أحدث المقالات

قراءة في (تفسير راهنما)

أ. محمد عابدي(*)

ترجمة: السيد حسن مطر الهاشمي

المقدمة([1]) ـــــــ

1 ـ الاتجاهات التفسيرية ـــــــ

ثمّة تقسيمات متعدّدة للاتجاهات التفسيرية، ومن أهمّ تلك التقسيمات؛ تقسيم جولدتسيهر، وهو من الذين ابتكروا بحث الأساليب والاتجاهات التفسيريّة([2])، وتقسيم الدكتور الذهبي([3])، وتقسيم الشيخ معرفت([4]). وفي تبويب شامل يمكن تقسيم الاتجاهات التفسيرية على النحو الآتي([5]): المذاهب التفسيرية، والمدارس التفسيرية، والانتماءات التفسيرية، وأساليب التأليف. ومجموع هذه المشخصات الأربع، هي التي تحدد نوعية الاتجاه لأيّ تفسيرٍ من التفاسير.

أ ـ المذاهب التفسيرية: عمد كلُّ مذهبٍ من المذاهب الإسلامية إلى تفسير القرآن الكريم انطلاقاً من قناعاته المذهبيّة؛ فاهتمّت الإسماعيلية بالتفسير الباطني والرمزي، وذهبت الخوارج إلى منهجها الخاص، كما مال مفسرو الشيعة إلى ظاهر وباطن القرآن الكريم والآيات المرتبطة بأهل البيت^ اعتماداً على روايات أهل البيت، وهكذا الأمر بالنسبة إلى سائر المذاهب الأخرى، حيث كان لمذهب المفسّر تأثيرٌ مباشر في تكوين اتجاهه وانتمائه التفسيري.

ب ـ المدارس التفسيرية: مضافاً إلى تأثير المذاهب، كذلك كان للمدارس التفسيرية دخلٌ في تحديد زاوية الرؤية التي ينظر المفسّرُ من خلالها إلى الآيات الشريفة؛ فقام كلٌّ من المعتزلة والأشاعرة ومتكلمو الشيعة بتفسير الآيات المباركة على كيفية خاصّة مغايرة للكيفية التي يراها الآخرون[6]).

ج ـ الانتماءات التفسيرية: وقد أدّى تخصّص المفسّر في علمٍ بخصوصه، أو مشربه ومذاقه الشخصي في علمٍ من العلوم أو مبحثٍ بخصوصه، إلى ظهور اختلافات في التفسير أيضاً؛ فظهرت لذلك اتجاهاتٌ متعددة؛ كالاتجاه الأدبي، والاتجاه الفقهي، والاتجاه الفلسفي، والاتجاه الاجتماعي، والاتجاه الأخلاقي، والاتجاه التاريخي، والاتجاه العلمي وما إلى ذلك.

من جهة أخرى، يميل المفسّرون إلى اتجاهاتٍ بعينها، بسبب ظروفهم وحاجاتهم الخاصّة وما يحيط بهم من مشاكل عصرهم؛ فينعكس ذلك على تفاسيرهم فتحكي بدورها عن تنوّعٍ في الاتجاهات، من قبيل تفسير (في ظلال القرآن) ذي الاتجاه الأخلاقي والروحي، و(تفسير الكاشف) لمحمد جواد مغنية ذي الاتجاه الجهادي والسياسي، وما إلى ذلك.

د ـ أساليب التأليف: إن لمشرب ومذاق المفسّرين ومن يخاطبونهم في تفاسيرهم، دخلٌ رئيس في اختيار الأساليب والميل نحو أسلوب بعينه، ومن هذه الناحية يمكن للتفسير أن يكون ترتيبيّاً كما في تفسير: الميزان، ومجمع البيان، وغيرهما، أو موضوعيّاً كما في تفاسير: نداء القرآن، والصحيفة الخالدة وغيرهما، أو مختصراً أو مطوّلاً كما في التفاسير الثلاثة: الأصفى والمصفى والصافي، وغيرها، والشرح والمتن كما في الميزان وغيره، أو مزجيّاً كما في تفسير شبر، ونفحات الرحمن للنهاوندي وغيرهما، أو كاملاً، كما في مجمع البيان للطبرسي، أو ناقصاً كما هي الحال بالنسبة لبعض السور، وفي الختام قد يكون أحياناً جامعاً في القراءات، واللغة، والأدب، والأقوال، والروايات، أو تخصّصيّاً من قبيل التفاسير الروائية أو الأدبية.

وبالالتفات إلى ما تقدّم، نستعرض كتاب (تفسير راهنما) لمؤلّفه الشيخ علي أكبر هاشمي رفسنجاني، ونبحث فيه عن مختلف الاتجاهات المذكورة.

2ـ تفسير راهنما، وسمات التفسير الجامع ـــــــ

هناك في كلّ تفسير تأثير كبير للتوجّهات العصرية وأساليب العرض والكتابة، وهذا بحدّ ذاته حصيلة ما يختزنه المفسّر من معتقدات وحاجات وأذواق واختصاصات علمية.  وفي التفاسير الفردية يمكن تحديد تلك التوجّهات بسهولة؛ بسبب محدوديتها عند المفسّر الواحد، أما بالنسبة إلى التفاسير ذات المجهود الجماعي ـ ومنها تفسير راهنما ـ فليس الأمر على تلك البساطة؛ إذ في المجهود الجماعي يقوم العمل على أساس مجموعة التوجّهات.

من هنا، يجب إدراج (تفسير راهنما) في قائمة التفاسير الجامعة؛ إذ وجدناه من خلال الفحص في فصوله المختلفة قد استفاد من جميع الاتجاهات استفادة كافية. ومع ذلك فإن هذه الدراسة تظهر أن بعض الاتجاهات ـ كالاتجاه الاجتماعي وما شابه ـ قد برز فيه بشكل أوضح من الاتجاهات الأخرى.

وبعد هذه المقدّمة، ندخل في تعريف مختلف الاتجاهات التفسيرية في (كتاب تفسير راهنما).

أ ـ المذهب التفسيري في تفسير راهنما ـــــــ

 يرى الشيخ معرفت أن الروايات التفسيرية في الحقيقة ما هي إلا منهاج لتعليم التفسير ومفتاح للوصول إلى مواضيع ومفاهيم وبطون القرآن الكريم، فإنهم^ يعلموننا كيفية تفسير القرآن الكريم.. والبطن عبارة أخرى عن التعمّق في آيات القرآن الكريم. هذا هو المفهوم العام الذي يرمي إليه القرآن الكريم والنبي الأكرم’ والأئمة الأطهار^، وهذه هي المفاهيم العامة التي تؤخذ من الآيات، والتي تكوَّن (تفسير راهنما) على أساسها، وهي بطن القرآن وتأويله؛ لأننا التزمنا بأن للقرآن سبعة أو سبعين بطناً، حيث يمكن الاستفادة من آية واحدة عدّة استفادات عرضيّة وطوليّة، وهناك لكلّ واحد منها شاهد صادق وناطق، ويستدعي هذا الأسلوب ـ للإنصاف ـ مجهوداً أساسياً وحيوياً هادفاً ومتيناً، وقد تمّ إنجازه في (تفسير راهنما)([7])، فعلى سبيل المثال، يتعرّض لشبهة المشركين في أنه ليس من الممكن للإنسان العادي أن يكون سفيراً ومرسلاً من قبل الغيب وقولهم: ﭽ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭼ؛ فيذكر جوابين للقرآن: أحدهما نقضيّ وهو قوله تعالى: ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭼ (الأنعام: 9)، وآخر حليّ وهو قوله تعالى: ﭽ ﮤ ﮥ ﮦ    ﭼ(الأنبياء: 7)، وقوله تعالى: ﭽ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ  ﮙ ﭼ (يوسف: 109)؛ إذ يطالبهم بسؤال أهل الكتاب حيث يعلمون أن جميع من أرسلنا من قبلك كانوا من البشر؛ فيذهب إلى أنّ هذا ما يقتضيه ظاهر القرآن، وأن النبي الأكرم يأمرنا بالبحث عن باطن الآية، وهكذا الإمام الباقر يقول: إن بطن القرآن هو تأويله، ثمّ يقول: إن المراد من المشرك في هذه الآية هو المشرك بما هو جاهل لا بما هو مشرك، والمراد من أهل الكتاب هو العالم لا بما هو من أهل الكتاب، وبذلك يصل إلى بطن الآية وكنهها وهو إن كلّ مجهول سواء أكان في الأصول أم الفروع ينبغي فيه رجوع الجاهل إلى العالم، وأنه يجوز تقليد العامي للفقيه العالم([8]).

المصادر الروائية المعتمدة ـــــــ

استندت اللجنة التفسيرية في إثبات المطالب الروائية إلى مصادر مثل: تفسير البرهان، ونور الثقلين، وبحار الأنوار، والدرّ المنثور، الجامعة لعمدة الروايات التفسيرية عند الفريقين([9]). كما درست اللجنة ما ينيف على الثلاثين من الكتب الروائية([10]). وتمّ الرجوع في متون الأحاديث إلى أقدم المصادر الرجالية لدى الشيعة والسنّة، وتمّ اعتماد الروايات على شرط عدم مخالفتها للقرآن الكريم وحكم العقل والأصول المتفق عليها عقليّاً. كما يشاهد بوضوح الاتجاه إلى المذهب التفسيري لأهل البيت في مقدمة هذا التفسير أيضاً: .. إن رسول الله’ مبيّنٌ لمراد القرآن. وكذلك طبقاً للحديث النبوي المتواتر: «إني تاركٌ فيكم الثقلين؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا»([11]) وطبقاً للحديث النبوي القطعي: «أنا مدينة العلم وعلي بابها»([12])، يكون الإمام علي ـ بوصفه من أبرز أعلام أهل البيت ـ وارثَ علم النبي الأكرم، وبالطبع فهو وارث لذلك العلم الذي كان رسول الله’ يفسّر به مبهمات القرآن الكريم، وأن أئمة أهل البيت من ولد عليّ هم عدلٌ للقرآن الكريم طبقاً لحديث الثقلين وغيره من الروايات. وعليه؛ تكون الروايات المعتبرة الصادرة عن الإمام علي وسائر أئمة أهل البيت في تفسير القرآن الكريم، حجّة وركناً أساسيّاً في عملية التفسير. بديهيّ أن الاستفادة قد تمّت من هذه الأحاديث في هذا التفسير بغية فهم كلام الله عز وجل([13]).

وقد سعى المصحّحون في تفسير راهنما إلى الوفاء والإخلاص عملياّ لهذا الاتجاه، ولذلك رجعوا إلى الأحاديث مراراً في تفسير الآيات، حتى كان حجم الاستفادة من الروايات في تفسير بعض الآيات ملحوظاً بشكلٍ كبير. من باب المثال تجد في هامش الآية 26 من سورة البقرة، الفائدة 8، 11 ـ 15، مستفادةً من الروايات، وفي هامش الآية 3 من سورة المائدة تشاهد بوضوح أن الفائدة 20 ـ 24، 26 ـ 30، 53 ـ 55، مستفادة من الروايات أيضاً. ومنها في الفائدة 54 نجد هذه الكلمات: إنّ ولاية علي× هي آخر فريضةٍ أنزلها الله تعالى، ﭽ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭼ ، قال الإمام الباقر×([14]): «أمر الله عز وجل رسوله بولاية علي… وكانت آخر الفرائض؛ فأنزل الله عز وجل: اليومَ أكملت… يقول الله عز وجل: قد أكملت لكم الفرائض»([15]).

ب ـ المدرسة التفسيرية لـ  تفسير راهنما ـــــــ

شكّلت آراء متكلّمي الشيعة في موارد عديدة أسساً فكرية للمحققين في تفسير الآيات، وأصولاً لا تقبل النقاش والجدل. لقد كانت عقائد المسلمين في عصر النبي الأكرم واحدة، وبعده برز الخلاف في مثل الإمامة والخلافة، ثمّ اتسع الخلاف وانسحب إلى أمور أخرى كصفات الله والأنبياء، حتى تكوّن علم الكلام في أواخر القرن الأول وبدايات القرن الثاني. فأسس واصل بن عطاء (80 ـ 131هـ) مدرسة الاعتزال، وأقام أبو الحسن الأشعري (330هـ) مدرسة الأشاعرة. وانتعشت مدرسة أهل البيت^ الكلامية بعقائد خاصّة في مسألة الإمامة والعصمة وما إلى ذلك ـ من الأمور التي صدع بها أهل البيت منذ صدر الإسلام ـ على يد الشيخ المفيد (336 ـ 413هـ)، والتجأت المدارس الكلامية إلى القرآن لإثبات معتقداتها؛ فتمسّكت بما وافقها من الآيات، وعملت على تأويل المخالف منها، من هنا ظهر (الاتجاه الكلامي المدرسة التفسيريّة) في التفسير.

وأهمّ المدارس الكلامية في التفسير هي الاتجاه الكلامي لدى المعتزلة([16])، والأشاعرة([17])، والشيعة. ومن أهم التفاسير ذات الاتجاه المعتزلي يمكن الإشارة إلى متشابه القرآن، وتنزيه القرآن عن المطاعن للقاضي عبد الجبّار، وأنوار التنزيل وأسرار التأويل للقاضي ناصر الدين البيضاوي، وجامع التأويل لمحكم التنزيل لأبي مسلم الإصفهاني، وغيرها([18]). ومن التفاسير ذات الاتجاه الكلامي عند أهل السنّة يمكن عدّ تأويلات القرآن لأبي منصور محمود بن الماتريدي، ومدارك التنزيل عن حقائق التأويل لعبد الله بن أحمد النسفي، وبيان المعاني لعبد القادر آل غاري، ومفاتيح الغيب للفخر الرازي، وغيرها([19]).

وما يمكن بحثه عن الاتجاه الشيعي في التفسير عبارة عن: التوحيد في الصفات والأفعال، والعدل الإلهي، والاهتمام بالعقل والنقل، والاعتقاد بالحسن والقبح العقليين، وحرية الإنسان واختياره في مقولة الأمر بين الأمرين، ورفض التكليف بما لا يطاق، وامتناع الرؤية بالعين، والاعتقاد بإمامة الأئمة الأثني عشر^، وعصمة الأئمة والأنبياء، والاعتماد في التفسير على البعدين: الظاهري والباطني([20]).

ومن أهم التفاسير ذات الاتجاه الشيعي، يشار إلى غرر الفوائد ودرر القلائد أمالي السيد المرتضى، والتبيان للطوسي، ومجمع البيان للطبرسي، وصولاً إلى الميزان في تفسير القرآن للطباطبائي و…

وهناك مواطن عديدة في تفسير راهنما، تتجلّى فيها المدرسة الكلامية الشيعية بوضوح، ومنها ما في تفسير قوله تعالى: ﭽ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﭼ (الإسراء: 79)، ففي الوقت الذي ترى الأشاعرة فيه أن الله سبحانه وتعالى يجلسُ نبيه على عرشه إكراماً له لتهجّده في الليل، وتذهب المعتزلة إلى نفي أن يكون لله مكان، وترى استحالة جلوس الله على العرش([21])، نجد في تفسير راهنما الكلام الآتي:  «9 ـ بلوغ المقامات الروحيّة السامية (المقام المحمود)…  14 ـ إرشاد النبي الأكرم إلى الوصول إلى المقامات الروحية العالية، مظهرٌ من مظاهر الربوبيّة له.  15 ـ كان النبي’ بحاجة إلى القيام ببعض الأعمال المناسبة لكسب الكمالات الروحيّة الرفيعة.  16 ـ إن المقام المحمود مقام في غاية الرّفعة بين المقامات الروحيّة.  19 ـ سؤل الإمام الباقر أو الصادق عن معنى قوله تعالى: ﭽ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﭼ ؛ فقال×: «إن المراد من المقام المحمود هو الشفاعة». 20 ـ قال الإمام علي×: «… يجمع الله الناس ـ يوم القيامة ـ في موضعٍ فيه مقام محمدٍ وذلك هو المقام المحمود»([22]). وبذلك يتضح أن تفسير راهنما من خلال التفاته إلى مبدأ امتناع الرؤية وعدم جسميّة الله عز وجل.. وفي ظلّ تفسير أهل البيت يرى المقام المحمودَ مقاماً معنويّاً.

وفيما يتعلق بقوله تعالى: ﭽ ﭙ ﭚ   ﭛ   *  ﭝ     ﭞ ﭟ       ﭼ  (القيامة: 22 ـ 23)، ذهب بعض مفسّري الأشاعرة إلى رؤية الله يوم القيامة، وهو ما تؤيّدهُ رواياتٌ في صحيح البخاري([23])، إلا أنّ المعتزلة رأت أن ظاهر هذه الآية يتعارض مع قوله تعالى: ﭽ ﭥ ﭦ  ﭧ  ﭨ ﭩ ﭪ ﭼ (الأنعام: 103)، وذهبت إلى مجازيّة رؤية الله في يوم القيامة([24]). بينما ذهب تفسير راهنما ـ آخذاً بعين الاعتبار الأسس الشيعيّة ـ إلى أن معنى النظر إلى الله سبحانه هو النظر إلى ثوابه وانتظار رحمته (الفائدة: 3)، والنظر إلى الله دون أن تكون له كيفيّة أو حدٌّ محدود (الفائدة: 4،حديث للرسول الأكرم’)، وانتظار الثواب الفائدة: 5، حديث للإمام الرضا×([25]).

 ج ـ انتماءات التفسير ـــــــ

أدّى تنوّع الاختصاصات لدى المحقّقين العاملين في مشروع تفسير راهنما إلى محصول مفعم بجميع الاتجاهات اللازمة في التفسير؛ فيمكن مشاهدة الاتجاه الأدبي فيه إلى جانب الاتجاه الفقهي والفلسفي والاجتماعي وغيرها أيضاً.

1 ـ الاتجاه الأدبي ـــــــ

يعمد أصحاب هذا الاتجاه ـ من خلال إعراب الجمل وتركيبها ـ إلى دراسة ألفاظ الآيات ومعانيها، مستفيدين في ذلك من علوم النحو والصرف والبلاغة وأقسامها من المعاني والبديع وما إلى ذلك، ويرون أن القرآن قد نزل باللغة العربية ولابد لفهمه من الاستعانة بهذه اللغة. وأهم التفاسير ذات الاتجاه الأدبي: مجمع البيان، وجوامع الجامع للطبرسي، والكشاف عن حقائق غوامض التنزيل للزمخشري، وإملاء ما منّ به الرحمن من وجوه القراءات في جميع القرآن لأبي البقاء العكبري، وتفسير التبيان للطبرسي وغيرها.. وقد استفاد المحققون في تفسير راهنما من كتاب مجمع البيان وغيره في عملهم هذا.

وقد اهتم هذا الاتجاه بالإعراب والتركيب ومعاني الألفاظ والفصاحة والبلاغة والمترادفات وما إلى ذلك؛ فمثلاً نجد الزمخشري في قوله تعالى: ﭽ ﭙ ﭚ   ﭛ        *  ﭝ     ﭞ ﭟ       ﭼ يستفيد الحصر من تقدم معمول (إلى ربها)؛ أي أن العباد في القيامة لا ينظرون إلا إلى ربّهم، ثم يطرح إشكالاً ويجيب بالتفصيل عن انحصار الرؤية إلى الله سبحانه ويتوصّل إلى أن المعنى هو نظر الناس في يوم الحشر إلى نعمة الله وكرمه دون تجسيد الله عز وجل ([26]).

وتفسير راهنما وإن لم يكتب بأسلوب أدبي، إلا أن اعتماد المصادر وما جمعه من الموارد الأدبية البديعة يكشف النقاب عن تدخل هذا الاتجاه في فهم الآيات الشريفة، وبعبارة أخرى: كثيراً ما نجد الأدبيات فيه، لكن لا بوصفها أسلوباً، بل اتجاه تفسيريّ، ومن ذلك ما نراه في تفسير ذات هذه الآية:

1 ـ إنّ وجوه المؤمنين المنيرة يوم القيامة تتطلّع إلى الله فقط منجذبة إلى جماله ﭽﭙ ﭚ   ﭛ   *   ﭝ     ﭞ ﭟ       ﭼ، ويمكن أن يكون تقدم (إلى ربّها) لإفادة الحصر.

2 ـ ينظر المؤمنون يوم القيامة إلى لطف الله وثوابه فحسب ﭽ ﭝ     ﭞ ﭟ       ﭼ وهذه الاستفادة تقوم على حذف المضاف، وتقديره: إلى ثواب ربّها ناظرة.

3 ـ إنّ أعين المؤمنين يوم القيامة لا ترجو غير الله تعالى..([27]).

وتكشف هذه الفوائد بوضوح عن الاتجاه الأدبي في هذا التفسير، وكانت تجدر الإشارة إلى المصادر التي تدلّ على هذا الاتجاه.

2 ـ الاتجاه الفقهي ـــــــ

هناك أحكام تكليفية في الكثير من آيات القرآن الكريم([28])؛ وقد كان يتمّ العمل بهذه الآيات في عصر النبي الأكرم’، لكن بعده ظهرت خلافات وكان المفسّرون مع وجود الإمام علي وأهل البيت يعملون على رفع الإشكالات([29])، وكان هذا منطلقاً لنشوء (فقه القرآن) كتفسير موضوعي استمرّ إلى يومنا هذا. لكن بعد أن ظهرت المذاهب الفقهية في القرن الثاني وما بعد، عمد كلّ مذهبٍ إلى تفسير آيات الأحكام، والتجأ بعضها أحياناً إلى التأويل وأسرف في ذلك([30]). وفي هذا الاتجاه تُعالجُ الآيات التي تتعلّق بحياة الناس وتبيّن لهم أحكامهم الشرعية. ويقوم هذا التفسير على الأسس التي تبنّاها المفسر في فقه مذهبه وأصوله. ويعمل المفسّر على فهم المسائل وفقاً لاتجاهه الفقهي، ويعقد العزم على استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من الآيات. فيعمل المفسّر الشيعي على أساس مذهب أهل البيت ويفسّر آيات الأحكام برواياتهم، وطبعاً يستفيد كذلك من القرائن العقلية الأخرى، ومن هذه التفاسير: أحكام القرآن للراوندي، وزبدة البيان في أحكام القرآن للمحقق الأردبيلي، وكنز العرفان للفاضل المقداد، وغيرها..

وبعض هذه الآيات التي تُبدي الاتجاه الفقهي الشيعي في تفسير راهنما عبارة عن آيات: المتعة([31])، والخمس([32])، وحج التمتع، والوضوء([33])، وغيرها… ومضافاً إلى ذلك عمد المحققون تحت عنوان (الأحكام) بتحديد المطالب الفقهية التي تقوم بأجمعها على الأسس الفقهية الشيعيّة، من باب المثال في هامش الآية 24 من سورة النساء تحت عنوان الأحكام، يمكن ملاحظة الفائدة: 1 ـ 6، 8 ـ 9، 11 ـ 14، 16، 22 ـ 25، وعنوان الزواج الأحكام ـ 1، 4، 6، 7، 8، 14، 19، 22، 23، 25، والأحكام ـ المنقطع: 11، 12، 13، 20، 24؛ والجمع بين الأختين 14؛ ومن غير المسلمة 22؛ والمحارم 4، والحرام 1، 4؛ وفي الأديان 7؛ وفي الإسلام 7؛ والأهمية 5؛ والشروط 8؛ وشرائط الصحة 14؛ والمعاهدة 25؛ والمهر 8؛ والعلاقات الجنسية محدودة،5، المرأة حقوق، 15، والأمة  الاستمتاع 2، اللذائذ الحرام 1؛ الحلال 2، والمحرمات 1 ،4، 9، ومؤنة السنة الحرام 9، المهر الأحكام: 12، 13، 14، 16([34]).

ففي شرعية الزواج المنقطع (المتعة)، ﭽ ﭪ ﭫ ﭬ    ﭭ ﭼ، قيِّد دفع المهر بشرط الاستمتاع، والمراد من الاستمتاع هو الزواج المنقطع (المتعة)؛ وذلك لأن دفع المهر في العقد الدائم ليس مشروطاً بالاستمتاع الجنسي، وهو ما يؤيّده حديث الإمام الباقر× حيث أجاب عن سؤال حول المتعة فقال: نزلت في القرآن فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ أجورهنّ فريضة([35]). وقد بحث تفسير راهنما أيضاً عن وجوب تحديد مقدار المهر في الزواج المنقطع. ووجوب دفع المهر في قبال الاستمتاع الجنسي فيه، وتحديد مقدار المهر فيه شرطٌ في صحة العقد، وجواز تغيير مقدار المهر بالزيادة أو النقصان أو هبته برضا الطرفين، ويقوم تشريع الزواج المنقطع وأحكامه على حكمة الله وعلمه، وجواز تمديد الأجل وزيادة مهر المرأة في الزواج المنقطع بعد انتهاء مدّته([36]).

كما نشاهد الاتجاه الفقهي الشيعي في تفسير راهنما فيما يتعلّق بآية الوضوء بوضوح ﭽ ﭘ  ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ… ﭼ؛ حيث يذهب إلى أنّ المراد من عبارة (إلى المرافق) بيان الحدّ من اليد، لا بيان الغاية من الغسل، أي إنّ الآية تقول: اغسلوا أيديكم على أن لا يقتصر هذا الغسل على الأكف، ولا يتجاوزه إلى الأكتاف، بل حدّ الغسل إلى المرافق، وهذا ما يؤيده حديث الإمام الباقر×([37]) حيث قال في توضيح هذه الآية: «… وليس أن يدع شيئاً من يديه إلا المرفقين إلا غسله؛ لأنّ الله يقول: ﭽ ﭘ  ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ… ﭼ»([38]).

وحول وجوب الوضوء للصلاة بعد الاستيقاظ من النوم ﭽ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ  ﭙ ﭼ قال الإمام الصادق([39]) في جواب سؤالٍ عن معنى قوله: (إذا قمتم) في هذه الآية: «إذا قمتم من النوم…»([40])، وكذلك فيما يتعلق بالآية 282 من سورة البقرة؛ فقد توصّل تفسير راهنما إلى اثنين وستين مطلباً وفائدة فيها.

3 ـ الاتجاه الفلسفي ـــــــ

يندرج البحث عن الوجود ومباحثه في نطاق الفلسفة، وقد ذهب بعض المحققين كالفخر الرازي والغزالي إلى تعارض الأفكار الفلسفية مع الإسلام، خاصة تلك التي ظهرت في عهد المنصور والمأمون العباسي من خلال ترجمة المؤلّفات اليونانيّة والهنديّة والفارسية([41]). في حين ذهب آخرون كالفارابي وابن سينا وصدر المتألهين إلى الإيمان بالفلسفة، ووجدوها منسجمة مع آيات القرآن الكريم([42])، إن العناية بتفسير الآيات التي تتحدّث عن الكون والوجود وما شابهها من الآيات من خصائص هذا الاتجاه، ويستفيد من الأسلوب الاجتهادي والعقلي. ويعدّ تفسير ابن سينا، والتفسير القرآني، واللغة الصوفيّة في فلسفة ابن سينا، تأليف: حسن العامي في شرح الأسس التفسيرية لابن سينا، من الكتب التفسيرية ذات الاتجاه الفلسفي المشائي، وبالنسبة إلى الاتجاه الإشراقي ينبغي الرجوع إلى مؤلفات شيخ الإشراق. أما التفاسير المتأثرة بالحكمة المتعالية فعبارة عن: تفسير القرآن الكريم وأسرار الآيات لصدر المتألهين، وتحفة الأبرار في تفسير القرآن، وتفسير الرضوان([43])، وختاماً الميزان في تفسير القرآن. وأهم الآيات المطروحة في هذا الاتجاه المذكور عبارة عن: إثبات وجود الله وطرقه الاستدلالية المختلفة، وحقيقة وجود الله وصفاته، والتوحيد ومراتبه ومراحله، ومسألة النفس والعقل والعليّة، وما شاكل ذلك([44]).

ومن باب المثال يمكننا أن نذكر قوله تعالى: ﭽ ﮩ ﮪ ﮫ  ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ        ﭼ (النور: 35)، وقوله تعالى: ﭽ ﯴ   ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﭼ (الحديد: 3)، ومن باب المثال ذكرت في تفسير راهنما خمسة وعشرون فائدة على هامش الآية: 35 من سورة النور، تتحدّث عن ذات الله وصفاته وما إلى ذلك، ومن تلك الفوائد: وجود الله تعالى  ظاهرٌ وبيِّن … جاء في تعريف النور: ظاهرٌ بنفسه، ومظهرٌ لغيره. إنّ الله تعالى هو مصدر وجود عالم الخليقة… بناءً على كون المراد من النور معناه الكنائي والمجازي، أي نور الوجود؛ إذ العالم لولا إفاضة الوجود عليه من قبل الله سيندثر في ظلمات العدم المحض. إن نور الله ذاتيٌّ، وهو منزّهٌ عن جميع أنواع الشوائب… ويقوم هذا المعنى على أساس مسألتين في تشبيه نور الله: كونه مصدر النور، من دون أن يكون دخل للعوامل الخارجيّة، فهو متوهّج بذاته ولو لم تمسسه نار، مما يثبت أن نور الله منه وليس من سبب خارج ذاته، الأمر الذي يثبت حقيقة أن نور الله منزّهٌ عن جميع الشوائب. إن نور الله في غاية الإضاءة والإنارة، ومجرّد عن جميع أنواع الظلمة والحلكة. إن ذات الله حقيقة بعيدة المنال، ولا يمكن للبشر إدراك كنهها، وهذه الحقيقة تقوم على أساس هاتين النقطتين الموجودتين في تشبيه نور الله عز وجل. وبدلاً من تشبيه ذات الله تعالى، تمّ تشبيه إحدى صفاته ـ وهي النور ـ فيما الآية الشريفة في معرض التعريف بالله عز وجل. ونور الله ـ الذي هو أمرٌ غير محسوس ـ تمّ تشبيهه بعدّة أمورٍ محسوسة يدركها الجميع؛ وعليه فإنّ ذات الله لا ينالها الإدراك، والذي يمكن إدراكه هو صفاته فقط. وهذا الإدراك إنما يتيسّر في حدود التعرّف على المحسوسات لا غير. وإمكان التعرّف على صفات الله عن طريق التشبيه والتمثيل وما إلى ذلك. وعلم الله تعالى شامل لجميع ظواهر الكون. ومشيئة الله على هداية العالمين بنوره ناشئة من علمه الشمولي…([45]). كما وهناك مطالب متنوّعة وردت في الفوائد الأخيرة.

 4 ـ الاتجاه الاجتماعي ـــــــ

يمكن إرجاع نهضة الاتجاه الاجتماعي في تفسير القرآن إلى القرون المتأخرة والحركة الاجتماعية التي قادها السيد جمال الدين الأسدآبادي ومحمد عبده([46]). وإن تفاسير من قبيل: المنار، وفي ظلال القرآن، ومحاسن التأويل، والميزان، وتفسير نمونة، وبرتوي أز قرآن، والكاشف، ومن وحي القرآن، يمكن تصنيفها ضمن هذا الاتجاه([47]).

وبعض خصائص هذا الاتجاه عبارة عن: معالجة الآيات التي تبيّن المسائل الاجتماعيّة، والاهتمام بمشاكل المسلمين المعاصرة، والسعي إلى استنباط العقائد من القرآن الكريم، وعدم الإغراق في الاتجاه الفلسفي والمذهبي والأدبي والفقهي؛ والنزوع العصري في باب جهاد الأعداء والمستعمرين وأسباب الوحدة و… والتأكيد على التعاليم التربويّة والإرشاديّة في القرآن الكريم، وإعطاء العقل أهميّة في التفسير والاستفادة من الأسلوب العلمي؛ وتجنّب الإسرائيليّات والروايات الخرافية والموضوعة وما شابه ذلك؛ والاستفادة من البيان الممتع والبسيط والموجز والذي يفهمه الجميع؛ والإجابة عن شبهات وإشكالات المخالفين للقرآن والإسلام؛ وتأويل ظواهر الآيات المنافية للحقائق الشرعية والعقلية والعلمية الثابتة، أو الذهاب إلى مجازيّتها؛ والتمتع بروح اجتماعية والتفسير من الزاوية الاجتماعيّة دون الفرديّة؛ وتطبيق السنن الاجتماعية للآيات القرآنية على حاجات العصر، والابتعاد عن التقليد في التفسير([48]).

ومن خلال مطالعة دقيقة في تفسير راهنما، ندرك أن هذا الاتجاه قد حظي من قبل المحقّقين باهتمامٍ أكبر ممّا حظيت به سائر الاتجاهات الأخرى.

إن الظروف التي يعيشها الباحثون نتيجة لانتصار الثورة وإقامة الحكومة الإسلامية في إيران تبيّن مدى الحاجة إلى إجابة الدين عن آلاف الأسئلة العملية والنظريّة في مجال الدين ورقعته. ويتمّ إبراز هذا التفسير في وقت تمسّ فيه الحاجة أكثر من أيّ وقتٍ مضى للحصول على أجوبة القرآن سياسيّاً واجتماعيّاً وأخلاقياً واقتصاديّاً وعلميّاً…([49]) ، من هنا فقد سعى تفسير راهنما إلى الإجابة عن الحاجات المتنوّعة، وبعض الآيات التي لوحظ فيها الاتجاه الاجتماعي لهذا التفسير أكثر من غيرها عبارة عن:

1 ـ آل عمران: 200 و… العلاقات الاجتماعية بين المسلمين، الصبر والثبات أمام العدو، عوامل صمود المسلمين..

2 ـ آل عمران: 103، إتحاد الأمة الإسلاميّة، وقد ذكر هنا 33 فائدة.

3 ـ النساء: 101… العلاقات بالأمم الأخرى، ومبدأ نفي السبيل في السياسة الخارجيّة.

4 ـ الآيات المتعلقة بالحكومة الإسلاميّة.

5 ـ الآيات المتعلقة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

6 ـ الآيات المتعلقة بالصحّة الفرديّة والاجتماعيّة، والمساعدة والتعاون، والجهاد الإسلامي، وحريّة الإنسان، ومكافحة الاستبداد، والتربية والتعليم وغير ذلك، كما في الآية 200 من آل عمران التي تبيّن أنموذجاً من هذه الآيات المذكورة.

7 ـ آل عمران: 118 ـ 123، علاقة المسلمين بالأجانب، ضرورة الحذر واليقظة في التعامل مع الأعداء.

8 ـ المؤمنون: 24، الأنبياء واصطفاف الطبقة الأرستقراطيّة ضدّهم، عقيدة الكفار بالأنبياء، مخالفة الأشراف والأثرياء لنوح…

9 ـ النور: 55، السلم الاجتماعي، عوامل الانتصار، مقدّمات الحاكميّة، خلافة الأنبياء، حكومة الشيعة، الوعد بالنصر، أمان الصالحين، وما إلى ذلك.

ونكتفي بذكر مثالٍ واحد لذلك؛ فقد جاء في تفسير راهنما ـ على هامش قوله تعالى: ﭽ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ  ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﭼ ـ خمس وعشرون فائدة تحكي جميعها عن الاتجاه الاجتماعي بمختلف أبعاده، منها عناوين الفوائد التالية: المؤمنون مكلّفون بالثبات والمقاومة أمام الأعداء الألدّاء. لزوم الصبر والتحمّل المتقابل في صفوف المسلمين… يجب على المسلمين ترغيب بعضهم بعضاً بالصبر والثبات في مواجهة المشاكل. يجب على المؤمنين إقامة العلاقات والتنسيق فيما بينهم. حفظ وحماية الثغور وحدود البلاد الإسلامية واجب على جميع المؤمنين. الصبر والتصبّر مقدمة لتوثيق الأواصر الاجتماعية. إقامة الأواصر الاجتماعيّة في المجتمع الإيماني علامة على تقوى المؤمنين. إن انتصار وسعادة المجتمع الإيماني رهنٌ بإقامة العلاقات فيما بينه. الابتعاد عن المعاصي، والأمر بالمعروف النهي عن المنكر والاستعداد للدفاع عن الأئمة، واجبٌ على المؤمنين. وقد قال الإمام الصادق×([50]) بشأن اصبروا: «عن المعاصي»، وبشأن واتقوا: «مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر»، وبشأن رابطوا: «نحن الرباط الأدنى؛ فمن جاهد عنّا فقد جاهد عن النبيّ»([51]). وكذلك اهتم المحققون تحت عنوان المجتمع بتأثير العلاقات الاجتماعية والدينيّة و..

 5 ـ الاتجاه التاريخي ـــــــ

تظهر الحقائق الموجودة أنّ عدداً كبيراً من الآيات القرآنية تختصّ بموضوع التاريخ، حتى ذهب بعض الباحثين إلى أن المطالب التاريخيّة تشكّل ثلاثة أرباع القرآن الكريم([52]). وتفسير راهنما وإنْ لم يخلُ من هذا الاتجاه، إلا أننا نشهد فيما يتعلّق بأبعاد التاريخ الأربعة: فلسفة التاريخ، وعملية التأريخ، والمجتمع التاريخي، وأساليب التاريخ، ضعفاً ملحوظاً بسبب غياب المختصّين في هذا المجال، فمثلاً لم يتم بحث انقطاع الوحي في أوّل سورة الضحى، وهو عنوان تاريخي، وإنما عُرض في ذيل عنوان الوحي، في حين أن هذه الاستفادة المذكورة بنفسها من الآية الشريفة ناظرة إلى حدث تاريخيٍّ، إذ هو حدث انقطاع الوحي، وترتبت عليه أمورٌ أخرى أيضاً، من قبيل تشبّث المشركين بهذا الحدث كذريعة لهم وما شابه ذلك([53]).

والأنموذج الآخر مقارنة سورة طه بسورة القصص، حيث تجد في سورة القصص تأصيلاً للمجتمع، بينما تجد الكلام في سورة طه يتمحور حول شخصيّة موسى×، بعبارة أخرى لو تمّت دراسة الآيات بوصفها مجموعة واحدة، لكان بالإمكان الإفادة من أجزاء متعددة من الاتجاه التاريخي. وطبعاً ذكر المحققون بعض الفوائد أحياناً، كصناعة الزجاج واستخدامه للإضاءة في عصر البعثة من خلال الالتفات إلى الآية: 35 من سورة النور: ﭽﯕ ﯖ ﯗﯘ  ﯙ ﯚ ﯛ  ﯜ  ﭼ([54])، وهناك فائدة يبيّنها هذا التفسير بشأن الآية: 213 من سورة البقرة: ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﭼ، وذلك في الفائدة رقم 45.

طبعاً من الواضح أننا لو توقعنا من تفسير راهنما الإحاطة بجميع النواحي التاريخيّة وتشعّباتها، فعندها سيتحوّل هذا التفسير من كونه جامعاً للاتجاهات المتنوّعة إلى تفسير تخصّصيّ ذي منهج وأسلوب تاريخيٍّ بحت وليس ذا اتجاه تاريخي، وهذا ما لا يدّعيه المحققون في هذا التفسير أنفسهم.

د ـ أسلوب التأليف ـــــــ

يُظهر أسلوب التأليف اتجاهاتٍ متعدّدة أيضاً، من هنا كان لابد من الاهتمام به في إطار الاتجاهات. وفي هذا البحث يمكن الإشارة إلى الموارد الآتية:

1 ـ الترتيبي أو الموضوعي: توصل مركز الثقافة والمعارف القرآنيّة ضمن بيان معنى التفسير الترتيبي والموضوعي وأساليب كلٍّ منهما إلى أن الأسلوب الآخر هو التفسير الموضوعي المنهجي. وهذا الأسلوب ـ خلافاً للأساليب السابقة التي تنظر إلى مسائل كل موضوع واحدة واحدة كدائرة معارفٍ موضوعية ويحققها بمعزلٍ عن ارتباطها ببعضها ـ يدرس الموضوعات على أساس الترابط والانسجام القائم بينها، ويتمّ عرضها بشكل منهجيّ ومنظم… وقد سمّي هذا الأسلوب في مصطلح آخر بـالتفسير الموضوعي الإرتباطي([55]).

وقد اتبع تفسير راهنما الأسلوب الترتيبي من سورة الفاتحة إلى سورة الناس، مع فارق أنه يأتي بالآية أولاً، ثم المطالب المستفادة من ظاهرها أو من الروايات أو من سبب النزول، وإذا مسّت الحاجة إلى الاستدلال، بيّن ذلك باختصار، وفي ختام كل قسم من الآيات تذكر فهرسة لعناوين موضوعات تلك الآية.

2 ـ مختصر أو مطوّل: بلغ مجموع هذا التفسير عشرين مجلداً. والحقيقة أنه لو أريد لهذا التفسير أن يكتب كسائر الكتب التفسيريّة الأخرى، مع المحافظة ضمناً على هذا الجمّ من المعلومات، فلربما بلغ حجمه أكثر بكثيرٍ مما هو عليه الآن. وهذا ما يؤكّده الاختصار في بيان بعض المطالب الذي أدّى أحياناً إلى عدم اكتمال بعض الجمل. وعليه ينبغي عدّ هذا التفسير ذي العشرين مجلداً تفسيراً مطولاً من حيث الحجم، مختصراً من حيث النصّ المكتوب.

3 ـ الشرح المتني أو المزجي: تمّ فصل متن الآيات في تفسير راهنما عن الترجمات. كما امتازت النكات التفسيريّة من الترجمات أيضاً. وطبعاً هناك بعض النكات التفسيريّة التي هي ذات الترجمات ولا يمكن تسميتها نكاتاً تفسيرية.

4 ـ كامل أو ناقص: إنّ هذا التفسير تفسيرٌ كاملٌ وشامل لجميع القرآن الكريم.

5 ـ جامع أو متخصّص: يقع تفسير راهنما ضمن التفاسير الجامعة، من هنا نشاهد فيه مختلف الاتجاهات. وهناك من ينطلق من الخلط بين هذين الموضوعين فيشكل على هذا التفسير، ويريد منه أن يكون تفسيراً مختصّاً في موضوعٍ واحد كالتاريخ مثلاً، يسلّط الضوء على جميع زوايا علم التأريخ وأبعاده، ويعمل على استعراضها ودراستها من خلال القرآن الكريم. ولو ظهر مثل هذا التفسير الذي يكون جامعاً ومع ذلك يلحظ جميع العلوم في عملية التفسير؛ فسنطلق عليه عنوان جامع التخصّصات، وحتى الآن لم يدّعِ شخص كتابة مثل هذا التفسير.

6 ـ الإرجاع إلى المصادر: فيما يتعلق بآراء المفسّرين لم يتم الرجوع إلى المصادر بشكلٍ كاف، وإن تمّت الإشارة في بداية الكتاب إلى المصادر التفسيريّة.

7 ـ ترجمة الآيات: أضيفت الترجمة الفارسية إلى الآيات ابتداءً من الجزء الثامن فما بعد، وقد لجأ المحققون إلى ذلك تلبية للأهداف كـحاجة المخاطب إلى الترجمة، وللاستغناء عن الرجوع إلى القرآن المترجم. وطبعاً فإن النظر في ترجمة الآيات وتطبيقها على التفاسير المذكورة وضبط دقتها تستلزم جهداً مفصلاً؛ إذ ذكر المحققون أحياناً مطالب مختلفة في بعض الأمور التفسيرية ، دون أن يذهبوا إلى اختيار موقفٍ ملحوظ، ويبدو من الصعب إبراز ترجمة دقيقة لتفسير راهنما بعنوان الترجمة، ويبدو عدم الانسجام طبيعياً.

8 ـ ترجمة الروايات: ونشاهد عدم الانسجام في هذا القسم أيضاً، فتارة ترى روايات مترجمة، بينما يقتصر تارة أخرى على ذكر النص العربي فقط، وقد يكتفي بترجمة جزءٍ من الروايات أحياناً، وطبعاً أخذت الروايات وترجمتها بشكل منفصل مكانها من التفسير تدريجاً، واتخذت طابعاً تكامليّاً.

9 ـ تبسيط العبارة: كتب هذا التفسير بلغةٍ يفهمها الجميع، وحتى الآيات المتضمّنة للأبحاث الفلسفيّة و… كتبت بأسلوب مبسطٍ قابل للفهم.

10 ـ تفكيك الموضوعات.

11 ـ تقديم فهارس متنوّعة.

12 ـ إظهار الفوائد؛ حيث تظهر الفوائد ما يمكن استفادته من المطالب من كلّ آية كمّاً وكيفاً، وقد تم تنظيم هذه الفوائد بعد كلّ آية مع ذكر العناوين الفرعيّة والأصليّة على الترتيب الأبجدي، وفي ختام كلّ مجلد تتم فهرسة مطالب السور بالتفصيل. وطبعاً لا تخلو الفوائد المذكورة من إشكال([56])، ولاشك في أن إعادة التفكير في الآيات سيفتح آفاق جديدة وتكتشف فوائد أكثر. فمثلاً أرى في ذيل الآية التاسعة من سورة الأنعام: ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ  ﭙ}إمكان إضافة إجابة الله عن شبهات الكفار، إلى العناوين الثلاثة عشر التي ذكرت لهذه الآية، حيث ينزل الله على رسوله آية ليجيب بها الكفار، كما يمكن إضافة توعية الناس وتنبيههم إلى شبهات الكفار والجواب عنها، والى جانب هذين العنوانين ومع إلغاء خصوصيّة المشركين والكفار يمكن استفادة إجابة الجاهلين والذين تطرأ عليهم الشبهات من هذه الآية أيضاً؛ وكذلك يستفاد من إجابة الله لأصحاب الشبهات والمجتمع الإسلامي أن القرآن يريد من الجاهلين أن يستمعوا لجوابه، وعليه تكون لهذه الآية رسالة للكفار والمشركين والجاهلين أيضاً ويمكن إضافتها لتلك العناوين، وبعبارة أخرى: يتوقع القرآن من ذوي الشبهات والجاهلين، أن يقبلوا القرآن كمجيب، وكذلك لزوم الإجابة عن الشبهات حتى ولو كان أصحابها من المعاندين. فهذه الآية توفر الحصانة للآخرين. وهذه جميعها تحكي عن عظمة هذه الآيات الإلهيّة وسعة الموضوعات والأبواب التي لم تطرق فيما يتعلق بهذا الكتاب السماوي.

الهوامش

(*) باحث في القرآنيات.

([1]) تهدف هذه المقالة إلى التعريف بالاتجاهات التفسيرية في هذا الكتاب، ولنقد هذه الاتجاهات موضع آخر، وهو كتاب تفسير راهنما للشيخ علي أكبر هاشمي رفسنجاني وبعض الباحثين.

([2]) مذاهب التفسير الإسلامي، لجولدتسيهر، ترجمة: عبد الحليم النجار، طبع مصر، عام 1955م.

([3]) التفسير والمفسرون، لمحمد حسين الذهبي.

([4]) التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب، لمحمد هادي معرفت، الجامعة الرضوية، 1418هـ.

([5]) روشها وكرايشهاي تفسيري، للدكتور محمد علي رضائي إصفهاني.

([6]) يعتبر تفسير الكشاف للزمخشري أنموذجاً من نماذج تأثير الانتماء المعتزلي في التفسير.

([7]) تفسير راهنما: 26 ـ 31، مقالة: تفسير راهنما، وطرق الوصول إلى بواطنه، لمحمد هادي معرفت.

([8]) تفسير راهنما أز نكاه قرآن بجوهان: 30.

([9]) تفسير راهنما 1: 73.

([10]) المصدر نفسه.

([11]) البلاغي، آلاء الرحمن: 44.

([12]) غاية المرام: 520، الباب 29.

([13]) تفسير راهنما 1: 69.

([14]) الكافي 1: 289، ح4؛ ونور الثقلين 1: 587، ح25.

([15]) تفسير راهنما 4: 239.

([16]) مرتضى مطهري، مدخل إلى العلوم الإسلامية، قسم الكلام والعرفان: 42؛ والذهبي، التفسير والمفسرون 1: 369 ـ 370، 385.

([17]) المصدر نفسه: 27 ـ 50؛ والتفسير والمفسرون في ثوبه القشيب 2: 406، 414، 415.

([18]) التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب 2: 430؛ والتفسير والمفسرون 1: 389.

([19]) التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب 2: 414، 415.

([20]) روشها وكرايشهاي تفسيري، لمحمد علي رضائي الإصفهاني.

([21]) جولدتسيهر، مذاهب التفسير الإسلامي: 123.

([22]) تفسير راهنما 10: 211 ـ 214.

([23]) صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: ﭽ ﭚ   ﭛ   ﭼ.

([24]) مذاهب التفسير الإسلامي: 125 ـ 127.

([25]) تفسير راهنما 19: 565، 566، جدير بالذكر أن العلامة الطباطبائي يفسّر ذلك بالنظر القلبي ورؤية القلب بحقائق الإيمان، فانظر الميزان، ذيل الآية.

([26]) الكشاف 4: 662.

([27]) تفسير راهنما 19: 565 ـ 566.

([28]) الفاضل المقداد، كنز العرفان 1: 5، وقد بلغ بعضٌ بهذه الآيات من 500 إلى 2000 آية.

([29]) كما في الآية 233 ﭽ ﮪ ﮫ ﮬ  ﮭ ﮮ ﭼ والآية 15: ﭽ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭼ ، حيث قام الإمام علي بتفسيرها لعمر بن الخطاب.

([30]) السبكي والسائس والبريري، تاريخ التشريع الإسلامي: 281؛ والتفسير والمفسرون 2: 434.

([31]) النساء: 24.

([32]) الأنفال: 41.

([33]) المائدة: 65.

([34]) تفسير راهنما 3: 338، 338.

([35]) الكافي 5: 448، ح1؛ ونور الثقلين 1: 467، ح171؛ وتفسير البرهان 3: 360، ح1.

([36]) تفسير راهنما 3: 334 ـ 338.

([37]) الكافي 3: 26، ح5؛ وتفسير البرهان 1: 451، ح7.

([38]) تفسير راهنما 4: 257.

([39]) التهذيب 1: 7، ح9، ب1؛ وتفسير البرهان 1: 450، ح1.

([40]) تفسير راهنما 4: 263.

([41]) نقل الدكتور الذهبي في الجزء الثاني من كتابه: التفسير والمفسرون، عن بعض معاصريه ممّن يذهب إلى أن الاتجاه نوع من التأويل الخطير، وذهب بعض إلى كونه من الذنوب الكبيرة! أصول التفسير وقواعده: 234.

([42]) المصدر نفسه، نقلاً عن كتاب روشها وكرايشهاي تفسيري: 399.

([43]) دائرة المعارف الشيعية 3: 183، 185، نقلاً عن روشها وكرايشهاي تفسيري: 401.

([44]) المصدر نفسه: 402.

([45]) تفسير راهنما 12: 271 ـ 274.

([46]) يرى الشيخ محمد هادي معرفت أن الشيخ محمد عبده هو رائد هذه المدرسة، التفسير والمفسرون 2: 453.

([47]) للذهبي انتقادات على هذا الاتجاه، انظر: التفسير والمفسرون 2: 547 ـ 550؛ ومقابله يؤيّد الشيخ معرفت هذا الاتجاه، راجع: التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب 2: 453.

([48]) روشها وكرايشهاي تفسيري: 45.

(50) قال الشيخ السبحاني: لابدّ من القول فيما يتعلّق بتفسير راهنما: يجب البحث عن جذور هذه الحركة في النهضة التي بدأها العلامة الطباطبائي؛ حيث عالج قبل غيره مسائل غفل عنها الآخرون، فبحث في تفسير الميزان المسائل الاجتماعيّة وما شابهها، وقد أدّت هذه النهضة إلى انتعاش حركات تفسيريّة أخرى في الحوزة العلميّة، وظهرت تجمّعات لتفسير القرآن الكريم، ومن تلك التجمعات التفسيريّة، مجموعة الباحثين في تفسير راهنما التي أثمرت مثل هذا التفسير المبارك، انظر: تفسير راهنما در نكاه قرآن بجوهان: 12.

([50]) تفسير العيّاشي 1: 212، ح179؛ وبحار الأنوار 24: 216، ح8.

([51]) تفسير راهنما 3: 267 ـ 269.

([52]) عبد المجيد معاديخاه، مدخل إلى قراءة أسلوب جديد في تفسير القرآن؛ تفسير راهنما أز نكاه ديكران: 47.

([53]) المصدر نفسه: 46 ـ 48.

([54]) تفسير راهنما 12: 273، 275.

([55]) المصدر نفسه 1: 47، 48.

([56]) درآمدي بر بازخواني روشي نوين در تفسير قرآن: 93 فما بعد.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً