أحدث المقالات

د. الشيخ يعقوب علي برجي(*)

ترجمة: نظيرة غلاب

 

تمهيد ــــــ

يعتبر الشهيد محمد باقر الصدر أحد كبار الفقهاء الذين عاصروا الإمام الخميني&، الذين عرف عنهم الدقّة وعمق التحليل. له مراجعات دقيقة للفكر السياسي الشيعي في أبعاده المختلفة، وبالأخص في ما يخصّ جانب الزعامة والقيادة. وقد أفصح ما بقي له من آثار عن أنّ له ثلاث نظريات سياسيّة في موضوع الولاية والقيادة السياسية.

الأولى: الحكومة المنتخبة وفق مبدأ الشورى. وهي النظرية التي تحدَّث عنها سنة 1378هـ في كتابه «الأسس الإسلامية».

الثانية: ولاية الفقيه المنصَّب من طرف عامّة الفقهاء. أدلى بهذه النظرية سنة 1395 و1396هـ في تعليقاته على منهاج الصالحين والفتاوى الواضحة.

الثالثة. الخلافة بإشراف المرجعية الدينية. جاءت هذه النظرية قبل سنة من شهادته سنة 1399هـ في جوابه عن أسئلة ستّة من علماء لبنان حول مباني الجمهورية الإسلامية، حرَّرها في المجموعة المختصرة «الإسلام يقود الحياة»، الحلقة الرابعة، بعنوان (خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء).

تعتبر نظريته في انتخاب الحاكم عن طريق الشورى أوّل نظرياته في الدولة وتسيير أمور البلاد، وقد عدل عنها بعد تطوُّر أفكاره في السياسة والحكومة الإسلامية.

 

1ـ الولاية العامة للفقيه المنصَّب ــــــ

تحدّث الشهيد الصدر عن نظرية «ولاية الفقيه العامة»، وكتب يقول: «المجتهد المطلق إذا توفرت فيه سائر الشروط الشرعية في مرجع التقليد… جاز للمكلف أن يقلده، كما تقدم، وكانت له الولاية الشرعية العامة في شؤون المسلمين شريطة أن يكون كفواً لذلك من الناحية الدينية والواقعية. وللمجتهد المطلق أيضاً ولاية القضاء، ويسمى على هذا الأساس بالحاكم الشرعي، وسيأتي الحديث عن الولاية العامة والقضاء وأحكامه في القسم الرابع من الفتاوى الواضحة إن شاء الله».

وكتب في حاشيته على كتاب منهاج الصالحين، وضمن بحث «نقض حكم الحاكم»: «إذا كان الحكم كاشفاً عن الواقع، كموارد المرافعات، فلا يجوز نقضه حتّى مع العلم بالمخالفة، ويجوز للعالم بالمخالفة أن يرتِّب آثار الواقع المنكشف لديه. وأما إذا كان الحكم على أساس ممارسة المجتهد لولايته العامة في شؤون المسلمين فلا يجوز نقضه حتّى مع العلم بالمخالفة، ولا يجوز للعالم بالخطأ أن يجري على وفق علمه».

وكتب في جوابه عن تساؤلات حول الأدلة على ولاية الفقيه: «هناك روايات أخرى عديدة، غير أنّ ما نعتمد عليه هو التوقيع، خاصّة في إثبات الولاية العامّة».

 

2ـ نظريته في خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء ــــــ

أقام الشهيد الصدر نظريته في خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء على ركيزتين: الأولى: خلافة الإنسان؛ والثانية: شهادة الأنبياء.

 

الأولى: خلافة الإنسان ــــــ

في تعرّضه لهذا المبحث أشار إلى خمسة مطالب أساسية:

 أـ أهمية وقيمة خلافة الإنسان ــــــ

إن الله سبحانه وتعالى شرّف الإنسان بالخلافة في الأرض، فكان الإنسان متميِّزاً عن كل كائنات الكون بأنّه خليفة الله في الأرض، وبهذا اللحاظ استحقّ أن تسجد له الملائكة، وتدين له كل قوى الكون، المنظورة وغير المنظورة، بالطاعة والتسخير([1]).

 

 ب ـ خط خلافة الإنسان وحدودها ــــــ

ممّا قاله الشهيد الصدر في تعيين نطاق خلافة الإنسان وامتداداته أنّ الخلافة التي تتحدَّث عنها الآيات الشريفة لا تجعل الخلافة منحصرة بشخص آدم×، بل هي للجنس البشري كلّه([2]).

 

 ج ـ خط خلافة الإنسان ــــــ

حول مساحة خلافة الإنسان كتب الشهيد الصدر يقول: «واستخلاف الله تعالى خليفة في الأرض لا يعني استخلافه على الأرض فحسب، بل يشمل هذا الاستخلاف كلّ ما للمستخلِف سبحانه وتعالى من أشياء تعود إليه، والله هو ربٌّ للأرض، وخيرات الأرض، وربّ الإنسان والحيوان وكلّ دابة تنتشر في أرجاء الكون الفسيح، وهذا يعني أن خليفة الله في الأرض مستخلَف على كلّ هذه الأشياء. ومن هنا كانت الخلافة في القرآن أساساً للحكم، وكان الحكم بين الناس متفرِّعاً على جعل الخلافة.

ولمّا كانت الجماعة البشرية هي التي مُنحت ـ ممثَّلةً في آدم ـ هذه الخلافة فهي إذاً المكلَّفة برعاية الكون، وتدبير أمر الإنسان، والسير بالبشرية في الطريق المرسوم للخلافة الربانية.

وهذا يعطي مفهوم الإسلام الأساسي عن الخلافة، وهو أن الله سبحانه وتعالى أناب الجماعة البشرية في الحكم وقيادة الكون، وإعماره اجتماعياً وطبيعياً. وعلى هذا الأساس تقوم نظرية حكم الناس لأنفسهم، وشرعية ممارسة الجماعة البشرية حكم نفسها؛ بوصفها خليفة عن الله»([3]).

 

د ـ الآثار المترتبة على الإدراك الصحيح لمفهوم خلافة الإنسان في المجتمع الإنساني ــــــ

يرى الشهيد الصدر أنّ من نتائج الإدراك الصحيح لمفهوم خلافة الإنسان:

أولاً: يدرك قاطعاً أن انتماء الجماعة البشرية كلّها هو إلى محور واحد، وهو المستخلِف، أي الله سبحانه وتعالى الذي جعله مستخلَفاً، بدلاً عن كلّ الانتماءات الأخرى، ويؤمن بسيادة الله سبحانه وتعالى لهذا الكون بدون منازع.

ثانياً: إقامة العلاقات الاجتماعية على أساس العبودية الخالصة لله، وبذلك يتحرَّر الإنسان من عبودية الأسماء التي تمثِّل ألوان الاستغلال والجهل والطاغوت.

ثالثاً: تجسيد روح الأخوة العامّة في كل العلاقات الاجتماعية، بعد محو كلّ ألوان الاستغلال والتسلط.

رابعاً: إن الخلافة استئمانٌ، ولهذا عبَّر القرآن الكريم عنها بـ «الأمانة».

ويرى الشهيد الصدر أنّ الامانة توجب المسؤولية، والإحساس بهذا الواجب يدفع إلى تجرُّع أعباء الأمانة، والقيام بهذه المسؤولية. هذه المسؤولية ذات حدّين؛ فمن جهة تعني الارتباط والتقيّد بالقانون وبالعدالة، وعدم الخضوع للرغبات والأهواء، هذا التقيّد يمثِّل في الحقيقة ملاك منصب الخلافة في الأرض، وهو الملاك الذي يميِّز الحكومة في القرآن عن حكم الناس للناس في الأنظمة الوضعية وديموقراطيات الغرب؛ ومن جهةٍ ثانية المسؤولية تعني أنّ الإنسان كائنٌ حرّ؛ إذ بدون الاختيار والحرية لا معنى للمسؤولية. ومن أجل ذلك كان بالإمكان أن يستنتج من جعل الله خليفة على الأرض أنه يجعل الكائن الحرّ المختار، الذي بإمكانه أن يصلح في الأرض، وبإمكانه أن يفسد أيضاً، وبإرادته واختياره يحدّد ما يحقّقه من هذه الإمكانات([4]).

 

هـ ـ أهداف خلافة الإنسان ــــــ

وفقاً لعقيدة ورؤى الشهيد الصدر فإنّ خلافة الله في أرضه تعني أن يحقِّق الإنسان الخليفة على الأرض في ذاته تلك القيم التي يؤمن بتوحيدها جميعاً في الله عزّ وجلّ، الذي استخلفه واسترعاه أمر الكون. فصفات الله تعالى وأخلاقه، من العدل والعلم والقدرة والرحمة بالمستضعفين والانتقام من الجبارين والجور الذي لا حدّ له، هي مؤشِّرات للسلوك في مجتمع الخلافة، وأهداف للإنسان الخليفة. فقد جاء في الحديث: «تشبَّهوا بأخلاق الله»، بمعنى أن تتجلّى في سلوكياتنا وأخلاقنا صفات الله؛ لأن هذه القيم على المستوى الإلهي مطلقة، ولا حدّ لها. ولأنّ الإنسان الخليفة كائنٌ محدودٌ فمن الطبيعي أن تتجسَّد عملية تحقيق تلك القيم إنسانياً في حركة مستمرة نحو المطلق، وسير حثيث إلى الله. وتصوغ العلاقات الاجتماعية على أساس الركائز المتقدّمة للخلافة الربانية([5]).

 

الثانية: خط الشهادة ــــــ

كانت الركيزة الثانية التي بنى عليها الشهيد الصدر نظريته في الحكومة الإسلامية مفهوم «الشهادة»، وهو المصطلح الذي يحمل في فكر الشهيد الصدر ثقلاً سياسياً، حيث يخرج عن الاستعمال القانوني الصرف. وقد قمنا بتصنيف آراء الشهيد الصدر في هذه النظرية، ونعمل على تقديمها بالترتيب التالي:

 

1ـ ضرورة وجود الشاهد ــــــ

إن الخصوصيات الغريزية للبشر، وإمكان حصول الخطأ، النسيان، المعصية، والظلم منه، جعل من الضرورة وجود خطّ الشاهد، الذي يكمل خطّ الخلافة، ويصونه من الانحراف. وكتب الصدر في هذا الخصوص: «وضع الله سبحانه وتعالى إلى جانب خطّ الخلافة ـ خلافة الإنسان على الأرض ـ خطّ الشهادة، الذي يمثِّل التدخل الرباني من أجل صيانة الإنسان الخليفة من الانحراف، وتوجيهه نحو أهداف الخلافة الرشيدة. فالله تعالى يعلم ما توسوس به نفس الإنسان، وما تزخر به من إمكانات ومشاعر، وما يتأثَّر به من مغريات وشهوات، وما يصاب به من ألوان الضعف والانحلال. وإذا تُرك الإنسان ليمارس دوره في الخلافة، بدون توجيه وهدى، كان خلقه عبثاً، ومجرّد تكريس للنزوات والشهوات وألوان الاستغلال.

وما لم يحصل تدخُّل رباني لهداية الإنسان في مسيرة حياته على الأرض فإنه سوف يخسر كلّ الأهداف الكبيرة التي رسمت له في بداية الطريق. وهذا التدخّل الرباني هو خطّ الشهادة أو شهادة الأنبياء»([6]).

 

 2ـ أصناف الشهداء ــــــ

لقد اتَّخذ الشهيد الصدر الآية 44 من سورة المائدة:  ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ﴾ (المائدة: 44) مرجعاً في تحديد أصناف الشهداء، وقال: والأصناف الثلاثة على ضوء هذه الآية هم: النبيّون، والربانيون، والأحبار. والأحبار هم علماء الشريعة، والربّانيون درجة وسطى بين النبيّ والعالم، وهي درجة الإمام. ومن هنا أمكن القول بأن خطّ الشهادة يمثل في:

أولاً: في الأنبياء.

وثانياً: في الأئمة، الذين يعتبرون امتداداً ربانياً للنبيّ في هذا الخط.

وثالثاً: في المرجعية، التي تعتبر امتداداً رشيداً للنبيّ والإمام في خطّ الشهادة»([7]).

 

3ـ ما به تشترك شهادة الشهداء ــــــ

أولاً: استيعاب الرسالة السماوية والحفاظ عليها.

ثانياً: الإشراف على ممارسة الإنسان لدوره في الخلافة، ومسؤولية إعطاء التوجيه بالقدر الذي يتَّصل بالرسالة وأحكامها ومفاهيمها.

ثالثاً: التدخل لمقاومة الانحراف، واتخاذ كل التدابير الممكنة من أجل سلامة المسيرة.

هذا هو المحتوى المشترك بين أدوار الشهداء بأصنافهم الثلاثة.

 

4ـ ما تفترق به شهادة المعصوم عن شهادة المرجع ــــــ

يرى الشهيد الصدر أن هناك فروقاً جوهرية بين شهادة كلٍّ من النبيّ والإمام، أي المعصوم، بشكلٍ عام وبين شهادة المرجع. وتكمن هذه الفوارق في ما يلي:

1ـ مقام النبوة والإمامة إفاضة من الله تعالى على أشخاص بعينهم، بينما مقام المرجعية اكتسابيّ، يتم تحصيله بالجهد والاجتهاد.

2ـ إن تعيين النبي والإمام تعيينٌ شخصيٌ، وأما المرجع فتعيُّنه نوعيّ. فالإسلام حدَّد الشروط العامة للمرجع، وترك للأمة انتخابه، وفق تطابقه وتلك الشروط العامة.

3ـ إن النبي الأكرم| والإمام معصومون، بمعنى أنّهم مجسِّدون فعلياً للرسالة في قيمها وأحكامها في سلوكيّاتهم وأخلاقياتهم، في سكناتهم وحركاتهم، ولا يصدر منهم عمداً أو عن غير عمد أيّ ممارسة تخرجهم عن حدود العصمة المطلقة، بينما خصوصيّة المرجع العدالة، ولا بدّ أن تكون بدرجة عالية تقرب من العصمة، وليس بمعصومٍ؛ لأن المرجع يحتاج إلى شهيدٍ معصوم، ومقياس موضوعي يقيس عليه سلوكياته وتصرفاته، في مقام المرجعية، وفي مقام حياته الخاصّة.

 

 5ـ شروط الشهادة ــــــ

حسب آراء الشهيد الصدر فإنّ المقارنة بين آيات الشهادة تكشف عن شروط ذاتيّة في الشاهد أو الشهيد، وهي:

1ـ العدالة. والعدالة في فكر الشهيد الصدر هي الوسطية والاعتدال في السلوك.

2ـ العلم واستيعاب كامل للرسالة المستحفظ عليها.

3ـ العلم والوعي بالواقع والمحيط الخاصّ والعامّ لزمن الشهادة. ولكي يبين الشهيد الصدر قيمة هذا الشرط كتب يقول: «إذ لا معنى للرقابة بدون وعي وإدراك لما يُراد من الشهيد مراقبته من الظروف والأحوال (يريد الأوضاع والأحوال الاجتماعية والسياسية)»([8]).

4ـ الكفاءة والجدارة. وبحسب رأي الشهيد الصدر فإنّ تحقُّق هذا الشرط يرتبط بالحكمة والصبر والشجاعة، وهي الصفات التي تستخلص من المعاناة والمحن والتجارب وكثرة البلاء في سبيل الله.

المسار التاريخي لخلافة الإنسان والشهادة ــــــ

لقد رأى الشهيد الصدر أن خطّي خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء قد قطعا مراحل مختلفة تتوافق والمراحل التاريخية للمجتمع البشري. ففي بعض المراحل اندمج الخطان معاً في وجود الأنبياء، وكان شخص واحد شاهداً على الأمة وقائداً للمجتمع؛ ووجدناهما في مراحل تاريخية أخرى ينفصلان، ليكون هناك النبيّ الشاهد أو المعصوم الشاهد والإنسان الخليفة. وقد استخلص السيد الصدر هذا التمرحل من الآية الشريفة 213 من سورة البقرة: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِي مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾.

ونقل رواية عن الإمام محمد الباقر× تفسِّر المراد من الآية، حيث قال×: إن الناس كانوا أمّة واحدة على فطرة الله، فبعث الله النبيين حتّى يرفع الاختلاف من بين الأمّة».

وكما يرى الشهيد الصدر فإن الآيات تكشف عن أن خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء قد مرّت بالمراحل التالية:

1ـ مرحلة الفطرة الأوّلية: وقد شكل المجتمع البشري خلافته على وجه الأرض باعتباره أمة واحدة، وأنشأ المجتمع الموحد بركائزه وأركانه. فقد شكلت الفطرة الركيزة الأساسية التي بنى عليها مجتمعه ومنهاجه، الذي يقيس به تصرفاته وعلاقاته الاجتماعية. وكان دور شهادة الأنبياء في مثل هذا المجتمع في ممارسة مهمة الهادي والموجّه والرقيب. وكما يفهم من النص القرآني فإن الأنبياء إنّما بعثوا ليحكموا بين الناس في الفترة التالية لفترة الفطرة، الفترة التي كان الناس فيها أمة واحدة. ففي هذه المرحلة كانت الخلافة والحكم للجماعة البشرية نفسها، وكان دور الأنبياء فقط للتوجيه والإشراف»([9]).

2ـ مرحلة الاختلاف: بعد مرحلة الوحدة وتشكّل خلافة الإنسان على الفطرة تلتها مرحلة أخرى بشكل تدريجي، بدأت تظهر فيها الاختلافات، والتي بدأت تتوسع بتوسُّع نسمة المجتمع البشري، وازدياد تعداد أفراده. فبدأ الاستقلال والتنافس على السيطرة والتملك، وبالتالي ظهر الفساد والانحرافات الأخرى، التي تخالف سير الفطرة، وانقسم المجتمع إلى: أقوياء؛ وضعفاء، وإلى: مستغلين؛ ومستضعفين، هؤلاء الطابور الأخير الذين مورست في حقّهم أنواع وأصناف الظلم والقهر والاستعباد… ولم يبقَ مستضعَفٌ غير ظالم لنفسه، إلاّ فئة مغلوبة على أمرها»([10]).

3ـ مرحلة الخلافة وشهادة الأنبياء والأئمة: بعد أن انتشر الاختلاف، وخرج أغلب المجتمع البشري عن الفطرة، بعث الله الأنبياء؛ لكي يبنوا للثورة على الظلم والاستغلال والاستبداد قواعدها الصالحة، والتي لا تريد علواً في الأرض ولا فساداً، ويعيدوا بالتالي إلى المجتمع البشري الشروط الحقيقية لاستعادة دوره في الخلافة الصالحة كما أرادها الله تعالى. فالأنبياء علاوةً على دورهم الإرشادي كانوا مكلَّفين بإيجاد و تربية القاعدة التي ترفض الظلم، وتسعى لإزاحته بكلّ ما لديها عن المجتمع البشري؛ ودور آخر في قيادة هذه الثورة وإحداث التغيير في المجتمع. وقد فرضت الثورة أن يمارس النبي| خطّ الخلافة؛ لكي يخرج بالأمة من الجاهلية إلى الفطرة، ولكي تحقق الثورة أهدافها. كذلك فرضت الثورة ـ ولا زالت ـ أن يتولّى الإمام زمام الخلافة. فالثورة على الظلم والاستبداد تفرض على المعصوم أن يستمرّ على خط الأنبياء في ممارسة الخلافة والشهادة»([11]).

4ـ شهادة ورقابة مراجع التقليد: تميَّز في هذه المرحلة خط الشهادة عن خطّ الخلافة، بعد أن كانا مندمجين في شخص النبي الأكرم| أو خطّ الإمام المعصوم×. فتحمَّل الفقيه المرجع خطّ الشهادة باعتبار المرجعية امتداداً لخطّ النبوة والإمامة، وخطّ الخلافة عهد به إلى الناس. وجعل خطّ الشهادة للفقيه المرجع الذي حدّدت وظيفته في ثلاثة مواضيع هامّة وخطيرة للغاية:

أولاً: أن يحافظ المرجع على الدين وعلى الشريعة الإسلامية، باعتبارها الجانب العملي للإسلام، وأن يردَّ عنها شبهات الفاسقين وكيد الكافرين.

ثانياً: أن يبيِّن أحكام الإسلام ومفاهيمه، وأن يعمل الاجتهاد في العناصر المتحرّكة الزمنية أيضاً، باعتباره هو الممثِّل الأعلى للأيديولوجية الإسلامية.

ثالثاً: أن يشرف ويراقب إجراء الأحكام بين الناس في المجتمع المسلم.

نعم، إنّ تعيين المرجع هو من قبل الله تعالى، من خلال تحديد الصفات والخصائص، أي بالشروط العامة، لكنّ تحديد الشخص المرجع هو مسؤولية الأمّة، عن طريق تطبيق تلك الشروط العامة على شخص المرجع بعينه.

وبالنسبة لخطّ الخلافة في زمن غيبة المعصوم فإنّ الحال لا يخلو من حالتين:

الأولى: أن تكون الأمة محكومة بالطاغوت، وغير قادرة على ممارسة حقّها في الخلافة العامة. في هذه الحالة يتولّى المرجع رعاية حقّ الخلافة في حدود الممكن، إلى جانب حق الشهادة.

الثانية: أن تكون الأمة قد تحرَّرت من سلطة وسلطنة الطاغوت. حينها ينتقل إليها خطّ الخلافة، وبذلك تمارس دورها في القيادة السياسية والاجتماعية في الأمة، وتطبق الشريعة الإسلامية من موقع الاستخلاف في الأرض.

وقد استلهم الشهيد الصدر دور الأمّة في ممارسة خطّ الخلافة في مثل هذا الظرف السياسي من الآيتين الشريفتين: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾؛ و﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ.

فالآية الأولى تعطي للأمة صلاحية ممارسة أمورها باستعمال الشورى، ما لم يرِدْ نصٌّ خلاف ذلك.

وأمّا الآية الثانية فإنّ لكلّ فرد الولاية على الآخرين. والولاية المراد في هذه الآية تولي أموره؛ بقرينة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواردة في الآية. والولاية تجري بين المؤمنين بشكلٍ متساوٍ.

فطبق الآيتين في حالة ظهور اختلاف لا بدّ من الاستفادة من الشورى. وهذا يعني أنّ مسؤولية الخطين في عصر الغيبة هي قسمةٌ بين المرجع والناس.

وكما رأينا فالشهيد الصدر يؤمن بأن خط الشهادة في عصر الغيبة منفصلٌ عن خط الخلافة، وأن خط الخلافة في هذه المرحلة مرجعه إلى الناس، وخطّ الشهادة مسؤولية مراجع التقليد وفي عهدتهم.

أمّا عندما يكون الناس تحت قوّة الطاغوت وسلطة ظالمة فإنّ خط الخلافة يندمج وخط الشهادة، ويكونا كلاهما في مسؤولية مراجع التقليد. وحين تصل الأمة إلى مرحلة الرشد، وتزيح الطاغوت عن رقابها، تتولّى ممارسة خطّ الخلافة، وتتولى مهامها السياسية والاجتماعية.

وأمّا طريقة ممارسة الأمة لخط الخلافة فيتمّ بانتخاب واختيار شخص معيَّن، ويعهدون إليه أمور الدولة.

وكما تقدّم فإن الشهيد الصدر قد اعتمد في إثبات مدَّعاه حول الشورى، وممارسة الأمّة لخط الخلافة، على الآيتين الشريفتين: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾؛ ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾. فالشهيد الصدر يذهب إلى القول بأن الآيتين يكمل بعضهما البعض، ويثبتان المدَّعى المتقدّم. فالآية الأولى حجّة في إثبات حقّ الأمة في انتخاب وليّ أمرها. لكن في حالة وجود التعارض بين رأي أغلبية فئات المجتمع والفئة القليلة من النخبة والعلماء يطرح السؤال: رأي أيّ واحد منها يقدَّم على الآخر؟ فهل الملاك ناظر إلى الكمّية أم إلى الكيفية؟ حيث الآية لم تتعرَّض لهذا الأمر، ويبقى المطلب محاطاً بالغموض والإبهام.

وتأتي الآية الثانية لترفع هذا الإبهام، وتكشف هذا الغموض. فهي تثبت حقّ ولاية وحاكمية الناس. فكما أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتساوى فيه كلّ الناس، وحيث تعارضت الكمّية والكيفيّة يكون الملاك هو الكمّية، فيؤخذ برأي الأغلبية.

 

مناقشة لنظرية الشهيد الصدر ــــــ

إنّ نظرية الشهيد الصدر المتقدّمة قابلة للنقاش من عدّة وجوه:

1ـ إنّ الآيتين المتقدّمتين غير دالّتين على مدَّعى السيد الشهيد، ولا تثبت ما ذهب إليه، من أنّ آية الشورى حجّة في إثبات رأي الأكثرية في انتخاب وليّ الأمر؛ إذ الآية غير واردة في هذا المقام؛ وذلك لأنّ الآية هي ضمن آيات أتت في صدد بيان الصفات والأعمال التي تؤدي إلى نجاة الإنسان، وتكون ذخيرة له يوم القيامة. وهذه الصفة في زمن نزول الآية قابلة للفعلية، شأنها شأن الصفات الأخرى الواردة في السياق، مثل: عدم ارتكاب الكبائر، ترك المعاصي، العفو، إقامة الصلاة، وغيرها…([12]). فالمشورة ذكرت ضمن هذه المجموعة من الصفات. وإذا قلنا بأنّ الآية هي حجّة على حقّ أكثرية الناس في انتخاب وليّ أمرها فإنّ الآية نزلت في زمن النبيّ الأكرم|، حيث لا يمكن إجراء هذا الحقّ؛ وذلك لأن النبيّ الأكرم| لا ينتخب من طرف الناس، مما يعني أنّها لا تعني ما ذهب إليه الشهيد الصدر مطلقاً.

لذا فإن المراد من «أمرهم» ليس الولاية، والهدف من المشورة في «شورى» ليس الحجّة على حقّ الأغلبية في انتخاب وليّ الأمر، بل مراد الآية أن يستفاد من المشورة لتوضيح المطالب وتبيينها، بالاستفادة من آراء الآخرين. من هنا فنحن نرى أنّ هذه الآية تتَّحد في المعنى والآية الشريفة: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾.

ودلالة الآية الثانية على المدَّعى منوطة بأن يكون معنى «الولاية» أولوية التصرُّف، وليس النصرة والمعونة. والآية تتفق والمعنيين.

كذلك فإن قرينة «الأمر بالمعروف و…» غير مؤيِّدة للمعنى الأول؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتوافق والمعنيين. كما أنّه ليس هناك قرينة تسمح لنا حمل «الولاية» في الآية على المعنى الأول([13]).

2ـ لقد فصَّل الشهيد الصدر بين الحالة التي يكون فيها الناس تحت سلطة جائرة طاغوتية وبين الحالة التي لا يكونون فيها تحت مثل هذه السلطة، ورأى أنه في الحالة الأولى يكون خطّ الخلافة وخط الشهادة كلاهما في عنق المرجع والفقيه، أما في الحالة الثانية فإنّ خط الخلافة يكون للناس، وخط الشهادة يكون في عهدة المرجع. والسؤال الذي يطرح هنا هو: ما هو الدليل الذي اعتمده الشهيد الصدر في إصدار هذا الفصل وهذا التمايز؟

فإذا كان يرى أدلة ولاية الفقيه تامّة فإنّ كلا الخطّين سيكونان في عهدة المرجع والفقيه، سواء كانت الحكومة طاغوتية أو ديموقراطية؛ أما إذا كان لا يراها تامّة فإن المرجع والفقيه لن يكون مكلَّفاً بأيّ واحد من الخطين: خط الخلافة؛ وخط الشهادة.

وقد سعى بعض تلامذة الشهيد الصدر إلى إيجاد مخرج لهذه المعضلة، فقالوا: إن إدارة أمور الناس هي في عهدتهم وتحت تصرفهم في حالة كانوا تحت سلطة عادلة، أما لو كانوا تحت سلطة ظالمة فإنّ خط الخلافة يرجع للفقيه والمرجع، وما دام القدر المتيقَّن منه هو الفقيه فإنه علاوة على دور الشاهد يمكنه تولّي أمور الولاية والخلافة. وقد يستفاد من التوقيع الشريف في هذه الحالة، أي حالة القصور، وهو مرتكز عقلائيّ. وكذا يستفاد من مناسبة وموضوع الحكم في التوقيع الشريف، والذي يرى تولّي هذين الخطين لعلّة قصور المولّى عليهم.

من هنا ففي الحالات الفردية لا يثبت التوقيع الشريف ولاية الفقيه على الإنسان البالغ، العاقل، غير الغائب، وغير القاصر. ونفس الحالة تجري في القضايا الاجتماعية والمجتمعية. فالمجتمع الذي يعيش تحت سلطة ظالمة وجائرة هو مجتمع قاصرين، فيكونون؛ لهذا القصور، تحت ولاية الفقيه. لكنّ الناس الأحرار، والذين يتمتَّعون بالعدالة الاجتماعية وبالحرية الاجتماعية بهذا اللحاظ، أناس راشدون، ممّا يستتبع كونهم في غير حاجة إلى الوليّ والقيِّم([14]).

لقد أدرك هؤلاء جميعاً أن هذا المطلب الذي طرحه الشهيد الصدر غير قابل للدفاع؛ فمقايسة الحالات الفردية بالحالات الاجتماعية قياس مع وجود الفارق. فنحن نتفق معهم ومع الأحكام الفقهية التي ترى أنّ الفرد البالغ العاقل والرشيد لا يحتاج إلى الولي والقيم، لكنّ المجتمع البشري لا غنى له أبداً عمَّنْ يدير أموره في الدولة، وفي الاجتماع، وبالتالي فهو دائم الحاجة إلى الولي.

ووفق النظريتين (الانتخاب؛ والتنصيب) فإن المجتمع البشري لا يستغني عن الولي والقائد. مع فارق أنّه في النظرية الأولى يقوم الناس بانتخاب خليفتهم ووليهم، وأما في النظرية الثانية الله سبحانه وتعالى قد عيَّن القادة، وعرَّف بالأئمة ولاةً للأمة بعد النبيّ الأكرم|، ممّا يعني أنهم يستمدون مشروعيتهم من الله سبحانه وتعالى، لكنّ قبولهم وطاعتهم هي تكليف شرعي في عهدة الناس، كما عهدت إليهم ممارسة الأحكام، من صلاة وصوم و….

3ـ لقد بيَّن الشهيد الصدر للمرجع والفقيه في زمن الغيبة ثلاثة مهامّ ومسؤوليات: 1ـ حفظ الشريعة، 2ـ الاجتهاد، 3ـ المراقبة الدقيقة في إجراء أحكام الله بين الناس.

وسؤالنا هنا: إذا كان خطّ الخلافة منفصلاً عن خطّ الشهادة في عصر الغيبة، وقد عهد للناس بخط الخلافة، وبذلك يتولَّوْن مسؤولياتهم السياسية والاجتماعية، فما هي القدرة التي سيعتمد عليها الفقيه والمرجع؟! وما هي الإمكانات التي سينطلقان منها في حفظ الشريعة، وفي مراقبة إجراء أحكام الإسلام بين الناس؟!

 

الهوامش

(*) أستاذٌ في الحوزة والجامعة، له عددٌ وافر من المؤلَّفات والأبحاث.

([1]) خلافة الانسان وشهادة الأنبياء: 13، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، 1399هـ.

([2]) المصدر نفسه.

([3]) المصدر السابق: 14.

([4]) المصدر السابق: 15 ـ 19.

([5]) المصدر السابق: 21.

([6]) المصدر السابق: 23.

([7]) المصدر السابق: 24.

([8]) المصدر السابق: 28

([9]) المصدر السابق: 33.

([10]) المصدر السابق: 34.

([11]) المصدر السابق: 39

([12]) الشورى: 36 ـ 39.

([13]) السيد كاظم الحائري، ولاية الأمر في عصر الغيبة: 166.

([14]) المصدر السابق: 137 وما بعد.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً