أحدث المقالات

رصدٌ موجز، وتقييمٌ إجماليّ

الحلقة الأولى ــ

 

حيدر حبّ الله

 

تمهيد

احتلّ موضوع الجهاد في الإسلام حيِّزاً هامّاً من تحليلات العلماء والمفكِّرين المسلمين وغير المسلمين في العالم خلال القرنين الماضيين؛ فقد أبدت الأمّة الإسلاميّة ممانعةً غير عاديّة طيلة هذين القرنين ضدّ أشكال الاحتلال والاستعمار، وقد نجح المسلمون بعد ملايين من الشهداء على امتداد العالم الإسلاميّ في طرد المحتلّين من أراضيهم في القرن العشرين، من الجزائر إلى مصر، ومن الشام إلى العراق، وصولاً حتّى شبه الجزيرة الهنديّة و… وقد شعر الغرب بأنّ المسلمين لم يكونوا مثل بعض الدول الأفريقيّة التي لم تعرف الإسلام؛ لأنّ ديانتهم اشتملت على تشريعاتٍ ممانعة، كان الجهاد ماثلاً على رأسها.

وقد نادى العلماء المسلمون ـ منذ جمال الدين الأفغاني وإلى يومنا هذا ـ بإحياء ما سمّوه بالفريضة الغائبة، كما يعبِّر محمد عبد السلام فرج، ألا وهي فريضة الجهاد. ولم تختصّ الاستجابة لهذه الفريضة في الأوساط الإسلاميّة بمذهبٍ دون مذهب، بل شارك في ذلك السنّة والشيعة على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم، بل ساهم في ذلك غير المسلمين أيضاً في العالمين: العربيّ؛ والإسلاميّ.

أحدثت هذه الممانعة غير المتوقَّعة صدمةً بالنسبة للغرب، ثم للكيان الصهيونيّ فيما بعد. فشرعت الدراسات الغربيّة والصهيونيّة في تحليل هذا الموضوع على غير صعيد. وعندما قام المناضلون المسلمون في جنوب لبنان في بداية الثمانينيّات من القرن الماضي باستخدام أسلوب العمليّات الفدائيّة الاستشهاديّة عكف الكيان الصهيونيّ على تأسيس مراكز دراسات لتحليل الظاهرة من تمام زواياها. وكانت إحدى هذه الزوايا الحفر في التراث الإسلاميّ لقراءة ما اعتبروه جذور هذه الثقافة هناك، مع الحشّاشين وغيرهم من الجماعات الشيعيّة: الإسماعيليّة؛ و…

ومنذ أكثر من قرن والغرب والمستشرقون يدرسون ظاهرة الجهاد؛ بسبب ما أحدثته هذه الفريضة من ممانعة مذهلة عند المسلمين. يضاف إلى ذلك عنصرٌ آخر أثار حفيظة الباحثين لتناول موضوع الجهاد مرّةً ثانية، منذ انطلاقة المقاومة الفلسطينيّة، ثم اللبنانيّة، وصولاً إلى أسلوب تنظيم القاعدة والجماعات الإسلاميّة المسلَّحة في أفغانستان ومصر و…، ألا وهو موضوع العمليّات الاستشهاديّة، واستخدام أساليب خطف الأشخاص والطائرات، والرهائن، وأساليب الاغتيال، وعدم تحييد المدنيّين أحياناً…، حيث أثار جملة تساؤلات ما لبثت أن تحوَّلت إلى موضوع درس في الثقافة الإسلاميّة، إلى جانب صراع الجماعات الإسلاميّة مع الأنظمة العربيّة وغيرها.

 

عوامل إحياء الدرس الجهاديّ في العصر الحديث

إذاً هناك عدّة عناصر أساسيّة ساهمت في إحياء دراسة موضوع الجهاد الإسلاميّ، من أهمّها:

1ـ حاجة المجتمع الإسلاميّ لإبداء الممانعة؛ حمايةً لوجوده وكيانه في مواجهة الاستعمار في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديّين، وما أعقب ذلك من إحياء فريضة الجهاد؛ نظراً لكون رجال الدين مساهمين فاعلين على هذا الصعيد، كالسيد الأفغانيّ، والإمام الخمينيّ، والشهيد الصدر، ممّا ضاعف من اهتمام الغرب والمستشرقين بدراسة هذا الأمر.

2ـ بعض أساليب الجهاد المثيرة للرأي العام، والتي وظِّفت إعلاميّاً على نطاق واسع. وهذا العنصر شكَّل مادّةً نقديّة من طرف الغرب ضدّ الإسلام، ومن طرف التيّارات غير الإسلاميّة في العالم العربيّ والإسلاميّ ضدّ الحركة الإسلاميّة.

3ـ واقع العلاقة التي حكمت الحركات الإسلاميّة مع الأنظمة في العالمَيْن: العربيّ؛ والإسلاميّ. ففشل الأنظمة في مواجهة بعض التحدّيات الكبرى في الأمّة من جهة، ورغبة الحركات الإسلاميّة بالإطاحة بها؛ إمّا لإقامة نظامٍ إسلاميّ أو على الأقلّ لحذف عميل ـ من وجهة نظرها ـ موالٍٍ للغرب ولإسرائيل من جهة أخرى… فجَّرا العلاقة بين الإسلاميّين والأنظمة. وقد بلغ سوء العلاقة أوجَه في السبعينيّات والثمانينيّات بعدما كان شرع تدريجيّاً منذ الخمسينيّات من القرن الماضي، فاهتزّ العالم العربيّ والإسلاميّ، من المغرب والجزائر وتونس، مروراً بمصر وسوريا، وصولاً إلى العراق وإيران والبحرين…

هذا الواقع كلّه كان بحاجةٍ إلى دراسات ودراسات مضادّة؛ لشرعنة مواجهة الأنظمة عند الفريق المؤمن بذلك، ولشرعنة العلاقات السلميّة معها عند الفريق الرافض للمواجهة…

وقد شكّل انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران ضدّ نظام الشاه عام 1979م فرصة أملٍ كبيرة للإسلاميّين في العالم؛ كي يطيحوا بالأنظمة العربيّة التي اعتبروها مسؤولةً عن نكسة 1967م، وعن الإخفاقات الكبرى على مستوى الإصلاحات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة.. إلاّ أنّ فشل الحركات الإسلاميّة حتّى نهاية الثمانينيّات في تحقيق ما يشبه الإنجاز الإيرانيّ، وخروج النظم العربيّة من جهة والحركات الإسلاميّة من جهة أخرى عن الحدّ المعقول من المواجهة، إلى حالةٍ من الهستيريا عبّرت عنها في الثمانينيّات أحداث مصر والجزائر وسوريا…، فرض على الحركة الإسلاميّة إعادة النظر في كلّ مشاريعها… فظهرت في التسعينيّات رؤى جديدة، وكُتبت قراءاتٌ جديدة في العمل السياسيّ ومواجهة الأنظمة… وبهذا اتَّجهت الحركة الإسلاميّة في العالم العربيّ شيئاً فشيئاً نحو نظريّة جديدة في العلاقات مع الأنظمة، وبدأ التنظير لمرحلة أخرى، لتأتي على الخطّ الشيعيّ أفكار العلاّمة محمد مهدي شمس الدين محاوِلةً أن تحلّ محلّ أفكار الإمام الخمينيّ والسيد محمد باقر الصدر في مواجهة الأنظمة بالقوّة ومنطق الجهاد…، وتأتي الانشقاقات الإصلاحيّة داخل الحركات الإسلاميّة؛ لتهدئة العلاقات مع الأنظمة، مدعومةً هذه المرّة في الوسط السنّيّ من الاتّجاه السلفيّ السلطويّ التقليديّ في الخليج، ممّا أدّى إلى حصول شرخٍ كبير بين تيّارين داخل الحركة الإسلاميّة:

أـ تيّار شعر بمزيد من الإحباط والفشل من واقع الأمّة وواقع الأنظمة وواقع الإسلاميّين أنفسهم، فأصرّ على الاستمرار. ولمّا كان يعبِّر عن الأقلّيّة، ويقع تحت الضغط، فقد تحوَّل إلى تيّار أمنيّ ـ عسكريّ بامتياز، فظهرت الإسلاميّة الطالبانيّة وتنظيم القاعدة و…، تسندها تنظيرات فقهيّة تدعمها في سياستها.

ب ـ تيّار يئس من تحقيق إنجازات بالسبل الجهاديّة الدمويّة، لهذا انحاز إلى نظريّة العلاقة والتهدئة، فأخذ ينظِّر لها.

وبهذا بدا التيّار الأوّل أقلِّيّةً حقيقيّة، ممّا زاده احتقاناً نجم عن أشكالٍ متشدِّدة من الجهاد والمواجهة، مدعوماً بنمط سلفيّ متشدِّد.

واستمرّ هذا الوضع إلى بداية ما أُطلق عليه (الربيع العربيّ)، حيث قويت الاتّجاهات الثوريّة الداعية لإسقاط الأنظمة في الشارع، بل عبر الرصاص، كما حصل في مصر وتونس وليبيا وسوريا والبحرين واليمن، وسوف نأتي على الحديث عن المشهد الجديد لاحقاً بعون الله.

4ـ دخول بقايا التيّارات الماركسيّة والقوميّة و… على الخطّ الإسلاميّ، بمعنى أنّ انهيار المشروع القوميّ مع فشل الدولة القوميّة العربيّة المتكرِّر، وانهيار المعسكر الاشتراكيّ الشرقيّ في نهاية الثمانينيّات، جعل بقايا الماركسيّة والقوميّة، المعارضين للأنظمة وللإسلاميّين معاً، ينسابون في ثنايا الطرفين؛ فأخذ بعضهم يقدِّم قراءةً نقديّة للإسلاميّين، لكنْ لا من منطق المواجهة بين الأحمر الشيوعيّ والعمّة الدينيّة البيضاء، وإنّما من منطق إسلاميّ أو تاريخيّ في الظاهر، لكنّه يحمل العقلية الماركسيّة في وعي الاجتماع والاقتصاد والتاريخ، فتركت عقليّته هذه أثرها على قراءته للدين، وهكذا…

5ـ أحداث حرب الخليج الثانية، والتي فتحت باب الجدل في جملة من قضايا الجهاد، وقف على رأسها موضوع الاستعانة بالكافر على المسلم، ليدور حول الموضوع نقاشٌ طويل شهدته المحافل العلميّة والدينيّة.

هذه هي بعض العناصر الرئيسة التي دفعت لدراسة موضوعة الجهاد بأشكاله في العصر الحديث، سواءٌ في الداخل الإسلاميّ أم الخارج الغربيّ.

ملفّات البحث الحديث والمعاصر في قضيّة الجهاد الإسلاميّ

وإذا تخطّينا موضوع العناصر التي أعادت دراسة موضوع الجهاد، لندرس أبرز الهموم الفكريّة على هذا الصعيد، وهي الهموم التي تركت أثراً على موضوعات الجهاد التي طرحت في الساحتين الإسلاميّة والغربيّة، سنجد عدّة ملفّات متداخلة (سيلاحظ القارئ الكريم أنّ هذه الملفات والتيّارات التي اشتغلت عليها قد تداخلت، بمعنى أنّ بعض التيّارات له ظهور دفاعيّ، وله ظهور نقديّ، ونحن قد أخذنا صورته الدفاعيّة في الملفّ الدفاعيّ مثلاً، وعالجنا تمظهره النقديّ في الملفّ النقديّ؛ كي نفصل العناوين؛ لأنّ البحث ليس تاريخيّاً، وإنّما هو توصيفٌ موضوعيّ قائمٌ على المعطى التاريخيّ، فليلاحظ ذلك)، وهي تمّ تداولها ووضعها موضع البحث والمناقشة، وأهمّها:

 

1ـ الملف الإحيائيّ

أوّل الملفّات هو الملفّ الإحيائيّ، أي إحياء الفريضة الغائبة. لهذا كثر التركيز على الجهاد في القرآن الكريم وعلى نصوصه. وهنا يبرز دور الحركة الإخوانيّة مع مدرسة سيّد قطب، بوصفها المدرسة الأبرز التي ركَّزت على هذا الموضوع. فسيّد قطب عمل ـ ولا سيّما في كتابه «في ظلال القرآن» ـ على تقديم تفسير حركيّ اجتماعيّ للنصوص الدينيّة. وإذا وضعنا هذا الكتاب إلى جانب كتابَيْه: «جاهليّة القرن العشرين»؛ و«معالم في الطريق»، سنجد كيف سعى سيّد قطب والإخوان المسلمون لتحريك النصوص الدينيّة في الواقع الاجتماعيّ؛ لإحياء مفاهيم طالما غابت عن ساحة حياة المسلمين من وجهة نظرهم، مثل: الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتطبيق الشريعة، و… فمع مدرسة الإخوان المسلمين في شكلها المتطوِّر، وعلى رأسه منظِّره سيّد قطب، وفي امتداداتها في مصر والسودان واليمن وسوريا و…، نجد تنشيطاً كبيراً لمقولات الحركيّة الإسلاميّة، حتّى طرح قطب مقولته المشهورة، التي أخذها منه العلاّمة محمد حسين فضل الله، والتي تقول: الإسلام لا يفهمه إلاّ الحركيّون. ولهذا وجدناه يرجِّح أن تكون الفئة النافرة في الآية (122) من سورة التوبة هم المجاهدون؛ لأنّهم مَنْ كان يفهم الإسلام عمليّاً وميدانيّاً، بدل شيوخ البلاط والمنظِّرين المخمليِّين (انظر: سيّد قطب، في ظلال القرآن 3: 1734 ـ 1735).

كانت مقولات سيّد قطب ذات تأثير على بعض اتّجاهات الفكر الشيعيّ أيضاً. فقد تركت بصماتها ـ في ما نخمّن ـ على شخصيَّتين شيعيّتين كبيرتين، هما: محمد باقر الصدر، ومحمد حسين فضل الله. وكذلك على حزبٍ إسلاميّ شيعيّ عريق، وهو حزب الدعوة الإسلاميّة (يهمّني أن أشير إلى أنّ وجهة النظر هذه التي نرجِّحها هنا لا نضعها في سياق التجريح بهذين العالمين الموقَّرين رحمهما الله، خلافاً لما فعله بعضهم، وإنّما هي في سياق التوصيف؛ لأنّه من غير المعيب ـ بل من الممدوح ـ أن يستفيد مسلمٌ من مذهبٍ ما من تجربة مسلمٍ من مذهبٍ آخر ما دام قد رأى الحقّ في عناصر من تلك التجربة، فاقتضى التنويه)، حتّى وجدنا الشخصيّة الثانية تنتهج في تفسيرها «من وحي القرآن» منهج التفسير الحركيّ الاجتماعيّ، الذي بدأت بذوره مع محمد عبده ورشيد رضا في تفسير المنار، ووصل أوجه مع سيّد قطب في تفسيره.

 

ميِّزات الملفّ الدعويّ الإحيائيّ

إذاً الملفّ الأول لمطالعة الجهاد كان ملفّاً دعويّاً، يعيد استحضار مفاهيم الجهاد في الأمّة؛ ليحلّ مشاكلها عبر هذا الطريق. ويمتاز هذا النشاط الذي قام به هذا الفريق بعدّة ميّزات هامّة، أبرزها:

أـ التخلّي عن المنهج التجريديّ النظريّ في تحليل الجهاد. وهو المنهج الذي ظلّ سائداً لقرونٍ في وسط المسلمين، منهج قراءة موضوع الجهاد وكأنّه جملٌ تحتاج إلى إعراب وتفكيك لغويّ نظريّ، واستبدال ذلك كلّه بمنهج يربط نصوص الجهاد ودراستها بنفس العمليّة الإحيائيّة، أي إنه لم يحصل هناك فصلٌ كبير في قراءة موضوع الجهاد عند هذا الفريق بين عمل المفسِّر والفقيه والمفكِّر من جهة وعمل الداعية والمصلح من جهة أخرى، أي الدمج بين المفكِّر والداعية. وهذه هي السمة العامّة التي تطبع فكر مثل: سيّد قطب، ومحمد حسين فضل الله، ومحمد الغزالي، ويوسف القرضاوي، وغيرهم.

ب ـ مطالعة نصوص الجهاد من زاوية الحاجة الميدانيّة، بمعنى أنّ الجانب الذي كان ينظر فيه هؤلاء إلى فلسفة الجهاد ونصوصه كان مدى الحاجة الاجتماعيّة إلى هذا الموضوع أو ذاك، إلى هذا الملف أو ذاك… فالمرحلة كانت تستدعي إحياء المفاهيم، لا دراسة المساجلات الفكريّة فيها. لهذا لا نجد عند هؤلاء في هذه المرحلة تناولاً جادّاً لملفّات فكريّة شائكة في الجهاد، دون أن تكون همّاً اجتماعيّاً وإحيائيّاً.

 

2ـ الملفّ الدفاعيّ

ثاني الملفّات كان الملفّ الدفاعيّ. فالإحيائيّون المسلمون، منذ محمد عبده وجمال الدين الأفغانيّ، اهتمّوا من جهةٍ بإعادة استحضار مقولات إسلاميّة كانت قد ماتت تقريباً على مستوى الحياة اليوميّة للمسلمين، كما نجد ذلك واضحاً في كلمات الإمام الخمينيّ والعلاّمة الطباطبائيّ حول القرآن الكريم، وكيف تحوَّل مجرَّد تمائم للأطفال أو تلاوة على الأموات وفي المقابر. ونجده مع حسن البنّا وسيّد قطب في حديثهما عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونظام السلطة و…

هذا هو الجانب الإحيائيّ الذي يمارس عمليّة تذكير للأمّة بما اختفى من مقولات الإسلام في بطون الكتب. ولهذا اعتقد الإحيائيّون أنّ التراث المدفون في المكتبات والمخطوطات قادرٌ ـ مع بعض الإصلاحات ـ على إدارة حركة الأمّة، وأنّ المسلمين ـ لو عادوا إلى هذا التراث ـ قادرون على حلّ مشاكلهم. لهذا سعى الإحيائيّون إلى إخراج هذا التراث من المدفون إلى المقروء، فعملوا كثيراً على تغيير لغة التراث؛ لتكون واضحةً وعصريّة تتَّسم بالمواكبة. وهذا ما يظهر جليّاً مع تفسير المنار، وأعمال كلٍّ من: الشيخ محمد عبده في تطوير مناهج التعليم في الأزهر، والشيخ محمد رضا المظفَّر في تطوير مناهج التعليم في النجف، وغيرهما… وكذلك ما قام به علماء، مثل: مرتضى مطهَّري، ومحمد باقر الصدر، ويوسف القرضاوي، ومحمد الغزالي، ومحمد جواد مغنيّة، ومحمد حسين هيكل و…

كانت هذه بعض ملامح الحركة الإحيائيّة. لكنْ إلى جانبها ومعها ظهرت الحركة الدفاعيّة؛ حيث لم يتمكَّن النهضويّون المسلمون من إنجاز الإحياء إلاّ إذا مارسوا إلى جانبه حملة منظَّمة ومكثَّفة للدفاع عن المفاهيم المحياة التي أقصيت أو شوّهت بفعلٍ عمديّ، أو لتراكم الظروف والأوضاع. فهناك الكثير من المقولات الدينيّة الراقدة كانت قد تبلورت لها في الوعي العامّ الإسلاميّ، فضلاً عن غيره، صورٌ مشوَّهة أو مغلوطة تعرّضت لنقد وحملات أطراف معيَّنين، كان من أبرزهم فريقان: أحدهما: خارجيّ؛ والآخر: داخليّ:

أـ أمّا الخارجيّ فتجلّى في حركة النقد الاستشراقيّ، التي اتَّسمت قبل القرن العشرين بظاهرة الانحياز الذي حملته بأشكال مختلفة منذ الحروب الصليبيّة، التي يعتبرها بعض الباحثين البدايات الأولى لحركة الاستشراق… من هنا تركَّزت الانتقادات على المفاهيم الإسلاميّة، ومنها: مفهوم الجهاد، كما سنلاحظ فيما بعد. ومن الطبيعي هنا أنّ الإحيائيَّ سيواجه واقع النقد هذا حتّى يتسنَّى له النجاح في مهمّة النهوض بالأمّة عبر هذه المفاهيم التي يقوم بإحيائها.

ب ـ وأما الداخليّ فتمثَّل في حركات التغريب والتشريق التي سادت العالم الإسلاميّ. وعندما نقول: التغريب فلا نعني هنا منقصةً بالضرورة، وإنّما التوصيف. فهم ـ شئنا أم أبينا ـ يقعون على هامش الحداثة وأحداثها. وهؤلاء تنوَّعوا بين ميّال للثقافة الغربيّة، ولا سيّما على مستوى ملفّ حقوق الإنسان، وميّال للثقافة الشرقيّة الشيوعيّة والاشتراكيّة، ولا سيّما على مستوى موضوع الاقتصاد والنظم الاجتماعيّة.

وقد انتقد هؤلاء المفاهيم الدينيّة عندما ظهروا ضمن الحركات التي صاحبت أو أعقبت انهيار الدولة العثمانيّة، من حركة تركيا الفتاة، والاتحاد والترقّي، والحركة القوميّة العربيّة والفارسيّة، مروراً بالاشتراكيّين والماركسيّين، وصولاً إلى حركات النقد الألسنيّ والمعرفيّ المتأخِّرة، منذ السبعينيّات وإلى عصرنا الحاضر…

هذه التيّارات سعى الإحيائيّون ـ كلٌّ حسب زمنه ـ لمناقشتها. ولهذا كان الملفّ الدفاعيّ حاضراً بقوّة في كتابات هذا الفريق ضدّ النقّاد على أشكالهم. وهي حركةٌ سرعان ما تطوَّرت إلى مواجهات بين التيّارات الفكريّة وصلت إلى السياسة. ومن أبرز أشكال التصادم تجارب كلٍّ من: الحركة الدستوريّة (المشروطة والمستبدّة)؛ وكذلك موسى سلامة وفرج فودة وطه حسين وعلي الوردي وعلي شريعتي…؛ وصولاً إلى المواجهات العنيفة خلال العقود الثلاثة الماضية حتّى بين أطراف محسوبين أنفسهم على الحركة الإحيائيّة.

 

فرق الاتّجاه الدفاعيّ وتياراته

من هنا تمّ تناول قضايا الجهاد بروح دفاعيّة. كان هذا الفريق من الباحثين مهتمّاً بالردّ على الإشكاليات الموجَّهة ضدّ قضايا الجهاد من طرف المستشرقين والنقّاد الداخليّين. لهذا وجدناه ينقسم إلى فريقين، من حيث المنهج والأسلوب:

الفريق الأوّل: وهو الفريق الذي غلب عليه في العمليّة الدفاعيّة طابع المساجلة والنقد العنيف، واستخدام منطق المؤامرة، وتغليب الأسلوب الخطابيّ التحريضيّ؛ إمّا لإثارة الرأي العامّ؛ أو لغير ذلك. وهذا النوع من الكتّاب لم يقدِّموا في الغالب شيئاً معمَّقاً ودراسات جادّة. ويمكن أن نلاحظ ـ على سبيل المثال ـ المعركة التي وقعت بين عبد الله البراك ومحمد سعيد رمضان البوطي في موضوع الجهاد الابتدائيّ وغيره. كما يمكن ملاحظة أعمال محمد خير هيكل في الجانب الدفاعيّ من كتابه وموسوعته حول الجهاد، وكذلك الخطاب السلفيّ القطبيّ (نسبةً إلى سيّد قطب) كما يحلو لبعضهم تسميته، أي الاتّجاه السلفيّ الجهاديّ في طريقة دفاعه عن الملفّات الجهاديّة، مثل: المعركة التي وقعت حول فتوى ابن باز في مسألة العمليّات الاستشهاديّة، وحول الموقف من الحكّام المسلمين ومجاهدتهم أيضاً، وكذلك تلك التي وقعت على خلفيّة الحضور الأجنبيّ في حرب الخليج الثانية. ولم تخلُ مساهمات هذا الفريق من التفاتاتٍ وأفكار مهمّة وقيمة، لكنّ المجمل العامّ كان ضعيفاً في تناول الموضوعات.

الفريق الثاني: وهو الفريق الدفاعيّ العلميّ… فريقٌ كأنّه تعلَّم من التجربة السجاليّة والدعويّة، ليعيد إنتاج الأفكار بطريقة علميّة وأكاديميّة هادفة هذه المرّة، ولو على مستوى اللغة والخطاب، مثل: حركة الدكتور طه جابر العلواني ومركزه وجامعته، ومثل كلٍّ من: العلاّمة محمد حسين الطباطبائي، والسيد محمد حسين فضل الله، والشيخ محمد مهدي شمس الدين، والسيد محمد باقر الصدر، والسيد موسى الصدر، والشيخ مرتضى مطهَّري، والدكتور محمد خير هيكل، وأبو الحسن الندوي، وسيّد قطب، وعبد الكريم زيدان، ومصطفى الرافعي، ومحمد عزّة دروزة، والشيخ محمود شلتوت، والشيخ محمد أبو زهرة، والمودودي، وغيرهم.

هذا الفريق قدَّم أشياء مفيدة، وأكثر نضجاً وعلميّة. ولهذا سرعان ما ظهر وسط هذا الفريق حركةٌ اقتربت من المشروع النقديّ بالدرجة عينها التي ابتعدت فيها عن المشروعَيْن: الإحيائيّ؛ والدفاعيّ.

إنّ الحركة الدفاعيّة في الأمّة عبَّرت عن حالة صحيّة في أكثر من موقع؛ لأنّ ولادة التحوُّلات الكبرى لابدّ أن تكون عبر مخاضاتٍ عسيرةٍ تحتاج لوقت، ولا يستطيع فيها أيُّ إنسان وبسهولة أن ينجز أفكاره ويهيمن بها دون أن يواجه نقداً. فهذه الحالة صحيّةٌ إذا بقيت عند حدود القواعد العلميّة والأخلاقيّة. والمؤسف أنّها وإنْ فعلت ذلك على بعض المستويات، لكنّها خرجت عنه في مستويات أخر، قد نشير إليها فيما بعد.

وبهذا كلّه هيمنت على حال الأمّة الإسلاميّة منذ القرن التاسع عشر حركة الإحياء والدفاع؛ لتعيد طرح الإسلام إلى الواجهة، ولتستعيد مقولاته لحلّ الوضع المتردّي. وأحد الأسباب الجوهريّة في ظهور التيّار الإحيائيّ الدفاعيّ في الأمّة هو تدهور حال الأمّة وتخلّفها، الأمر الذي دفع المفكِّرين المسلمين إلى طرح السؤال التاريخيّ الذي استمرّ أكثر من قرن: لماذا تخلَّف المسلمون وتقدَّمت أوروبا؟!

وحتّى ثمانينيّات القرن العشرين، بل وبعد ذلك، كان الجواب المهيمن في الوسط الإسلاميّ هو أنّ المسلمين تركوا فرائض الإسلام، ولو عادوا إليها لانحلَّت مشاكلهم بأكملها. من هنا طرح الشعار التاريخيّ، الذي تحوَّل إلى شعار الحركات الإسلاميّة كلّها أو جلّها: الإسلام هو الحلّ… ولهذا عينه جاءت حاجة إحيائه والدفاع عنه.

 

3ـ الملفّ النقديّ

ثالث الملفّات هو الملفّ النقديّ. وقد غطّى مساحة لا يستهان بها في دراسة الفكر الإسلاميّ، ومنه: موضوعات الجهاد، فارزاً تيّاراً نقديّاً واسعاً. وقد بدأت الحركة النقديّة لبعض المقولات الإسلاميّة مع الباحثين الغربيّين (المستشرقين بالخصوص). فقد درس هؤلاء موضوع الجهاد ـ وبشكلٍ رئيس ـ على خطَّيْن: أحدهما: خطّ التاريخ الإسلاميّ، وثانيهما: خطّ التشريعات الإسلاميّة في حقّ غير المسلمين، وخاصّةً اليهود والنصارى. وهذا ما اهتمّ به بشكلٍ مميَّز الباحثون القرآنيّون منهم، وباحثو السيرة النبويّة.

وكانت الموضوعات الأساسيّة التي شغلت المستشرقين هنا تتمحور حول العلاقة بين الإسلام والقوّة، وأنّ الإسلام بدأ ديانةً داعية للحوار والسلام والجدال بالتي هي أحسن وإبداء المظلوميّة و…، لكنّه سرعان ما غيَّر مفاهيمه عندما أمسك بزمام السلطة، وهذا ما يراه المؤرِّخون من المستشرقين وعلماء القرآنيّات منهم في تحليلهم لسيرة النبيّ| في مكّة والمدينة، ويراه بالخصوص المختصّون بالقرآنيّات، ولا سيّما في موضوع المكّيّ والمدنيّ؛ حيث يجدون تحوُّلات كبرى حصلت على هذا الصعيد.

هذه العلاقة السلبيّة بين الإسلام والقوّة أو السلطة شكَّلت مركز تفكير المستشرقين في قضيّة الجهاد، فدرسوا باهتمام بالغ ظاهرة الفتوحات الإسلاميّة، وأنّ الإسلام قد انتشر بالسيف. فبعد أن طلب من النبيّ| أن ينذر عشيرته الأقربين تطوَّر الموقف فيما بعد لينذر أمّ القرى ومَنْ حولها، ثم ليتطوَّر فيما بعد ليؤمَر بإنذار العرب، ثم بعد ذلك ليعلن أنّ الرسالة كانت رحمةً للعالمين… هذا التطوُّر في الخطاب هو الذي أسّس ـ بفعل العلاقة مع القوّة ـ لثقافة نشر الإسلام بالسيف، وهو الذي شكَّل شرعيّة الغزو واحتلال الأراضي وإبادة ثقافات وشعوب ولغات و…؛ بفعل الفتوحات الإسلاميّة. ذلك كلّه من وجهة نظر المستشرقين.

إنّ طريقة تعامل المسلمين مع غيرهم ـ تسامحاً وتشدُّداً ـ شكَّلت محوراً آخر. فسياسة فرض الرأي والقمع والتقتيل والغارة شكَّلت مادّة نقديّة دسمة للمستشرقين؛ ولهذا اهتمّوا بفكرة الجهاد الابتدائيّ، وتخيير الناس بين الإسلام والقتل أو إلى جانبهما الجزية، وهو النظام الذي حمل صورةً سيّئة في الوعي غير المسلم. وظهر هنا البحث الاستشراقي في ملفّات مثل: حادثة بني قريظة، التي اعتبروها جرائم حرب وإبادة، وكذلك إعدام أو اغتيال الأسرى والشعراء في مناسبات متفرِّقة.

من هنا ساهم كلٌّ من: كارل بروكلمان، ودومينيك سورديل، ووليام مونتغمري واط، وأجناس جولدتسيهر، ويوليوس فلهاوزن، وفيليب فونداس، وماكدونالد، وبرنارد لويس، وفايرستون، وبلاشير، وثيودور نولدكه، ولامانس، ورودنسون، وفايزر، وكارين، وآرمسترونغ، وإسرائيل ولفنسون، و…، ساهموا في دراسة قضايا السيرة والتاريخ والقرآنيّات والتشريع، ولا سيّما أنّ أكثر المستشرقين يرون أنّ الإسلام ليس سوى تركيبة عربيّة لديانات ثلاث، هي: المسيحيّة، واليهوديّة، والمجوسيّة…

وعندما نتحدّث عن المستشرقين فلا يصحّ أن نتصوَّرهم ـ كما يفعل بعضنا ـ فريقاً واحداً متَّحداً في الآراء والأفكار. فقد شهد القرن العشرون بالخصوص تطوُّراً في الدراسات الاستشراقيّة حوَّلته ـ أي الاستشراق ـ إلى مدارس متعدِّدة؛ قوميّاً وفكريّاً ومنهجيّاً. لهذا كان بعضهم يدافع عن بعض المقولات الإسلاميّة، وصار بعضهم الآخر يحلِّل الظروف في مناخها التاريخيّ، ولا يسقط عليها ثقافة العصر الحاضر… إنّ القرن العشرين شهد تطوُّراً في الاستشراق العلميّ غير المنحاز، أي ليس الاستشراق الكنسيّ المتمثِّل بمجموعة من الرهبان الذي بحثوا حول الشرق، ولا الاستشراق الاستعماريّ المتجلّي بمجموعة من موظَّفي ما كان يُعرف بوزارة المستعمرات في الامبراطوريّات الأوروبيّة السابقة، كبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا و… من هنا تنوَّعت أخيراً آراء المستشرقين، وحصل تبدُّل كبير في مطالعة بعضهم للإسلام. وهذه نقطةٌ لابدّ أن تؤخذ بعين الاعتبار.

ومن ثنايا الفعل الاستشراقيّ؛ وتأثُّراً به وبغيره مع جهود ذاتيّة، ظهرت الحركة النقديّة في الوسط الإسلاميّ، والتي برز عددٌ من كبار رجالها بوصفهم تلامذة للجامعات والأساتذة الغربيّين والمستشرقين. وقد اهتمّ أنصار هذه الحركة بالواقع الداخليّ في الحياة الإسلاميّة، واعتبروه مسؤولاً عن المشكلة القائمة المسبِّبة لتخلُّف المسلمين، وأنّه ليس من الصحيح دوماً أن نلصق سبب تخلُّفنا بالآخر ـ أيّ آخرٍ كان ـ. كما أنّ الموضوع ليس موضوع عدم تطبيق الشريعة الموجودة في بطون الكتب، وعدم إحياء الإسلام التاريخيّ التراثيّ…، بل هو أبعد من ذلك. إنّه يكمن في بُنية الوعي والثقافة والعلم عندنا. إذاً فلابدّ من الحفر في التراث ونقده، وتمييز غثّه عن سمينه، إلى جانب الانفتاح على ما يسمّى: حضارة اللحظة، وهي الحضارة الغربيّة، والإفادة من منجزاتها وعلومها. وبهذه الطريقة نضع ـ كما يقولون ـ أمّتنا على الطريق الصحيح، وندخل في مشروع إنقاذيّ شامل.

بدأت الحركة النقديّة الأولى في الهند في القرن التاسع عشر مع شخصيّات، كان أبرزها السير أحمد خان، الذي أسّس ـ مع وليّ الله دهلوي، على رأي بعضهم ـ فكرةَ تاريخيّة التشريعات الإسلاميّة، ثم انتقلت إلى مصر والشام. وهناك ظهرت أجيالٌ من النقّاد، كان من أبرزهم ـ كلٌّ في مجاله ـ: طه حسين، وأحمد لطفي، وأحمد أمين، وموسى سلامة، وخلف الله، ومحمود أبو رية، وحسن حنفي، وسيّد محمود القمني، وعلي حرب، وعلي الوردي، ويحيى محمد، ومعروف الرصافي، ونصر حامد أبو زيد، وفرج فودة، وخليل عبد الكريم، والمستشار محمد سعيد العشماوي، وعبد الله القصيمي، ومحمد شحرور، إلى أن برز المغرب العربيّ على هذا الصعيد مع محمد عابد الجابري، ومحمد أركون، وعبد الله العروي، ومحمد سبيلا، وعبد المجيد الشرفي. والخطّ عينه كان في إيران مع تقي زاده، وعلي شريعتي، وعلي أكبر حكمي زاده، وعبد الكريم سروش، ومحمد مجتهد شبستري، ومصطفى ملكيان، وعلي دشتي، وهاشم آقا جري، وأحمد قابل، ونعمة الله صالحي نجف آبادي و…

 

اتّجاهات الملفّ النقديّ ومناشطه

ما تقدّم لا يعني إطلاقاً أنّ النقديّين كانوا بأجمعهم يشكِّلون فريقاً واحداً، أو متأثِّرين بجهة واحدة، أو منطلقين من دوافع واحدة، بالضرورة، بل على العكس من ذلك تماماً، فقد كانت بينهم تباينات بلغت حدّ التناقض. ومن هنا تنوَّعت الميول والانتماءات الفكريّة للنقديّين ما بين أنصار الحركة الإسلاميّة في أقصى اليمين وأنصار التيّارات الليبراليّة في أقصى اليسار، كما تنوَّعت مستويات النقد عندهم ومساحته، تبعاً لقناعاتهم الدينيّة والفكريّة.

 

1ـ الحركة الإسلاميّة السياسيّة، مزيج النقد والإحياء والدفاع

أما على مستوى الانتماءات فنحن نجدهم على عدّةٍ، منها: الاتّجاهات المحسوبة أو المتماهية مع الحركة الإسلاميّة السياسيّة، التي يسمّيها بعضهم بـ (الإسلام السياسيّ). وهذا الفريق النقديّ عمل على نقد التيّارات التقليديّة في الأمّة، وانتقد الفهم الحرفيّ للنصوص، ودعا إلى مقاربة الواقع في فهم النص، ورفض ظاهرة إقصاء أحكام أو تعطيلها أو تأجيلها لحساب أحكامٍ أخرى، وفعَّل نظريّة المهمّ والأهمّ، وأعاد استحضار مفهوم المصلحة والواقع، وركَّز مجدَّداً على الاهتمام بالعقل، سواء على صعيده الفلسفيّ، كما مع الأفغاني ومحمد باقر الصدر والخميني ومرتضى مطهَّري، أم على الصعيد المعتزليّ، كما مع محمد عبده ومحمد عمارة و…

فمن نماذج رفض التعطيل في الإسلام سعى النقّاد هنا إلى نقد التصوُّرات الفقهيّة التقليديّة عن تطبيق الشريعة، ولا سيّما في الوسط الشيعيّ. كما انتقدوا بعض النظريّات التي تعطِّل الأحكام الشرعيّة بحجّة ارتباط الشريعة بالمعصوم وحضوره. وهذا ما نلاحظه عند أنصار حركة الإمام الخمينيّ في موقفهم من صلاة الجمعة، ومن تعطيل الجهاد، وتأجيل تطبيق الحكم الإسلاميّ إلى أن يخرج الإمام المهديّ، ومن تعطيل إقامة الحدود والتعزيرات. فهناك نزوعٌ في الحركة الإسلاميّة السياسيّة ـ وبالأخص الشيعيّة ـ إلى رفض ما يمكن تسميته بالنزعة التعطيليّة في الفقه.

ومن نماذج تنشيط نظريّة المصلحة وقانون الأهمّ والمهمّ التجربة الإسلاميّة الإيرانيّة في التقنين بعد انتصار الثورة الإسلاميّة. ففضلاً عن شهادةٍ صريحة من الشيخ علي أكبر هاشمي رفسنجاني بأنّ الكثير من أحكام المسائل الاجتماعيّة اليوم تصدر على أساس المصلحة (انظر: مجلّة فقه أهل البيت، العدد 31: 107، السنة الثامنة، 2003م، مقال: الملتقى العلمي التخصُّصي حول الفقه والفلك) ثمّة واقعٌ خارجيّ يدلِّل على مدى إعمال نظام المصلحة والأولويّات التي تخضع لحساب العقل في التقنين وفي ابتكار المخارج الفقهيّة لأزمات الواقع، كما هي الحال مع قضايا المرأة والسياسة وغيرهما.

إذاً ففريق الحركة الإسلاميّة السياسيّة مارس حركةً نقديّة قويّة ضدّ الإسلام التراثيّ، وانتقد بعض أشكال تعاطيه مع الشريعة، وحتّى باب الجهاد. فقد انتقد الإسلاميّون تغييبه وتعطيله عند التراثيّين لصالح نظريّات مثل: التقيّة، واللبد في الأرض، عند الشيعة؛ وطاعة الحاكم، عند أهل السنّة، في وقت جعلوا قضيّة الجهاد بيد الحاكم الشرعيّ، الذي أعمل ويُعمل فيه نظم المصلحة والحسابات الخاضعة لنظام الأهمّ والمهمّ، وتقييم الدولة أو الجماعة السياسيّة ـ بما يملكانه من عقل بشريّ ـ لأرض الواقع. والملفت أنّ الإسلاميّين الشيعة رغم تربُّع الجهاد بألوانه على عرش المبادئ عندهم فإنّهم ـ والحقُّ يقال ـ لم يمارسوا بالشكل الكافي دراسات جادّة فقهيّة له، اللهمّ إلاّ قليلاً مع مثل: السيد كاظم الحائري، والسيد محمد حسين فضل الله، والشيخ حسين علي منتظري، والشيخ محمد مهدي شمس الدين، والشيخ محمد مهدي الآصفي، و…. وفي تقديري إنّ أحد أسباب ذلك هو تحويلهم قضايا الجهاد إلى الحاكم، واستبدالهم ـ عفويّاً ـ نظام النصوص، بما تعطيه من أحكام أوّليّة، بنظام العقل والمصالح الشرعيّة على مستوى التفاصيل المتحرِّكة، بما تعطيه من أحكام ثانويّة؛ نظراً لحساسيّة المرحلة الراهنة.

وبهذا نستنتج أنّ عملية النقد عند الحركة الإسلاميّة السياسيّة كانت تنتقد الإسلام التقليديّ. لهذا لمّا وجدناها في بعض المواضع أمسكت بالسلطة لم تعُدْ تمارس حركة النقد هذه بقوّة، بل حضرت معها الحركة الدفاعيّة لظهور تيّار نقديّ جديد جعلها بمثابة التيّار التراثيّ أمامه.

 

2ـ حركة الإصلاح الاجتماعيّ الحقوقيّ، امتدادٌ للمشروع السياسيّ

اختلف هذا الاتّجاه من جهة مع تيّار الحركة الإسلاميّة، والتحم معه من جهة ثانية؛ بمعنى أنّه أعطى أولويّة للقضايا الاجتماعيّة. فتيّار الحركة الإسلاميّة يمتازون بصهر كلّ مفاهيم الإسلام في الدولة والسياسة. وهذا ما أدّى إلى مقولة السيّد الخميني الصريحة التي ترى في الدولة تجسيداً للفقه كلّه، أي دمج كلّ مظاهر الحياة في السياسة، وهذا ما نجده عند التيّار السلفيّ (القطبيّ) الذي يعطي الجهاد الأولويّة الأولى، وتأجيل تمام الأمور إلى أن ينتهي موضوع الجهاد.

ثمّة ملاحظاتٌ نقديّة ـ بصرف النظر عن مدى صحّتها ـ سُجِّلت على هذا النمط من التعاطي في جانبه المفرط، ومن ذلك: ما نجده عند أنصار الإسلام الاجتماعيّ، الذين يولون أهميّةً كبرى لقضايا الأسرة والعلاقات بين الناس، وقضايا المرأة، وقضايا الشباب، والمشاكل الأخلاقيّة والجنسيّة، وقضايا الجريمة و…. ومن هؤلاء نجد شخصيّات عدّة أطلقت حركةً نقديّة انطلقت من قضايا الواقع الاجتماعيّ، مثل: العلاّمة فضل الله، الذي يعدّ الملف الاجتماعيّ أبرز أولويّاته، ومنه أطلق حركةً نقديّة في الفقه طالت قضايا المرأة والشباب والأسرة والعلاقة مع الآخر وغير ذلك. ومن هذا النموذج نجد السيد محمد خاتمي، الذي ركّز على قضايا الشباب والعلاقة مع الآخر. وكذلك الشيخ يوسف القرضاوي، والشيخ شمس الدين، وغيرهم.

وإذا أجرينا مقارنةً بين الحركة الإسلاميّة السياسيّة والإسلام الاجتماعيّ الحقوقيّ نجد اختلافاً في رسم الأولويّات، ونلاحظ أنّ أنصار الإسلام الاجتماعيّ حاولوا التخفيف من تعاظم أولويّات الإسلاميّين السياسيّين، التي رأوها ابتلعت كلّ القضايا الأخرى، واعتبروا أنّه داخل الجماعات السياسيّة ظهرت فجوات وأزمات اجتماعيّة حادّة، حتّى في الوسط الدينيّ؛ بسبب إهمال هذه الملفّات؛ وأحياناً بسبب الإقدام على حلّها بدافع حماية الجماعة السياسيّة من التفكُّك.

من هنا وجدنا أنّ الإسلام الاجتماعيّ يقترب من الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان أكثر. ولهذا عندما يدرسون مثل الجهاد يهمُّهم جدّاً موضوع العلاقة مع الآخر، فنجدهم أقرب ميلاً إلى سياسة التسامح من سياسة الجهاد والعنف. وهذه نقطةٌ أساسيّة نجدها واضحةً في أعمالهم ومواقفهم من قضايا الجهاد.

 

 

ـ يتبع ـ

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً