أحدث المقالات

ب ـ العلامة البهبهاني والاختلاف في مفاهيم الغلو والتقصير ــــــ

  الشاهد الثاني: محمد باقر بن أكمل، المعروف بالوحيد البهبهاني (1205هـ)، وهو من علماء الشيعة في القرن الثاني عشر، وهو مؤسِّس المدرسة الأصولية الحديثة، والذي تغلّب بجهود علمية مضنية على المدرسة الأخبارية، التي هيمنت على الفكر الفقهي لدى الشيعة قرابة قرنين من الزمن. لقد ألف الوحيد كتابين في علم الرجال: أحدهما: «الفوائد الرجالية»؛ والآخر: «التعليقة على منهج المقال».

  و قد أشار فيهما إلى موضوع مهم له تأثير في بحثنا هذا، حيث قال: «إن الظاهر أنّ كثيراً من القدماء، سيّما القميين منهم، وابن الغضائري، كانوا يعتقدون للأئمة منزلة خاصّة من الرفعة والجلال، ومرتبة معيّنة من العصمة والكمال، بحسب اجتهادهم ورأيهم، وما كانوا يجوّزون التعدّي عنها، وكانوا يعدّون التعدّي عنها ارتفاعاً وغلوّاً على حسب معتقدهم، حتى أنهم جعلوا مثل نفي السهو عنهم [وعن النبي‘] غلوّاً، بل ربما جعلوا مطلق التفويض إليهم [أعم من التفويض في الخلق والرزق والأحكام وأمر الخلائق]، أو التفويض الذي اختلف فيه [كالتفويض في تشريع الأحكام والتفويض في تدبير أمر الخلائق]، أو المبالغة في معجزاتهم ونقل العجائب من خوارق العادات عنهم، أو الإغراق في شأنهم وإجلالهم وتنزيههم عن كثيرٍ من النقائص وإظهار كثيرِ قدرةٍ لهم، وذكر علمهم بمكنونات السماء والأرض، ارتفاعاً مورثاً للتهمة، سيّما بجهة أن الغلاة كانوا مختفين في الشيعة مخلوطين بهم، وكانوا مع ذلك مدلسين. وبالجملة فالظاهر أن القدماء كانوا مختلفين في المسائل الأصوليّة أيضاً، فربما كان الشيء عند بعضهم فاسداً أو كفراً، غلوّاً أو تفويضاً، أو جبراً، أو تشبيهاً، أو غير ذلك، وكان عند آخر مما يجب اعتقاده، [أو عند ثالث] لا هذا ولا ذاك [فلا كان الاعتقاد به واجباً ولا مضرّاً]»([1]).

  إن عبارة الوحيد هذه، والتي استند لها المتأخرون من العلماء كثيراً، ونقلوها عنه مراراً وتكراراً؛ بوصفها تأسيساً لمبنى([2])، حاويةٌ للكثير من النقاط المهمة في بحثنا. وهي على النحو التالي:

  الأولى: إن المتقدمين من علماء الشيعة حتى منتصف القرن الخامس كان لهم رأي مختلف في ما يتعلق بصفات الأئمة بالقياس إلى الرأي الذي تبناه العلماء الذين جاؤوا بعدهم، بحيث إنهم كانوا يعتبرون كل رأي يتجاوز الرأي الذي يعتقدونه غلوّاً في المذهب.

  الثانية: كان العلماء البارزون، الذين يمثلون التشيع في القرون الأولى، يحظّرون أي تجاوز للحد المعين في أوصاف الأئمة. وكان الكثير من الصفات التي تفوق المستوى البشري يصنّف خارج الحدود المرسومة. وكان هذا النمط الفكري هو السائد.

  الثالثة: إن مشايخ قم، الذين سنأتي على ذكرهم بشكل مستقل، وأحمد بن الحسين البغدادي، المعروف بابن الغضائري (450هـ)، من جملة المنتقدين والمخالفين للتيار الفكري الذي ينسب للأئمة صفات تفوق المستوى الطبيعي للبشر.

  الرابعة: إن محاور الخلاف بشأن صفات الأئمة في عبارة الوحيد عبارة عن: إمكان صدور السهو عنهم، وتفويض الأمور إليهم، والمعاجز والأمور الخارقة للطبيعة، وشأن الأئمة ومراتبهم، وتنزيههم عن النواقص، وعلم الغيب، وقدرات الأئمة، وجميع الصفات التي تجعل من الأئمة خلقاً مختلفاً عن سائر البشر.

  الخامسة: إن صفات العصمة لم ترِدْ في كلام الوحيد بوصفها من الأمور الخلافية، حيث ذهب إلى وجود مرتبة أدنى من العصمة في عقيدة المتقدمين، فهل العصمة مقولة مشككة وذات مراتب تختلف شدّة وضعفاً أو هي أمر متواطئ يدور بين النفي والإثبات؟ وسيتضح من خلال الشاهد الثالث عدم صوابية ما ذكره الوحيد، وأن اختلاف الأصحاب يشمل حتى مسألة العصمة.

  السادسة: إن اختلاف المتقدمين في مسائل الأصول العقائدية أمر لا ينكر. وإن من جملة المحاور الخلافية بحث الغلو والتفويض، حيث انقسم العلماء بشأنهما انقساماً متبايناً، بين مؤمن ومنكر. ولا يخفى أن الوحيد كان مخالفاً لرأي المتقدمين، وكان يفكر على النمط الذي اشتهر به الشيعة في القرون العشرة الأخيرة في مجال صفات الأئمة^.

ج ـ الشهيد الثاني ونظرية العلماء الأبرار ــــــ

  الشاهد الثالث: زين الدين بن علي، الملقب بالشهيد الثاني (965هـ)، وهو من أكابر علماء الشيعة في القرن العاشر، وأحد الفقهاء الشيعة العشرة الكبار في جميع القرون والعصور. وقد ألف كتاب «مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام»، و«الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية»، وهما من أهم الكتب الشيعية في الفقه الاستدلالي، ومن الكتب الدراسية في مناهج الحوزات العلمية. وللشهيد الثاني رسالة بعنوان «حقائق الإيمان» أو «حقيقة الإيمان والكفر»، ويعود تاريخ تأليفها إلى عام 954هـ، وهي من مصادر موسوعة «بحار الأنوار»، للعلامة المجلسي، كما حظيت باهتمام واعتماد السيد بحر العلوم في كتابه «الفوائد الرجالية» (ج3، ص220). ومن جملة الأبحاث الجديرة بالقراءة في هذه الرسالة المبحث الثالث من خاتمة الكتاب، الذي خصّصه لبيان المعارف التي يحصل بها الإيمان، ولكنه عمد في نهاية الأصل الثالث ــ أي النبوة ــ إلى طرح تساؤل، ثم أجاب عنه بما يلي: «هل يُعتبر في تحقيق الإيمان التصديق بعصمته وطهارته وختمه الأنبياءَ، بمعنى لا نبيّ بعده، وغير ذلك من أحكام النبوّات وشرائطها؟ يظهر من كلام بعض العلماء ذلك؛ حيث ذكر أنّ من جهل شيئاً من ذلك خرج عن الإيمان. ويُحتمل الاكتفاء بما ذكرناه من التصديق بها إجمالاً».

  يبدو من الشهيد الثاني ميله إلى الإجابة الأخيرة، وهي الاكتفاء بالتصديق الإجمالي، وعدم لزوم التصديق التفصيلي، كشرطٍ للإيمان. ثمّ يذكر الأصل الرابع الذي تتمّ به حقيقة الإيمان على النحو التالي: «الأصل الرابع: التصديق بإمامة الاثني عشر^. وهذا الأصل اعتبره في تحقق الإيمان الطائفة المحقة الإماميّة، حتى أنه عدّ من ضروريات مذهبهم، دون غيرهم من المخالفين، فإنه عندهم من الفروع. ثمّ إنه لا ريب أنه يشترط التصديق بكونهم أئمة يهدون بالحق، وبوجوب الانقياد إليهم في أوامرهم ونواهيهم؛ إذ الغرض من الحكم بإمامتهم ذلك، فلو لم يتحقق التصديق بذلك لم يتحقق التصديق بكونهم أئمّة. أما التصديق بكونهم معصومين مطهّرين عن الرجس، كما دلت عليه الأدلة العقلية والنقلية، والتصديق بكونهم منصوصاً عليهم من الله تعالى ورسوله، وأنهم حافظون للشرع، عالمون بما فيه صلاح أهل الشريعة من أمور معاشهم ومعادهم، وأن عملهم ليس عن رأي واجتهاد، بل عن يقين تلقّوه عمّن قال الله فيه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى}، خلفاً عن سلف، بأنفسٍ قويّة قدسيّة، أو بعضه لدني {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}، وغير ذلك مما يفيد اليقين، كما ورد في الحديث أنهم^محدّثون [على أحد التفسيرين]، أي معهم ملك يحدّثهم بجميع ما يحتاجون أو يرجع إليهم فيه، أو أنهم يحصل لهم نكت في القلوب من دون توسّط ملك، وأنه لا يصحّ خلوّ العصر عن إمامٍ منهم، وإلا لساخت الأرض بأهلها، وأن الدنيا تتمّ بتمامهم، ولا تصحّ الزيادة عليهم، وأن خاتمهم المهدي صاحب الزمان، وأنه حيّ إلى أن يأذن الله تعالى له ولغيره، وأدعية الفرقة الناجية بالفرج بظهوره# كثيرة، فهل يُعتبر [التصديق التفصيلي بهذه الأمور] في تحقق الإيمان أم يكفي اعتقاد إمامتهم ووجوب طاعتهم في الجملة؟ فيه الوجهان السابقان في النبوة، [الوجه الأول: لزوم الاعتقاد التفصيلي، والوجه الثاني: كفاية التصديق الإجمالي]. ويمكن ترجيح [الوجه] الأوّل؛ بأنّ الذي دلّ على ثبوت إمامتهم دلّ على جميع ما ذكرناه، خصوصاً العصمة؛ لثبوتها بالعقل والنقل.

  و[من جهة أخرى] ليس بعيداً الاكتفاء بالأخير [وهو الوجه الثاني: التصديق الإجمالي] على ما يظهر من حال رواتهم ومعاصريهم من شيعتهم في أحاديثهم^، فإن كثيراً منهم ما كانوا يعتقدون بعصمتهم؛ لخفائها عليهم، بل كانوا يعتقدون أنهم علماء أبرار، يعرف ذلك من تتبع سيرهم وأحاديثهم. وفي كتاب أبي عمرو [محمد بن عمر بن عبد العزيز] الكشي (385هـ)، [يعني كتاب «اختيار معرفة الرجال»، الذي اختصره الشيخ الطوسي، وإلا فإن أصل كتاب الكشي لم يصل إلى الشهيد الثاني، ولا إلينا] جملة مطلعة على ذلك [أي عدم الاعتقاد بعصمتهم من قبل الكثير من الرواة والشيعة المعاصرين لهم]. مع أن المعلوم من سيرتهم^ مع هؤلاء أنهم كانوا حاكمين بإيمانهم، بل عدالتهم»([3]).

  وفقاً لهذه العبارة الطويلة فقد عدّ الشهيد الثاني الإيمان بالأئمة الأصل الرابع للإيمان، ثم طرح تساؤلاً مفاده: هل الاعتقاد التفصيلي بالعصمة، والعلم غير الاكتسابي، والنص الإلهي على الأئمة، وغيبة الإمام الثاني عشر، شرط في تحقيق الإيمان، أو يمكن الاكتفاء بالتصديق الإجمالي بالأئمة ووجوب طاعتهم؟ وفي معرض الإجابة عن هذا التساؤل نجد الشهيد الثاني ــ كعادته ــ لا يجيب بشكل صريح، وإنما يشير إلى جوابين محتملين، وإن كان لا يخفي ميله إلى الاحتمال الثاني. ويرجع سبب ترجيح الاحتمال الأول إلى تكافؤ أدلة أصل الإمامة وأدلة صفات الإمام، وخاصة في ما يتعلق بالعصمة. وإن حصيلة الاحتمال الأول هو ضرورة أن يعتقد الشيعي بأربعة أمور على نحوٍ تفصيلي، وهي: العصمة، والنصّ الإلهي، والعلم اللدني عند الأئمة، وغيبة إمام العصر#. إلا أن الشهيد الثاني لا يستبعد الاكتفاء بالاعتقاد الإجمالي في تحقيق التشيع، أي الاعتقاد بأصل الإمامة ووجوب طاعة الأئمة، وأما الاعتقاد بالتفاصيل المتقدمة، وخاصة العصمة، فلا يعده ضرورياً، فيكفي للمسلم الشيعي اعتبار الأئمة علماء عدولاً أتقياء، دون كونهم معصومين عالمين بالغيب.

  وأهم ما ذكره الشهيد الثاني في عبارته المتقدمة الاستدلال الذي أقامه على الاحتمال الأول. وخلاصة ما قاله الشهيد الثاني في هذا الشأن: إن الكثير من رواة الشيعة لأحاديث الأئمة^، والكثير من الشيعة المعاصرين لهم، لم يعتقدوا بعصمة الأئمة، وإنما كانوا يذهبون إلى كونهم من (العلماء الأبرار) والأتقياء لا أكثر. ومع ذلك لم يعتبرهم الأئمة مؤمنين فحسب، وإنما كانوا يذهبون إلى عدالتهم أيضاً، بمعنى أن عدم الاعتقاد بعصمة الأئمة لا يؤدي إلى الخروج عن ربقة التشيع، كما أنه ليس سبباً للفسق والخروج عن العدالة. وقد ذكر الشهيد الثاني لاستدلاله هذا شاهداً من كتاب «اختيار معرفة الرجال» للكشي ــ وهو أحد الكتب الرجالية الأربعة عند الشيعة ــ وهو أن الكثير من الرواة والمحدثين والمعاصرين للأئمة^لم يكونوا يذهبون إلى عصمتهم. ورغم أن الشهيد الثاني يؤيد ما ذكره الكشي بهذا الصدد إلا أنه يوعز السبب في ذلك إلى خفاء حقيقة عصمة الأئمة، ولكنه لا يخرج من ينكر هذه العصمة عن التشيع. وفي ما يتعلق ببحثنا نجد أن الفقرات التالية في عبارة الشهيد الثاني جديرة بالاهتمام، وهي:

  الأولى: تقرير الشهيد الثاني عن جزئيات أصل الإمامة على النحو التالي: أولاً: إن الإمامة من ضروريات المذهب، وهي من أصوله، وليست من فروعه. ثانياً: إن طاعة الأئمة^ واجبة. ثالثاً: إن الأئمة^ معصومون. رابعاً: إنهم منصوبون للإمامة من قبل الله ورسوله. خامساً: لديهم علم لدني غير اكتسابي، ويعلمون الغيب. سادساً: لا يخلو زمان من وجودهم. سابعاً: إن آخر الأئمة هو الإمام المهدي صاحب الزمان، وهو حيّ وغائب، وسيظهر بعد أن يأذن الله له. وهذا تقرير أمين لما عليه الشيعة في القرون العشرة الأخيرة.

الثانية: لا يستبعد الشهيد الثاني إيمان وتشيع من يعتقد بالإمامة، ويرى وجوب اتّباع أوامر ونواهي الأئمة، رغم عدم اعتقاده ببعض الجزئيات، من قبيل: عصمتهم؛ والنصّ الإلهي عليهم؛ وعلمهم اللدني؛ وما إلى ذلك. وعليه يمكن للإنسان أن يكون شيعياً معتقداً بالإمامة، بمعنى تطبيق سلوكه الديني وفق المنهج الذي يرسمه الأئمة^ نظرياً وعملياً، دون أن ينسب إليهم صفات خارقة للطبيعة البشرية. وعلى هذا الأساس سوف لا يكون الاعتقاد بعصمة الأئمة وعلمهم اللدني وغير الاكتسابي والنصّ الإلهي من ذاتيات التشيع؛ إذ لم يستبعد تشيع وإيمان غير المعتقدين بمثل هذه الأمور.

الثالثة: وفقاً لما ذكره الشهيد الثاني فإن الكثير من أصحاب الأئمة ورواة الحديث والشيعة المعاصرين للأئمة كانوا ينكرون نسبة الصفات غير الطبيعية للأئمة، وخاصة العصمة، ولا يرونهم سوى من (العلماء الأبرار). وإن عدم الاعتقاد بعصمة الأئمة لا يساوق ضرورة صدور المعصية أو الخطأ عنهم، وإنما تعني عدم اتصافهم بصفات لا تتوفر في سائر البشر بحسب فطرتهم، وإلا فهناك الكثير من الأفراد ــ غير الأئمة ــ على طول التاريخ جاهدوا من أجل تهذيب أنفسهم، ولم يعصوا الله طرفة عين، وعملوا على تطهير أنفسهم، دون أن يتصفوا بصفة العصمة اصطلاحاً.

الرابعة: هناك الكثير من أصحاب الأئمة ورواة الحديث من الشيعة المعاصرين للأئمة، الذين يعدّونهم من (العلماء الأبرار)، لم يروا لعلمهم منشأ آخر غير مناشئ العلوم التي نالها الآخرون أيضاً، بل يرونهم كسائر العلماء الآخرين يفتون على أساس من رأيهم واجتهادهم واستنباطهم، أي إن علمهم اكتسابي، وليس لَدُنياً أو هبة من الله، ولم يكونوا على علم بالغيب على نحو مطلق أو مقيد، بحيث تلقى علوم الغيب على أفئدتهم بتوسط الملائكة أو بلا توسطهم.

  الخامسة: إن الكثير من الذين عاصروا الأئمة ونقلوا علومهم إلى الأجيال اللاحقة، بل وتشرفوا بمجالستهم والتحدث إليهم مباشرة، كانوا يعتبرون الأئمة علماء أتقياء لا أكثر. وبعبارة أخرى: كان تقبلهم للإمامة بوصفها ظاهرة بشرية، لا أنها ظاهرة ميتافيزيقية. وإن هؤلاء، الذين كانوا يشكلون عدداً كبيراً من الشيعة الأوائل، إنما اختاروا التشيع من بين جميع المذاهب الإسلامية المختلفة؛ لأنهم وجدوا الرواية العلوية وغيرها من روايات الأئمة الآخرين عن الإسلام النبوي أتقن وأرجح من الروايات الأخرى على المستوى النظري. مضافاً إلى أنهم وجدوا في كل واحد من الأئمة أسوة عملية يمكن الاقتداء بها في تطبيق الإسلام الحقيقي. ومن الواضح أن التعامل مع العلماء الأتقياء لا يعدّ تعبداً وتقليداً أعمى، بل هو تعامل واعٍ وقائم على أساس من الدراسة والتحقيق، حيث بالإمكان مجادلة العالم المحسن، ويمكن انتقاده والاستفهام منه، وعندما تقنع بجوابه تعمل في ضوء تعاليمه. إن هذا الصنف من الشيعة، وإن كانوا يعتبرون أئمتهم هم الأفضل والأعلم من غيرهم، إلا أنهم لم يجعلوهم أسوة وقدوة لهم بسبب ما يتمتعون به من صفات ميتافيزيقية، بل لأنهم قد وجدوهم على الحق نظرياً وعملياً، ولذلك اقتدوا بهم. وهذه هي الصورة التي يقوم عليها التشيع الأول.

السادسة: إن الشهيد الثاني قد استند في كلامه المتقدّم على كتاب الكشي. وسنبحث في هذا الكتاب بشكل مستقل. ولم يصل إلينا من هذا الكتاب سوى خلاصته التي قام بها الشيخ الطوسي. ويعد هذا الكتاب من أفضل المصادر في التعرف على فهم الشيعة الأوائل وأصحاب الأئمة من أهل البيت^. ثم نقول: ألا يمكن اعتبار الكشي نفسه من القائلين بهذا الفهم البشري؟

  ومن الواضح أن الشاهد الثالث أقوى من الشاهدين الأولين، سواء من حيث اعتبار القائل، أو من حيث اعتبار الوثائق والمستندات، أو من حيث بيان الجزئيات والتفاصيل.

2ـ النظريات الشيعية في الإمامة ــــــ

ومن خلال الالتفات إلى هذه القرائن المذكورة يمكن تبويب الفكر الشيعي في مجال الإمامة على النحو التالي، وبيان أن هناك نظريتين مختلفتين حول أصل الإمامة.

  النظرية الأولى: نظرية العلماء الأبرار ــــــ

  وقد كانت هذه النظرية هي السائدة بين الشيعة حتى أواخر القرن الرابع. وهناك وثائق تؤكد بقاء البعض على هذه الرؤية حتى منتصف القرن الخامس. وكانت هذه النظرية هي الرؤية الوحيدة التي مثلت التشيع في القرن الثالث والرابع. وقد ذهب إليها الكثير في عصر الأئمة من حوارييهم ورواة أحاديثهم وشيعتهم، حيث كانوا يرون الأئمة من أهل البيت^ زعماء الدين من الناحية العلمية والعملية، وأن طاعتهم واجبة عليهم، ويعتبرون رواية الأئمة عن الإسلام النبوي أكثر الروايات واقعية، وأقربها إلى إسلام رسول الله‘، ولذلك فقد دعا النبي‘ المسلمين إلى اتّباعهم ومشايعتهم.

  ووفقاً لهذه النظرية لا يكون هناك إمكان للمقارنة بين الأئمة والنبي‘؛ وذلك:

  أولاً: لأن النبي منصوب من قبل الله.

  وثانياً: لأنه‘ قد تلقى الوحي الإلهي بعلم لدني غير مكتسب.

  وثالثاً: إن الوحي الإلهي والسنة النبوية تحفظ بملكة العصمة من قبل الله تعالى.

  ووفقاً لهذه النظرية يتم تعيين الإمام الأول من قبل النبي، ثم ينصّ كل إمام على من يليه. وبعبارة أكثر فنية: كان يتم تعيين الإمام بنصّ أو وصيّة الإمام السابق، أو باختيار النبي‘، كما حصل ذلك بالنسبة للإمام علي×، وباختيار وامتحان علماء الشيعة له، هذا أولاً.

كما أن الأئمة لا يتمتعون بعلم لدني غير اكتسابي، ولا يعلمون الغيب، وإنما يحصل كل إمام على المعارف الدينية عن طريق الاكتساب من الإمام السابق، ويتوصلون إلى الأحكام الشرعية بإعمال الرأي والاجتهاد والاستنباط، وهم يخطئون كسائر البشر، وإن كانوا من أقلهم خطأً.

كما أن الأئمة، وإن كانوا من أطهر أفراد البشرية من حيث تجنب المعاصي، إلا أن العصمة منحصرة بشخص النبي‘، ولذلك لا يمكن اعتبار الأئمة خلقاً مختلفاً عن طبيعة سائر أفراد البشر، وأنهم إنما يبتعدون عن المعاصي بسبب قوة وراء الطبيعة، بل هم يتجنبون المعاصي بشكل بشري متعارف، حتى تمّ عدّهم من الأبرار.

  وإن اختلاف الأئمة من أهل البيت (أي العلماء الأبرار) عن غيرهم من العلماء يكمن في درجة العلم وتهذيب النفس وقربهم من الله تعالى.

ويرى أتباع هذه النظرية أن الاتجاه البشري في الإمامة هو الاتجاه الوحيد الذي ينسجم مع الضوابط القرآنية والسنة النبوية المعتبرة والروايات المروية عن أئمة أهل البيت بالإجماع في الأصول العقلية والحقائق التاريخية.

  النظرية الثانية: نظرية الأئمة المعصومين ــــــ

  ولقد كان لهذه النظرية أتباع حتى في عصر الأئمة أنفسهم، وقد زاد عدد هؤلاء الأتباع في المراحل المتأخّرة من عصر الأئمة، حتى تحوّلت في عصر الغيبة إلى نظرية تنافس الاتجاه البشري، وإن لم تكن هي الغالبة على المجتمع الشيعي حتى أواخر القرن الرابع، إلا أنها سادت الفكر الشيعي منذ مطلع القرن الخامس إلى يومنا هذا، حتى عدّت من ضروريات المذهب وسماته الذاتية.

  ووفقاً لهذه النظرية يختلف الأئمة عن علماء الدين اختلافاً ذاتياً، حيث خلق الأئمة من طبيعة مغايرة، وإنهم يشبهون النبي في الفضائل ومكارم الأخلاق، وإنهم لا يختلفون عن النبي إلا بالوحي الرسالي، فهم ملهمون ومحدّثون (أي يحظون باتصال خاص ومعنوي بالله تعالى). ولا يمكن أساساً أن يأمر النبي‘ المسلمين باتّباع الأئمة من أهل البيت دون أن تتوفر فيهم هذه الفضائل الذاتية.

  إن مقومات الإمامة على أساس هذه النظرية كالتالي:

  أولاً: إن أئمة الهدى هم بمنزلة النبي‘، منصوبون للإمامة من قبل الله تعالى. وقد قدّم النبي هذا التنصيب الإلهي إلى المسلمين في إطار النصّ، فيكونون بذلك منصوبين من قبل الله بالنصّ النبوي. وإن المسلمين الذين تجاوزوا هذا الأمر الإلهي والنصّ النبوي قد انحرفوا عن الصراط المستقيم.

  ثانياً: إن الأئمة مثل النبي في حصولهم على العلم اللدني غير الاكتسابي. كما أنهم يعلمون الغيب بإذن من الله (ومن الواضح أن رقعة هذا العلم أضيق من علم الغيب الإلهي المطلق). وإن علمهم لا يكون من طريق الرأي والاجتهاد. وإن علمهم في مجال المعارف الدينية وكلّ ما يتعلق بكونهم أسوة للآخرين لا يتطرق إليه الخطأ.

  ثالثاً: إن أئمة الهدى كالنبي‘ في العصمة من المعاصي مطلقاً (كبيرة وصغيرة، عمداً وسهواً). وإن العصمة فضل من الله يؤتيه عباده المنتجبين. وهذا أبعد بكثير عن تهذيب النفس وتطهير الأولياء لأرواحهم.

  وطبقاً لنظرية (الأئمة المعصومين) يعدّ الأئمة مثل النبي وسائط في الفيض الإلهي. وإن إنكار هذه الفضائل التي تفوق الطبيعة من قبل بعض الشيعة في القرون الأولى يعود إلى قصورهم أو تقصيرهم عن فهم العظمة الوجودية للأئمة^. إن الإمامة استمرار للنبوّة ومتمّم لها، ومن دون الإمامة يبقى الدين ناقصاً، حيث إن الأئمة هم المفسّرون المعصومون الذين يشرحون الوحي الإلهي، وإن ظاهر النبوة، مختوم برحيل النبي‘، إلا أن باطن النبوة ــ أي الولاية ــ يستمر إلى آخر الزمان. ولولا هذه الولاية التي يتصدى لها الإمام الحاضر أو الحجة الغائب لساخت الأرض بأهلها.

  وعليه فمن دون الاعتقاد بأصل إمامة المعصومين^ لا يمكن بلوغ السعادة والفلاح والجنة، وإن خير الدنيا والآخرة يكمن في التبعية المحضة لأوامر ونواهي الأئمة الأطهار^. وبذلك تعود جذور الإمامة إلى القرآن والسنة النبوية والعقل. وهناك روايات كثيرة عن الأئمة المعصومين^ تدل على الأسس الثلاثة المتقدمة، بحيث لا يبقى معها أي مجال للشك، حتى عدّت الإمامة بهذه الأسس الثلاثة من ضروريات المذهب الشيعي.

العلماء الذين يذهبون إلى نظرية العلماء الأبرار ــــــ

  أما الإجابة عن التساؤل الثاني القائل: من هم العلماء الشيعة، الأعم من المتكلمين والفقهاء والمحدثين والمفسرين، وعلى الخصوص أصحاب الأئمة، الذين يذهبون إلى هذه القراءة، أي الذين كانوا يذهبون إلى نظرية (العلماء الأبرار) والاتجاه البشري في توصيف الإمامة؟ فهي:

  رغم اندثار تراث هذا التيار بعد سيطرة الاتجاه القائل بإمامة المعصومين، والذي امتدّ لألف سنة، يمكن التعريف ببعض العلماء الذين كانوا يعتقدون بهذه النظرية. ورغم ذلك كانت لهم مكانتهم المرموقة في الأوساط الشيعية. وسنبدأ بذكر أسماء هؤلاء العلماء ابتداءً من المتأخّر إلى المتقدِّم.

أ ـ ابن الغضائري ــــــ

  الأول: أحمد بن الحسين بن عبد الله البغدادي، المعروف بـ (ابن الغضائري)، من علماء القرن الخامس. والكتاب المتواضع الوحيد الذي بقي لنا من آثاره هو كتاب «الرجال» أو «الضعفاء»، والذي تم نقله كاملاً في كتاب «حل الإشكال»، لأحمد بن طاووس (673هـ)، وكتاب «خلاصة الأقوال» للعلامة الحلي (726هـ). وقد اعتبره المحقق الكلباسي في كتابه «سماء المقال» (ج1،ص23و29) من عيون الشيعة وأجلاء ووجوه وعظماء الأصحاب. وعرّفه المحقق القهبائي في كتابه «مجمع الرجال» (ج1،ص108) بوصفه عالماً عارفاً جليلاً كبيراً في الطائفة.

  إن ميزة الآراء الرجالية لابن الغضائري هي نسبة جمع غفير من رواة الحديث إلى الغلو والارتفاع في المذهب والأئمة، وتضعيف هذه الطائفة من الرواة. ويبدو أن هذا التضعيف وجرح الرواة لم يستند إلى الشهادة والسماع، وإنما قام على اجتهاده الخاص، بمعنى أنه كان يراجع نص الروايات المنقولة عن كل راوٍ، فإن وجد محتوى الرواية خارجاً عن الحد الاعتقادي المشروع، وكان فيه غلوٌّ أو ارتفاع في حقّ الأئمة، نسبه إلى الضعف والكذب والتدليس. وقد تقدمت عبارة الوحيد البهبهاني في بيان عقيدة مشايخ قم وابن الغضائري. وطبعاً ليس بالضرورة أن تتفق الآراء الرجالية لمشايخ قم مع آراء ابن الغضائري. وقد قام ابن الغضائري بنقض بعض تضعيفات القميين([4]).

  ومهما كان تعتبر توثيقات ابن الغضائري من الناحية الرجالية في غاية الاعتبار. ورغم عدم وصول كتاب (الممدوحين) إلينا إلا أن العلامة الحلي قد توقف في الكثير من الرواة؛ بسبب اعتماده على تضعيفات ابن الغضائري، بيد أن المشهور بعد العلامة على عدم الأخذ بتضعيفات ابن الغضائري. ومنذ عصر العلامة المجلسي اتهم ابن الغضائري بالتسرّع في جرح وتضعيف كبار الرواة. ولكن بالالتفات إلى اعتماد النجاشي ــ زميل ابن الغضائري في الدراسة ــ على الكثير من آرائه الرجالية لا يمكن اتهامه بعدم الدقة والتسرع في اتخاذ الآراء، بل إنه كان من أعاظم النقاد في علم الرجال ومن الأفذاذ في دقة النظر.

  الوجه الثاني في عدم الاعتناء بتضعيفات ابن الغضائري أنه لم يكن يستند في توثيقاته وتضعيفاته إلى الحسّ والشهود والسماع من المشايخ والثقات، بل قد استند في ذلك إلى الحدس والاستنباط، وقراءة محتوى الروايات، والحكم على الرواي على أساس متن الرواية([5]).

  بغض النظر عن الآراء الموافقة والمخالفة([6]) لكتاب ابن الغضائري، وبغض النظر عن قبول أو نقد آرائه الرجالية ــ والذي هو في الأساس خارج بحثنا ــ، فإن الذي يبدو من تضاعيف هذه النقود والإثباتات بشأن ابن الغضائري نفسه، أو يثبت من خلال الرجوع إلى كتابه مباشرة، أن الاعتقاد الذي كان يراه ابن الغضائري حول الأئمة يختلف عن التيار الذي ساد بعد القرن الخامس اختلافاً كبيراً. وبناءً على تحقيقات المحقّق المامقاني، والتي تقدّمت في الشاهد الأول، يمكن القول بأن ما اعتبره ابن الغضائري غلوّاً وارتفاعاً بحقّ الأئمة قد أصبح من ضروريات المذهب في عصرنا. وبعبارة أخرى: إن ابن الغضائري ــ على حد تعبير المحقق الكلباسي في كتاب «سماء المقال» (ج1،ص19) ــ ذو غيرة على الدين، ومدافع عن المذهب. وأما في ما يتعلق برعاية شأن الأئمة فقد كان يبدي حساسية خاصة، ويعتبر وصفهم بما يخالف الطبيعة، من قبيل: العلم بالغيب؛ والقوى الخارقة للعادة؛ والمعاجز؛ وتفويض الأمور التشريعية والتكوينية، خروجاً عن الحد المشروع في الاعتدال المذهبي، ومضياً إلى الارتفاع أو الغلو في المذهب. وكان يرى نفسه ملزماً بالوقوف في وجه هذا النوع من التطرف. ورغم عدم إمكان التعرف على حدّ الاعتدال المذهبي الذي كان يراه ابن الغضائري بشأن صفات الأئمة على نحو دقيق؛ وذلك بسبب ضياع مؤلّفاته وعدم وصولها إلينا، يمكن القول بأنه واحد من أشد الناقدين لوصف الأئمة بما يفوق الطبيعة البشرية، وأنه من أكثر العلماء الشيعة القائلين بنظرية (العلماء الأبرار) غيرة.

ب ـ ابن الجنيد الإسكافي ــــــ

  الثاني: أبو علي بن أحمد الكاتب، المعروف بـ (بن الجنيد الإسكافي (377هـ)، وهو من كبار المتكلمين وفقهاء الشيعة في القرن الهجري الرابع. وله مؤلّفات عديدة، منها: «تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة»، و«المختصر الأحمدي في الفقه المحمدي»، و«النصرة لأحكام العترة». وقد كانت هذه المؤلفات متوفّرة حتى عصر الشهيد الأول، ولكنها لم تصل إلينا للأسف الشديد. لقد كان ابن الجنيد عالماً مجدّداً، وقد خضعت آراؤه منذ البداية إلى انتقادات الشيخ الصدوق، والشيخ المفيد، والسيد المرتضى. وقد تم إحياء مدرسة ابن الجنيد الفقهية ثانية في القرن السادس، وتم بحثها في مؤلّفات ابن إدريس الحلي، والعلامة الحلي، والشهيد الأول. ومن بين آراء ابن الجنيد المختلفة رأيان مبنائيان: أحدهما: في أصول الفقه؛ والثاني: في أصول العقائد، حيث كان يذهب إلى جواز العمل بالقياس في الفقه، وأما رأيه المختلف في العقائد فيكمن في نظرته الخاصة إلى علم الأئمة^.

  وقد أشار الشيخ المفيد في رسالته «المسائل السروية» إلى رسالة «المسائل المصرية» لابن الجنيد، وقال: «وجعل الأخبار [الواردة عن الأئمة] فيها أبواباً، وظنّ أنها مختلفة، ونسب ذلك إلى قول الأئمة»([7]).

وقد رأى الشيخ المفيد بطلان ما ذهب إليه ابن الجنيد، وقال بإمكان الجمع بين تلك الأخبار، بحيث لا يبقى مجال للاختلاف، حتى يضطرنا إلى نسبة القول بالرأي إلى الأئمة^.

  وقد ذهب السيد المرتضى في «الانتصار» إلى أن أحد الآراء الفقهية التي تنفرد بها الإمامية جواز حكم الأئمة وحكامهم [بوصفهم من القضاة]؛ لمكان علمهم بجميع الحقوق والحدود. ثم أشار إلى خلاف ابن الجنيد قائلاً: «وابن الجنيد يصرّح بالخلاف في هذه المسألة، ويذهب إلى أنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه في شيءٍ من الحقوق ولا الحدود».

وعليه لو شاهد النبي‘ أو الإمام علي× أو خلفاؤهم جناية توجب حدّاً شرعياً حظي علمهم جميعاً بنفس الاعتبار. ثم نقل السيد المرتضى استدلال ابن الجنيد على بطلان الحكم المستند إلى العلم [في غير النبي] على النحو التالي: «ووجدت لابن الجنيد كلاماً في هذه المسألة [الكلامية] غير محصّل؛ لأنه لم يكن من هذا ولا إليه، ورأيته يفرّق بين علم النبي‘ بالشيء وبين علم خلفائه وحكّامه، وهذا غلطٌ منه؛ لأن علم العالمين بالمعلومات لا يختلف». وعليه لو أن النبي‘ أو الإمام علي× أو خلفائه قد شاهدوا جناية تستوجب حدّاً شرعياً كان علمهم معتبراً على وتيرة واحدة. ثمّ نقل السيد المرتضى استدلال ابن الجنيد على بطلان الحكم بالعلم [في غير النبي] على النحو التالي: «ووجدته يستدل على بطلان الحكم بالعلم بأن يقول: وجدت الله تعالى قد أوجب للمؤمنين فيما بينهم حقوقاً أبطلها فيما بينهم وبين الكفار والمرتدين، كالمواريث والمناكحة وأكل الذبائح، ووجدنا الله تعالى قد أطلع رسوله‘ على من كان يبطن الكفر ويظهر الإسلام، فكان يعلمه، ولم يبين‘ أحوالهم لجميع المؤمنين، فيتمتعوا من مناكحتهم وأكل ذبائحهم. [وعليه فإن علم النبي يختلف عن علم الأئمة والحكام من حيث المنشأ والنتيجة والآثار الفقهية]».

  فذهب السيد المرتضى إلى عدم تمامية استدلال ابن الجنيد على اختلاف علم النبي مع سائر المؤمنين، ومن ناحية لا يقبل أن الله قد أطلع نبيه على نفاق المنافقين. ومن ناحية أخرى يذهب إلى اختصاص إبطال حقوق، من قبيل: جواز النكاح والإرث وأكل الذبيحة، بأولئك الذين يظهرون الكفر والارتداد، دون أولئك الذين يبطنون ذلك.

  إن ما نحصل عليه من انتقاد هذين المتكلمين والفقيهين الشيعيين الكبيرين، أي الشيخ المفيد والسيد المرتضى، لكلام ابن الجنيد هو الأمور التالية:

  أولاً: لقد اعتبر ابن الجنيد كلام الأئمة آراءهم. وإن الرأي أو النظر أو الاجتهاد والاستنباط أمر اكتسابي، يحتمل فيه الوقوع في الخطأ. وهذا الرأي على الطرف النقيض من الرأي القائل بأن كلام الأئمة ناشئ من العلم اللدني، الذي يستحيل فيه الخطأ. وعليه يكون ابن الجنيد من القائلين بأن اختلاف الأئمة ناشئ عن قولهم بالرأي. وبعبارة أخرى: إن ابن الجنيد لم يكن معتقداً بعصمة الأئمة وعلمهم اللدني، وإنه كان يراهم مجرد (علماء أبرار).

  ثانياً: وفقاً لكلام السيد المرتضى فإن ابن الجنيد يفرق بين علم النبي‘، وعلم سائر المؤمنين (ومنهم الأئمة)، فالنبي يعلم بعض البواطن والغيوب بإذن الله، في حين أن المؤمنين (ومن بينهم الأئمة) لا يتمتعون بمثل هذه العلوم. وعليه فإن النبي يمكنه القضاء بحكم علمه، إلا أن سائر المؤمنين (ومنهم الأئمة) لا يسوغ لهم الاستناد إلى علم القاضي في منصب القضاء، وإنما يمكنهم العمل وفق الآليات المتعارفة في القضاء (كالشهود والقسم). والمعتقد بمثل هذا الفرق لا يؤمن بالعلم اللدني للأئمة.

  ثالثاً: طبقاً للأراء المنقولة عن ابن الجنيد ــ وقد تقدم مثالان بارزان لها ــ فإنه، رغم كونه من المتكلمين والفقهاء الشيعة الكبار في القرن الرابع، كان يذهب إلى الاتجاه البشري في مسألة الإمامة، ولم يؤمن بالاتجاه المقابل. أي وفقاً للمبنى الكلامي لابن الجنيد فإن (كلام الأئمة يعبرّ عن رأيهم)، وإن أوصافاً، من قبيل: العلم اللدني، وخاصة العصمة، لم تكن ضرورية للإمامة الشيعية في القرن الرابع.

  رابعاً: لقد كان الاعتقاد بالاتجاه البشري سائداً في القرن الرابع، بحيث إن المؤمن به لم يكن ليتّهم بالارتداد المذهبي، بل كان يعدّ من كبار علماء التشيع في عصره، وكان يتمتع بشأن ومنزلة دينية وثقافية واجتماعية، رغم تعرضه بعد عدة عقود لانتقاد غيره من علماء الشيعة. ونقول: إذا كانت العصمة والعلم اللدني من ضروريات المذهب في القرن الرابع، أو من سماته البارزة في الأقل، فكيف كان ابن الجنيد ــ وهو المنكر لهذه الضروريات ــ يحظى بكل هذا الاحترام والتبجيل؟ ألا يعد ذلك دليلاً على حصول تغير جذري في التشيع في القرن الخامس في ما يتعلق بالتيار السائد في مجال الإمامة؟

ولم تخفَ هذه النقطة الأخيرة عن النظرة الثاقبة التي يتمتع بها العلامة السيد محمد مهدي الطباطبائي، المعروف بـ (بحر العلوم) (1212هـ)، حيث قال في كتاب «الفوائد الرجالية» (ج3،ص205)، في ترجمة ابن الجنيد: «من أعيان الطائفة، وأعاظم الفرقة، وأفاضل قدماء الإمامية، وأكثرهم علماً وأدباً، وأكثرهم تصنيفاً، وأحسنهم تحريراً، وأدقهم نظراً»، ثم حكى عنه القول بالقياس، وأضاف قائلاً: وبرغم ذلك فقد حظي بتكريم علمائنا وتبجيلهم، ثم تعرض لسؤال مهم، حيث قال: «إن المنع من القياس من ضروريات مذهب الإمامية، ومما تواترت به الروايات عن الأئمة^؛ فيكون المخالف في ذلك خارجاً عن المذهب، فلا يعتدّ بقوله، بل لا يصحّ توثيقه. وأعظم من ذلك [أي القول بالقياس] ما حكاه المفيد& عنه من نسبة الأئمة إلى القول بالرأي»؛ إذ يرى السيد بحر العلوم أنه رأي سيّئ وقول شنيع، وكيف يجمع ذلك مع القول بعصمة الأئمة^ وعدم تجويز الخطأ عليهم، على ما هو المعلوم من المذهب. وهذا القول [الكلامي] لم يشتهر عنه، إلا أن قوله بالقياس معروفٌ مشهور. ثمّ احتمل السيد بحر العلوم أن المراد من القياس الذي يذهب إليه ابن الجنيد هو القياس الجائز، من قبيل: القياس المنصوص العلة، أو بتنقيح المناط القطعي، إلا أنه لا يرتضي هذا الاحتمال، حيث أضاف قائلاً: «على أن هذا التكلف لا يجري في مقالته الأخرى التي نسبها إليه المفيد من نسبة الأئمة إلى القول بالرأي. والظاهر أنه قد زلّت لهذا الشيخ المعظّم قدمٌ في هذا الموضع، ودعاه اختلاف الأخبار الواردة عن الأئمة^إلى القول بهذه المقالة الرديّة. والوجه في الجمع بين ذلك وبين ما نراه من اتفاق الأصحاب على جلالته وموالاته وعدم قطع العصمة بينهم وبينه حمله على الشبهة المحتملة في ذلك الوقت؛ لعدم بلوغ الأمر [العلم اللدني للأئمة، ومسألة بطلان القياس] فيه إلى حدّ الضرورة، فإنّ المسائل قد تختلف وضوحاً وخفاءً باختلاف الأزمنة والأوقات، فكم من أمرٍ جليّ ظاهر عند القدماء قد اعتراه الخفاء في زماننا؛ لبعد العهد وضياع الأدلة، وكم من شيءٍ خفيّ في ذلك الزمان قد اكتسى ثوب الوضوح والجلاء؛ باجتماع الأدلة المنتشرة في الصدر الأوّل، أو تجدّد الإجماع عليه في الزمان المتأخّر. ولعل أمر القياس من هذا القبيل. وأما إسناد القول بالرأي إلى الأئمة^ فلا يمتنع أن يكون كذلك في العصر المتقدّم».

  ومن ثم نقل السيد بحر العلوم عبارة الشهيد الثاني من رسالة «حقائق الإيمان» ــ التي نقلناها بإسهاب في الشاهد الثالث ــ عن جدّه السيد عبد الكريم الطباطبائي البروجردي في كتاب الإيمان والكفر [مخطوط] حول انتماء أكثر الرواة والشيعة المعاصرين للأئمة إلى التيار القائل بأن الأئمة (علماء أبرار)، دون الاعتقاد بعصمتهم، ونقل اعتقاد الأئمة بعدالة هؤلاء الرواة والشيعة. ثم أضاف: «وكلامه [أي كلام الشهيد الثاني حول الاتجاه البشري لدى الشيعة حول مسألة الإمامة]، وإن كان مطلقاً، لكن يجب تنزيله على تلك الأعصار [والقرون الأولى]، التي يحتمل فيها ذاك [أي عدم بلوغها حدّ الضرورة]، دون ما بعدها من الأزمنة [أي من القرن الخامس فما بعده]؛ فإن هذا الأمر [أوصاف الأئمة] قد بلغ فيها حدّ الضرورة قطعاً»([8]).

  إن رؤية العلامة بحر العلوم تحتوي على نقاط مهمة في ما يتعلق ببحثنا:

  الأولى: إن المسائل الدينية، ومنها المباحث العقائدية، تختلف باختلاف الأزمنة، من حيث الوضوح والخفاء. وعليه يمكن لفهم المؤمنين أن يختلف من وقت لآخر في ما يتعلق بالمسائل المذهبية، وقد يكون هذا الاختلاف بين ضروري المذهب والقول بخلافه. وهذا عبارة أخرى عن تغير المعرفة الدينية، أو استحالة الاعتقادات المذهبية.

  الثانية: إن مسألة الإمامة من بين المصاديق في تحول المعرفة الدينية. بمعنى أن معالم الإمامة قد تعرّضت للتغير في فترة ما قبل وبعد النصف الثاني من القرن الخامس، حيث حصل منعطف في أمور، من قبيل: العصمة، والعلم اللدني، من معالم الإمامة، في حين أخذت هذه الأمور منذ ذلك الحين تعد من ضروريات المذهب.

  الثالثة: ذهب السيد بحر العلوم إلى أن هذا التغير وليد خفاء المسألة في القرون الأولى، ووضوحها في القرون المتأخّرة؛ وطروّ الشبهة آنذاك، وبلوغها حّد الضرورة بعد ذلك. إن هذا البيان قائم على الافتراض الذي تبناه التيار القائم على ميتافيزيقية صفات الأئمة، وقد يقدّم المعتقد بالتيار المنافس تفسيراً آخر لهذه الاستحالة. ونجد تفسيراً آخر في كلام بحر العلوم، حيث قال: «اجتماع الأدلة المنتشرة في الصدر الأول، أو تجدد الإجماع عليه في الزمان المتأخر». فإذا اعتبرنا اجتماع الأدلة والأسباب في القرون الأولى من أسباب ظهور التيار البشري أمكن عدّ حضور الأئمة من أهم هذه الأدلة والأسباب، حيث إمكانية اللقاء المباشر بين الأئمة^ وشيعتهم، وقد شاع الاتجاه الميتافيزيقي طردياً مع صعوبة هذا الارتباط في الفترة الأخيرة من عصر الأئمة، ولا سيّما في عصر الغيبة.

الرابعة: إن ابن الجنيد، رغم انتمائه إلى التيار البشري، وقوله بنظرية (العلماء الأبرار)، وأن كلام الأئمة رأيهم، الملازم لعدم الاعتقاد بعصمتهم وعلمهم اللدني، قد عاش وسط الأجواء الشيعية بحفاوة وتكريم كبيرين، مما يدل على انسجام معتقده مع معتقد الشيعة في تلك الفترة، وفترة حضور الأئمة، وهي فترة الاتجاه البشري في ما يتعلق بمسألة الإمامة، وشيوع نظرية (العلماء الأبرار)، وإن كان السيّد بحر العلوم قد عبّر عن هذه الفترة بفترة خفاء أوصاف الأئمة على شيعتهم.

وقد عرّف الشيخ أسد الله بن إسماعيل، المعروف بـ (المحقق الكاظمي) (المتوفى في العقد الرابع من القرن الثالث عشر)، وصاحب كتاب «المقابس»، ابنَ الجنيد ضمن وصفه العلماء المجدّدين من الشيعة في كتابه «كشف القناع عن وجوه حجية الإجماع» (ص83)، على أنه من الفقهاء المتقدمين وأصحاب الأئمة، وأنه قد أدرك الغيبة الصغرى والكبرى. وبعد نقله كلام الشيخ المفيد بشأن رؤية ابن الجنيد الخاصة بشأن الأئمة [كلام الأئمة رأيهم] أشار إلى أن لابن الجنيد كتابين آخرين: أحدهما: «كشف التمويه والإلباس على أغمار الشيعة في أمر القياس»، والآخر: «إظهار ما سرّه أهل العناد من الرواية عن أئمة العترة في أمر الاجتهاد». ولو أن الاجتهاد الذي أراده الأئمة ــ كما فهمه ابن الجنيد ــ قد وصل إلى زماننا لكان تأثيره على الاتجاه البشري في مسألة الإمامة ملحوظاً. مع أن التساؤل حول سبب عدم وصول مؤلّفات هذا العالم الشيعي الكبير إلى العصور اللاحقة تساؤل وجيه وفي محله.

المتكلمون الشيعة في القرن الثالث وصفات الأئمة الميتافيزيقية ــــــ

هل يمكن تصنيف ابن قبة الرازي والنوبختيين في زمرة القائلين بالاتجاه البشري في مسألة الإمامة؟

أجاب الدكتور المدرسي الطباطبائي عن هذه السؤال بالإيجاب. وقد أفردنا هذا الجزء من تحقيقنا لتقييم هذه الإجابة. إن الأستاذ الدكتور السيد حسين المدرسي الطباطبائي من المتخصصين في مجال التشيع، وخصوصاً في القرون الأولى. وقد ألَّف حتى الآن في مجال اختصاصه ثلاثة كتب باللغة الإنگليزية، وقد ترجمت بأجمعها إلى الفارسية تحت إشرافه، وإن لم يسمح لأهمها بالنشر في إيران. وهي عبارة عن: «مقدمه اى بر فقه شيعه، كليات وكتاب شناسى»، 1368هـ ش؛ و«مكتب در فرايند تكامل»، رؤية في تطور المباني الفكرية للتشيع في القرون الثلاثة الأولى،1374هـ ش؛ و«ميراث مكتوب شيعه أز سه قرن نخستين هجري»، الكتاب الأول/1383هـ ش. وجميع هذه الكتب الثلاثة من المصادر في مجال التشيع، ونموذج للمشروع المنهجي والعميق والعلمي. وإن الكتاب الثاني المترجم إلى الفارسية  ــ رغم طباعته خارج إيران ــ  لم يخلُ من بعض الملاحظات الموجَّهة له، وقد تركت هذه الإشكالات تأثيرات سلبية على الكثير من الاستنتاجات الإستراتيجية لهذا الكتاب، وأدى إلى حذف بعض فقراته أو الإضافة عليها أو تعديلها، إلا أن الخوض في هذه الأمور يحتاج إلى مجالٍ ومقالٍ آخر.

  إن كتاب «مكتب در فرايند تكامل» القيِّم قد أُلِّف للتعريف بسيرة وتراث ابن قبة، وقد تضمن في ملحقاته إعادة تصحيح الرسائل التي كتبها ابن قبة. والحقيقة أن هذا الكتاب بأجمعه مقدمة للتعريف بآراء ابن قبة الكلامية. إن ابن قبة، وإن كان معروفاً في الحوزات العلمية الشيعية بقوله بـ (امتناع جعل الحجية لأخبار الآحاد عقلاً) في علم أصول الفقه، إلا أنه فوق ذلك من أبرز متكلِّمي الشيعة في أواخر القرن الثالث وبدايات القرن الرابع.

ما هي مدرسة ابن قبة وآل نو بخت؟ ــــــ

  وقد تعرض السيد المدرسي الطباطبائي في أول تحقيق له إلى آراء ابن قبة وآل نوبخت حول الإمامة باختصار على النحو التالي: «إن جماعة من الصحابة لم يكونوا ليروا للأئمة سوى مرجعية علمية، وكانوا يذهبون إلى كونهم (علماء أبرار)، وينكرون أن تكون لهم صفات تفوق المستوى البشري، من قبيل: العصمة. وهو الرأي الذي أيده بعض المتكلمين من الشيعة في المراحل اللاحقة، ومن بينهم: أبو جعفر محمد بن قبة الرازي، المتكلم الشيعي الكبير في القرن الرابع، وزعيم الشيعة في عصره، والذي ظلت آراؤه محط أنظار العلماء الشيعة من بعده. فقد كان يرى الأئمة مجرد علماء وعباد صالحين وعالمين بالقرآن والسنة، وينكر علمهم بالغيب. والعجيب أن منهجه العقائدي قد حظي برغم ذلك باستحسان المؤسسة العلمية الشيعية آنذاك. وقد كان لبعض المحدثين في قم رأي مشابه لرأي ابن قبة. ويبدو أن آل نوبخت كانوا يذهبون إلى هذا الرأي أيضاً»([9]).

  وقد نبّه السيد المدرسي الطباطبائي، ضمن شرح الآراء الكلامية لابن قبة، إلى أن الشيعة من وجهة نظره يقولون في الإمامة بضرورة النصّ المتواتر من قبل الإمام السابق (ومن قبل النبي‘ بالنسبة للإمام الأول): «خلافاً لما كان يقوله الغلاة فإن الأئمة مجرد علماء صالحين، ولا يعلمون الغيب؛ لأن ذلك من مختصات الباري تعالى، ومن اعتقد بعلم غيره بالغيب فهو مشرك». يرى ابن قبة أن دور الأئمة؛ بوصفهم من العلماء الأبرار والمفسرين للقرآن والسنة النبوية الشريفة، بيان الشريعة والأحكام الإلهية. ومراده من ذلك أن القرآن الكريم وأحاديث النبي الأكرم والأئمة الأطهار تحتوي على مقدار كافٍ من القواعد والأصول الكلية والعامة الوافية بجميع حاجات البشر والموارد التي يجهلون حكمها، وتشمل الكلي والجزئي وتبيّن أحكامها([10]).

  وقد صرح السيد المدرسي الطباطبائي بآراء ابن قبة حول صفات الأئمة قائلاً: «لم ينفِ ابن قبة إمكان أن يُجري الله تعالى المعجزة على يد الإمام، إلا أنه يرفض سائر عقائد المفوِّضة في اعتقادهم بإثبات علم الغيب للإمام أو كل صفة تفوق الطبيعة البشرية»([11]).

  إن مصدر الكلام السابق أجوبة ابن قبة عن شبهات أبي زيد العلوي، التي نقلت من قبل الشيخ الصدوق، حيث قال: «إن اختلاف الإمامية إنما هو من قبل كذابين دلسوا أنفسهم فيهم في الوقت بعد الوقت، والزمان بعد الزمان، حتى عظم البلاء. وكان أسلافهم قوم يرجعون إلى الورع واجتهاد وسلامة ناحية، ولم يكونوا أصحاب نظر وتميّز؛ فكانوا إذا رأوا رجلاً مستوراً يروي خبراً أحسنوا به الظن وقبلوه. فلما كثر هذا وظهر شكوا إلى أئمتهم، فأمرهم الأئمة بأن يأخذوا بما يجمع عليه، فلم يفعلوا، وجروا على عادتهم، فكانت الخيانة من قبلهم، لا من قبل أئمتهم. والإمام أيضاً لم يقف على هذه التخاليط التي رويت؛ لأنه لا يعلم الغيب، وإنما هو عبدٌ صالح يعلم الكتاب والسنة، ويعلم من أخبار شيعته ما يُنهى إليه»([12]).

  وقد رأى المحقق الكاظمي أن نقل الشيخ الطوسي للكلمات المتقدمة لابن قبة حول الإمامة دون ردّها مشعرٌ بقبولها([13]). ولكن من الصعب القول بأن الصدوق، القائل بأن الأئمة هم «عيبة علمه، وتراجم وحيه، وأنهم معصومون من الخطأ والزلل»([14])، مؤيِّد لابن قبة في كلا محوري نفي العلم بالغيب عن الأئمة، والاكتفاء بكونهم مجرد عباد صالحين يعلمون الكتاب والسنة.

  إن تقرير الأستاذ المدرسي الطباطبائي عن رؤية ابن قبة حول الإمامة غير تام، ولم يلاحظ الناحية الأخرى من رؤيته حول عصمة الأئمة. فقد صرّح ابن قبة في هذه الرسالة نفسها قائلاً: «يجب في الحجة من عترته أن يكون جامعاً لعلم الدين كله، معصوماً ومؤتمناً على الكتاب»([15]). مضافاً إلى أن ابن قبة قد أجاب عن شبهات المعتزلة حول شروط الإمامة قائلاً: «ولا يسهو ولا يغلط و[يجب] أن يكون عالماً؛ ليعلِّم الناس ما جهلوا، وعادلاً؛ ليحكم بالحق، ومَن هذا حكمه فلابد من أن ينصّ عليه علاّم الغيوب على لسان من يؤدي ذلك عنه [أي ينص عليه من قبل الإمام السابق]؛ إذ كان ليس في ظاهر خلقته ما يدل على عصمته»([16]).

  ويمكن تلخيص آراء ابن قبة بشأن الإمامة على النحو التالي:

1ـ الإمام عبدٌ صالحٌ، عالمٌ بالكتاب والسنة.

2ـ الإمام لا يحيط علماً بالغيب.

3ـ الإمام منصوب من قبل الله، على لسان النبي أو الإمام المتقدم عليه.

4ـ الإمام معصوم من السهو والخطأ.

  والذي تم التأكيد عليه في تحقيق السيد المدرسي الطباطبائي هو المحور الثاني (نفي علمه بالغيب)، وأما المحور الأول والثالث فلم يذكرا في التقرير بشكل كامل، أي إن ابن قبة لا يعتبر الأئمة مجرد علماء وعباد صالحين؛ إذ بالنظر إلى مستهل المحور الثالث (النص من قبل علام الغيوب)، والعصمة (المحور الرابع)، فإنهم فوق ذلك معصومون منصوصٌ عليهم من قبل الله تعالى. وهو رغم اشتراطه لزوم النص المتواتر، إلا أنه قد غفل عن ضرورة النصّ من قبل الباري تعالى. مضافاً إلى أنه لم يتعرَّض إلى رؤية ابن قبة في ضرورة عصمة الأئمة. وعليه لا يمكن القبول باستنتاج المدرسي الطباطبائي بشأن ذهاب ابن قبة إلى (نفي وجود كل صفة ميتافيزيقية في الإمام). وعليه ــ بناء على عقيدة ابن قبة القائمة على محورين، وهما: «وجوب النصّ الإلهي»؛ و«ضرورة العصمة»، فإنه يؤمن بصفتين ميتافيزيقيتين في الأئمة^، رغم نزوعه إلى الاتجاه البشري بشأن عدم علم الأئمة بالغيب. مضافاً إلى أن الإشارة إلى (العبد الصالح) تحتوي على جزءٍ من الحقيقة، وليس تمامها. وعليه لا يمكن عدُّ ابن قبة من القائلين بنظرية (العلماء الأبرار)، وإن كانت رسائله تؤكد قوة هذه النظرية في القرن الرابع.

  وأما في ما يتعلق بآل نوبخت فقد قال السيد المدرسي الطباطبائي في نهاية تقريره المتقدم: «ويبدو أن آل نوبخت كانوا يذهبون إلى هذا المذهب»، وهو إنكار علم الأئمة بالغيب، وإنكار الصفات التي تفوق الطبيعة، من قبيل: عصمتهم^.

  وقد بيَّن المدرسي الطباطبائي في تحقيقه الأخير (مكتب در فرايند تكامل: 65)  الرؤية الكلامية لآل نوبخت في مسألة الإمامة بتفصيل أكثر، حيث قال: «إن بعض قدماء المتكلمين الشيعة، كآل نوبخت، قد دعموا رأي المفوّضة في هذه المسألة ــ أي مسألة علم الإمام بالأمور الخارجة عن الأحكام الشرعية ــ، وكذلك في موضوع شروط الإمامة، وكونها ذاتية، وليست اكتسابية. إلا أن هؤلاء المتكلمين أنفسهم يخالفون المفوّضة في المسائل الأخرى، من قبيل: قدرة الأئمة على إظهار المعاجز، ونزول الوحي، وسماع صوت الملائكة، وأصوات الوافدين على مراقدهم المطهرة، والعلم بأحوال شيعتهم، وعلمهم بالغيب».

  إن مصدر السيد المدرسي الطباطبائي في كلا التقريرين هو كتاب «أوائل المقالات»، للشيخ المفيد. وبناءً على نقل الشيخ المفيد في هذا الكتاب لا يمكن إدراج آل نوبخت في عداد المنكرين لعصمة الأئمة أو علمهم بالغيب؛ وذلك:

  أولاً: لأن الشيخ المفيد يعرّف آل نوبخت على أنهم مثل المفوّضة في القول بوجوب إتقان الأئمة لجميع الصناعات والفنون واللغات، عقلاً وقياساً([17])، وهو من لوازم العلم اللدني، وشعبة من شعب العلم بالغيب.

  ثانياً: إنه لم يذكر في الباب الحادي والأربعين شيئاً عن آل نوبخت بشأن علم الأئمة بالضمائر والكائنات وإطلاق علمهم بالغيب.

  ثالثاً: ذكر في الصفحة 66 من الباب 39 أنه لم يعثر على شيءٍ يمكن الاطمئنان إليه في ما ينسب إلى آل نوبخت بشأن أحكام الأئمة، وأنها ناظرة إلى باطن الأمور أو ظواهرها.

  رابعاً: قال في الصفحة 65 من الباب 38: إن آل نوبخت يرون وجوب النصّ على ولاة الأئمة، كما في الأئمة أنفسهم.

  ويبدو أن السيد المدرسي الطباطبائي لم يكن دقيقاً في تقريره عن آراء آل نوبخت في «أوائل المقالات»، للشيخ المفيد.

  وهناك من جهة أخرى مصادر أخرى غير «أوائل المقالات» للوقوف على آراء آل نوبخت، ومنها: الجزء المتبقي من كتاب «التنبيه في الإمامة»، لأبي سهل النوبختي (311هـ)، وهو من أكبر علماء آل نوبخت (وقد ورد ذكره في نهاية الملحقات من كتاب السيد المدرسي). وقد ذكر أبو سهل النوبختي في هذا الجزء هاتين العبارتين بصراحة (العبارة الأولى: في إطار الاحتجاج على الخصم؛ والثانية: في مقام بيان آرائه)، فقال: «لابد من إمام منصوص عليه، عالم بالكتاب والسنة، مأمون عليهما، لا ينساهما، ولا يغلط فيهما»؛ و«لا يجوز عليهم في شيءٍ من ذلك الغلط، ولا النسيان، ولا تعهد الكذب»([18]).

  ولو صحت نسبة كتاب «فرق الشيعة» للحسن بن موسى النوبختي فهو  في وصف أول فرقة شيعية يشترط في عصمة الأئمة وعلمهم بجميع ما يحتاج إليه الناس أن يشتمل هذا الشرط على جميع المنافع والمضار الدينية والدنيوية وجميع العلوم الجليلة والدقيقة (وهو عبارة أخرى عن علم الغيب، أو في الأقل العلم اللدني)([19]). وطبعاً فإن عباس إقبال الآشتياني يرى كتاب «فرق الشيعة» المبحوث هنا هو كتاب «المقالات والفرق»، لسعد بن عبد الله الأشعري، المعاصر للنوبختي([20]).

  وطبقاً لنقل العلامة الحلي في كتاب «أنوار الملكوت في شرح الياقوت» فإن أبا إسحاق إبراهيم النوبختي، صاحب كتاب «الياقوت»، يرى وجوب عصمة الإمام وعلمه بجميع أحكام الشريعة([21]).

 وبناءً على ما تقدم لا يمكن عدّ آل نوبخت من المنكرين لصفات الأئمة التي تفوق الطبيعة البشرية، ومنها: العلم بالغيب؛ والعصمة. وإن آل نوبخت هم أقرب إلى متكلمي بغداد، من قبيل: الشيخ المفيد، والسيد المرتضى، منهم إلى القائلين بنظرية (العلماء الأبرار)، مثل: ابن الجنيد، والمعاصرين للأئمة. ومهما كان فإن تقرير الأستاذ المدرسي الطباطبائي حول آراء ابن قبة وآل نوبخت في إنكار صفات الأئمة ليس تامّاً.

4 ـ مدرسة قم الشيعية القديمة، مظهر مواجهة الغلوّ ــــــ

  ويعود التشيع في قم إلى نهاية القرن الهجري الأول. وأهم القبائل الشيعية في قم هم الأشعرّيون. وقد غدت مدينة قم من أهم المراكز العلمية للتشيع في القرن الثالث والرابع، وكان لها دور فاعل في الحفاظ على التراث العلمي لأئمة أهل بيت النبوة والاستقامة على الطريقة الاثني عشرية. وإذا كانت الكوفة (وبعدها بغداد) مراكز للانقسامات الشيعية وتحولها إلى فرق، وخاصة ما كان منها مفرطاً في الغلو، فقد حافظت قم على مكانتها المرموقة في الحفاظ على سلامة المذهب. فمن باب المثال: قلما نجد بين علماء قم من يميل إلى الواقفية أو الفطحية([22]). لقد قامت حوزة قم على علم الحديث، كما أن سائر العلوم الإسلامية الأخرى، التي كانت آنذاك تطوي مراحل نشوئها الأول، مثل: الفقه، والكلام، والتفسير، تعتمد على (علم الحديث) أيضاً. وبذلك كان رواة أحاديث الأئمة هم أهم العلماء في حوزة قم، وكان يعبرّ عنهم بـ (مشايخ قم). وقد ورد التعبير بـ (القمي) أكثر من خمسمائة مرة في رجال الكشي. وإن اتفاق غالبية مشايخ قم في موازين علم الحديث قد أدّى إلى التعبير عن الاتجاه الخاص بمشايخ قم بـ (اتجاه القميين). وكان من أسباب انتشار الحديث في قم اللجوء إلى الاحتياط والدقة العلمية في نقل الحديث. وقد كان مشايخ قم يبدون حساسية شديدة في محورين من هذا المجال: أحدهما: عدم النقل عن المجاهيل، وتمحيص أحوال الرواة؛ بغية الاطمئنان إلى اعتبار سند الرواية ونسبتها إلى الإمام؛ والآخر: الوقوف بوجه الأفكار المنحرفة، وخاصة الغلو. وقد أخذ القميون هذين المحورين عن الأئمة^. وكانوا شديدين للغاية في هذين المحورين، الأمر الذي رفع من الاعتبار العلمي لحوزة قم في ذينك القرنين، حتى آلت إليها المرجعية العلمية للتشيع في بداية عصر الغيبة. ومن الناحية العقائدية كان مشايخ قم يقفون بشدة أمام فكرة التفويض، ونسبة الأوصاف التي تفوق المستوى البشري للأئمة^، ويعدون الروايات المشتملة على هذه الصفات ساقطة عن الاعتبار، ويعتبرون رواتها غير ثقات.

  إن أبرز مشايخ قم في القرن الثالث هو أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري، وفي القرن الرابع هو محمد بن حسين بن أحمد بن الوليد (343هـ). وقد بلغت مواجهة مشايخ قم للمفوّضة في القرن الثالث أن طُرد في عهد أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري أربعة رواة ــ في الأقل ــ؛ نتيجة اتهامهم بالغلو، أو التفويض، أو الرواية عن المجاهيل أو الوضاعين وأخرجوا من قم، وهم: سهل بن زياد؛ وأبو سمية محمد بن علي بن إبراهيم القرشي الصيرفي؛ وحسين بن عبد الله المحرر؛ وأحمد بن محمد بن خالد البرقي صاحب «المحاسن». وقد أعيد المحدث الأخير من المنفى إلى قم بعد رفع الإبهام وسوء التفاهم، واعتذر له([23]).

  إن الشواهد الثلاثة التي تصدَّرت هذا المقال قابلة للتطبيق بأجمعها على مشايخ قم، أي إن مشايخ قم ينكرون نسبة الأوصاف غير الطبيعية إلى الأئمة، حيث كانوا من القائلين بالاتجاه البشري في الإمامة. وقد مثلوا المجتمع الشيعي قرابة القرنين من الزمن. وطبقاً لتحقيق المامقاني فإن ما كانوا يعدونه غلواً في حقّ الأئمة أضحى (منذ القرن الخامس) من ضروريات مذهب الشيعة في صفات الأئمة. وبالالتفات إلى تحقيق الوحيد البهبهاني كان مشايخ قم يرون للأئمة شأناً ومنزلة خاصة بحسب اجتهادهم، ويرون التجاوز عنه غلوّاً وارتفاعاً في المذهب، ويعتبرون التفويض واجتراح الخوراق والمعاجز والعلم بالغيب والمبالغة في شأن الأئمة مؤدياً إلى الغلو. إن مراجعة الكتب الرجالية، من قبيل: رجال النجاشي، أو رجال الكشي، وإخراج الرواة عن قم من قبل مشايخها بتهمة الغلو، دليل على الاختلاف الكبير بين مبانيهم الكلامية والاعتقادية والاعتقاد الذي ساد التشيع بعد القرن الهجري الخامس.

  ومن جملة الأمور التي عدها مشايخ قم من علائم التفويض والغلو إنكار سهو النبي’، فقد نقل الشيخ الصدوق ــ وهو من جملة من أتمّ دراسته العلمية في حوزة قم ــ رواية عن أستاذه ابن الوليد قال فيها: «أول درجات الغلو نفي السهو عن النبي‘، ولو جاز أن تردّ الأخبار الواردة في هذا المعنى لجاز أن نردّ جميع الأخبار، وفي ردّها إبطال الدين والشريعة»([24]).

  كما أفاد الشيخ الصدوق رأيه في هذا المجال، قائلاً: «إن الغلاة والمفوّضة ــ لعنهم الله ــ ينكرون سهو النبي‘، ويقولون: لو جاز أن يسهو في الصلاة جاز أن يسهو في التبليغ؛ لأن الصلاة عليه فريضة، كما أن التبليغ عليه فريضة»([25]).

ثم يرفض الشيخ الصدوق هذه الملازمة، ويقول: «وهذا لا يلزمنا؛ وذلك لأن جميع الأحوال المشتركة يقع على النبي‘ فيها ما يقع على غيره، وليس كل من سواه بنبي، فالحالة التي اختصّ بها هي النبوة، والتبليغ من شرائطها، ولا يجوز أن يقع عليه في التبليغ ما يعرض على سائر الناس في الحالات العادية. وليس سهو النبي‘ كسهونا؛ لأن سهوه من الله عز وجل، وإنما أسهاه الله ليُعلم أنه بشر مخلوق؛ فلا يتخذ رباً معبوداً دونه؛ وليعلم الناس بسهوه حكم السهو متى سهَوا، وسهوُنا من الشيطان»([26]).

  والعلامة الأخرى للمفوِّضة من وجهة نظر الشيخ الصدوق إضافة الشهادة الثالثة في الأذان، حيث قال: «والمفوّضة ــ لعنهم الله ــ قد وضعوا أخباراً، وزادوا في الأذان «أشهد أن علياً ولي الله»، ثم أضاف: «ولاشك في أن علياً ولي الله، وأنه أمير المؤمنين حقاً، وأن محمداً وآله صلوات الله عليهم خير البرية، ولكن ليس ذلك في أصل الأذان، وإنما ذكرت ذلك ليعرف بهذه الزيادة المتَّهمون بالتفويض، المدلِّسون أنفسهم في جملتنا»([27]).

  وقد أشار الشيخ الصدوق في «رسالة الاعتقادات»، بعد اعتبار الغلاة والمفوِّضة من الكفار، إلى نقطة مهمة، حيث قال: «وعلامة المفوضة والغلاة وأصنافهم نسبتهم مشايخ قم وعلماءهم إلى القول بالتقصير»([28]).

  إن الشيخ الصدوق من القائلين بالصفات التي تفوق الطبيعة للأئمة، ومنها: العصمة، والعلم اللدني، والنصّ الإلهي، والمعاجز، وما إلى ذلك، وإن كان يختلف في بعض المسائل عن الاتجاه الذي ساد التفكير الشيعي بعد القرن الخامس. وقد ذكرت بعض هذه الاختلافات في رسالة تلميذه الشيخ المفيد المعروفة، بـ «رسالة تصحيح الاعتقاد».

  إن الغاية من نقل الكلام المتقدِّم بيان مقوِّمات التفويض في القرن الرابع، والتعرف تبعاً لذلك على أفكار مشايخ قم بوصفهم أهم الناقدين للمفوِّضة. ومن خلال الالتفات إلى تقرير الشيخ الصدوق يمكن القول: إن هناك ثلاثة معتقدات تم تلقيها بالقبول في قم طوال القرنين الثالث والرابع، وهي على النحو التالي:

  الأول: كان الشيعة يجيزون السهو والنسيان على النبي خارج إطار التبليغ والنبوة؛ ولذلك فإنهم يجيزون الشيء ذاته على الأئمة من طريق أولى. وهذا متفرع عن الاتجاه البشري في الإمامة.

  الثاني: إن الشهادة الثالثة لم تكن شائعة بين الشيعة آنذاك، بل كان القائل بها يُعدّ من المفوِّضة والغلاة.

  الثالث: إن تفكير مشايخ قم كان على الطرف النقيض من تفكير المفوِّضة. وإن كل من يتهم هؤلاء المشايخ بالتقصير في حق الأئمة، ولا يرتضي اعتدالهم المذهبي، ويثبت للأئمة أوصافاً فوق التي أثبتوها لأنفسهم، كان من المفوّضة.

  إن النزاع الذي احتدم بين المنهج الفكري لمشايخ قم في مواجهة المفوِّضة قد عبر عنه من الناحية الأخرى بمواجهة الشيعة ضد المقصِّرة، إلا أنه يحكي عن وجود اتجاهين مختلفين تمام الاختلاف في ما يتعلق بأوصاف الأئمة؛ فالمفوِّضة يذهبون إلى امتلاك الأئمة لأوصاف تفوق المستوى الطبيعي؛ في حين ينكر مشايخ قم وجود مثل هذه الصفات.

  إن الشيخ المفيد الذي يعارض المنهج الكلامي والأسلوب الأخباري للمحدِّثين القميين قد عمد إلى إبطال رأي أستاذه الشيخ الصدوق في ما يتعلق بدعوى سهو النبي في رسالة مستقلة، وعدها من رواية النواصب([29]). وقد عرّف المفوِّضة على أنهم صنف من الغلاة، إلا أنهم يختلفون عن سائر الغلاة في أن المفوِّضة يرون الأئمة مخلوقين من ناحية، ومن ناحية أخرى يذهبون إلى أن الله قد خلقهم من طبيعة وطينة خاصة، وفوّض إليهم أمور الخلق والرزق، ولذلك فإن الله قد ترك لهم أمر تدبير الكون وما فيه([30]).

  إن الشيخ المفيد يرفض اتجاه أستاذه الصدوق في نسبة التفويض إلى كل من يتهم مشايخ قم بالتقصير في حقّ الأئمة. ويرى أن بعض مشايخ قم وعلمائهم مقصَِّرين في حقّ الأئمة قطعاً. والغالي هو الذي يتهم المحقِّين بالتقصير، سواء كان المتَّهم من أهالي قم أو من سواهم. ويرى الشيخ المفيد ما قاله ابن الوليد، من أن «أولى درجات الغلو نفي السهو عن النبي‘ والإمام× »، من المصاديق البارزة للتقصير. ثم بادر الشيخ المفيد إلى استعراض أكثر آراء مشايخ قم صراحة: «وقد وجدنا جماعة وردوا إلينا من قم يقصرّون تقصيراً ظاهراً في الدين، وينزلون الأئمة^ عن مراتبهم، ويزعمون أنهم كانوا لا يعرفون كثيراً من الأحكام الدينية حتى ينكت في قلوبهم، ورأينا من يقول: إنهم كانوا يلتجئون في حكم الشريعة إلى الرأي والظنون، ويدعون مع ذلك أنهم العلماء. وهذا هو التقصير الذي لا شبهة فيه»([31]).

  وطبقاً لتقرير الشيخ المفيد فإن مشايخ قم ــ أو جماعة منهم في الأقل ــ يذهبون إلى المحاور الاعتقادية التالية:

 الأول: إنكارهم أن يكون عند  الأئمة علم لدني، حيث يذهبون إلى أن الأئمة كسائر العلماء، بل كسائر الناس، (لديهم علم اكتسابي)، فلا يختلفون عن سائر العلماء في طريقة الحصول على المسائل الدينية، أي إنهم يصلون إلى الحكم الشرعي عن طريق الاجتهاد والاستنباط وإرجاع الفروع إلى الأصول. وبعبارة أخرى: إن الأئمة (علماء أبرار)، قد أشار إليهم النبي‘ ونصبهم أئمة بالنصّ والوصية، دون أن يكون هناك اختلاف في ذواتهم وطبيعتهم يميزهم من سائر أفراد البشر.

  الثاني: هناك جماعة أخرى من مشايخ قم قد أنكرت العلم اللدني للأئمة من زاوية أخرى، حيث ذهبت هذه الجماعة إلى أن الأئمة قبل النكت في قلوبهم يجهلون الكثير من العلوم الشرعية. وقد يحصل هذا النكت عن طريق الإلهام الإلهي، بتوسط الملك، أو من دون توسطه، أو من طريق الاكتساب البشري، إلا أنهم قبل حصول ذلك تبقى أفئدتهم كسائر بني البشر خالية من العلوم.

  الثالث: إن نسبة الغلو إلى من ينكر سهو النبي والإمام لدليل على النظرة البشرية إلى مسألة الإمامة؛ إذ لا شك في أن مشايخ قم كانوا ينكرون توفر الصفات الميتافيزيقية في الأئمة، رغم عدم ترددهم في تعهداتهم الدينية والتزاماتهم الشرعية طبقاً لتعاليم الأئمة، حيث كانوا لا يحيدون عنها أبداً. وبعبارة أخرى: إنهم يعتبرون الإمام مفترض الطاعة، ويجب الاقتداء به؛ عملاً بوصية النبي، بيد أنهم لا يرون قيام هذه الوصية على صفة مختلفة، أو علم لدني خصّ الله به الإمام. وقد عدّ الشيخ المفيد عصمة الإمام مساوية لعصمة النبي‘. وإن سائر علماء الأمامية يذهبون هذا المذهب، إلا بعض الأفراد القلائل؛ تمسكاً بظاهر بعض الروايات. ثم تعرض إلى ذكر تأويلات على خلاف مزاعمهم الفاسدة([32]).

  إن الشيخ المفيد، وخلافاً لسائر المسائل الواردة في كتاب «أوائل المقالات»، لم يدّع الإجماع على هذه المسألة. مضافاً إلى أنه كان من دون شك مدركاً لآراء أستاذه ابن الجنيد في هذه المسائل. وكذلك إذا التفتنا إلى تقرير الشهيد الثاني حول رؤية أكثر الشيعة في القرن الثاني والنصف الأول من القرن الثالث في عدم عصمة الأئمة ندرك أن عدد المنكرين للعصمة من الشيعة أنفسهم لم يكن قليلاً. ومهما كان فإن هؤلاء القلائل أو الشاذين ــ بزعم الشيخ المفيد ــ  ليسوا سوى مشايخ قم.

  وقد أشار الشيخ المفيد في مسألة علم القاضي، وما إذا كان الأئمة يحكمون بالظاهر أو الباطن، إلى ثلاثة أقوال مختلفة، دون نسبتها إلى قائل محدَّد([33]). والقاعدة تقتضي ذهاب مشايخ قم إلى حكمهم^ بحسب الظاهر. وإن الشيخ المفيد، وإن كان يرى إمكان أن يطلع الأئمة على بواطن الناس وسرائرهم، إلا أنه يرى علم الغيب المطلق من مختصات الباري تعالى، ونسب القول بامتلاك الأئمة لهذا العلم إلى المفوِّضة([34])، ولا شكّ في أن مشايخ قم لم يؤمنوا باطلاع الأئمة على الغيب.

  وعليه يمكن عدّ مشايخ قم، بزعامة أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري، في القرن الثالث والرابع حملة الفكر الشيعي الغالب في إنكار اتصاف الأئمة بصفات تفوق الطبيعة البشرية، وكانوا يرون الأئمة مجرد (علماء أبرار)، يحصلون على العلوم بطريقة اكتسابية، وليس لديهم علم لدني، ولا يعلمون الغيب، ولا يجترحون المعجزات. وليس لدينا دليلٌ يثبت إيمانهم بعصمة الأئمة.

وأخيراً ـــــ

كان للشيخ صالحي النجف آبادي خصال تميّزه عن سائر المعاصرين له؛ فقد كان الشيخ النجف آبادي مجتهداً و محققاً ومدقِّقاً، لقد كان الشيخ النجف آبادي متحرِّراً وناقداً، وإننا قلما نلحظ هذه الصفة في الآخرين. فقد كان ناقداً محنَّكاً وخبيراً، وإن الذين هبّ لمواجهتهم علمياً كانوا من العلماء الضالعين في مجال اختصاصهم. وقد كان نقده لآراء العلامة الطباطبائي جديراً بالملاحظة والاهتمام، حيث إن ما كتبه من الدقائق في نقد «الميزان» من السعة والعمق بحيث أدهشت العلماء. وهكذا الأمر بالنسبة إلى نقده لمؤلَّفات الشيخ مرتضى المطهري. وهو يصنَّف حالياً في عداد المراجع الكبار.

إن الراحل الشيخ صالحي النجف آبادي كان يتمتع بشجاعة ذاتية. فأنا شخصياً أعرف الكثير من العلماء المتحرِّرين جدّاً، ولكن كانت تعوزهم الشجاعة الكافية في بيان آرائهم. أما الشيخ النجف آبادي فلم يكن متحرِّراً فحسب، بل كان جريئاً أيضاً، ويتمتع بشجاعة كبيرة في بيان آرائه. وقد اصطدم الشيخ النجف آبادي بإسلام الرعاع.

يمكن تقسيم مؤلَّفات الشيخ النجف آبادي. فقد ترك مؤلَّفات قيمة في تفسير القرآن. وقد انتقد ما ذكره بعض العلماء في خصوص تفسير آية من القرآن، فقال: لم يكن النبي يستجدي عطف الناس، ويجب الالتفات إلى الظروف التاريخية التي نزلت فيها الآيات وتفسيرها في ضوئها.

لقد عمد الشيخ النجف آبادي ــ أكبر نقّاد عصرنا ــ إلى نقد الروايات، متسلِّحاً بالقرآن والعقل، وعلى أسرته فرض القيام بطبع مؤلَّفاته، ومنها: تفسيره للقرآن الكريم، ومن مؤلَّفاته التي لم تنشر تفسير آية التطهير.

إن الشيخ النجف آبادي رائد في نقد الحديث. وقد زرته في المستشفى قبل أسبوع من رحيله، وتذاكرنا في مؤلَّفاته حول الغلو، فأظهر توقاً ورغبة شديدة في ضرورة مواصلة البحث، وخصوصاً في الظروف الراهنة.

إن القسم الثالث من مؤلَّفات الشيخ صالحي النجف آبادي يتمثل بتراثه الفقهي. فهو من الفقهاء الكبار، وقد أكَّد على وجود نوعين من ولاية الفقيه، وهما: ولاية الفقيه الأخبارية؛ وولاية الفقيه الإنشائية. فالأولى هي التي يباشر الناس فيها انتخاب الولي الفقيه من خلال الاقتراع والإدلاء بأصواتهم، وأما الإنشائية فهي التي يتمّ فيها نصب الولي الفقيه من قبل الله مباشرة. وإن الشيخ النجف آبادي يرفض فكرة ولاية الفقيه الأخبارية، ويميل إلى ولاية الفقيه الإنشائية. وقد أختلف معه شخصياً في الرأي إلا أنه قد تعرض إلى هذا البحث في كتبه.

يقول النجف آبادي: ليست هناك آية واحدة تمنع المرأة من القضاء. ويؤكد أنه لم يعثر على دليل من القرآن والسنة في إجبار شخص على الإسلام، وضرب عنقه إذا لم يسلم فهذه أكاذيب نسبت إلى الإسلام. وفي الأساس فإن التحول من المعتقد ليس عملية اختيارية، حتى يجازى الفرد على أساسها.

ويقول النجف آبادي: يقوم الأصل في الإسلام على السلم دون الحرب. فالإسلام ليس دين الدم والشهادة. والإسلام منتزع من السلم، فهو دين الصلح والوئام.

لقد شكل نقد الحديث محور نشاط الشيخ صالحي النجف آبادي. وإن علومنا الحوزوية تدور حول محور علوم الحديث، كما يدور محور التفكير الشيعي في عصرنا حول أحاديث الأئمة. وإن الشيء الجديد الذي جاء به الشيخ النجف آبادي هو أن الذين عمدوا إلى وضع الحديث ثلاثة أصناف:

الأول: أعداء الإسلام الألدّاء، الذين أرادوا من وراء جعل الحديث الإساءة إلى سمعة الإسلام وتشويهه في أنظار الناس. وقد كانت كفاءة الشيخ النجف آبادي تكمن في تحديد الروايات المزيفة التي لا غبار على سندها.

الثاني: أهل الإباحات واللا أباليون في الإسلام.

الثالث: المتعصِّبون في حبهم لأهل البيت، والذين يتصورون أنهم يخدمون الأئمة من خلال إلصاق هذه الصفات بهم.

إن الشيخ صالحي النجف آبادي أقوى من غيره في علم الإمامة. وله دراسة وتحقيق عميق حول كتاب (الحجة) من «الكافي».

الهوامش

([1]) الفوائد الرجاليّة، الفائدة الثانية: 38؛ والتعليقة على منهج المقال: 41.

([2]) من باب المثال: أبو علي الحائري، منتهى المقال في أحوال الرجال 1: 77 ـ 78، و346 ـ 348؛ عبد الله المامقاني في تنقيح المقال؛ جعفر السبحاني، كليات في علم الرجال: 419 ـ 421.

([3]) الشهيد الثاني، حقائق الإيمان: 149 ـ 151.

([4]) ومنهم: أحمد بن حسين بن سعيد، وحسين بن آذويه، وزيد الزرّاد، وزيد النرسي، ومحمد بن أورمة.

([5]) السبحاني، كليات في علم الرجال: 91 ـ 102.

([6]) من بين المخالفين لنسبة الكتاب المتبقي لابن الغضائري: الذريعة 4: 288 و10: 89؛ معجم رجال الحديث 1: 102.

([7]) المجموعة الكاملة لمصنفات الشيخ المفيد 7: 74 ـ 76.

([8]) الفوائد الرجالية 3: 218 ـ 220.

([9]) مقدمه إى بر فقه شيعه: 33.

([10]) مكتب در فرايند تكامل: 169 ـ 177.

([11]) المصدر المتقدم: 66.

([12]) إكمال الدين وإتمام النعمة: 110.

([13]) كشف القناع: 200.

([14]) الاعتقادات: 93، الباب35.

([15]) إكمال الدين وإتمام النعمة: 95.

([16]) المصدر المتقدم: 61.

([17]) الباب40: 67.

([18]) إكمال الدين وإتمام النعمة: 89 و92.

([19]) المصدر السابق: 17.

([20]) خاندان نوبختى: 143 ـ 161.

([21]) أنوار الملكوت في شرح الياقوت: 204 ـ 206.

([22]) مادلونغ، المذاهب والفرق الإسلامية.

([23]) رجال النجاشي.

([24]) من لا يحضره الفقيه 1: 60، ذيل الرواية رقم: 1031.

([25]) المصدر المتقدم.

([26]) المصدر المتقدم: 358 ـ 360.

([27]) المصدر المتقدم: 290، 897.

([28]) الاعتقادات: 100، الباب 37.

([29]) رسالة سهو النبي: 20.

([30]) تصحيح الاعتقاد: 133.

([31]) المصدر المتقدم: 136.

([32]) أوائل المقالات: 64، الباب 37.

([33]) المصدر المتقدم، الباب 39.

([34]) المصدر المتقدم: 67، الباب 41.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً