أحدث المقالات

التَّقليد والنَّظر

وظيفة المثقَّف المسلم اتجاه التَّكليف الشرعي

السيد علي عباس الموسوي (*)

 

تمهيد

من النتائج المهمَّة لتقدُّم المجتمع وانفتاحه على مجتمعات أخرى وعوالم مختلفة أن تكثر الأسئلة لديه عن كل ما كان يعيشه، لأن هذا المجتمع سوف يقوم بالمقارنة بين ما يعيشه هو وما يعيشه الآخرون، ومن هنا تبدأ عمليِّة التأثر والتأثير بين الشعوب والثقافات والحضارات.

إن الطبقة الاجتماعية التي تتولَّى هذه المهمة، بحسب العادة، هي الطبقة المثقفة، والمثقَّف شخص يملك سلطة، ولكنها سلطة خفية تسري بنحو بطيء إلى سائر الناس فتسيطر عليهم، فالأسئلة التي يطرحها المجتمع تبدأ أولا لدى المثقف وهي عندما تصدر منه تتسم بالغرابة والاستنكار، ولكنها شيئاً فشيئاً ما إن تسير على الألسن ويكثر الحديث عنها، حتى تقل غرابتها والاستنكار عليها لتصبح أسئلة مشروعة تحتاج إلى معالجة، أو أنها إن كانت صحيحة فسوف تؤثر في تغيير الواقع القائم الذي ترتبط به. لذا نؤكد أن جدة الطرح أو السؤال لا ينبغي إلاَّ النظر إليها بوصفها عاملاً سلبياً بل بوصفها عاملاً إيجابياً يفتح باباً من التنمية للفكرة السائدة السابقة أكثر مما يمكن أن يكون لصالح الجديد، لقد جرت عادة مجتمعاتنا العلمية على بذل جهد زائد في ترتيب القضايا الأكثر جدلا عن تلك المغفول عنها.

من الأسئلة المثارة، لدى المجتمع الملتزم، السؤال عن التقليد، والسؤال هذا يرتبط بحياة هذا الإنسان بشكل جذري، لأن الإنسان الملتزم المقلّد لفقيه ما لا بدّ من أن يضبط إيقاع كل عمل يقوم به وفاقاً لفتوى الفقيه الذي يقلِّده، إذا الفقيه هو سلطة دينية على الإنسان الملتزم تجعله مقيدا بالفتوى ليأمن من العقاب الإلهي، وهذه السلطة لدى الإنسان الملتزم هي وسط بين الاختيار والإجبار، فالمسلم الملتزم أقدم على الالتزام الديني باختياره، ولكن عليه نتيجة هذا الاختيار أن يكون مقيَّداً في أفعاله بفتوى الفقيه الذي يقلده لأن هذا ما يفرضه عليه التزامه الديني. إن نتيجة هذه الحالة كانت أن بدأت الأسئلة تتحرك داخل هذا المسلم الملتزم الذي يملك ثقافة ووعياً، وهذه الأسئلة متنِّوعة ومختلفة، فمن الأسئلة ما أثير عن شروط التقليد، فهل هو ملزم بتقليد الأعلم ؟ ألا يحق له أن يقلد غير الأعلم؟ هل هو ملزم بتقليد الحي؟ ألا يحق له تقليد الميت؟ هل هو ملزم بتقليد شخص واحد في جميع ما يبتلي به؟ ألا يحق له التبعيض في التقليد؟

أمَّا السؤال الأهم فهو عن أساس الإلزام بالتقليد، هل أمر المكلف منحصر في أن يكون، نتيجة التزامه الديني، ضمن الأطر الثلاث التي ذكرها الفقهاء: إما مجتهداً أو مقلداً أو محتاطاً؟ هذا التخيير، وإن كان ثلاثياً في الظاهر، فإنه بالنسبة لهذا الشخص ليس ثلاثياً وليس تخييرياً بل ما يتجه إلى الإنسان المثقف والعامي على السواء هو أنه لا بد من أن يكون مقلداً لأنه حيث لا يكون مجتهداً وكان الاحتياط متعسراً فأمره منحصر بالتقليد.

إذا أصبح المكلف المثقف – ونخصّ الكلام به لأن هذا السؤال إنما يثار عنده لا عند غيره – ملزماً بالتقليد؟ ولكن ما الضير في ذلك؟ إن المشكلة تكمن في مفهوم الكلمة وواقعها لدى المثقف، فالتقليد عند المثقف يعني شلّ حركة فكره وتعطليها، لأن التقليد يعني الالتزام من دون السؤال عن ذلك بـ”لمَ؟” و”كيف؟” وو…. والتقليد يعني أن حياته بشكل عام، إن لم نقل بشكل كامل، لا بد من أن تسير طبق ما يفتي به الفقيه، وهذا هو ما يثيره جدا ويثير هذه الأسئلة في أفق ذهنه.

ليس بحثنا هنا عن مشروعية هذا السؤال أو صحته أو عن الجواب الصحيح عنه، لأن أحداً ما قد يقول: وما الضير في ذلك، إن الإنسان جرت عادته على أن يرجع إلى أهل الخبرة في كل ما لا يحيط به ولا يعرفه، ويقلدهم في ما يقولونه كالأطباء والمهندسين وغيرهم، والفقهاء هم من أهل الخبرة في التكليف الموجه للإنسان، ولهذا يرجع إليهم.

ولكن الجواب بهذه البساطة لا يكفي لحل المشكلة، لأن ارتباط المكلف بالفقيه من جهة يختلف عن ارتباطه بأي خبير آخر يرجع إليه، ومن جهة أخرى فإن مجال الفقيه يشمل ما لا يشمله أي شخص آخر، لأنه يرتبط بجميع مفرادت حياته حتى أخص خصوصياته.

من هنا انطلقت فكرة أخرى تحاول أن تخرج صاحب هذه الأزمة منها، تفتح الباب أمامه للجمع بين التزامه الديني وبين رغبته وميله إلى الفرار من المشكلة التي يعيشها والمرتبطة بالمفهوم السلبي لفكرة التقليد في ذهنه. والفكرة هي عبارة عن عملية الجمع بين ضرورة الرجوع إلى أهل الخبرة في مجال خبرتهم وبين حرية الانتخاب من بينهم في ما يراه، وهذه الفكرة تسمى “النظر”، وهي ما سنعالجه في مقالتنا هذه معتمدين في تصوير الفكرة أولا على مصدرها الأساسي ألا وهو كتاب “الاجتهاد والتقليد والاتباع والنظر” لمؤلفه يحيى محمد، ثم مستعرضين ما يمكن أن يرد من نقد عليها.

 

طريقة النظر

النَّظر هو من المصطلحات الكلامية، وعن القاضي عبد الجبار الهمداني أن النَّظر هو عبارة عن التفكير في الأدلَّة على اختلافها. وفي بعض التعاريف الأخرى: إنه “الفكر” أو “الفكر الذي يطلب من قام به الفكر علما أو غلبة الظن” أو “الفكر والبحث عن الدلائل العقلية(1).

هذا المصطلح المستخدم كلامياً تمت الاستفادة منه في هذا البحث، فكانت طريقة النظر في الأحكام والفروع عبارة عن نظر المكلف في أدلة المجتهدين، ومن ثم ترجيح بعضها على بعضها الآخر، أو الاقتناع به أو عدمه حسبما يمليه عليه الوجدان والاطمئنان(2).

فطريقة النَّظر، إذاً، ليست عملية استنباط بل هي عملية ترجيح بين الأدلة، ومن هنا يفرّق بين النظر وبين التقليد بأن التقليد هو اتباع ما يفضي إليه قول المجتهد، من دون فحص دليله، وأما النظر فلا بد فيه من فحص الدليل.

إننا قبل استعراض الأدلة على هذه الفكرة، لا بد من الانتصار لها عبر تسجيل عدم غرابتها ولو بنحو جزئي؛ وذلك أولاً بأن الملاحظ هو أن المجتهدين أنفسهم يمارسون أحياناً طريقة الترجيح بين الآراء الفقهية، ما يعني أنهم يزاولون عملية النظر من دون تمييز لها عن طريقة الاجتهاد. فالفقيه يعرض الآراء المتعلقة في المسالة فإما أن يبدي قناعته الكلية ببعض هذه الآراء، أو أنه يرجح بعضها على بعضها الآخر أو يكون له رأي جديد فيها، وهو حينما يرجح بعض الآراء على بعضها الآخر بلحاظ الأدلة المقدمة، إنما يزاول طريقة النظر متضمنة مفهوم الاجتهاد(3).

وثانياً بأن طريقة التقليد تواجه بعض الملاحظات، وهي الآتية:

1-  إن التقسيم، وإن كان ثلاثياً – اجتهاد أو تقليد أو احتياط – فهو يرتبط بالناحية الوظيفية، ولكن الأمر من حيث المرتبة ليس كذلك لأن مشروعية التقليد لا تكون إلا بالاجتهاد، ولأن المقلد لا يصح له التقليد ما لم يجتهد بذلك وإلا تسلسل الأمر ودار. وكذلك الاحتياط فإنه غير مسوّغ إلا عبر الاجتهاد.

2-  إن الأقسام الثلاثة ترتفع في الموارد التي يحصل فيها لدى المكلف العلم الوجداني، كما في الضرورات والقطعيات والمسائل الواضحة وإن كانت قليلة جداً.

3-  كما أن من الموارد التي لا مجال للتقليد فيها ما يرتبط بتشخيص الموضوعات وفهم المعاني العرفية؛ حيث لا يكون التقليد فيها إلا في ما يحكيه عن الشارع الإسلامي.

4-  الموارد التي يتمكن المكلف من الاستنباط فيها كمسألة تقليد الأعلم.

5-  الرأي الفقهي القديم المنكر للتقليد، والذي يعمد إلى إلزام المكلفين جميعا بتحصيل العلم بالأحكام الشرعية. وهذا الرأي وإن تمت مناقشته بعدم إمكان ذلك لعامة المكلفين، فإن هذه المناقشة لا ترد على طريقة النظر، حيث يكتفي بها بتعلم معالم الدين بصورة مجملة، وتكون له القدرة على تفهم بعض الآراء الفقهية ليتمكن من الترجيح بينها.

 

لمن طريقة النظر؟

لا يمكن فتح باب طريقة النظر أمام جميع المكلفين، لأنها تتطلب نوعاً من الثقافة لا تتطلبه عملية التقليد، فالفئة المخوّلة أو التي تملك أهليّة أن تسير على طريقة النظر، هي الطبقة الوسطى بين المجتهدين وبين العوام المحرومين من الوعي الثقافي الإسلامي، أي أنها طبقة المثقفين التي أخذت تضع ثقلها الكبير في التأثير على الحياة العامة، وهذه الطبقة، وإن كانت ليست بمستوى التخصص والاجتهاد، فإنَّها ليست بمستوى العامية الصرفة والتقليد، وذلك لما تمتاز به من استعداد وقابلية عقلية للتَّمييز بين ما يقبل وما لا يقبل من الآراء والفتاوى.

نعم، لا يمكن وضع تعريف منطقي أو دقيق لهذه الطبقة، ولكنها موجودة في جميع المجتمعات وإن برتب متفاوتة.

 

أدلة طريقة النظر

إن إطلاق عنان المكلف في التقليد وعدم إلزامه بالرجوع إلى شخص واحد، قد يتم فقهياً عبر رفع اليد عن شرطية الأعلمية في التقليد. كذلك يرفع اليد عن شرطية الحياة في المكلف، وكذلك برفع اليد عن عدم جواز التبعيض في التقليد، ولكن في البحث عن طريقة النظر هذه لا بد من أن نحافظ على اعتبار هذه الشروط لأننا نعدّ طريق النظر عدلاً للطرق الثلاث: الاجتهاد والتقليد والاحتياط.

 

1- الدليل الشرعي

 قوله تعالى: ]الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأولَئِكَ هُمْ أولُو الأَلْبَابِ[ (الزمر:18)، فعموم الآية، أو إطلاقها، يثبت أن على الناظر أن يتعامل مع الآراء الفقهية بوصفها أقوالاً مختلفة، وعليه أن يعوّل على ما يراه أحسنها. فيكون النظر من تطبيقات الآية الشريفة.

وقد تحدث المفسرون عن الآية، ومما ذكره العلامة الطباطبائي عنها قوله: “فتوصيفهم باتباع أحسن القول معناه أنهم مطبوعون على طلب الحق وإرادة الرشد وإصابة الواقع، فكلما دار الأمر بين الحق والباطل والرشد والغي اتبعوا الحق والرشد وتركوا الباطل والغي، وكلما دار الأمر بين الحق والأحق والرشد وما هو أكثر رشداً أخذوا بالأحق الأرشد. فالحق والرشد هو مطلوبهم ولذلك يستمعون القول ولا يردون قولا بمجرد ما قرع سمعهم اتباعا لهوى أنفسهم من غير أن يتدبروا فيه ويفقهوه(4).

والنتيجة هي أن الآية إما أنها تحبِّب اتباع أحسن الأقوال أو أنها توجب ذلك، وظاهر الآية ليس بعيدا عن الاحتمال الأخير(5).

 

2 – دليل العقل أو الأقربية

إن الدليل الذي يرجحّه الناظر يُعدّ أقرب إلى الحكم الإلهي في وجدانه، وهذا من تطبيقات الظن الذي يقوم مقام العلم عند تعذُّر الوصول إلى العلم، وقد ذكر المحقق القمي أنه طبقاً لدليل الانسداد، فإن العبرة بقوة الظن. كما أن ترجيح الأعلم على غيره إنما هو باعتبار أن ملاك الحكم هو الرجحان والأقربية لا الأعلمية من حيث ذاتها، وعليه فالناظر إنما يرجع في العمل إلى ما يراه أرجح لأنه يراه أقرب إلى الواقع لا سيما مع كون ظنون الناظر منضبطة ضمن ضوابط الفحص والتمييز العقلائي. نعم هذه الأقربية لا تثبت وجوب اتباع الناظر لما يراه الأقرب، وإن كانت الأقربية مطلوبة في حد ذاتها من باب الأولوية.

 

3- الدليل المنطقي

يعتمد هذا الدليل على قاعدة منطقية هي عدم صحة العدول عن اتباع الدليل الراجح باتباع الدليل المرجوح، مستشهداً لذلك باستدلال بالفقهاء من ضمن ما استدلوا به على وجوب تقليد الأعلم، من جهة أنه حيث يجب العمل بالدليل الراجح يجب تقليد الأفضل، فحجية الدليل تقوم أساسا على الترجيح، وهذه القاعدة تنسحب إلى الحكم بعدم جواز رجوع المكلف إلى من ينظر إليه بأنه مخطئ مشتبه في حكمه، أو أن حكمه لا يفيد الاطمئنان بشيء وأن هذا الأمر يشهد له العديد من الموارد التطبيقية عند الفقهاء، وهذه الموارد هي:

‌أ-     عدم جواز رجوع المجتهد إلى المجتهد الآخر إذا كان الأول يرى انسداد باب العلم والظن المعتبر في حقه إلى المجتهد القائل بانفتاح باب العلم، لأنه يرى خطأه في ذلك، فإن الانسدادي مثلاً لا يرى حجية خبر الواحد، فكيف يرجع إلى القائل بحجيته وهو يرى خطأه؟

‌ب-عدم جواز تقليد المجتهد المتجزئ للمجتهد المطلق، لأنه يرى خطأه واشتباهه والحجة قامت عنده والتقليد مختص بمن لم تقم الحجة عنده، وهذا ينطبق على صاحب النظر.

‌ج-  ما ذكره الأخند من أنَّ العامي إذا استقل رأيه في بعض الموارد فكان خبيراً بالأدلة، فليس له التقليد بل له مخالفة الأعلم.

‌د-    ما ذكره الأصفهاني، صاحب الفصول، من أن العامي لو علم بطلان ما أفتى به المفتي، فإن له أن لا يقلده في ذلك ومراجعة غيره. أو فتوى بعض المعاصرين بأن العامي لا يجوز له التقليد بكل ما لا يرى، اطمئناناً في حكم المجتهد .

 

4- البناء العقلائي

ما نشاهده، في جميع الحرف والمهن، حيث إن من يرجع إلى أصحاب الاختصاص إذا كانت لديهم الخبرة والتمييز، فإنهم لا يرجعون إلى قول الأكثر علما إذا ظنوا أنه على خطأ وغير صواب ويشهد لذلك ما ذكروه في حكم رجوع صاحب الملكة إلى من يحتمل انكشاف الخطأ عنده إذا راجع الأدلة.

ولذا نقول في حق صاحب النظر: إنه كيف يسوغ دعوى أن العقلاء يلزمون صاحب النظر بالرجوع إلى من يراه مخطئا بعد الفحص، بل الأمر به أشد صعوبة لأنه ليس كصاحب الملكة ليس عنده سوى احتمال ذلك.

 

مراتب النظر

 إن صعوبة وضع تعريف وتحديد منطقييِّن للمثقف تفرض صعوبة على عملية وضع حد تفصيلي لمراتب النظر، أو حتى بين بعض هذه المراتب وبين الاجتهاد والتقليد لتداخل الحدود الوسطى، ولكن تقسيماً عاماً فرض، وهو تقسيم الناظر منهجياً إلى مرتبتين:

1- المرتبة التفصيلية

ويمتاز فيها صاحب النظر بالدقة والوضوح في استبعاده لبعض الأفكار والقبول بأخرى، والمثال الذي يقدمه لهؤلاء هم طلاب مرحلة الخارج الذين يتمكنون من التمييز في التفاصيل التي تردهم، مع أن الفقهاء يحكمون عليهم بلزوم التقليد.

1- المرتبة الإجمالية

أن يطمئن صاحب النظر إلى ما يرده من إجمال الأدلة لبعضها دون بعض، مستعيناً لذلك بما له من قدرة فطرية يميز فيها ما يراه عقله أقرب للصواب، كيف وقد اكتفى العلماء في علم الكلام بالعلم الإجمالي بالأدلة العقديَّة، نعم على الناظر، في هذه المرتبة الإجمالية، أن يكون على بيِّنة واطلاع على ما يخص معالم الدين الأساسية وأصول الفقه، من دون الحاجة للدخول في التفاصيل التي يمارسها الفقهاء، لأن الكثير من المبادئ المقررة يمكن ممارستها بشكل تلقائي حتى مع عدم الدقة في معرفتها على التفصيل، وما لم يكن واضحا لديه فإن من الواجب عليه ممارسة النظر وترجيح ما يراه أقرب إلى الشريعة ومقاصدها.

 

فائدة طريقة النظر

لقد تم الحديث عن فائدة مهمة تترتب على طريقة النظر، على مستوى الأمّة، ويرتبط ذلك بالموارد التي تدعو الضرورة إلى تشكيل لجان خاصة لصياغة القرارات الدستورية والقانونية؛ وذلك طبقا للنظر في أدلة اجتهاد الفقهاء والعمل على ترجيح بعضها على بعضها الآخر.

هذا عرض موجز لهذا الطرح الذي يعمل للتأسيس، لفتح الباب أمام حرية من نوع ما في انتخاب الحكم الشرعي الذي يميل إليه المكلف بنحو يكون على درجة من الاطمئنان للحكم، ما لا يوفره التقليد الذي يعني الالتزام بالعمل من دون إطلاع على تفصيل القول في الحكم أو المدرك فيه، أو في الخروج من الشعور بنحو من السلطة للفقيه على حياة الشخص الناظر.

على أن طريقة نقاشنا هذه قد تكون ذات لغة علمية خاصة هي لغة الفقه، وهذا ما يفرضه البحث، لا سيما وأن الكاتب إنما سار في عرضه لأدلته، على طريقة النظر هذه، على الطريقة الفقهية، فاستخدم أسلوب الاستدلال الفقهي بالاعتماد على القرآن أو العقل أو سيرة العقلاء مقربا الدليل في الجميع بما لم يخرج فيه عن السائد الفقهي.

 

نقد النظرية

إن هذه النظرية، مع تقديرنا لجدتها والجهد المبذول في التأسيس لها، هي، كأي طرح جديد، لا بد من أن تقع في دائرة النقد والتمحيص، ولا يعني أي نقد الحكم على النظرية بالإخفاق أو السقوط، بل لعله يصقلها لتصبح أكثر متانة وتتسع دائرة القبول لها أو أن تكون حجة الرافض لها واضحة للآخر.

إننا سوف نسجل ملاحظاتنا على هذه النظرية ضمن إطارين: الأول يتعلق بالملاحظات العامة الواردة على هذه النظرية، والثاني يتعلق ببعض الملاحظات الخاصة على الأدلَّة الواردة في هذه النظرية، أو على بعض مواطن الاستشهاد المذكورة فيها.

 

الإطار الأول: الملاحظات العامة

الملاحظة الأولى: ونسجلها من خلال ملاحظة الأساس الذي ذكره الفقهاء لتقسيمهم الثلاثي المشهور، وهو: المكلَّف إما أن يكون مجتهداً أو مقلداً أو محتاطاً. إن الأساس في ذلك هو أن كل مكلف يعلم علما إجماليا بثبوت أحكام إلزامية في الشريعة المقدسة من وجوب وحرمة، وبهذا العلم الإجمالي تتنجز التكاليف بحقه، والعقل يلزم المكلف بأداء هذه التكاليف، والطريق لأداء هذه التكاليف هو الخروج عن عهدتها بإحدى الطرق الثلاث: إما الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط، والاجتهاد متعذِّر على العامي والاحتياط متعسر، فيبقى التقليد هو الطريق الذي لا بد للعامي من أن يسلكه.

وقد أشار الفقهاء إلى أن اعتماد المكلف لطريق التقليد ينبغي ألاَّ يكون عبر التقليد بل لا بدّ من أن يكون ذلك عبر الاجتهاد، ودفعا لتوهم أن مثل هذا الأمر متعسر على العامي، يتحدث الفقهاء عن السيرة العقلائية وبناء العقلاء بوصفهما أمرين واضحين يعتمد عليهما العامي في التقليد، لأن الثابت من بناء العقلاء رجوعهم في كل حرفة وصنعة، بل في كل أمر راجع إلى المعاش والمعاد إلى أهل الخبرة، وإنه من باب رجوع الجاهل إلى العالم، لأنه من أهل الخبرة والاطلاع ولا ردع عن هذه السيرة، وهي وإن لم يلتفت إليها المكلف مفصلا ولكنها موجودة عنده ارتكازا بحيث يلتفت إليها بأدنى إشارة.

هذا ما ذكره الفقهاء في بيان تقسيمهم الثلاثي، ونحن أمام طريقة النظر هذه نجد محاولة جديدة تعتمد على إبداع طريق رابع لا يشمل جميع المكلفين، ويرى في هذا الطريق سيراً نحو الخروج عن مسؤولية المكلف أمام التكاليف الإلهية، ونحن هنا نسأل عن هذا الطريق الجديد المسمى طريق النظر: هل يسلكه المكلف عبر الاجتهاد الشخصي من قبله، أي أن عليه أن يلاحظ أدلة طريقة النظر ويقتنع بها، بوصفها حجة يقطع من خلال سلوكها بخروجه عن عهدة التكاليف ومسؤولية الطاعة أو إن طريق ذلك التقليد، والتقليد لا بدّ من أن يكون للمجتهد الحي الأعلم، والاحتفاظ بشرطي الحياة والأعلمية في البحث فرض مسلم، لأننا إنما بحثنا طريقة النظر مع حفظهما شرطين في المجتهد الذي لا بدّ من تقليده. وحيث أننا لا نملك فتوى من مجتهد حي أعلم لا في زماننا، ولم يسبق أن حصل وأن أفتى فقيه بطريقة النظر هذه، فإذا ينحصر طريق ذلك بأن يقوم كل مثقف مسلم بالبحث والتمحيص حول طريقة النظر هذه إلى أن يصل إلى حد الاجتهاد فيها وتكون هي المدرك له لاعتماده على طريقة النظر وتركه لطريقة التقليد. كما أن على هذا الناظر أن يلحظ الأدلة التي ذكروها لإثبات وجوب تقليد الأعلم، ويطمئن لبطلانها، وإلا فإذا كان يحتمل وجود دليل على لزوم تقليد الأعلم فليس له اتباع طريقة النظر وترك طريق التقليد.

وينبغي ألاَّ يتصور أن بالإمكان سوق ما ذكروه في مسألة التقليد من وجود ارتكاز عند كل مكلف على التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم، لان الأمر في طريقة النظر ليس كذلك، فليست مسألة النظر هي من البناءات العقلائية الارتكازية التي تملك وضوحاً داخلياً لمن لم يلتفت إليها ووضوحاً عاماً لمن التفت إليها. بل لا بد من التفات من نحو خاص لا يتأتى إلا بتتبُّع المسألة للوصول إلى درجة من العلم بها أو الاطمئنان إليها. وهذه الملاحظة قد تعود في الحقيقة إلى ملاحظة ما تملكه هذه النظرية من قيمة واقعية لا علمية، ولكنها ملاحظة تضعف الاعتماد على مثل هذا الطرح.

الملاحظة الثانية: تعتمد طريقة النظر على وظيفة ملقاة على عاتق الناظر، وهي أن يلاحظ الآراء وينتخب منها ما يراه هو الأقرب بنظره والأرجح، ولكن ثمة سؤال مهم هنا وهو: ما هي الأقربية؟ وما هو المعيار الذي يستند إليه الناظر في الترجيح بين الآراء؟ أي ما هي المرجعية المعرفية التي لا بد للناظر من أن يكون لديه على أساسها موقف من الفتاوى على الصعيد المعرفي؟ إننا أمام احتمالات، وقد تم استخدام العديد من العبارات العابرة التي تصب في هذه النقطة، أي في ما يرجع إليه الناظر من آراء فقهية، فقيل: إنه أحسن الأقوال، إنه الأقرب إلى الحق، وما يقبل وما لا يقبل من الآراء والفتاوى، الأقرب إلى واقع الحكم الإلهي، الأقرب إلى الصواب، ما يراه راجحاً، الاطمئنان لصحة القول، الترجيح بين الأدلة، ما يراه أقرب إلى الشريعة ومقاصدها(6). إن هذا الاختلاف في التعبير، وإن أمكن إرجاع بعضه إلى بعضه الآخر واعتبار العبارات شتى والمقصود واحد والمعاني متداخلة، ولكن لا يمكن القول بأنها جميعها كذلك، ونحن حينئذ لا بد من أن نقول: إنَّ الاحتمالات في ذلك متعددة والمرجعيات التي يعتمد عليها الناظر مختلفة ولا داعي لحصرها في واحد، بل أحد هذه الأمور هو ما يكون موجباً لالتزام الناظر بالرأي الفقهي الكذائي. ولكن العديد من هذه الآراء لا تزال تتصف بالغموض، فما هو المراد من أحسن الأقوال؟ وما المراد من الأقرب إلى الصواب؟ وما هو معيار الخطأ والصواب؟ وما المراد ممَّا يراه راجحا؟ وما هو معيار الرجحان؟

 و نعود إلى ملاحظة الاحتمالات التي يمكن أن تشكل معياراً لرفض هذه الآراء أو القبول بها:

الأول: إنه عبارة عن الأقرب إلى واقع الحكم الشرعي، ولعله هو المراد من قوله الأقرب إلى الحكم أو الأحسن. إننا إن أردنا التجاوز قليلا عن غموض المراد من واقع الحكم الشرعي، فما هو معنى هذه المفردة. ونفترض أن المراد منه ما يصطلح عليه الفقهاء بأنه الحكم الواقعي. ولكن هذا المعيار لا يمكن أن يكون هو المرجع المعتمد لدى الناظر، لأنه كيف يعرف أن هذا الرأي هو الأقرب إلى واقع الحكم الشرعي، ألا تتوقف معرفة الأقرب إلى شيء ما على معرفة ذلك الشيء ؟ هل يفترض الكاتب الحكم الشرعي معلوما حتى يعرف الناظر الأقرب إليه؟ وإذا كان معلوما تفصيلا فلا حاجة إلى اتباع الأقرب لأنه معلوم ، وان كان معلوما إجمالاً فهل تكفي الأقربية هذه للخروج عن العلم الإجمالي بالتكليف الثابت على العهدة؟

الثاني: إن المعيار هو قبول الرأي المتبع والاطمئنان إلى صحَّته قياساً بالرَّأي الآخر الذي لا يتصف بالقبول، وهذا المعيار لا يمكن أن يكون هو الملاك لطريقة النظر، لأن العلم بخطأ رأي المجتهد وكون رأيه غير قابل للقبول لأجل خطئه متفق عليه، وقد ذكر الفقهاء أن المقلد إذا علم خطأ المجتهد لا يجوز له تقليده، لأن التقليد لتحصيل الحجة على الحكم الشرعي، وإذا علم المكلف خطأ المجتهد فكيف له أن يقلِّده في هذا الرأي؟

الثالث: إن المعيار هو ملاحظة الأقرب إلى مقاصد الشريعة. وفكرة المقاصد هي من المسائل الشائكة عند الفقهاء، وهي لا تزال غريبة على الفقه سواء السني أم الشيعي، وإن صدرت الدعوة من قبل جماعة من الفقهاء للاعتماد عليها في الفتوى وعند استنباط الحكم الشرعي، ونحن، وإن كنا نرى لفكرة المقاصد أهميتها القصوى في عملية الاستنباط وأنها سوف تشكل بملاحظتها فقهاً أشد ارتباطاً بتعاليم الإسلام ورسالته، فإنَّنا نرى أنَّ هذه المهمة تقع على عاتق الفقهاء والمجتهدين؛ وذلك عند قراءتهم للنص الديني ومراجعتهم للإجماعات والأدلة، وأين منها صاحب النظر؟ إضافةً إلى أنها لا تزال غير منقحة حتى عند الفقهاء والمجتهدين فكيف بغير المجتهد وإن كان صاحب نظر، بل يكفي لهذا الناظر أن يلحظ أمراً واحداً، وهو أن الشريعة بنيت على جمع المفترقات وتفريق المجتمعات كما اشتهر، فأي أقربية هذه التي تحصل من ملاحظة مقاصد الشريعة.

الرابع: إن المعيار ملاحظة قربها للعقل وتقبل العقل لها، أي أن الناظر يستعين بما له من قدرة فطرية يميز فيها ما يراه عقله أنه أقرب للصواب من بين ما يرد إليه من إجمال في الأدلة(7).

لعل أكثر ما أخذ حيزاً عند الفقهاء في البحث هو كون العقل دليلاً، ما يطرح سؤالاً واحداً هو: إلى أي مدى يمكن للعقل أن يكون دليلاً، فالخلاف الأصولي الأخباري يمتد في إحدى تشعباته إلى دائرة العقل، هذا لا سيما مع استشهاد الأخباريين بعدد من الروايات التي تنهى عن استخدام العقل، ولعل أشهرها أن دين الله لا يصاب بالعقول، على أن العقل الذي يريد أن يشكل مرجعية هنا لتفضيل بعض الآراء الفقهية على بعضها الآخر عند صاحب النظر لا نعرف ما المراد منه تحديداً، ولنا هنا احتمالات في ذلك:

أحدها: أن يكون العقل المحض الفطري، أي المدركات الأولية العقلية الموجودة لدى كل إنسان، كامتناع اجتماع النقيضين ونحوها، وهذا الأمر نستبعد أن يكون هو المراد، لأننا نسأل: هل لدينا فعلا مثل هذه الآراء الفقهية التي تتناقض مع مدركات العقل الأولية ؟

الثاني: أن يكون العقل بمعنى الوعي، وبمعنى ملاحظة أن أقرب الفتاوى إلى الواقع الذي يعيشه الشخص الناظر هي الأقرب إلى أن تتصف بالوعي، وأن الأدلة أو الفتوى التي يرى أنها ترتبط بواقعه أكثر هي المقدمة على غيرها، ولكن هذا غريب جداً؛ إذ متى كان الواقع هو الحاكم على الفتوى ؟ ومتى كانت الفتوى تسير طبق الواقع، نعم إذا كانت الفتوى لا ترتبط بالواقع، بمعنى أنها ليست واردة لهذا الواقع الذي يعيشه ويحيا فيه، فهو عندئذ غير ملزم باتباعها لعدم ارتباطها به، وأما إذا كانت الفتوى ترتبط بواقعه، ولكنها غريبة بعض الشيء عن المألوف الذي يعيشه، فهذا لا يعني أن ليس لها الترجيح.

الثالث: أن يكون المراد من العقل مجموع ثقافة الشخص الناظر، وما يختزنه ذهنه من فكر، وما يحويه من معطيات جمعها من خلال تكوينه الفكري ومرجعياته المعرفية، وهذا ما نتصور أنه الأقرب إلى مراد الكاتب، وهنا نتساءل: أي تكوين فكري هذا الذي يملك من الوعي وسعة الاطلاع ما يجعله حاكماً على فتوى الفقيه الأعلم فيعتقد بأنها لا تتوافق معه؟ مع أن الفقيه الأعلم لم تصدر منه الفتوى إلا بعد البحث المضني من ملاحظة الأدلة وتتبعها. أو هل يكفي أن أملك رؤية ثقافية عامة وذهناً تحليلياً يعتمد على اللاتخصصية بإقرار من الكاتب(8) بل والسطحية في الفتوى أمام المجتهد الأعلم لأرجح رأي غيره من المجتهدين عليه؟

ثم إن طبقة المثقفين هذه التي تملك مثل هذا العقل هل تتمكن من علاج جميع جهات المسألة التي هي محل ابتلائها؟ أو هل تكفي ملاحظة جهة من الجهات والنظر من خلالها لكون الفتوى أقرب إلى الواقع مع الإغفال عن الجهات الأخرى؟ ومثالاً على ذلك نذكر شرطية طهارة المولد في المقلد، فإن المثقف إذا لاحظ الأدلة التي ساقها الفقهاء لأجل إثبات شرطية هذا الشرط قد لا يقتنع بها وعند ملاحظته لأدلة بعض آخر قد يرى أنها أقرب للواقع، ولكن هل يتمكن هذا المثقف من حلّ ما يتمسك به الفقهاء المثبتون لمثل هذا الشرط من الأمر الثابت عن الفقهاء عامة من شرطية طهارة المولد في إمامة الجماعة أو في الشهادة. ولا أريد هنا أن أطالبه بحل لذلك، ولكن ألا ينبغي عليه ملاحظة ذلك عندما يريد ترجيح قول النافي على قول المثبت.

الملاحظة الثالثة: لقد قسَّم الفقهاء الأحكام إلى دائرتين: دائرة العبادات ودائرة المعاملات، ولعل المائز الأساسي بين الدائرتين هو خضوع المعاملات لدائرة الإمضاء، أي أن الشارع أمضى فيها ما لدى العقلاء، واقتصر عمله التقنيني على التدخل في بعض التفاصيل لإظهار الموقف الشرعي منها، وأما دائرة العبادات فهي خاضعة لدائرة التأسيس، أي أن الشارع قام بتشريع مجموعة من الوظائف العبادية للمكلف، وهذه العباديات تمتاز بأنها تحمل عنصر التعبد أي التسليم أمام ما ورد، من دون أن يكون للتساؤل عنها أيّ مجال مفتوح.

ونحن لا نريد أن نسحب التعبد هذا إلى دائرة الاستنباط لدى الفقيه، لأن الناظر إذا كان في العبادات يريد ملاحظة أقرب الأدلة التي يسوقها الفقيه لإثبات فعل عبادي أو جزئه أو شرطه، فالمجال مفتوح ولكن السؤال عن أي أقربية نستطيع أن نتحدث في دائرة العبادات؟ فإذا كانت العبادات لا تخضع للعقل مهما كان المراد منه من الاحتمالات المتقدمة، فأي مائز وأي معيار يكون هو الضابط الذي يرجع إليه الناظر ليلحظ القرب والبعد في الفتوى والدليل ليأخذ بالقريب أو الأقرب ويدع البعيد أو الأبعد؟

الملاحظة الرابعة: يخضع الاستنباط الفقهي لمجموعة من المباني التي يؤسسها الفقيه مسبقاً، وهذه المباني منها ما يرجع إلى علم الأصول، ومنها ما يرجع إلى علم الرجال، ومنها ما يرجع إلى ملاحظات خاصة في النصوص التشريعية لدى الفقيه . نعم دائرة تأثير هذه المباني قد لا تكون عامة شاملة لمختلف جزئيات المسائل الفقهية، ولكنها تؤثر في دائرة مهمة لا يمكن إغفالها أو التغاضي عنها، ومن هنا ينشأ السؤال: أنَّى لهذا الناظر والحال أنه يمتاز باللاتخصصية، تشخيص الأقرب في دائرة الفتاوى التي يرجع الاختلاف فيها إلى اختلاف المباني؟ فلنفترض أن فقيها كالسيد الخوئي مثلاً الذي اشتهر مبناه الرجالي بتوثيق رجالات تفسير القمي بنى على هذا الرأي، وأصدر فتواه في مسألة ما. ولنفترض أن هذا الحكم كان فيه نوع من البعد عن عقل هذا الناظر وثقافته لورود نص ما ورد في سلسلة رواته أحد رجالات القمي، ولكن فقيها آخر لا يبني على مثل هذا المبنى، فلم تتم لديه الرواية سنداً، ولم يفت طبقاتها وعلى هذا الأساس كانت فتواه أقرب إلى عقل هذا الناظر وثقافته، فهل لهذا الناظر أن يعدّ فتوى الفقيه الآخر أقرب، وهو لا يدرك المبنى الذي اعتمد عليه مثل السيد الخوئي، أو أن على الناظر أن ينقّح المباني العامة قبل دخوله في النظر والترجيح.

الملاحظة الخامسة: إن من أهم ما يردّ به على الاعتماد على طريقة النظر هذه هو ملاحظة الروايات الواردة في باب التعارض من علم الأصول،

وتعميقاً منا لهذه الملاحظة سوف نوردها بشيء من التفصيل عبر مقدمات هي:

الأولى: لقد أفرد الأصوليون باباً مستقلاً للبحث في حل مشكلة تعارض الروايات، وخصوصية هذه الروايات أنها تحكي عن التعارض الذي كان يحدث لدى أصحاب الأئمة، والأئمة أحياء موجودون والأصحاب متمكِّنون من الوصول إليهم، وإذا راجعنا هذه الروايات نجد أن المعيار الذي يذكره الإمام لحل مشكلة التعارض يرجع إلى ضوابط عامة ذكرها الإمام(ع)، ووردت في العديد من الروايات وأشهرها روايتان هما:

1 – رواية عمر بن حنظلة: وهذه الرواية وردت بداية في شأن اختلاف الحكمين، ثم وردت في حكم تعارض الدليلين لدى الحاكمين، ونص الرواية هو الآتي: “عن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحل ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً، وإن كان حقاً ثابتاً له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: ]يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به[. قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران [إلى] من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد، والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله. قلت: فإن كان كل رجل اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما، واختلفا في ما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر، قال: قلت: فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر ؟ قال: فقال: ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه، وإنما الأمور ثلاثة: أمر بين رشده فيتبع، وأمر بين غيه فيجتنب، وأمر مشكل يرد علمه إلى الله وإلى رسوله، قال رسول الله ’: حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم. قلت: فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال: ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة، قلت: جعلت فداك، أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا لهم بأي الخبرين يؤخذ؟ قال: ما خالف العامة ففيه الرشاد. فقلت: جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعاًَ. قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل، حكامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر. قلت: فإن وافق حكامهم الخبرين جميعاً؟ قال: إذا كان ذلك فارجه حتى تلقى إمامك فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات”(9).

وإنما ذكرت الرواية كاملة لأجل أن يكون واضحاً لدى القارئ مدى ما وصل إليه السائل من فرض مسألة التعارض ووقوع المكلف بين أمرين، وأن الإمام حتى آخر الافتراضات لم يرجعه إلى الأخذ بما يراه هو أقرب وأصوب.

2 – مرفوعة زرارة بن أعين. “قال: سألت الباقر(ع) فقلت: جعلت فداك، يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ ؟ فقال: “يا زرارة، خذ بما اشتهر بين أصحابك، ودع الشاذ النادر، فقلت: يا سيدي انهما معا مشهوران مرويان مأثوران عنكم ؟ فقال(ع): خذ بقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك، فقلت: إنهما معا عدلان مرضيان موثقان؟ فقال: أنظر إلى ما وافق منهما مذهب العامة فاتركه وخذ بما خالفهم، فإن الحق في ما خالفهم، فقلت: ربما كانا معاً موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع؟ فقال: إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط، فقلت: إنهما معاً موافقين للاحتياط أو مخالفين له فكيف أصنع؟
فقال(ع): إذن فتخير أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر”(10).

الثانية: إن الضوابط المذكورة في الروايتين هي عبارة عن مرجحات ذكرها الإمام، كالترجيح بالشهرة أولا مقابل غير المشهور أو الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة، وهذه المرجحات، وإن كانت توجب أقربية المشهور من غيره أو الموافق للكتاب من غيره أو الموافق للعامة من غيره، فإنَّ هذه الأمور جميعها لا ترجع إلى رأي من حصل عنده هذا التعارض من الأصحاب أو الفقهاء بل ترجع إلى أمور واقعة في الخارج ومتحققة، أي أنها لا ترجع إلى مجرد استصواب الناظر أو ما يصل إليه هو بنفسه. وبهذا يظهر لنا الإشكال على طريقة النظر هذه، فإن الإمام لم يرجع هذا الشخص إطلاقاً إلى ملاحظة ما يراه هو أقرب إلى الواقع بل جعل له قواعد يرجع إليها للترجيح.

كما أن الملاحظ في الروايتين ترجيحهما الواضح للاحتياط، ففي الأولى ورد الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات، وفي الثانية ورد خذ بما فيه الحائطة لدينك.

الثالثة: ونحن نعلم أن الفتوى اليوم هي بمكانة الرواية عن أصحاب الأئمة، فقد كان الأصحاب يتلقون أحكامهم عن طريق نقل الرواية وبقي الأمر كذلك إلى كتب فقهائنا الأوائل، ثم بدأت الرواية تتحول إلى الفتوى، وبهذا نعرف أن المعيار الذي ينبغي أن يرجع إليه المكلف، وإن كان من ذوي النظر، لا يمكن أن يكون هو ما يراه هو أقرب للصواب بل يرجع إلى ترجيح ما يذكر في الفقه كترجيح أحوط الأقوال أو قول الأعلم.

والنتيجة هي أن الأقربية للواقع لم يتحدث عنها الإمام إطلاقاً بعضها ملاكاً للترجيح للمكلف إعماله، بل إن الأمر عندما وصل إلى مكان مسدود في الترجيح أمر الإمام السائل بالاعتماد على الاحتياط. وطريق الأقربية هذا لو كان محلاً للاعتبار لأمر به الإمام أصحابه. وقد استدل بعض فقهائنا على اعتبار الأعلمية باعتبار أن فتوى الأعلم هي الأقرب إلى الواقع وأجاب عن ذلك بعض فقهائنا بأنه لا دليل لدينا إطلاقاً على كون الأقربية من المرجحات؛ إذ لم يقم دليل على أن الملاك في التقليد ووجوبه هو الأقربية للواقع بل إن الأقربية ليست مرجحة في الروايتين المتعارضتين، ومن هنا قد تعارض الصحيحة الموثقة ولا في البينتين لوضوح أن إحداهما لا تتقدم على الأخرى بمجرد كونها أقرب الى الواقع كما إذا كانت أوثق من الأخرى مع أن حجية الطرق والأمارات من باب الطريقية إلى الواقع فكذلك الحال في الفتويين المتعارضتين(11).

الملاحظة السادسة: لقد تقدم أن الانتصار لهذه النظرية تم عبر تسجيل أن الملاحظ أن المجتهدين أنفسهم يمارسون أحياناً طريقة الترجيح بين الآراء الفقهية، ما يعني أنهم يزاولون عملية النظر من دون تمييز لها عن طريقة الاجتهاد، فالفقيه يعرض الآراء المتعلقة في المسألة، فإما أن يبدي قناعته الكلية ببعض هذه الآراء أو أنه يرجح بعضها على بعضها الآخر، أو يكون له رأي جديد فيها، وهو حينما يرجح بعض هذه الآراء على بعضها الآخر، بلحاظ الأدلة المقدمة، إنما يزاول طريقة النظر متضمنة مفهوم الاجتهاد(12).

إذا، لطريقة النظر نوع من المشروعية أو عدم الغرابة، باعتبار أن من الفقهاء من يمارس عملية النظر هذه وإن لم يميزها من طريقة الاجتهاد، ولنا على هذا الكلام ملاحظة، وهي أننا لا نسلم بأن الفقيه يقوم بعملية النظر في ما ظن أنه كذلك، لأن الفقيه عندما يلاحظ الأدلة التي قدّمها من سبقه من الفقهاء ويلاحظ النقد الوارد عليها فيتبنى رأياً منها أو دليلاً، لا يقوم بمجرد ممارسة النظر والترجيح، لأن الفقيه في ملاحظاته هذه يقوم باستخدام ما يملكه من أدوات اجتهادية، ويعمل على استخدامها في تمحيص الآراء هذه وتقييمها وانتخاب الصحيح فيها وليس ما يمارسه الفقيه حينئذ هو كالذي يمارسه الناظر، وعليه فقياس الأمرين وجعلهما سواء فيه نوع من الاتهام لعمل الفقيه هذا، وكأن الفقيه عند عمله هذا يترك أدوات الاجتهاد وآليات الاستنباط جانباً ليقوم بعملية ترجيح مجردة كالتي يقوم بها الناظر. ولو فرضنا أن فقيها قام فعلاً بهذا الأمر فإنه لن يكون صاحب رأي في تلك المسألة ولن يكون ممن اجتهد فيها.

الملاحظة السابعة: مما استشهد به لإثبات طريقة النظر هو أن الكثير من علماء الاتجاهين السني والشيعي قد عدّوا صورة الإجمال في معرفة الدليل مقبولة بخصوص العقائد وعلم الكلام حتى بالنسبة للعامي فضلا عن المجتهد. فقد رأوا أن من الواجب على كل عامي أن يعلم أدلة العقائد ولو إجمالا لعدم اختصاصه وتبحُّره…. فإذا كان هذا الرأي سليماً، رغم أهمية العقائد وكونها تحتاج إلى الأدلة القاطعة، فكيف لا يصح الأمر مع الأحكام وهي من الفروع التي لا ترقى إلى مستوى تلك العقائد (13). فإذا نتمسك بنوع من الأولوية وأن الفروع أولى من الاكتفاء بالإجمال فيها من العقائد، ولكن هنا حصلت الغفلة عن فارق بين العقائد والفروع، وأن هذا الفارق هو الذي أوجب الاكتفاء بالإجمال في العقائد وهو أن المطلوب في العقائد لما كان هو الاعتقاد الذي هو بمعنى عقد القلب وتحصيل ما تركن إليه النفس، كان لا بدّ من أن يكون ذلك عبر الدليل ولا يصح فيه التقليد، وحيث كان إلزام المكلفين بملاحظة تفاصيل الأدلة أمراً غير متيسر له ذهب هؤلاء الأعلام إلى الاكتفاء بالإجمال، وأما الفروع فالمطلوب فيها هو العمل وباب التقليد فيها ممكن، فلا إلزام للمكلف إطلاقا بالنظر إلى الأدلة.

الملاحظة الثامنة: لقد بحث الفقهاء في جواز التبعيض في التقليد، ومن الإشكاليات التي أثاروها هناك ما يرد على سلوك طريق النظر هذا وإطلاق العنان للمكلف في اختيار ما يراه من الفتاوى أقرب للواقع، والإشكالية المشتركة ترتبط بصورتين:

الأولى: لو كان المكلَّف مقلدا لمجتهدين في عمل واحد، ولنفترض أن الناظر وجد أن فتوى أحد المجتهدين بعدم وجوب السورة أقرب للواقع، كما وجد أن فتوى المجتهد الآخر بالاكتفاء في التسبيحات في الصلاة بمرة واحدة هو الأقرب للواقع، فجاء المكلف بصلاة فاقدة للسورة وللتثليث في التسبيحات فإن صلاته هنا سوف تكون باطلة على فتوى كلا المجتهدين، وذلك لأن صحة الأجزاء في المركبات الارتباطية ارتباطية وصحة كل جزء من أجزائها مقيدة بصحة الجزء الآخر(14).

الثانية: لو كان المكلَّف مقلدا لمجتهدين في عملين، وكان بين العملين ملازمة واقعية وجوداً وعدماً، ومثاله لو وجد الناظر أن فتوى أحد المجتهدين بأن الواجب هو الإتمام في الصلاة أقرب للواقع، فيما وجد أن فتوى المجتهد الآخر بالإفطار لأن هذا المكلف مسافر هي الأقرب للواقع فهنا لا يمكن للمكلف أن يقوم باتباع هذا النظر، لأنه سوف يؤدي إلى التفكيك في الملازمة القائمة بين وجوب الإتمام ووجوب الصيام وبين وجوب القصر ولزوم الإفطار(15).

ولو فرض أنَّه أمكننا الفرار من المشكلة عبر تقييد طريقة النظر بغير هذين الفرضين لكان ينبغي علينا حينئذ أن نفرض على الناظر أن يكون لديه إطلاع على أي عمل ارتباطي أو على علمين متلازمين لئلا يقع في المخالفة، وهذا أمر ليس يسيراً على الناظر التمكن منه. لا سيما إذا وقع الاختلاف بين المجتهدين في كون وجود الارتباط داخل العمل الواحد أو عدمه كما حصل فعلاً في الحالة الأولى،
ولا نريد الدخول فيه أو وقع الاختلاف بينهم في وجود الملازمة بين العلمين وعدمها.

 

الإطار الثاني: الملاحظات الخاصة

ونتتبع هنا الملاحظات الخاصة التي ترد على الأدلة التي ذكرت لإثبات طريق النظر.

أمَّا الأول، أي الدليل الشرعي، وهو قوله تعالى: ]الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأولَئِكَ هُمْ أولُو الأْلْبَابِ[ (الزمر:18).

وقد تم الاستدلال بهذه الآية إطلاقا أو عموماً لإثبات أن الناظر يتتبع الأقوال فيأخذ بأحسنها.

وملاحظتنا على هذا الاستدلال بأمور:

1 – إن الاستدلال بها باعتبار أن أحسن الأقوال هو أقربها للحق، ونحن لا نشك في أن أحسن الأقوال هو ذاك، ولكن الأحسن قد يكون ليس هو ما يراه الناظر أقرب للحق بل أحوط الأقوال؛ وذلك إذا ما افترضنا أن الناظر تتبع الأقوال فوجد أحدها أقرب للحق بحسب ما لدى هذا الناظر من إحاطة وعلم وإدراك، ولكن قولاً من بين هذه الأقوال لم يكن ذا قوة في الاستدلال ومتانة في البرهان، ولكنه كان أقرب إلى الاحتياط بنحو يطمئن مع اتباعه بخروج العهدة عن التكليف، فهنا لن يكون ما يراه الناظر هو أحسن الأقوال بل أحوط الأقوال أحسنها، ولذا قيل: الاحتياط حسن على كل حال. وقد قال الراغب الأصفهاني في تفسير الآية: إن أحسن الأقوال هو “الأبعد عن الشبهة”(16).

كما ذكر الشوكاني في تفسيره: إن أحسن الأقوال هو العمل بالعزيمة دون الرخصة، وبالفريضة، دون النافلة، وفعل المأمور به وترك المنهي عنه(17).

2 – إن الناظر لا يمكنه أن يجعل النظر إلى خصوص القول ودليله، بل القائل بالقول يعطي القول جهة من الحسن تجعله أحياناً أحسن الأقوال، فالقول الصادر من أعلم الفقهاء يملك جهة تجعله راجحاً في بعض الأحيان عن القول الصادر من غير الأعلم، إننا لا نستطيع أن نقطع النظر عن “من قال” لأن “من قال” في عملية الاستنباط له دوره، لأننا في عملية الاستنباط نعتمد على درجة علم القائل في الوثوق والاطمئنان بقوله، وهذا هو مدرك القول بوجوب تقليد الأعلم.

3 – إن الاستدلال بالآية يعتمد على أن وظيفة الناظر طبقاً للآية، هي ترجيح أقوى الآراء حجة، وهذا يعني افتراض حجية الآراء جميعها وتقديم بعضها على بعضها الآخر لأن أحسنها أقربها إلى الحق؛ وهذا الأمر لا يمكن أن يكون هو المراد من الآية، وذلك لما ذكره العلماء في ردّ من استدل بالآية على العمل بالاستحسان في الفقه، فقد استدل هؤلاء بالآية بحجة أن الله مدحهم على اتباع أحسن الأقوال، وأجاب الأصوليون عن ذلك – وهذا الردّ يشكل ردّا على الاستدلال بها على طريقة النظر أيضاً – بأن الآية وإن مدحت هؤلاء المستمعين على اتباع أحسن الأقوال، فإنَّها افترضت أن هناك أقوالاً بعضها أحسن من بعض. وترجيح بعض الأقوال على بعض إذا كانت صادرة من الشارع، إنما هو من شؤون الكتاب والسنة، وهو يرجع في واقعه إلى الترجيح في بابي التعارض والتزاحم، وهذا ليس دليلا مستقلاً، بل هو اختيار أحد الدليلين، أي أنه يعود إلى تعيين الحجة الفعلية وكون القول الآخر ليس بحجة لا إلى الاختيار بين الحجتين .

أما الثاني، أي الاستدلال بدليل العقل أو بالأقربية وأن الناظر عليه أن يتبع ما يراه راجحاً وإن خالف قول الأعلم، لأنَّه من المنطقي أن يتبع ما يراه راجحا وإن خالف قول الأعلم، وليس في هذا الحكم العقلي من تخصيص ولا حجة ناهضة، وهنا يمكن أن نلاحظ ما يأتي:

1 – إن الناظر لا بد له من أن يلاحظ أن جهة صدور القول من الأعلم هي جهة من جهات رجحانه على قول غير الأعلم، كالذي ذكرناه في الدليل السابق وأن صدور القول من الأعلم هو من جهة كونه أحسن الأقوال، كما أنه لا بدّ له من ملاحظة أن كون القول أوفق بالاحتياط هو أرجح بالاتباع من القول المخالف للاحتياط.

2 – لا يخلو الأمر، في جهة الرجحان الحاصلة عند الناظر، عند ملاحظته للأقوال من حالين: إما أنها تصل إلى درجة الحجة من العلم أو الاطمئنان، وحينئذ فاللازم اتباعها، لا لأنها أرجح الآراء بل لأن الاطمئنان إلى أنها هي الأقرب للصواب بحسب تعبير الكاتب يعني الاطمئنان إلى بطلان الجهة المقابلة لها وخطئها، وهذا يعني عدم جواز اتباع الرأي المرجوح إطلاقاً.

وإما أن لا تصل درجة الرجحان هذه إلى درجة الاطمئنان بل تبقى على درجة الظن المطلق، وهنا لا يلزم العقل اتباع هذا الرأي الراجح ما دام على درجة الظن فقط ولم يصل إلى حد الاطمئنان، لا سيما مع قيام الدليل على لزوم تقليد الأعلم الذي افترضه الكاتب أمراً مسلماً به، ونحن قمنا بتسجيل ملاحظاتنا مع افتراضنا لذلك، وإلا فمع القول بعدم وجوب تقليد الأعلم فللمكلف تقليد من يشاء.

وبهذا، يظهر أن القول: إنَّ هذا الحكم العقلي لا تخصيص فيه ولا حجة ناهضة غير تام، لأننا مع افتراضنا لزوم تقليد الأعلم بوصفه مقدّمةً في البحث فالتخصيص قائم والحجة ناهضة، مع الإغماض عن أصل وجود إلزام عقلي باتباع الراجح كما أسلفنا الذكر.

وأما الثالث، أي الدليل المنطقي، وهو عدم صحة العدول عن اتباع الدليل الراجح إلى اتباع الدليل المرجوح فالملاحظ هنا:

أولاً: إن خلطاً حصل سواء في بيان الدليل هذا أم في الموارد التي استشهد بها والتي تقدم ذكرها مفصلاً بين فرضين: فرض وجود حجتين تامتين لا مشكلة فيهما مع كون أحداهما أقوى من الأخرى وبين فرض آخر، وهو وجود حجة ولا حجة، أي أن يكون أحد الدليلين تاماً لا مشكلة فيه ويكون الدليل الآخر باطلاً أو يعاني من نقص والاستدلال به غير تام. وفي الفرض الثاني لا شك في أن على المكلف، إذا دار أمره بين اتباع الدليل الحجة واللاحجة، فإن عليه إتباع الحجة وترك اللاحجة. ولكن أين هذا مما يريده الكاتب من تقديم الراجح على المرجوح؟

ومن هنا تتضح الملاحظة المسجلة في ما يرجع إلى الموارد التي استشهد بها، فإن جميع هذه الموارد هي من الفرض الثاني، أي تقديم الحجة على اللاحجة وتفصيل ذلك:

أ – إما عدم رجوع القائل بانسداد باب العلم إلى القائل بانفتاح باب العلم، فهو لعلمه بخطأ القائل بالانفتاح ومع العلم بالخطأ أنى له الرجوع إليه، لأن ذلك يكون من أتباع اللاحجة لا من باب تقديم المرجوح على الراجح.

ب – أما عدم جواز رجوع المجتهد المتجزئ للمجتهد المطلق فلأنه يرى خطأه، وهذا يعني أن قوله ليس بحجة، فكيف يتبعه؟

ج – أما مخالفة الأعلم إذا علم المكلف بالأدلة، وكان خبيراً بها فلأنه قد ثبت لديه خطأ الأعلم فكيف يرجع إليه؟

د – أما ما ذكره في الفصول الغروية من صورة العلم ببطلان فتوى المفتي، فهو من أوضح الموارد في اندراجها تحت الفرض الثاني، أي كون الحجة مقابل اللاحجة.

إذاً على الكاتب أن يخرج هذا الفرض أساساً من البحث، لأنه لا يدخل تحت الدليل المنطقي الذي ذكره من تقديم الراجح على المرجوح بل هو من تقديم الدليل على اللادليل.

 ثانياً: إن جهة الرجحان لا ترتبط، عند ملاحظة الفتوى، بخصوص قوة الدليل أو رجحانه، بل ترتبط بكون الفتوى التي يريد المكلف العمل بها هي أحوط لأن الفتوى إذا كانت أبعد عن الشبهة وأقرب للخروج عن العهدة فاتباعها يكون أرجح من أتباع الفتوى الأخرى وإن كان دليلها أرجح.

وأما الرابع، أي بناء العقلاء، ففي هذا الدليل العقلائي قياس، والتعبير عن ذلك بأنَّه مسحة قياسية لا يرفع المحذور أو يقلل من الإشكال. وملاحظتنا على هذا إن بناء العقلاء ليس أمراً ذا مستوى واحد في جميع الأمور، فالعقلاء يختلف تعاملهم مع الأمور وطرق بنائهم باختلاف المسائل التي يواجهونها، فليس تعاملهم مع الأشياء المهمة والمصيرية كتعاملهم مع اليسيرة والجزئية، فلعل العقلاء لا يولون أهمية لكون القائل أعلم المختصين، أو ليس بأعلمهم في الأمور التي لا تشكل أمراً خطيراً ومصيرياً في حياتهم، ولكن الحال تختلف في ما يرجع إلى الأمور الخطيرة، فكون القائل شخصاً من أعلم المختصين وأشدهم خبرة له دوره المهم في ترجيحهم له على قول غيره وإن كان ما يقوله غيره أكثر وضوحاً أو قوة ومتانة.

هذه هي الملاحظات الخاصة بالأدلة التي أوردها الكاتب.

إن الطريق الصحيح لأجل فتح باب التقليد لطبقة المثقفين هذه، أو غيرهم، تكمن في شرطين أساسيين ينبغي البحث فيهما فقهياً ودراستهما بوسائل الاستنباط لا بغيرها، وهما شرط الأعلمية وشرط عدم جواز التبعيض في التقليد، وإلا فمع عدم الالتزام بهما، فالمشكلة مرتفعة من دون اللجوء إلى طريقة النظر هذه كما أن دائرتها تكون أكثر اتساعاً.

 

الهوامش

 


(*) باحث في الحوزة العلمية، من لبنان.

(1) شرح المصطلحات الكلامية، مجمع البحوث الإسلامية، مشهد، 1995، ص 368.

(2) محمد، يحيى، الاجتهاد والتقليد والإتباع والنظر، مؤسسة الانتشار العربي، 2000، ص 170.

(3) م. ن.، ص. 185.

(4) الطباطبائي، السيد محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج. 17، ص. 250.

(5) محمد، يحيى، الاجتهاد والتقليد، م. س.، ص 193.

(6) م. ن.، الصفحات 192، 193، 189، 194، 198، 199، 201.

(7) م. ن.، ص. 200.

(8) م. ن.، ص. 190.

(9) الكليني _ الكافي، ج 1، ط. الاخوندي، ص 67.

(10) ابن ابي جمهور الاحسائي، عوالى اللئالي، ج. 4، ط سيد الشهداء، قم 1983، ص 133.

(11) الخوئي، السيد أبو القاسم، التقيح في شرح العروة الوثقى، ج. 1، ص. 118، نشر مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي، 1998.

(12) محمد، يحيى، الاجتهاد والتقليد، م. س.، ص. 185.

(13) م. ن.، ص. 200.

(14) الخوئي، السيد أبو القاسم، التقيح في شرح العروة الوثقى، ج. 1، ص. 312.

(15) شمس الدين، محمد مهدي، الاجتهاد والتقليد، ط. المؤسسة الدولية، ص. 473.

(16) الراغب الأصفهاني، المفردات، نشر الكتاب، 1404، قم، ص. 119.

(17) الشوكاني، فتح القدير، ط. عالم الكتب، ج. 2، ص. 244.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً