أحدث المقالات

نقد وحلّ

د. محمد محمد رضائي(*)

ترجمة: علي آل دهر الجزائري

مقدمة ــــــ

يعتبر بحث التعددية الدينية اليوم من المسائل المهمة في فلسفة الدين والبحث الديني.

نحن على معرفة ـ إلى حدٍّ ما ـ بدين الإسلام، المسيحية، اليهودية، ودين بوذا، والهندو، وغيرها. والسؤال الأساسي في هذا الموضوع: هل لجميع الأديان نفس الحقانية والخلاص، أم أن أحدها حقٌّ ومنجٍ  والبقية باطلة وغير منجية، أم أن لكل منها حظّاً من الحقيقة، وليس لأي منها الحق المطلق؟ و لأجل توضيح التعددية الدينية تذكر في العادة ثلاث مدارس فكرية، هي: المذهب الحصري؛ المذهب الشمولي؛ والتعددية، التي سنعرضها باختصار؛ لكي يتبين محل التعددية الدينية؛ لأن الهدف الأساسي لهذه المقالة هو دراسة ونقد التعددية الدينية.

أ ـ الاتجاه الحصري (الاختزالي) (Exclusivism) ــــــــ

يرى الاتجاه الحصري أن ديناً واحداً هو الذي يتمتع بالحقانية التامة، أما سائر الأديان فهي وإن كان لها نصيب من الحقانية إلا أنها ليست حقاً مطلقاً. وهكذا فإن الخلاص، أي توفُّر السعادة الخالدة في الجنة الإلهية، تنحصر في الاتباع الحقيقي لهذا الدين. ولا شك أن بعض الأديان ذات الاتجاه الحصري، كالإسلام، تعتقد بنجاة بعض أتباع الأديان الأخرى بشروط معينة. إن كلاًّ من اليهودية والمسيحية والإسلام تدّعي لنفسها حصر الحقانية. وكان أكثر المسيحيين يعتبر هذه المسألة من المسلمات. وقد أكدت الكنيسة في إعلان فلورانس (1435ـ1438) بصراحة أنه لا يمكن لأي فرد التمتع بالحياة الخالدة في الجنة إذا لم يكن تابعاً للكنيسة، وسيعذّبون في جنهم، إلا إذا التحقوا بالكنيسة. وقد ضعف هذا التوجه في العصر الحالي، و غدا أكثر المسيحيين يعتقدون بنجاة أتباع الأديان الأخرى.

ويرى الإسلام؛ باعتباره أكمل الأديان الإلهية وخاتمها، أنه يتمتع بالحقانية المطلقة والخلاص، ويعترف بالأديان التي سبقته، ويعلن أنها قد تعرضت للتحريف. ويذكر الإسلام القرآن، باعتباره معجزته الخالدة، كدليل على هذا الادّعاء، ويعلن أن من كان شاكاً في ذلك فليأتِ بسورة، بل آية، مثل هذا القرآن: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَاْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} (البقرة: 23). ويدعو القرآن في آية أخرى الناس بصراحة إلى التفكير والتعمق في نفس القرآن؛ لتمييز مدعيات النبي، وأنه لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82)، {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} (البقرة: 137). وربما ادعت كل من الأديان المتنوعة انحصار الحق عندها، إلا أن الإنسان في هكذا ظروف لابد أن يفحص عن أدلة الأديان ذات الاتجاه الحصري، ويقيّمها بالوسائل والموازين المتاحة، وعليه أن يختار الحجة الأقوى والأكثر إتقاناً. يقول القرآن الكريم في هذا: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (الزمر: 17ـ 18)، ويقول في آية أخرى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111).

 الإشكال الآخر على الاتجاه الحصري في الأديان، والذي طرحه بعض المفكرين الغربيين، أن هذا التوجه يلوح منه إنكار الرحمة الإلهية، أي إن الناجين هم أتباع دين خاص، دون أتباع الأديان الأخرى، الذين لا يعتقدون بهذا الدين، فإنهم سيعذبون في الآخرة، فكيف يعقل أن ينجي ذلك الإله الرحمن الرحيم عدة من البشر، ويعذِّب الباقين، وهم الأكثرية، خالدين في جهنم؟

وفي الإجابة عن هذا الإشكال يمكن القول باختصار: من وجهة نظر الإسلام، والذي يرى أنه الدين الحقيقي الوحيد، فإن رحمة الله تعالى وسعت كل شيء: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (الأعراف: 156)، وليس كما يدعى من تعذيب أكثر الناس؛ لأنّ هولاء من وجهة نظر الإسلام مستضعفون فكرياً، و لم تتم الحجة عليهم، و إنما يحق العذاب على الذين تمت الحجة عليهم، ومع ذلك يُصرُّون على خطئهم عناداً و عن علمٍ. يقول القرآن في هذا المجال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (الإسراء: 15).

 ويقول الشهيد المطهري حول وجود مؤمنين بين أهل الكتاب: إذا لاحظتم هذه المسيحية المحرَّفة، وذهبتم إلى قراهم ومدنهم، فهل أن كل قسيس ترونه هو إنسان فاسد وسيّئ؟ والله إن سبعين أو ثمانين في المئة منهم ناسٌ يتمتعون بإيمان وتقوى وإخلاص، وكم من الناس اهتدوا باسم المسيح ومريم إلى التقوى والإخلاص، وهؤلاء ليسوا مقصِّرين، وسيدخلون الجنة، وقساوستهم سيدخلون الجنة أيضاً.

وعليه فمن وجهة نظر الإسلام تنحصر الحقانية المطلقة والخلاص بالإسلام، أما الأديان الأخرى فإن بعض عقائدها صحيحة، إلا أنه لا يمكن القول بصحة كافة تعاليمها؛ بسبب حصول التحريف فيها. وكذلك فإن أكثر أتباع هذه الأديان قد يكونون من أهل الجنة؛ بسبب عدم تمام الحجة عليهم.

ب ـ الاتجاه الشمولي (Inclusivism) ـــــــ

المراد بالاتجاه الشمولي أن ديناً بعينه هو الحق، ويكون الخلاص لأتباعه، إلا أنه ــ وخلافاً للاتجاه الحصري ــ يرى أن الخلاص لا ينحصر بالدين الحق، بل إن أتباع الأديان الأخرى يمكن أن يكتب لهم الخلاص والسعادة الأبدية في الجنة. ولما كان منطلق هذه الرؤية الفكرية هو العالم المسيحي فإن أمثلتها أيضاً مأخوذة من المسيحية. ووفقاً لهذه الرؤية الشمولية فإن الديانة المسيحية تحظى بالحقانية والخلاص، إلا أن الأشخاص الذين لم يسمعوا حتى باسم عيسى بن مريم وموته تضحية، و حكومته أيضاً، يمكن أن تنالهم السعادة الأبدية. وبتعبير كارل رانر، اللاهوتي الكاثوليكي المعروف: إن غير المسيحين يمكن تسميتهم بالمسيحيين المجهولين([1]). والاتجاه الشمولي هو أشهر الاتجاهات قبولاً بين اللاهوتيين المسيحيين وزعماء الكنيسة. وللاتجاه الشمولي ميزة حصر الحقانية بالدين المسيحي من جهة، وتجنب تلك النتيجة غير المقبولة، وهي أن جميع غير المسيحيين سيعذبون في جهنم، إلا أن هذا الاتجاه عبارة عن رؤية واقعية للتعددية الدينية. وإذا التزم بهذه الرؤية أتباع كل دين بالنسبة إلى دينهم، واعتبروا أتباع سائر الأديان مسلمين مجهولين، أو بوذيين مجهولين، وهكذا، فهل يكونون قد استعملوا تعابير صحيحةً؟ أي هل يرضى أتباع الأديان الأخرى بهكذا تسمية؟ ويبدو أن هذه التسمية ضرب من الإهانة لأتباع الأديان الأخرى. ويستطيع أتباع كل دين أن يعتبروا دينهم الدين الحق، وأن أتباع الأديان الأخرى هم أتباع مجهولون لذلك الدين. لكن هل تعتبر هذه الرؤية تفسيراً صحيحاً للتعددية الدينية؟ وهل أن هذه الرؤية مستندة الى أصول معرفية صحيحة؟ أليست هذه الرؤية مبنية على نظرة غير واقعية في باب المعرفة، بأنه لا طريق لنا إلى معرفة صحيحة للعالم الخارجي؟ والذي يبدو أن الاتجاه الشمولي لو طبق على كافة الأديان فلا بد أن تكون النظرة المعرفية غير واقعية، أي أنه ليس لنا طريق لكشف الحقائق الخارجية. لكن يبدو أن المدافعين عن الشمولية الدينية لا يقبلون بهكذا مبنى لنظريتهم. فإذا كان الفرد يعتقد في مسألة المعرفة بوجود أمور حقيقية في الخارج فيمكننا التعرف على هذه الأمور الواقعية بمقدار قابلية قوانا الإدراكية، وتوجد معايير لتمييز المعرفة الصحيحة من السقيمة. وعلى ضوء القبول بهكذا أصول هل يمكن اعتبار الرؤية الشمولية سارية وجارية في جميع الأديان؟ إذا استطعنا التعرف على العالم الخارجي، وتمكّنّا من الحكم بأن الآن نهار، إذاً لا يمكن القبول بادّعاء خلافه. وعليه فالمسائل المعرفية للدين تحظى بالحقانية، لا أن المسائل المتعارضة أحياناً لجميع الأديان تكون صحيحة. المطالب السابقة كانت تمثل الجانب المعرفي للاتجاه الشمولي. أما بحث الخلاص في هذا الاتجاه فيمكن القول بحقانية دين بعينه، إلا أنه يمكن اعتبار أتباع سائر الأديان الأخرى من الناجين في ظروف معينة. لكن لابد من الالتفات إلى أنه من الناحية المعرفية يوجد دين واحد على الحق، أي أن الاتجاه الشمولي يمكن تطبيقه على دين بعينه، لا على جميع الأديان. وإذا أرادت الأديان العمل بهكذا منهج فسنواجه نوعاً من التعددية الدينية، حيث يرى كل دين نفسه على حق، وأن ّ أتباع بقية الأديان أهل نجاة أيضاً. وفي تلك الحالة ستكون جميع الأديان متساوية في الحقانية، مما يعني أن الاتجاه الشمولي ينتهي بالتعددية الدينية. أما إذا كانت الشمولية تصدق على دين خارجي بعينه فحينئذ ٍ لابد أن يتمكن هذا الدين من إثبات حقانية معارفه، أي أن يقدم أدلة مقنعة، بحيث يلزم بها الآخرون بلحاظ عقلائي. وبناء على ذلك يجب قبل كل شيء أن نبحث عن صحة وسقم تلك المعارف.

ج ـ التعددية الدينية (Religious pluralism) ـــــــ

التعددية الدينية هي نظرية تحاول البحث عن مخرج لحقانية و نجاة واعتبار جميع الأديان في وقت واحد. وتدعي أنها وجدت هذا المخرج وتوصلت إلى تصوير مقبول لهذه المسألة. توجد قراءات مختلفة للمذهب التعدُّدي. ونحن نقتصر في بحثنا على نظرية جون هيك، المنادي بالتعددية في العصر الحاضر.

ويمكن أن تتجلى تعددية جون هيك في صور مختلفة:

1ـ أحد معاني التعددية الدينية أن يتعامل المسيحيون بتسامح مع غير المسيحيين. ويقال لهذه التعددية الدينية في الاصطلاح « تعددية دينية معيارية» (Normative religious pluralism)، أو «تعددية دينية أخلاقية».

2ـ الوجه الثاني لتعددية جون هيك الدينية يتعلق بتعددية الخلاص. فعلى ضوء تلك النظرية ينال جميع أتباع الأديان الخلاص (Salvation)، أي كما أنّ المسيحي ينال الخلاص بالعيسوية كذلك يستطيع أتباع الأديان الأخرى أيضاً أن ينالوا ذلك الخلاص أيضاً. ولاشك أن ّ التعددية في الخلاص تصلح أن تكون سنداً مناسباً للتعددية الأخلاقية، فإذا اعتقد المسيحيون أنّ أتباع سائر الأديان ينالون الخلاص أيضاً فالأفضل أن يعاملوهم بتسامح وعطف.

لقد كانت المؤلَّفات الأولى لجون هيك في موضوع التعددية الدينية تتركز على التعددية الدينية الأخلاقية والتعددية الدينية في الخلاص، إلا أن كتاباته المتأخِّرة تركزت على وجه آخر من التعددية الدينية، وهو التعددية الدينية المعرفية.

3ـ الوجه الثالث للتعددية الدينية عند جون هيك يرتبط بالتعددية الدينية المعرفية، أو التعددية في الحقانية. وعلى ضوء هذه الرؤية فإنّ مدَّعيات الأديان المختلفة تتمتع بشكل متساوٍ من الحقانية. ونحن نركز هنا على هذا النوع من التعددية الدينية.

مقاربات نقدية ــــــ

بملاحظة آراء «كانت» في نظرية «الشيء في ذاته» و«الشيء كما يبدو لنا» حول الواقع الخارجي يتبيَّن وقوعه في التناقض، ووقوع جان هيك في التناقض أيضاً؛ تبعاً له. فقد طرح «كانت» فلسفته النقدية تحت شعار عدم قابلية العقل النظري للبحث عن الموجودات غير الحسية، خلافاً لادعاء علماء ما بعد الطبيعة، الذين كانوا يفترضون قدرة العقل على الوصول إلى أسرار الحقيقة المطلقة. وقد كان استدلاله على ذلك بأنّ تركيب الذهن البشري بحيث لا يتمكن إطلاقاً من العمل خارج المجال الحسي، أو ظاهر الأشياء (الفِنومن)، والتفكر فيها، والاستدلال عليها، وإنما يستطيع الذهن العمل في مجال التجربة لا غير. وكان «كانت» يعتقد أيضاً أنّه بالإضافة إلى عالم التجربة، أي العالم الظاهر، فإنّ هناك عالماً آخراً هو عالم الشيء في ذاته (النُّومن)، وهو مستتر خلف العالم الظاهر. الجانب النومني لكل شيء أنّ كل شيء موجود في الحقيقة. فنحن نتعامل مع ظاهر التفاحة مثلاً، لا كيف هي هذه التفاحة في الواقع. نعم، نحن نستطيع أن ندرك أنّ وراء حمرة التفاح شيئاً آخر، وأن هذا اللون الأحمر مرتبط به، وذلك الشيء في نفسه علة للظواهر. وإننا نستطيع القول: إنّه بالإضافة إلى ظاهر التفاحة يوجد شيء في ذاته، وهذا اللون الأحمر متعلق به. لكن هذا لا يعني معرفتنا بذلك الشيء أبداً؛ لأن ّ المقولات الذهنية إنما يصح استعمالها في مجال الظواهر فحسب، أي الأمور التجريبية، أي الأمور المكانية والزمانية، ولما كانت الحواس عاجزة عن إدراك الشيء في ذاته فلا يمكننا أن نتعرف على شيء منه. ولما كانت الحقيقة المطلقة هي شيء في نفسه، في اعتقاد «كانت»، فلا يمكننا أن نتوصل إلى معرفة ذلك الشيء. وهذا يعني أننا لسنا قادرين على درك الواقع.

ولكن عندما ندرس نظرية «كانت» حول الشيء في ذاته، والشيء كما يبدو لنا، بدقة وتأمل، نرى تناقضاً واضحاً في كلامه حول الشيء في نفسه؛ إذ كيف يكون الشيء موجوداً  إلا أننا لا نعرف عنه أي شيء؟ وكذلك كان «كانت» يعتقد أنّ الشيء في نفسه هو العلة للظواهر والأحاسيس الخاصة. وعلى هذا الأساس لابد أن يكون موجوداً. فعندما نقول: إن الشيء في نفسه (النومن) موجودٌ وعلة للظواهر فهذا نوع من المعرفة. وإنّ استعمال مفهوم الوجود والعلة حول النومن يتعارض مع اعتقاد «كانت»؛ إذ يعتبر استعمال المقولات الفاهمة منحصراً في الأشياء الحسية.

والحقيقة أنّ الإشكال الرئيسي لـ«كانت» على علماء ما بعد الطبيعة السابقين أنّهم استعملوا مفهوم الوجود خطأً في مورد الموجودات والحقائق ما وراء التجربة الحسية. والآن نشاهد «كانت» نفسه قد استعمل أيضاً مقولتي «الوجود » و« العلة» في الحقائق غير الحسية، وهي حقيقة الشيء في ذاته (الحقائق النومنية). وعليه فقد نقض فلسفته النقدية.

فظهر بناءً على ما تقدم أنّ فرض الشيء في ذاته، والشيء كما يبدو لنا، فرضٌ غير صحيح، ومناقضٌ لنفس فلسفة «كانت». ولما كان المبنى الفلسفي للتعددية الدينية عند جون هيك هو نظرية «كانت» حول الشيء في ذاته، والشيء كما يبدو لنا، فسيواجه نفس التناقض وعدم الانسجام.

يقول جون هيك: إنّ هناك حقيقة مطلقة هي الشيء في ذاته، تظهر للناس. وكل دين، والأفضل أن نقول: أتباع كل دين، يفهمون تلك الحقيقة المطلقة على ضوء ثقافتهم، لكن لا ينبغي لأي دين أن ينسب مفهومه وعقيدته لتلك الحقيقة المطلقة في ذاتها. فإذا صحَّ كلام هيك لا يمكننا حمل أي مفهوم، حتى «الوجود»، على الحقيقة المطلقة، فأي شيء يمكن فرضه مسلماً؟ وعلى الأقل لا بُدّ أن ندرك مفهوم الحقيقة المطلقة جيداً لكي نقول: إن الناس يواجهونها. وإذا لم نتمكن من نسبة أي مفهوم ٍ من مفاهيم الذهن الإنساني له فكيف نفترض أنه موجود؟ ولهذا فإنّ اعتقادنا الديني يقترب شيئاً فشيئاً من عدم الاعتقاد، ويصبح شبيهاً بالإلحاد، أي إننا في قبال هكذا حقيقة متعالية سنكون (لاأدريين)، ولا نستطيع أن ننسب لها حتى الوجود و العدم.

وهكذا فإننا إذا استطعنا أن نحمل مفهوماً من المفاهيم الإنسانية عليه فلماذا نقتصر على ذلك المفهوم، ولا نستطيع حمل المفاهيم الأخرى عليه؟ وعليه فإذا صدق أحد المفاهيم الإنسانية على الحقيقة المطلقة فإنّ المفاهيم الأخرى ستصدق أيضاً. وإذا كانت بعض المفاهيم صادقة على تلك الحقيقة المطلقة فستتميز المفاهيم الأخرى بالتقابل. والحاصل أنّ هذه المفاهيم ستقترب من دين بعينه، دون دين آخر، أي إننا إذا قلنا عن الحقيقة المتعالية: إنها موجودة وعالمة وقادرة و متشخِّصة ورؤوفة ورحيمة فسوف لن يصح إطلاق المفاهيم المقابلة لهذه المفاهيم على الحقيقة المطلقة، وتكون هذه المفاهيم الخاصة مرتبطة بدين بعينه، ولهذا السبب فالحق لدين بعينه. وعليه فالتعددية إما أن تنتهي إلى اللاأدرية؛ لأن هيك يعتقد أنه لا يمكن حمل أيَّ مفهوم من المفاهيم الإنسانية على الحقيقة المتعالية؛ أو إلى القبول بحقانية دين بعينه؛ لأننا إذا استطعنا أن نحمل بعض المفاهيم على الحقيقة المطلقة فسوف يكون إطلاق المفاهيم المقابلة غير صحيح، وبالنتيجة تكون هذه المفاهيم قريبة من دين بعينه.

التعددية الدينية والتجربة الدينية ـــــ

تستند التعددية الدينية ـ كما اتضح خلال البحث ـ على التجربة الدينية. والتجربة الدينية تعني المواجهة مع الإله. ويتوصل الفرد بعد المواجهة مع الإله ـ وبحسب ثقافته ـ إلى تفسيرٍ خاص عن الألوهية.

والسؤال الذي يطرح الآن: إذا كان أصل التجربة الدينية بهذا النحو فلا بد في الحقيقة من القبول بالعقائد المتناقضة. إذا كانت التجربة الدينية للفرد المسيحي تثبت وجود إله المسيح، والتجربة الدينية للمسلم تثبت وجود إله المسلمين (الله)، إذاً فإنّ أتباع كل دين يثبتون الإله وفقاً لثقافتهم الخاصة.

ولما كانت معطيات التجارب الدينية للمتدينين بأديان مختلفة تتفاوت في ما بينها، بل تتناقض في بعض الموارد، فلا يمكن أن تصح هذه التعاليم المختلفة. مثلاً: فردٌ يعتقد بالتثليث في عقيدته عن الله، وفردٌ آخر يعتقد بتوحيد الله، فهل يصح الجمع بين التوحيد والتثليث، أو أنه متشخص وغير متشخص؟ إنه من المحال من الناحية المنطقية القول بصحة كل هذه التفسيرات؛ لأن لازم ذلك اجتماع المتناقضات. ولهذا أنكر بعض المنتقدين اعتبار أصل التجربة الدينية كمنبعٍ للمعرفة([2]).

لكن هل يمكن إنكار أصل التجربة الدينية؟ في الجواب عن ذلك لابد من القول إجمالاً: يمكن قبول أصل التجربة الدينية كأحد مصادر المعرفة، لكن قبول التجربة الدينية أو العرفانية أو الرؤية القلبية لا يعني القبول بالتعددية الدينية، أو القبول بالأفكار والعقائد غير المنسجمة. فيمكننا القبول بأصل التجربة الدينية ومع ذلك ننكر التعددية الدينية.

عرض الحل المناسب للتفسيرات المختلفة عن الله ــــــ

لابد في نقد هذا الإشكال من الالتفات إلى نقطتين:

الأولى: إنّ التجربة الدينية مصدر للمعرفة كالتجربة الحسية.

الثانية: يمكن تبرير الآراء المتعارضة حول التجربة الدينية، كما هو الحال في الآراء المتعارضة في التجربة الحسية.

ويرى بعض المفكرين أننا يجب أن نعتبر التجربة، سواء كانت حسية أو عرفانية، صادقة ومعتبرة، إلا أن يكون لدينا دليل مقبول على نقضها، أي إن التجارب صحيحة ما دام لم يثبت خطؤها.

فإذا لم نقبل بالأصل الذي أطلق عليه سوين بيرن (أصل حسن الظن) (Principle of credulity) فلن تكون لدينا الأدلة الكافية لإثبات صدق واعتبار أية تجربة حسية أو دينية، ولن يكون أمامنا إلا الشك الإفراطي([3]).

والشك الإفراطي غير مقبول من أي عاقل. وعليه فإن أصل الاعتماد على التجربة أصل يستعمله كافة البشر ما لم يوجد دليل على الخلاف؛ لأن الناس لو لم يعتمدوا على تجارب الآخرين لما كانت لدينا اليوم الكثير من العلوم، كالتاريخ، والجغرافيا، والعلوم النقلية الأخرى؛ لأنّ جميع هذه العلوم تكوَّنت بالاعتماد على ما جرّبه الآخرون. وعليه فالبشر كلهم يعتمدون التجربة في حياتهم. وإذا كان هناك شك في صحة تجربة نجربها بأنفسنا. إذاً نحن نثبت التجربة بتجربة أخرى. ولما كان العنصر المشترك بين التجربة الحسية والتجربة الدينية هو المشاهدة، وأصل التجربة مسلَّماً، فلا تفاوت من هذه الجهة بين التجربة الحسية والتجربة الدينية.

والآن نطرح بعض الشبهات التي تذكر في هذا المجال، ثم نجيب عليها.

أـ يرى بعض المفكرين أن التجربة لما كانت خدّاعة في بعض الأحيان فسينتابنا الشك في كل تجربة دينية أو حسيّة.

ويمكن الإجابة عن ذلك بالقول: إنّ التجربة، وإن كانت غير صحيحة وخدّاعة في بعض الموارد، لكن لا يصح القول بأن كل المدّعيات المبنية على التجارب غير صحيحة. وإذا شككنا في كل المدعيات المبنية على التجربة فلا سبيل أمامنا سوى الشك الإفراطي، الذي لا يرتضيه عامة الناس([4]).

يدعي البعض وجود اختبارات عملية كثيرة لإثبات صحة أو سقم التجارب الحسيّة، لكن لا توجد هكذا اختبارات بالنسبة للتجارب العرفانية.

وهذا الإشكال مبني على فرض أن المصدر الوحيد للمعرفة هو الحسّ، وأن المعيار الوحيد لإثبات صحة وسقم الاختبارات العملية هو معيار حسي، غافلين عن وجود منبع معرفي آخر غير الحس، وهو التجربة العرفانية. وكما لا يحق للعارف حصر مصادر المعرفة بالتجربة العرفانية، كذلك لا يحق هكذا ادعاء من قبل الحسّيين الإفراطيين. وعليه فالتجربة الدينية، والعرفانية أيضاً، كالتجربة الحسية، طريق للمعرفة البشرية. ولكلٍّ منهما معيارها الخاص لإثبات الصحة. وإذا قبلنا أنّ طريق العرفان أو التجربة الدينية هو أحد طرق المعرفة أمكن حل الادّعاءات المتعارضة، والإجابة المناسبة عن هذا الإشكال.

ولهذا يمكن اعتبار التجارب المتعارضة في الظاهر حول الإله منسجمة في الواقع. فيمكن لشخصٍ أن يواجه الله في مظهر اسم المحيي، ويواجهه آخر باسم المميت. ولا إشكال في ذلك؛ لأن الله تعالى محيٍ ومميت. وعليه يصح الجمع بين الكثير من الأوصاف المتعارضة في حقه تعالى.

واذا كانت بعض الأوصاف غير المنسجمة في حقه لا يمكن جمعها فإنّ معيار صحة وسقم التجارب العرفانية هو تجارب الأنبياء والمعصومين^ والقواعد العقلية الثابتة، فالتجارب التي تكون موافقة لتجارب الأنبياء والأولياء الإلهيين والمعايير العقلية يحكم بصحتها وقبولها، وإلا فلا تقبل. وسنتعرف على آراء العرفاء المسلمين في مسألة مشاهدة الحق تعالى، وتجربة المواجهة معه، وكذلك توصيفاته غير المنسجمة، بشيءٍ من الاختصار.

يعتقد عرفاء المسلمين بإمكان مشاهدة الحق سبحانه، لكنهم يعتقدون بأنّ الوصول إلى كنه ذاته تعالى محالٌ، ولكنّ الإنسان يستطيع أن يتعرف عليها بالعلم الحضوري أو العلم الحصولي. وهذا في الحقيقة علم بتعينات الحق وأسمائه وصفاته وأفعاله جل وعلا؛ لأن ذات الحق غير متناهية، ومن المستحيل إحاطة الموجود المتناهي([5]). ويرجع العارف الكبير صدر الدين القونوي السبب في عدم الإحاطة العلمية للموجودات بالحق تعالى هو عدم التناسب بين غير المتناهي (الحق تعالى) والمتناهي (المدرِك)، فيقول: السبب الأقوى في ذلك، أي تعذر الإحاطة بمعرفة الحق، عدم المناسبة بين ما لا يتناهى وبين المتناهي([6]).

وتوجد في هذا الموضوع عدة روايات، نشير إلى بعضها:

عن الإمام الرضا×: وقد أخطاه من اكتنهه([7]).

وعن أمير المؤمنين علي×: فتبارك الله الذي لا يبلغه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن([8]).

وبناءً على ذلك فإن مشاهدة الحق تعالى في مرتبة الذات مستحيلة، والممكن هو معرفته في مرتبة الأسماء والصفات. وبعبارة أخرى: إنّ أسماء الحق تعالى وصفاته ملأت كل العالم، وهذا ما تؤيده عبارة أمير المؤمنين× في دعاء كميل: « بأسمائك التي ملأت أركان كل شيء». ولهذا فأينما توجَّهنا فثَمَّ وجه الله {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} (البقرة: 115).

وتقسَّم المظاهر؛ بحسب نوع الأسماء التي تتجلى فيها، إلى أقسام. ولنُشر إلى بعض هذه التقسيمات؛ لفهم أفضل للأسماء:

1ـ تقسيم الأسماء والصفات الإلهية إلى الذاتية والجمالية والجلالية والكمالية ــــــ

أـ الصفات التي تختص بذات الحق تعالى، مثل: الله، الأحد، الواحد، الفرد، الصمد، والتي تسمى بصفات الذات.

ب ـ الصفات التي لا تختص بذاته تعالى، وهي على ثلاثة أقسام: 1ـ صفات الجمال؛  2ـ صفات الجلال؛ 3ـ صفات الكمال.

أما صفات الجمال فهي الصفات التي تستلزم إيصال النفع إلى الغير، كالرحمة؛ واللطف؛ والرازقية؛ وغيرها.

وأما صفات الجلال فهي عبارة عن العظمة والكبرياء والمجد وشأن الحق تعالى، التي تحكي شدة ظهور الحق تعالى، وتؤدي إلى خفائه و تعاليه عن الخلق، نظير: صفات العزة؛ والقهر؛ و…

وأما صفات الكمال، كالربوبية، فهي تشترك بين الجمال والجلال. فمن حيث القدرة تشير إلى جلال الحق تعالى، ومن حيث ربوبية العالم تشير إلى جماله([9]).

2ـ ظهور الأسماء في مظاهر الحضرات الخمس ــــــ

وقد قسّم بعض العرفاء مظاهر الحق تعالى إلى ستة مراتب:

أـ مرتبة الأحدية. وتمثل وجود الحق تبارك وتعالى بنحو (بشرط لا)، بسلب جميع الاعتبارات والأسماء والصفات، والتي تسمى الغيب الأول والتعين الأول.

ب ـ مرتبة الواحدية. وهي وجود الحق تعالى، مع ثبوت جميع الاعتبارات والأسماء بنحو (بشرط شيء)، والتي تسمى الغيب الثاني والتعين الثاني واللاهوت.

ج ـ مرتبة الأرواح المجردة. وهي ظهور الحقائق الإلهية والأسماء التنزيهية بنحو المجردات والبسائط، والتي تسمى العقول والجبروت أيضاً. وهذه المرتبة تشتمل على النفوس الناطقة والفلكية باصطلاح الحكماء.

د ـ مرتبة المثال المنفصل. وهي مرتبة ظهور الأسماء والحقائق الإلهية بنحو الأشياء المجردة واللطيفة بالآثار المادية، من قبيل: الشكل، إلا أنها غير قابلة للتجزئة والتبعيض، والتي تسمى المثال والخيال المنفصل والملكوت أيضاً.

هـ ـ مرتبة عالم الأجسام أو الناسوت. وهي أنزل مراتب الظهور، وتتعلق بالأشياء المركبة ذات الأبعاد، القابلة للتجزئة والتبعيض.

و ـ مرتبة الإنسان الكامل. وهي الأتمّ بين المراتب السابقة. وبتعبير آخر: إنّ كل صفة اسم من أسماء الحق تناظر صفة من صفات ذلك الإنسان.

ولم يعتبر بعض العرفاء مرتبة الأحدية من الحضرات، ولذا تصبح الحضرات خمس([10]).

تقابل الأسماء الإلهية ــــــ

يعتقد بعض العرفاء، إضافة إلى أنّ الأسماء متفاوتة في ما بينها، أنّ بينها تزاحماً أيضاً، بينما يرى آخرون أنه لا نزاع ولا خصومة في الملأ الأعلى بين الأسماء؛ لأنّ التخاصم ينشأ من المادة، ولما لم تكن هناك مادة فلا نزاع أيضاً([11]).

 ويرى آخرون ــ كالقيصري ــ أنّ التخاصم في عالم المادة هو تقابل الأسماء الحسنى الإلهية؛ لأنّ عالم الخارج ليس إلاّ تجلي العالم الأعلى، فلو لم يكن هناك تقابل في ذلك العالم لم يوجد تخاصم في هذا العالم أيضاً([12]). وعليه فإنّ مظاهر الأسماء والصفات يمكن اعتبارها مواجهة الله ومشاهدته، وإنّ عالم الملك والمادة إلى عالم الملكوت كلها مجالي لأسماء وصفات الحق تعالى.

لكل فرد في هذه الدنيا معرفة بالله وسعة الأسماء والصفات الإلهية بحسب استعداده وظرفية وجوده، ويظن أنّ ذلك المتصوَّر هو الإله والمعبود. وعلى هذا الأساس يبادر إلى اختياره وقبوله أو ردّه. فمثلاً: الإنسان الذي يعرف الله بالأسماء التنزيهية ينكر الإله الذي عُرِّف له بالأسماء التشبيهية. كما أنّ الذي عرف الله باسمه الغفار ينكر تجلي الحق تعالى باسم القهار. وعليه فالنقطة التي يجب الالتفات إليها في الشهود أو التجربة العرفانية أن الذات الإلهية المقدسة إذا تجلت باسم من الأسماء فلا ينبغي للعارف الظنّ بأنّ الله تعالى محدود في هذا الاسم وتلك الصفة. إن لتجلي الله تعالى مظاهر كثيرة. ويستطيع كل إنسان الوصول إلى مرتبة من أسماء وصفات الحق تعالى بحسب درجته الوجودية ومرتبة تهذيبه. والموجود الذي يمتلك تصوراً صحيحاً هو الإنسان الكامل لا غير. وعلى كافة البشر تأييد مشاهداتهم بمقارنتها بمشاهدة وتجربة الإنسان الكامل أو الأنبياء والأئمة المعصومين^. والحقيقة أنّ معيار صحة مشاهدات العارفين هو مشاهدات الأنبياء والأئمة المعصومين.

وينسب جون هيك، المنظِّر للتعددية الدينية، ظهور الله تعالى عند العارفين المختلفين إلى عالم الظاهر (Phenomenon)، وذات الباري تعالى إلى عالم الواقع (Nomenon). وهو يعتقد أنّ على العارف أن لا ينسب تصوره عن الله إلى الواقع، ويقول: إنّ الله هكذا في الواقع، مع أنّه وفقاً لهذا التحليل يصح لكل عارف أن ينسب وصفه لله إلى الواقع، لكن لابد من الانتباه أنّ وصفه لحقيقة الله التامة لا تظهر في إطار جميع الأسماء والصفات الإلهية، وإنما يحق للأنبياء الإلهيين وحدهم أن ينسبوا أوصافهم لله إلى الواقع، أما سائر الناس فلما كانوا في مرتبة وجودية دنيا فقد أدركوا جلوة (مظهراً) من جلوات (مظاهر) الله تعالى، وهذا بشرط أن لا تخالف الموازين العقلية. وعليه فإنّ بعض الأوصاف الإلهية المتعارضة والمتقابلة يمكن في الحقيقة نسبتها إلى اسمين من أسمائه. وربما كان لشخصين وصفين متفاوتين ومتقابلين عن الله، وهما في الحقيقة قد شاهدا الله تعالى، ويمكنهما أن ينسبا وصفهما إلى الواقع، لكن ينبغي الالتفات إلى أنّ وصفهما ليس وصفاً كاملاً لله تعالى. وطبعاً لابد من عرض بعض الأوصاف غير المنسجمة والمتقابلة على العقل؛ لأنّ طرفاً من هذه الأوصاف الوهمية لا ينسجم مع الموازين العقلية. وعليه فيجب أن لا ينكر برهان التجربة الدينية؛ لأنه يستلزم أوصافاً غير متوافقة عن الله. كما أنّ أصل التجربة الحسية لم تنكر لأنها تقدم [أحياناً] أوصافاً غير متوافقة لحادثة معينة.

شهود الله ورؤيته في منظار القرآن والأحاديث ــــــ

 يفهم من القرآن الكريم والروايات الشريفة أنّ الله تعالى يُرى بعين القلب (البصيرة) لا غير؛ لأنه ليس بجسم ولا جسماني، فلا يمكن رؤيته بالعين الجسمانية. إن مشاهدة الحق تعالى أفضل برهان على وجود الله، والذي يحق تسميته ببرهان الصدِّيقين. ولما كان لوجود النفس المشاهدة مرتبة ودرجة فكذلك يكون تجلي صفات الله تعالى وأسمائه متفاوتاً. وأحياناً يشاهد الإنسان اسماً واحداً من الأسماء الإلهية، فيظن أنّه الله لا غيره، وينكر المراتب الأخرى. وأحياناً يؤدي التعلق بالماديات والأمور الدنيوية وكثرة المعاصي إلى كدورة في القلب، وحرمان النفس من مشاهدة الجمال الإلهي. سئل الإمام الرضا×: لماذا احتجب الله عن العباد؟ فأجاب الإمام×: «إنّ الاحتجاب عن الخلق لكثرة ذنوبهم…»([13]).

وعندما سأل النبي موسى× أن يرى الله، فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ}، كان الجواب: {قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ}.

ونظراً للروايات الدالة على إمكان مشاهدة الحق تعالى يمكن القول: إنّ المقصود بعدم الرؤية هو في مقام الذات، لا في مقام الأسماء والصفات. والآن نعرض بعض الروايات الدالة على إمكان المشاهدة القلبية:

1ـ روى أبو بصير، عن أبي عبد الله الصادق× قال: قلت له: أخبرني عن الله عزَّ وجلَّ هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟ قال: نعم، وقد رأوه قبل يوم القيامة، فقلت: متى؟ قال: حين قال لهم: {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى}، ثمَّ سكت ساعة، ثم قال: وإنَّ المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة، ألست تراه في وقتك هذا؟ قال أبو بصير: فقلت له: جُعلت فداك، فأحدِّث بهذا عنك؟ فقال: فإنك إذا حدَّثت به، فأنكره منكر جاهل بمعنى ما تقوله، ثمّ قدَّر أنّ ذلك تشبيه، كفر، وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين، تعالى الله عما يصفه المشبِّهون والملحدون([14]).

2ـ وعندما سأل ذغلب أميرَ المؤمنين×: هل رأيت ربك؟ أجابه: ما كنت أعبد ربّاً لم أره. وعندما سأله: كيف رأيته؟ قال×: لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار، لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان([15]).

3ـ ونقل أيضاً عن صحف إدريس النبي أنه قال: بالحق عرف الحق، وبالنور اهتدي إلى النور، وبالشمس أبصرت الشمس، وبضوء النار رؤيت النار…، لا يحتاج في الدلالة على الشيء المنير بما هو دونه([16]).

وكذلك تشير بعض فقرات دعاء عرفة، المروي عن الإمام الحسين×، إلى معرفة الله تعالى بذاته، فيقول: «كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟! أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟! متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟! ومتى بعدت حتى تكون الآثار التي توصل إليك؟! عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيباً».

فيظهر من الكلام المذكور للمعصومين^ أن لا شيء أظهر من الله تعالى، لكي يصبح دليلاً ومثبتاً لوجود الله. وعليه فلابد أن يعرف الله بالله. وهو مشهود للذين لهم الاستعداد والقابلية على مشاهدته، ويدركه ذوو المراتب الوجودية الكاملة بعين اليقين، بحيث لا تطرأ أية شبهة لهم. قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب×: «ما شككت في الحق مذ أريته»([17]).

ويجب على ذوي المراتب الوجودية الدنيا، الذين يحتمل الترديد في متعلق رؤيتهم وتجربتهم الدينية، أن يمحِّصوا مشاهداتهم بميزان العقل، فإذا كانت موافقة للموازين العقلية أُخذ بها، وإذا كانت مخالفة للأصول العقلية اعتبرت موهومات يجب إنكارها. والطريق الآخر لإثبات صحة المشاهدات القلبية أو التجارب الدينية هو عبارة عن مقارنة تلك المشاهدات بالنصوص المقدَّسة القطعية وغير المحرَّفة أو مشاهدات المعصومين^.

خلاصة واستنتاج ــــــ

يمكن القول: إنّ هناك ثلاثة اتجاهات تبيِّن التعددية الدينية: الاتجاه الحصري، والذي يعني أنّ تعاليم دين واحد، وهو الإسلام في اعتقادنا، هي الحق. و طبعاً لا يعني كون الدين الإسلامي حقاً أن جميع أتباع الأديان الأخرى ليسوا بأهل نجاة، بل ربما دخل كثير من الناس الجنة، لعدم تمام الحجة عليهم.

وكذلك فإنّ التعددية الدينية ليست قائمة على مبنىً فلسفيٍّ صحيح. وبعبارة أخرى: إن هذا المبنى ينقض نفسه.

وتبين خلال البحث أنه يمكن اعتبار التجربة الدينية و العرفانية مصدراً للمعرفة. ويمكن أيضاً تبرير التأويلات المختلفة والمتناقضة أحياناً عن الذات الإلهية، كالتأويلات المتفاوتة للتجربة الدينية.

وفي الختام عرضنا رؤية القرآن الكريم والروايات الشريفة حول المشاهدة والتجربة العرفانية.

الهوامش

(*) أستاذ مساعد في جامعة طهران، قسم الفلسفة.

([1])Peterson , ……., p, 228,1991

([2]) Hospers, John , An Introduction to philosophical Analysis: 441, Rouledge ,1970

([3])  Alston, P, Religious Experience , in Routledge Encyclopedia of philosophy, Edited by: Edward Craiig , Routledge ,: 250 , London and New York, 1998

([4]) ديويس براين، در آمدي به فلسفه دين: 104، ترجمه للفارسية: مليحة صابري، طهران، مركز نشر دانشگاهي.

([5]) سعيد رحيميان، تجلي وظهور در عرفان نظري: 29، قم، منشورات مكتب الإعلام الإسلامي.

([6]) نفس المصدر.

([7]) الصدوق، التوحيد: 36، تحقيق: الغفاري، قم، النشر الإسلامي.

([8])  نفس المصدر: 42.

([9]) عبد الكريم الجيلي، الإنسان الكامل 1: 89، القاهرة، 1402؛ رحيميان، مصدر سابق: 183.

([10]) الجيلي، مصدر سابق: 74؛ رحيميان، مصدر سابق: 173.

([11]) عبد الرزّاق الكاشاني، شرح فصوص الحكم: 222، قم منشورات بيدار، 1370.

([12]) القيصري، مصدر سابق: 334؛ رحيميان، مصدر سابق: 173.

([13]) الصدوق،مصدر سابق: 117.

([14]) الصدوق، مصدر سابق: 117.

([15]) نهج البلاغة، الخطبة 179.

([16]) المجلسي، بحار الأنوار 95: 466، دار إحياء التراث، بيروت، 1403هـ.

([17]) نهج البلاغة، الحكمة 184.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً