أحدث المقالات

قراءةٌ جديدة

د. الشيخ علي رضا قائمي نيا(*)

ترجمة: عماد الهلالي

 

 تمهيدٌ ــــــ

تشكّل اللسانيّات المعرفيّة فرعاً مهمّاً من فروع (العلوم الإدراكيّة: Cognitive Sciences)، وتنتمي إلى مجال اللسانيّات. ومع أنها لم تتجاوز العقدين من الزمن إلاّ أنّها أحدثت تغييرات خطيرة في مجال اللسانيّات. والمقال يسعى إلى تجلية هذا الحقل المعرفيّ الجديد بصورة إجماليّة وشفافة، من خلال الإشارة إلى أهمّ المسائل التي أثيرت في هذا الحقل.

ونعرض تلك المسائل في ما يلي:

1ــ دور المنظّر، وعلاقة التعبير بالموضع الخارجيّ.

2ــ الشكل والأرضيّة.

3ــ (السائر: Trajectory) و(المحدَّد: Landmark) و(القالب: Frame).

سينجلي لنا بالإشارة إلى هذه الأمثلة أهمّية تلك المفاهيم في فضاء قرآنيّ، يشكِّل من خلال دراسة مفرداتها ــ في تصوُّرنا ــ ثورة معرفيّة شاخصة، كما سيتضح لك في مطاوي هذا المقال.

تتناول اللسانيّات المعرفيّة اللغة الطبيعيّة كأداة لتنسيق الفكرة وإخضاعها لآليّات التواصل في إطار تراكيب محدَّدة أو مشخَّصة. وبتعبير آخر: يتمثَّل مدّعى هذا الحقل في أنّ تجلّيات اللغة هي حكاية مباشرة عن فكرة المتكلِّم، فاللغة لا تُبرز تلك الموضعية الخارجيّة مباشرة، بل تصنع جملة من المفاهيم، تشير من خلالها إلى تلك الموضعية الخارجيّة، وبالتالي إنّ المعنى هو من خلال تصنيع الذهن للمفاهيم على مستوى الفاهمة. الأمر الذي يجعل اللغة تمسّ المواضع الخارجيّة، من خلال ذلك التصنيع، فالحكاية حينها لا تكون مباشرة، بل بواسطة تلك المفاهيم المصنوعة.

ويمكننا تجلية المدَّعى بعمليّة قياسيّة بين هذا الحقل والنحو الإنتاجي ومعاني ظروف الصدق:

1ــ النحو الإنتاجيّ: يمثِّل هذا الحقل فرعاً مهمّاً من فروع اللسانيّات الحديثة، الذي أسس له اللسانيّ الكبير الأمريكيّ المعاصر (نعوّم تشومسكي Chomisky). يرتكز هذا الحقل على أنّ الأسس الصوريّة التي تشكِّل جهاز اللغة هي التي تحدِّد الصياغات اللسانيّة، وهذه الأسس مستقلّة تماماً عن المعاني اللغويّة.

2ــ يشكِّل فهم المعنى المشروط (الملتصق) بالواقع مفردة مهّمة في فهم المعاني التي تحدِّدها الصياغات اللغويّة، وعلى أساسها ينطبق المعنى مع ظرفه الحقيقيّ. ويمثِّل كلّ من «جورج ليكافGeorge lakoff » و«رونالد لنك اكر» و«لن تالميLeonard Talmy »، أبرز شخصيات هذا الحقل. ولكلٍّ منهم اتّجاه خاصّ في هذا الحقل اللسانيّ الحديث، الأمر الذي جعل الحقل يتفرَّع إلى مدارس متعدِّدة، تتناول اللغة الطبيعيّة بالدارسة والتحليل.

 

 المعلومات الذهنيّة ــــــ

ويطلق على الحقل عنوان (الإدراكيّ)؛ بوصفه يدرس دور المعرفة ــ المعلومات الذهنيّة ــ في صنع المفاهيم الخاصّة بالظروف الخارجيّة. وبتعبير آخر: يتمحور الحقل حول موضوع هو (كيفية تأثير المعلوماتيّة الذهنيّة التي يحملها المتكلِّم في صنع المفاهيم)، وتنسبق الظروف الخاصّة بها. وبالتالي إنّ تحليل الصياغات اللسانيّة تشكِّل طريقاً موصلاً إلى تلك المعلوماتيّة، وما تخضع له من سياقات خاصّة.

ولهذا المصطلح (المعرفة) في نظر كلٍّ من (ليكاف Lakoff) و(جانسونJohnson ) معنيان، يتعيَّن علينا التفكيك بينهما؛ دفعاً للبس والخلط.

والمعنيان هما:

1ـ يطلق هذا العنوان في المجالات المعرفيّة على فعالية ذهنية مرتبة، تمكِّننا من دراستها دراسة دقيقة. وهذه النشاطات في أغلبها تبرز إلى السطح بمعزل عن إرادة الشخص، كترتيب المبصرات والمسموعات في فضاء الفاهمة. وتبرز هذه الفعاليات الذهنية بشكل إرادي؛ إذ يستحيل السيطرة على العمليّات العصبية الواسعة والمعقَّدة، التي تفرز تلك المسموعات والمبصرات. ويدخل تحت هذا المعنى الانتباه (التوجُّه) والذاكرة والنشاطات الفكريّة واللغويّة, سواءٌ كانت بإرادة أم بغير إرادة.

2ـ يوجد إطلاقٌ آخر في بعض المدارس الفلسفيّة، يختلف نوعاً ما عن المعنى الأوّل السابق ذكره، وهو (الشكل المفهوميّ أو الموضوعيّ المشروط بالصدق)، أي لا يكفي الرجوع إلى الأمور الذهنية فحسب، بل يتحتَّم علينا الرجوع إلى أشياء الخارج، المتمثِّلة في الوجود، الممتدة جسميّاً.

يستعمل المصطلح (المعرفيّ) في اللسانيّات المعرفيّة في أغنى معانيه وأكملها، والذي يعبِّر عن النشاط العقليّ، الذي له دورٌ في اللغة والمعنى والإدراك الحسّيّ والجهاز المفهوميّ (أو المفاهيميّ)([1]).

للمعنى مواصفات مهّمة في اللسانيّات المعرفيّة، نعرضها في ما يلي:

1ـ المعنى أمر إشاريّ: يمثِّل المعنى في هذا الحقل تفسيراً خاصّاً للأشياء الخارجيّة، وليس انعكاسا عينيّاً لها. وبالتالي يمسي المعنى رؤيا خاصّة إلى أشياء العالم. وهذا يشير إلى كيفية مختلفة عن علاقة اللغة بأشياء العالم (الموجودات).

2ــ المعنى حقيقة مرنة: المعاني؛ بوصفها نتيجة أشكال متنوِّعة لأشياء العالم، تتَّصف بالمرونة والسَيَلان. وإنّ التغيُّرات على مستوى المحيط الخارجيّ تستدعي تطبيقاً جديداً للمقولات اللسانيّة ينسجم مع الأشكال الناتجة من تلك التغيُّرات. وبالتالي هناك احتمال ظهور تغيُّرات جديدة على مستوى المعاني بشكلٍ دائم. وبتعبير آخر: لا يمكن أن نصف اللغة بشكل ثابت غير مرن، فإذا كان المعنى ملازماً لتشكُّل الصور اللغويّة فالمعنى يكون بدوره مرناً سيّالاً.

3ـ المعنى والتجريب والاستعمال: يتعيَّن المعنى في سياق الاستعمال، ما يجعل تحليل هذا الاستعمال ضروريّاً لتحديد معنى اللفظ. ولهذا الأصل انعكاسات كثيرة في الحقل اللغويّ. فإذا كان الأمر كذلك فلا يمكن تعيين معنى ثابت وعامّ (محدَّد) يُبرز جميع تلك الاستعمالات.

تتناول اللسانيّات المعرفيّة علاقة المعنى بالصور اللغويّة المتعدّدة([2]). وهذا ما اهتمّ به أصحاب هذا الفن. والسؤال المثار هو: كيف ترتبط الصور اللغويّة بصنع المفهوم (المعنى)؟ وكيف تُفهم الأبعاد المختلفة لهذه العلاقة؟

لتجلية هذه المسائل يتحتَّم علينا بيان جملة من المفاهيم جاءت في تحقيقاتهم، وهي:

1ــ التعبير.

2ــ القالب.

3ــ الاستعارة.

 

 1ــ التعبير ــــــ

ذكرنا في ما سبق أنّ الفهم المباشر لأشياء الخارج لا يتيسَّر وفقاً للرؤية الجديدة، فيمكن التعبير بصيغ مختلفة عن شيء (خارجيّ) واحد، حيث نؤطِّر التحديق الواحد بأشكال مختلفة، ما يحكي عن صنع مفهوم خاصّ عن ذلك الشيء (الخارجيّ). ومثال ذلك:

أـ عليٌّ أعطى الكتاب إلى حسن.

ب ـ عليٌّ أعطى إلى حسن الكتاب.

تبيِّن العبارتان أعلاه شيئاً واحداً، والمعنى المستفاد منهما لا يختلف على ضوء الحقل اللغويّ القديم، ولا يؤثِّر اختلاف صورتهما في تغيير المعنى المستلّ منهما.

وعلى هذا فإنّ الجملتين المأخوذتين من شكل أصوليّ واحد (الشيء الخارجيّ) لا تختلفان في المعنى والمفهوم، بل في الصور اللسانيّة فقط (أي الشكل اللغويّ). فيما تدّعي اللسانيّات المعرفيّة أنّ الجملتين تمثِّلان تعبيرين مختلفين عن شيء واحد. لكلٍّ منهما ظروفه الخاصّة.

اللسانيّات المعرفيّة لا تعتني بالبلاغة والمعاني، بل تهدف إلى دراسة العلاقة بين صنع المفهوم في فضاء العقل وبين الطرف المقابل للمفهوم. وبتعبير آخر: يدرس هذا الحقل صنع المفاهيم المتستِّرة في الصياغات اللغويّة([3]).

والسؤال: لماذا توجد تعابير مختلفة مفهومُها شيءٌ واحد؟

والجواب: لهذه الظاهرة أسبابٌ متعدِّدة، نشير في ما يلي إلى اثنين منها، وسيأتي البحث بالتفصيل:

 

 أــ الرواية ــــــ

تشكِّل الرواية سبباً من الأسباب التي تؤدّي إلى وقوع الصيغ اللغويّة، مثلاً:

أـ الطريق الجبلي ينحدر من الأعلى إلى الأسفل.

ب ـ الطريق الجبلي يصعد من الأسفل إلى الأعلى.

تعبر الجملتان عن شيء واحد، فيما تختلف معانيهما اختلافاً واضحاً، حيث تبيّن الجملة (أ) أنّ فاعل الكلام يرى الوادي من الأعلى، وتبيّن جملة (ب) أنّ فاعل الكلام يرى الجبل من الأسفل، ولا نركز عن موضع فاعل الكلام في تشكيل الصياغتين السابقتين. فقد يكون فاعل كلام (ب) مَنْ يرى الوادي من أعلى الجبل، لكنْ يشكِّل موضع القائل، وما يراه على أساس ذلك الموضع، مفردةً مهمّة في عمليّة صُنع المعنى([4]).

 

 ب ــ الافتراض ــــــ

ويشكِّل سبباً آخر لتنوّع الصيغ اللغويّة، فإنّ المتكلِّمين بلغةٍ واحدة يؤسِّسون ــ عادةً ــ صيغهم الكلاميّة على افتراضات مختلفة، مثلاً:

أـ أنا كسرتُ الزجاجة.

ب ـ الحجارة كسَرَتْ الزجاجة.

تصدق الجملتان أعلاه موضعاً واحداً (الشيء الخارجيّ). والصياغة الأولى تأسَّست على الافتراض المتمثِّل في أنّ لفاعل الكلام دوراً في الحدث، والصياغة الثانية تأسَّست على الافتراض المتمثِّل في أنّ للحجارة دوراً في الحدث نفسه. وعندما يريد فاعل الكلام أن يخفي دوره في تحقيق الحدث، أو يدّعي أنّه تحقَّق صدفة، يستخدم الصياغة الثانية، التي تصلح للدلالة على ذلك.

 

 2ــ القالب ــــــ

ويشكِّل القالب أحد المفاهيم الأساسيّة والمهمّة في اللسانيّات المعرفيّة. وأوّل مَنْ أثار هذا المفهوم في هذا الحقل المحقِّق (فيلمورFillmore ) في مقالةٍ تحت عنوان (فهم معنى القالب). ونشير إلى هذا المفهوم بشكل مختصر:

يرى (فيلمور) أن القالب (الإطار) يشكِّل أحد الأسباب التي تضطلع بدورهم في صنع المعنى، ما لم تهتمّ به المقاربات اللغويّة السابقة، ولا يتحقَّق فهم السياقات اللغويّة إلاّ على أساس القوالب المناسبة. وكذلك لا تمثِّل القوالب آليات زائدة في عمليّة ترتيب المفاهيم وتنسيقها، بل تشكِّل آلية تساعد على التفكير الأصوليّ بغية إدراك المعاني المتستِّرة.

يَصِفُ (فيلمور) فهم معنى القالب بأنّه نموذجٌ لفهم المعنى المتستِّر في الصياغات اللغويّة، ويقع مقابلاً لفهم معنى شروط الصدق. ولهذا الأمر دورٌ أساسيّ في فهم ما يريده فاعل النصّ، وما يفهمه قارئ النصّ. وبتعبير آخر: «يساعد على فهم مراد فاعل النصّ، وكيفية صياغة النصّ من جديد».

 

واجبات القالب في رؤية (فيلمور) ــــــ

يعيِّن (فيملور)، حين توصيفه فهم معنى القالب، واجبات:

1ــ طريق خاصّ لعمليّة افتراض معاني الكلمات.

2ــ طريق لوصف الأصول اللازمة التي تساعد على تحقيق المعاني الجديدة.

3ــ طريقة تجمع معاني العناصر في نصٍّ واحد، لتكون النتيجة معنى شاملاً.

ويمثِّل القالب (الإطار) في نظر (فيلمور) جهازاً مشكَّلاً من مفاهيم متشابكة، بحيث يتحتَّم علينا فهم كلّ مفردات الجهاز المتناسب مع القالب؛ لإدراك كلّ مفهوم على حدة، وحينما تدخل مفردة من هذا الجهاز إلى نصّ أو عبارة تتبعها كل المفردات الأخرى([5]).

عمد (فيلمور) لتجلية كيفية استعمال القالب بصيغة استعاريّة؛ وذلك لأنّ القائل (فاعل الكلام) يوجد تركيبات على مستوى النصّ كآليات لفعالية خاصّة، أي إيجاد فهم خاصّ في ذهن المستمع، الذي يتحتّم عليه الذهاب وراء المراد من تلك الاستعمالات. الأمر الذي يعني أنّ القالب (الإطار) يتشكَّل من صيغ لغويّة يستقبلها المتلقّي، الذي يتمتَّع بدوره بقالبٍ آخر، يوظِّفه لفهم ما تلقّاه.

 

الساري والمحدّّد ــــــ

قد تستغني اللسانيّات المعرفيّة بجملة من المقترحات في تحليلها لمعنى الحروف، ونلتزم فيها بأمرين:

إحدهما: الساري، أي: الشيء الذي يتموضع في مسير واحد.

الثاني: المحدّد، أي: حدود معلومة يقع الساري في داخلها أو خارجها.

ولكلّ واحد منهما أوضاع مختلفة بالنسبة إلى الآخر، بل للساري نفسه أوضاع مختلفة؛ إذ قد يكون متحرِّكاً أو ساكناً، الأمر الذي يتَّصل بمعنى الكلمة المرادة في الجملة. فيرمز بالساري (t) وبالمحدّد (m).

ولتجلية الفروقات بين المفردتين التفت إلى جملة من الصياغات اللغويّة، انطوت على حرف (في) المفيد للنظريّة:

1ــ القطة في البيت.

2ــ الطير في البستان.

3ــ الوردة في المزهريّة.

4ــ الكرسي في زاوية الغرفة.

5ــ الماء في الإناء.

6ــ القدم في الركاب.

7ــ الإصبع في الخاتم.

الصياغة الأولى: يتمثّل الساري في هذه الصياغة في (القطّة) المتواجدة في داخل المحدّد (البيت)، الذي يتمتَّع بحدود واضحة. هذه الصياغة تبّين النموذج الأوّليّ لحرف (في)؛ لأنّ الساري يقع بتمامه في داخل المحدّد، أو الحرف (في) يبيِّن نوعاً من الظرفية.

الصياغة الثانية: تشبه الصياغة الأولى في حدود المحدّد؛ فإنّ البستان ليس محدّداً من الأعلى. وبتعبير آخر: إنّ المحدّد في الصياغة الأولى ثلاثة أبعاد، فيما يفتقد البستان إلى البعد الثالث (الارتفاع)، وإنْ كانت له حدود معقولة. فإذا طار الطير في أجواء البستان، أو على الأشجار، يقال حينها: إنّ الطير في البستان، وإذا كان أكثر لا يقال: إنّه في البستان؛ لأنّه خرج من فضاء البستان المعقول (المحدّد). وهذا يمثِّل صياغة خاصّة في هذا المثال، فإنّ (المتكلِّم) لم يبيِّن كلّ أبعاد البستان غير المعيّنة. أمّا الذي يستعمل حرف (في) في هذه الجملة يقصد به الأبعاد المحدّدة.

الصياغة الثالثة: تمتاز بخاصّية أخرى هي أنّ الوردة ليست داخل المزهريّة؛ إذ يقع قسمٌ منها في الخارج، وقسمٌ في الداخل.

الصياغة الرابعة: تمتاز بدورها بخاصّية هي أنّ الكرسيّ لا يملأ زاوية الغرفة. فإنّ في الصياغتين (3 و4) مرونة في معنى (في)، وهذا ما تراه في استعمال حرف (في) في الأبعاد المحسوسة؛ فإنّ وقوع جزء من الوردة لا يمنعنا من القول: الوردة في المزهرية، وكذلك تختلف كلٌّ من الصياغة (6 و7) في بعض خصوصيّاتهما، فالرِّكاب في الصياغة السادسة ثابتٌ تدخل القدم فيه، لا بتمامه، بل يمثِّل الرِّكاب حلقة يوضع بعض القدم فيها، الأمر الذي يجعله يشبه الخاتم من هذه الناحية؛ لأنّ الخاتم لا يدخل في الأصبع أيضاً. والفارق بينهما أنّ الخاتم (محدّد) متحرّك، يدخل الإصبع (الساري) فيه، فيما يكون الرِّكاب (محدّداً) ثابتاً تدخل القدم (الساري) فيه. قد استخدم حرف (في) في المحدّد المتحرّك والثابت.

ونمثِّل لهذه الظاهرة اللغويّة بآيات قرآنيّة، تشير إلى قصّة فرعون والسحرة: ﴿قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى﴾ (طه: 71).

أشار أكثر المفسِّرين إلى أنّ المراد من حرف (في) في الآية: ولأصلبنّكم في جذوع النخل، هو حرف (على)؛ لأنّ عمليّة الصلب لا تكون من داخل الجذع، بل تتحقَّق على سطحه، والظرفية التي يدلّ عليها حرف (في) لا تتناسب مع معنى الآية، بل الذي يتناسب مع الآية الاستعلاء، الذي يدلّ عليه حرف (على)، والسؤال ناتجٌ من غفلة السائل عن أن للآية تناسباً لموضع الناظر فقط، بل يبيِّن ذلك بخلق مفهوم مناسب.

ولتقريب مدلول الآية على ضوء اللسانيّات المعرفيّة فإنّ حرف (في) يشير إلى أنّ الساري (المصلوب) يقع داخل المحدّد (النخلة)، فإنّ المعنى المستقرّ أو المتستِّر، الذي تحمله الصياغة اللغويّة في الآية، يفترض أنّ نهاية أغصان النخلة، تحدّد الظرف المفروض، والتعبير بجذوع النخل يشير إلى هذا الظرف، وبالتالي أراد فرعون المستاء جدّاً من السحرة أراد أن يصلبهم على جذوع النخل، حيث لا يقدر أحد منهم أن ينفصل عنها؛ ولهذا صنع مفهوماً متناسباً مع هذا الظرف الخياليّ: كأنّ السحرة سجنوا في قالب النخيل، بحيث لا يجدون مفرّاً من ذلك، فيبيِّن حرف (في) المشير إلى الظرفيّة كيفيّة خلق القرآن لمفاهيم خاصّة، فإنّ تقييد السحرة بالنخيل لا يجلي المفهوم المراد من الكلام، بل الذي يجلي المعنى تفاصيل أكثر عن المفهوم، وهو ما لا يقدر حرف (على) أن يوصلها إلى المتلقّي.

 

الجِيد والمسَد ــــــ

يقول تعالى: ﴿فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾ (المسد: 5).

المسد في الآية يلفّ جيد المرأة أو رقبتها، ولا يقع في داخلها، فالساري (المسد) تربطه بالمحدّد (الجيد) رابطة يشير إليها الحرف (في)، الذي يدلّ على الظرفيّة، فإنّ الرقبة أمست ظرفاً للحبل، الأمر الذي يدلّ على أن الحبل لا ينفكّ عن رقبة المرأة.

 

الصورة والخلف ــــــ

علم النفس الشكلاني (كشتالت) ( Geschtalt Psychology) ــــــ

أوّل مَنْ تناول هذه الظاهرة، أي علم النفس الشكلاني، هو «تالمي Talmy»، ثم أدخلها إلى حقل اللسانيّات المعرفيّة. فقد استخدم العلاقة بين الظاهر والخلف في تحليله للصيغ اللغويّة، التي تشير إلى العلاقات المكانيّة، فإنّ هذه العلاقات ــ التي منها المتحرّكة والساكنة ــ يشير إليها بتحديد موضع الشيء (أو الشكل)، بالإضافة إلى شيء آخر. مثلاً:

1ـ الكتابة على الطاولة.

2ـ رجع سعيدٌ إلى البيت.

3ــ كتابه بين المكتبة والأرض.

4ــ اتَّجه حسن بسيّارته من بغداد إلى دمشق.

تبيّن الصيغة (3 و4) أنّ الشكل الواحد يمكن أن يصل بأرضيّات مختلفة. وهذه العلاقة (الصورة المختلفة) قليلاً ما تكون متقارنة، على أنّ الصورة لا تتحوَّل إلى الخلف، ولا خلف يتحوّل إلى صورة (الواجهة). ولهذه القاعدة استثناءٌ، فإنّ للتقريب علاقة متقارنة بين الصورة والخلف.

1ــ السيارة قرب البيت.

2ــ البيت قرب السيارة.

نلمح للقرب في الصياغة الثانية علاقة متقارنة. غير أنّ الجملة لا تستعمل عادة في مجال التواصل. فإنّ للبيت خصوصيّات تستدعي أن نعبّر عنه بمفردة الخلف، منها أنّ البيت أكبر من السيارة، ما يجعلنا نضعه كأرضيّة في صياغتنا اللغويّة.

عدَّد «تالمي» الأسباب التي تجعل الشيء خلفاً أو صورة:

screenshot-7

ظاهرة الشكل والخلفية..، رؤية قرآنيّة ــــــ

ونلمح في القرآن أمثلة لهذه الظاهرة، منها:

أـ ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ﴾ (الأحقاف: 20).

ذهب بعض المفسِّرين إلى أنّه يوجد في الآية تغيير وتبديل على مستوى الموضع، أي ما يسمّى بالقلب، وأصل الجملة: «يوم تعرض النار على الذين كفروا». نشير إلى نقطة مهمّة ــ لتجلية خطأ هذا التفسير ــ هي أنّ النار في الآية تمثِّل (الخلف)، والذين كفروا (الشكل)، فإنّ الكفّار يوم القيامة يتمّ فصلهم عن المؤمنين، وسوقهم إلى النار، فيما يُساق المؤمنون إلى الجنّة. وعلى هذا: إنّ الأصل والأساس يوم القيامة هو الجنّة والنار، وهو أمر لا شكّ في تحقُّقه وثبوته.

غير أنّ الناس ــ في الأعمّ الغالب ــ لا يعلمون بأيّ اتّجاه يساقون، والأمر الوحيد المؤكَّد حينها تحقُّق الجنّة والنار، فهما (الخلف)، والناس المساقون هم (الصورة)، وهذا الذي يتناسب مع الصورة التي يفرضها القرآن بالنسبة إلى يوم القيامة.

إنّ الالتفات إلى كيفيّة صنع مفهوم الصورة والخلف في الصياغات اللغويّة ينطوي على فوائد لفهم الظاهرة السابقة. فإنّ الصورة متحرِّكة، وهذا التحرُّك يُتصوَّر في العقل من جهة أو طريق ما، وبالتالي تكون قيمته نسبيّة. فيما يكون الخلف هو المرجع، الذي يفرضه الذهن ساكناً، ويكون ميزاناً لحركة الصورة التي تنطلق منه([6]).

ب ـ ﴿فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ (الملك: 11).

يزعم مؤيِّدو (التبديل و التغيير)، في نظر البعض، أنّ النار غير عاقلة، بل الذي يعقل هم الناس الذين يدخلونها، وهذا هو مدلول الآية السابقة. غير أنّ النار تعقل أيضاً، حيث تجيب حين تسأل: ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ (ق: 30)، و﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ (الأنبياء: 69).

فإنّ الله تعالى يخاطب النار، ويأمرها أن تكون برداً وسلاماً على إبراهيم، فكيف لا تكون عاقلةً، والخطاب الإلهيّ موجَّه إليها.

غير خفي أنّ عرض الكفار على النار ليس لأنّ النار تعقل، بل الآية: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ﴾ (الأحقاف: 20) لم يصنع كمفهوم على أساس أنّ النار تعقل؛ ذلك لأنّ القرآن الكريم يفترض النار أو جهنّم يوم القيامة (خلفاً)؛ إذ الثابت هو (الخلف)، والكفّار بوصفهم يسيرون إليها هم (الصورة). ويوم القيامة يميّز بين الناس، فمنهم مَنْ يدخل الجنّة ومنهم مَنْ يدخل النار، فيتمتَّعون حينها بأهمّية فائقة في الصياغات القرآنيّة. وتلمح هذه الحقيقة في آيات عديدة، منها: الآية 71 من سورة الزمر، التي تشير إلى خلق مفهوم المشابه (الصورة والخلف).

تشير الآية إلى موضع الكفّار بالنسبة إلى جنهم، وإلى المفهوم (الصورة والخلف)، الذي افترضته لهما، كما جاء في الآية السابقة. فنرى الكفّار (الصورة) يساقون إلى جنهّم (الخلف). والتحليل نفسه يصدق على سوق المؤمنين إلى الجنّة، كما تشير إلى ذلك الآية 73 من سورة الزمر: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إلى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾.

 

الترتيب بين (المغفرة) و(الرحمة) ــــــ

ونشير إلى مثالٍ آخر جاء في الآية: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (المائدة: 98)؛ إذ نرى الترتيب بين الغفور والرحيم، حيث قدَّمت (الغفور) على (الرحيم). وهذا الترتيب نلحظه في جميع الآيات التي سبقت هذا النسق (أي الغفور والرحيم)، إلاّ في الآية الثانية من سورة سبأ: ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ﴾ (سبأ: 2).

ويرجع هذا الأمر إلى خلف المفهوم الخاصّ، ما لم ينتبه إليه المفسِّرون؛ إذ ذهب البعض في توجيه هذا الاختلاف في الترتيب إلى أنّ دفع المفسدة مقدَّم على المنفعة؛ لأنّ المغفرة تمثِّل دفعاً للمفسدة، التي هي سوق المرء إلى جهنّم، إنْ لم تُغفر ذنوبه. والرحمة تجلب المنفعة التي تسوق الشخص المشمول بها إلى الجنّة، وهذا الذي جعل المغفرة مقدَّمة في كثير من المواضع على الرحمة.

وأمّا عكس الترتيب الذي نلحظه في سورة سبأ فإنّه راجعٌ إلى علاقة العلم بالرحمة، فإنّ الملازمة بين المفردتين نلحظها في آيات متعدِّدة، منها: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأعراف: 52)، ﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ (الكهف: 65)، ﴿الذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ (غافر: 7).

إنّ هذه الاستخدامات تبيِّن العلاقة بين العلم بشكل ضمنيّ. فالعلم لا يكون حسناً إلاّ إذا كان مقروناً بالرحمة؛ إذ نرى الآية 2 في سورة سبأ بدأت بكلمة (يعلم)، وختمت بـ (وهو الغفور الرحيم).  فتقدَّم لفظ (الرحيم) على (الغفور)، حيث تناغم مع الحكمة الإلهيّة المتمثِّلة بعلمه تعالى([7]).

 

طريقة صنع المفهوم بين الغفور والرحيم ــــــ

نشير؛ بغية تجلية الترتيب السابق بين (الغفور والرحيم)، وطريقة صنع المفهوم، إلى النقاط التالية:

1ــ نستعمل الأسماء الإلهيّة متناسبة مع السياق المتواجدة فيه، فيتعيَّن علينا بناءً على ذلك دراسة السياق لتحليلها.

2ــ يجب أن يُذكَر شيء ما في الآية ترتبط به الأسماء، فيكون ذلك الشيء (خلفاً)، وشيء آخر في ضمن الآية (شكلاً). وبتعبير آخر: إذا ذُكر أحد الأسماء في سياقٍ ما يجب أن تكون هناك علاقة معرفيّة بين الاسم والسياق، زيادةً على تناسبه مع هذا الأخير. فإذا قِسْنا ما يحمله السياق من معلومات إلى ذلك الاسم نلحظ انطباق علاقة الشكل والخلف عليهما. ولهاته المعلومات علاقة بالموضع الذي يتّصل بذلك الاسم؛ إذ نرى في الآية السابقة (المائدة: 98) اسم الله يتَّسم بأهمّية كبيرة، والموضع المذكور جُعل جسراً للوصول إليه. وبالتالي يتحّول الاسم (خلفاً)، والموضع (شكلاً).

3ــ قد نرى في سياقٍ واحد اسمين أو ثلاثة من أسماء الله. في هذه الحالة أيضاً توجد علاقة بينهما وبين السياق، بصورة ضمنية أو صريحة. فإذا كان لدينا اسمان فلدينا تبعاً لذلك: خلفان، وشكلان. حين يصير كلّ اسم خلفاً لشكلٍ واحد، مع اختلاف أحد الاسمين (المتقدّم منهما) يكون خلفاً أصليّاً وصريحاً، والثاني خلفاً ضمنيّاً وفرعيّاً.

لتجلية النقاط السابقة نرجع إلى الآية 2 من سورة سبأ، حيث نجد إشارة إلى علمه تعالى بما يلج في الأرض وما ينزل من السماء وغيرها من الأمور: المطر ينزل من السماء، ويلج في الأرض، ويخرج منها نباتاً. تمثِّل هذه الأمور بعضاً من نعم الله، ونماذج من رحمته، فتكون (شكلاً) للرحيم، والرحيم (خلفاً) لها، وتكون الصيغ السابقة متأثِّرة بتمامها بهذا الاسم([8]). غير أنّ مجيء الغفور بعد الرحيم يدلّ على الصياغة المذكورة في الآية التي تشير ضمنيّاً إلى نقطة هي أنّ كثيراً من الناس لا يشكرون نعم الله تعالى، فهذا المفهوم الضمنيّ في الآية يشير إلى أنّ (الغفور) خلفٌ ضمنيٌّ فيها.

إنّ الاسم يكسر النسيج المتواجد فيه، ويؤثِّر في معناه. فإذا كان لدينا اسمان في نسيج واحد تكون الآية منسوجة بالاسمين مع اختلاف طفيف، حيث إنّ أحدهما يرتبط بالمشهد الظاهر والجليّ، والآخر يرتبط بالمشهد الخفيّ. ولا يخلو الاسمان من تأثير وتأثُّر فيما بينهما. ففي الآية السابقة ركّزنا على نافذة الرحمة الإلهيّة، ونظرنا إلى الغفور من خلالها، ما يجعل هذا الأخير (الغفور) تابعاً للرحيم، فيمسي الاسم الأوّل خلفاً للاسم الثاني، فيما يضحى الاسم الثاني شكلاً للاسم الأوّل.

 

اشتباه البعض من المفسِّرين والأدباء ــــــ

وقد يشتبه بعض المفسِّرين والأدباء في تعاملهم مع الآيات؛ لعدم إحاطتهم بأسس اللسانيّات المعرفيّة، تسمّى النوعيّة الغالبة لهذا الاشتباه بـ (التضمينيّ). ومعناه عند الأدباء هو كلّ فعلٍ في اللغة له حرف جارّ خاصّ به، ولا يتمّ معناه بوجود ذلك الحرف. حيث نرى في القرآن آيات نستغرب معناها في الرؤية الأولى؛ إذ نجد حرفاً جارّاً استعمل فيها مع فعلٍ ما، إلاّ أنّنا إذا ركَّزنا وتمعّنا أكثر سنجد هذا الاستعمال في غاية الدقّة.

وهذا الأمر سبّب اختلافاً بين علماء النحو:

1ــ يُغيّر الكوفيّون معنى الحروف في هذه الموارد، بمعنى الحرف المناسب للفعل المذكور.

2ــ فيما أدخل البصريّون (التضمين)، الذي يعني أنّ الفعل يجب أن يتغيَّر إلى فعلٍ يناسب ذلك الحرف، وعلى سبيل المثال الآية التالية: ﴿وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ (هود: 37). جاء الفعل (لا تخاطبني) بجنب الحرف (في)، بينما يستعمل هذا الفعل مع حرف الجر (ب)، يقال مثلاً: «لا تخاطبني بحديث الذين كفروا»، أو «بأمر الذين ظلموا». قال الكوفيّون: إنّ (في) بمعنى (ب). وقال البصريّون: إنّ الفعل المذكور جاء بمعنى (تراجعني)، الذي يستعمل مع حرف (في)، فيصير معنى الآية: (لا تراجعني في أمر الذين ظلموا، ولا تطلب الغفران لهم)([9]).

 

معنى الحرف في اللسانيّات المعرفيّة وتطبيقاته ــــــ

يتعيَّن معنى الحرف في اللسانيّات المعرفيّة باعتبار العلاقة بين (المحدّد) و(الساري). ويحصل ذلك أيضاً من تعميم: (الخلف) و (الشكل).

ففي الآية السابقة افترض القرآن ظرفاً للفعل (لا تخاطبني).

بيان ذلك: لنفرض أنّي أريد أن أدعو لبعض أخواني، الأمر الذي لا يتأتّى إلاّ بهذه الحالة: أن أدعو لهم من بعيد، كما يمكن أن أدعو لهم بالخير في محضرهم.

فالآية تحكي حالةً شبيهة بهذا المثال، فإنّ النبي نوح× كان بين الكفّار الذين كانوا يستهزئون به كلّما مرّ بهم، غير أنه كان يدعو لهم بالخير، حتى في هذه الحالة، فقال له تعالى: ﴿وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾. فنسأل حينها: هل النبيّ نوح كان في الظرف الذي وصفته الآية (بين الذين ظلموا)؟ ولماذا صنع المفهوم بجعل الكفّار ظرفاً؟؛ ذلك لأنّ النبيّ نوح صنع السفينة للخروج من بين هؤلاء، والفرار من عذاب الله النازل. فالآية تصنع مفهوماً يُمسي فيه الكفار ظرفاً، وأنّ الله تعالى يخاطب رسوله: (لا تخاطبني في هذا الظرف)؛ لأنّهم سيغرقون. وبالتالي يجب على نوح الخروج من بينهم ليدعو لهم؛ لأنّ الله تعالى أمره بصنع السفينة تحت إشرافه، حتى يتأتّى له الخروج من بين الكفّار، فيصير الكفّار ظرفاً، باعتبار صدر الآية، يخرج منه نوح بسفينته، ويتبعه غرق الكفّار، كما في ذيل الآية. وعلى هذا لا يستطيع نوح أن يدعو لهم وهو بينهم، وإذا تركهم سيغرقون. وبالتالي يتحتّم عليه أن يخرج من بينهم؛ لأنّ هلاكهم أمرٌ محتوم. وهذا الذي يتناسب مع كون الكفّار ظرفاً.

 

خاتمة ــــــ

إنّ الوظيفة المعرفيّة التي يجب أن نلتزم بها في المجال المعرفيّ هي أن ندرس الحقول المعرفيّة الدقيقة؛ خدمةً للقرآن والمعرفة الدينيّة. وتعدّد اللسانيّات المعرفيّة قمّة الفكر المعرفيّ المعاصر، ونتاجاً مهمّاً لاتّجاهات متعدِّدة في مجال اللسانيّات الحديثة. ولهذا الحقل أهمّية كبيرة في مجال المعرفة الدينيّة والتفسير القرآنيّ، نشير في ما يلي إلى نقاط مهمّة تجلي تلك الأهمية:

1ــ يدعو القرآن إلى التدبّر في آياته: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (محمد: 24). وقد نقل الطريحي (صاحب مجمع البحرين) رواية في مادة الثور في باب التدبُّر والإمعان: «من أراد العلم فليثوّر القرآن». يحتوي القرآن على علوم خاصّة تستدعي التدبُّر في مداليل الآيات التي تشير إليها. وهذا هو الطريق الوحيد الذي يوصلنا إلى كنوز تلك المعارف الخفية. واللسانيّات المعرفيّة تنطوي على أدوات كثيرة تساعدنا على لمس المعاني التي تثيرها تلك العلوم.

2ــ تساعدنا اللسانيّات المعرفيّة على الوصول النسبيّ إلى المفاهيم التي وصفها القرآن، والكيفية التي تبعها في ذلك. الأمر الذي يمكِّننا من تحليلها دون الرجوع إلى السور الأخرى؛ وذلك لأنّ القرآن معجزة إلهيّة خالدة، صياغته اللغويّة ناشئة من حكمته، حيث تنطوي على مفاهيم منتقاة بدقّة فائقة.

3ــ تمتاز اللسانيّات المعرفيّة بشاخصةٍ مهمّة، هي القدرة على تجلية الصياغات اللغويّة، ما يفيد في تبيين صياغة الآيات القرآنيّة في مجال التفسير. وبهذا نعرّي الأخطاء الكثيرة المتجلّية في التحليلات الأدبيّة، ونجعل فاعل التفسير ينفتح على آفاق جديدة لم يعهدها في السابق.

4ــ تفسير القرآن بالقرآن يستدعي آليات تحليليّة مناسبة، توصلنا إلى معارف جديدة حاصلة من مجموع الآيات. ولا يتأتّى ذلك بمجرّد جمع الآيات وترتيبها فقط، بل يتعيَّن علينا بحث الآيات المشابهة والمتناسبة لفهم المدلول الخاصّ. وهنا تتجلّى أهمّية اللسانيّات المعرفيّة، التي تساعدنا على أداء هذه الوظيفة التفسيريّة. فإنّ تفسير القرآن أمرٌ لازم، غير أنّه يحتاج إلى منهجيّة خاصّة تؤمّنها اللسانيّات المعرفيّة إلى حدٍّ ما.

مثلاً:

1ــ ولن تجد لسنّة الله تبديلاً: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾(الأحزاب: 62).

2ــ ولن تجد لسنّة الله تحويلاً: ﴿اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأوّليّنَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً﴾(فاطر: 43).

هاتان الآيتان تتشابهان في الشكل، ممّا جعل المفسِّرين يذهبون إلى أنّ التحويل يساوي التبديل في المعنى، فالنتيجة أنّ الآيتين تشيران إلى معنى واحد. فإنّهم ركَّزوا على هذه الفرضيّة أن تشابه الآيتين في الشكل واختلافهما في لفظٍ واحد يصّبان في معنى واحد أيضاً. وهنا تسعفنا اللسانيّات المعرفيّة بآليّة تجعل المعنى مختلفاً.

 

فكرة (كانط) ونقدها ــــــ

وقد يُستشكل بأن هذا الحقل المعرفيّ، هو نتاج غزو تحليلات (كانط Immanuel Kant)([10]) لعلم اللغة.

ولا ننفي أنّ تحليلات (كانط) لا تنسجم مع الفكر الإسلاميّ، وبالتالي لا يمكن لمس المعاني القرآنيّة على أساس تلك التحليلات.

وهذا الإشكال ناتجٌ عن عدم الدقّة والإمعان في حيثيات اللسانيّات المعرفيّة.

وإننا لا نشايع (كانط) على تحليلاته، بل ونؤمن بالواقعيّة التي تتعارض مع فلسفة (كانط).

زيادة على المسافة الكبيرة بين ما يدّعيه (كانط) وما تشيره اللسانيّات المعرفيّة؛ وذلك لأنّ لباب الطرح الكانطي يرتكز على أنّ العقل لا يستطيع أن يصل إلى الواقع كما هو عليه، بل يدرك الواقع من خلال حجاب يصنعه في مخيّلته. غير أنّ اللسانيّات المعرفيّة تدّعي أنّ الصياغات اللغويّة لا تمثِّل استنباطاً مباشراً وبدون واسطة من المواضع المختلفة المتواجدة في فضاء الواقع، بل تمثِّل تلك الصياغات مفاهيم يصفها الإنسان على أساس تلك المواضع. وهذا المدّعى يختلف جوهريّاً عن مدّعى (كانط)، فإنّه يدّعي أنّ هناك علاقة معرفيّة بين الإنسان والعالَم الخارجيّ، فيما ترى اللسانيّات المعرفيّة العلاقة بين اللغة والمواضع الخارجيّة.

وبالتالي يمكن رفض تخيُّلات (كانط)، والإذعان بمقاربات اللسانيّات المعرفيّة؛ إذ لا توجد ملازمة بين الأمرين، فإنّ ما فعله هذا الحقل يتمثَّل في تصحيحات لما أثاره (كانط) بقصد تجلية العلاقة بين اللغة والمواضع الخارجيّة، فلا علاقة لمتبنّيات الحقل بالأسس المعرفيّة الكانطيّة. فيمكننا الادّعاء أنّ العقل قد يصل إلى الواقع من خلال الصياغات اللغويّة التي تبيِّن ما يصنعه من مفاهيم للمس الواقع، الأمر الذي يؤمِّن الواقعيّة المعرفيّة.

 

اللسانيّات المعرفيّة والمقاربات الكانطيّة ــــــ

يمكننا القول: إنّ اللسانيّات المعرفيّة أقرب إلى الواقعيّة من المقاربات الكانطيّة؛ لأنّ فاعل اللغة يصنع جملة من المفاهيم يشير من خلالها إلى الواقع. الأمر الذي قد يجعل مفاهيم مختلفة تحكي موضعاً حقيقيّاً واحداً. فنلمس الواقع الحقيقيّ، من دون واسطة، بأنحاء مختلفة من الصياغات اللغويّة. يؤكِّد الحقل على أصلٍ أساس هو أنّ كل تعبير لغويّ يرتكز على مفهوم خاصّ، ما يمكننا أن نعبّر عن موضع واقعيّ أو حدثٍ ما بصياغات لغويّة متعدِّدة. وهذه الصيغ رغم نشوئها من واقع واحد تتميَّز فيما بينها في جملة من الحيثيّات. وهذا الأصل يسمّى (إدراك معرفة المفهوم)، ويبحث عن الفروقات التي نلمحها في تلك الصيغ اللغويّة. ويتعيّن علينا ــ بغية الوصول إلى المعنى ــ أن ندرس المفاهيم التي ترتكز عليها الصياغات اللغويّة، ولا نلتفت إلى المواضع الخارجيّة التي تحكيها الصياغات.

ويشكِّل هذا الأصل منطلقاً أساسيّاً ودليلاً مهمّاً لفهم المعنى المعرفيّ.

وتطبيق هذا الأصل في مجال التفسير يورث نتائج متعدِّدة، منها:

1ــ يجب ــ بُغية لمس المعنى في النصّ القدسيّ ــ دراسة المفاهيم التي تمّ صنعها على مستوى الآيات القرآنيّة، ولا يلتفت إلى المواضع الخارجيّة التي تشير إليها تلك الآيات.

2ــ تحمل الصياغات القرآنيّة مفاهيم تختلف عّما نلمسه في الصياغات الأخرى، مثل: الأدب، والفنّ، وما شابه ذلك. الأمر الذي يجعل فاعل التفسير يحتاط أن يغّير صياغة الآية بصياغة أخرى، بل يسعى إلى كشف المفهوم على مستوى الصياغة اللسانيّة (اللغويّة) التي تبرزها الآية القرآنيّة.

ولم نرَ ــ مع الأسف ــ هذا الحقل اللسانيّ الحديث في الدراسات العصريّة، وإذا حدث ذلك سيساعدنا كثيراً في هذا المجال (قراءة النصوص)، وبالذات النصّ القدسيّ.

لقد كانت تُعتمد في الحقل الأدبيّ العربيّ أصولٌ في عمليّة التفسير. والآن يمكن لنا ــ على ضوء اللسانيّات المعرفيّة ــ حذف جملة من تلك الأصول، ممّا يجعلنا نفهم الآيات القرآنيّة بطريقة مختلفة.

مع هذا كلّه فإنّ هذا الحقل (اللسانيّات المعرفيّة) ينطوي على دراسات معقَّدة وشائكة، ويرجع ذلك إلى هالة الدراسات التي تأثَّرت بحقول معرفيّة متنوِّعة، منها: علم النفس المعرفيّ، العقل الاصطناعيّ، وما أشبه ذلك. وهذا الذي جعل هذا الحقل ينتمي إلى العلوم المعرفيّة.

الهوامش

______________________

(*) أستاذٌ في الفلسفة وعلم الكلام الجديد، ومدير مجلّة (الحكمة) الصادرة باللّغة الإنجليزية عن مؤسَّسة الفكر والثقافة.

([1]) lakoff and Johnson, 1999: 11 ـ 12.

([2]) وهذا خلاف ما هو متعارف في الأدب التقليديّ، من أنّ اللغة تحكي أشياء الخارج مباشرة (المترجم).

([3]) Lee, 2001: 2.

([4]) نفس المصدر.

([5]) Fillmore, 2006: 373.

([6]) Talmy, 2000: 312.

([7]) الحمصي: 14 ـ 16، 1413هـ.

([8]) يتعيَّن مفهوم الآية وفقاً لهذا التحليل الإدراكي (المنسوب إلى اللسانيّات) كالتالي: العلم الذي يتمثَّل في الرحمة التي تلج في الأرض، والرحمة التي تخرج منها، والرحمة التي تنـزل من السماء وتعرج فيها (المترجم).

([9]) الحمصي: 46 ــ47، 1413هـ.

([10]) من أعظم فلاسفة العصر الحديث، ولد في مدينة (كينجسبرج Konigsberg) في روسيا عام 1724م، وتوفي سنة 1804م، دفن في قبر الأساتذة في مقبرة (جامعة كينجسبرج). كان (كانط) ذا نزعة عقليّة تامة؛ ولهذا أحبّ العلوم الدقيقة، أي الرياضيّات، والعلوم الطبيعيّة القائمة على التجربة والملاحظة، مثل: الفيزياء، والفلك، ونشأة الكون. لكنّه اتَّخذ منها نقطة انطلاق لتكوين نظرة شاملة في الكون، أعني نظرة فلسفيّة تنظِّم المعرفة البشريّة بعامّة. وفي سبيل ذلك كان عليه أن يفحص عن حقيقة المعرفة الإنسانيّة، ومن هنا اهتمّ أيّما اهتمام بنظريّة المعرفة، أي إلى أيّ مدى يستطيع عقلنا الوصول إلى إدراك حقيقة الكون والطبيعة والإنسان؟ وما هي أدوات المعرفة الصحيحة؟ وما قيمة هذه الأدوات وأدوارها في تحصيل المعرفة الصحيحة؟ (انظر: عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة 2: 269 ـ 270، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت، 1984) (المترجم).

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً