أحدث المقالات

القسم الثاني ـ

 

الشيخ محمد اكبر نجاد(*)

ترجمة: نظيرة غلاب

 

العلماء والحرب على الخرافة ــــــ

ينظر إلى العلماء على أنهم الامتداد الطبيعي للأنبياء والأوصياء؛ باعتبارهم ورثة علمهم. لذا فإن من بين وظائفهم الوقوف أمام الخرافة؛ بلحاظ كونها تتناقض والعقل والنقل، وقوفاً يكون في قمة الشدة وعدم التسامح مع أي شكل من أشكال الخرافة. لكن يبقى السؤال حول وظيفة العلماء تلك: هل لها ما يدل عليها؟ ما هي الطرق التي من خلالها يتمكن العلماء من محاربة الخرافة وإبادتها؟ وهل وُفِّق العلماء فعلاً في هذه الحرب؟

لا أحد يجادل في أن العلماء كانوا ولا زالوا الركن المهم في حفظ عقائد المذهب الشيعي وفقهه وأخلاقه في زمن الغيبة. فالتاريخ أثبت أنه لو لم يكن علماء المذهب الربانيين لما استطاع مذهب أهل البيت^ الصمود أمام كل العقبات، والهجوم، وحرب الإبادة التي خاضها ضده جمعٌ من المخالفين بعد غيبة الإمام المعصوم#، ولما استطاع عوام الشيعة الذين لا يملكون علماً الصمود أمام ما يعرض عليهم من الأفكار والنظريات، التي تغلف بغلاف الحق والصواب، وتعرض في قوالب تاريخية موثَّقة، أو في قوالب منطقية عقلية، ولانعدم أيّ خبر عن الإمام الحجة#، ولم يبقَ له أثر، ولا دلّ عليه دليل. قال الإمام الهادي× في تبيين دور العلماء المخلصين: «ولولا مَنْ يبقى بعد غيبة قائمكم× من العلماء الداعين إليه، والدالين عليه، والذابّين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلا ارتدّ عن دين الله، ولكنهم الذين يمسكون أزمّة قلوب ضعفاء الشيعة، كما يمسك صاحب السفينة سكانها، أولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل»([1]).

والباحث في تاريخ الشيعة يجده حافلاً بالعديد من الأسماء لعلماء وقفوا ضد التيارات المنحرفة، كما وقفوا ضد أعداء المذهب وتصدّوا لهم، وحاربوا بأقلامهم وخطبهم كل أشكال الخرافة، وكشفوا للناس كذبها وعدم صدقها وواقعيتها. بل إن هناك من استشهد في هذه الطريق، فداءً للحق، ودفاعاً عن العقلانية والشرعية. إلا أن هذا لا يعني أن الحوزات العلمية ومناهج العلماء المحاربين للخرافة غير محتاجة إلى النقد الفعّال، وتشخيص بعض النقاط الخاطئة في مسيرتهم تلك. فالنقد وتعيين موضع الخطأ من شأنه الدفع أكثر بهؤلاء المخلصين إلى مزيد من التقدم، ومزيد من التوفيق. فلا أحد سوى المعصوم يسلم من الخطأ، ولكن الأصحّ أن يستفاد من الأخطاء بدراستها، وإظهار جوانب الضعف فيها، ومحاولة تصحيحها وترشيدها. فأي نقد يوجَّه للعلماء الذين أخذوا على عاتقهم محاربة الخرافة لا يعني بأي وجه محاولةً للمساس بمكانتهم، أو التجريح في قدراتهم. فالاعتراف بفضل العلماء في حفظ الدين فوق أن يكون مجرد مجاملة، بل هو حقيقةٌ كالشمس الساطعة، ظاهرةٌ للعيان عبر التاريخ، وكل فرد من أبناء هذه المدرسة مدينٌ لعلمائها، سواء الذين مضوا أو الذين لا زلنا ننعم بظلّهم، في كل صغيرة أو كبيرة من حياتنا.

 

انسياق الأوساط العلمائية في الحوزات العلمية لأفكار العوام ورؤاهم ــــــ

لقد برز علماء الشيعة في تواصلهم مع الجماهير، فلم تكن حركتهم من برج عالٍ، بل من وسط الناس وملاقاتهم لجميع الفئات، مجيبين عن كل احتياجاتهم. لذا نستطيع القول: إن حركة العلماء حركة جماهيرية، فحافظ كل واحد منهم على الآخر، وتمسكوا فيما بينهم ضد كل الرياح العاتية. لكن هذا التواصل مع الناس، وهذه العلاقة المنفتحة على الجماهير، وما لها من الأهمية والدور الفعّال في حفظ الدين، هي في نفس الوقت من الخطورة العظيمة بمكان، فقد كانت المحطة التي ألحقت الأذى بمصداقية العلماء. فاتصالهم بالجماهير، وانغماسهم في مشاكل الناس واحتياجاتهم الدينية، جعلهم يغفلون عن التصدي للأمور السياسية، وبالتالي امتلاك مناصب في الدولة تضمن لهم حقّهم السياسي، وتعطيهم الفرصة في الاستفادة من أموال الدولة في تسيير أمور الحوزات والأماكن الدينية. هذا الحرمان وهذا الضعف المالي جعلهم يعتمدون على ما ينفقه الناس، وما يعطونه من أموال في ظلّ المستحقات الشرعية؛ لأجل تنظيم الأمور الدينية. هذا الاعتماد على أموال الجماهير ـ رغم ماله من الامتيازات ـ كان سبباً في سوء استفادة الكثير من الأغنياء وذوي الثروات الهائلة من جهة، ومن جهة أخرى فإنه أصبح سلطة قهرية بيد الجماهير تسلِّطها على الدين والعقل، وهي سلطة فردية، وليست مؤسساتية. لذلك كان التأثير السلبي قاسياً جدّاً على العلماء، وعلى المسار العلمي والتاريخي للدين. فقد أصبح العلماء يداهنون العوام، حتى لا تنكمش عنهم تلك الموارد المالية. ودفع بالبعض منهم إلى التسامح مع بعض أخطاء هؤلاء الجماهير، وغضّ الطرف عمّا يرتكبونه من سوء، لدرجة أنهم فقدوا القدرة على الوقوف في مقابل أخطاء الناس وانحرافاتهم، ولم يعودوا يستطيعون مواجهتهم. فبدل أن تقرّ هذه الجماهير أنها مدينة للعلماء بالفضل، في حفظ وجودها، وكيانها العقدي والروحي بشكل عام، أصبحت ترى أنها المتفضِّل على العلماء بالقوت، وأنها وليّ نعمتهم. وهي مفارقة خطيرة الأبعاد على الحوزات العلمية والعلماء من جهة، وعلى الكيان الديني للجماهير من جهة أخرى.

ومن جهة أخرى فإن عوام الناس قبل أن تستأنس بعلوم ومعارف العقل والوحي غلب عليها الرجوع إلى الخيال، وما ينسجه ذهنها من الأفكار، أو ما ينسجه الفكر الجمعي من أفكار. فشتّان ما بين تديُّن العلماء والباحثين وبين تدين عوام الناس. وفرق كبير بين معارف هؤلاء وأولئك. ففكر العوام متولِّد من تراكمات خرافية، ومبنيٌّ على قاعدة من الاشتباهات والأخطاء. لذا فحين حوَّل العلماء قواعدهم إلى وسط الجماهير؛ من أجل الوقوف في وجه الحكومات غير الشرعية، والتي كانت تتعسف على حقوق تلك الجماهير، وتمارس عليها السلب والقهر، كان العلماء يستنصرون بالجماهير، ويستمدون منهم القوة في المواجهة، فنتج عن هذا السلوك أن فقد العلماء قدرتهم إلى حدٍّ كبير على التصدي لما يصدر من تلك الجماهير من أفكار منحرفة ومعتقدات خاطئة، وهذا ما بعث على تسرب أفكار ومعتقدات العوام وميولاتهم إلى أوساط العلماء. وعندما يصبح العلماء بوقاً لأفكار العوام فإنهم يكونون بالتالي الأرضية الكبرى لظهور الخرافات، وتصاعد وتيرتها بالعناوين الشرعية.

إن سلطة تفكير العوام في حقيقتها آفة كبيرة، أخذت العلماء في شراكها، فلمعت وحسنت واجهتها بهم، وحكمت عليهم بالتزام السكون والسكوت. وهذا ما عبر عنه الشهيد الأستاذ مطهري بقوله: «كل مجتمع له آفات خاصة به، أما الآفة التي أصابت مجتمع العلماء بالشلل الانسياق لأفكار العوام. فخطورة سلطة العوام أفدح من خطورة السيول والزلازل والحيوانات السامة. خطورتها تكمن في سلطتها المالية داخل أوساط العلماء وعلماء الدين. هذه السلطة التي سلبتنا ـ نحن العلماء ـ كل مكانتنا. فالآن لم نعُدْ نستطيع أن نكون هادي القافلة وربانها، فقد حكمت علينا بالتزام السكوت، والرجوع إلى الخلف، وأصبحت هي القائد، وأوجبت علينا الطاعة»([2]).

عندما يريد علماء الدين القضاء على أصول الخرافة في المجتمع لابد لهم أن يخرجوا من تسلط العوام وسلطتهم. فالعلماء لا يمكن أن يكونوا مع العوام، ومساندين لهم، حتى في خرافاتهم، ويحترموا تلك الأفكار الضالة من جهة، ومن جهة أخرى يرغبون في القيام بواجبهم العلمائي في محاربة الخرافات والأفكار الضالة والمواقف الاستبدادية والتسلطية. فذهن وفكر العوام قد أُشرب الخرافة، بل أصبحت الخرافة ملازمة لهم. والوقوف أمام الخرافة يعني فتح بابٍ من الويلات والمصائب، واعتراضات الجماهير التي قد تتبلور في أشكال من العنف. وقد ينضم الطابور الخامس من العلماء، الذي ينعم في ظل الجماهير بالمال والشهرة، إلى الجماهير في مواجهتهم العلماء الأتقياء؛ دفاعاً عن خرافاتهم وأفكارهم الضالة، وبالتالي سيصبحون هم قادة الجماهير في الدفاع والمواجهة، مما يعني التشديد من صعوبة المهمة وتفاقم الأزمة.

 

خرافة انفصال الدين عن السياسة ــــــ

إن الاعتقاد بأن الدين ينفصل عن السياسة خرافة. منشأ هذه الأفكار والمغالطات هو عدم الفهم الصحيح للدين وللسياسة. فإن أهم شيء يدعو إليه الدين هو خلوص العبودية لله، وتطهير النفس من كل الأدران. ولأن أغلب الأمور المتعلقة بالجوانب المادية وبالسياسة تبعد عن هذا الهدف ظن البعض أن كل الأمور المادية والسياسية، كيفما كانت، بحسنها وقبيحها، مرفوضةٌ دينياً. وهذا ما دفع بالبعض إلى أن يتوهم أن الأول لا يساوق الثاني. وهذه النظرة في حقيقتها هي تحليل العوام للظاهرتين. لكن للأسف أضفي عليها طابع علمي. وهي في حقيقتها نظرة تخالف سيرة الأنبياء والأولياء، كما تتناقض ومحكمات القرآن والسنة. وقد ظهر في القرون الأخيرة جمعٌ من العلماء آمن بتلك الأفكار، فاعتبر السياسة خطاً أحمر لا يقربونها، ولا يقولون بها. وقد قدم الإمام الخميني& انتقادات عديدة، وفي أكثر من محفل، لهذه الأفكار، واعتبرها خرافة. قال&: «لقد كنا ـ ولمدة طويلة ـ في طرف أفكار العرفاء، وكان الإسلام كذلك في قبضتهم، يفسِّرونه طبق نظرتهم الخاصة واعتقادهم الخاص، وأصبح تفسيرهم للآيات يميل إلى تلك الجهة، كتفسير الملا عبد الرزاق. نعم، الملا عبد الرزاق عالمٌ فاضلٌ، لكنّه فسر الآيات بشكل وكأن القرآن لا علاقة له بالسياسة وبالحكم»([3]).

إنّ كل ما أنتجه هذا التوجه هو أنه صبغ الأحكام والمعارف العالية للدين الإسلامي بصبغة الخرافة. وهذا ما أشار إليه السيد الإمام&: «إن كونهم فسروا وبينوا الإسلام للناس في الداخل والخارج بشكل آخر غير الذي هو عليه؛ بقصد تسهيله عليهم، سلوكٌ خرافي، فهم يرَوْن أن الإسلام مطلب قديم، وهم يجندون كل طاقاتهم في الداخل والخارج ليفسِّروا للناس أن الدين شيء قد تجاوزه العصر، وأن الدين إذا ثبت فهو يصلح لما قبل ألف وأربع مائة سنة، ولا يتماشى وروح العصرنة»([4]).

الغلو في عصمة العديد من أحفاد الأئمة ــــــ

غالباً ما تكون بعض الشخصيات التاريخية، التي عرفت بالإخلاص والطهارة، والتي جلبت إليها مشاعر وعواطف الأمة والناس، موضع غلو طائفة من الناس، وتشدُّدهم في رفعها إلى مستويات من البطولة والشجاعة تتجاوز فيها حدّ المعقول. وقد مثَّلت بعض شخصيات كربلاء نموذجاً لهذا الغلو. فمعرفتنا ببعض شخصيات كربلاء، كالسيدة زينب÷، وأبي الفضل العباس×، وعلي الأكبر×، ابتدأت من آخر مرحلة من حياتهم، التي اختتمت بخاتمة درامية محزنة، حيث مورس عليهم الظلم، وقتلوا، وأسروا، وسلبوا. وهي مرحلة تاريخية شكلت منعطفاً خاصاً، وذاكرة حية في قلب الأمة. فحين تُذكر تلك الأسماء لا تجد في ذاكرة الأمة إلا تلك الأحداث التي وقعت في كربلاء.

وقد سعى الكثيرون في كتاباتهم وخطبهم إلى تأكيد عصمة تلك الفئة من المخلصين، ودافعوا عن هذا المعتقد بكلّ قوة. صحيحٌ أن إثبات عصمة هؤلاء أو عدم إثباتها لا يضيف إلى أمور الدين والدين شيئاً. لكن المهم أنه لكي نثبت عصمة هؤلاء الناس، الذين كانت لهم درجة عالية، وقل نظيرهم، لا يمكن أن يتمّ إلا من خلال مَنْ يماثلونهم في العلو والفضيلة، أو ممَّنْ هم أكبر منهم علواً وفضلاً. بمعنى آخر: إننا لا نملك القدرة في قياس تقوى تلك الفئة، ولسنا نملك الصلاحية في القيام بذلك؛ لأننا لسنا مطلعين على سرّهم وخلوتهم. فنحن لا نحكم إلا بالظاهر، والعصمة ليست مقتصرة على الظاهر. لذا يبقى الطريق الوحيد في إثبات أو نفي عصمتهم هو كلام المعصومين^. ولم يصل إلينا من طريق صحيح، أو حتى من غيرها من الطرق، أن المعصومين قالوا بعصمة هؤلاء. يستدل البعض على عصمة أبي الفضل العباس بقول الإمام الصادق×: «أبو الفضل العباس عمي»، أو قوله: «إن لأبي الفضل العباس مقاماً يغبطه عليه كل الشهداء يوم القيامة»، أو ما جاء في الزيارة الخاصة به، حيث أشير إليه بـ «العبد الصالح»، إلى غيرها من المواقف.

وإذا قلنا بأن صدور قول: «عمي» دليلٌ على العصمة فإن عصمة أبي ذر الغفاري ستكون أسبق من عصمة أبي الفضل؛ لأنه حين أراد أبو ذر الرحيل إلى منطقة الربذة ـ وهي المنطقة التي نفاه إليها عثمان ـ جاء أمير المؤمنين علي× وأولاده لتوديعه، وكان أن ودَّعه كل واحد منهم بكلمات، مثل ما قاله الإمام الحسين×: «يا عمي». أما كونه ذو مقام عالٍ يوم القيامة، أو أنه «العبد الصالح»، فهذا لا يحتاج إلى العصمة. وكذلك فإن عبارة «فهمة غير مفهّمة» لا تدل على العصمة في شيء.

واليوم ليس فقط عوام الناس من لا يقبل بأن تكون السيدة مريم÷ أعلى مقاماً من السيدة زينب÷، بل هناك الكثير من العلماء يجادلون في ذلك، رغم أن الحديث الذي صدر عن النبي الأكرم واضحٌ ومحدِّدٌ لمقام السيدة مريم بشكل لا يمكن نقاشه، حيث قال|، ما معناه: أعظم النساء درجة يوم القيامة: آسية امرأة فرعون، مريم، خديجة الكبرى÷، وفاطمة÷. فهل عدم إدخال النبي للسيدة زينب ضمن هؤلاء الأربعة ناتج عن عدم معرفته بما سيحدث لهذه الأمة؟ أو أنه لم يكن على علم بمقام حفيدته زينب؟!، إن القول بأن مريم أعلى مقاماً من السيدة زينب÷، لا يعني بأي وجه من الوجوه التنقيص من مقامها، ولا المساس بحيثياتها، ولكن حين يتحدث النبي| عن مقام تلك النسوة الأربعة فإنه حديث الإنسان الكامل المدرك لخفايا الأمور، والذي لديه نظرة سماوية للأشخاص، بالإضافة إلى أن قول النبي في مريم والثلاثة الأخريات قول وحي، انطلاقاً من الأصل العقائدي الذي تحدِّده الآية الكريمة من سورة النجم: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى﴾. لذا فإن العواطف لم تكن يوماً دليلاً يستدل به على قيمة الأشخاص الدنيوية، فما بالك بالمقام عند الله سبحانه وتعالى، وهي مقامات لا يطلع عليها إلا المعصومون^ والملائكة المقربون.

 

انسياق مجالس العزاء الحسيني لأفكار العوام ــــــ

إن المبدأ الأصيل عند العلماء في مجال الفتوى يقوم على الاحتياط. وهو أمر يتساوى في معرفته المقلِّد والمجتهد. لكن ما يستدعي الغرابة هو غياب هذا المبدأ كلّما وصل الأمر إلى مجالس عزاء أبي عبد الله الحسين×. ويكفي نظرة إجمالية إلى ما يقع به الاستدلال في ما يخص تلك المجالس ليلاحظ البون شاسعاً بين هذا الاستدلال وبين ما يستدل به في الأمور الفقهية. فلن تجد عبر جميع المراحل التاريخية أحداً من العلماء يرجع في استدلاله على أحكام الصلاة والزكاة والخمس وكل ما يرتبط بها إلى المكاشفات، أو الرؤيا، أو ما يراه العقل الجمعي، بينما أصبحت تلك الأدلة الظنّية الصدر الرحب الذي يرجع إليه كلّما تعلق الأمر بالعزاء الحسيني، وخصوصاً إذا كان الموضوع هو ضرب الرأس بالقامة (بالسيف) في اليوم العاشر من المحرم! على الرغم من وجود مكاشفات يتحدث فيها أصحابها عن اشمئزاز الأئمة ممَّن يضرب رأسه يوم العاشر، وكراهيتهم لهذا الفعل.

وربما يستند البعض من العلماء إلى مشاعره وأحاسيسه التي انتابته حين قرأ زيارةً من الزيارات المروية، فيكون ذلك الشعور دليله، يستدل به على الجواز أو عدمه، رغم أن دأب العلماء وسيرتهم هي جمع الروايات المروية حول موضوع واحد، ومن ثم النظر إليها بالطرق والأساليب العلمية. بينما يكتفي في العزاء الحسيني برواية واحدة توافق الضرب على الرأس ولطم الخدود وخدش الوجه وغيرها من الأعمال العنيفة، رغم أن هناك العديد من الروايات الصحيحة التي تخالفها وتعارضها. فتصبح هذه الرواية شعاراً يرفع في أيام عاشوراء، وأينما تجوَّل ناظرك فلن يجد سواها. وينقل أن عدداً من العلماء الكبار غير مستعدين للتصدي لهذا المنهج الخاطئ، ولا لأي شيء يرتبط بالعزاء الحسيني من قريب أو من بعيد، وكأن العزاء الحسيني أصبح منطقة محرَّمة على كل نقد وتصويب: «بالله لا تحرجنا في ما يرتبط بأبي عبد الله، فإننا لا نستطيع قول شيء حول هذه المجالس الحسينية»!.

هل هناك مانع شرعي يمنع مثل هؤلاء العلماء عن الكلام حول أحكام العزاء وما يرتبط بها؟ هل إذا قال أحدٌ من هؤلاء العلماء أن الإمام الحسين× قد أمر أخته أن لا تشقّ عليه جيباً، ولا تلطم عليه خدّاً، ولا تخدش وجهاً، إذا رأته مقتولاً صريعاً، يعتبر مساساً بقدسية وحرمة الحسين×؟! هل يعد هذا القول وغيره من أمثاله تجريحاً بمقام الحسين×، واستخفافاً بشهادته، وخطوة في سلب الذاكرة الشيعية هذه المظلومية وهذا الحق المغصوب؟! عندما تقرأ هذه الروايات الصحيحة، وترى الجماهير تغرق في روايات وأحداث لا تملك من الصحة مثقال ذرة، فبماذا ستفسر موقف العلماء ـ أو قُلْ بعض العلماء ـ المحايدين؟! بماذا ستوجه سكوتهم هذا؟! لا يوجد هناك من تفسير، وليس هناك من توجيه، أفضل ممّا رآه العالم الشهيد الأستاذ مطهري، حين قال: إنه الاستسلام لقدرة وسلطة العوام.

كتب أحدهم كتاباً تحت عنوان «الشعائر الحسينية»([5])، وقد تطرق في مقدمة الكتاب إلى موضوع الشعائر ومكانتها في القرآن الكريم، الذي نصَّ على حفظ الشعائر الإسلامية والتشبث بها، فقال: إن الشعائر الحسينية جعلت تحت تصرف الناس يقيمونها بالشكل الذي يختارون ويرون فيه صلاحها، والمهم في هذا أن الناس إذا رأوا في شكل من الأشكال ونحو من الأنحاء حفظاً لتلك الشعائر الحسينية فإنه ـ وفق التكليف القرآني ـ يجب الخضوع والاستسلام له. فهم الأكثرية، وهم بذلك المتشرعة في هذا الميدان، وليس غيرهم من العلماء والمحقِّقين. ولكي يثبت دعواه تلك استدلّ بالعرف وحجيته في تشخيص الموضوعات، ليخلص إلى أن تحديد نوع وشكل العزاء الحسيني بيد جمهور الناس. ومن هنا يجب العمل على حفظ تلك الشعائر كما يرونها، والتقيُّد بها. وأضاف: إنه مادامت الشعائر لا تدخل في منطق الحرام فإن إتيان المكروه لا يضرّ، بل يجب الامتثال له والتقيُّد به!

الأمر الذي يدعو للعجب في ذلك الكتاب هو أنه يرى الاحتكام لقول الأكثرية، وكأنه لم يلحظ أن القرآن قد ذمّ في عدة مواقع الأكثرية، واعتبر الاحتكام إليها سبباً في الضلالة والخسران. فالأكثرية عبر المسيرة التاريخية للبشرية دائماً تتَّبع الهوى، ولم يثبت أنها كانت في صف الحق، في صف الأنبياء والأوصياء: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ. بينما كانت الأقلية دائماً المثال والقدوة؛ لاحتكامها إلى العقل، وتقيدها بالعلم والمعرفة. فهل الاحتكام إلى الجهل والجهّال يرفع من مكانة الشعائر الحسينية؟ وهل التقيد بما يتنافى وما خرج من أجله الإمام الحسين×، ودفع دماءه الشريفة في طريقه: وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله، يعدّ تشريفاً في عرف هذا الكاتب ومَنْ هم على شاكلته؟ متى كان غياب التفكر العقلاني، وضعف الدين، بل الانحراف عن تعاليم الدين، شعيرة؟ ومتى احتكم إلى العوام، الذين لا يمكن القطع بكونهم فهموا دلائل العزاء الحسيني، واستوعبوا دروسه ومفاهيمه؟

لقد غفل الكاتب عن أن العوام أشدّ تعلُّقاً بأمور الدنيا منهم بأمور الدين. فإذا كان العرف حجة في تشخيص موضوع المسائل الدنيوية والمعاشية فإنه ليس حجة في تشخيص المسائل المرتبطة بالعقيدة والأصول العقدية للمذهب، كالإمامة، والعصمة، وكل ما يرتبط بهما، ولا يعتد بأقواله فيها. لكن هذا لا يعني بأن يُسلب الجمهور الحقّ في انتخاب بعض أشكال العزاء، فهم يتمتَّعون بالاختيار للأشكال والطرق التي يطمئنون إليها، ولكن ضمن شروط وقيود. فالعقل والشرع ميزانٌ لإثبات صحة الفعل من سقمه وبطلانه.

ومما يؤسف له أن يصبح طالب العلم، الذي قضى قسطاً من عمره في حجرات الدرس وبين الكتب، هو مَنْ يردِّد تلك الروايات الضعيفة، وتلك الخرافات التي لا تمتّ إلى العلم بصلة، لا فرق بينه وبين عوام الناس. فإن من عوامل الخرافة التي تكاد تكون السمة الأولى الحاضرة اليوم في خطب العزاء الحسيني الاتكاء على الروايات التي لا تخضع للشروط التي توافق عليها فقهاء الحديث. فاليوم لم تعُدْ تعمل هذه الخطب على إظهار فضيلة العزاء والتعزية في مصيبة الحسين×، بل أصبحت ميداناً لنشر الخرافات، وضرب مصداقية واقعة كربلاء، وهدفها في نشر الحرية والعلم، والتخلص من سلطة الكذب والزور.

 

اعتماد الرؤى والأحلام ــــــــ

من خلال المنامات والرؤى يدرك الناس الكثير من الوقائع والأحداث التي ترتبط بحياتهم أو بغيرهم. بها تكشف بعض الأمور التي لا يمكن أن تنكشف عن طريق العلم والمعرفة. فالكثير من الناس استشرف أمراً مستقبلياً، وظهرت له في أحلامه بعض حقائقه. ولا أحد يستطيع إنكار الأحلام والرؤى؛ فإن بعض الروايات الصحيحة تحدثت عن أن الرؤيا عند المؤمن تعادل تقريباً جزءين من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، بمعنى أنها تكشف حقيقة الأمور. فالكثير من الناس قد رأى في أحلامه حدثاً أو واقعة، وما هي إلا لحظة من الزمن حتى تتكرر تلك الأحلام، ولكن هذه المرّة في ظرف الواقع. فالأحلام والرؤى في الحقيقة هي إحدى الأدلة على المبدع، وعلى الأسرار التي أودعها في الإنسان. وكثيراً ما تحدَّث القرآن عن الأحلام والرؤى. فقصة إبراهيم× وما رآه في حلمه تكررت أكثر من مرة في القرآن، حيث قال تعالى على لسان إبراهيم×: ﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ(الصافات: 102). والآيات التي تحدثت عن الرؤيا التي رآها يوسف× في صغره، ومضت سنوات لتتحقق في كبره بكل حيثياتها: ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ(يوسف: 4).

ولم يقتصر القرآن على ذكر أحلام الأنبياء، بل ذكر إلى جانبها أحلام بعض الأشخاص الذين جمعتهم بعض الظروف مع الأنبياء، كصاحبَيْ يوسف×، اللذين كانا معه في السجن، ورؤية كلٍّ منهما حلماً عمل يوسف على تعبيره، وحلم ملك مصر الذي كان له شأنٌ خاصٌّ في قصة يوسف×. إذاً فللأحلام والرؤى واقعية، ولها جانب من الصدق والحكاية عن الوقائع التي خرجت من ظرف اللاشعور إلى ظرف الواقع، ولا يمكن التجرؤ على إنكارها، أو الادعاء المطلق بأن الأحلام ظرف يتفجَّر فيه ما يعيشه الفرد من كبت لشهواته أو حريته في واقعه اليومي، كما يدعي بعض علماء النفس الغربيين أو المستغربين. لكنّ التعامل مع هذه الأحلام وهذه الرؤى يكون ضمن شروط وقيود، فلا يستطيع كل واحدٍ أن يقوم من منامه ليتحدث عن تشريع إضافي، أو تكليف جديد، أو أن يتكلم عن شعيرة من الشعائر التي لم يعهدها الناس جزءاً من الدين أو أسلوباً شرعياً. فمجال أخذ التكاليف الشرعية والشعائر الدينية من المنابع الأصيلة للدين، وهي الكتاب والسنة. وإلى تلك الأصول والمنابع الأصيلة يحتكم الفرد المؤمن في كل ما يخصّ دينه ودنياه، لا فرق بين مجالس السرور والعزاء، أو مجالس الذكر والعبادة، ولا سلطة شرعية لحلم هذا أو رؤية ذاك. فالناس الذي يستيقظون من مناماتهم ليخرجوا على الناس بتكاليف وسلوكيات يحسبونها على الدين، والذين يمتثلون لهؤلاء، ويستسلمون لمطالبهم، أناسٌ يعملون بخلاف الشرع، ولا يوجد في الشرع أيُّ مسوِّغ لذلك النوع من التبليغ، حتى لو كانت الرؤى لعالِمٍ عارف. فاليوم أصبح الذين ينتجون الخرافات يعملون بطرق منظمة، وداخل مؤسَّسات تحت عناوين مختلفة، وغرضهم الأساس إبعاد الناس عن دينهم، وتمكين الجهل منهم، وإبعادهم عن التفكير العقلاني والعلمي؛ لتسهل السيطرة عليهم، والتلاعب بمقدراتهم.

إن ترويج هذا الاتجاه، والعمل على توسيع ميدانه، ذريعة في سحب قوة ومصداقية العقل والقرآن والسنة، وليبقى الدين مجرد تابع لتلك المؤسسات التي تصنع الخرافة وتمولها. وهذا ما أشار إليه الشيخ محسن الأراكي، الذي كان يعمل ممثِّلاً لقائد الثورة الإسلامية في إيران في الديار الإنجليزية، في لقاء له مع مجلة «الحوزة»، حيث قال: «قبل عشر سنوات، وحين كنت في بريطانيا، نظمت إحدى الجامعات ملتقى علمياً تحت عنوان «الثورة الحسينية»، وكان المنظمون لهذا الملتقى شخصين شيعيين، لكن اتضح أنهما لم يكونا المنظمين الحقيقيين، وإنما كانا فقط واجهة لهذا الملتقى؛ لأغراض خفية. وكنتُ من بين المدعوّين للمشاركة، لكن طرحت في ذهني عدة أسئلة حول هذا الملتقى، وما هي أهدافه، خصوصاً وقد اتَّضح لي أن الملتقى أعطى لبعض المقالات كلّ الوقت، وأخذت مأخذ الجدّية، وبدا أن الملتقى أعدّ خصيصاً لهذه المقالات. وفعلا فقد أعطي لها ما يقرب من ساعة من الوقت الكلّي، وكانت تحت عنوان «الثورة الحسينية والرؤيا»، أو «الرؤيا ودورها في الثورة الحسينية»، وعرضها المحاضر في ثلاثة فصول. وخلاصة ما جاء في هذه المقالة:

الفصل الأول: تطرق فيه لذكر العديد من الرؤى التي تراءت لأصحابها وهم في خضم الثورة الحسينية، يريد الرؤى التي شاهدها بعض الذين شاركوا في كربلاء. واستند في التأريخ لها على بعض المصادر التاريخية، وبعض كتب الحديث. ومن بين تلك الأحلام والرؤى:

1ـ ما تحكيه كتب التاريخ من أن الإمام الحسين× لما أراد ترك المدينة متوجِّهاً إلى مكة قام بزيارة قبر جده رسول الله|؛ لتوديعه، وبينما كان على القبر الشريف أخذته غفوة من النوم رأى فيها رسول الله يقول له: «إن الله قد شاء أن يراك قتيلاً»([6]).

2ـ ما ورد من أن سيد الشهداء وهو في طريقه بالقرب من أرض كربلاء غفا قليلاً، فلما قام قال: «إنا لله وإنا إليه راجعون»، فلما سأله ابنه علي الأكبر× عن سبب ترديده لذلك القول أجاب سلام الله عليه: إنه سمع منادياً ينادي: «القوم يسيرون والمنايا تسير إليهم»([7]).

3ـ في هذه النقطة ذكر أربعة منامات أخرى، ليخلص إلى نتيجة، وهي: إن الثورة الحسينية قامت في الأساس على الرؤيا والمنامات، وإنه لولا ما رآه الإمام الحسين في منامه من تلك الرؤى ماكان ليخرج، وما كان ليقع شيءٌ في التاريخ باسم «ثورة كربلاء». لقد رأى الإمام الحسين× تلك الرؤى، وفهم منها ضرورة الخروج، وضرورة الثورة على أوضاع الظلم والفساد.

الفصل الثاني: تطرق فيه إلى دور الحلم وقدرته على جعل الارتباط بين الناس ارتباطاً مباشراً ووثيقاً، وأن الارتباط الباطني أوثق وأشد، وأن النفس الإنسانية تملك القدرة على هذا الارتباط بمجرد النوم.

الفصل الثالث: رأى أن ارتباط الشيعة بأئمتهم يكون عبر ارتباطهم بمرجع التقليد، الذي يتولى الإجابة على استفساراتهم الشرعية. فمرجع التقليد والعلماء هم في الحقيقة همزة الوصل بين الناس وبين الإمام المعصوم×. لكن ـ وكما اتضح من خلال الفصلين الأول والثاني ـ فإن كل فرد يملك من القدرة الباطنية ما يمكِّنه من الارتباط المباشر بالإمام عن طريق النوم. وقد دلَّت بعض الروايات والقصص، التي ذكرها الشيخ القمي في مفاتيح الجنان، وذكرها غيره في أكثر من كتاب، على أن العديد من الناس استطاعوا التواصل المباشر مع الإمام، واستطاعوا الحصول على إجابة عن تساؤلاتهم من خلال الرؤيا والحلم فقط، وكانت وسيلتهم النوم، ليخلص إلى أنه لماذا نعمد إلى جعل واسطة بيننا وبين الإمام ما دام إمكان التواصل المباشر متوفِّراً لكل واحد منا»([8]).

إن رواج فكر الأحلام والرؤى داخل أوساط الناس العاديين مسألة قد تجد مبرراً لها، أما أن تروج وتتوسع دائرتها في الوسط العلمائي فإنها حينئذ تعدّ ظاهرة مخيفة، تدعو للشك والريبة؛ لأنها دعوة للتخلي عن مبادئ العلم، وللتخلي عن المصادر الشرعية المعتبرة في الدين، ودعوة تحمل بذور الانحطاط والاستعمار. واليوم أصبح من الظواهر الملفتة للنظر سعي البعض إلى تدعيم بعض الكتب، وتأكيد مصداقيتها العلمية، من خلال الاستناد إلى المكاشفات والأحلام، التي يدعي فيها أصحابها رؤية الإمام الثاني عشر#، ودرج بعض الكلام نقلاً عنه في لقائهم معه بدون واسطة.

إن العالم الرباني، الذي يملك رؤى علمية ونظريات معرفية، يستند في كتاباته إلى المناهج العلمية المعروفة والمعتبرة. وكذلك تكون المؤسسات العلمية المختصة، ومراكز البحث والتحقيق. فهي تعتمد التحقيق والبحث والدقة في اختيار المنهج العلمي، وتستند إلى الأدلة العقلية والنقلية المعتبرة، ولا مرجعية للأحلام أو الرؤيا، التي إنّما تدل على ضعف المنهج، وخرافية المادة.

فالله سبحانه وتعالى خاطب الناس في القرآن بالعقل، ودعا إلى الاحتجاج بالعقل والمنطق؛ لإثبات صحة ما يدعو إليه. وفي كل آية من الآيات تجد كل الرسل والأنبياء يدعون الناس إلى اعتماد الأسس المعرفية، وجعل العقل حجة قبل النقل. وكذلك سعى الأنبياء خلال مسيرتهم الرسالية إلى مخاطبة الناس بما يمنحهم التيقن والقطع بصدق رسالتهم، وخاطبوا الناس بلسانهم، بل جاهدوا طوال حياتهم الرسالية في سبيل إيصال المفاهيم الدينية بشكل لا يبقى معه أيّ لبس أو غموض. فالعلماء والباحثون مطالبون اليوم بعرض بضاعتهم الفكرية بكل شفافية، والابتعاد عن الأساليب الغامضة والملتوية. وكذلك يجب أن يكون سلوك المحقِّقين حين يعرضون مقالاتهم في الدوريات العلمية أو المجلات، بحيث يمنحون للقارئ فرصة فهم مرادهم، من غير أن يكون في حاجة إلى معاجم وهوامش… والغريب أن يلجأ بعض العلماء والحوزويين إلى فتح ما أغلق واستعصى عليهم فهمه بالرجوع إلى الكشف والشهود، أو يسعون إلى التغطية على السبب الحقيقي وراء ركود بعض الحوزات والمدارس العلمية، بالذهاب إلى مدح أساتذتهم، وادعاء أن صاحب الزمان# راضٍ عنهم، وأنهم مورد عنايته؛ ليرفعوا من معنوياتهم، وليغطوا بالغربال تقاعسهم عن إخراج الكتب المدرسية الملائمة، والمواكبة للتطور العلمي واحتياجات الأمة في المجالات الفقهية والعلمية المختلفة، ولسد الباب أمام أيّ نقد أو دراسة وتمحيص لما ألفوه. «يحكى أن ثلاثة من تلامذة الشيخ الطوسي الفقهاء ببغداد، وهم: حسين بن مظفر الحمداني القزويني، وعبد الجبار بن علي المقرئي الرازي، والحسن بن الحسين بن بابويه، المعروف بالحسكا، وهو جدّ الشيخ منتجب الدين صاحب «الفهرست»، أرادوا توجيه انتقاد لكتاب النهاية، وذلك في ما يخص ترتيبه، وتبويبه، وبعض الآراء الفقهية التي تضمنها، وبعد ثلاثة أيام اغتسلوا وتوجَّهوا إلى حرم الإمام علي×؛ للتوسل به حتّى يحصل لهم التوفيق في ما عزموا عليه. وبينما هم في محضره رأى كلُّ واحدٍ منهم على حدة الإمام علي× في المنام يقول لهم: لم يصنّف مصنِّف في فقه آل محمد| كتاباً أولى بأن يعتمد عليه، ويتخذ قدوة، ويرجع إليه، من كتاب النهاية، الذي تنازعتم فيه. وإنما كان كذلك لأن مصنِّفه اعتمد فيه على خلوص النية لله والتقرُّب والزلفى لديه، فلا ترتابوا في صحة ما ضمَّنه مصنِّفه، واعملوا به، وأقيموا مسائله، فقد بذل جهداً عظيماً في تهذيبه وترتيبه وتحرّي صحّة مسائله.

فلما قام الثلاثة من منامهم، وبدون أن يخبر أحدهم الآخر، قرروا الذهاب إلى أستاذهم، وطلبوا الاعتذار منه، ولما حضروا أمام أستاذهم ـ الذي كان صاحب الكتاب ـ، وقبل أن يفصح أيّ واحد منهم عمّا رآه في منامه، بادرهم الأستاذ بالحديث عن حلمهم، فكان ذلك الحلم حجّةً اتخذها بعض العلماء فيما بعد للتحدُّث عن إخلاص ذلك الشيخ، ودليلاً على موفقيته العلمية»([9]).

إن ما يضمن للحوزة العلمية في مدرسة أهل البيت^ التألق والاستمرارية انفتاحها على التحقيق والنقد في جميع العلوم الدينية والعقلية. فهل يصبح مقبولاً التخلي عن هذا الاتجاه العلمي، والاستسلام للأحلام والمنامات في إثبات أو نفي صحة وعلمية هذا الكتاب أو ذاك؟ ولماذا تحرم الحوزة العلمية من المجهود العلمي لهؤلاء العلماء الثلاثة، ويغلق الباب في وجه أي درس أو نقد؟ وهل النقد والتمحيص سيحط من إخلاص هذا العالم أو غيره؟ ولماذا ستكون الحركة النقدية لأولئك الثلاثة مبعث قلق لأمير المؤمنين×، وهو مدينة العلم؟ أليس لو طرحت تلك الانتقادات فإنها كانت ستفتح المجال أمام حركة علمية واسعة حول ذلك الكتاب مبنية على مبدأ «إنْ قلتَ قلتُ»، ونقد لما سبقه من النقد؟ فلو كان الثلاثة مصيبين فهي نعمة، بحيث وجهوا طلاب العلم إلى أخطاء شيخهم، وإنْ كانوا مخطئين فإن شيخهم سيردّ إيراداتهم عليه. وهذه هي الطريقة العلمية والمعقولة التي تدفع بالعلم إلى التطور والاستكمال.

لا يخفى على أيّ طالب في الحوزة العلمية الغموض الذي يكتنف متن كتاب «الكفاية»، للمحقق الآخوند الخراساني، إلى درجة أنه واحد من المتون المعقَّدة التي لا تصلح أن تكون كتاباً دراسياً، فهو يحتاج إلى شرح مكثَّف ودقيق، حتى تتبين نظرية الآخوند، ويفهم مقصوده ومبانيه. لكن نجد على الطرف الآخر مَنْ أراد إبقاء هذا المتن في حالته من الغموض ومن العسر، مستدلاًّ بما رآه في المنام من الأحلام والمنامات، أو ما ينسبه من الرؤى للآخوند نفسه، حيث رأوا ما يأمرهم بإبقاء الكتاب على حالته التي عليها، من غير إعطاء أي مفتاح لفكّ رموزه، أو شفرة لفك ألغازه. فلم يكتب الآخوند أيّ تعليق على الكتاب، أو أية حاشية يفسر فيها دليله ونظريته، وبقي الكتاب على ما هو عليه امتحاناً عسيراً لطلاب الحوزات العلمية، وسداً منيعاً أمام المحقِّقين.

قيل: إن تلامذة العلامة السيد أبو الحسن الأصفهاني قد عرضوا على أستاذهم أن يكتب شرحاً على الكفاية؛ وذلك لأنه كان من تلامذة المحقِّق الآخوند، وهو يستطيع أن يفهم مراد المحقِّق ومبانيه، كما أنه من جهة كونه تتلمذ على يديه فهو يفهم معاني عباراته وألفاظه، ولما كثر إصرار تلامذته عليه أجابهم يوماً: «لقد عزمت على القيام بشرح الكتاب، وتفسير مباني المحقِّق الآخوند، إلا أنني رأيت في عالم الرؤيا وكأني على شط الفرات في مدينة كربلاء المقدسة، وفي أول خطواتي رأيت أستاذي المحقق الآخوند وكأنه يتجه على الطرف الثاني من الفرات نحوي، وعندما وقف الواحد منا قبالة الآخر، والفرات يفصلنا عن بعض، وبعد السلام، بادرني الآخوند بالقول: يا سيد أبو الحسن، وكأنك تريد أن تكتب شرحاً على الكفاية! فلا تفعل هذا الأمر، واترك الكتاب على ما هو عليه؛ فإن عباراته الغامضة، وألفاظه الوعرة، تجعل الطلاب يتدارسونه فيما بينهم، وتكون سبباً في فتح المناقشة، والأخذ والردّ، حتى تتقوّى لديهم ملكة البحث والتحقيق، ويصبحوا في مستقبلهم من العلماء الأعلام. قال: قمت من نومي، وقد عزمت الانصراف عمّا كنتُ قد نويت القيام به من كتابة شرح للكفاية»([10]).

وكتب الملا أمين الإسترآبادي، في كتابه «الفوائد المدنية»، يتحدث عن أن العلامة الحلي لم يفهم مراد القدامى من حجية الخبر: «وغفل عنها العلامة الحلي، فتحيَّر في تحقيق طريقة قدمائنا، ووقع في حيص وبيص، حتى نسب إليهم أنهم كانوا يعتمدون في عقائدهم على مجرد خبر الواحد الظني العدالة…. وقد رأيت في سحر ليلة الجمعة في مكة المعظمة في المنام أنه يخاطبني واحد من أخيار الأنام في مقام التسلية بقوله تعالى: ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً. وكان السبب فيه أني كنت حزيناً على ما فات مني في بعض المساعي، فأخذتني غفوة في تلك الليلة، بعد أن صليت صلاة الليل وصلاة الوتر، فلما أصبحت وفتحت «الكافي»؛ للنظر في مبحث كان في قصدي، فإذا أنا بقول الصادق× في تفسير هذه الآية الشريفة: المراد بها أحاديث أهل البيت^. فالحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن».

إن إحاطة أيّ كتاب بهذه الهالة من التعظيم والتقديس يثبط أية محاولة، أو حتى أية نية، في نقده وردّ ما يكون قد جاء فيه من الأخطاء أو المغالطات العلمية.

نعم، هناك من الكتب، على رغم ما أغرق فيه من التعظيم، وما حاولوا إضفاءه عليه من القدسية، ما لم يسلم من النقد والإشكال على ما جاء فيه، ممّا لا يتوافق والمباني الأصولية أو العقلية. وهذا إنما يدل على أن هناك البعض من المحققين والعلماء الأفاضل لا تؤثِّر عليهم تلك المنامات، ولا يعتبرونها حجة للقبول بالكتاب، وكأنه قرآنٌ منزلٌ. وهذا السلوك هو الذي يضمن للحوزات العلمية الرشد، وللعلوم الاستكمال والنضج. أما الإعراض عن النقد والتحقيق ودفع المغالطات والأخطاء؛ بعلة الاحترام الذي يلقاه هذا العالم، سواء في عالم الواقع أو في عالم الرؤيا والأحلام، فإن هذا في ذاته حكمٌ بالسكون على الحوزات العلمية، ومن شؤونات السكون أنه يؤدي إلى الموت، وعلى العقول بالجمود والركود.

إن ما وقع بعد الشيخ الأنصاري يدعو للأسف حقيقة. فقد ابتُلي الشيخ الأنصاري وآثاره العلمية بتلك النظرة الخرافية، نظرة التقديس، إلى درجة التخلي عن أيّ شرح أو نقد أو دراسة لتلك الكتب، التي تعدّ بحقٍّ ثروة علمية. فعلم الأصول قد عرف تحولاً كبيراً على يديه، ويرجع إليه الفضل الكبير في تطوير الكثير من النظريات الأصولية والفقهية. وكون هذه الكتب تحظى اليوم بالتقدير، وتعدّ من مقررات السطوح العالية، أمرٌ طبيعيٌّ بالنظر إلى قيمتها العلمية. لكن الأمر الذي يعدّ غير طبيعي، وغير عقلاني، هو أن تحاط تلك الكتب بهالة التقديس، وأن تحكى حكايات هنا أو هناك تتحدث عن كون الشيخ الأنصاري قد حظي بعناية خاصة من الإمام الحجة#، وأن اجتهاداته كانت مورد تأييد من الحجة#، ليصبح الواجب علينا قبول آرائه واجتهاداته في الأصول، بدون تردُّد، وبدون أدنى استشكال أو نقد. هذا ممّا لا يقبله العقل، ولم يدعُ إليه شرع، ولا يتناسب مع الأصول العلمية على الإطلاق. فالنقد العلمي هو الذي يرفع النقائص، ويصحح الانحرافات، ويدفع بالتالي الأخطاء، سواء التي وقع فيها المؤلِّف نفسه أو التي يمكن أن تقع في فهم مبنى المؤلف ومراده. وعندما يتوقف النقد، وتغلق الأبواب أمام الدراسات والأبحاث؛ بحجة القدسية، فإن هذا يدل على تفوق الاجتهاد الخرافي، هذا الاتجاه الذي جعل الأحلام والمنامات وسيلته في الحجر على العلم والمعرفة. فالواجب يلحّ بالوقوف أمام هذا الاتجاه المنحرف، وامتلاك الجرأة العلمية في نقد النتاج العلمي، وتصحيحه متى لزم الأمر، واعتبار تلك الكتب اجتهاداً بشرياً، مهما بلغ صاحبها من الفضل والشرف. فكل كلام بني آدم فيه أخذ وردّ، إلا القرآن، وكلام الرسول الأكرم والأئمة المعصومين^.

 

تأثير الحلم والرؤيا على السير والسلوك ـــــــ

ما عليه الإجماع بين علماء الشيعة هو أن الأحلام والمكاشفات لا تعد حجة شرعية، إلا إذا كانت في مقام القطع واليقين. وفي غير هذه الحالة فإنها ملزمة لصاحبها وحده، وليست ملزمة لغيره من الناس. إذاً فهي ليست حجة بالنسبة للآخرين، ليبنوا عليها تكليفهم العملي أو النظري، وإنما الحجة هي الأصول التي خطّت طويلة عريضة في كتب أصول الفقه. ولا تعتبر تلك الأحلام حجة إذا لم يقُمْ دليل من العقل أو القرآن أو السنة.

لكن رغم التأكيد الواضح على عدم حجية الأحلام فإن هناك شريحة واسعة ممَّن يتمتعون بمقام العلم والسلوك تقوم أحلامهم ومكاشفاتهم، أو مكاشفات غيرهم، بتسييرهم وتوجيههم الوجهة التي تريد. وهم بذلك إنما يخالفون السيرة القطعية للرسول الأكرم| وأئمة الهدى^. ويكادون لا يلتفتون إلى الأحاديث والروايات المتواترة والصحيحة. وهم بعملهم هذا يخالفون المنهج العلمي، ويضربون بالسلوك العقلي والمعرفي عرض الحائط. فالنبي إبراهيم×، وهو النبي، وأحد أولي العزم، لما رأى في منامه أنه يذبح ابنه، ورغم أن رؤيا الأنبياء حجة قاطعة؛ لأنها وحي إلهي، لم يسارع إلى القيام بفعل يخالف كل الشرائع السماوية. فقتل النفس بغير ذنب حرام. ولم يمتثل للرؤيا إلا بعد أن رآها ثلاث مرات، وبعد أن حصل له اليقين بأن الرؤيا امتحانٌ إلهي. هنا لا بد من التأكيد على مسألة مهمة في هذه القصة القرآنية، وهي أنه رغم كون الأنبياء والأئمة^ معصومين من وسوسة الشيطان، وأن الشيطان لا يستطيع النفاذ إلى أحلامهم ورؤاهم، فإن إبراهيم لم يبنِ أفعاله وسلوكه على الحلم والرؤيا. فقد عرض ما رآه على العقل والشرع، فعزف عن القيام بما رأى لما تبيَّن له مخالفته للشرع والعقل، واستمر على ذلك حتى تيقَّن بأن ما رآه ليس مجرد حلم، وإنما هو أمر إلهي تلقاه عن طريق الرؤيا. وهذه إحدى الجوانب التوجيهية للناس من خلال هذه القصة.

ولنأخذ قصة إبراهيم× هذه ونقيس بها سلوك بعض العرفاء في تعاملهم مع الأحلام والرؤى. يروى أن أحد كبار العرفاء «كان يقيم صلاة الجماعة في بيته، يؤم فيها الخاصة من تلامذته. وحصل أن أصرّ عليه هؤلاء التلاميذ بالطلب بأن يقيم صلاة الجماعة في المسجد. وقَبِل، وكان هذا مبعث سرور وفخر لتلامذته. لكنه وفي ليلة ذلك اليوم سمع هاتفاً في منامه يأمره أن يحمل على كتفه جبلاً كبيراً، ولما أظهر العارف العجز وعدم القدرة على ذلك خاطبه ذلك الهاتف قائلاً: إذا لم تكن تقدر على حمل ذلك الجبل فلماذا قبلت أن تقيم صلاة الجماعة في المسجد! وبسبب هذا الحلم اعتذر في اليوم التالي لتلامذته عن إقامة صلاة الجماعة، وأظهر عدم قدرته على الفعل، ورجع إلى ما كان عليه من قبل، من إقامة الصلاة في بيته، ومع الخاصة من تلامذته».

وهذه الحادثة تحمل عدة نكات مهمة، نشير إلى بعضها:

1ـ لقد أمر الشارع بإقامة الصلوات المفروضة جماعة في المساجد، وحثَّ كثيراً عليها. فقد روي عن رسول الله الأكرم| وعن أمير المؤمنين علي× أنهما كادا أن يأمرا بحرق بيوت تاركي صلاة الجماعة على من فيها، وذلك لبيان قداسة هذه الصلاة وأهميتها، فلم يعفِ الشارع الفرد المسلم من صلاة الجماعة في المسجد، إلا لحالات حرجة. فحتى كون الإمام من العامة لم يكن حجّة ليتذرَّع بها تاركو الصلاة، بل جعل الصلاة خلفه مستحبة، ولها ثوابٌ كثيرٌ. وهذا كله مما لا يخفى على هذا العارف الكبير، ولكن لماذا يعدل عن سنة نبوية وأمر إلهي لمجرد هاتف لم تتبيَّن هويّته؟ ولماذا لم يقِسْ أمر ذلك الهاتف على الشرع، ليعلم أيخالفه أم يوافقه؟!

2ـ هذا الحلم في حقيقته يخالف الروح الاجتماعية التي يأمر بها الشرع، فقد أمر الله سبحانه وتعالى أن يتصدر العالم الورع الحياة الاجتماعية، ويكون مع الناس في إرشادهم وتوجيههم، وأن لا يترك مكانه ليبقى قابعاً في منزله، مقتصرة حياته على الخواص، بينما العامة في حاجة إليه. وإذا بقي في عزلته فمن سيشغل مناصب القضاء، والأمر بالمعروف والنهي المنكر؟! ومن سيسيِّر أمور الدولة والسياسة؟! إن هذا التوجه لا يختلف عن الاتجاه القائل بفصل الدين عن السياسة، بل هو سلوك خلاف الشرع؛ لأنه يترك المجال أمام العابثين، وأمام الدجّالين؛ ليستحوذوا على قلوب الناس، ويعبثوا بمقدراتهم وأرزاقهم.

 

ضرب الرأس بالقامة ومرجعية الكشوفات والكرامات!! ــــــ

لقد تعدَّدت الروايات التي تنهى عن ممارسة العنف ضد النفس، كالضرب والخدش. ولم تستثنِ الروايات مناسبة دون أخرى. لذا فسواء كان الضرب من أجل بيان الحزن على الإمام أو على غيره فالحكم بالنهي مطلقٌ. وقد كثرت الكتابات حول هذا الموضوع، إلى درجة لا يبقى معها شك أو ترديد. وحتى إنْ وجد شك فإن هذا العنف، وخصوصاً الضرب على الرأس وأطراف أخرى من البدن في مناسبة عاشوراء، مناسبة استغلها المخالفون للمذهب والمخالفون للدين كلّياً لإظهار صورة عنيفة عن المذهب وعن الدين، تتخطى كل السلوك الإنساني، والسلوك المتَّزن، لتلوح بالجهل والهمجية والإرهاب. وبذلك فإنها تعرِّض الإسلام، فضلاً عن مذهب أهل البيت^، للسمعة السيئة، والانتقادات اللاذعة، والضرر الذي لا يجبر. وقد اتفق العلماء على أن أيّ سلوك يكون موجباً للأذى والإضرار بالإسلام وبالمذهب فهو حرام.

إلا أن البعض يناقش في هذه الحرمة بأدلة ظنية، كالكشف، والكرامات التي ينقلونها عن بعض العرفاء. ويجاحدون في الحكم الشرعي بقولهم: إذا كان حراماً فلماذا العالم العارف الفلاني قد انكشف له في عالم الكشف والشهود أن الملائكة تسارع في التقاط الدم الذي ينزل من الذي يضرب بالقامة على رأسه يوم عاشوراء، فيحملونه إلى الزهراء÷؛ بغرض مواساتها في ابنها الحسين×؟!

لذا فإن الواقع يقول: إنه إذا أحللنا الكشف والشهود مكان الأصول العلمية والضوابط الشرعية في مقام العمل والسلوك فماذا سيبقى من الإسلام؟! وحتى لو سلَّمنا جدلاً بمرجعية الكشف والشهود فأيُّ الشواهد والكشوفات نعتمد، تلك التي تمدح الضرب على الرأس والوجه وكل أشكال العنف أو تلك الكشوفات التي تتحدث عن مقت الإمام الحسين× للذين يضربون بالسيف على رؤوسهم يوم عاشوراء، ونعته× لهم بالمرائين والجهلة؟!

 

نتيجة البحث ـــــــ

1ـ الخرافة نتيجةٌ ذاتية لضعف التحليل العقلي لحقيقة وماهية الأشياء والظواهر الطبيعية، وعدم الاستيعاب العلمي لعلاقة التأثير والتأثر بين الموجودات في الكون. كما أن الخرافة تصطحب الرعب والخوف؛ لخلق أجواء من التعميم والضبابية أمام أية محاولة للتفكر والتحرك العقلاني.

2ـ من أهم الطرق لمحاربة الخرافة، وسد كل المنافذ عليها، توسيع دائرة التفكر العقلاني في أوساط الجماهير، ونشر ثقافة البحث والنقد، ونشر المعارف الدينية ومواقف الدين من تلك الخرافات، وتقديم تحليل علمي مقنع لموارد الخرافة للناس.

3ـ إنكار الخرافة والوقوف ضدها لا يعني بالضرورة الدائمة الوقوف أمام كل شيء لا يتوصل العقل إلى حقيقته. فكما أن بعض الظواهر تحتاج إلى دليل للإثبات تحتاج بالأَوْلى إلى دليل للنفي.

4ـ لقد أعلن الأنبياء والرسل والأئمة من أهل البيت^ الحرب على الخرافة على مر تاريخ المسيرة البشرية، وسعوا بدون استثناء لترسيخ التفكر العقلاني، ونشر العلم والمعارف الإلهية في تفسير حقيقة الكون وعلاقة المخلوقات فيما بينهم. وكذلك كان سلوك علماء مدرسة أهل البيت الربانيين، فقد سعوا جهدهم في محاربة الخرافة، وفي الدعوة إلى التفكر واستعمال العقل، رغم مظاهر التراجع التي واكبت بعض العلماء، الذين فضَّلوا الوقوف موقف الحياد إزاء بعض المظاهر الخرافية، متعلِّلين بمجالها المقدَّس.

5ـ إن عدم ارتباط الحوزات العلمية مالياً بالدولة فيه من الفضائل الكثير، كالاستقلالية في المواقف. وإن تأمين حاجياتها المالية من الناس والجماهير لا يشكِّل من حيث المبدأ أيَّ ضرر، وهو عمل شرعي. إلا أن هذا الارتباط جرّ عليها الويلات وأقحمها في دائرة من الخضوع لذوي النفوذ المالي، الذين استغلوا هذه العلاقة؛ ليمرروا سياساتهم وآراءهم، التي تختلف وتتناقض مع الشرع في أغلب المواقف. وهذا ما فتح بالتالي المجال واسعاً أمام الخرافة والخرافيين، ليوسعوا من دائرة عملهم داخل الأوساط الشيعية.

6ـ من مظاهر الانسياق أمام أفكار العوام تبني بعض العلماء والمحسوبين على الحوزات العلمية لفكرة فصل الدين عن السياسة، والغلو في القول بعصمة بعض أبناء وأحفاد الأئمة الذين لم يرِدْ نصٌّ شرعيٌّ موثَّق في عصمتهم، والدفاع عن بعض أفكار العوام في ما يخصّ مراسم العزاء الحسيني، أو الوقوف موقف المتفرِّج، وأخيراً الاعتماد على الأحلام والمكاشفات والرؤى، والعمل وفقها في حركةٍ مخالفة للأصول الشرعية والضوابط العقلية.

الهوامش:

(*) باحث وأستاذ في الحوزة العلمية.

([1]) الاحتجاج على أهل اللجاج 1: 18.

([2]) مطهري، روحانية (علماء الدين): 124، نشر مكتب التبليغات، 1365هـ ش.

([3]) عبد الرزاق الكاشاني من المحققين العرفاء في القرن الثامن الهجري.

([4]) صحيفة الإمام 4: 48.

([5]) رياض الموسوي، الشعائر الحسينية بين الأصالة والتجديد، تقريرات درس الشيخ محمد السند، مطبعة الغدير، قم.

([6]) ابن طاووس، الملهوف على قتلى الطفوف: 55.

([7]) أنساب الأشراف 3: 185؛ تاريخ الطبري 6: 251.

([8]) مجلة «حوزة»، العدد 147.

([9]) النوري، مستدرك الوسائل 3: 506 (الطبعة القديمة)، 3: 171 (الطبعة الجديدة)، نقلاً عن مجلة «الفقه»، العدد 56، مقالة تحت عنوان «السير التكاملي للمتون المدرسية ومدارس الفقه»، بقلم: السيد أحمد الحسيني.

([10]) السيد علي الشفيعي، الأسلوب الفقهي والأصولي للشيخ الأنصاري، الأهواز، 1386هـ ش.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً