أحدث المقالات

د. أبو القاسم فنائي(*)

ترجمة: حسن علي مطر

أـ المعيار الأول: عدم الانسجام مع العقل والعقلانية الحديثة([1])

من خلال القول بهذا المعيار «يغدو فهمنا للنصوص الدينية قادراً على الإبطال من الناحية العقلية»، وتُعَدّ القراءات المناهضة للعقل وغير العقلانية للدين باطلةً وغير مبرّرة. إن هذا المعيار يقول لنا: إن الاعتقاد أو الحكم الذي لا ينسجم مع العقل العُرْفي والطبيعي لسكّان العالم الجديد، ولا ينسجم مع العقلانية العلمانية الجديدة، لا يمكنه أن يكون جزءاً من الدين المطلق وما فوق التاريخي، حتّى وإنْ أمكن اعتباره جزءاً من الدين الذي تمّ تفصيله على مقاس العالم القديم؛ بسبب انسجامه مع العقل والعقلانية لسكّان ذلك العالم. إن الدين المطلق خلوٌ من العقائد والأحكام المناقضة للعقل وغير العقلانية، بَيْدَ أن الدين الذي تمّ تفصيله على مقاس عالمٍ خاصّ ليس كذلك بالضرورة دائماً.

طبقاً للافتراض العقلي لا تخرج العقائد والأحكام الدينية عن واحدةٍ من ثلاث مجموعات، فإن هذه العقائد والأحكام لا تخلو؛ فإما أن تكون موافقة للعقل؛ أو مخالفة للعقل؛ أو تلزم الحياد.

1ـ إن العقائد والأحكام «الموافقة للعقل» هي تلك التي يمكن تبريرها من طريق العقل المستقلّ عن الشرع، أو من طريق التجربة البشرية المتعارفة، ويقوم الدليل العقلي أو التجريبي لـ «صالحها»، ويجعل الاعتقاد بتلك العقائد والعمل بتلك الأحكام معقولاً. إن هذا النوع من العقائد والأحكام يحظى بالحدّ الأقصى من العقلانية.

2ـ إن العقائد والأحكام «المخالفة للعقل» هي التي يقوم الدليل العقلي أو التجريبي المستقلّ على بطلانها، أو على بطلان القول التعبُّدي بها. إن هذه العقائد والأحكام غير معقولة، وإن القول بها والعمل على طبقها مخالفٌ للعقل، حتّى على أساس الإيمان والتعبُّد، ويعتبر ناقضاً للقِيَم والمعايير العقلانية.

3ـ إن العقائد والأحكام «الحيادية» هي التي لا يقوم الدليل المستقلّ على تبريرها العقلي أو التجريبي، ولا يوجد أيّ دليلٍ عقلي أو تجريبي مستقلّ لها أو ضدّها. وفي الوقت نفسه يكون القول بهذه العقائد والأحكام على أساس الإيمان والتعبُّد، وبشرط مراعاة الأخلاق وآداب التقليد، معقولاً. إن هذا النوع من العقائد والأحكام تحظى بالحدّ الأدنى من العقلانية، بمعنى أن القول بها والعمل على طبقها ليس مخالفاً للعقلانية، ولا ناقضاً للقِيَم والمعايير العقلانية.

إن العقائد والأحكام الدينية الموجودة في عالم التشريع إمّا أن تكون «موافقة للعقل» أو «حيادية»، إلاّ أن العقائد والأحكام الموجودة في النصوص الدينية، وكذلك فهم الناس للنصوص والمصادر الدينية، قد يكون «مخالفاً للعقل». وهذه الخصوصية دليلٌ على بطلان ذلك الفهم. إن عدم الانسجام مع العقل إنما يقتصر على إبطال القراءات والأفهام المخالفة للعقل في ما يتعلَّق بالعقائد والأحكام الدينية. إن هذا المعيار يقول لنا: إن الدين المطلق وما فوق التاريخي لا يمكن أن يشتمل على عقائد وأحكام مخالفة للعقل، كما لا يمكن للدين القابل للتطبيق على العالم الجديد أن يشتمل على العقائد والأحكام المنافية للعقل والعقلانية الجديدة. وعلى هذا الأساس لو عثرنا في النصوص الدينية على اعتقادٍ أو حكمٍ ينسجم مع العقل والعقلانية القديمة، ولا ينسجم مع العقل والعقلانية الجديدة، فيجب اعتبارُه جزءاً من عقائد وأحكام الدين الذي تمّ تفصيله على مقاس العالم القديم، والقول بأنه شيءٌ قد تمّ فرضُه على الدين من خارجه، ولا يمكن اعتبار هذا الاعتقاد أو الحكم جزءاً من الدين المطلق وما فوق التاريخي، وتسريته وتعميمه على جميع العوالم. إن العقلانية التقليديّة تحدِّد معيار مخالفة العقل في العالم القديم، وليس معيار مكافحة العقل في جميع العوالم. إن معيار مخالفة العقل في العالم الجديد هي العقلانية الجديدة، ويجب لكشف هذه العقلانية الرجوع إلى عُرْف العقلاء الذين يعيشون في هذه الدنيا([2]).

في القراءة التقليدية للدين هناك إشادةٌ وتبجيلٌ كبير للعقل، ويدّعي أنصار هذه القراءة أن العقل يمثِّل مصدراً رابعاً من مصادر المعرفة الدينية إلى جانب القرآن والسنّة والإجماع. إلاّ أننا لا نلمس هذه المنزلة والمكانة السامية للعقل إلاّ على المستوى النظري فقط. ففي هذه القراءة لا يتمتَّع العقل بمكانةٍ مناسبة على المستوى العملي في ما يتعلق بفهم الدين وتفسيره، وإنما تقوم هذه القراءة ـ كما سبق أن رأينا ـ على تعطيل العقل وإلغائه في مقابل النقل. ففي هذه القراءة:

1ـ يتمّ اختزال العقل ـ في مقام فهم وتفسير أصول الدين ـ بالعقل الاستدلالي بالمعنى الأرسطي للكلمة، حيث يتمّ تعريف التبرير العقلاني للعقائد الدينية بالإثبات اليقيني والبرهاني لهذه المعتقدات. إلاّ أن هذا الاتجاه بالنسبة إلى المعتقدات الدينية ـ لو سلَّمنا إمكانه ـ سوف يُلغي الطبيعة والآلية الدينية لهذه المعتقدات، ويخفّضها إلى مستوى المتبنيات الانتزاعية الفلسفية أو الكلامية البَحْتة. في حين أن إله الدين هو أكبر من إله الفلسفة والكلام، أو هو غيره، ولا يمكن ملء فراغ إله الدين في حياة الإنسان بإله الفلسفة والكلام. وهكذا هو الحال بالنسبة إلى أصول العقائد بشكلٍ وآخر([3]).

2ـ في الأخلاق يتمّ الادّعاء بأن حُسْن الأعمال وقُبْحها ذاتيّ وعقليّ، وأما في مقام كشف القِيَم الأخلاقية يتمّ إلغاء العقل أمام النقل؛ بسبب ظنيّة أحكامه على المستوى العملي، ويحلّ الفقه محلّ الأخلاق، ويتمّ طرد قِيَم الأخلاق الاجتماعية، وعلى رأسها: الحقوق الطبيعية للإنسان، تحت ذريعة أنها ظنيّة أو أنها غربية، ويُدّعى أن الأخلاق تنقسم إلى: إسلامية؛ وغير إسلامية. ومن هنا يُستنْتَج أن الحرّية والديمقراطية ليستا من القِيَم الإسلامية، وأن الديمقراطية الدينية غير الديمقراطية العلمانية، وهكذا([4]). وفي هذا الإطار سوف يقتصر سهم العقل في إدراك القِيَم الأخلاقية على بضعة أمور عامّة وبديهية، تمثِّل مقدمة للإيمان بالدين ووجوب إطاعة الله، ويُدَّعى بعد ذلك أن اكتشاف سائر القِيَم الأخلاقية، وكذلك تطبيق جميع القواعد والأصول الأخلاقية، إنما يتمّ عبر الرجوع إلى النقل (القرآن والسنّة).

3ـ وفي قسم الفروعات أو الفقه يُدَّعى على المستوى النظري أن العقل واحدٌ من مصادر الأحكام الشرعية، إلى جانب الكتاب والسنّة والإجماع. إلاّ أنه ومن الناحية العملية لا يكون العقل مصدراً لأحكام الفقه إلاّ بالقوّة، وإنه لا يبلغ مستوى الفعلية أبداً، بمعنى أنه لا يُسْتَفاد منه أبداً. فأوّلاً: يدّعي أنصار الاجتهاد التقليدي أن جميع الأحكام الدينية «حيادية من الناحية العقلية»، وأنها تنشأ من المصالح والمفاسد الغيبية التي لا يمكن اكتشافها وإدراكها من طريق العقل المستقلّ عن النقل. وثانياً: إن هؤلاء يدَّعون بأن الحكم الشرعي إنما يمكن إثباته أو نفيه بالدليل العقلي إذا كان ذلك الدليل العقلي «قطعياً» و«يقينياً». وعندما نضمّ هذين الادّعاءين إلى بعضهما نصل إلى نتيجة مفادها أن العقل ليس مصدراً من مصادر استنباط الأحكام الشرعية، وإن اعتبار العقل من قِبَل هؤلاء مصدراً من مصادر الاستنباط إنما يأتي بوصفه «ديكوراً» لرفع العَتَب والمجاملة.

نرى أن هذه الادّعاءات لا تقوم على أساسٍ متين؛ فأوّلاً: إن ادّعاء وجود المصالح والمفاسد الغيبية إنما يصحّ في مجال «العبادات»، وأما في مجال «المعاملات»([5]) فلا دليل لصالحه، بل هناك الكثير من الأدلة التي يمكن إقامتها لتفنيده ومخالفته. وأحد تلك الأدلة هو أن أحكام باب المعاملات هي بشكلٍ رئيس أحكام إمضائية، وليست تأسيسيّة. لا يمكن الادّعاء بأن الناس الذين كانوا يعيشون في عصر الجاهلية وقبل الإسلام كانوا يمتلكون مستوىً من الإدراك والعقل والفهم السامي الذي يؤهِّلهم لاكتشاف أو وضع القرارات والقوانين التي تضمن المصالح والمفاسد الغيبية والأبدية التي يمكن تطبيقها في جميع الأزمنة والأمكنة؛ إذ لو كان الأمر كذلك لم تكن هناك من حاجةٍ إلى إرسال النبيّ الأكرم| من قِبَل الله تعالى!

إن إصلاح النظام الحقوقي وتشذيبه من الأحكام الجائرة يحتاج إلى مسارٍ تدريجي؛ فلا يَسَع النبيّ أن يستبدل الظلم التاريخي بالعدل المطلق وما فوق التاريخي بجرّة قلمٍ واحدة([6])، وإنما غاية ما يستطيع النبيّ فعله هو أن يُحدث هزّةً في الوضع الراهن، وينطلق بالمجتمع بضع خطواتٍ نحو العدالة. وتبقى سائر الخطوات الأخرى الموصلة إلى الغاية القصوى من العدالة ملقاةً على عاتق المؤمنين والأتباع الحقيقيين، حيث يكملون المسيرة التي بدأها النبيّ الأكرم.

ومضافاً إلى ذلك لو كانت جميع الأحكام الشرعية ناشئةً عن المصالح والمفاسد الغيبية فإن هذا يقتضي أن تصل تلك الأحكام بأجمعها إلى الناس على نحو القطع واليقين، وأن يتمّ تبليغها إلى الناس من الطرق الموثوقة والمصانة من الخطأ بالكامل، وهذا يعني أن لا تقتصر العصمة على خصوص الأنبياء والأئمّة، بل يجب أن يكون جميع رواة الحديث والفقهاء والمجتهدين معصومين أيضاً، وأن لا تكون الآيات والروايات الظنيّة حجّة، وعند الشكّ والظن يجب العمل بالاحتياط، دون البراءة والاستصحاب. فنحن لا نرى أيّ تناسب بين كل تلك الشدّة في مقام الجعل وهذا التسامح في مقام التبليغ وتطبيق الأحكام أبداً.

وثانياً: لو أن جميع الأحكام الشرعية إنما تنبثق عن المصالح والمفاسد الغيبية فإن السؤال القائل: «لماذا لم يتمّ تشريع هذه الأحكام للناس من بداية الخلق؟» سيبقى من دون جوابٍ. يمكن القول بكلّ وضوحٍ: إن العمل بهذه الأحكام لا يحتاج إلى عبقريةٍ خاصة ومقدرة فذّة لا يمكن العثور عليها إلاّ في ظرف ظهور الإسلام وما بعده؛ بل رُبَما أمكن لنا أن نثبت أن الأقوام والأمم السابقة كان بإمكانها العمل بهذه الأحكام على نحوٍ أفضل من الأمم اللاحقة. وكذلك القول بأن الأمم السابقة لم تكن قادرةً على حفظ الدين وصيانته من الانحراف، وأنه لو كان الدين الإسلامي قد نزل عليهم لتعرَّض للتحريف كما تعرَّضت الأديان السابقة، لا يبدو صحيحاً أو وجيهاً؛ لأن الحيلولة دون تحريف الدين هو فعلُ الله، وليس من مسؤولية الإنسان، فالله هو القادر على صيانة دينه من التحريف. فكان باستطاعة الله ـ مثلاً ـ أن يبعث خاتم الأنبياء في بداية تاريخ الأديان، وينزل عليه القرآن، وهكذا يعمل على صيانته من التحريف. وبالإضافة إلى ذلك فإنّ سكوت الله تعالى عن بعض الأحكام الإلزامية بعد بعثة النبيّ الأكرم، وتوقُّف بيان بعض الأحكام على سؤالٍ عرضي يطرحه عابرُ سبيلٍ، وإيجاب بعض الأعمال على جميع الأمّة لمجرّد إثارة أثارها بعض ذوي الفضول وحبّ الاستطلاع، ونسخ وتغيير بعض الأحكام، لن يكون له أيّ تبريرٍ معقول([7]).

وثالثاً: إنّ الادّعاء القائل بأن حكم العقل ما لم يبلغ حدّ القطع واليقين لا يمكنه أن يكون مستمسكاً ودليلاً لاستنباط الحكم الشرعي هو ادّعاءٌ غير وجيه؛ إذ لا يمكن الحصول بسهولةٍ على القطع واليقين في غير مجال المنطق والرياضيات([8]). إن مثل هذا الشرط إنما يعني في الحقيقة إلغاء العقل ونفي حجّيته ومصدريّته في استنباط الحكم الشرعي. تماماً كما لو قلنا بأن الأحاديث والروايات المأثورة عن النبيّ والأئمّة المعصومين إنما تكون معتبرةً إذا كانت قطعية الصدور وقطعية الدلالة. إلاّ أن مثل هذا الشرط سيؤدّي إلى تعطيل السنّة ونفي حجّيتها واعتبارها؛ لأن عدد الروايات قطعية الصدور والدلالة لا يتجاوز الأصابع.

يُضاف إلى ذلك أن الفصل بين الدليل العقلي والدليل النقلي لا ينسجم أبداً مع معايير العقلانية. فإذا كان الظنّ النوعي المقرون مع الشكّ والوَهْم الشخصي في مورد الدليل النقلي معتبراً وحجّة فلماذا لا يكون معتبراً وحجّةً في مورد الدليل العقلي أيضاً؟ فلو تمّ إثبات حجّية خبر الواحد بشكلٍ قطعي فإن حجّية الأدلة الظنّية العقلية قابلة للإثبات بنفس الطريقة أيضاً، وإذا كانت سيرة العقلاء كافية في ذلك المورد فلماذا لا تكون كافية في هذا المورد أيضاً؟([9]).

نحن مأمورون من الناحية العقلانية بأن نحصل على المتبنيات والأحكام الدينية من قنواتها الموثوقة. وعند التعارض نقدِّم الدليل الأقوى. ولا فرق من هذه الناحية بين الدليل العقلي والدليل النقلي. في مورد تعارض الظنون يجب علينا بحكم العقل العُرْفي وعُرْف العقلاء يجب العمل على طبق الظنّ الأقوى. ولذلك يمكن القول عند التعارض بين الفتاوى الفقهية والقِيَم الأخلاقية يجب تقديم القِيَم الأخلاقية على الفتاوى الفقهية غالباً؛ لأن الظنّ الحاصل من طريق الأدلة المبرّرة للقِيَم الأخلاقية هي في أغلب الموارد أقوى بكثيرٍ من الظنّ الحاصل من طريق الأدلّة المبرّرة للفتاوى الفقهية.

يمكن إقامة الكثير من الأدلة لصالح هذا المعيار. والدليل الأول يمكن أن يكمن في القول بأن «العقل شرطٌ في التكليف». والمراد من العقل هنا ليس مجرّد تشخيص الأمر من النهي؛ إذ يمكن العثور على هذا المستوى من العقل والشعور حتّى لدى بعض العجماوات أيضاً، أو إنه يمكن إيجاده فيها من خلال التدريب والترويض، كما يمكن صنع ريبوتات قادرة على تشخيص الأمر والنهي. وعليه فإن هذا الشرط يدلّ على وجود خصوصية في المكلَّف، وهذه الخصوصية هي أن المكلَّف يجب أن يتمتَّع بالقدرة على إدراك واستيعاب التكليف، بمعنى أن ينسجم التكليف مع عقله، وأن يكون معقولاً من وجهة نظره، ولا يثقل عليه. وبعبارةٍ أخرى: عندما يُقال: إن العقل شرطٌ في التكليف فإن المراد هو أن التكليف مورد البحث يجب أن يتمّ تقييمه من خلال مجموعة من المتبنيات الدينية وغير الدينية والمعلومات الأخرى التي تدخل إلى الذهن من القنوات المعرفية الأخرى، وأن تتمّ مواءمتها مع الثقافة والحضارة والعالم الذي نعيش فيه، والأهمّ من ذلك أن تكون منسجمةً مع القِيَم والمعايير العقلانية. وأدنى مستويات هذا التنسيق تكمن في أن لا يكون ذلك التكليف «متنافياً» مع سائر المتبنيات والمعلومات التي يحصل عليها أمثال ذلك الشخص في هذه الدنيا.

وبعبارةٍ أخرى: إن عبارة: «إن العقل شرطٌ في التكليف» تعني أن المكلَّف يجب أن يمتلك دليلاً على العمل بالتكليف. وإن هذا الدليل في الحقيقة يتبلور من بين سائر متبنيات الفرد وعقائده. إن دليل العمل هو الذي يبرّره من الناحية العقلية. فلو كان الشخص عاقلاً بما فيه الكفاية سيكون لديه ما يكفي من الدوافع التي تحفِّزه للعمل. ولذلك فإن تلك المجموعة من الأفهام الفقهية التي لا تكون مبرّرة، وتخالف العقل من ناحية العقلانية الجديدة، والتي لا تنسجم مع العقل المتعارف لسكان العالم الجديد والمعاصر، تكون ساقطةً عن الاعتبار، ولا يكون الشخص ملزماً بالعمل على أساس تلك الأفهام، بل سيكون مسؤولاً ومَلُوماً ومؤاخَذاً على العمل بها.

إن معنى ربط التكليف بالعقل هو أن للعقل في هذا المجال معايير وقِيَماً تعمل على توجيه وهداية الفرد في فهم وإدراك التكليف والعمل بها، أو يجب أن تكون كذلك. إن هذه الواجبات والمحظورات العقلية أو العقلانية يمكن تسميتها بـ «أخلاق التكليف» أو «أخلاق التعبُّد». وإن تقليد الفقهاء والمجتهدين إنما يكون معقولاً ومنطقياً إذا كان منسجماً مع موازين «أخلاق التقليد».

وإن بعضاً من موازين أخلاق التقليد ما يلي:

1ـ إن التنافي الداخلي لفتاوى الفقيه دليلٌ على بطلان بعضها.

2ـ إن عدم انسجام الفتوى مع المتبنّيات الدينية للفرد دليلٌ على بطلان تلك الفتوى.

3ـ إن تنافي الفتوى مع المتبنّيات والمعلومات غير الدينية للفرد دليلٌ على بطلان تلك الفتوى([10]).

إن إسناد الفتوى إلى الأدلة الدينية يمثِّل الخطوة الأولى التي يجب اتّخاذها في الاجتهاد الفقهي، إلا أن الاجتهاد المصطلح يكتفي بهذه الخطوة فقط؛ إذ لا يمكن العثور على فقيهٍ واحد يحمل هموم العمل على مناغمة فتاواه على المستوى الداخلي والخارجي، والسعي إلى تقديمها إلى مقلَّديه ضمن مجموعةٍ منسجمة ومتناغمة([11]).

وبالإضافة إلى ذلك فإن من بين أهداف بعثة الأنبياء ـ بل رُبَما كان أهمّها ـ العمل على رفع المستوى العقلي لأفراد البشر. ولذلك فإن الحكم الذي يضطرّ الفرد إلى تخطئة عقله أو تعطيله من أجل الإيمان أو العمل به يتنافى مع الغاية من بعثة الأنبياء. كما يمكن القول: إن التكليف الذي لا ينسجم مع عقل المكلَّف هو «فوق طاقته»، ولا يوجد في الدين حكمٌ يفوق قدرة المكلَّف؛ فإن التكليف بما لا يُطاق مخالفٌ للعقل ومخالفٌ للشرع؛ فالعقل يقول: «يقبح التكليف بما لا يُطاق»؛ والشرع يقول: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ (البقرة: 286).

ولا بأس بالإشارة إلى بعض تطبيقات هذا المعيار على النحو التالي:

1ـ إذا كانت حرّية التعبير وسائر القِيَم المدرجة ضمن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من القِيَم الأخلاقية، وإذا كانت الأخلاق متقدّمة على الدين، وإذا كانت القِيَم الأخلاقية ما فوق دينية، وإذا كانت الأدلة المثبتة لهذه القِيَم أقوى من الأدلة المثبتة للفتاوى الفقهية، ففي هذه الحالة ستفقد الفتاوى الفقهية المنافية لحقوق الإنسان اعتبارها الذي اكتسبَتْه للوهلة الأولى، ويتمّ إبطالها. إن بطلان هذه الفتاوى لا يتوقّف على حصول القطع واليقين بشأن حقوق الإنسان؛ لأن هذه الفتاوى بدَوْرها لا تستند إلى القطع واليقين، بل هي في أفضل حالاتها تستند إلى الأدلة الظنّية النقلية. ولو حصل التعارض بين الدليل العقلي الظنّي والدليل النقلي الظني، أو بين القِيَم الأخلاقية الظنّية والأحكام الفقهية الظنّية، فإننا سوف نكون مكلَّفين؛ بحكم العقل والعقلاء، بالعمل على طبق الدليل الظنّي الأقوى، سواء أكان ذلك الدليل الأقوى دليلاً عقلياً أو دليلاً نقلياً.

2ـ كما يمكن لنا أن نذكر مثالاً آخر في هذا الشأن، وهو حكم قتل المرتدّ؛ فإن الحكم بإعدام المرتدّ يعتبر مخالفاً للعقل؛ لعدّة أسباب([12]):

أوّلاً: إنّ «صحّة» المعتقد يعني مطابقة مضمونه مع الواقع، وهو أمرٌ لا مدخلية له في السعادة والفلاح الأخروي، ولا في المدح والثواب أو المكافأة الدنيوية أو الأخروية. بل الذي له المدخلية في الإنسانية، وتَبَعاً لذلك في سعادة وفلاح الإنسان، هو «أسلوب» الاختيار، و«المنهج» المؤدّي إلى اعتناق العقائد أو رفضها والمقارنة فيما بينها. وإن الفرد مسؤولٌ تجاه أسلوبه ومنهجه (وفضائله ورذائله العقلانية والنفسانية) في اعتناق العقائد والموازنة بينها، وليس مسؤولاً عن النتيجة المترتِّبة على توظيف ذلك الأسلوب والمنهج. ويقول فلاسفة المسلمين: «نحن أبناء الدليل.. حيثما مال نميل»([13]). وعلى هذا الأساس يمكن القول: إن الارتداد قد يجب أحياناً على الشخص عقلاً وشرعاً. لنفترض مثلاً أنّ مُسْلِماً بادر إلى القيام بتحقيقٍ صادق ومخلص ونزيه، ومع ذلك وصل إلى نتيجةٍ مفادها أن الإسلام ليس هو الدين الحقّ ـ والعياذ بالله ـ، وأن الدين هو دينٌ آخر، أو أنه لا وجود لدينٍ صحيح أصلاً، أو أن جميع الأديان في الصحّة سواء، فلو أن هذا الشخص كتم نتائجه التحقيقية؛ خوفاً من الموت، ألا يكون «كاتماً للحقيقة»؟ إن التكليف العقلاني والمسؤولية الأخلاقية والوجدانية لهذا الشخص تقتضي منه التخلّي عن الإسلام، وإذا لم يتخلَّ عن الإسلام سوف يستحقّ الذمّ واللوم والمؤاخذة والعذاب الأخروي، بمعنى أن الارتداد سوف يكون واجباً على هذا الشخص عقلاً وشرعاً. فكيف يمكن القول ـ والحال هذه ـ: إن الله تعالى قد حكم بوجوب قتل هذا الشخص؛ ليمنع هذا الشخص ومَنْ كان على شاكلته من الارتداد؟ هل يمكن القول: إن البحث والتحقيق بشأن أصول الدين والعقيدة واجبٌ، ولكنّ النتيجة محسومةٌ سَلَفاً، حتّى إذا وصل الشخص إلى نتيجةٍ مغايرة وجب قتله؟! هل يمكن الجمع بين القول بأن الارتداد على هذا الشخص واجبٌ، وفي الوقت نفسه يجب على الآخرين قتله؟!([14]). ومع وجود مثل هذا الحكم ألا يفقد التحقيق الحُرّ والعقلاني في مجال أصول الدين مفهومه ومعناه، ويتحوّل إلى تكليفٍ بما لا يُطاق؟

وثانياً: هناك تعارضٌ من الناحية العقلية بين وجوب قتل المرتدّ وبين عدم الإكراه في اعتناق الدين. فإن المراد من الآية الشريفة: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ﴾ (البقرة: 256) ليس هو الإكراه على الإيمان والعقيدة؛ لأن الإيمان والعقيدة لا يُتصوَّر فيها الإكراه. إن المراد من هذه الآية هو الاعتراف بحقّ الناس في اختيار الدين والمذهب. ولا فرق من الناحية العقلية بين الاختيار الأوّل والاختيارات اللاحقة، ولا يمكن القول: يحقّ للناس أن يختاروا دينهم طوال حياتهم مرّةً واحدة فقط([15])؛ إذ لو كان الناس مكلَّفين بالتحقيق العقلاني حول الدين؛ للتأكُّد من صحّته، واعتناقه بحرّية واختيار أو رفضه أو تغييره، فإن مثل هذا الحقّ سوف يستمرّ ثابتاً للإنسان طوال حياته.

وإذا نظرنا من الزاوية الأخلاقية فسوف لا نستطيع نسبة مثل هذا الحكم إلى الله؛ لأن الحكم الذي لا يقبل «التعميم» من الناحية الأخلاقية إمّا أن لا يكون معتبراً؛ أو لا يكون أخلاقياً من الأساس. فمن الناحية الأخلاقية إنما يمكن القول به إذا اعترف المسلم بمثل هذا الحقّ لأتباع سائر الأديان الأخرى، بمعنى أن يجيز للمسيحيين أو المجوس قتل الفرد المسيحي أو الزرادشتي إذا أسلم، في حين أن المسلمين لا يجيزون مثل هذا الشيء لأتباع سائر الأديان الأخرى. ولو أن أحد أتباع الديانات الأخرى اعتنق الإسلام يرى المسلمون أنفسهم مكلَّفين بالدفاع عنه، ويتمسّكون في تبرير الدفاع عنه بحرّية المعتقد وحرّية التعبير وحقّ الإنسان في اختيار الدين. إن المسلمين إنما يحقّ لهم الدفاع عن حقّ الحياة والحرّية في تغيير الدين (الارتداد) لذلك المسلم حديثاً إذا اعترفوا بحرّية الدين وحرّية التعبير لجميع الناس وبشكلٍ مطلق؛ وفي غير هذه الحالة سيكون دفاعهم عن ذلك الشخص غير مبرَّرٍ من الناحية الأخلاقية، وفاقداً للأسس الصحيحة([16]).

يُضاف إلى ذلك أن الفقهاء في استنباطهم لوجوب قتل المرتد، بل وفي استنباط الأحكام المتعلّقة بالكفّار والمخالفين، لم يلتفتوا إلى شأن النزول أو الخلفية الثقافية والاجتماعية الخاصة التي أدّت إلى صدور هذه الأحكام. إن القول بعدم حرمة أنفس وأموال وأعراض الكفّار والمشركين أو المخالفين إنما يرتبط بعالمٍ لا يرى فيه الكفّار والمشركون أو المخالفون حرمةً لأنفس وأموال وأعراض المسلمين أو الشيعة. ونحن نرى أن الشواهد التاريخية تثبت أن أكثر هذه الأحكام إنما تأتي في سياق المواجهة بالمثل، وتطبيقاً للأصل القائل: ﴿فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة: 194). وهذا الحكم منسجمٌ مع أصل العدالة والعقلانية في حدّها الأدنى. إن الوحشية والقسوة والعنف الذي كان يطبع المجتمع الجاهلي قبل الإسلام كان قد بلغ من المراحل المتقدّمة بحيث لم يتمكّن حتّى الإسلام من مَحْوه عن تصرّفات المسلمين حديثاً، فكانوا يبادرون إلى الغارات وإزهاق الأرواح البريئة؛ للحصول على الأموال والغنائم الحربية، حتّى من أولئك الذين يلقون إليهم السلام، تعبيراً عن إسلامهم أو مسالمتهم. ولذلك نجد القرآن يحذِّر هؤلاء المسلمين، ويقول لهم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ (النساء: 94).

وعليه لا يمكن لنا أن نستنبط من هذه الأحكام أن الإسلام يرى تقدُّم «العقيدة» على «الإنسانية» و«حرمة الأنفس». إن التفريق بين المسلم وغير المسلم إنما يتعلّق بالأوضاع والأحوال التي يقوم فيها غير المسلمين بالتفريق بين المسلم وغير المسلم. كما أن التفريق بين الشيعي والسني إنما يتعلّق بالأوضاع والأحوال التي يقوم فيها أهل السنّة بالتفريق بين السني والشيعي، بمعنى أن هذه الأحكام تدور مدار الفكر والسلوك وطريقة تعاطي غير المسلمين مع المسلمين، أو غير الشيعة مع الشيعة. فلو كان هؤلاء يرَوْن أن للعقيدة مدخلية في إنسانية الإنسان، وكانت حرمة أرواح وأموال وأعراض الناس، وتمتّعهم بالحقوق الطبيعية، متوقّفاً عندهم على عدم إسلامهم أو عدم تشيّعهم عندها يكون من حقّ المسلمين والشيعة أن يواجهوا هذا العدوان بالمِثْل من وجهة نظر العقلانية والأخلاق. ولكنْ حتّى في مثل هذه الحالة لو تمّ تجاهل حقوق الكفّار والمخالفين، وتمّ الاعتداء عليهم بما يتجاوز الردّ بالمِثْل ولو بمقدار أنملة، يكون هذا الأمر مخالفاً للعدالة، ولا يكون هذا السلوك منسجماً مع القِيَم الأخلاقية والتعاليم القرآنية([17]).

كان المسلمون في صدر الإسلام يتعرَّضون للتعذيب أو النفي؛ كي يتخلّوا عن دينهم. وكانت حرب الكفّار مع المسلمين حرباً عقائديّة، بمعنى أن الكفّار والمشركين لم يكونوا يعترفون بالحرّية الدينية وحقّ الإنسان في اختيار دينه ونشره ونقد الفكر الديني الحاكم. وكانت هذه السياسة هي السائدة في تاريخ الكثير من الأنبياء السابقين وتعاطي الكفّار معهم، كما يحدّثنا القرآن. فقد جاء في القرآن مثلاً:

ـ ﴿قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ﴾ (الأعراف: 88).

ـ ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ﴾ (إبراهيم: 13).

نرى أن الفرد إذا التفت إلى القرائن والشواهد التاريخية، وإلى الاختلافات القائمة بين العالم الجديد والعالم القديم، لن يتمكّن أبداً من أن يستنبط من الآيات والروايات المرتبطة بكيفية التعاطي مع غير المسلمين في صدر الإسلام حكماً عاماً ومطلقاً، وأن يعمل على تطبيق هذه الأحكام على العالم المعاصر الذي يتمتع فيه المسلمون بحقّ اختيار الدين ونشر عقيدته والدعوة لها، ويحظى بحرّية ممارسة شعائره في البلدان غير الإسلامية بنحوٍ أكبر من الحرّية التي يحصل عليها في البلدان الإسلامية. إن من بين الاختلافات الهامّة بين العالم القديم والعالم الجديد هو أن العالم الجديد أوّلاً: لا يشهد حروباً عقائدية وأيديولوجية. ولذلك لو عمد شخصٌ في هذا العالم إلى تحويل الحرب غير العقائدية إلى حرب عقائدية يكون ما يقوم به في حقيقته توظيفاً للدين واتخاذه وسيلة وأداةً للوصول إلى مآربه. وثانياً: في العالم المعاصر يتمّ ترجيح الطرق الدبلوماسية على الحروب؛ لحلّ الخلافات. ولذلك فإن الذي يعمل في هذا العالم على ترجيح وتقديم الحرب على الخيارات الدبلوماسية والحوارية يُعَدّ ناقضاً ومنتهكاً للقِيَم الأخلاقية.

3ـ أما المثال الثالث فهو حكم الحجاب. فالمسلمون إنما يحقّ لهم الدفاع عن حرّية المسلمة في الحجاب في البلدان المسيحية إذا منحوا المسلمات والمسيحيات الحقّ في حرّية اختيار الحجاب في البلدان الإسلامية التي يعِشْنَ فيها، ولا «يكرهوهُنَّ» على ارتداء الحجاب. ولو نظرنا إلى الحجاب بوصفه تكليفاً فإن هذا التكليف ـ كأيّ تكليفٍ آخر ـ يكون مشروطاً بالقدرة والاستطاعة. وفي حال حَظْره من قِبَل الدولة لا يكون مقدوراً، وسوف يسقط عن المكلَّف، وفي هذه الحالة سوف يفقد نقد قانون حظر الحجاب مفهومه ومعناه؛ فإن نقد هذا القانون إنما يكون ممكناً إذا نظرنا إلى الحجاب بوصفه «حقّاً»، وليس بوصفه تكليفاً. إلاّ أن النظر إلى الحجاب بوصفه حقّاً سيعرِّض بدَوْره قانون فرض الحجاب وقَسْر النساء عليه، ووضع القوانين والعقوبات الرادعة للسفور أو الحجاب غير الساتر، إلى الكثير من علامات الاستفهام.

ب ـ المعيار الثاني: عدم الانسجام مع الفطرة

طبقاً لهذا المعيار يكون فهمنا للنصوص الدينية قابلاً للإبطال «من الناحية الفطرية»، بمعنى أن القراءة الدينية المخالفة للفطرة تعتبر باطلةً. ولو اعتبرنا الفطرة بمعنى مطلق الخلق فإن هذا المعيار سيمتاز من المعيارين الرابع والخامس، بَيْدَ أن نسبة هذا المعيار ـ في هذه الحالة ـ إلى المعيار الأول ستكون نسبة العموم والخصوص من وجه، وتكون نسبته إلى المعيار الثامن نسبة العموم والخصوص المطلق. وأما إذا اعتبرنا الفطرة بمعنى كيفيّة خلق الإنسان فإن هذا المعيار سيتّحد مع المعيار الرابع. كما أننا إذا اعتبرنا القِيَم والواجبات الأخلاقية وأصول الدين فطرية فإن نسبة هذا المعيار إلى المعيارين الخامس والتاسع ستكون هي العموم والخصوص المطلق. وعلى أيّ حالٍ فإن عدم الانسجام مع الفطرة والتكوين معيارٌ يتمّ إبطال الفهم الفقهي على أساسه.

يمكن إقامة الكثير من الأدلة لصالح هذا المعيار. ففي بعض الموارد؛ حيث يعجز المكلف من الناحية التكوينية عن أداء التكليف، يعتبر الحكم لاغياً، وإنّ إلغاء الحكم دليلٌ على بطلان فهمه من النصوص الدينية. أما الدليل الأعمّ الذي يمكن لنا إقامته لصالح هذا المعيار فهو:

1ـ إن الخلق والتكوين ينشأ من الإرادة التكوينية لله تعالى.

2ـ إن إرادة الله التشريعية تابعةٌ لإرادته التكوينية، بمعنى أن إرادته التكوينية تحدِّد «إطار» إرادته التشريعية.

3ـ وعلى هذا الأساس فإن فهم الإنسان للنصوص المبيّنة لإرادة الله التشريعية إنما تكون معتبرةً فيما إذا كانت منسجمةً مع إرادته التكوينيّة.

4ـ يجب على الفقهاء أن يجعلوا فهمهم الفقهي للنصوص الدينية منسجماً ومتوازناً مع الخلق أو التكوين، أو مع إرادة الله التكوينية.

وبعبارةٍ أدقّ: إن المراد من «الفطرة» و«كون الشيء فطرياً» هنا ليس الانسجام مع التكوين، وإنما المراد هو الانسجام مع المقتضيات «المعيارية» للتكوين، أو المعايير التكوينية (الطبيعية). وإن نفس «وجوب» أن يكون التشريع منسجماً مع التكوين يُعتبر معياراً. إن المدّعى هنا هو أن بنية العالم بشكلٍ عامّ، والهوية الإنسانية بشكلٍ خاصّ، تقتضي بعض اللوازم المعيارية الثابتة، وإن مجرّد خلق العالم بشكلٍ عام، وخلق الإنسان بشكلٍ خاصّ، يستلزم الاعتراف بهذه المعايير من قِبَل الله تعالى. يمكن لله أن لا يخلق الإنسان، ولكنْ لا يمكنه أن يخلقه ويسلب عنه حقوقه الطبيعية (الفطرية) أو ينقضها.

وعليه فإن أحد أفضل الأمثلة التي يمكن ذكرها لهذا المعيار هو الحقوق الطبيعية للإنسان. إن الحقوق الطبيعية هي حقوقٌ فطرية، وإن هذه الحقوق تعتبر من اللوازم المعيارية لفطرة الإنسان، فهي حقوقٌ ثابتة للإنسان؛ لأنه إنسان، بغضّ النظر عن عقيدته ومهنته ولون بشرته وعرقه وقوميّته وجنسيّته ومذهبه. يمكن القول: إن هذه الحقوق تنبثق «بالواسطة» عن «الإرادة التكوينية» لله تعالى، ولا يمكن سلبها من خلال تشريع القوانين، ولذلك فهي متقدِّمةٌ على «الإرادة التشريعية» لله، ولذلك يثبت تقدُّمها على الإرادة التشريعية لكلّ مقنِّن آخر بطريقٍ أَوْلى. إن الحقوق الطبيعية لا تنقسم إلى: إسلامية؛ وغير إسلامية. وعليه فإن القراءة الدينية التي ترى أن جميع الحقوق اعتبارية، وتحرم بعض الناس من حقوقهم، أو تعلّق تمتّعهم بهذه الحقوق على رضا وإرادة الحاكم الشرعي ومصلحة النظام، إنما هي في الحقيقة قراءةٌ منافيةٌ للفطرة، وقاتلةٌ للإنسان، ومخالفةٌ لإرادة الله التكوينية، مهما كانت منسجمةً مع ظواهر النصوص الدينية المبيّنة لإرادة الله التشريعية([18]).

وعليه فإن من بين معاني كون الدين فطرياً هو أن الدين يعترف بالإنسانية وبالحقوق الطبيعية المنبثقة عن صُلْب هذه الإنسانية. إلاّ أن فطرية الدين هنا إنما تعني مجرّد أن الدين لا يتنافى مع الفطرة بالمعنى العامّ أو فطرة الإنسان بالمعنى الخاصّ، وليس بمعنى أن الدين «ينبثق» عن الفطرة([19]). إن هذا التحليل ينطبق أيضاً على سائر معايير فصل الظرف عن المظروف. ولكي تغدو الأحكام الشرعية معتبرةً من الناحية الأخلاقية ليس من الضروري أن «تنبثق» هذه الأحكام عن حقوق الإنسان، بل يكفي «انسجام» هذه الأحكام مع حقوق الإنسان، أو بعبارةٍ أفضل: يكفي «عدم تنافي» هذه الأحكام مع حقوق الإنسان. إن الأحكام الشرعية إنما تكون فطريةً إذا لم «تنقض» القِيَم الأخلاقية.

ج ـ المعيار الثالث: عدم الانسجام مع ألوهية الله تعالى

طبقاً لهذا المعيار يكون فهمنا للنصوص الدينية قابلاً لـ «الإبطال» في ضوء صفات الله تعالى. إن نسبة هذا المعيار إلى المعيار الأول هي نسبة العموم والخصوص من وجه، شريطة أن نعتبر صفات الله تعالى جزءاً من الأمور التي يمكن اكتشافها وإثباتها من طريق العقل. وهذه النسبة تقوم بين هذا المعيار والمعيار التاسع أيضاً؛ لأن صفات الله في الحقيقة جزءٌ من أصول الدين. ويمكن استعمال هذا المعيار في باب المتبنّيات الدينية، كما يمكن استعماله في مجال الأحكام الدينية أيضاً. فقد ورد في القرآن الكريم ـ على سبيل المثال ـ قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ (طه: 5)، و﴿…بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ…﴾ (المائدة: 64)، و﴿…يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ…﴾ (الفتح: 10). غير أن المفسِّرين الذين يتبنّون رؤية فلسفية ـ لاهوتية عن الله يقولون: إن صفات الله تعالى ـ من قبيل: وجوب الوجود، والتجرّد، والكمال ـ تمنعنا من حمل هذه الآيات على معناها الظاهري. وهذا الكلام يعني أن الفهم والتفسير الذي يحمل هذه الآيات على معانيها الظاهرية يتمّ إبطاله في ضوء صفات الله تعالى.

وعلى هذه الشاكلة يمكن إبطال الفهم الظالم للأحكام الشرعية لمجرّد عدم انسجامها مع اتّصاف الله تعالى بالعدالة. إن عدالة الله تعالى تحول دون جعل الحكم الظالم من قِبَله، ولكنّها لا تحول دون فهم النصّ المشتمل على حكم الله وتفسيره بشكلٍ ظالم من قِبَل الناس. طبقاً لهذا المعيار يجب علينا أن نقيِّم استنباطنا من النصوص الدينية بصفات الله؛ كي لا ننسب إلى الله حكماً لا ينسجم مع عدالة الله أو سائر صفاته الأخرى. عندما نقول: «إن الله حكيمٌ» فهذا يعني أن أحكامه حكيمةٌ أيضاً، وعندما نقول: «إن الله عادلٌ» فهذا يعني أن الله تعالى عادلٌ في مقام التشريع أيضاً، وأن الأحكام الشرعية لا تنقض أصل العدالة في مقام الثبوت.

ولكنْ لا يمكن الاستناد إلى هذه المتبنّيات بشأن صفات الله تعالى في العمل على تبرير الفهم غير العادل أو غير الحكيم للنصوص الدينية. إن عدالة الله وعدالة أحكامه لا تستلزم عدالة فهمنا لأحكام الله. إننا نحن البشر وفي مقام فهم أحكام الله تعالى قد نخطئ وننسب إليه حكماً ظالماً أو غير حكيم، ولذلك نضطرّ في تصحيح فهمنا وتفسيرنا إلى تقييمه بشكلٍ لاحق من خلال الثابت عندنا من صفات الله بداهةً. فإذا كان ظاهر النصوص الدينية مخالفاً لصفات الله تعالى لا يمكن حمل تلك النصوص على معناها الظاهري. ففي مثل هذه الموارد لا يكون للظهور حجّية، بمعنى أن سيرة العقلاء لا تقوم على التمسُّك بظاهر الألفاظ حتّى في هذه الموارد أيضاً. ولكي نرفع اليد عن ظاهر النصوص الدينية لا يجب أن يكون لدينا قطعٌ ويقين بعدم انسجام مضامين هذه النصوص مع صفات الله تعالى؛ لأن غاية ما يفيده ظاهر الألفاظ هو الظنّ، لا أكثر. وحيث يكون ظنُّنا بعدم عدالة الحكم أقوى من ظنّنا بظاهر الألفاظ كفى ذلك لرفع اليد عن ظواهر تلك الألفاظ.

يمكن العثور على نموذجٍ لتطبيق هذا المعيار في مسألة «الحِيَل الرَّبَوية». فهناك في باب الرِّبا روايات صحيحة السند تبيِّن الطرق والمخارج للفرار من الرِّبا. وقد عمد بعض الفقهاء طبقاً لهذه الروايات إلى تخصيص حرمة الرِّبا، وقال بجواز الرِّبا في مثل هذه الموارد. وهناك من الفقهاء مَنْ قال بأن الرِّبا مصداقٌ للظلم، والظلمُ قبيح عقلاً، وحرامٌ شرعاً، وإن قبح الرِّبا وحرمته لا تقبل التخصيص. وعليه لا يمكن الحكم بحلّية الرِّبا استناداً إلى هذه الروايات([20]).

النموذج الثاني فتوى بعض الفقهاء بشأن امتلاك النساء لحقّ الطلاق؛ إذ يرى هؤلاء الفقهاء ظلماً في تجريد المرأة من هذا الحقّ بشكلٍ مطلق([21]).

إلاّ أن الأهمّ من ذلك كله هي الحقوق الطبيعية للإنسان؛ لأن إنكار الحقوق الطبيعة للناس يستلزم فقدان اتصاف الله تعالى بالعدالة لمفهومه ومعناه، ويكون من قبيل: السالبة بانتفاء الموضوع. فإذا تمّ حرمان الإنسان من حقوقه الطبيعية سيكون اتصاف الله بالعدل أو الظلم عنده سواء، بمعنى أنه لن يكون لظلم الله أو عدله من معنى أو مفهوم بالنسبة له. فإنما يمكن القول: «إن الله عادل» إذا تمتّع عباده بحقوقهم الطبيعية المنبثقة عن إرادته التشريعية، وأن يراعي هذه الحقوق. وأما إذا قلنا بأن جميع الحقوق اعتبارية، بمعنى أن تكون منبثقةً من إرادة الله التشريعية، وأن تنتزع من الأمر والنهي المولوي لله، ففي هذه الحالة يكون اتصاف الله بالعدالة فاقداً للمعنى؛ إذ لو أعطى الله حقوقاً لعباده من خلال التشريع، ثمّ عمد إلى سلبها بتشريع حكمٍ آخر، أو قام بعدم مراعاة تلك الحقوق، أو عمل على نقضها من خلال تشريع حكمٍ آخر مخالفٍ لتلك الحقوق، أو أذن للآخرين بنقض هذه الحقوق، لن يكون مرتكباً للظلم. فالحقوق التي يأتي بها الاعتبار يمكن للاعتبار أن ينقضها أيضاً؛ فإن زمام الحقوق الاعتبارية وحدودها وبقاؤها واستمرارها بيد المعتبر، ومعلَّقة على إرادته.

د ـ المعيار الرابع: عدم الانسجام مع الهوية الإنسانية

إن الحكم أو العقيدة التي لا تنسجم مع إنسانية الإنسان ـ طبقاً لهذا المعيار ـ لا يمكن أن تكون جزءاً من الدين «المطلق»، ولا تناسب الإنسان ما فوق التاريخي. ولو كان هذا الحكم أو العقيدة وارداً في النصوص الدينية المعتبرة بطرقٍ صحيحة، ولم يكن موضوعاً ومختلقاً، فلا بُدَّ من اعتباره جزءاً من «الدين المقيّد»، بمعنى أنه حكمٌ تمّ فرضه على الدين من خارجه لفترةٍ من التاريخ. يمكن لنا أن نقيِّم الكثير من الأدلة الدينية وما فوق الدينية لصالح هذا المعيار، من قبيل:

1ـ تأكيد النصوص الدينية على الكرامة الإنسانية.

2ـ تقدُّم الإنسانية على العقيدة والعمل.

3ـ ازدهار الإنسانية والمعنوية والعقلانية بوصفها فلسفة وغاية بعثة الأنبياء.

إن الإنسان ليس وعاءً خالياً يمكن ملؤه بأيّ محتوىً أو مضمونٍ، وإجراء أو تشريع كلّ حكمٍ بشأنه أو مطالبته بالعمل به. إن الدين يخاطب «الإنسان بما هو إنسانٌ». وعلى هذا الأساس فإن الدين يفترض إنسانية الإنسان، ويتّخذ من المقتضيات المعيارية لهذه الهوية إطاراً له. وهذا الكلام يعني تقدُّم الهوية الإنسانية على الهوية الدينية. وكما ذكرنا في محلّه إن للإنسان من حيث هو إنسان نوعين من الهوية، وهما: الهوية النظرية؛ والهوية العملية. وإن هاتين الهويتين متقدّمتان على كلّ هوية أخرى، بما في ذلك الهويات الدينية. فنحن بالدرجة الأولى من البشر، ثم نكون مسلمين أو مسيحيين أو يهود وما إلى ذلك بالدرجة الثانية. وإن المعايير والإلزامات المنطقية والمعرفية تنبثق عن الهوية النظرية للإنسان، وأما المعايير والإلزامات الأخلاقية فتنبثق عن الهوية العملية للإنسان. إن المعايير والإلزامات المنطقية والمعرفية تمنع الإنسان من القول ببعض المتبنّيات والعقائد، وتلزمه بالقول والإيمان ببعض المتبنيات والعقائد الأخرى. كما تمنعه المعايير والإلزامات الأخلاقية من القيام ببعض الأعمال، وتلزمه بالقيام ببعض الأمور الأخرى.

إن اختلاف الإنسان عن الحيوان في البُعْد النظري يكمن في أن ما يعتقده الحيوان تابعٌ لـ «العلة» تماماً، في حين أن ما يعتقده الإنسان يمكن أن يكون تابعاً للعلة؛ ويمكن أن يكون تابعاً للدليل([22]). وحيث يكون تابعاً للدليل قد يكون دليله معتبراً؛ وقد لا يكون معتبراً. ولكنْ حيث تكون الهوية الإنسانية للشخص حيوية وراسخة وفاعلة، ويكون صحيح العقل، فإن آراءه ومعتقداته تكون تابعةً للدليل المعتبر، وليست تابعةً للعلة، وليست تابعةً للدليل غير المعتبر وغير المناسب. إن الإنسان من حيث هو إنسانٌ يحتاج إلى دليلٍ يبرِّر له الإيمان بعقيدةٍ ما أو رفضها، كما يحتاج إلى دليلٍ يدعم القرارات التي يتّخذها أو يتنكّر لها؛ كي يبرر إيمانه وقراره من الناحية العقلانية (شريعة العقل)، وإن إنسانيته رهنٌ باتّباع قِيَم ومعايير هذه الشريعة.

إن تقدُّم الهوية الإنسانية على الهوية الدينية يعني أن الدين لا يستطيع تجاهل الهوية الإنسانية والمقتضيات القِيَمية والمعيارية لهذه الهوية، أو أن يعمل على إضعافها، أو أن يعمل على إزالتها وإحلال الهوية الدينية محلّها؛ إذ في هذه الحالة يكون قد سلب من الإنسان إنسانيّته، وعمل على تنزيله إلى مستوى الحيوانية. إن «الإنسان المتديِّن» يختلف عن «الحيوان المتديِّن». وعلى هذا الأساس فإن الأحكام الدينية إنما تكون معتبرةً إذا كانت منسجمة مع الهوية الإنسانية والضوابط والمعايير الأخلاقية والمعرفية المنبثقة عن هذه الهوية.

إن الدين الحقّ لا يتجاهل الهوية النظرية والعملية للإنسان، ولا يعمل على إضعافها والتخفيف من بريقها أو القضاء عليها. وإن هذه الهوية هي التي يتمّ التعبير عنها في المصطلح الديني بـ «الفطرة». إلاّ أن القراءة والفهم غير الإنساني والمخالف للإنسان من النصوص الدينية هو أمرٌ ممكن، وخيرُ دليل على إمكانه وقوعُه. إن الإيمان النظري والعملي بالقراءات غير الإنسانية والمخالفة للإنسانية للنصوص الدينية تضعف الهوية والفطرة الإنسانية للإنسان، وتعمل على قتلها. من هنا يجب علينا أن نعمل على مواءمة تفسيرنا وفهمنا للنصوص الدينية بشكلٍ لاحق مع الهوية والفطرة الإنسانية والمعايير المنبثقة من صُلْب هذه الهوية؛ فإن تفسير النصوص الدينية إنما يكون معتبراً ومقبولاً وقابلاً للاتّباع إذا كان منسجماً مع هذه الهوية الإنسانية ومقتضياتها القِيَمية والمعيارية. وعلى هذا الأساس فإن القراءة أو القراءات الدينية التي لا تنسجم مع العقلانية النظرية والعملية تسقط عن الاعتبار، ولا يمكن لأيّ دليلٍ أن يبرِّر الإيمان والتَّبَعية لهذه القراءات. والمدّعى هو أن شريعة الوحي في مقام الثبوت (اللوح المحفوظ) تنسجم مع شريعة العقل، وحيث يكون الأمر كذلك يجب العمل على المواءمة بين فَهْم الفقهاء للشريعة والوَحْي أيضاً مع شريعة العقل بشكلٍ لاحق([23]).

وبعبارةٍ أخرى: إن الإيمان بالقراءات الدينية العدوانية والمخالفة للإنسانية لا ترفع المسؤولية العقلانية ـ وبتَبَعها المؤاخذة والعقاب الأخروي ـ عن كاهل الفرد. إن الذين يؤمنون بهذا النوع من القراءات الدينية، ويعملون على أساسها، إنما يبيعون في الحقيقة إنسانيتهم ـ التي هي من أكبر الأمانات الإلهية في أعناقهم ـ بثمنٍ بَخْس، وبذلك فإنهم يكفرون بنعمة العقل والعقلانية. من هنا يمكن لنا أن نستنتج بأن الأفهام والقراءات الدينية التي تتعامل مع البالغين والعقلاء كما يتمّ التعامل مع القاصرين والمحجور عليهم، ويعتبرهم بحاجةٍ إلى وليٍّ وقَيِّم، تكون باطلةً من الأساس؛ لأن مفهوم «الإنسان البالغ والعاقل، ويكون في الوقت نفسه بحاجةٍ إلى قَيِّم» ينطوي على تناقضٍ واضح. فإن الإنسان البالغ والعاقل الذي لا يتمتع بالصلاحية، وتَبَعاً لذلك لا يحقّ له تشخيص صلاح وفساد نفسه ومجتمعه، ولا يمكنه الحكم بشأن مصيره الفردي والجماعي أو اتّخاذ القرار في هذا الشأن، إنما يكون شيئاً عديم اللون والطعم والرائحة، وفاقداً للجوهر والماهية، ومثل هذا الشيء لا قيمة له، بل لا وجود له، وإن تديُّن مثل هذا الإنسان لا قيمة له.

إن الدين الحقّ لا يتعارض أبداً مع العقل والعقلانية والأخلاق والوجدان الإنساني والكرامة الإنسانية، التي هي مصدر القِيَم الأخلاقية، ولا يسلب من الإنسان إنسانيته. بل إن مثل هذا الدين يعترف للإنسان بإنسانيّته، ويعمل على مواءمة أحكامه وموازنتها مع مقتضيات الهوية الإنسانية للإنسان، ويعمل على تعريف الهوية الدينية بحيث لا يضيِّق الخناق على الهويّة الإنسانية. إن القراءة الدينية الخاطئة والخرافية والمحرّفة مخالفةٌ للأخلاق والعقل والعقلانية والمعنوية، وما لم يتجاهل الإنسان إنسانيّته لا يمكنه الإذعان والاستسلام لهذه القراءة. إن القراء الدينية الأفيونية والمخالفة للإنسانية تعمل قبل كلّ شيء على إقناع الإنسان بأنه قاصرٌ ومحجورٌ عليه وناقص العقل، ثم يعمل على تسليط حَمَلته على رقبة هذا الإنسان المسكين.

إن الإدمان على مثل هذه القراءة الدينية أخطر وأشدّ فَتْكاً من الإدمان على أيّ شيءٍ آخر؛ إذ في الوقت الذي تعمل جميع أنواع الإدمان الأخرى على سلب إرادة الإنسان، يعمل هذا الإدمان على سلب الإنسان هويّته. وعندما يتمّ سلب الإنسان وتجريده من هويته يغدو منفصلاً عن ذاته، وسوف يغدو من السهل عليه أن يؤمن بكلّ خرافةٍ بوصفها من الدين، وأن يرتكب جميع أنواع الفظائع والجرائم. وإن الذي يحول دون إيمان الإنسان بالخرافات، بل ويجعله قادراً على التمييز بين الخرافة وغيرها، هو هويته النظرية أو عقلانيته النظرية (القِيَم والإلزامات المعرفية والمنطقية). وإن الذي يمنع الإنسان من ارتكاب العنف والجريمة هو الوجدان الأخلاقي أو الهوية العملية للإنسان أو العقلانية العملية (القِيَم والإلزامات الأخلاقية)([24]).

إن الإنسانية بمثابة القَدَح المملوء حتّى النصف، وإن نصفه الملآن يشتمل على مضامين ومحتويات أشياء أخرى يُراد لها تحديد وتعيين الأشياء التي ستشغل النصف الفارغ منه. ليس كلّ دين وكلّ قراءة دينية تناسب شأن ومنزلة الإنسانية. فالدين لم يأتِ ليجعل من الإنسان بهيمةً أو يعطِّل عقله عن العمل. وعليه فإن الدين المناسب للإنسان هو «الدين في دائرة العقل»، والفقه الذي يتناسب ويليق بالشأن والكرامة الإنسانية هو «الفقه في نطاق الأخلاق». وهذا هو معنى تقدُّم «شريعة العقل» على «شريعة النقل».

إن للتأكيد على الهوية الإنسانية للإنسان في مقام فَهْم واعتناق واتّباع الدين مستلزمات ومضامين مختلفة. ويمكن القول: إن القضية القائلة: «إن الإنسان إنسانٌ» إنما تأتي للتأكيد على ثلاثة معانٍ مختلفة، وهي:

1ـ الإنسان ليس إلهاً.

2ـ الإنسان ليس ملاكاً.

3ـ الإنسان ليس حيواناً أو شيئاً.

ولازم عدم كون الإنسان إلهاً أن لا يدّعي لنفسه أي حقّ أو صلاحيّة خاصّة من الخيارات والحقوق الإلهية الخاصّة، ولو بدعوى النياية من قِبَله وتمثيله على الأرض. ولا يمكنه ممارسة الألوهية في مقام إدارة وتدبير المجتمع. ولا يمكن القول بإعطاء الحقوق والصلاحيات ما فوق البشرية لبعض أفراد البشر. ولازم اشتراك الناس في الهوية الإنسانية أنهم متساوون في الحقوق السياسية والاجتماعية. وإذا لم يكن الإنسان إلهاً لا يمكن اعتبار تشخيص وإرادة وحكم أيّ إنسان معياراً للتمييز بين الحقّ والباطل، أو تمييز الحَسَن من القبيح، والصحيح من الخطأ([25]). ولا يمكن لأيّ إنسانٍ أن يرى نفسه مقدَّساً وفوق النقد والسؤال مطلقاً. وإذا أراد الله تفويض بعض حقوقه وصلاحياته إلى الناس فإنه سوف يقسِّم هذه الحقوق والصلاحيات بينهم بالسوية.

ومعنى أن الإنسان ليس ملاكاً أن السعي وبذل الجهد وراء «استئصال» المعاصي والفساد والحرص والطمع والبخل والحسد وسائر الموبقات الأخلاقية، والعمل على إقامة الجنّة على الأرض، عملٌ عبثي لا طائل من ورائه، ومخالفٌ لمقتضى حكمة الله تعالى وإرادته التكوينية. ومن هنا يجب على المصلحين والذين يريدون الخير للإنسانية أن يصرفوا كلّ جهودهم نحو «التقليل» من المعاصي والفساد والرذائل، لا إلى «اجتثاث» هذه الأمور، وكلّ مَنْ يَعِدُ بإقامة الجنة على الأرض والقضاء على الذنوب والفساد إما أن يكون جاهلاً أو محتالاً وكذّاباً([26]). كما أن فلسفة الأحكام الشرعية لا ترمي إلى اجتثاث الفساد والذنوب والمعاصي.

إن التأكيد على إنسانية الإنسان يعني كذلك التأكيد على اختلاف الإنسان عن سائر البهائم والأشياء أيضاً. إن الإنسان «حيوانٌ عاقل» أو «حيوانٌ أخلاقي»، وإن العقلانية أو الأخلاق هي الفصل المميِّز للإنسان من سائر الحيوانات. إن «الحرّية» و«المسؤولية» لازمان من اللوازم المباشرة للهوية الإنسانية للإنسان. فمن دون الحرّية لا معنى للإنسانية والمسؤولية، وإن الإنسان إنما يكون مسؤولاً بحكم كونه عاقلاً وحرّاً.

وكما سبق أن ذكرنا فإن الحرّية تمثّل شرطاً ضرورياً لنموّ وازدهار العقل النظري والعملي. فالحرّية حقٌّ، كما هو حاجةٌ، إلاّ أن هذه الحرّية إنما هي حرّية سلبية. فالحرّية السلبية تعني أن الإنسان متحرِّر من سلطة واستعباد الآخرين، لا أنه متحرِّر عن الإنسانية والعقلانية. لا يحقّ للآخرين أن يفرضوا على الإنسان شيئاً، كما لا يحقّ له أن يتجاهل أو ينتهك مقتضيات هويّته الإنسانية أيضاً؛ فإن الحرّية تُحَدّ بالعقلانية والأخلاق. وإن أخلاقية العقائد والسلوكيات لدى كلّ شخصٍ تابعةٌ لمقدار حرّيته في اتخاذ القرار بشأن عقائده وسلوكياته.

ـ يتبع ـ

الهوامش

(*) أستاذٌ في جامعة المفيد، وأحد الباحثين البارزين في مجال الدين وفلسفة الأخلاق، ومن المساهمين في إطلاق عجلة علم الكلام الجديد وفلسفة الدين.

([1]) إن مرادنا من العقلانية الحديثة لا يقتصر على خصوص «العقلانية الآلية»، ولا يقتصر كذلك على «العقلانية العلمية».

([2]) إن الاختلاف بين العقلانية القديمة والعقلانية الجديدة لا يستلزم النسبية في باب العقلانية؛ لأن مرادنا هو أن بعض المباني والفرضيات في العقلانية التقليدية تفقد اعتبارها في العالم الجديد، وتغدو من قبيل: السالبة بانتفاء الموضوع، هذا أوّلاً. وثانياً: إن فهم وتفسير البشر للعقل والعقلانية في العالم المعاصر قد تغيّر.

([3]) قمنا بنقد الرؤية الشائعة والفهم السائد لعصمة الأنبياء والأولياء وختم النبوّة في الفصل السابق.

([4]) سبق أن ذكرنا أن «الأخلاق التوصيفية» (descriptive ethics) غير «الأخلاق المعيارية» (normative ethics). إن الأخلاق التوصيفية تبحث في مورد «الأخلاق القائمة» أو «الأخلاق في مقام التحقّق» (actual ethics) أو «الأخلاق كما هي»، في حين أن الموضوع مورد البحث في الأخلاق المعيارية عبارة عن «الأخلاق المثالية» (ideal ethics) أو «الأخلاق كما يجب أن تكون». في ما يتعلق بالأخلاق التوصيفيّة يمكن الفصل والتفكيك بين «الأخلاق الإسلامية» و«الأخلاق الغربية»، وأما في ما يتعلّق بـ «الأخلاق المعيارية» فلا مجال لمثل هذا التفكيك؛ لأن هذا يستلزم التشكيك والنسبية الأخلاقية. لا شَكَّ في أن الأخلاق السائدة حالياً في المجتمعات الإسلامية تختلف عن الأخلاق السائدة في المجتمعات الغربية، إلاّ أننا عندما نتحدّث عن الأخلاق الإسلامية فإننا نعني بها الأخلاق الإسلامية المثالية، التي لا تختلف عن الأخلاق المثالية الغربية، إلاّ على أساس النسبية الأخلاقية، إلاّ أن هذه الرؤية رؤية خاطئة في مجال الأخلاق المعيارية.

([5]) إن المراد من الأحكام في قسم المعاملات لا يعني خصوص المعاملات الاقتصادية، بل إن مفهوم المعاملات مصطلحٌ فقهي يشمل جميع الأحكام غير العبادية.

([6]) استعَرْتُ هذا التعبير من الدكتور سروش.

([7]) نرى أن الرؤية التي يمكن الدفاع عنها في ما يتعلّق بمصدر الأحكام الشرعية هي الرؤية في الحدّ الأدنى، وهي التي تقضي بأن تكون الأحكام الشرعية منسجمةً مع المصالح والمفاسد الأخروية، ولا تعمل على نقضها، لا أنها تنبثق دائماً عن المصالح والمفاسد الغيبية.

([8]) هذا إذا تجاوزنا أولئك الذين يشكّكون في حصول القطع واليقين حتّى في الرياضيات أيضاً، بل هم على يقينٍ من عدم حصوله. ومن بين هؤلاء انظر:

Kline, M. (1980). The Loss of Certainty (Oxford: Oxford University Press).

يُعدّ موريس كلاين من أبرز أساتذة علم الرياضيات في جامعة نيويورك. مع الشكر الجزيل لسماحة الأستاذ مصطفى ملكيان على بيان هذه النقطة.

([9]) أرى أنه لا يمكن إثبات حجّية خبر الواحد، ولا حجّية الظهور، ولا حجّية أيّ دليل آخر، على نحو القطع واليقين. فإن ادعاء القطع في هذه الموارد هو مجرّد ادّعاء من دون دليلٍ، وإن قطع الذين يدعون القطع في هذه الموارد هو من قبيل: قطع القطّاع، بمعنى أنه قطعٌ نفسي، وليس قطعاً منطقياً. وإن هذا القطع مستندٌ إلى العلة، لا إلى الدليل المناسب والمورث للقطع.

([10]) إن هذه المعايير لا تفترض النـزعة المبنائية المعرفية. إن الضابطة العامة في رفع هذا التنافي هو أن نعمل على مقارنة الدليل أو الأدلة المتوفّرة لصالح فتوى ما بدليل أو أدلة الفتاوى الأخرى المنافية لتلك الفتوى، والتي تشكل في الواقع أدلة مخالفة لها. لا يمكن لنا بيان قاعدة عامة لا تقبل الاستثناء بشكل مسبق، وقبل الفحص في الأدلة، وتحديد الطرف الذي يجب تقديمه على الآخر لرفع هذا التنافي. وبعبارةٍ أخرى: إن القاعدة العامة التي لا تقبل الاستثناء هي أن حقّ التقدّم يكون للحكم أو المتبنّى الذي يقوم على الدليل الأقوى، ولا يمكن تحديد الدليل الأقوى إلاّ من خلال مقارنته بالأدلة الأخرى. يمكن الوقوف على تفصيل البحث بشأن أخلاق التقليد في كتابنا «أخلاق دينداري» (أخلاق التديّن).

([11]) لقد اعترف السيد محمد باقر الصدر في كتابه (اقتصادنا) بعدم إمكان العثور على فقيهٍ واحد يمكن الخروج من مجموع فتاواه بمنظومةٍ اقتصادية منسجمة ومتناغمة، ولذلك يجد سماحته نفسه مضطرّاً إلى القيام بانتقاء الفتاوى المناسبة من بين فتاوى مجموع المجتهدين المختلفين للخروج بمنظومةٍ اقتصادية يمكن نسبتها إلى الإسلام. هناك من المجتهدين مَنْ يذهب إلى الاعتقاد بأن بناء الشريعة يقوم في الأساس على التفريق بين الموارد المتشابهة، ولذلك لا يمكن الكشف عن الأحكام الشرعية من طريق العقل.

([12]) انظر في هذا الشأن: (ملكيان، «سخني در چند وچون ارتباط إسلام وليبراليسم»، وذلك في: راهي به رهائي: جستارهايى در عقلانيت ومعنويت: 93 ـ 160، طهران، نشر نگاه معاصر؛ سروش، «فقه در ترازو، طرح چند پرسش أز محضر حضرت آية الله منتظري»: 14 ـ 21، 46، كيان.

([13]) هذا البيت من الشعر منقولٌ عن صدر المتألهين.

([14]) إن نسبة هذا البحث إلى ثنائية «تقدّم النفس على المعتقد» و«تقدّم المعتقد على النفس» واضحة. وقد عمد الدكتور سروش إلى الاستفادة من هذه الثنائية من أجل إيضاح الاختلاف بين ثقافة الغرب والثقافة الإسلامية في ما يتعلق بالنسبة القائمة بين النفس والعقيدة. إن تقدّم النفس على العقيدة يقوم على تقدّم الأخلاق على الدين، وتقدّم الإنسانية على التديّن. وإذا كانت الأخلاق متقدّمة على الدين يحقّ للإنسان أن يُخطئ في تشخيص الحقيقة (الحقّ في عدم الحقّ)، كما أن الإنسانية، وتَبَعاً لها التمتع بحقّ الحياة وسائر الحقوق الإنسانية، لن تكون رَهْناً باعتناق عقيدة أو عقائد خاصة؛ لأن العقيدة الحقّة والصحيحة لا مدخلية لها في إنسانية الإنسان. وإن الذي له مدخلية في إنسانية الإنسان هو أسلوب ومنهج اختياره واعتناقه للعقائد أو رفضها. وبعبارةٍ أخرى: يمكن القول: إن حقانية وصحّة العقيدة رهنٌ بالأدلة والتبريرات المتوفرة لصالح تلك العقيدة. ومن جهةٍ أخرى فإن تقدّم العقيدة على النفس يقوم على تقدّم الدين على الأخلاق، وتقدّم التديّن على الإنسانية، وتقدّم الهويّة الدينية على الهوية الإنسانية.

([15]) من الجدير بالذكر أن الفرد في إطار التفكير التقليدي لا يمتلك حتّى حقّ الاختيار الأول للدين أيضاً. ومن الخطأ الكبير القول: إن هذه الرؤية لا تعترف فقط بـ «استمرار» الحقّ في اختيار الدين. والدليل على ذلك أن المرتد الفطري ـ الذي يجب قتله ـ طبقاً لهذه الرؤية ليس هو الذي يتخلّى عن اختياره الأولي، والذي يختار ديناً جديداً بعد اختيار الإسلام، بل هو الذي يكون أبوه أو أمّه أو واحد من أجداده مسلماً، ويقوم هذا الفرد بعد البلوغ بإنكار ضروريّ من ضروريات الإسلام أو يختار ديناً جديداً. ومن هنا فإن أولاد المسلمين ـ طبقاً لهذه الرؤية ـ محرومون حتّى من حقّ الاختيار الأولي للدين، فضلاً عن استمرار هذا الحقّ. فلو أنكر شخصٌ بهذه المواصفات واحداً من ضروريات الدين يُعَدّ مرتدّاً، ويجب قتله، ولن تنفعه التوبة في دَرْء القتل عنه.

([16]) يقال أحياناً في التبرير العقلاني للحكم على المرتدّ بالقتل: إن المرتدّ مثل: الغدّة السرطانية أو الضرس الفاسد الذي يجب استئصاله واقتلاعه. ولكنْ، بالإضافة إلى الإشكالات والمحاذير المنطقية الواردة على هذا الاستدلال، يمكن القول: إن هذا الاستدلال عامّ، ويشمل جميع المرتدّين، وليس المرتدّين من الرجال والمرتدّين الفطريين فقط، ولا مجرّد الذين يخرجون من الإسلام فقط. وقد انتقد الدكتور سروش هذا الاستدلال بالتفصيل، انظر: سروش، «فقه در ترازو، طرح چند پرسش أز محضر آية الله منتظري»، كيان: 14 ـ 21، 46.

([17]) إن جواز المواجهة بالمثل واحدٌ من أحكام الأخلاق في الحدّ الأدنى أو الأخلاق المتمحورة حول العدالة. أما الأخلاق في حدّها الأقصى أو الأخلاق القائمة على الحبّ أو الإحسان أو كرم النفس فتأمرنا باجتناب المواجهة بالمثل.

([18]) إن هذه القراءة للدين تحمل في صلبها بذور القضاء على ذاتها؛ إذ مع إنكار الحقوق الطبيعية سيفقد حقّ الطاعة لله (أو وجوب إطاعته) مبناه وقاعدته التي يقوم عليها. فلو قال شخص: «إن العقل يحكم بحقّ الطاعة لله أو وجوب إطاعته» قلنا في جوابه: إن العقل الذي يثبت هذا الحقّ لله تعالى يثبت بنفسه الحقوق الطبيعية للإنسان بما هو إنسان أيضاً. وإذا قيل: «إن حقوق الإنسان ظنيّة، وليست قطعية أو يقينية» قلنا: إن علمنا بثبوت حقّ الطاعة لله بدَوْره ليس علماً قطعياً ويقينياً. وإذا قيل: «إن العقل البشري الناقص والمكبّل بقيود الأهواء لا يستطيع إدراك حقوق الإنسان بشكل صحيح» سنقول: إن هذا العقل الناقص هو نفسه الذي يدرك حقّ الطاعة لله ووجوب إطاعته، كما يحدّد دائرة وحدود هذه الطاعة.

([19]) نحن نرى أن التكوين، كما يحدّ من مساحة ودائرة التشريع ويعمل على تضييقها، يعمل «إلى حدٍّ ما» على تعيين مضمونه ومحتواه (بمعنى أن «الكينونات» تنقسم إلى: «ذات صلة»؛ و«غير ذات صلة»). يرى كلٌّ من: العلامة الطباطبائي والشهيد مرتضى مطهري أن فطرية الدين بمعنى «انبثاق» أحكام الدين عن الفطرة، وتحديد كامل مضمون ومحتوى التشريع من طريق التكوين، ولذلك يجهدون في إظهار «انسجام» أحكام الدين مع الفطرة بهذا المعنى. فعلى سبيل المثال: يطرح العلاّمة الطباطبائي في تفسير الآيات المرتبطة بخلق الإنسان هذا السؤال القائل: إذا عاد نسل جميع الناس إلى آدم وحواء كان لازم ذلك أن أبناء وبنات حواء قد تزاوجوا فيما بينهم، وهذا لا ينسجم مع «تحريم» الزواج بين الإخوة والأخوات الذي ينبثق بحَسَب الفرض عن الفطرة. وجوابه عن هذا الإشكال هو أن الزواج بين الأخ والأخت عند الضرورة لا إشكال فيه، ويكون منسجماً مع الفطرة. (الطباطبائي، الميزان 4: 145).

ولكنْ يمكن القول: إن هذه الرؤية بشأن فطرية الدين تتعارض مع رؤيته في باب المدركات الاعتبارية؛ وذلك لأن «الضرورة» غير «التكليف بما لا يُطاق»، وإن الحكم بتحريم الزواج بين الإخوة والأخوات بشأن أولاد آدم ليس من «التكليف بما لا يُطاق»، إلاّ إذا قلنا بأن حفظ نسل الإنسان واجبٌ من الناحية الفطرية مهما كان الثمن. إلاّ أننا في مثل هذه الحالة نكون قد أقمنا علاقة «استنتاجية ـ منطقية» بين التكوين والتشريع، في حين أن العلامة الطباطبائي والشهيد مطهّري يعتبرون إقامة مثل هذه العلاقة بين «التكوين» و«التشريع» مغالطةً.

فمن وجهة نظرهما إن «موافقة» الفطرة غير «عدم مخالفتها». فالأول يستلزم وجود علاقة منطقية ـ استنتاجية بين التكوين والتشريع، في حين أن الثاني يستلزم وجود علاقة سلبية منطقية بينهما. إن العلاقة من النوع الأول تسمح لنا بأن «نستنتج» الحكم الشرعي من الفطرة، بمعنى أن «نثبت» حكماً شرعياً أو «نبرّره» من خلال الاستناد إلى الفطرة، في حين أن العلاقة من النوع الثاني إنما تجيز لنا إبطال الأفهام المتنافية مع الفطرة من النصوص الدينية. إن العلاقة من النوع الأول علاقةٌ إيجابية وإثباتية بين «الواجبات» الشرعية و«الكينونات» المنافية لمبنى العلامة الطباطبائي والشهيد مطهّري في باب الاعتباريات. بَيْدَ أن العلاقة من النوع الثاني ليست كذلك. فهؤلاء لا يرَوْن أيّ إشكال في العلاقة السلبية المبطلة بين التكوين والتشريع من الناحية المنطقية. فالتشريع منسجمٌ مع التكوين، بمعنى أن عدم انسجام التشريع مع التكوين يؤدّي إلى بطلان التشريع وسقوطه عن الاعتبار. وإن أفهامنا للنصوص المبيّنة للأحكام الشرعية قابلةٌ للإبطال من الناحية التكوينية.

إلاّ أن الإجابة الصحيحة عن هذا السؤال ـ من وجهة نظرنا ـ هي أن «الفطرة» هنا لا تعني التكوين، وإنما تعني المقتضيات المعيارية التي تنبثق عن التكوين، وتقوم على كاهل الأمور التكوينية (supervenience). ويبدو أن المعيار الفطري الموجود في باب قبح الزواج بين الأخ وأخته مطلقٌ، وغير مقيَّد بالاضطرار. إلاّ أن فطرية الدين على معنيين: أحدهما: الفطرية في الحدّ الأدنى؛ والآخر: الفطرية في حدّها الأقصى. والفطرية في الحدّ الأدنى تعني «عدم المخالفة» مع الفطرة، أما الفطرية في الحدّ الأقصى فتعني «الانبثاق» عن الفطرة. إن جميع الأحكام الدينية بالمعنى الأول فطرية، بمعنى أنه لا يوجد في الشريعة، وفي مقام الثبوت واللوح المحفوظ، حكمٌ يخالف الفطرة ولا ينسجم معها. وأما بالمعنى الثاني فإن بعضاً من الأحكام الدينية فطرية، وتنبثق عن الفطرة، لا جميعها.

وكما ذكرنا في الفصل السادس من كتابنا «دين در ترازوي اخلاق» (الدين في ميزان الأخلاق)، فإن إقامة أيّ نوع من العلاقة «المنطقية» و«الاستدلالية» ـ سواء أكانت سلبية أم إيجابية ـ بين «التكوين» و«التشريع»، أو بين «الكينونة» و«الوجوب»، أو بين «العلم» و«الأخلاق» و«الحقوق»، أو بين «الحقيقة» و«الاعتبار»، أو بين «الفطرة» و«الدين، رهنٌ بأن نفترض مقدّمات معيارية وقِيَمية تبيح إقامة مثل هذه العلاقة، وتجعلها ممكنة. وإن هذه القواعد التي تبين المعايير العقلانية أو العقلائية موجودةٌ سواء في مورد العلاقة السلبية أو في مورد العلاقة الإيجابية، وسواء في مورد استنتاج «الوجوب» من «الكينونة» أم في مورد استنتاج «المحظور» من «الكينونة». وإن «قبح التكليف بما لا يُطاق» و«قبح التكليف باللغو» أو «ضرورة الرؤية الواقعية» إنما هي مجرّد مفردات من هذه المعايير.

إن هذا المعيار واحدٌ من معايير العقلانية، التي تعبِّر عن شمول العقلانية لدائرة الاعتباريات، إلاّ أن العقلانية الضرورية في الاعتباريات الأخلاقية أكبر من ذلك بكثير. وإن هذا المقدار من العقلانية لا يكفي أبداً؛ إذ لا يمكن من خلال الاستعانة بهذا المعيار تحديد جميع الاعتبارات المخالفة للفطرة (أو المنافية للأخلاق) وإبطالها. وكما رأينا فإن للعقل أو العقلاء، بالإضافة إلى هذا المعيار، معايير أخرى ناظرة بدَوْرها إلى مادّة أو صورة الضرورات والمحظورات الشرعية والأخلاقية. هناك من المعايير في حقيقة الأمر ما يُثبت وجود علاقة «عينية» و«إيجابية» بين «التكوين» و«التشريع»، أو «الحقيقة» و«الاعتبار». وإن هذه المعايير إنما تكتشف ويتمّ إثباتها من طريق الشهود العقلاني، لا من طريق الاستدلال المنطقي. يمكن تسمية هذه المعايير بأخلاق التفكير والبحث والتحقيق في مجال الاعتباريات. إن هذه المعايير تفصل بين «الكينونات» ذات الصلة و«الكينونات» غير ذات الصلة، وتقول لنا: إن هذا «الواجب» يتعلق بهذه «الكينونة» وينبثق عنها (أو أيّ «واجب» يقوم على أيّ «كينونة»؟ ومن أيّ «كينونة» يمكن الوصول إلى «الوجوب»؟ ومن أيّ «كينونة» لا يمكن ذلك؟).

وعليه، لو اعتبرنا الفطرية بمعنى عدم التنافي مع الفطرة فعندها يمكن القول: إن جميع الأحكام الدينية فطرية؛ إذ لا شيء منها يتنافى مع الفطرة. وأما إذا اعتبرنا الفطرية بمعنى الانبثاق عن الفطرة فإن أقصى ما يمكن أن نقوله هو أن بعض الأحكام الدينية فطرية فقط؛ لأن بعض هذه الأحكام منبثقٌ عن الفطرة. وعليه يمكن إبطال الفتوى الفقهية من خلال إثبات عدم انسجامها مع الفطرة؛ لأن «جميع» الفتاوى الفقهية «المنافية» للفطرة باطلة. ولكنْ لا يمكن تبرير الفتوى الفقهية من خلال انسجامها مع الفطرة؛ لأن «بعض» الفتاوى الفقهية المنسجمة مع الفطرة معتبرةٌ فقط، وليس جميعها. ولتحديد هذا «البعض» نحتاج إلى أصول وقواعد معيارية أخرى تبيّن لنا العلاقة القائمة بين «الكينونات» ذات الصلة و«الواجبات». وعلى كلّ حال إنما يحقّ لنا في هذين الموردين أن نقيم علاقة معرفية بين حكم الفطرة وحكم الشرع، إذا كانت لدينا مقدّمات شهودية يمكن الاستناد إليها، والقول بوجود علاقة وجودية وميتافيزيقية بين «التكوين» و«التشريع». يمكن لهذه العلاقة أن تقوم بين بعض «الكينونات» وبعض «الواجبات»، وبين بعض «الكينونات» وبعض «المحظورات»، وبين بعض «المعدومات» و«الواجبات»، وبين بعض «المعدومات» و«المحظورات». وإنما المهمّ هو أن «الكينونات» و«المعدومات» تنقسم من الناحية العقلانية إلى: «ذات صلة»؛ و«غير ذات صلة»، وإن اكتشاف العنصر أو الوصف ذو الصلة والعنصر أو الوصف غير ذي الصلة إنما يمكن من طريق «الشهود العقلاني». إن المعيار الذي يأمرنا باجتناب اللغوية وينصحنا بالواقعية هو واحدٌ من هذه المعايير الشهودية، ويوجد إلى جواره معايير شهودية أخرى، تكشف عن علاقة «الكينونات» و«المعدومات» بـ «الواجبات» و«المحظورات»، وإن هذه العلاقة لا تقتصر على «الكينونات» و«المحظورات».

الأمر الآخر أننا إذا أردنا إبطال الفتوى الفقهية؛ بسبب عدم انسجامها مع الفطرة، ليس من الضروريّ أن يكون عدم الانسجام هذا بالغاً حدّ القطع واليقين. بل يكفي مجرّد الظنّ الأقوى، بعد انسجام الفتوى الفقهية مع الفطرة في هذا المورد؛ لأن الدليل المتوفّر لصالح تلك الفتوى هو بدَوْره دليل ظنيّ أيضاً، ولا يبلغ حدّ القطع واليقين.

([20]) إن هؤلاء العلماء ـ بطبيعة الحال ـ؛ حيث يجتهدون ضمن إطار العقلانية التقليدية، يذهبون إلى القول بأن قبح وحرمة الظلم، وكذلك القول بأن الرِّبا ظلمٌ، ثابتٌ على نحو القطع واليقين. إلاّ أن نموذج العقلانية الجديد لا يتحمّل قطعية مثل هذا الحكم. ولكنْ حتى مع القول بهذا النموذج يمكن القول بأن ظنّنا بقبح الظلم وحرمته وكون الرِّبا مصداقاً للظلم في بعض الموارد الخاصّة أقوى من الظنّ الحاصل من الروايات الدالة على جواز الرِّبا. وعند التعارض بين الظنون يكون التقدُّم للظنّ الأقوى.

([21]) انظر في هذا الشأن: مطهري، نظام حقوق زن در إسلام (حقوق المرأة في الإسلام)، انتشارات صدرا، طهران.

([22]) إن الفصل بين «العلة» و«الدليل» يقوم على شيءٍ من التسامح؛ لأن «الدليل» بالمعنى الدقيق للكلمة هو نوع من العلة. وعليه فعندما عندما نستعمل العلة في مقابل الدليل يكون مرادنا منها خصوص «العلة غير المعرفية». وبعبارةٍ أخرى: إن الإيمان بعقيدةٍ ما إما أن يقوم على أساس «علة غير معرفية»؛ أو على أساس «علة معرفية». والحالة الثانية إنّما تتحقّق عندما يكون الفرد تابعاً للدليل. مع الشكر الجزيل لسماحة الأستاذ مصطفى ملكيان على التنويه بهذه المسألة.

([23]) إلاّ أن الذي نراه في أصول الفقه هو القول بأن اتّباع شريعة العقل حرامٌ؛ لأنها ظنّية.

([24]) إن كلاًّ من: الإلزامات المنطقية والمعرفية والإلزامات الأخلاقية إنما هي في الحقيقة من أحكام وتعاليم العقل العملي، التي يمكن التعرُّف عليها من خلال العقل النظري.

([25]) نرى دلالة القسم الأخير من الآية الشريفة، التي تقول: ﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ (الأنبياء: 23)، على هذا المعنى الهامّ. فمعنى أن يكون الإنسان عرضةً للسؤال عن أفعاله وأعماله هو احتمال أن يكون مخطئاً في التشخيص والحكم والسلوك والقول والعمل، ولذلك لا يمكن لقوله وفعله أن يكون معياراً للحقّ والباطل والحُسْن والقُبْح. إن الذي يرى كلامه وسلوكه مَصوناً من النقد، ويرى في توجيه النقد إليه تجاوزاً وإساءةً إلى المقدّسات، إنما يدّعي الألوهية في واقع الأمر. وإن الذين يرَوْن مثل هذه الأمور بالنسبة إلى الآخرين إنما يُشركون بالله في الحقيقة والواقع. يؤيِّد هذا الكلام الآية الشريفة التي تقول: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 31). وطبقاً لنقل العلاّمة الطباطبائي في تفسير الميزان عن القمّي في تفسيره حديثاً يرويه عن الإمام الباقر×، يقول الإمام على أساسه: «أما المسيح فبعضٌ عظموه في أنفسهم حتّى زعموا أنه إله وأنه ابن الله؛ وطائفة منهم قالوا: ثالث ثلاثة؛ وطائفة منهم قالوا: هو الله». مع الشكر الجزيل للأستاذ مصطفى ملكيان على بيان هذا التأييد.

([26]) ورد في الروايات ما معناه: «لو لم يرتكب أفراد البشر ذنوباً فإن الله سيخلق أناساً آخرين يُذنبون». وبطبيعة الحال فإن هذا الكلام لا ينطوي على دعوةٍ إلى اقتراف المعاصي، وإنما يعني الدعوة إلى ضرورة الرؤية الواقعية في مكافحة الفساد والذنوب. ولهذا الادّعاء شواهد فلسفية أيضاً، من قبيل: القاعدة الفلسفية التي تقول: «لولا التضاد ما صحّ دوام الفيض عن مبدأ الجواد»، فهذه القاعدة لا تنظر إلى مجرّد التضادّ القائم في عالم الطبيعية فقط، بل تشمل التضادّ القائم بين الأخيار والأشرار، والعصاة والمطيعين، في العالم الإنساني أيضاً.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً