أحدث المقالات

الهويّة والتعريف

 

د. أبو القاسم فنائي(*)

ترجمة: حسن مطر

 

«العَقْلُ دَلِيلُ المُؤْمِنِ» (الإمام الصادق×)([1]).

 

1ـ مدخل

نسعى في هذا الفصل إلى تعريف «الدين» و«الأخلاق». وتعود ضرورة ذلك إلى أمرين: الأوّل: إن دراسة النسبة بين الدين والأخلاق تفتقر إلى إدراكٍ وتصوّر واضح عن هذين المفهومين؛ والثاني: إن فهم عموم المسلمين للأخلاق وحدودها فهم ناقص، ومحفوف بالغموض؛ حيث يعاني هذا الفهم من نقصين رئيسين؛ إذ إن الأخلاق من وجهة نظر عامة المسلمين لا تشمل:

1ـ أخلاق الإيمان أو أخلاق التفكير والتحقيق.

2ـ الأخلاق الاجتماعية.

بمعنى أن المسلمين من جهةٍ لا يمتلكون تصوّراً واضحاً عن أخلاق الإيمان أو أخلاق التفكير؛ ومن جهة أخرى يتنزّلون بالأخلاق الاجتماعية إلى مستوى الفقه.

وعلينا أن نبيّن منذ البداية أن تعريفنا للدين والأخلاق لن يقوم على المنهج الأرسطي في تعريفهما، فإننا لا نروم الكشف عن «ذات» و«ماهية» الدين والأخلاق، وبيان جنسهما وفصلهما. فمن وجهة نظرنا ليس لكلٍّ من «الدين» و«الأخلاق» ذات وماهية بالمعنى الأرسطي للكلمة (essence)، وإنْ كان لهما، مثل سائر الأشياء، طبيعة بالمعنى العام للكلمة (nature). وبعبارةٍ أخرى: إن مفهوم كلٍّ من الدين والأخلاق من المفاهيم الانتزاعية التي تعرض على مصاديقها بتوسط الصفات والخصائص الأخرى. ونطلق على هذه الخصائص على التوالي تسمية الخصائص «الصانعة للدين» والخصائص «الصانعة للأخلاق»؛ لأن هذه الخصائص هي التي تجعل الدين ديناً، والأخلاق أخلاقاً، فهي المعيار وهي المصحِّح لتسمية شيءٍ باسم الدين والأخلاق. ومن خلالها نتمكَّن من الفصل بين الدين والأخلاق، ومن الفصل بينهما وبين الأشياء والأمور الأخرى.

بَيْدَ أن تعريف الدين والأخلاق من خلال تعداد الأوصاف والخصائص «الصانعة للدين» و«الصانعة للأخلاق» ليس بالأمر الهيِّن (إذا لم نناقش في إمكان هذا الأمر أصلاً). وعلى كلّ حال ليس هناك إجماع حول هذا الموضوع؛ حيث هناك اختلاف بين المتكلمين وفلاسفة الدين والباحثين في الشأن الديني وفلاسفة الأخلاق في تعريف الدين والأخلاق، وبيان الخصائص الخاصة والمقوّمة لكلٍّ منهما. ولكنْ يمكن عدّ مختلف النظريات في تعريف الدين والأخلاق بوصفها نظريات في باب الصفات «الصانعة للدين» والصفات «الصانعة للأخلاق»، (أو بمعنى النظريات الواردة في طبيعة الدين والأخلاق بالمعنى العام للكلمة (nature)، لا بمعنى النظريات الواردة في تعريف ذات وماهية الدين والأخلاق (essence)، ومثل هذا الفهم يساعد على تكوين تقييم صائب ومناسب لهذه النظريات. وعليه من الأفضل أن نبيِّن مرادنا من «الدين» و«الأخلاق» في ما يتعلَّق بخصوص هذا التحقيق، دون أن نكون بصدد تقديم تعريف حقيقي للدين والأخلاق، أو تقديم فهرسة جامعة ومانعة للصفات والخصائص الصانعة للدين والأخلاق([2]).

 

 2ـ ما معنى الدين؟

سوف نعني بالدين في هذا الكتاب أحد معنيَيْه: العام؛ والخاص. ومرادنا من الدين بالمعنى العام للكلمة مزيج من التجربة الدينية، وتفسير تلك التجربة في إطار التعاليم النظرية والعملية. وعليه فإن الدين بالمعنى العام للكلمة يحتوي على ثلاثة أركان أساسية، وهي:

1ـ التجربة الدينية.

2ـ العقائد الدينية.

3ـ التعاليم الدينية العملية.

وبطبيعة الحال فإن التجربة الدينية تشمل تجربة النبيّ (الوحي) أيضاً، وإن مضمون التجربة الدينية يمكن أن يكون هو كلام الله، كما هو الحال بالنسبة إلى القرآن([3]). وإن موضوع ومتعلّق التجربة الدينية يكون تارةً حقيقة تكوينية؛ وتارة أخرى واقعية اعتبارية، أو معيارية، أو تشريعية([4]).

وأيّاً كان تعريف الدين بالمعنى العام للكلمة لا شَكَّ ـ على ما يبدو ـ في أن التعاليم الأخلاقية تشكّل الجزء الأكبر والمعتدّ به من الدين بالمعنى العام للكلمة. وإذا كان هناك من اختلاف فهو يكمن في:

1ـ «التعاليم الأخلاقية الموجودة في صلب الدين، هل هي من ذاتياته أم من عرضياته؟».

2ـ «ما هي العلاقة والنسبة بين التعاليم الأخلاقية وسائر التعاليم الدينية؟».

وبعبارةٍ أخرى: إن السؤال يقول:

3ـ «هل التعاليم الأخلاقية تشكّل جزءاً لا يتجزأ من التعاليم الدينية، بحيث إن تفكيك الدين عن الأخلاق، أو استقلال الأخلاق عن الدين، يستلزم تعطيل الدين أو الأخلاق وتفريغهما من المحتوى، أم أن ارتباط الدين والأخلاق ارتباطٌ عرضي واتفاقي وتاريخي، وأن الأخلاق ذاتاً مستقلّة عن الدين، وأن دخول التعاليم الأخلاقية في النصوص الدينية المقدّسة دخول عرضي ناشئ عن الضرورات التاريخية والثقافية، وليس لضرورة منطقية ومعرفية أو ميتافيزيقية؟».

تنقسم التعاليم الدينية إلى: تعاليم نظرية واعتقادية (أصول الدين)؛ وتعاليم عملية وسلوكية (فروع الدين). وإن التعاليم العملية إما «إرشادية»؛ أو «مولوية». وإن التعاليم الإرشادية في حقيقتها عبارةٌ عن تذكير بالأشياء والأمور التي يمكن للبشر أن يعلمها، أو يمكن أن يعلمها، بغضّ النظر عن الدين والتعاليم الدينية، ومن خلال الاستفادة من العقل العرفي والطبيعي، أو التجربة الإنسانية. وإنّه في ما يتعلق بها بحاجة إلى مجرّد التذكير، دون التعليم. إن هذه التعاليم وإنْ كانت تشكّل جزءاً من الدين بالمعنى العام للكلمة، إلاّ أن مجرّد وجودها في النصوص الدينية لا يعني كونها دينية، ولا يعني تَبَعيّة العلم الناظر إليها للوحي والنقل.

وبعبارةٍ أخرى: إن وجود التعاليم الأخلاقية الإرشادية في الدين ينسجم مع استقلال الأخلاق عن الدين، وعلمانية الأخلاق. كما يمكن أن يجتمع مع استقلال الإنسان في اختياره الذاتي الأخلاقي. وإن دور الله والنبيّ في هذا المجال يقتصر على الإرشاد والتذكير. وإن التذكير والإرشاد الأخلاقي لا يتوقّف على الولاية والمرجعية الدينية، وسيادة أولياء الدين في مساحة الأخلاق. وإن الناس ليس لديهم أيّ تعهّد والتزام يحتّم عليهم التعبّد باتّباع هذه التعاليم، بل على العكس من ذلك تماماً؛ حيث يتعيّن عليهم تقييم مضامين هذه التعاليم بوجدانهم وعقلهم وتجربتهم قبل العمل بها؛ إذ إن التعاليم الإرشادية بحَسَب تعريفها لا تعبّر عن الإرادة والتكليف التشريعي لله؛ فإن هذه التعاليم لا تنشأ عن إرادة الله التشريعية، ولا تكتسب تبريرها من المعتقدات الدينية، ولا تتوقّف معرفتها وحجِّيتها واعتبارها على الوحي، ولا الدافع إلى العمل بها يجب أن يكون دافعاً دينياً بالضرورة. إن التعاليم الإرشادية تعمل على تذكير الإنسان بحكم العقل والوجدان. إلاّ أن التعاليم المولوية ليست كذلك؛ لأن هذه التعاليم تنشأ من إرادة الله وأوامره التشريعية، وهي من هذه الناحية تابعةٌ للدين.

إن الكثير من أنصار الأخلاق الدينية يدّعون أن المعايير والقيم الأخلاقية تشكل جزءاً من تعاليم الدين المولوية، وتنشأ عن إرادة الله وأوامره التشريعية. من هنا تكون الأخلاق متأخرة عن الدين وقائمة عليه. وهذا هو مراد هؤلاء من دينية الأخلاق، أو تبعية الأخلاق للدين. أما تلك المجموعة من أنصار الأخلاق العلمانية، التي تؤمن بأصل وجود الله، وتدخّله التشريعي في مصير الإنسان، فتذهب إلى ادّعاء أن الإرادة التشريعية لله تابعةٌ للمعايير والقيم الأخلاقية، دون العكس. وطبقاً لهذه الرؤية فإما أن لا توجد أخلاق دينية بالمعنى المذكور؛ أو إذا وجدت فإنها تكون تابعة للأخلاق العلمانية، وتبعاً لذلك تكون عرضةً للقبض والبسط.

وأما مرادنا من الدين بالمعنى الخاصّ للكلمة فهو خصوص «الشريعة»، أي جزءٌ أو بُعْدٌ خاص من الدين، وهو البعد المشتمل على التعاليم المولوية من الدين في ما يتعلق بالجانب العملي والسلوكي من حياة الإنسان. إن الدين بالمعنى الخاص للكلمة يشتمل على الأحكام والتعاليم التي تنشأ عن الإرادة التشريعية لله. وإن «علم الفقه» في الثقافة الإسلامية هو الذي يتكفّل بمعرفة هذا البُعْد من الدين.

وعليه فإن السؤال عن علاقة الشريعة (الدين بالمعنى الخاص للكلمة) والأخلاق إنما هو في الحقيقة سؤال عن ماهية العلاقة بين القيم والواجبات والمحظورات الأخلاقية وبين إرادة الله التشريعية والأحكام الشرعية الناشئة عنها.

هناك إجاباتٌ متعدّدة عن هذا السؤال، وسوف نتعرّض لها في المستقبل بالتفصيل.

إن الفقهاء الشيعة بشكلٍ عام يذهبون في مقام النظر إلى القول بـ «التلازم بين الشريعة والأخلاق»، وأما في مقام العمل فيذهبون إلى القول بـ «إحلال الشريعة محلّ الأخلاق».

إلاّ أننا نرى أن الرأي الصحيح في هذا الشأن هو الرأي القائل: «إن للشريعة إطاراً أخلاقياً». وعلى أيّ حال فإن مرادنا من الدين في هذا الكتاب إما هو المعنى العام للكلمة، الشامل لأصول الدين وفروعه؛ أو المعنى الخاص للكلمة، الذي يشمل فروع الدين فقط، ويُشار إليه عادةً بلفظ (الشريعة).

 

 3ـ ما هي الأخلاق؟

طوال هذه الدراسة سنعمد إلى استعمال الأخلاق في أحد معنيَيْها: العام؛ والخاص. إن الأخلاق بالمعنى العام للكلمة عبارةٌ عن المعايير والقيم التي تعمل على توجيه التفكير والعمل. وعليه فإن الأخلاق بالمعنى العام للكلمة تشتمل على «أخلاق الإيمان»، و«أخلاق التفكير»، أو أخلاق «البحث والتحقيق» أيضاً. وأما الأخلاق بالمعنى الخاص للكلمة فهي عبارةٌ عن المعايير والقيم التي تعمل على توجيه العمل والسلوك.

إن مرادنا من الأخلاق الدينية هي الأخلاق المرتبطة بنحوٍ من الأنحاء بالدين وتابعة له، وتبعاً لذلك تتعرّض للقبض والبسط. ومرادنا من الأخلاق العلمانية هي الأخلاق المستقلة عن الدين، بل والمتقدِّمة عليه، وإن ذات الدين، وفهم الدين والمعرفة الدينية، والسلوك الديني؛ بتَبَع ذلك، يكون عرضةً للقبض والبسط.

وكما تقدَّم فإن التصوّر والفهم السائد بين المسلمين عن الأخلاق تصوّر غير جامع، وهو يشكو النقص من جهتين. ففي هذا الفهم تكون الأخلاق عبارة عن مجموعة من الفضائل والرذائل النفسانية، وهي تكون موضع اهتمام بالنظر إلى دورها وتأثيرها على سعادة وشقاء الإنسان في الآخرة. وبذلك يتمّ تجاهل دور الفضائل والرذائل في تحصيل المعرفة والبحث والتحقيق، كما يتمّ تجاهل التعامل مع الآخرين بالمرّة. وباختصارٍ فإن المسلمين يطفِّفون من ثقل الأخلاق، ويتنزلون بها إلى مستوى الأخلاق الفردية وأخلاق السلوك؛ إذ إن الأخلاق من وجهة نظرهم لا تشمل الأخلاق الاجتماعية، ولا أخلاق الإيمان، ولا أخلاق التفكير والبحث. من هنا يبدو من الضروري أن نقدِّم شرحاً وتوضيحاً للأخلاق الاجتماعية، واختلافها عن الأخلاق الفردية، وتوضيحاً لأخلاق الإيمان والتفكير والبحث.

 

 أـ الأخلاق الفردية والأخلاق الاجتماعية

يمكن العثور على أحد الفوارق الهامّة والجوهرية بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية في التصوُّر الذي تحمله كلتا هاتين الثقافتين عن مقولة الأخلاق. فهنا نحن أمام رؤيتين أو نوعين من الفهم، يختلفان عن بعضهما اختلافاً كاملاً.

ففي الثقافة الإسلامية تحظى الجهات الفردية والأخروية للأخلاق بأهمِّية بارزة، في حين نجد الأهمِّية في العالم الغربي الراهن متمحِّضة للجهات الاجتماعية والدنيوية من الأخلاق.

إن الأخلاق الفردية ترمي ـ في الغالب ـ إلى الاهتمام بالنتائج ومصير الإنسان في الآخرة، في حين أن الأخلاق الاجتماعية ـ سواءٌ كانت ذات نزعة إلى الاعتبار بالنتائج أو ذات نزعة وظيفية ـ تميل إلى التفكير الدنيوي.

من هنا لا يمتلك المسلمون تصوّراً وفهماً صحيحاً لأهمِّية ومكانة الأخلاق في تنظيم العلاقات الاجتماعية. إن الأخلاق الفردية والأخلاق الاجتماعية يختلفان عن بعضهما من جهاتٍ عديدة، إلاّ أننا سنكتفي هنا بالإشارة إلى خمسة فروق هامّة بين هاتين المنظومتين الأخلاقيتين.

 

 1ـ الاختلاف بين الأخلاق الفردية والأخلاق الاجتماعية من حيث الموضوع

إن موضوع الأخلاق الفردية هو الفرد بقطع النظر عن بعده الاجتماعي. وإن محور الأخلاق الفردية هو تهذيب النفس، وإصلاح روح الفرد من الدَّنَس ومن الرذائل الأخلاقية. وفي هذه الأخلاق يتمّ تظهير الأمور التالية:

1ـ تقسيم الصفات النفسانية إلى: حسنة؛ وسيئة، أو صالحة؛ وطالحة، أو صفات فاضلة؛ وصفات رذيلة.

2ـ تعريف الرذائل والفضائل النفسانية.

3ـ دور الفضائل والرذائل الأخلاقية في السعادة والشقاء الأخروي، وفي كمال ونقص الفرد.

4ـ بيان طرق وأساليب اكتساب الفضائل، والتخلُّص من الرذائل.

إن المهمّ من زاوية الأخلاق الفردية هو مجرّد امتلاك الفضائل الأخلاقية، والتجرّد من الرذائل الأخلاقية، دون السلوك المترتِّب على هذه الفضائل وتلك الرذائل، بمعنى أن سلوك الفرد وتعاطيه مع الآخرين إنّما تأتي أهمِّيته من مجرَّد التربية والممارسة، وبوصفه مقدّمة لاكتساب الفضيلة، وإبعاد الرذيلة عن ساحة الروح. لا شأن للأخلاق الفردية أوّلاً وبالذات بالسلوك الخارجي للفرد، الذي يعتبر مظهراً وتجلّياً لملكاته الباطنية. وإن «الشجاعة» و«السخاء» و«العدالة» إنّما تكتسب قيمتها من ناحية الأخلاق الفردية بما هي صفاتٌ نفسانية. إن العدالة في الأخلاق الفردية تعني إقامة العدل والتوازن بين القوى ومختلف أبعاد وجود الفرد، لا بمعنى الوفاء بحقوق الآخرين، من هنا فإن الفرد بغضّ النظر عن علاقته بالآخرين يمكن أن يكون متّصفاً بهذه الصفة.

فعلى سبيل المثال: إن الكرم بمعنى امتلاك صفة الجود والسخاء، وقد يمتلك الشخص هذه الملكة والفضيلة النفسانية، ولكنّه لا يكون في مرحلةٍ من مراحل عمره في موقفٍ يقتضي منه الظهور على هذه الصفة. كما أن المهندس يمتلك القدرة على وضع خريطة البناء، رغم أنه لا يكون مشغولاً بوضع الخرائط في جميع لحظات حياته. إن الذي يُعَدّ من مقوّمات المهندس هو امتلاك القدرة والملكة على وضع خرائط للبناء، وليس الممارسة الفعلية. كما يمكن للطبيب أن يكون طبيباً، دون أن يكون منهمكاً في معالجة المرضى دائماً. وبطبيعة الحال فإن اكتساب مَلَكة الهندسة أو الطبّ بحاجةٍ إلى ممارسة عملية، غير أن صدق عنوان المهندس أو الطبيب على الفرد يتوقّف على المَلَكات التي تُعَدّ من مقوّمات هذين العنوانين. وهكذا الأمر بالنسبة إلى الأخلاق الفردية، بمعنى أن الذي يحظى بالأهمِّية في الأخلاق الفردية أوّلاً وبالذات هو امتلاك الفرد ملكة الشجاعة والسخاء والعدالة، وليست نتائج هذه الصفات بالنسبة إلى الآخرين والمجتمع، وليس تأثيرها على السلوك الفردي والاجتماعي. إن الفضائل والرذائل في الأخلاق الفردية إنّما تكمن أهمِّيتها من حيث الدور الذي تلعبه في سعادة وشقاء مَنْ يتصف بهما، لا من حيث تأثير تلك المَلَكات ـ أو السلوك الناشئ منها ـ على سعادة ورفاه الآخرين وتنظيم العلاقات الاجتماعية.

وأما موضوع الأخلاق الاجتماعية فهو سلوك الفرد تجاه الآخرين. إن هذه الأخلاق لا تخوض أولاً وبالذات في الملكات الباطنية للأفراد، فمن وجهة نظر الأخلاق الاجتماعية تكمن أهمِّية الفضائل والرذائل الفردية في تأثيرها على تنظيم العلاقات الاجتماعية، وفي رفاهية وسعادة المجتمع. إنّ ما هو المهمّ أوّلاً وبالذات في هذه الأخلاق هو كيفية سلوك وتعاطي الأفراد تجاه بعضهم البعض، وتجاه المؤسسات الاجتماعية. وفي الأخلاق الاجتماعية، بالإضافة إلى السلوك الجَمْعي للأفراد، تخضع حتى المؤسسات والمنظمات الاجتماعية للنقد والتقييم أيضاً، وتكون موضوعاً لإصدار الأحكام الأخلاقية، بمعنى أن المنظومة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والقضائية للمجتمع قد تتّصف بأنها حسنة أو سيِّئة من الناحية الأخلاقية، أو أن تتّصف بأنها عادلة أو ظالمة.

في الأخلاق الاجتماعية تعدّ «العدالة» صفة للمؤسّسات الاجتماعية، وليست صفة نفسانية للأفراد. إن الأخلاق الاجتماعية تبيِّن لنا ماهية النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والقضائي العادل، وما هي أسس وضوابط العدالة الاجتماعية؟ وما الذي يجب علينا أن نعمله لإقامة العلاقات العادلة في المجتمع؟ وكيف يتمّ توزيع وتقسيم الإمكانات والفرص والثروات والحصص والمشقات بين الأفراد؛ كي يكون المجتمع الذي نعيش فيه مجتمعاً عادلاً؟ وفي الأخلاق الاجتماعية يتمّ تقييم عدالة الحكومة والحكام بالعلاقات الاجتماعية العادلة، دون العكس.

وعليه، إذا لم يكن هناك مجتمع أبداً، أو إذا لم يكن لدى الفرد أيّ علاقة مع الآخرين، ستكون الأخلاق الاجتماعية فاقدةً للموضوع، في حين أن موضوعية وفعلية القيم والواجبات والمحظورات الأخلاقية في دائرة الأخلاق الفردية لا تدور مدار وجود المجتمع والحياة الاجتماعية، وإن الفرد مخاطبٌ على الدوام بهذه القيم والواجبات، حتّى إذا كان يعيش في عزلةٍ أو سجن في زنزانةٍ منفردة. وباختصارٍ: إن الأخلاق الفردية ذات موضوعية على كلّ حال، سواء في الخلوة أو الحضور، وأما قيم الأخلاق الاجتماعية فإنما تتحقق موضوعيتها في إطار المجتمع([5]).

 

 2ـ اختلاف الأخلاق الفردية والأخلاق الاجتماعية من حيث الهدف والغاية

إن هدف الأخلاق الفردية هو ضمان الفلاح والسعادة الأخروية للفرد. إن الفضائل التي تعدّ ذات قيمة معتبرة في الأخلاق الفردية إنما تكون ذات قيمة من حيث إن الفرد المتّصف بها يُعَدّ كاملاً وسعيداً، لا من حيث إن آحاد الأفراد في المجتمع أو أكثرهم إذا اتّصفوا بتلك الفضائل فإن الحياة الاجتماعية والدنيوية ستغدو أفضل. يمكن القول: إن غاية الأخلاق الفردية هي تربية الإنسان الصالح، وغاية الأخلاق الاجتماعية بناء المجتمع الصالح. وكما سيأتي فإن بناء المجتمع الصالح ليس نتيجة لتجمُّع عددٍ من الأفراد الصالحين بالضرورة، إنما المجتمع الصالح هو المجتمع الذي يتمتّع بتوليفةٍ حقوقية وقانونية عادلة، وأن يتمتّع أفراده بحقوق متساوية ومتكافئة، وأن تكون السمة الغالبة على أفراده هي رعاية حقوق الآخرين.

إن لدى الأخلاق الفردية والأخلاق الاجتماعية قِيَمٌ مشتركة أيضاً، إلاّ أنهما حتى في هذه القيم المشتركة ينشدان غايات مختلفة. فالكذب ـ على سبيل المثال ـ قبيحٌ على مستوى الأخلاق الفردية والاجتماعية على السواء؛ إلاّ أن قبح الكذب من ناحية الأخلاق الفردية يعود إلى أنه يضرّ بسعادة الفرد وحياته المعنوية؛ في حين أن قبحه من ناحية الأخلاق الاجتماعية يعود إما إلى تضييعه لحقوق الآخرين؛ أو لأنه يزعزع ثقة الأفراد ببعضهم، ولا يخفى أن هذه الثقة تمثِّل الشرط الرئيس في التعاون وبناء الصرح الاجتماعي.

 

 3ـ اختلاف الأخلاق الفردية عن الأخلاق الاجتماعية من حيث النيّة والدافع

تلعب النيّة والدافع في الأخلاق الفردية دوراً هاماً. وليست النيّة السيِّئة مؤشّراً على الحقارة والرذيلة النفسانية، ونقصان وانحطاط الفرد، حيث «الإناء ينضح ما فيه»، فحَسْب، بل في الأساس يذهب بعض علماء الأخلاق إلى القول بأن القيمة الأخلاقية للعمل تابعة لنيّة الفاعل. ولكنْ من الأفضل أن نفصل «الحُسْن والقُبْح الفعلي» عن «الحُسْن والقُبْح الفاعلي»، فنقول: إن الفعل الحسن المنبثق عن نيّة سيّئة لا يحتوي على حُسْن فاعلي، وإنْ كان يحتوي على حُسْن فعلي([6])؛ لأن مشاهداتنا الأخلاقية تشهد بأن ذات الأفعال، بغضّ النظر عن الفاعل ودوافعه، تقبل التقييم الأخلاقي، وإن الفعل الحسن الذي يصدر عن نوايا سيّئة لا يتساوى مع الفعل القبيح الصادر عن نوايا سيّئة. وفي الأساس فإن نفس إمكان أن نتصوّر صدور فعل حسن عن نية سيّئة، دون أن نشعر بارتكاب تناقضٍ أو مفارقة، يثبت أن الأفعال في حدّ ذاتها، وبغضّ النظر عن نيّة الفاعل، تنقسم من الناحية الأخلاقية إلى: أفعال حسنة؛ وأفعال قبيحة، وأنّ حسنها وقبحها ليس تابعاً تماماً ومن جميع الجهات لنيّة الفاعل. ويمكن لنا أن نأخذ النيّة مجرّدة بوصفها واحدة من المقاييس الأخلاقية «الصانعة للحُسْن» و«الصانعة للقُبْح»، أو «الصانعة للصحيح» و«الصانعة للخطأ».

وعلى أيّ حال فإن النيّة من وجهة نظر الأخلاق الفردية تحظى بأهمِّية قصوى، وفي الحدّ الأدنى فإن النيّة الحسنة تعدّ من فضائل وقيم الأخلاق الفردية، وتلعب دوراً في كمال وسعادة الإنسان الفردية والأخروية. ولكنْ لا أهمِّية للدافع والنية من ناحية الأخلاق الاجتماعية. فعلى سبيل المثال: من زاوية الأخلاق الفردية لا تعتبر رعاية الأمانة لغايات نفعية، أو بدافع الحصول على مزيدٍ من الربح عن طريق كسب ثقة الآخرين، عملاً حسناً، ولا يحتوي على حُسْنٍ فاعلي. في حين أن الأخلاق الاجتماعية تطلب من الأفراد أن يكونوا أمناء، لا أكثر، دون أن تولي اهتماماً لدوافعهم ونواياهم، إلاّ إذا كان لنيّة ودافع الفرد دورٌ في أخلاقية العلاقات الاجتماعية. إن المهم من زاوية الأخلاق الاجتماعية هو أن لا يُلحق الفرد ضرراً بالآخرين، ولا يهدر حقوقهم، وإنّ دافع الشخص لا يؤثِّر كثيراً في تحقيق هذه الغاية([7]). إن اختلاف الأخلاق الفردية عن الأخلاق الاجتماعية في ما يتعلّق بالدافع والنيّة ينشأ من تفاوتٍ واختلاف أعمق في ما يتعلّق بمنشأ ومصدر هذين النوعين من الأخلاق([8]).

كما يمكن بيان هذا التفاوت بشكلٍ آخر والقول: إن الأخلاق الفردية جوابٌ عن السؤال القائل: «ما هي الحياة الجيّدة؟»، وأما الأخلاق الاجتماعية فهي جوابٌ عن السؤال القائل: «ما هو المجتمع الجيّد؟».

يمكن أن يُجاب عن السؤال الأول بالعديد من الإجابات، بمعنى إمكان أن يكون للأفراد أفهامٌ مختلفة عن الحياة الجيّدة، ويحقّ لكلّ فردٍ أن يبني حياته الشخصية الجيّدة على أساس ما يتصوّره حياةً جيّدة. رغم أنه يجب على الأفراد أن يجدّوا في اكتشاف أفضل أساليب الحياة، وأن اختيار أسلوب ونموذج الحياة هو اختيار أخلاقي، ولكنْ ليس هناك من دليلٍ يُثبت أن الحياة الجيّدة واحدةٌ بالنسبة إلى جميع الأفراد، ولذلك لا يحقّ للمجتمع أو الدولة أو الأكثرية أن تفرض نمط حياتها المطلوب لها على الأفراد الذين يفكّرون بنمطٍ آخر مغاير لنمط حياتهم.

وأما الإجابة عن السؤال الثاني فلا يمكن أن تكون متعدّدة؛ لأن الحياة الاجتماعية في مثل هذه الحالة لن تكون ممكنة. فالحياة الاجتماعية إنما تكون ممكنة، ويمكن أن يكتب لها البقاء والاستمرار، إذا كان أكثر أفراد المجتمع يؤمنون بمنظومة قِيَمٍ وأخلاق واحدة في ما يرتبط بالعلاقات الاجتماعية، ويطبِّقون ما يؤمنون به عملياً([9]). ولذلك يمكن القول في الإجابة عن السؤال الثاني: إن المجتمع الجيّد من الناحية الأخلاقية هو المجتمع الذي يتّصف بالأمور التالية:

1ـ أن يتساوى أفراده في الحقوق.

2ـ أن تراعى حقوق الأفراد فيه من قِبَل المؤسّسات السياسية والاجتماعية.

3ـ أن يراعي أكثر الأفراد فيه حقوق بعضهم البعض.

4ـ أن يقوم الأفراد فيه بمسؤولياتهم الاجتماعية.

وعلى هذا الأساس فإن الأخلاق الفردية لكلّ شخصٍ تعكس تصوّره للحياة الجيّدة، أو إنها تعكس الحقوق والوظائف التي يتصوّر أنها واجبة عليه تجاه نفسه (وفيما بينه وبين خالقه). إلاّ أن الأخلاق الاجتماعية لكلّ شخص تعكس التصوّر الذي يحمله عن المجتمع الجيّد، أو تعكس الحقوق والوظائف المتبادلة التي تقع على كاهل الأفراد والمؤسّسات الاجتماعية تجاه بعضها. ومن الواضح أن الدافع والنيّة الجيدة تعدّ واحدةً من مقوّمات الحياة الجيّدة، في حين أن هذا الأمر ليس له تأثيرٌ تلقائي في أداء حقوق الآخرين، وتلبية الوظائف الاجتماعية.

 

 4ـ الاختلاف بين الأخلاق الفردية والأخلاق الاجتماعية من حيث المنشأ

إن منشأ الأخلاق الفردية يكمن في الهويّة الإنسانية للشخص الفاعل، ومنشأ الأخلاق الاجتماعية يكمن في الهويّة الإنسانية للآخرين. وإن قِيَم وإلزامات الأخلاق الفردية تنشأ عن «الكرامة الإنسانية» أو «المنزلة الأخلاقية» للشخص الفاعل. وإن الهويّة الإنسانية للفرد هي التي تقول له: كيف ينبغي له أن يعيش؟ وما هي الملكات والفضائل التي يجب أن يتحلّى بها؟ وما هي الملكات والرذائل التي يجب عليه أن يبتعد عنها؟ وما الذي عليه أن يفعله مع ذاته؛ كي يبقى إنساناً؛ وكي لا تتضرّر هويته الإنسانية؛ أو كي تنمو نحو الأفضل؟

وأما القيم والإلزامات الأخلاقية الجماعية فتنشأ من الكرامة الإنسانية أو المنزلة الأخلاقية للآخرين. وإن الهوية الإنسانية، أو المنزلة الأخلاقية للآخرين، تحدّد إطار سلوك الفرد تجاههم. من هنا لا تكون نيّة الفرد ودافعه في سلوكه تجاه الآخرين مهمّة في حدّ ذاتها؛ لأن دافع ونية الفاعل إنّما تؤثّر أوّلاً وبالذات في سعادته، وليس في سعادة الآخرين. إن علم الأخلاق الفردية عبارةٌ عن شرح وبسط اللوازم المعيارية لهوية الشخص الفاعل، ومنزلته الأخلاقية، في حين أن علم الأخلاق الاجتماعية عبارة عن شرح وبسط اللوازم المعيارية للهوية والمنزلة الأخلاقية للآخرين، والتي تتأثّر بنحوٍ من الأنحاء بسلوك الفاعل.

 

 5ـ الاختلاف بين الأخلاق الفردية والأخلاق الاجتماعية من حيث أسلوب التبرير

يتمّ تبرير قِيَم الأخلاق الفردية من خلال التمسّك بعلم النفس الفردي، وسعادة الإنسان وكماله على المستوى الفردي، إلاّ أن قيم الأخلاق الجماعية يمكن تبريرها من خلال التمسُّك بعلم الاجتماع، أو علم النفس الاجتماعي، وسعادة المجموعة الإنسانية وكمالها([10]). وبعبارةٍ أخرى: إن الأخلاق الفردية تقوم على فرضيات مسبقة لعلم النفس الفردي، في حين أن الأخلاق الجماعية تستند إلى فرضيات مسبقة لعلم الاجتماع النفسي، أو علم النفس الاجتماعي([11]). كما يختلف هذان النوعان من الأخلاق عن بعضهما من حيث المبنى وأسلوب تبرير القِيَم أيضاً([12]). يقوم تبرير قِيَم الأخلاق الفردية على مقدّمات تعود بأجمعها إلى ذات الفرد؛ لأن هذه القِيَم مستقلّة ومنفصلة عن وجود الآخرين، بمعنى أن وجود الآخرين وعدم وجودهم ـ فضلاً عن حقوقهم ـ لا يكون أوّلاً وبالذات هو المؤثِّر في اعتبار هذه القِيَم. أما تبرير قِيَم الأخلاق الاجتماعية فعلى العكس من ذلك تماماً؛ لأن هذه القِيَم ناظرةٌ بأجمعها إلى حقوق الآخرين، وهي في سياق استيفاء وصيانة هذه الحقوق.

خلاصة القول: إن التبرير العقلاني لقِيَم الأخلاق الفردية رهنٌ بقبول الفرضيات الخاصة في ما يتعلّق بالسعادة والكمال الفردي والحياة الجيّدة، والقائمة على الفهم والإدراك الخاصّ لـ «الإنسان المثالي». في حين أن التبرير العقلاني لقِيَم الأخلاق الاجتماعية رهنٌ بقبول الفرضيات الخاصة في ما يتعلّق بالسعادة والكمال الجماعي، والإدراك الخاص لـ «المجتمع المثالي»، رغم أن الذي يطالب في نهاية الأمر بالدليل؛ كي يتمسّك بقيم الأخلاق الاجتماعية، هم الأفراد. وإن هذا الدليل يأتي من طريقين، وهما:

أوّلاً: طريق العقل والعقلانية «التدبيرية»([13]) و«النفعية»([14]) و«الأنوية»([15]).

وثانياً: طريق العقل والعقلانية «الأخلاقية» و«المطالبة بالحق»([16]) و«الإيثارية والغيرية»([17]).

إن الأدلة التدبيرية والأنوية تسعى في واقع الأمر إلى تبرير ضرورة مراعاة قِيَم الأخلاق الاجتماعية، وخاصّة رعاية حقوق الآخرين من خلال إظهار تأثير هذا الأمر على ضمان المصالح الفردية والشخصية للأفراد. إن مثل هذه الاتجاهات تقوم على رؤية آليّة إلى الأخلاق الاجتماعية، ولذلك فإن الذين يحملون مثل هذه الرؤية والفهم للأخلاق الاجتماعية يكون التزامهم بمراعاة قِيَم الأخلاق الاجتماعية وحقوق الآخرين مشروطاً؛ حيث إن التزامهم بهذه القِيَم ما دام هذا الالتزام ملبِّياً لمصالحم الشخصية (أو الفئوية والصنفية)، وما إن يشعروا بأن ضمان مصالحهم الشخصية (أو الفئوية والصنفية) يتمّ عبر انتهاك قِيَم الأخلاق الجماعية وهدر حقوق الآخرين، أو أن ذلك سيسهم في تحسين سبل الوصول إلى ضمانها، لن يتردَّدوا في انتهاك هذه القِيَم، ويقدِّمون المبرّرات والأدلة على أن ما قاموا به ينطلق من ضروراتٍ ودوافع تبرِّر أخلاقية فعلتهم. إن هذا النوع من التبرير يضع الأخلاق الاجتماعية في طول الأخلاق الفردية، بمعنى أنه طبقاً لهذا الأسلوب من رعاية حقوق الآخرين أو معاملتهم معاملة أخلاقية إنما يحظى بالاهتمام والتبرير في حدود تأثيره على ما يصيب الشخص الفاعل من سعادة وشقاء، أو مصلحة ومفسدة.

أما الطريق الثاني لتبرير قيم الأخلاق الاجتماعية فيكمن في التمسُّك بالعقل والعقلانية الأخلاقية. إن الذين يتمسّكون بالعقل والعقلانية لتبرير قِيَم الأخلاق الجماعية يعتقدون بأن الدوافع (الإيثارية) من بين الدوافع الإنسانية العميقة والأصيلة، وإن عمقها وأصالتها لا تقلّ أبداً عن الدوافع (الأنانية). ولا حاجة للفرد في اتّباع هذه الدوافع إلى إرجاعها للدوافع الأنوية وتبريرها بالأدلة التدبيرية. إن قِيَم الأخلاق الاجتماعية في هذه الرؤية تنبثق عن العقل والعقلانية الأخلاقية، وإن هذا العقل والعقلانية في ذاتها إيثارية أو «حيادية»([18])، وإن مقتضياتها غير قابلةٍ للإرجاع والتحويل إلى مقتضيات العقل والعقلانية الأنانية. وإن هذه الرؤية تفترض تعريف الإنسان بأنه «مدني بالطبع»، أو أنه «حيوان أخلاقي».

 

 ب ـ أخلاق السلوك وأخلاق التفكير والتحقيق

إن بيان مقولة باسم أخلاق التفكير وأخلاق البحث يعتمد على القول بعددٍ من الفرضيات الهامّة.

إن أخلاق التفكير والبحث ليس مجرّد اسمٍ آخر للمنطق والمعرفة. وبطبيعة الحال فإن أسس وقواعد هذه الأخلاق تعود في واقع الأمر إلى تلك المعايير المنطقية والمعرفية أو تنتزع منها. بَيْدَ أن تسمية هذه المعايير باسم أخلاق التفكير والبحث يقوم على الإيمان بفرضية تقول: إن المعايير المنطقية والمعرفية تمثّل جزءاً من المعايير الأخلاقية، ومن الواجب أخلاقياً مراعاة تلك المعايير، وإن تعمُّد نقضها يعتبر معصية وجريمة على المستوى الأخلاقي، ويكون مرتكبها مستحقّاً للمؤاخذة.

بعبارةٍ أخرى: إن تسمية المنطق والمعرفة باسم أخلاق التفكير والبحث يقوم على الإيمان بفرضية أن التفكير والبحث هو نوع من الفعل الواعي والإرادي والاختياري، وإن النشاط الذهني للإنسان في مقام التفكير واكتساب المعرفة، وسلوك العلماء في دائرة البحث والتحقيق والتعاطي العلمي، قابلٌ للنقد والتقييم الأخلاقي أيضاً، ويتّصف من الناحية الأخلاقية بالحسن والقبيح، وينقسم إلى: صحيح وخاطئ، وممدوح ومذموم.

إن هذا الادّعاء لا يعني ـ بطبيعة الحال ـ تحويل المنطق والمعرفة إلى الأخلاق، بل يعني فقط أن دائرة المعايير والواجبات الأخلاقية أوسع ممّا يفترض في الفهم التقليدي والسائد للأخلاق، وإن «الإيمان» و«التفكير» و«البحث» ليست مجرّد موضوعات للتقييمات المنطقية والمعرفية فقط، بل هي أيضاً قابلةٌ للتقييمات الأخلاقية، وتتّصف في آنٍ واحد بالصفات المنطقية والمعرفية، وبالصفات الأخلاقية أيضاً. كما تحمل عليها المحمولات المنطقية والمعرفية، والمحمولات الأخلاقية أيضاً.

فمثلاً: إن قيمة «الإنصاف» و«التواضع» و«الشجاعة» لا تختصّ بأخلاق السلوك فقط، بل إن الإنصاف والتواضع والشجاعة العقلانية تعتبر ذات قيمةٍ، وتعدّ فضيلةً، من الناحية الأخلاقية أيضاً. وهكذا «التخلُّف» و«الرَّجْعية» و«الجَزْمية» و«النظرة السوداوية» لا تشتمل على مجرّد تبعات معرفية فقط، بل إنها أيضاً تثبت الانحطاط الأخلاقي للشخص، وإنّ «العُجب» و«التكبُّر» المعرفي لا يقلّ عن «العُجْب» و«التكبُّر» الأخلاقي بالمعنى الخاص للكلمة. وإن الدافع إلى «الحقيقة» (الإخلاص المعرفي) ليس مهمّاً على مستوى العقلانية النظرية فحَسْب، بل تكمن أهمِّيتها وقيمتها حتّى على مستوى العقلانية العملية أيضاً.

وباختصارٍ: إن أخلاق التفكير والبحث رهنٌ بقبول الفرض القائل: إن التفكير والبحث يُعَدّ نوعاً من العمل والنشاط الواعي والاختياري والإرادي، ومن هنا يكون محكوماً للضوابط والمعايير الأخلاقية، وإن الفضائل والرذائل المنطقية والمعرفية تُعَدّ فضيلة ورذيلة حتّى على المستوى الأخلاقي أيضاً([19]). وإن هذه النقطة تعتبر فرضية سابقة للقول بمقولةٍ اسمها أخلاق التفكير والبحث والتحقيق([20]).

إن من بين التداعيات الهامّة للقول بمقولةٍ أو علمٍ باسم أخلاق التفكير والتحقيق والبحث تقدُّم «العقل العملي» على «العقل النظري»، واضمحلال بريق الفصل بين دائرة المدركات الحقيقية ودائرة المدركات الاعتبارية. إن العقل العملي متقدِّمٌ على العقل النظري؛ لأن أسس وقِيَم أخلاق التفكير والتحقيق من مقتضيات العقل العملي، بمعنى أن معايير العقل العملي إما هي شرط نشاط العقل النظري أو شرط لصحّة وصوابية نشاطه. وإن جميع المدركات الحصولية حقيقية من ناحيةٍ؛ واعتبارية من ناحيةٍ أخرى. ولا فرق بين العلم والمنطق والفلسفة والأخلاق والحقوق من هذه الناحية([21]). وبطبيعة الحال إذا أراد الإنسان أن يتَّبع معايير العقل العملي وجب عليه التعرُّف على هذه المعايير، وهذه المعرفة من شؤون العقل النظري. بَيْدَ أن العقل النظري إذا أراد القيام بدوره بشكلٍ صحيح فإنه سيكون بحاجةٍ إلى هذه المعايير.

 

 4ـ كلمةٌ أخيرة

عمدنا في هذا الفصل إلى تعريف الدين والأخلاق.

وقلنا: إن مرادنا من الدين في مجموع هذا البحث إما هو المعنى العام للكلمة، الشامل للتجربة الدينية وأصول العقيدة والأخلاق والشريعة؛ أو المعنى الخاص للكلمة، الذي يُعَدّ مرادفاً للشريعة.

وقلنا أيضاً: إن مرادنا من الأخلاق إما المعنى العام للكلمة، الشامل ـ مضافاً إلى أخلاق السلوك ـ لأخلاق التفكير وأخلاق البحث والتحقيق أيضاً؛ أو المعنى الخاص للكلمة، الذي يحتوي على مجرّد أخلاق السلوك فقط. إلاّ أن مرادنا من الأخلاق بالمعنى الخاص للكلمة بشكلٍ رئيس هو الأخلاق الاجتماعية، دون الأخلاق الفردية.

ومضافاً إلى ذلك قمنا في هذا الفصل ببيان الفروق بين الأخلاق الفردية والأخلاق الاجتماعية بالتفصيل. لا يمكن رسم حدود فاصلة ودقيقة بين الأخلاق الفردية والأخلاق الاجتماعية؛ لأسباب وجهات مختلفة، غير أن التمايز بينهما، والاختلاف بين الرؤية الغربية والرؤية الإسلامية لماهية وآليّة الأخلاق، وطغيان أو اضمحلال الجهات الفردية والجماعية للأخلاق في الثقافتين الغربية والإسلامية، لا يمكن إنكاره أيضاً.

إن الأخلاق الفردية تقوم على أساس تصوُّر الفرد عن الحياة الصالحة، ومتبنياته الأساسية بشأن الكون والإنسان وعالم الدنيا والآخرة وأسلوب الحياة المثالية، إلاّ أن الأخلاق الاجتماعية لا يمكن أن تكون كذلك؛ لأن الفلسفة الأنطولوجية لمثل هذه الأخلاق عبارةٌ عن تنظيم العلاقات الاجتماعية بين أتباع وأنصار مختلف الأنظمة والمذاهب الأخلاقية الفردية المختلفة. وإن خفض الأخلاق الاجتماعية إلى مستوى الأخلاق الفردية، والعمل على فرض قراءةٍ خاصّة للأخلاق الفردية على جميع أفراد المجتمع، يعتبر خطيئةً من الناحية الأخلاقية، فهو من أبرز وأوضح مصاديق الظلم وانعدام العدالة.

إن فصل الأخلاق الفردية عن الأخلاق الاجتماعية يتوقّف على الفصل بين «المساحة الخاصة» و«المساحة العامة»، والحفاظ على المساحة الخاصة للأفراد بمنأى عن تدخُّل الآخرين (الأعمّ من الدولة والمؤسسات الاجتماعية وسائر الأفراد الآخرين). إن هذا الفصل يعني أنه لا يحقّ لأحدٍ أن يفرض الأخلاق الفردية المقبولة عنده على الآخرين، وحتّى الأكثرية من أفراد المجتمع، الذين يتبنّون أخلاقاً فردية متشابهة أو لديهم تفاسير متشابهة تقريباً لقِيَم الأخلاق الفردية المقبولة عندهم، لا يحقّ لهم أن يجعلوا الأخلاق الفردية المقبولة لهم على شكل دستورٍ أو قانون يفرضونه على الأقلِّية التي لا تقبل هذه الأخلاق الفردية أو ذلك التفسير للأخلاق الفردية. وبطبيعة الحال فإن كلاًّ من الأخلاق الفردية والأخلاق الاجتماعية قابلةٌ للنقد والتقييم العقلاني والمعالجة والإصلاح، بَيْدَ أن النقد العقلاني هو غير فرض نَمَط من الأخلاق على الآخرين بالقوّة، وإجبار الآخرين على تبنّي عقيدة وأخلاق فردية معيّنة، عبر السبل القانونية وغير القانونية، هذا أوّلاً. وثانياً: هناك حدٌّ أدنى من قِيَم الأخلاق الاجتماعية إذا لم يتمّ التوافق عليها، واعتناقها من قبل أفراد المجتمع، فإنّهم سوف لا يتمكّنون من بناء حياةٍ اجتماعية مطلوبة ومقبولة لأنفسهم.

وعليه فإن الأخلاق الاجتماعية أخلاقٌ لا يمكن على أساسها فرض الأخلاق الفردية الخاصة ـ القائمة على تفسير خاص عن العالم والإنسان، والفرضيات الميتافيزيقية والكلامية، والعقائد الدينية أو غير الدينية والتي تفترض عقيدة خاصة ـ على الأفراد الذين لا يؤمنون بذلك الدين أو تلك العقيدة، أو لا يقبلون بذلك التفسير الخاص، أو يؤمنون بتفسيرٍ آخر. إن الأخلاق الاجتماعية تعمل على مجرّد افتراض المتبنيات ما فوق الدينية، وتعترف بتنوُّع الأساليب المختلفة للحياة، وحقّ الأفراد في اختيار نمطٍ من بين أنماط الحياة المختلفة، وتعطي هامشاً وحيِّزاً لظهور التغيير الفكري والتغيير الشخصي، وتحول دون سريان أو فرض رؤيةٍ وفهم خاص عن الأخلاق الفردية على ساحة الحياة الجماعية. وبطبيعة الحال فإن حقّ الفرد في اختيار النمط المنشود له من الحياة يعني مجرّد أن المجتمع والآخرين لا يحقّ لهم أن يختاروا نيابة عن الفرد، أو أن يحدّوا من اختياره وانتخابه. إن هذا الحقّ لا يعني سلب المسؤولية العقلانية والأخلاقية للفرد في مقام الانتخاب والاختيار، ولا بمعنى اعتبار الذوقية والمزاجية في نمط الحياة، والقول بالتساوي والتكافؤ العقلاني لمختلف أنماط الحياة. إن الحرِّية وامتلاك الحقّ في الانتخاب لا يعني صوابية نتيجة هذا الانتخاب، أو كونه يفوق العقلانية، كما أن امتلاك حقّ القيام بفعلٍ لا يعني صوابية ذلك الفعل من الناحية الأخلاقية.

يمكن تنظيم العلاقة بين أتباع الأنظمة الأخلاقية الفردية المختلفة مع بعضهم على أساسين مختلفين:

الأوّل: القوّة والعنف والإكراه.

والثاني: قِيَم الأخلاق الاجتماعية.

إن الأخلاق الاجتماعية تعمل في واقع الأمر على تنظيم السلوك الجمعي لأصحاب الأخلاق الفردية المختلفة، وتعاطيهم مع بعضهم بشكلٍ مناسب وعادل ومنصف، وتفسح المجال لكلّ شخص كي يمارس نموذجه وخياره الأخلاقي المقبول والمفضَّل عنده، وأن يجسِّد تصوُّره عن الإنسان المثالي. يعدّ اختيار الدين والمعتقد، وتبعاً لذلك انتخاب نمط الحياة، ـ من ناحية الأخلاق الاجتماعية ـ من الحقوق الأساسية للفرد، ولا يحقّ لأحدٍ أن يسلب الأفراد هذا الحقّ، بأيّ نحوٍ من الأنحاء أبداً. وكما تقدَّم فإنّه ـ بطبيعة الحال ـ يجب على الأفراد أن يبحثوا عن الحقيقة بجدِّية وصدق، وأن يعملوا على نقد وتقييم مختلف أنماط الحياة والمتبنّيات الكونية والإنسانية تقييماً عقلانياً، وأن ينتخبوا الأفضل والأحسن من بينها إذا عثر عليها في حدود الإمكان. ولكنْ لا يحقّ لأحدٍ أن يُكره الآخر على ما يراه هو حقّاً. وليس هناك من دليل سابق يقتضي أن يجتمع جميع الناس على اختيار نموذج خاص ونمط واحد من الحياة بالضرورة، أو أن يكون نمطٌ واحد من أنماط الحياة هو المناسب لمقاس الجميع، ويضمن السعادة والهناء لكافّة الناس على نَسَقٍ واحد (الطرق إلى الله بعدد أنفس [أنفاس] الخلائق). وباختصارٍ: إن الأخلاق الاجتماعية تقوم على الاعتراف بالتعدُّدية في دائرة الأخلاق الفردية.

وعلى هذا الأساس يمكن القول: إن الأخلاق الاجتماعية متقدّمة على الأخلاق الفردية، وهذا التقدّم بمعنى تقدّم «الحقّ» (right) على «الحسن» (good)، أو تقدّم حقّ الفرد على الخير والمصلحة العامة (common good). يمكن تلخيص جوهر الأخلاق الاجتماعية في هذه القاعدة الذهبية التي تقول: «ما لا ترضاه لنفسك لا ترضَهُ لغيرك». أو القاعدة القائلة: «عامِلْ الناس كما تحبّ أن يعاملوك»([22]). فإذا كنّا لا نرضى للآخرين أن يفرضوا علينا أفهامهم وتفسيراتهم لنمط الحياة الصالحة والحسنة، ولا نحبّ أن يكرهونا على اعتناقها، وكنا نعتبر ذلك نوعاً من الظلم وعدم العدل، وجب علينا في المقابل عدم إعطاء هذا الحقّ لأنفسنا في إكراه الآخرين على اعتناق ذلك النمط من الحياة الصالحة والحسنة من وجهة نظرنا أيضاً. ولا فرق في هذا الشأن بين أن يكون نمط الحياة المنشود مستنداً إلى الدين أم لا، وبين أن يكون اختلاف أنماط الحياة ناشئاً عن الأذواق والأمزجة وتقييمها خارج دائرة النقد والتقييم العقلاني أم لا. يمكن للأخلاق الفردية أن تكون دينيةً، إلاّ أن الأخلاق الاجتماعية تفوق الدين ضرورةً.

إن صحّة ومشروعية الأخلاق الاجتماعية لا تتوقّف على «تعدُّدية الصدق» وعدم إمكان التقييم، وما فوق عقلانية الثقافات والتقاليد المختلفة، على الرغم من أن هذه الفرضيات تُعَدّ تبريراً إضافياً لاعتناق الأخلاق الاجتماعية. إن الفرضيات السابقة لقِيَم الأخلاق الاجتماعية عبارةٌ عن مجرّد «تعدُّد طرق النجاة». وعلى هذا الأساس، حتّى لو ادّعى الفرد انحصار الصدق في الدين الذي يعتنقه، ورأى بطلان سائر الأديان الأخرى ـ كما هو الحال بالنسبة إلى أتباع جميع الأديان بشكلٍ عام ـ، مع ذلك لا يحقّ له أن يُكره الآخرين الذين لا يرَوْن رأيه على اعتناق ما يراه من نمط الحياة الصالحة والحسنة، فلا يحقّ له إكراه أتباع الديانات الأخرى، ولا حتّى الذين لا يؤمنون بأي دينٍ، على اعتناق دينه؛ لأن هذا الأمر غيرُ لائق وغير صائب من الناحية الأخلاقية.

ولكي يكون الحكم أخلاقياً يجب أن تجتمع فيه شرائط صورية ومضمونية خاصة، وفي الحدّ الأدنى يجب أن يكون ذلك الحكم قابلاً للتعميم. ومن الواضح أن الذين يدَّعون الصدق والحقّ الحصري للدين الذي يعتنقونه لا يرضون لأتباع الديانات الأخرى، أو الذين لا يعتنقون ديناً أصلاً من الكفّار والملحدين، بأن يُكرهوا الآخرين على نمطٍ خاص من أنماط الحياة، أو نموذج خاص من نماذج الأخلاق. وإذا كانوا يشكِّلون الأقلية أصرّوا على التمسُّك بحقّهم في البقاء على دينهم، وأن تكون لهم الحرِّية الكاملة في اعتناق واختيار نمط الحياة والأخلاق الفردية التي يرَوْنها هي الصحيحة والمناسبة. لا نقول: إن هذا الأمر غير ممكنٍ من الناحية العملية، أو لا يمكن له أن يتحقَّق؛ فإن تاريخ البشرية زاخرٌ بصفحات ومشاهد تقوم فيها الأمم والشعوب الغالبة بإكراه الشعوب والأمم المغلوبة على اعتناق دينها وثقافتها وفكرها ونمط حياتها وأخلاقها الفردية، إلاّ أن المدَّعى هو عدم أخلاقية مثل هذا العمل، وعدم إمكان تبريره أو الدفاع عنه. فإنّ مجرّد القوّة الجسدية أو العددية لا تمنح مثل هذا الحقّ لأصحابها في إكراه الآخرين على ما يرَوْنه، وجعل ما يتبنَّوْنه قانوناً يجب احترامه من قبل الجميع، واعتبار المتخلِّف عنه متمرِّداً ومجرماً يجب تعريضه لأشدّ العقوبات. بل إن مثل هذا الأمر لا يمكن تبريره إلاّ على أساس المنطق القائل: «الحقّ لمَنْ غلب». وليس هذا المنطق بشيءٍ آخر غير العبودية للبطش والقوّة.

 

الهوامش

(*) أحد الباحثين البارزين في مجال الدين وفلسفة الأخلاق، ومن المساهمين في إطلاق عجلة علم الكلام الجديد وفلسفة الدين.

([1]) الكليني، الكافي 1: 25.

([2]) ليس للدين والأخلاق ذات، ولكنْ لهما ذاتيات. ومرادنا من الذاتيات هنا تلك الخصائص التي يكون الدين بوجودها ديناً، والأخلاق أخلاقاً، ويؤدّي عدمها إلى إخراج الدين عن كونه ديناً، وإخراج الأخلاق عن كونها أخلاقاً. وإن الخصائص الصانعة للدين، والخصائص الصانعة للأخلاق، في الحقيقة هي المعيار الذي يفصل الدين عن غير الدين، ويفصل الأخلاق عن غيرها.

([3]) إن مرادنا من التجربة الدينية هنا ليس خصوص التجربة الدينية للأنبياء، بل مرادنا منها ما يشمل التجربة الدينية للأولياء والمؤمنين أيضاً. إن من بين المشاكل الرئيسة التي تعاني منها التعريفات التقليدية للدين في العالم الإسلامي أن هذه التعريفات تنخفض إلى مجموعة من الأصول العقائدية والأحكام العملية، ويتمّ إخراج التجربة الدينية ـ التي هي الغاية القصوى من التديُّن، وهي من ذاتيات الدين وجوهر التديُّن ـ من تعريف الدين.

([4]) إن مشاهدة الأمر الروحي إنما هي مجرّد نوع خاص من التجربة الدينية. وأما بعض الأنواع الأخرى لهذه التجربة فهي عبارة عن: مشاهدة تجليات الأمر الروحي في مرآة الصور، أو مشاهدة تجليات أسماء وصفات الله وسماع كلامه وندائه. ويمكن لمضمون كلام الله أن يكون واقعية عينية؛ أو حكماً تشريعياً، وناظراً إلى العمل.

([5]) إن مرادنا من المجتمع هنا هو معناه الأعمّ. ويبدأ هذا المجتمع من شخصين، ليبلغ منتهاه حيث المجتمع العالمي؛ إذ يتألف هذا المجتمع في أصغر نواةٍ له من فردين يتعاطيان مع بعضهما بوصفهما طرفين في معاملة، من قبيل: البائع والمشتري، والعامل وربّ العمل، والطبيب والمريض، والطالب والمعلم، والزوجة والزوج، والأب أو الأمّ والولد، حيث تخضع المعاملة بينهما إلى الحكم والتقييم الأخلاقي على المستوى الاجتماعي، وتخضع لقِيَم الأخلاق الاجتماعية، حتّى نصل إلى المجتمعات الأكبر، مثل: الأسرة والمدرسة والجامعة والدائرة والقرية والمدينة والبلد، وهكذا حتى نصل إلى المجتمع العالمي.

([6]) رُوي عن النبيّ الأكرم‘ أنه قال: (إنما الأعمال بالنيات) (المجلسي، بحار الأنوار 67: 211، بيروت، مؤسّسة الوفاء). ولكنْ يمكن القول: إن مراد النبيّ في هذا الكلام هو أن الثواب والجزاء الأخروي على الأعمال تابعٌ لنية الفاعل، أو الحُسْن الفاعلي للعمل.

([7]) إن من بين الأبحاث الهامة في الأخلاق الاجتماعية البحث القائل: هل الفرد في المجتمع ملزمٌ من الناحية الأخلاقية بأن يوصل النفع للآخرين أم هو ملزمٌ بعدم إلحاق الضرر بهم فقط؟ يمكن تسمية المورد الأول بـ (الأخلاق الاجتماعية في الحدّ الأعلى)، والمورد الثاني بـ (الأخلاق الاجتماعية في الحدّ الأدنى). إلاّ أن المهمّ في كلا الموردين هو مجرّد إيصال النفع إلى الآخرين، أو عدم إلحاق الضرر بهم، دون دافع ونيّة الفاعل.

([8]) جديرٌ بالذكر أن (كانْت) ـ الذي تُعَدّ نظريته الأخلاقية واحدةً من التقارير الشهيرة بشأن الأخلاق الحديثة ـ يدرج نية الفاعل في تعريف الفعل الأخلاقي. يرى (كانْت) أن الفعل الأخلاقي هو الفعل الذي ينبثق عن دافع العمل بالتكليف والشعور بالمسؤولية، وأن مجرّد مطابقة عمل مع الحكم الأخلاقي لا يصيِّره أخلاقياً. بَيْدَ أنه من الواضح أن دور وآلية النية في هذا التقرير عن الأخلاق وطبيعة الفعل الأخلاقي تختلف اختلافاً كبيراً عن دورها وآليتها في الأخلاق الفردية. إن النيّة في الأخلاق الفردية إنما تكتسب أهمِّيتها من خلال دورها في السعادة والكمال الشخصي والفردي للفاعل، في حين أن (كانْت) عندما يتحدّث عن النيّة الأخلاقية إنّما يسعى إلى نفي أخلاقية الأفعال الصادرة عن الفاعل بداعي الحصول على نتيجةٍ، سواء أكانت تلك النتيجة منفعةً ومصلحة دنيوية، أم سعادةً وكمالاً أخروياً، أم اكتساب وتنمية فضيلة نفسانية. وعلى هذا الأساس ربما كان من الأفضل بيان الاختلاف بين الأخلاق الفردية والأخلاق الاجتماعية من حيث الدوافع والنوايا بالقول: إن للنية في الأخلاق الفردية من حيث التأثير الروحي والنفسي على السعادة والكمال الفردي للشخص الفاعل أهمِّية بالغة، في حين إنها في الأخلاق الاجتماعية إمّا لا أهمِّية لها؛ أو إذا كان لها من أهمِّية فتعود إلى تأثيرها في صيرورة الفعل أخلاقياً، وليس لأجل النتيجة التي تنطوي عليها بالنسبة إلى الشخص الفاعل.

([9]) مرادنا هنا نفي التعدُّد على المستوى العملي، وأما على المستوى النظري فيمكن أن تكون الإجابات عن السؤال الثاني متعدّدة أيضاً. وأما إذا كانت العقائد المقبولة من قبل أكثرية أفراد المجتمع في ما يتعلَّق بقِيَم الأخلاق الاجتماعية متنوّعة ومتعدّدة وجب عليهم التحاور فيما بينهم للاتفاق على منظومة أخلاقية واحدة نسبياً، وهذا في الحقيقة يمثّل جوهر العقدية الأخلاقية. يمكن لأفراد المجتمع أن يختلفوا في تفسير قِيَم الأخلاق الاجتماعية، ولكنْ يمكن ـ بل يجب ـ حلُّ هذا الاختلاف من خلال العقد الاجتماعي؛ إذ يجب على المواطنين في المجتمع؛ كي يتمتَّعوا بحياةٍ مطلوبة في مجتمعٍ منشود أن يتوصَّلوا إلى توافقٍ نسبي بشأن فهمهم لقِيَم الأخلاق الاجتماعية. وفي الحقيقة فإنّ الأخلاق الاجتماعية تمثِّل دستوراً غير مدوَّن بالنسبة إلى المجتمعات الحديثة.

([10]) كنا في هذا البحث بصدد بيان الفروق بين الأخلاق الفردية والأخلاق الاجتماعية، والتأكيد على أن الأخلاق الاجتماعية لا يمكن تحويلها إلى الأخلاق الفردية. إن قِيَم الأخلاق الفردية تنسجم نوعاً ما مع قِيَم الأخلاق الجماعية، رغم أن هذين النوعين من الأخلاق قد يتعارضان فيما بينهما، بمعنى أنه قد يكون العمل مذموماً على مستوى الأخلاق الفردية، ولا يكون مذموماً على مستوى الأخلاق الجماعية، بل وربما كان ممدوحاً أيضاً. ومن هنا يرى بعض علماء الأخلاق أن (السيئات الفردية حسنات جماعية). فعلى سبيل المثال: إن اكتساب العلم بقصد المباهاة أو الربح أو الحصول على الجاه والمقام يعتبر مذموماً من زاوية الأخلاق الفردية، ولكنْ حيث تصل منفعته إلى الجماعة لا يكون مذموماً من زاوية الأخلاق الجماعية. والبخل، الذي يُعَدّ رذيلةً وسيئة من ناحية الأخلاق الفردية، يُعَدّ من ناحية الأخلاق الجماعية حسنةً وفضيلة؛ إذ ما لم يكن الفرد بخيلاً لا يمكن للثروة أن تجتمع، وإن اكتناز الثروة شرط ضروري للرخاء الاقتصادي والرفاه الاجتماعي.

وبطبيعة الحال يمكن النقاش في بعض الأمثلة التي ذُكرت لتأييد هذا الادّعاء. فعلى سبيل المثال: يمكن القول: إن البخل يعني حرمان الآخرين من الانتفاع بشيءٍ عائد إلى الفرد، وإن الذي يقوم باكتناز الثروة، ولا يستثمرها في حقل الإنتاج وتوفير فرص العمل ليس بخيلاً. وعلى هذا الأساس يكون البخل مذموماً من حيث الأخلاق الفردية ومن حيث الأخلاق الجماعية. وإن النظر إلى هذا الموضوع من الزاوية الاجتماعية يعكس مجرّد تغيير تصوّرنا عن مصداق البخل، ومعيار التصرُّف الذي ينطوي على البخل. وبعبارةٍ أخرى: إن اكتناز الثروة من زاوية الأخلاق الفردية غير مذمومٍ، ولا قبيح، إنما الذي يعدّ مذموماً وقبيحاً هو حرمان الآخرين من الانتفاع بالثروة. ومن جهةٍ أخرى فإن بذل المال لا يُعَدّ فضيلة في حدِّ ذاته؛ إذ إن هذا البذل يؤدّي أحياناً إلى اتّساع رقعة الفقر والبؤس، والتشجيع على الاستجداء والسؤال. وعلى هذا الأساس يمكن الادّعاء بأن المهمّ في هذا المورد من الناحية الأخلاقية هو العمل على مكافحة الفقر، والتقليل من ألم المعاناة والحرمان المادي الذي يعاني منه الآخرون، إلاّ أن الطريق المؤدّي إلى هذه الغاية يتوقَّف على الأوضاع والأحوال والظروف. ففي بعض الموارد قد يحول التوزيع المباشر للثروة دون تحقيق هذا الهدف، بينما يساعد اكتنازها على تحقيق هذا الهدف. وفي هذه الحالة إما يجب القول بأن السخاء لا مورد له؛ أو نقول بأن السخاء يكمن في اكتناز الثروة أو عدم الجود بها. ولا فرق بين الأخلاق الفردية والأخلاق الاجتماعية من هذه الناحية. فالذي يكتنـز الثروة من أجل إيجاد فرص للعمل جديرٌ بالثناء والتكريم والتشجيع، حتّى من ناحية الأخلاق الفردية أيضاً.

والمشكلة التي تواجهنا هنا تكمن في عدم وجود تعريف واضح ودقيق للمفاهيم والقواعد الأخلاقية، وهي تعتبر في الفهم العرفي لعامة الناس من الأمور المطلقة التي لا تقبل الاستثناء والتخصيص. ومشكلتنا نحن البشر تكمن في أننا نعاني من الجَزْمية في ما يتعلّق بمصاديق الأمور الحسنة والسيئة، معتبرين ذلك من التشبُّث بالقِيَم والأصول، في حين أن الغفلة عن هذه الحقيقة تُعَدّ واحدة من أكثر أسباب السلوكيات المنافية للقِيَم والأخلاق شيوعاً، وإن الالتزام والتعهُّد الأخلاقي يقتضي من الإنسان أن يسعى لكي يفهم الأخلاق والقِيَم الأخلاقية كما هي، ويعمل على اتّباعها. وإن اعتبار الإطلاق في القِيَم المقيدة خطأٌ، كما هو الحال بالنسبة إلى تقييد القِيَم المطلقة.

ولكنْ، بغضّ النظر عن المناقشة في المثال، يمكن القول: إن أصل هذا الادّعاء قابلٌ للدفاع، فهو ليس بالأمر الغريب؛ لأن تعارض القِيَم الأخلاقية ظاهرة واضحة وملموسة، وليست خاصة بالأخلاق الفردية والاجتماعية، أي حتّى الأخلاق الفردية قد تتعارض فيما بينها أحياناً. وفي باب تعارض الأصول والقِيَم الأخلاقية يمكن لنا أن نطرح سؤالين هامّين:

الأول: ما هو البيان الذي يمكن تقديمه لهذا التعارض؟

الثاني: ما هو الطريق الذي يمكن اقتراحه لحلّ هذا التعارض؟

أرى أن أفضل بيان للتعارض بين الأصول والقِيَم الأخلاقية هو البيان المقترح من قبل فيلسوف الأخلاق الإنجليزي الراحل (ديفد روس)؛ حيث ذهب إلى الاعتقاد بأن الأسس الأخلاقية تعكس القِيَم في بادئ النظر، بمعنى أن كلّ أصلٍ أخلاقي يعكس حيثية خاصة تعتبر هامّة من الناحية الأخلاقية، وتكون منشأً للتعارض الأخلاقي، واجتماع خصوصيتين أو عدد من الخصائص أو الحيثيات المختلفة في موردٍ أو فعل معيَّن، وهي خصائص وحيثيات تشتمل على اقتضاءات أخلاقية مختلفة وغير منسجمة. وعليه يمكن الادّعاء بأن الأصول الأخلاقية مطلقة، وليس هناك تعارضٌ أخلاقي، بمعنى أن يكون هناك فعل واحد يكون حسناً وصحيحاً، ومن نفس الحيثية ذاتها يكون سيِّئاً وقبيحاً. وبعبارةٍ أخرى: إن التعارض الأخلاقي يظهر دائماً في مقام تطبيق الأصول، بمعنى أن هذا التعارض إنما يحصل عندما تجتمع حيثيتان أو حيثيات غير منسجمة في موردٍ واحد. ويرى ديفد روس عدم وجود حلٍّ قطعي للتعارض الأخلاقي. وعند التعارض بين أصلين أخلاقيين لا يوجد أصلٌ ثالث يحكم بشأنهما، ويقول لنا مسبقاً وبشكلٍ مطلق أيّ هذين الأصلين المتعارضين أهمّ من الناحية الأخلاقية. وهذا هو سرّ احتياجنا إلى الحكمة (wisdom). لمزيدٍ من الاطلاع بشأن آراء ديفد روس انظر:

– Ross, W. D. (1930) The Right and The Good (Oxford: Oxford University Press).

– Ross, W. D. (1939) The Foundations of Ethics (Oxford: Clarendon Press).

([11]) إن المراد من علم النفس وعلم الاجتماع هنا ليس خصوص علم النفس وعلم الاجتماع التجريبي، بل هو معنى عام يشمل علم النفس وعلم الاجتماع الفلسفي والعرفاني أيضاً، ويتم الحديث فيه عن الإنسان المثالي والمجتمع المثالي أيضاً.

([12]) إن لـ (التبرير) أو (التسويغ) معنيين. وفي المعنى العامي والسائد في الاستعمال اليومي يكون التبرير مرادفاً لكلمة (rationalization)، بمعنى إظهار الفعل القبيح وغير اللائق على أنه حسن، أو ذكر دليل على القيام بعملٍ هو في الواقع ليس دليلاً على القيام به. وهذا الأمر في الحقيقة هو نوعٌ من اختلاق الأعذار، ونوعٌ من التزييف والاحتيال. فعندما يرتكب الفرد جريمة، بَدَلاً من أن يعترف بجريمته ويعتذر ممّا جنَتْ يداه، يعمل على إظهار ما قام به على أنه هو الصواب. وعندما يقال: (إن فلاناً يبرِّر فعله) فالمعنى أنه يظهر فعلته الشنيعة أو كلامه القبيح على أنه هو الصحيح. وهذا النوع من التبرير يحدث عادةً بعد وقوع الفعل وارتكابه.

وأما التبرير بالمعنى الثاني فهو مرادف لكلمة (justification)، بمعنى إعداد أو امتلاك دعامة عقلانية على تبرير عقيدة أو اتخاذ قرار أو عمل. وهو في الحقيقة دليلٌ على اعتناق تلك العقيدة أو اتخاذ ذلك القرار أو ارتكاب ذلك الفعل. وحيث إن هذا الدليل، بحَسَب الفرض، يعمل على توجيه الشخص وهدايته في مقام اعتناق العقيدة أو اتخاذ القرار أو ارتكاب الفعل يجب توفُّره لدى الشخص قبل اعتناق العقيدة أو اتخاذ القرار أو ارتكاب الفعل. وإن التبرير بهذا المعنى يُعَدّ واحداً من المصطلحات الفلسفية، وأحد أهمّ مسائل وموضوعات فلسفة الأخلاق والمعرفة. وفي فلسفة الأخلاق يكون تبرير القرار والفعل والوسائل والغايات هو المنشود، وفي المعرفة يكون المنشود هو تبرير الإيمان والمعتقد. يذهب الكثير من الفلاسفة إلى الاعتقاد بأننا من الناحية العقلانية مسؤولون، وأنّ هذه المسؤولية تفرض علينا أن لا نؤمن بعقيدة ولا نتّخذ قراراً ولا نرتكب عملاً إلاّ إذا كان لدينا تبرير معقول ومقنع على صوابيّته.

([13]) prudential.

([14]) utility-oriented.

([15]) egoistic.

([16]) right-oriented.

([17]) altruistic.

([18]) impartial.

([19]) كما يصدق عكس هذا الادّعاء أيضاً، بمعنى أن الفضائل والرذائل الأخلاقية؛ لما تشتمل عليه من التبعات المعرفية، تعتبر من الناحية المعرفية مهمّة، ومن هنا تكون فضيلةً ورذيلة أيضاً. فعلى سبيل المثال: إن آليّة السخاء، التي تُعَدّ واحدة من الفضائل الأخلاقية بالمعنى الخاص للكلمة، لا تتلخّص في حثّ الفرد على القيام بالكرم، بل إن آليّته الأهمّ والأكبر تكمن في الآلية المعرفية؛ حيث إن الكرم والسخاء يوجب على مَنْ يتحلّى به أن يرى ويدرك شيئاً يعجز البخلاء عن رؤيته وإدراكه. إن الكريم عندما يكون في موقع يقتضي منه السخاء والكرم يدرك هذا الاقتضاء، ويعمل على طبقه. وعلى أساس الواقعية الأخلاقية توجد الأدلة الأخلاقية للفعل في العالم الخارجي على هيئة المقتضي، إلاّ أن المعرفة والتأثير الفعلي لهذه الأدلة يتوقَّف على توفُّر صفاتٍ خاصة لدى الفرد، وهي التي تكوّن تلك الفضائل المعرفية والأخلاقية. وعلى هذا الأساس فإن الفضائل الأخلاقية ذات طرفين: طرف معرفي؛ وطرف أخلاقي. ومن هنا تكون هذه الفضائل مهمّةً من الناحية المعرفية؛ ومن ناحية علم الأخلاق النفسي أيضاً. وقد عالجنا هذه النقطة بشكلٍ أوسع في محلّه، تحت عنوان (أخلاق التفكير الأخلاقي).

([20]) يتحدّث بعض علماء المعرفة عن «أخلاق الإيمان» (the ethics of belief) أيضاً. وأما في ما يتعلّق بأخلاق الإيمان ـ فإنْ كنا نؤمن بوجود هذه المقولة، ولم نشكّك في إمكانها؛ بسبب عدم إرادية واختيارية فعل الإيمان ـ فإنها تفترض وجود أخلاق التفكير والبحث والتحقيق؛ لأن الإيمان المبرّر بحسب التعريف عبارةٌ عن الإيمان القائم على التفكير والبحث الصحيح والكافي والمتقن والمنهجي.

([21]) للمزيد من التوضيح بهذا الشأن، انظر: فنائي، أخلاق المعرفة الدينية، الفصل الثاني، الفقرة (2 / 4 / 2)، والفصل الثالث أيضاً.

([22]) يذهب بعض المفكِّرين في الشأن الديني إلى الاعتقاد بوجود هذه القاعدة في جميع الأديان، انظر: سروش، صراطهاى مستقيم: 20، طهران، مؤسسه فرهنگي صراط.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً