘ قد بيّن قضيتين في هذا الحديث: الأولى هي وجوب التمسُّك بالكتاب والسنّة كمنهجٍ للأمة بعده، والثانية هي تعيين مَنْ يتصدّى لنقل المنهج وشرحه وتوضيحه للأمة بعده.

والقيمة الاحتمالية لهذا الحديث هو إفادة الظنّ القويّ جدّاً جدّاً بمعدل (90% إلى 95%)، والاحتمال المخالف ضعيفٌ جدّاً جدّاً بمعدل (5 % إلى 10%)؛ وذلك لأن الاحتمال المخالف يبتني على كون الحديث لا يزيد عن كونه توصيةً من النبي‘ بأهل بيته^!

القرينة الثانية: حديث السفينة ــــــ

1ـ نصّ الحديث ــــــ

أـ روى الحاكم النيسابوري، عن أبي ذرّ قال: سمعتُ النبي محمد‘ يقول: «ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من قومه، مَنْ ركبها نجا، ومَنْ تخلَّف عنها غرق»([54]).

ب ـ روى الطبراني، بإسناده عن النبيّ محمد‘ قال: «إنما مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، مَنْ ركبها نجا، ومَنْ تخلَّف عنها غرق»([55]).

2ـ مصادر الحديث ــــــ

بلغ عدد مصادر الحديث حَسْب إحصائية بعض المحقِّقين واحداً وسبعين مصدراً من مصادر أهل السنّة([56]).

3ـ الراوون للحديث ــــــ

1ـ الإمام عليّ×.

2ـ عبد الله بن عبّاس.

3ـ أبو ذرّ الغفاري.

4ـ أبو سعيد الخِدْري.

5ـ أنس بن مالك.

6ـ سلمة بن الأكوع.

7ـ عامر بن واثلة.

8ـ عبد الله بن الزبير([57]).

وقد صرَّح ابن حجر بتصحيحه، وأنه قد ورد بطرق عديدة يقوّي بعضها بعضاً([58]).

4ـ دلالة الحديث ــــــ

إنّ دلالة الحديث جدّ واضحة على إمامتهم، فهي تغني الباحث عن مؤونة الإثبات، وذلك من خلال عملية التشبيه والمشبّه به وجهة الشبه الواردة في الحديث، حيث حصر النجاة باتباعهم خاصّة. قال العلامة الحضرمي الشافعي: «قال العلماء: وجه تمثيله‘ لهم بسفينة نوح× أنّ النجاة من هَوْل الطوفان ثابتة لمَنْ ركب تلك السفينة، وأنّ مَنْ تمسَّك من الأمة بأهل بيته وأخذ بهَدْيهم ـ كما حثّ عليه في الأحاديث السابقة ـ نجا من ظلمات المخالفات، واعتصم بأقوى سببٍ إلى ربّ البريات، ومَنْ تخلف عن ذلك، وأخذ غير مأخذهم، ولم يعرف حقهم، غرق في بحار الطغيان، واستوجب الحلول في النيران»([59]).

وبهذا تكون القيمة الاحتمالية لهذا الحديث لا تقلّ عن القيمة الاحتمالية لحديث الثقلين بالبيان المتقدِّم.

القرينة الثالثة: حديث الأمان ــــــ

1ـ نصّ الحديث ــــــ

 أـ روى الحاكم النيسابوري، بإسناده عن ابن عبّاس، عن رسول الله‘ قال: «النجوم أمانٌ لأمتي من الغرق، وأهل بيتي أمانٌ لأمتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا، فصاروا حزب إبليس»([60]). ثم قال: «هذا صحيح الإسناد، ولم يخرِّجاه»([61]).

ب ـ وروى الحاكم أيضاً، بإسناده عن جابر، عن رسول الله‘ قال: «﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ﴾، فقال: النجوم أمانٌ لأهل السماء، فإذا ذهبت أتاها ما يوعدون، وأنا أمانٌ لأصحابي ما كنتُ، فإذا ذهبتُ أتاهم ما يوعدون، وأهل بيتي أمانٌ لأمتي، فإذا ذهب أهل بيتي أتاهم ما يوعدون». ثم قال: صحيح الإسناد، ولم يخرِّجاه([62]).

2ـ مصادر الحديث ــــــ

لقد أحصى بعض المحقِّقين جملة من مصادر الحديث لدى أهل السنّة فكانت ستّة وعشرين مصدراً([63]).

3ـ الراوون للحديث ــــــ

روى هذا الحديث جملة من الصحابة، وهم:

1ـ الإمام عليّ×.

2ـ عبد الله بن عبّاس.

3ـ أبو سعيد الخِدْري.

4ـ جابر الأنصاري.

5ـ أنس بن مالك.

6ـ أبو موسى الأشعري.

7 ـ سلمة بن الأكوع([64]).

4ـ دلالة الحديث ــــــ

أـ تقرير دلالة الحديث الأوّل: جعل هذا الحديث الإمامة لأهل البيت بأجلى صورة، حيث قرَّر مرجعيتهم للأمة عند اختلافها مطلقاً، سواء في الشأن السياسي أو الديني أو الدنيوي، بحيث إن مَنْ خالفهم يكون حزب إبليس بنصّ الحديث.

ب ـ تقرير دلالة الحديث الثاني: لقد قرن النبيّ‘ بين وجوده في أصحابه وبين وجود أهل بيته من بعده في أمّته، ومن الواضح أنّ المراد بكونه أماناً لأصحابه هو الأمان على دينهم من خطر الانحراف والتبديل والتحريف، ولا شَكَّ أنّ هذه حيثية ترتبط بمقام الولاية على الدين وإمامة المسلمين، وعليه فما ثبت له من مقام الولاية يثبت لأهل بيته من بعده، حيث اعتبروا أماناً بنصّ الحديث؛ حتّى يقوموا بدور الأمان في الأمّة لنفس الحيثية المذكورة.

وثمّة تقريبٌ آخر لدلالة الحديث بصيغتيه، أفاده الشيخ المظفَّر، حيث قال: «ولا رَيْب أنه من أوّل الأمور على إمامة أهل البيت^؛ إذ لا يكون المكلَّف أماناً لأهل الأرض إلاّ لكرامته على الله تعالى، وامتيازه في الطاعة والمزايا الفاضلة، مع كونه معصوماً؛ فإنّ العاصي لا يأمن على نفسه، فضلاً عن أن يكون أماناً لغيره، ولا سيَّما إذا كان عظيماً، فإن المعصية من العظيم أعظم، والحجّة عليه ألزم، فإذا كانوا أفضل الناس ومعصومين فقد تعيَّنت الإمامة لهم، وهو دليلٌ على بقائهم ما دامت الأرض، كما هو مذهبنا»([65]).

والقيمة الاحتمالية لهذا الحديث لا تقلّ عن القيمة الاحتمالية لحديث الثقلين بالبيان المتقدِّم.

القرينة الرابعة: حديث الخلف العدول من أمتي ــــــ

قال رسول الله‘: «في كلّ خَلَفٍ من أمتي عدولٌ من أهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف المبطلين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ألا وإن أئمتكم وفدكم إلى الله فانظروا مَنْ توفدون»([66]).

والقيمة الاحتمالية لهذه القرينة والقرينة الخامسة والسادسة نظراً لورودها في غير الصحاح تتراوح بين (60% إلى 70%).

القرينة الخامسة: حديث مَنْ أحبَّ أن يحيا حياتي ــــــ

 قال رسول الله‘: «مَنْ أحب أن يحيا حياتي، ويموت ميتتي، ويدخل الجنة التي وعدني ربي، قضباناً من قضبانها غرسه بيده ـ وهي جنة الخلد ـ فليتولَّ علياً وذريته من بعده، فإنهم لن يخرجوكم من باب هدى ولن يدخلوكم في باب ضلالة»([67]).

وقوله: (فليتولَّ) أمرٌ ظاهر في الوجوب.

القرينة السادسة ــــــ

قال أمير المؤمنين×، في حديثه المشهور مع كميل بن زياد النخعي: «اللهمّ بلى، لن تخلو الأرض من قائمٍ لله بحجّة؛ لئلا تبطل حجج الله وبيناته، أولئك الأقلّون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً، بهم يدفع الله عن حججه، حتّى يؤدوها إلى نظرائهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، تلك أبدان أرواحها معلَّقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء الله في بلاده، والدعاة إلى دينه…»([68]).

ـ يتبع ـ

الهوامش

(*) أستاذٌ وباحث في الحوزة العلميّة في مدينة قم، وعضو هيئة تحرير مجلّة فقه أهل البيت^.

([1]) نظير تجديد السيد الشهيد الصدر في الاستدلال على إثبات أنّ الإمامة بالنصّ، لا بالانتخاب، حيث طرح منهجاً استدلالياً وتحليلاً علمياً جديداً لم يسبقه إليه أحدٌ في هذا المجال. انظر: بحث حول الولاية «المجموعة الكاملة لمؤلَّفات السيد الصدر» 11: 13.

ونظير تعميقات العلاّمة الأميني في الغدير؛ والعلامة التستري في إحقاق الحقّ؛ والسيد شرف الدين.

([2]) کالشيخ جوادي الآملي والشيخ السبحاني، حيث يذهبان إلى أنها مسائل كلامية جديدة، وليست كلاماً جديداً.

([3]) الملل والنحل 1: 13.

([4]) ادُّعي إجماع الإمامية على ذلك. انظر: بحار الأنوار 8: 368، وانظر: المحقِّق الحلّي، المسلك في أصول الدين: 187.

([5]) المذهب الذاتي في نظرية المعرفة: 7.

([6]) قال الشهيد الصدر في الأسس المنطقية للاستقراء: 469 حول كتابه هذا: «إنّ هذه الدراسة الشاملة التي قمنا بها كشفت عن الأسس المنطقية للاستدلال الاستقرائي، الذي يضمّ كل ألوان الاستدلال العلمي القائم على أساس الملاحظة والتجربة، واستطاعت أن تقدّم اتجاهاً جديداً في نظرية المعرفة، يفسِّر الجزء الأكبر منها تفسيراً استقرائياً مرتبطاً بتلك الأسس المنطقية التي كشف عنها البحث».

([7]) مباحث الأصول 2 (القسم 2): 295، 319؛ بحوث في علم الأصول 4: 327 ـ 334؛ دروس في علم الأصول، الحلقة الثالثة (القسم 1): 195 ـ 201.

([8]) بحوث في شرح العروة الوثقى 4: 295؛ 3: 419، 424.

([9]) موجز في أصول الدين: 162 ـ 172، 202 ـ 218؛ الأسس المنطقية للاستقراء: 403.

([10]) انظر للمزيد: كمال الحيدري، المذهب الذاتي في نظرية المعرفة: 115، 561، حيث درس باستيعاب تمام المعطيات العلمية لهذه النظرية في المجالات المذكورة.

([11]) موجز في أصول الدين: 145.

([12]) الأسس المنطقية للاستقراء: 469.

([13]) موجز في أصول الدين: 202.

([14]) الأسس المنطقية للاستقراء: 14.

([15]) موجز في أصول الدين: 151.

([16]) المصدر السابق: 154.

([17]) قال ابن العربي المالكي: «لم أعلم للحديث معنى». (تحفة الأحوذي 5: 66). وقال ابن الجوزي: «قد أطلت البحث عن معنى هذا الحديث، وتطلّبت مظانه، وسئلت عنه، فلم أقع على المقصود به». (تاريخ الخلفاء: 12 ـ 15).

([18]) ثمّة محاولات لدى بعض المدارس الكلامية الإسلامية لإسقاط أدلة الإمامة عن إفادة اليقين. انظر: محاولة الآمدي(631هـ) في أبكار الأفكار 5: 141 ـ 188؛ والإيجي(756هـ) في المواقف: 409؛ والجرجاني(812هـ) في شرح المواقف 8: 354؛ والتفتازاني(793هـ) في شرح المقاصد 5: 268.

([19]) دين پژوهي در جهان معاصر (دراسات وبحوث حول الدين في العصر الراهن): 53.

([20]) موجز في أصول الدين: 150.

([21]) المنطق 2: 265. وقد ذكر العلاّمة المظفَّر عدة وجوه لإثبات إفادة الاستقراء الناقص للعلم، فلاحِظْ.

([22]) ينقسم اليقين إلى ثلاثة أقسام، هي:

1ـ اليقين المنطقي أو (الرياضي): وهو المعنى الذى يقصده منطق البرهان الأرسطي بكلمة (اليقين). ويعني اليقين المنطقي: العلم بقضية معينة، والعلم بأن من المستحيل أن لا تكون القضية بالشكل الذي علم. فاليقين المنطقي مركب من علمين، وما لم ينضمّ العلم الثاني إلى العلم الأول لا يعتبر يقيناً في منطق البرهان. فاذا فرضنا ـ مثلاً ـ تلازماً منطقياً بين قضيتين على أساس تضمُّن أحداهما للأخرى من قبيل: (زيد إنسان)؛ (زيد إنسان عالم)، فنحن نعلم بأنّ زيداً إذا كان إنساناً عالماً فهو إنسان، أي نعلم بأنّه إذا كانت القضية الثانية صادقةً فالقضية الأولى صادقة. هذا العلم يقينٌ منطقي؛ لأنه يستبطن العلم بأنّ من المستحيل أن لا يكون الأمر كذلك.

وكما يمكن أن ينصبّ اليقين المنطقي ـ من جهة نظر منطق البرهان ـ على العلاقة بين قضيتين؛ بوصفها علاقة ضرورية من المستحيل أن لا تكون قائمة بينهما، كذلك يمكن أن ينصبّ على قضية واحدة حين يكون ثبوت محمولها لموضوعها ضرورياً. فعلمنا ـ مثلاً ـ بأن الخط المستقيم أقرب مسافة بين نقطتين يعتبر ـ من وجهة نظر المنطق الأرسطي للبرهان ـ يقيناً؛ لأننا نعلم بأن من المستحيل أن لا يكون الخطّ المستقيم أقرب مسافة بين نقطتين.

 وأما اليقين الرياضي فهو يندرج فى اليقين المنطقي بمفهومه الذي رأيناه في منطق البرهان الأرسطي؛ لأن اليقين الرياضي يعني تضمّن إحدى القضيتين للأخرى، فاذا كانت هناك دالّة قضية تعتبر متضمَّنة في دالّة قضية أخرى، من قبيل: (س) إنسان، مع (س) إنسان عالم، قيل، من وجهة نظر رياضية: إن دالّة قضية الأولى تعتبر يقينية؛ من حيث علاقتها بدالّة القضية الثانية. فاليقين الرياضي يستمدّ معناه من تضمُّن إحدى الدالّتين في الأخرى، بينما اليقين المنطقي في منطق البرهان يستمدّ معناه من اقتران العلم بثبوت شيءٍ لشيء بالعلم باستحالة أن لا يكون هذا الشيء ثابتاً لذاك، سواء كانت هذه الاستحالة من أجل تضمُّن أحدهما في الآخر أو لأن أحدهما من لوازم الآخر.

2ـ اليقين الذاتي: وهو يعني جزم الإنسان بقضية من القضايا بشكلٍ لا يراوده أيّ شكٍّ أو احتمال للخلاف فيها. وليس من الضروري في اليقين الذاتي أن يستبطن أيّ فكرة عن استحالة الوضع المخالف لما علم. فالإنسان قد يرى رؤيا مزعجة في نومه، فيجزم بأن وفاته قريبة، وقد يرى خطّاً شديد الشبه بما عهده من خطّ رفيق له فيجزم بأن هذا هو خطّه، ولكنه في الوقت نفسه لا يرى أيّ استحالة في أن يبقى حيّاً، أو في أن يكون هذا الخطّ لشخص آخر، رغم أنه لا يحتمل ذلك؛ لأن كونه غير محتمل لا يعني أنه مستحيل.

3ـ اليقين الموضوعي: وفي سبيل توضيح هذا المعنى لليقين يجب أن نميِّز في اليقين ـ أيّ يقين ـ بين ناحيتين: إحداهما: القضية التي تعلَّق بها اليقين؛ والأخرى: درجة التصديق التي يمثِّلها. فحين يوجد في نفسك يقين بأن جارك قد مات تواجه قضية تعلّق بها اليقين، وهي أن فلاناً مات، وتواجه درجة معيَّنة من التصديق يمثِّلها هذا اليقين؛ لأن التصديق له درجات تتراوح من أدنى درجة للاحتمال إلى الجزم، واليقين يمثِّل أعلى تلك الدرجات، وهي درجة الجزم الذي لا يوجد فى إطاره أيّ احتمال للخلاف. وإذا ميَّزنا بين القضية التي تعلّق بها اليقين ودرجة التصديق التي يمثِّلها أمكننا أن نلاحظ أن هناك نوعين ممكنين من الحقيقة والخطأ في المعرفة البشرية:

أحدهما: الحقيقة والخطأ في اليقين من الناحية الأولى، أي من ناحية القضية التي تعلَّق بها. والحقيقة والخطأ من هذه الناحية مردُّهما إلى تطابق القضية التي تعلَّق بها اليقين مع الواقع وعدم تطابقها، فإذا كانت متطابقة فاليقين صادق فى الكشف عن الحقيقة، وإلاّ فهو مخطىء.

والآخر: الحقيقة والخطأ في اليقين من الناحية الثانية، أي من ناحية الدرجة التي يمثِّلها من درجات التصديق، فقد يكون اليقين مصيباً وكاشفاً عن الحقيقة من الناحية الأولى، ولكنّه مخطىء في درجة التصديق التى يمثِّلها. فاذا تسرَّع شخص وهو يلقي قطعة النقد فجزم بأنها سوف تبرز وجه الصورة نتيجة لرغبته النفسية في ذلك، وبرز وجه الصورة فعلاً، فإنّ هذا الجزم واليقين المسبق يعتبر صحيحاً وصادقاً من ناحية القضية التي تعلَّق بها؛ لأن هذه القضية طابقت الواقع، ولكنّه رغم ذلك يعتبر يقيناً خاطئاً من ناحية درجة التصديق التي اتَّخذها بصورة مسبقة؛ إذ لم يكن من حقِّه أن يعطي درجة للتصديق بالقضية (إن وجه الصورة سوف يظهر) أكبر من الدرجة التي يعطيها للتصديق بالقضية الأخرى (إن وجه الكتابة سوف يظهر)، وما دمنا قد افترضنا إمكانية الخطأ في درجة التصديق، فهذا يعني افتراض أن للتصديق درجة محدودة في الواقع طبق مبرّرات موضوعية. وإن معنى كون اليقين مخطئاً أو مصيباً فى درجة التصديق أن درجة التصديق التي اتّخذها اليقين في نفس المتقين تطابق أو لا تطابق الدرجة التي تفرضها المبرّرات الموضوعية للتصديق.

الفرق بين اليقين الذاتي والموضوعي: ومن هنا نصل إلى فكرة التمييز بين اليقين الذاتي واليقين الموضوعي. فاليقين الذاتي هو التصديق باْعلى درجة ممكنة، سواء كانت هناك مبرّرات موضوعية لهذه الدرجة أم لا. واليقين الموضوعي هو التصديق بأعلى درجة ممكنة، على أن تكون هذه الدرجة متطابقة مع الدرجة التي تفرضها المبرّرات الموضوعية، أو بتعبيرٍ آخر: إن اليقين الموضوعي هو أن تصل الدرجة التي تفرضها المبرّرات الموضوعية إلى الجزم.

وعلى هذا الأساس قد يوجد يقين ذاتي، ولا يقين موضوعي، كما في يقين ذلك الشخص الذي يرمي قطعة النقد، ويجزم مسبقاً بأن وجه الصورة سوف يبرز. وقد يوجد يقينٌ موضوعي، ولا يقين ذاتي، أي تكون الدرجة الجديرة وفق المبرّرات الموضوعية هي درجة الجزم، ولكنّ إنساناً معيناً لا يجزم فعلاً؛ نظراً إلى ظرف غير طبيعي يمرّ به.

 وهكذا نعرف أن اليقين الموضوعي له طابع موضوعي مستقلّ عن الحالة النفسية والمحتوى السيكولوجي الذي يعيشه هذا الإنسان أو ذاك فعلاً. وأمّا اليقين الذاتي فهو يمثِّل الجانب السيكولوجي من المعرفة. (الأسس المنطقية للاستقراء: 322 ـ 326).

([23]) موجز في أصول الدين: 154.

([24]) الأسس المنطقية للاستقراء: 333.

([25]) الباب الحادي عشر: 82.

([26]) انظر: المواقف: 345. لكنّه نقض عليه بالنبوة.

([27]) المصدر نفسه.

([28]) مقدّمة ابن خلدون: 191.

([29]) شرح المواقف 8: 349 ـ 350.

([30]) المصدر السابق 2: 271.

([31]) شرح المقاصد 5: 233.

([32]) انظر لذلك مجمل التراث الكلامي للإمامية، کالذخيرة للمرتضى، والاقتصاد للطوسي، وتقريب المعارف للحلبي، والمسلك في أصول الدين للمحقّق الحلي، والمنقذ من التقليد، وغيرها كثير.

([33]) إننا في الحقيقة نحسن الظن كثيراً ونقوم بعملية ضبط كبيرة للنفس عندما نحتمل مثل هذا الاحتمال في شأن الرسول‘ ونطرحه في مقام البحث العلمي. فعذراً إليك يا رسول الله ألف ألف مرة. وطبعاً ليست هذه بأوّل قارورة تكسر ويزرى فيها على رسول الله‘. ألم يجيزوا عليه مخالفة حكم العقل والعقلاء بضرورة الاستخلاف، وهو المعروف بحرصه الشديد على هذه الأمة، حتّى كاد يذهب بنفسه حسرات عليها، فجاء الوحي مهدِّئاً لروعه بقوله: ﴿فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾، ولا سيَّما مع إخباره‘ بالملاحم والفتن من بعده، وأن أمته ستفترق ثلاثاً وسبعين فرقة، فكيف لم يتَّخذ الإجراء المناسب لتوحيدها وتجنيبها الفرقة؟ وهل افترق أمر هذه الأمة على شيءٍ كما افترق أمرها على الإمامة، التي ترك أمرها‘ بزعمهم؟!

([34]) انظر للاستدلال بهذه الآيات مع تعديل وإضافة في طريقة الاستدلال: تقريب المعارف: 124.

([35]) غاية المرام 2: 304 ـ 320، 321 ـ 367.

([36]) الصواعق المحرقة: 148.

([37]) سنن الترمذي 5: 329، ح3876،.

([38]) المستدرك على الصحيحين 3: 109.

([39]) سلسلة الأحاديث الصحيحة: 328 ـ 355.

([40]) إحقاق الحق 9: 309 وما بعدها؛ 18: 261.

([41]) المصدر السابق 9: 369.

([42]) الصواعق المحرقة: 149.

([43]) المصدر نفسه.

([44]) المصدر نفسه.

([45]) الموطأ: 785؛ سيرة ابن هشام 4: 275.

([46]) المستدرك على الصحيحين 1: 93.

([47]) السنن الكبرى 10: 114.

([48]) سنن الدارقطني 4: 159.

([49]) ميزان الاعتدال 1: 222، رقم854؛ تهذيب الكمال 3: 127، رقم459.

([50]) تهذيب الكمال 20: 279 ـ 283.

([51]) المصدر السابق 13: 95.

([52]) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد.

([53]) تهذيب التهذيب 8: 377.

([54]) المستدرك على الصحيحين 3: 150.

([55]) المعجم الكبير 3: 46.

([56]) إحقاق الحق 9: 270 ـ 293.

([57]) المصدر نفسه.

([58]) الصواعق المحرقة: 150.

([59]) رشفة الصادي: 80.

([60]) المستدرك على الصحيحين 3: 149.

([61]) المصدر نفسه.

([62]) المصدر نفسه.

([63]) إحقاق الحق 9: 294 ـ 308؛ 18: 323.

([64]) المصدرالسابق 9: 294.

([65]) دلائل الصدق 2: 312.

([66]) ينابيع المودة 2: 113؛ الصواعق المحرقة 2: 441.

([67]) كنـز العمال 11: 611، ح32690؛ تاريخ دمشق 42: 240.

([68]) تذكرة الحفاظ 1: 11؛ حلية الأولياء 1: 80؛ كنـز العمال 10: 263، ح29390.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً