أحدث المقالات

د. عصام محمد عبد الشافي(*)

مدخل

يمكن النظر إلى القيم على أنها أحكام معيارية تتضمن مُثُلاً وأهدافاً ضابطة للوجود الاجتماعي فكراً ونظماً وممارسة، ولها صفة الضرورة والالتزام والعمومية. وبهذا المعنى فإن القيم هي أحكام معيارية معترف بها في الوجود الاجتماعي. وهي في معياريتها تجسد المُثُل والأهداف والغايات العليا التي يسعى هذا الوجود إلى تحقيقها، ويبغي الوصول إليها. وهذا يفترض الرضا بها، والاقتناع بما تعد به من حقوق، وما تقضي به من واجبات.

وبالقيم، كأحكام مطلقة في ذاتها، ونسبية في التعامل معها، توضع مقاييس مستمدة من مصادر معترف بها في الوجود الاجتماعي، ومؤمَنٌ بما تحتويه، وبما تسعى إليه من صلاح وإصلاح لهذا الوجود. وهذه المقاييس تتجه إلى تقويم كل ما له صلة بالوجود، وكل ما يعتمل فيه من أفكار، ونظم، وحركات. وهذا يعني أن هذه المقاييس يمكن أن تتعدد وتتنوع، تبعاً للتعدد والتنوع في أبعاد هذا الوجود. وقد يكون ذلك أحد المبررات التي مهدت للحديث عن مصفوفات كثيرة للقيم: أخلاقية، وسياسية، ودينية، واجتماعية، واقتصادية. وهذا التقويم لا يمكن تحقيقه إلا بالإحساس العام بالحاجة إلى الأحكام المعيارية (القيم)، مثلاً وأهدافاً، والالتزام العام بما قد تفرضه وتقتضيه من أوامر ونواهٍ، دون الخروج عليها([1]).

وقد ارتبط تحليل البعد الديني فى مرحلة من مراحل تطور العلاقات الدولية بدراسة وتحليل القيم. وتنازعت فكرة القيم في العلاقات الدولية في الأدبيات الغربية مدرستان:

الأولى: وتمثلها المدرسة الواقعية، التي ترى أنه من العبث التمسك بقيم في عالم السياسة الدولية الذي لا يعرف إلا المصلحة. وإن تمسُّك دولة بالأخلاق يعني استسلامها في موقفٍ ما للطرف الآخر، الذي لن يتَّبع نفس قواعد السلوك. ولا يمكن تطبيق المبادئ الأخلاقية العالمية بشكلها المجرد والعام على أنشطة الدول. فالدول تحكمها أخلاقية تختلف عن أخلاقية الفرد في علاقاته الشخصية، ولا يجوز الخلط بين الأخلاقيتين؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى كارثة على الدولة. فالحذر والمقارنة بين الانعكاسات المحتملة لخيارات سياسية سلوكية هو الفضيلة الأعلى في السياسة. وفي حين أن الأخلاق في المطلق تقوِّم العمل بمدى تلازمه مع القيم الأخلاقية فإن الأخلاق السياسية تقوِّم أي عمل بنتائجه السياسية، مع رفض اعتبار القيم الأخلاقية العالمية متطابقة مع قيم ومبادئ دولة معينة. فكل شيء نسبيّ، ولا توجد قيم ومبادئ عالمية مطلقة، بالرغم من أن كل دولة قد تحاول أن تصوِّر قيمها ومبادئها وأعمالها وكأنها تتطابق مع الأهداف والمبادئ الأخلاقية التي يفترض أن تحكم العالم([2]).

وفي هذا الإطار يرى (غيوم) أن مورجنثو يعتقد أن الأخلاق ضرورية في العلاقات الدولية، ولكنه يناهض المبرِّر الأخلاقي للسياسة الدولية، وهو ما يسميه بـ «أيديولوجية الأخلاق»، أي إن المبادئ الأخلاقية تخفي وراءها المصالح الخاصة. كما يدين «الإطلاقية الأخلاقية»، ويسميها «بالنزعة العاطفية»؛ لأنها تغطي طبيعة السياسي، وتركز فقط على القيمة الأخلاقية على حساب القيم الأخرى. ويرى أنه يمكن عن طريق توازن القوى تحقيق النظام والاستقرار للجميع، وإيجاد حالة تخلو من صراعات مسلحة. أي إن الأمر يتطلب أخلاقية المسؤولية، و«المصلحة العليا للدولة». وعلى القادة أن يكونوا أخياراً إذا أمكن، وأشراراً إذا استدعت الضرورة ذلك([3]).

الثانية: وترى أن الحديث عن القيم لا يعني تجاهل الواقع، بل ترشيده، حتى لا ينغمس العاملون في المجال السياسي فى الحسابات البراغماتية الوقتية. ويرَوْن أن القيم تنفذ إلى قلب العلم عن طريق النظريات، بوصفها مبادئ جوهرية تُشكّل بناء الفكر النظري، مُزوِّدةً إياه بالمعنى والاتجاه ([4]).

واستناداً لمقولات هذه المدرسة ظهر المنظور المثالي في دراسة العلاقات الدولية. ويستمد أنصار هذا المنظور رؤيتهم للعلاقات الدولية من الأديان السماوية، والتعاليم والفلسفات الإنسانية، التي تهتم بوضع الضوابط والمعايير الأخلاقية العامة للسلوك الإنساني، وتركز على مخاطبة عقل الإنسان وقلبه، واستثارة الجوانب الخيِّرة في الطبيعة البشرية، بهدف الارتقاء بالسلوك الإنساني، والعمل على أن يأتي هذا السلوك متماشياً مع القواعد الأخلاقية، التي تحضّ على قيم التعاون، بدلاً من الصراع؛ وعلى السلام، بدلاً من الحرب؛ وعلى العدالة، بدلاً من الظلم؛ وعلى الحب والإخاء والكرم، بدلاً من الكراهية والحقد والأنانية. كما يستمدون بناءهم الفكري من عدة روافد تمثلت في أعمال عصر النهضة والتنوير وليبرالية القرن التاسع عشر، ومثالية الرئيس الأميركي ولسون في القرن العشرين([5]).

واستلهاماً لهذه القيم طرح عدد من المفكِّرين رؤىً أو نظرياتٍ عن الحرب والسلام، أو اتخذوا مواقف مناهضة للاستعمار أو للنظم العنصرية، أو غير ذلك من ظواهر العلاقات الدولية المختلفة. ولم يتردد عدد من الأساقفة وعلماء اللاهوت من التنديد بالاستعمار، وتفنيد الأسس التي يقوم عليها، من منظور ديني. بل وذهبت بعض المجالس الملّية الكنسيّة إلى حدّ تقديم مساعدات مادية ومعنوية لدعم حركات التحرُّر في أمريكا اللاتينية. وفي المقابل برزت رؤى ومواقف مماثلة مستوحاة من تعاليم الدين الإسلامي أو اليهودي، أو من التراث الثقافي والأخلاقي لديانات غير سماوية، أو حتى لفلسفات إنسانية عامة([6]).

إلا أن مقولات هذا المنظور تراجعت أمام هيمنة مقولات المنظور الواقعي على دراسة العلاقات الدولية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. إلا أن المتغيِّرات والتحوّلات الدولية في مرحلة ما بعد نهاية الحرب الباردة، مع عجز دارسي العلاقات الدولية عن التعامل مع هذه المتغيرات بأدواتهم ونظرياتهم التقليدية، دفعت إلى ردّ الاعتبار للتحليل القيمي، وهو ما مهّد المناخ للاهتمام بالبعد الثقافي من أبعاد دراسة الظاهرة الدولية. كذلك فإن محاولات دراسة الثقافة فى إطار العلاقات الدولية ركَّزت على أهمية تجدّد الدراسة والبحث في النظرية القيمية؛ لتحقيق نتائج أفضل لدراسة القضايا الجديدة في إطار واقع العلاقات الدولية، وخاصة أن المكوّن القيمي هو الأساس في تكوين المُركّب الذي تتكون منه الثقافة. ولا يتأتّى الاهتمام بالبعد الثقافي في إطار الرؤية الغربية إلا من خلال الحديث عن القيم ودراستها، كنوع من التعبير عن الحضارة الغالبة، وتزكية النسق القيمي الغربي وتعميمه وعالميته([7])، والبحث في المقابل عن تهميش الأنساق القيمية الأخرى، أو افتراض عناصر مواجهة بين الحضارات وأنساقها القيمية([8]).

وفي مواجهة هذه النزعة الغربية خلصت دراسة أجرتها «اليونسكو» إلى أن هناك عدداً متزايداً من معتنقي ديانات العالم يؤمنون بأنه على الرغم من اختلاف العقائد والمعتقدات إلا أن هناك اشتراكاً في العديد من القيم والأخلاقيات؛ لإيجاد قيم ومثل عالمية، ولاسيما تلك التي تحكم المعاملات بين البشر. وإن العلاقات بين الأديان تؤثِّر على المجتمع الدولي. فغالباً ما يستخدم الدين لتبرير المصالح الأيديولوجية والاقتصادية والسياسية، وإضفاء الشرعية عليها، ولكن الدين يمكن أن يكون له دور كبير في خلق ثقافة السلام، التي تجعل من الممكن تفادي النزاعات والصراعات، ونزع فتيل العنف، وبناء هياكل وأطر أكثر عدالة وحرية. فالدين من شأنه التأكيد على الجوانب الأصلية والأساسية للكرامة الإنسانية، والانفتاح على الآخرين، وتحديد الأولويات الحقيقية في حياة الأفراد والشعوب([9]).

وهنا يشير «كامرن موفيد» (Kamran Mofid) إلى أن هناك حاجةً إلى مُثُل عالمية توفِّر أساساً أخلاقياً للعولمة، حيث يرى أن «غياب الروحانية في العولمة ضارٌّ جدّاً، حيث جمد خيالنا. وللنجاح في عكس هذا الوضع الحرج والمتأزم المرتبط بالعولمة علينا أن نوقظ الرغبة في الناس لكي يطرحوا أسئلة أعمق وأكبر وأوسع حول الحياة وغايتها. فالعولمة اليوم تفتقر بشدة إلى وعي مدرك، وإلى قيم وأخلاقيات وروحانيات»([10]).

وفي دراسة لمدخل القيم، كإطار مرجعي لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام، قدَّم الدكتور سيف عبد الفتاح([11]) رصداً لواقع القيم في دراسة العلاقات الدولية، وقام بالتمييز بين عدة اتجاهات:

الأول: الفصل بين العلم والقيم. ويقوم على أنه كلما كان العلم متحرِّراً من القيمة، خالياً منها، صار علماً، ويراكم المسيرة نحو علميته. وهذا التوجه تحرِّكه جملة من القيم ضمن اتّساقه المعرفي ورؤاه المنهجية وموضوعاته البحثية.

الثاني: النظر للقيم كموضوع للعلوم الإنسانية والاجتماعية. ويرى أن القيم بالمعنى المادي قد تصلح لأن تكون مكوِّناً للظواهر القابلة للبحث، والتعامل مع تطوراتها، ولكنها بالمعنى المعنوي يستحيل الاستدلال عليها. أما المادي من القيم القابلة للدراسة والتكميم فهو الجدير بالاهتمام؛ وما هو غير قابل لذلك فليس من الأهمية بمكان.

الثالث: الفصل بين القيم والواقع. ويرى أن القيمة الوحيدة تكمن في الواقع المادي نفسه. فهو الذي يكوِّن الظاهرة، وهو الذي يعد محرِّكاً للتنظير، وهو المقياس للدراسة المنهجية والعلمية.

الرابع: محورية القيم. ويشمل هذا المستوى جملة الدراسات والبحوث التي جعلت من القيم أهم عناصر بحثها في سياق نماذج معرفية عربية وإسلامية. إلا أن هذا المستوى، وفي الوقت الذي حرص أنصاره على جعل القيم في المركز من اهتماماته، يقود إلى تهميش القيم وعدم تفعيلها على مستوى الممارسة؛ نتيجة لأخطاء تنظيرية يجب تعديلها لضبط دراسة القيم. ومن هذه الأخطاء: 1ـ نسبية القيم، أي جعل القيم «متغيراً» تابعاً لمتغيرِّات أكثر أهمية في العملية السياسية، والظاهرة الدولية، أهمها: اعتبار القوة القيمة الأساسية، والمصلحة القيمة المحدَّدة. 2ـ إجرائية القيم، أي محاولة تحويل القيم لإجراءات جديرة بالنقد والمراجعة، حيث إن تحويل القيم لفكرة قابلة للقياس لا غبار عليها، على أن لا تتحكم مقاصد القياس في التعامل القيمي إلى الحدّ الذي يستبعد موضوعات بعينها من أجندته وطرائقه في البحث، بغضّ النظر عن قيمتها في التحليل أو في التفسير أو في التقويم؛ وافتراض الترادف بين أنساق القيم من جانب، والأنساق الأيديولوجية من جانب آخر.

وفي إطار تصاعد الاهتمام بالبعد القيمي في العلاقات الدولية، وبروز العديد من الأطروحات الغربية فى هذا الإطار، يرى الباحث أن إسهام المنظور الإسلامي في العلاقات الدولية قد يكون أكبر من غيره من المنظورات الفكرية، باعتبار أن اهتمام الدارسين لهذا المنظور بالقيم ليس نابعاً من منطلق رد الاعتبار للقيم أو عودة الاهتمام بها فحسب، كما هو الغالب في الرؤية الغربية، بل لأن المنظور الإسلامي قيميّ بالأساس، ومن ثَمّ فإن دراساته وخطواته أكثر إسهاماً في الدراسة النظرية للقيم في العلاقات الدولية.

الهوامش

(*) باحث في العلوم السياسيّة، من مصر.

([1]) د. مصطفى محمود منجود، القيم والنظام المعرفي في الفكر السياسي: رؤية مقارنة في إسهامَي الغزالي ومكيافيللي، مجلة إسلامية المعرفة، واشنطن، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، العدد 19، نسخة إلكترونية.

([2]) د. ناصيف يوسف حتي، النظرية في العلاقات الدولية: 23 ـ 25، بيروت، دار الكتاب العربي، 1985م.

([3]) إكزافييه غيّوم، العلاقات الدولية، ترجمة: د. قاسم المقداد، مجلة الفكر السياسي، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، العددان 11 ـ 12، يوليو 2001، نسخة إلكترونية.

([4]) Robert R. Alford، The Craft of inquiry Theories, Methods and Evidences, (Oxford University Press, 1998), pp.35-38.

([5]) هانز كينغ، الحوار بين الأديان والأمم، مجلة التسامح، (مسقط، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، العدد السابع عشر: 201 ـ 204، شتاء 2007).

([6]) Chris Brawn, International Relations Theory: New Normative Approaches, (New York, Simon & Schuster International Group, 1992), pp. 223-227.

([7]) تأكيداً لذلك قال رئيس وزراء بريطانيا السابق طوني بلير: إنه ينبغي أن تنتصر القيم والمبادئ الغربية على التشدد في العالم الإسلامي، مؤكداً أن النـزاع في الشرق الأوسط والقضايا الأخرى المتعلقة بالمتطرفين المسلمين تدور حول التحديث، وما إذا كان من الممكن أن يعتنقوا النظام الغربي للمبادئ والقيم. وأضاف: إن الصراع كان بين القيم الغربية المعتدلة وغير المؤذية وبين كراهية وعدم تسامح الأصولية. وتساءل عما إذا كان في مقدور القيم الغربية أن تكون أكثر قوة للمواجهة والتغلب على قيمهم ومبادئهم. وأضاف: إن الغلبة لا تخص الأمن والتكتيكات العسكرية فحسب، بل تشمل أيضاً الحصول على محبة الناس وإقناعهم وإعلامهم أن قيمنا في مصلحتهم! وأضاف: «إنه ما لم يُجرِ الغرب تقييماً شاملاً لاستراتيجيته، ويعيد تقوية الأجندة العالمية الكبرى لمكافحة الفقر، وتغيير المناخ والتجارة الدولية، وبذل كل الجهود الممكنة لتحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فإننا لن ننتصر، مع أنه يجب أن ننتصر في هذه المعركة المصيرية، ولا ينبغي أن نركز على مكافحة الإرهاب فقط، بل أيضاً على كيفية حكم العالم نفسه في أوائل القرن الحادي والعشرين، وعلى القيم العالمية الغربية!». انظر: بلير: نخوض حرباً لفرض القيم الغربية على العالم الإسلامي، ترجمة: محمد بشير، صحيفة عكاظ، السعودية، 3/8/2006.

([8]) د. سيف الدين عبد الفتاح، مدخل القيم: إطار مرجعي لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام، (في) د. نادية محمود مصطفى (إشراف وتحرير)، مشروع العلاقات الدولية فى الإسلام: 44 (القاهرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996).

([9]) United Nations Educational Scientific and Cultural Organization (UNESCO), “The Contribution of Religions To a Culture of Peace”, Conference Held, April, 1993. p. 181.

([10]) Kamran Mofid, “Global Capitalism in Crises: Globalization and Business for the Common Good – Theology and Economics Working Together”, Interreligious Insight a Journal of Dialogue and Engagement, Vol 1, No. 3 (July, 2003), p. 18

([11]) د. سيف الدين عبد الفتاح، المصدر السابق: 44 ـ 49.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً