أحدث المقالات

ـ القسم الأوّل ـ

 

الشيخ مرتضى مطهَّري(*)

ترجمة: حسن علي مطر

 

 جذور حريّة الإنسان([1])

يدور بحثنا لهذا اليوم حول العبودية. إن من المسائل المطروحة في عصرنا الراهن على المستوى النظري، دون المستوى العملي، هي مسألة العبودية في الإسلام.

إن عدم طرح المسألة على المستوى العملي واضحٌ؛ وذلك لانتفائها من الناحية العملية في العالم المعاصر، فهي بعبارةٍ أخرى: سالبةٌ بانتفاء الموضوع من هذه الناحية.

نعم، المسألة تطرح نفسها على المستوى النظري، حيث كانت العبودية وظاهرة الرقّ موجودة في الإسلام، الأمر الذي أثار الكثير من علامات الاستفهام، حيث أخذ الكثير يتساءل: لماذا أقرّ الإسلام ظاهرة استعباد الإنسان لأخيه الإنسان، ولم يبادر إلى إبطالها، والقضاء عليها؟

وعليه لا بُدَّ من تحليل هذا الاستفسار والاستغراب. إن معنى السؤال القائل: «لماذا لم يبادر الإسلام إلى إلغاء الرقّ؟» هو أن هذا الموضوع كان يجب أن يُلغى، وأن خلاف ذلك غيرُ صحيحٍ.

علينا أن نعطي هذا الإشكال بُعْداً وشكلاً منطقياً، وذلك من خلال القول: إن الرقّ ظلم، وإن إقراره والمصادقة عليه إقرار للظلم، وهذا لا ينسجم مع قوانين الإسلام التي تدَّعي الانحياز إلى العدل، كما يتّضح ذلك من خلال قول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ﴾ (النحل: 90). إن الأمر الذي يُصدره الله إنما يقوم على أساس العدالة، وأن الله عادل، وأن القانون الذي يسنّه عادل أيضاً، وعليه لا يكون هذا متناغماً مع إقرار قوانين الرقّ والعبودية.

كما يتمّ طرح هذا الإشكال بشكلٍ آخر، إذ يُقال: إن لازم العبودية أن يكون الإنسان بضاعةً، وهذا مخالفٌ لحيثية الإنسان.

ويقال أحياناً: إن العبودية استثمارٌ للإنسان من قبل إنسان آخر.

هذه هي خلاصة الإشكالات.

إن هذا الإشكال واضحٌ ومتماسك إلى حدٍّ ما. فمنذ أن تمّ التعرّف على حقوق الإنسان إلى حدٍّ ما أدرك الناس حقيقة أن للإنسان حقوقاً قد حصل عليها من الطبيعة، وأن الحقوق الطبيعية غير قابلة للسلب. فقد حمل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادّته الأولى إقراراً بحرّية الإنسان، إذ تقول هذه المادّة: «يولد جميع الناس أحراراً». فالإنسان يولد حرّاً، ويجب أن يعيش حرّاً، ويجب أن يموت حرّاً، وليس هناك مَنْ يستطيع أن يسلب من الشخص حرّيته، بل لا يمكن حتّى للشخص نفسه أن يتنازل عن حقّه في الحرّية، وأن يجعل من نفسه عبداً لغيره. وهذه من المسائل المطروحة في الفقه، إذ يُقال: «هل يجوز للشخص أن يتنازل عن حرّيته، ويجعل من نفسه عبداً لغيره، سواء أخذ على ذلك أجراً أم لا؟». لا شَكَّ في أن الجواب عن هذا السؤال هو النفي قطعاً.

يقول الذين دوَّنوا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: ليس المراد أن بإمكان العبد بعد عتقه أن يجعل من نفسه عبداً لآخر، بل إن الإنسان قد خلق حُرّاً، وحيث خلق حُرّاً لن يستطيع هو، ولا غيره، أن يُرقّ نفسه.

وبعبارةٍ أخرى: إن بحثنا يرتبط بالحرّية، بمعنى أن علينا أن نبحث من الناحية الفلسفية: هل خُلق الإنسان حُرّاً؟

 

موقف أرسطوطاليس من العبودية

هذا، وقد ذهب البعض ـ ومنهم: أرسطوطاليس ـ إلى النقيض من ذلك تماماً؛ إذ ذهب إلى الاعتقاد بأن الناس خُلقوا مختلفين، فمنهم الحرّ والسيّد، ومنهم العبد والمملوك، وذلك حيث قال بأن الناس مختلفين في الخلق من الأساس، ولا غرابة في ذلك.

واستدلّ على رأيه قائلاً: ما الذي يدعونا إلى التمييز بين الإنسان والحيوان؟ ولماذا لا نمنح الحرّية للحيوان؟ فإذا كان الإنسان كائناً حيّاً فالحيوان كائنٌ حيّ أيضاً. كما أن الحيوان ـ مثل الإنسان ـ يشعر باللذّة والألم والسعادة والشقاء أيضاً. فلماذا لا نطالب بالحرّية للحيوان، ونمنع الإنسان من حقّ الاستفادة منه، واستعباده وامتلاك رقبته؟!

قد يُقال: صحيحٌ أن الحيوانات كائناتٌ حيّة، إلاّ أنها لا تتمتَّع بما يتمتَّع به الإنسان من الإدراك والعلم والمشاعر، بمعنى أن امتلاك الحيوان واستعباده لا يتنافى مع طبيعة خلقه وتكوينه. فالفارس الذي يمتلك حصاناً، ويضمن له حقوقه من العَلَف والكلأ والماء، ويضمن له العلاج إذا مرض، ولا يعتلي صهوته أو يحمل عليه فوق طاقته، لا يكون منتهكاً لمصالح الحيوان وحقوقه. لقد خلق ظهر هذا الحيوان للركوب، فأيُّ ضَيْر في ركوبه؟ وعليه ما هو الإشكال في أن يكون الناس كذلك مختلفين بحَسَب الأعراق ومستويات الفهم والمنطق([2])؟ فبعض الأعراق ـ (الإغريقية) على حدِّ تعبيره ـ تمتلك الطاقة الفكرية، فعليها أن تنهمك في التفكير والدراسة والتعلُّم، وبعكسها أعراقٌ لا تتمتَّع بالقدرات الذهنية والعقلية والفكرية، فعليها أن تعمل وتستثمر طاقاتها العَضَلية. فالعِرْق المفكِّر والسيد يجب أن يستعبد العِرْق الآخر ويمتلكه، مع ضمان حقوقه.

لقد أقام أرسطوطاليس هذا الأمر على أساسٍ فلسفي يقوم على القول باختلاف الأعراق واللغات، ويرى أن الإنسان في الأساس خُلق على أنواع وأقسام؛ فمن الناس مَنْ هو سيِّدٌ ومالك، ومن الناس مَنْ هو مملوكٌ وعبد.

وقد ذهب ابن سينا في كتاب الشفاء إلى ما يقرب من هذا الرأي أيضاً، حيث قال بعدم المساواة بين أفراد البشر، وإن بعض أفراد الناس لا يصلحون لغير الاستعباد.

 

موجبات الاستعباد من وجهة نظر الإسلام

لا شَكَّ في أن الإسلام لا يصنِّف الناس على أساس الأعراق، ولا يدعو إلى وصف الأبيض بالسيد، ولا يدعو إلى وصف الأسود بالعبد. كما أنه لا يصنِّف الناس على أساس الرقعة الجغرافية، ولا يقول بأن الذين يسكنون في الشمال هم السادة، والذين يسكنون في الجنوب هم العبيد. بل النصوص الإسلامية تثبت العكس من ذلك تماماً، فلا يرى الإسلام أيَّ تفاوتٍ واختلاف بين الناس على أساس الأعراق والانتماءات المناطقية. وعليه لا يمكن للأساس الفلسفي المتقدِّم أن يكون مقبولاً، وإنّ الذي أقرّه الإسلام في ما يتعلَّق بالاستعباد، ولم يكن مقبولاً في السابق، إنما يقتصر على أسرى الحرب، حيث أجاز الإسلام للمسلمين استعباد الأسرى من المحاربين، مع الالتفات إلى أن للحرب في الإسلام جذوراً فكريّة وعقائدية، ولا يوجد فيها أيّ جذور سياسية واقتصادية. وفي مورد الحرب أقرّ الإسلام الاستعباد على نحو الجواز، دون الوجوب.

نعلم أن الإسلام قد دعا إلى التعايش السلمي مع أصحاب الأديان الأخرى، ولو كانت جذور التوحيد عندهم مخدوشةً. وأما غير المعتقدين بالأديان فعلى قسمين:

1ـ المشركون، مثل: عَبَدة الأوثان والأصنام، الذين يعتقدون بألوهية غير الله. والإسلام لا يعترف لهذا القسم بحقّ الحياة.

2ـ الملحدون الذين لا يؤمنون بوجود إله أبداً، ولا يدينون له بالعبودية، سواء كان ذلك الإله إلهاً حقيقياً أم زائفاً.

ولم أَرَ بحثاً أو تحقيقاً يفرِّق بين المشركين والملحدين. ولا بُدَّ من البحث للوقوف على ما إذا كان هناك فرقٌ بين الذين يعبدون غير الله والذين لا يعبدون إلهاً أبداً؟ ولستُ هنا في وارد الدخول في هذا البحث، ولكنّي أشكّ في المساواة بينهما.

وعلى أيّ حالٍ فإن للإسلام رأيه الخاص بشأن الذين يعبدون غير الله، حيث لا يرى لهم أيّ حقٍّ، فليس أمامهم من طريق غير عرض الإسلام والتوحيد عليهم، فإن آمنوا فبها، وإن لم يؤمنوا فتجب محاربتهم، فإن غلبوا وسقطوا في الأسر جاز استرقاقهم واستعبادهم أحياناً.

وأما بشأن أتباع الأديان السماوية فالوضع مختلفٌ، حيث يجب التعايش السلمي معهم، طبقاً للمعاهدات والمواثيق، إلاّ إذا كانوا هم مَنْ يبدأ الحرب والقتال، فيكون قتال المسلمين لهم ذا صبغةٍ دفاعية، فإن وقعوا في الأسر جرى نفس الحكم عليهم. وما ورد في القرآن الكريم من قوله تعالى: ﴿فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوزَارَهَا﴾ (محمد: 4) يرتبط بأسرى الحرب. وعندها يتعيَّن على الحاكم أو وليّ أمر المسلمين أن يراعي مصلحة العصر؛ فإمّا أن يمنّ عليهم ويطلق سراحهم؛ أو أن يأخذ الفِدْية بإزاء تحريرهم ـ كما يحصل ذلك في العصر الراهن، حيث يتمّ تبادل الأسرى، أو أخذ الفدية مقابل إطلاق سراحهم ـ؛ أو أن يتمّ التعامل معهم بوصفهم من البشر المستعبدين.

وعلى هذا الأساس فإن الموجب الذي على أساسه يجيز الإسلام لأتباعه استعباد الآخرين يختلف عن ذلك الرأي الفلسفي المتقدِّم؛ فقد يتمّ استرقاق بعض الأفراد من الشعوب المتحضِّرة أيضاً، وفي الوقت نفسه قد لا يتمّ تطبيق هذا الحكم مع شعوبٍ تعيش حالة من الهَمَجيّة؛ لأنها لا تحارب الإسلام.

ولكنْ حتّى في هذا المورد ألا يمكن القول: إن هذا النوع من التعامل مع الأعداء مخالفٌ للأخلاق؟ ألا يمكن القول: إن هذا التعاطي مع المخالفين ينافي حيثيّة الإنسان؟

إن نفس القرآن الكريم يتضمَّن تعليماً في هذا الشأن؛ إذ يقول الله تعالى: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لاَ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقوَى﴾ (المائدة: 8). ففي الوقت الذي يأمر القرآن بمراعاة العدل مع الأعداء يجيز ظاهرة الاستعباد والاسترقاق أيضاً.

 

جذور حرّية الإنسان

علينا ـ قبل كلّ شيء ـ أن نبحث عن الحرّية. فما الذي يعنيه القائل بقوله: «خلق الإنسان حرّاً، ولا يمكن لأيّ شيء أن يسلبه حرّيته»؟

إن الحرّية التي يتحدَّثون عنها حرّية عامّة، والقَدْر المتيقَّن منها هي الحرّية في التمليك والتملُّك. فما هي جذور هذه الحرّية أساساً؟

فلو تقدَّم لنا شخصٌ بالسؤال الذي وُجِّه إلى رأي أرسطوطاليس المتقدِّم فكيف يجب أن يكون جوابنا؟ لماذا لم تخلق الحيوانات حرّة؟ فهل كتب على جبينها: «خلقت الحيوانات مسلوبة الحرّية، وخلق الإنسان حرّاً من دونها»؟ ما هو الفرق بين الإنسان والحيوان من هذه الناحية؟ وما هي جذور هذا الفرق؟ إذا لم يكن ظلم الكائن الحيّ جائزاً فهل يختلف الأمر فيما لو كان هذا الكائن الحيّ إنساناً أو حيواناً؟ فإذا كان في ذلك ظلمٌ فلا يجوز حتّى على غير الإنسان، وإذا لم يكن هذا ظلماً فما هي الحدود الفاصلة بين العدل والظلم؟ وفوق ذلك قتل الحيوانات، الذي لا يجيزه الهنود، ويجيزه غيرهم. هناك آلاف الخراف التي تذبح في المسالخ يوميّاً، دون أن ينبس أحدٌ ببنت شفة، ويقتل بضعة نفر في فيتنام فيقوم الضجيج من كلّ أنحاء العالم. وهذا أمرٌ صحيح. لا بُدَّ من تربية الخراف؛ لذبحها، وهكذا الأمر بالنسبة إلى سائر الحيوانات مأكولة اللحم الأخرى، فكم هو عدد الأبقار التي تذبح يومياً؟! وكم هو عدد الإبل والجمال التي تنحر؟! وهكذا أنواع الطيور؟! وكم هو عدد الخنازير التي تذبح على يد مَنْ يبيح أكلها؟! أليس في كلّ هذا ظلمٌ على هذه الكائنات؟! وهل حقل الحياة خاصّ بالإنسان فقط؟! فالحيوانات كائناتٌ حيّة مثل البشر، ولها كلّ الحق في أن تستمتع بحقّها في الحياة، فما هو المبرِّر لهذا التمييز بين الحيوان والإنسان؟

يبدو أن الحياة والحرّية ليستا من الحقوق الطبيعية للإنسان، وأنّ هذا الرأي باطل من الأساس. فهل القول الصائب هو عدم وجود حقٍّ طبيعي أصلاً؟

لا نقول ذلك أبداً، فهناك حقٌّ طبيعي، ولكنّه لا يتعلَّق بالحياة أو الحرّية، وإنما يقوم الحقّ الطبيعي على أسس أخرى تتفرَّع عنها الحياة والحرّية. نحن نقول: إن الحق الطبيعي [كما هو واضحٌ من اسمه] هو الحقّ الذي نحصل عليه من قبل الطبيعة، وعليه لا بُدَّ لنا من استنباطه واستخراجه من الطبيعة نفسها. فعلينا أن نرى ما الذي تعطيه الطبيعة، وما هو المسار الذي تطويه الطبيعة والخِلْقة. وإذا اعتبرنا مسير الطبيعة حقّاً كان هذا الكلام [أي الحقّ الطبيعي] صحيحاً؛ وأما إذا قلنا: إن مسار الطبيعة خاطئٌ من الأساس، ولا وجود أصلاً للحقّ في الطبيعة، كان جميع هذا الكلام هباءً. إن كان هناك من حقٍّ طبيعي في الدنيا فيجب أخذه من صلب الطبيعة والخلق.

 

اختلاف الكائنات في الاستعداد والتكامل

تختلف الكائنات في الخلق من حيث الاستعداد والقابلية للتطوُّر والتكامل في النظام العامّ؛ فبعض الكائنات تمتلك هذا الاستعداد؛ وبعضها لا يمتلك مثل هذا الاستعداد. والتي تمتلك الاستعداد تختلف فيما بينها في درجة هذا الاستعداد؛ فإنّ الكائنات التي تعيش على هذه الأرض ـ مثلاً ـ يتمّ تقسيمها منذ القِدَم، ولا تزال، إلى: جماد؛ ونبات؛ وحيوان. ونرى في النبات استعداداً لا نراه في الجماد، ونرى في الحيوان استعداداً لا نراه في النبات، ونرى في الإنسان استعداداً لا نراه في الحيوان، بمعنى أن هذه الطبقات الثلاثة تختلف في درجات الاستعداد، وإنّ بعضها يكون فوق بعضها الآخر. فلو تحوَّل الجماد إلى نباتٍ يكون قد طوى مسيره نحو التكامل، ولو تحوَّل نباتٌ إلى جماد يكون قد انزلق نحو الانحطاط، ولو تحوَّل نباتٌ إلى حيوان ـ ولو من طريق صيرورته طعاماً للحيوان ـ كان سالكاً طريق التكامل، ولو تحوَّل حيوانٌ إلى إنسان، بأيّ شكلٍ من الأشكال، يكون قد طوى مسيرته التكاملية، ولو أصبح الإنسانُ طعاماً لحيوان سار على خلاف مسار التكامل، وعلى خلاف مسيرته الأصلية التي خُلق لها.

 

الحقّ الطبيعي أو الحقّ في التطوُّر والتكامل

الموجود في عالم الخلق هو الحقّ ـ بمعنى الاستحقاق ـ في التكامل والتطوُّر، فالحقّ الطبيعي يعني الحقّ في التطوُّر والتكامل. والحقّ إنما هو للتكامل، بمعنى أن كلّ كائنٍ يمتلك استعداداً للتطوُّر والتكامل يجب عدم الوقوف بوجه تكامله، وعدم منعه من حقّه، وحرمانه من استحقاقه. إن الحقّ والاستحقاق شيءٌ واحد. فالطفل الذي يمتلك الاستعداد للدراسة والتعلُّم والتقدُّم يمتلك هذا الاستحقاق. فلو وقف شخصٌ وشكَّل عقبة أمام تعلُّمه، يكون قد حُرم من هذا الحقّ. أما صغير الخروف فلا يمتلك الاستعداد للدراسة والتعلُّم، وإذا منع من الذهاب إلى المدرسة لن يكون في ذلك حرمانٌ له من حقِّه. وعليه إذا كان هناك من حقٍّ في الطبيعة ـ وهو كذلك ـ فهو الحقّ في التطوُّر والتكامل، وإن الحقّ الذي يجب عدم المنع منه، والذي يكون ظلماً، هو حقّ الإنسان في التقدُّم والتطوُّر والتكامل.

يُقال: إن الإنسان خُلق لكي يعيش.

والجواب: إن الإنسان لم يخلق ليعيش فحَسْب، إنما خلق الإنسان؛ ليعيش ويتكامل. وهذا التكامل من حقِّه. وإذا لم يكن في الحياة تكامل، ولم يكن هناك فيها من أملٍ بالتكامل، كانت تنزُّلاً وانحطاطاً، ولن يكون في هذه الحياة أيّ قيمة. وعليه لا يمكن القول بأن للحياة قيمةٌ مطلقة.

ثم ما هو معنى «الحرّية»؟ هل يجب أن يكون الإنسان حرّاً؟

نعم، يجب أن يكون الإنسان حرّاً، ولكن في أيّ شيء؟ إنّ الحرّية من هذه الناحية هي عين الحياة. فالإنسان يجب أن يكون حرّاً؛ ليصل باستعداده إلى التكامل لمرحلة الفعلية. والنقطة المقابلة للحرّية تعني الوقوف بوجه الاستعداد الطبيعي الممنوح من قبل الله سبحانه وتعالى. فكلّ ما من شأنه أن يقف بوجه تقدُّم الإنسان نحو التكامل والتطوُّر يُعتبر عقبة أمام الحرّية.

يُقال: إن الإنسان يجب أن يكون حرّاً، بمعنى أن ينساق وراء أهوائه ورغباته (التفسير الغربي للحرّية)!

إلاّ أن الأمر ـ طبقاً لما قلناه ـ ليس كذلك. فالإنسان حرٌّ بمعنى عدم منعه من توظيف كلّ ما من شأنه أن يساعده على التطوُّر والرقيّ والتكامل في عالم الخلق والطبيعة، فله كامل الحرّية في أن يسلك هذا المسار. وأما إذا أراد أن يسلك خلاف هذا المسار فإنّ سلب الحرّية عنه، وحتّى إجباره على عدم سلوكه هذا، لا يكون خلاف الحرّية. وهذا الكلام يَرِدُ بالنسبة إلى حرّية المعتقد أيضاً.

 

مسألة حرّية المعتقد

لو أننا فسَّرنا الحرّية بأن الإنسان قد خلق حرّاً، وأن بإمكانه أن يعتنق أيّ دينٍ أو معتقد، فعلينا أن نحترم قراره؛ لأنّه قد خُلق حُرّاً، وإنه إنسان، وإنه من الحيثية الإنسانية حُرٌّ في اختيار معتقده، وإن اختياره ـ لأنه اختياره ـ يجب أن يكون محترماً.

وأما إذا قلنا بتعريفنا فنقول: إن على الإنسان أن يختار من العقائد ما يدفعه إلى التقدُّم والكمال، وأما إذا اختار عقيدةً ومنهجيّة تضع الأغلال والأصفاد على يدَيْه فعلينا أن لا نحترم هذا الاختيار الذي اختاره لنفسه، بل علينا القول: إن الطبيعة لم تمنح الإنسان مثل هذا الحقّ، وإننا سنعمل خلافاً لرغبته، ونحرِّره من الأغلال التي قيَّد بها نفسه، حتّى وإنْ كان كارهاً، ونعمل على تحريره بالمعنى الواقعي للكلمة، وإنْ بلغ صراخه عنان السماء.

إذن علينا أن نرى ما إذا كانت العبودية تنافي هذا المفهوم من الحرّية، التي هي من الحقوق الطبيعية للإنسان، أم لا؟ أي هل هذا النوع من الملكية والامتلاك يحول دون وصول المملوك إلى التكامل، الأمر الذي يدخل في دائرة الظلم قطعاً، أو أن هذه الملكية تضعه في الطريق الذي لا يتنافى مع مساره الإنساني؟

إذا كان الأمر كذلك فإنّ تلك القضية القائلة بأن هذا العمل ظلمٌ ومخالف للعدالة لن يكون له أساسٌ من الصحّة. إن هذا هو البحث العامّ والفلسفي للمسألة، وهناك مسائل أخرى لا بُدَّ من التطرُّق إليها أيضاً.

 

 اختلاف العبودية في الإسلام عن سائر أنظمة الاستعباد الأخرى

نعلم أن بين العبودية التي كانت في الإسلام والعبودية التي كانت سائدة في الأنظمة الأخرى في العالم بَوْناً شاسعاً.

فعلى سبيل المثال: كان شائعاً بين الكثير من الآباء أنّهم يعتبرون أبناءهم من ملكياتهم، فكانوا لذلك يتزوَّجون من مئات النساء؛ لينجبوا منهنَّ أفواجاً من الأولاد؛ بغية الاستثمار التجاري وبيعهم في أسواق النخاسة. فهل يجوز ذلك؟

وقد كان نفس مفهوم السيطرة، وذات ممارسة السطوة ـ وليس الحرب ومحاربة الفكر الباطل ـ، هو العنصر لتسويغ الاستعباد، وكان ذلك هو السائد طبقاً لمفهوم أقرب إلى السرقة والقرصنة، حيث كانوا يُغيرون على الأمم، ويستعبدون أفرادها. فهل يجوز ذلك؟

هذا لا يجوز أيضاً. إن الإسلام لم يُقِرَّ من أسباب الرقّية غير الحرب، ضمن شروط. وإن تلك الشروط عبارةٌ عن: بيان الحقّ [إبلاغ رسالة الإسلام]، والإصرار على عدم قبولها من قبل الطرف المقابل، وذلك بعد وقوع الحرب، وسقوط عدد من المعتدين أسرى في يد المسلمين [في هذا المورد بالتحديد يجوز الاستعباد، طبقاً لما يراه وليّ أمر المسلمين من المصلحة].

أما الاختلاف الآخر [في الاستعباد بين الإسلام وسائر الأنظمة الأخرى] فيكمن [في نوع معاملة العبد]. ففي اليونان وروما وإيران كان المفهوم السائد يقوم على عدم الاعتراف بأيّ حقوقٍ للعبد، فلم يكن العبد يمتلك حتّى حقّ الدفاع عن نفسه، فإذا عمد السيّد إلى تعريض مملوكه إلى التعذيب لم يكن من حقّ العبد أن يجأر بالشكوى والاعتراض (لا بُدَّ من البحث في هذا الموضوع بالتفصيل)، ولذلك كان العبيد يتعرَّضون للكثير من ألوان العذاب، وعلى حدِّ تعبير [علماء الحقوق في الغرب]: إنهم لم يكونوا يعترفون للعبيد بالحقّ في الحياة (وبطبيعة الحال فإننا نقول بحقّ العبيد في الحياة، ولكنّ ذلك يأتي في إطار اعتبار الحياة مقدّمة للتكامل، وليس لمجرَّد الحياة)، فكانوا لذلك يقولون بقانونية وشرعية إنزال جميع أصناف وأنواع التعذيب على العبيد. ويقول الكاتب الأمريكي ويل ديورانت: كانت جلود العبيد تُسلخ أمام أعين مالكيهم، وكانوا يعتبرون ذلك ضَرْباً من ضروب التسلية!

أما الإسلام فلم يكتفِ بالمنع من ذلك فحَسْب، بل هناك تعاليم غاية في الإنسانية بشأن التعامل مع العبيد [الأسرى] والرِّفق بهم. فها هو رسول الله| يأمر المسلمين بأن يطعموا العبيد من طعامهم، وأن يكسوهم بثيابهم، وكان المسلمون يأتمرون بأمره. وكان لأمير المؤمنين× غلامٌ اسمه قنبر، وكان يقدِّمه على نفسه ويؤثره عليها، وكان إذا اشترى ثوبين أعطى أفضلهما لغلامه، قائلاً له: أنتَ شابٌّ ونفسك تتوق إلى الجديد. من هنا فإن [العبودية في الإسلام] تختلف عن العبودية في الأنظمة الأخرى على مستوى التعامل مع العبيد.

 

اهتمام الإسلام بعتق العبيد

لقد وضع الله سبحانه وتعالى ـ في الآية 33 من سورة النور ـ برنامجاً يخصّ أولئك الذين لا يرغبون في تحرير عبيدهم طَوْعاً، فوضع لهم عقداً ومعاهدة على تقبُّل مبلغ من المال يدفعه لهم العبيد في مقابل تحرير أنفسهم، ويُسمَّى هذا الأمر في الفقه الإسلامي بـ «المُكاتَبة»، أو أن يتَّفق المالك مع عبده بأنه سيكون حرّاً بعد وفاته، وهو الذي يُصطلح عليه في التشريع الإسلامي بـ «التدبير»([3]).

ويوجد هنا تعبيرٌ مدهش للقرآن بشأن المُكاتَبة، إذ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ (النور: 33). وهذه الصيغة تدلّ على الوجوب بحَسَب الظاهر. وعليه إذا وجد المالك خيراً في ذلك، بمعنى أنه رأى تحرير العبد في مصلحته، فعلى سبيل المثال: إذا كان العبد كافراً حديث المعرفة بنَمَط حياة المسلمين، ولم يحصل على التعليم والتربية الكافية، لا يكون في عتقه خيرٌ ومصلحة له، وأما إذا كان في ذلك مصلحةٌ له، وجبت مكاتبةُ العبد، وبعد عتقه لا بُدَّ من تزويد المالك له بشيءٍ من ماله الخاصّ [مال المالك] الذي أعطاه له الله؛ ليكون رأس مالٍ له في العمل، وهذا الأمر يُصطلح عليه في التشريع الإسلامي بـ «التمتيع»، والذي يقضي بعدم إخراج السيِّد للعبد من بيته خالي الوفاض صفر اليدين. ويتكرَّر هذا المفهوم بالنسبة إلى المرأة المطلقة بعد استيفائها جميع حقوقها. وعلى الرغم من أن القرآن لا يحدِّد مقدار المال الذي يجب تمتيع المرأة المطلَّقة به، وإنما يشترط أن يكون بمقدار الوُسْع، إذ يقول تعالى: ﴿عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾ (البقرة: 236)، فعلى الغنيّ والفقير أن يمتِّع زوجته بعد طلاقها بما يقدر عليه من المال.

وهناك أسبابٌ أخرى لعتق العبد وتحريره، ومنها: ما يؤدّي إلى تحرير العبد تلقائياً، من قبيل: الحرّية الناشئة عن إصابة العبد بالعَجْز أو العمى، أو إذا أنزل المالك بحقّ عبده ظلماً، وإذا ولدَتْ الأَمَة من السيِّد فإنها تتشبَّث بالحرّية، ولا يجوز للسيد بيعها. وإذا لم يعتقها تحرَّرَتْ بعد موته تلقائياً؛ لأنها ستكون من سهم ابنها في الإرث، وتُحرَّر من حصّة ابنها قهراً.

ومن أسباب تحرُّر العبد اعتناقه الإسلام. فإذا كان المالك كافراً، وأسلم العبد في ملكه، فإنه يتحرَّر؛ بحكم قوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾ (النساء: 141).

ومن أسباب التحرُّر والانعتاق التلقائي: أن يشتري العبد أباه أو ابنه أو أحد أقربائه، كأن يشتري الأبُ ابنَه أو العكس، أو أن يشتري الأخ أخته، أو الأخت أخاها، أو سائر الأقارب المقرَّبين، فيؤدّي ذلك إلى انعتاق العبد تلقائياً.

إذن لا بُدَّ من أن نأخذ بعض الأمور والموارد بنظر الاعتبار.

فأوّلاً: إن تعامل المسلمين مع العبيد يختلف عن معاملة الأنظمة الاستعبادية الأخرى اختلافاً جوهرياً.

وثانياً: إن أسلوب الاستعباد في الإسلام يختلف عن أسلوب الأنظمة الأخرى.

وثالثاً: إن الإسلام يقدِّم مشروعاً متكاملاً ومنافذ عديدة لتحرير العبيد. وإن هناك في المجتمع الإسلامي ـ الذي هو مورد بحثنا ـ إمكانية كبيرة لتعلُّق العبد بأهداب الحرّية، إلاّ إذا تعلَّقت رغبة العبد نفسه في البقاء على ما هو عليه، كما كان الأمر بالنسبة إلى الكثير من العبيد الذين عاشوا في كنف الأئمّة المعصومين والصلحاء من المؤمنين، حيث كانوا يعرضون الحرّية على عبيدهم، فيأبونها، ويفضِّلون العيش تحت رعايتهم.

الأمر الآخر ـ الذي سنتحدَّث عنه لاحقاً ـ حول الحقوق الاجتماعية. فهل تعتبر شهادة العبد نافذةً أم لا؟

يعتبر الإسلام شهادة العبد نافذة، كما يجوز للعبد أن يؤمّ الجماعة في الصلاة. وبطبيعة الحال لم تكن هذه المسألة موجودةً عند الأمم الأخرى؛ كي يتسنّى لنا المقارنة بين الأمرين من هذه الناحية. كما يجوز للعبد أن يمارس القضاء والإفتاء، وأن يتولّى الحكم في إمارةٍ. وقد شهد التاريخ الإسلامي وسجَّل الكثير من هذه الحالات. وقد كان طارق بن زياد المعروف واحداً من هؤلاء العبيد([4]).

هذه هي القوانين الحقوقية التي وضعها الإسلام للعبيد، ولم يحرمهم من هذه المزايا.

 

هل يُعتبر الاستعباد ظلماً في حدِّ ذاته؟

تناولنا إلى الآن([5]) المسألة الجوهرية المطروحة بشأن ظاهرة العبوديّة. وقد كان الموضوع الذي أكَّدْنا عليه هو أن للاستعباد بشكلٍ عام ـ أيّاً كان مفهومه ـ [جامعاً مشتركاً].

صحيحٌ أن أنواع الاستعباد تختلف باختلاف الأمم والمجتمعات، بَيْدَ أن الجامع المشترك بين جميع هذه الأنواع عبارةٌ عن امتلاك شخصٍ لشخص آخر، كما يمتلك سائر الثروات والأشياء. فكما يمتلك الجماد والنبات والحيوان يستطيع أن يمتلك الإنسان أيضاً، بحيث يكون هذا الإنسان جزءاً من ثروته وممتلكاته، وبالتالي يكون اختياره وإرادته بيد مالكه، ويكون تابعاً لرغبته وإرادته وأهوائه ونزواته.

وقد اعتُبر ذلك في حدّ ذاته ظلماً وعدواناً، وعلى خلاف الحق الطبيعي الذي منحته الطبيعة والخلقة لكل فردٍ من أفراد الإنسان. وعليه فإن أيَّ نوعٍ من أنواع العبودية يقول به الإسلام ـ مهما كان محافظاً على إنسانية العبد، وأحسن معاملته ـ سوف يمارس نوعاً من المفاهيم والظواهر التي تُعَدّ ظلماً في حدِّ ذاتها. غاية ما هنالك أن هذا الظلم يختلف على درجات، وأن بعض الأنظمة تشرِّع قوانين تزيد من فداحة وقسوة هذه الظاهرة، ويكون في قوانينها «ظلمٌ فوق ظلم»، أو على حدِّ تعبير القرآن الكريم: ﴿ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ﴾ (النور: 40)، وأما الأنظمة الأخرى فيجري ظلم الاستعباد على نحو أخفّ، كما يقول مونتسكيو: كان نظام الاستعباد قائماً في كلٍّ من اليونان وروما القديمة، بَيْدَ أن الظروف التي كان يعيشها العبيد لم تكن قاسيةً جدّاً.

أما في المرحلة اللاحقة فقد شهدت روما تشريع قوانين مجحفة بحقّ الغلمان والعبيد. وهنا يتضاعف حجم الظلم، إلاّ أن الذي يقوله القوم هو أن هذا لا ينفي اتّصاف أصل الاستعباد بكونه ظلماً وعدواناً.

 

كلمة جون لوك

ولكي يتّضح مضمون كلام هؤلاء السادة ننقل عبارةً قالها الفيلسوف الإنجليزي الشهير جون لوك، حيث بحث مفهوم الحرّية، وقدّم دراساتٍ قيِّمة في هذا الشأن. وقد اعتقد هذا الفيلسوف ـ مثل: الكثيرين ـ بأن للإنسان نوعين من أنواع الحرّية: إحداهما: الحرّية الطبيعية، حيث يُقال بحَسَب المصطلح: «الإنسان في وضعه الطبيعي»، أي الإنسان قبل المرحلة الاجتماعية، أو قولنا: «الإنسان بمعزل عن المجتمع». وخلاصة ما قاله جون لوك هي: إن الإنسان قد خُلق في الطبيعة حرّاً. وعرَّف الحرّية الطبيعية قائلاً: «إن حرّية الإنسان الطبيعية تعني أن لا تفرض عليه طاعة أيّ سلطةٍ من السلطات الوضعية على الأرض، وأن لا يكون خاضعاً لأمر أيّ إنسانٍ آخر، وأن لا يكون تابعاً إلاّ لقانون الطبيعة حصراً».

وبطبيعة الحال إنّ «السلطة الأرضية» التي يعنيها ليست هي السلطة المقابلة للسلطة الدينية، إنما الذي يعنيه هو أن الحرّية الطبيعية الممنوحة للإنسان لا تخضع لإراد أيّ إنسانٍ آخر، وإنما تخضع لقانون الطبيعة فقط؛ إذ لا يمكن افتراض الحرّية المطلقة للإنسان، فلا بُدَّ من تَبَعيّته في نهاية المطاف لقوانين الطبيعة، وإلاّ كان مصيره الفناء. فهناك في أصل الخلق [لطبيعة] ـ على سبيل المثال ـ بردٌ وحَرّ، وهناك لوازم ومتطلّبات لا يملك الإنسان إلاّ اتّباعها، ولكن يجب أن لا يتبع الإنسان إنساناً آخر. هكذا خلق الإنسان.

ثمّ يستطرد قائلاً: غير أن هذا الإنسان عندما يعيش ضمن المجتمع لا يستطيع الحفاظ على حرّيته الواسعة؛ لأن هذه الحرّية لا تتناسب مع نَمَط الحياة الاجتماعية؛ إذ لو أردْتُ أن لا أطيع أيّ فردٍ من أفراد المجتمع، وأراد الآخرون فعل الشيء ذاته، فإنّ عقد نظام الحياة الاجتماعية سينفرط. إذن ما الذي تعنيه الحرّية في المجتمع؟ وهل هناك معنى للحرّية في الحياة الاجتماعية أم لا؟ يقول هذا الفيلسوف: نعم، يجب أن يحافظ الإنسان على حرّيته حتّى في الحياة الاجتماعية، إلاّ أن معنى الحرّية الاجتماعية يختلف عن الحرّية الطبيعية، وذلك إذ يقول: «إن حرّية الإنسان في المجتمع تعني أن لا يكون الإنسان تابعاً لأيّ سلطةٍ تشريعية، إلاّ تلك السلطة التي أسهم في إقرارها من خلال تأسيس الدولة، وأن يوجد [تلك السلطة التشريعية] بإرادته وقناعته ورضاه، ولا يمكن لأيّ إرادةٍ أو حكم أن يُملي عليه أيَّ شيءٍ، إلاّ إذا كانت تلك الإرادة صادرةً عن السلطة التشريعية التي صادق عليها بنفسه».

وخلاصةُ كلامه: إن الإنسان يمكن أن يكون حرّاً في المجتمع، وأن تكون تلك الحرّية حرّية واقعية، وأن يكون حرّاً رغم قبوله بالقيود الاجتماعية، وذلك عندما يكون هو الذي أقرّ تلك القيود، بمعنى أن الإنسان في المجتمع لا مندوحة له إلاّ القبول بالقوانين الاجتماعية، وأن يطيع القوانين التي تسنّ من قبل الدولة، ويعترف للدولة بأنها هي الحاكم، وأنه هو المحكوم.

ثمّ يقول: هل هذا المعنى ينافي الحرّية الطبيعية الممنوحة للإنسان أم لا؟

وجوابه: إن الفرد إذا كان هو الذي وضع هذه القيود على نفسه، وكانت تلك الدولة ممثِّلة له، وكانت الديمقراطية هي التي تحكم المجتمع، يبقى ذلك الفرد حرّاً، حتّى إذا قيل له: كيف تعتبر نفسك حرّاً، ونحن نرى جميع هذه القيود المفروضة عليك؟! أجاب قائلاً: إنّني أنا الذي وضعتُها على نفسي، ولم تفرض عليَّ من قبل شخصٍ آخر؛ لأنّي أنا الذي اخترتُ الممثِّلين لي في السلطة والحكومة، ومنحتُهم وكالةً لتشريع القوانين باسمي. من هنا فإن الحكم الصادر عن الدولة هو بمثابة الحكم الصادر عنّي. وعليه لا تكون هذه القيود منافية لحرّيتي.

إنكار نظرية الحرّية بمعنى حرّية الإرادة والرغبة

لقد أراد جون لوك من هذا الكلام ـ في حقيقة الأمر ـ الردّ على أولئك الذين قالوا باستحالة أن يعيش الإنسان حرّاً في نطاق المجتمع، وإنّ الحياة الاجتماعية مساوية لعدم الحرّية. فهؤلاء يقولون: إن الحرّية تعني أن يكون الإنسان حرّاً في أهوائه ورغباته، وأن يفعل كلّ ما يحلو له، وهذا ما لا يمكن أن يحصل في الحياة الاجتماعية، إلاّ لمَنْ كان مستبدّاً بشكلٍ مطلق؛ إذ يمكن القول بعدم وجود الحرّية في الحياة الاجتماعية.

يقول جون لوك في الردّ على هؤلاء: يمكن للإنسان أن يعيش حرّاً في المجتمع، بالمعنى الواقعي للكلمة، إذا فسَّرنا الحرّية في المجتمع بالمعنى المتقدِّم: «إن الحرّية ليست تلك التي يراها (السير روبرت فيلمر)، إذ يقول: إن الحرّية تعني أن يفعل المرء كلّ ما يحلو له، وأن يعيش كما يريد، دون أن يقيِّده أيّ نوع من أنواع القوانين»، بمعنى أن الأمر إذا كان على خلاف ذلك لم تكن هناك حرّيةٌ أبداً، وحيث يحكم القانون في المجتمع لا تكون هناك حرّيةٌ أصلاً.

إلاّ أن جون لوك لا يرى هذا الكلام صائباً.

هذه هي خلاصة رؤية جون لوك للحرّية. من هنا جاء في المادّة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: «يولد جميع الناس أحراراً»، فلا يحقّ لأيّ شخصٍ أن يستعبد أيّ شخصٍ آخر بأيّ نحوٍ من أنحاء الاستعباد؛ لأن هذا مخالفٌ للحقّ الطبيعي للإنسان.

 

نقد نظرية جون لوك

قلنا: إن مطلق العبودية لا ينافي الحق الطبيعي أو حق الإنسان في الحرّية المودع في خلقته؛ وذلك لأن مفهوم الحرّية من وجهة نظر هؤلاء السادة يتعلَّق بإرادة الإنسان ورغبته. يقولون: إن كلّ مَنْ يولد في هذه الدنيا يتمتّع ـ بطبيعة الحال ـ بإرادة حرّة، بمعنى أن الإنسان يجوز له أن يقوم بكلّ ما يريد فعله، وإذا وقف أمام الإنسان شيء يمنعه من تحقيق هذه الإرادة كان ذلك الشيء مخالفاً لحرّيته. من هنا جاء هؤلاء الفلاسفة إلى الحياة الاجتماعية وحلَّلوها على هذا الأساس، وقالوا بما أن هذه الحالة تعود إلى إرادة الإنسان، وهو يُسْهم في وضعها وإضفاء الشرعية عليها، فإنها لذلك لا تكون منافية لحرّيته.

أما نحن فنقول: مَنْ الذي قال بوجود مثل هذا الحقّ في الدنيا أصلاً؟! فمَنْ الذي يمكن له أن يثبت مثل هذا الحقّ؟! إن هذه الحرّية ليست ظاهرة مادّية يمكن إثباتها في المختبرات العلمية، أو من خلال وضعها تحت المجهر؛ كي يُقال: هناك ظاهرة فيزيائية أو كيميائية باسم «الحرّية» موجودة في ذات الإنسان.

كما أنها ليست ظاهرة نفسية، فيُقال: هناك حالة نفسية خاصّة لدى الإنسان اسمها «الحرّية».

بل الحرّية مفهوم فلسفي، وعلينا أن نعثر على الجذور الفلسفية لهذا المفهوم.

يقولون: إن الطبيعة قد خلقت الإنسان حرّاً، فما الذي يعنيه هذا الكلام؟ هل يعني ذلك أن الطبيعة خلقت الإنسان بحيث لا يمكن لأيِّ شيء أن يقف في وجه تحقيق إرادته؟! إن الذي نعرفه، والذي يؤيِّده العقل أيضاً، هو أن الطبيعة لم تخلق الإنسان حرّاً، وإنما خلقته الطبيعة، وخلقت فيه القدرة على النموّ والتكامل. وإن هذه القدرة المُودَعة في الإنسان تعمل تماماً كما هي الحالة المُودَعة في الشجرة التي تنمو لتثمر. فالذي تريده الطبيعة من الإنسان هو أن ينمو ويتكامل؛ حتّى يغدو قادراً على العطاء. وبذلك يكون معنى الحرّية الطبيعية في ما نحن فيه هو أن يكون الإنسان حرّاً في الوصول إلى هذه النتيجة، وإن كلّ شيء يقف عقبة أمام تحقُّق هذه الغاية يشكِّل مانعاً وسدّاً أمام تكامل الإنسان على المستوى الفردي والاجتماعي. وبذلك عندما نقول: «يجب أن يتمتّع الإنسان بالحرّية» فإن ذلك يعني أنه يجب عدم الوقوف بوجه مسيرته التكاملية. ونحن نقبل بهذا المعنى من الحرّية، لا أن يكون المراد بالحرّية هو حرّية الرغبات والأهواء؛ فإن الرغبة والإرادة قد تعمل أحياناً على ما يخالف الاستعداد الطبيعي المُودَع في الإنسان نحو التكامل، أي إنها تعمل على ما يخالف سعادته. وكلّ ما يعمل على خلاف استعداد الإنسان إلى التكامل يكون مخالفاً لقانون الطبيعة، وكلّ ما يوافق تكامل الإنسان الطبيعي لن يكون مخالفاً لقانون الطبيعة، حتّى إذا كان مخالفاً لرغبة الإنسان وإرادته، واستلزم نوعاً من الإكراه والإجبار.

فلو أصرّ الجاهل على جهله، وأراد أن يبقى جاهلاً، ويستمرّ في مخالفة العلم، وأن يقف سدّاً منيعاً وعقبة كَأْداء أمام صيرورته عالماً، فهنا إذا قام شخصٌ وصدَّه عن ذلك، ومنعه من تحقيق هذه الرغبة والإرادة، لا يكون قد قام بالعمل على خلاف أصل الحرّية. فالطبيعة خلقته حرّاً، وفي الوقت نفسه قيَّدَتْ إرادته، وبمعنىً آخر: إن الذي يجب أن يكون حرّاً هو طبيعة الإنسان، لا إرادته.

 

فلسفة الاستعباد

من هنا علينا أن ننظر إلى العبودية؛ لنرى ما هي ظروفها؟ وما هي أهدافها؟

إن أصل القوامة والوصاية التي يدعو إليها الأوروبيون أنفسهم؛ حيث يرَوْن أنهم هم الأجدر بتعيين المسار الذي يجب أن تسلكه الأمم، نظريّة صحيحة في الأصل وفي حدّ ذاتها ـ بمعزل عن الأخطاء في التطبيق ـ؛ فإن هذا الأصل يقضي بضرورة أن تعمل الأمّة المتحضِّرة على الأخذ بيد الأمم المتوحِّشة والمتخلِّفة.

إنّ هذا ما يدعو إليه الغرب، رغم مخالفته لحرّية الإرادة، وكانوا يقولون: ما دمنا لا نمارس الوصاية والقوامة على الآخرين لن نتمكَّن من إيصال هذه الشعوب المتخلِّفة نحو التطوُّر والحضارة. إنها فرضيةٌ صحيحة، وأما أنهم لم يكونوا يطبِّقونها بالشكل الصحيح فبحثٌ آخر.

فإذا كان الاستعباد يهدف إلى هذا الشيء، بمعنى أن تكون هناك أمّةٌ تفتقر إلى الفكر القويم، والعقيدة السليمة، والحضارة الراقية، وكانت تخلو من المعنويات، وتوقَّفت إعادة هذه الأمّة إلى مسار الإنسانية، وتطوير طاقاتها، على استعبادها وسلب اختيارها كان الاستعباد في هذا المورد جائزاً.

إن جوهر الكلام الذي نؤكِّد عليه بشدّةٍ، ويمثِّل الكلام الأهمّ ـ إذ يقولون: إن الفلسفة هي التي نسخت قانون الاستعباد، وهي التي أثبتت أن الاستعباد بجميع أشكاله كان خاطئاً وظلماً منذ البداية ـ هو أن هذا الكلام([6]) خاطئٌ من وجهة نظري. ربما إذا اقتضى الأمر تحدَّثنا في ذات مفهوم الحرّية بشكلٍ عام. فإذا تجاوزنا هذا الموضوع العام، وهو القول بأن مطلق الاستعباد ـ أي مطلق امتلاك شخصٍ لشخص آخر، ويكون مالكاً لاختياره وإرادته، وأن يجعله مسلوب الإرادة ـ ليس ظلماً في حدِّ ذاته، لا بُدَّ أن ننتقل بعد ذلك إلى نوع الشروط التي يقول بها الإسلام بالنسبة إلى العبودية، لننظر في ماهيّتها؛ لنرى بعد ذلك هل نظام الاستعباد الذي أقرَّه الإسلام نظامٌ يتلاءم مع النظرية التي ذكرناها أم ينسجم مع الأنظمة الاستعبادية الأخرى في العالم؟

 

نظرية مونتسكيو في مخالفة الاستعباد

1ـ تجريد العبد من التقوى

سنستعرض هنا خلاصة لآراء مونتسكيو؛ كي نتعرَّف من خلالها على روح المسألة.

يقول مونتسكيو: إنه يخالف أصل الاستعباد؛ وذلك لأن الاستعباد يعود بالضرر على كلٍّ من: العبد المملوك؛ والسيد المالك.

فهو بضرر المملوك؛ لأنه عندما تُسلب إرادته، ويكون اختيار أموره بيد غيره، خاضعاً لأمره ونهيه، سوف لا يترك أمراً من أجل التقوى، وإنما سيتركه بسبب الخوف. فالتقوى لا يمكن تصوُّرها في حقّ الإنسان إلاّ إذا كان حرّاً.

وهذا كلامٌ صحيح، بمعنى أن التقوى إنما تكون حقيقية إذا كان الفرد حرّاً وقادراً على ارتكاب الجريمة، وليس هناك ما يردعه عن فعلها، ومع ذلك لا يرتكبها؛ انطلاقاً من تحلِّيه بالفضيلة والمَلَكة الأخلاقية، وانطلاقاً من وَعْيه وفهمه وإدراكه. وأما إذا قام شخصٌ بترك عملٍ قبيح؛ خوفاً من المجتمع؛ أو لوجود رقيب عليه، كأن يمتنع طوال حياته من السرقة؛ لوجود شخصٍ يراقبه دائماً، لا يكون في إحجامه عن السرقة فضيلةً له. إنما الذي يمكنه أن يسرق ويمارس الخيانة، ومع ذلك لا يسرق ولا يخون، يكون ذلك منه فضيلةً ومنقبة. من هنا يقول مونتسكيو: إن العبد حيث يكون مراقباً من قبل السيد دائماً، ويقوم هذا السيد بمنعه من ارتكاب العمل القبيح، فإنه لا يتَّصف بالتمتُّع بالحرّية أبداً، وحيث إنه لا يتّصف بالحرّية أبداً فإنه لن يتمتَّع باكتساب روح التقوى أبداً.

ومن الواضح أن هذا الإشكال لا يَرِدُ على مطلق الاستعباد، وإنما قد يَرِدُ على بعض أنواع الاستعباد، بمعنى أن مفهوم الاستعباد إذا كان يعني أن العبد لا يمتلك أيّ اختيار من نفسه كان ما ذكره مونتسكيو وارداً، إلاّ أن العبودية التي يُقرّها الإسلام إنما يحقّ فيها للسيد والمالك أن يتدخَّل في ما دون المسائل الأخلاقية والإنسانية، بمعنى أن المالك لا يحقّ له أن يأمر عبده بارتكاب الموبقات، فلا يحقّ له أن يأمره بالسرقة، ويقول له: اسرق؛ لأنني أنا الذي آمرك بالسرقة، أو لا تسرق؛ لأنني أنا الذي آمرك بعدم السرقة. إنما السرقة الممنوعة على المالك ممنوعةٌ على المملوك أيضاً. وأساساً فإن المسائل المتعلِّقة بالتقوى خارجةٌ عن دائرة أمر المالك ونَهْيه أصلاً. ومن هذه الناحية تكون التربية الروحية للمملوك في الإسلام مساويةً للتربية الروحية التي يرصدها للمالك. وعليه ربما افتقر السيد إلى فضيلةٍ يتحلّى بها العبد. وإذا أمر المالك مملوكه بارتكاب معصيةٍ ينهى الإسلام عن فعلها لم يَجُزْ للعبد أن يرتكبها، حتّى لو أمره السيد باقترافها، بل الإسلام يأمر العبد هنا بالتمرُّد على السيد، بل يحقّ له أن يشكوه إلى القضاء.

وهذا يشبه الأوامر التي يصدرها الآباء لأولادهم، على ما نصّ عليه صريح الآية القرآنية الشريفة، من وجوب إطاعة الأولاد لأوامر آبائهم، إلاّ في ما حرَّم الله، إذ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا﴾ (لقمان: 15). والشرك هنا ـ بطبيعة الحال ـ إنما هو مجرَّد مثال. إنّ من مسلَّمات الإسلام أن الوالدين لا يحقّ لهما أمر أولادهم بارتكاب المعاصي، ولا يحقّ للولد أن يطيع أبوَيْه إذا أمراه بمعصيةٍ، بل يجب عليه أن يعصيهما، ولا يمتثل لأمرهما بالمنكر. وهكذا الأمر بالنسبة إلى الزوج والزوجة أيضاً، فإن الإسلام يرى أن الزوج مُطاع، والزوجة مطيعةٌ، ولكن في حدود المباحات والمسائل المتعلِّقة بشؤون إدارة الأسرة. وأما في الأمور المحرَّمة فلا يحقّ للزوج أن يأمر زوجته بها، وفي هذه الحالة يجب على المرأة أن تعصي زوجها في ما يأمرها به من المحرَّمات.

 

 2ـ المالكون يؤلِّفون الطبقة الفاسدة

ويقول مونتسكيو: إن الاستعباد مضرٌّ بحقّ المالك أيضاً؛ لأنه يجعل منه ومن أمثاله طبقةً مفعمة بالغرور والطغيان والانغماس في الشهوات، وتعاني من قسوة القلب والبَطَر.

وهذا الكلام منه صحيحٌ أيضاً، إلاّ أن فساد المالكين لا ينشأ من امتلاك العبيد. وهذا هو نفس الإشكال الذي يتمّ توجيهه إلى الرأسمالية أيضاً. ولا فرق بين الإشكال الذي يرد على المَلَكية والرأسمالية من حيث هي رأسمالية والإشكال الوارد على موضوع الاستعباد. إن الإشكال بأن الإنسان قد يُصاب بالغرور، وينغمس في الشهوات، ويقسو قلبه، ويبتلى بالبَطَر، تابعٌ لإصابته ثروةً طائلة من غير وجه حقٍّ، سواء امتلك العبيد أو لم يمتلك عبداً في يومٍ ما. فالذي يمتلك الألوف المؤلَّفة من الأموال، وتتوفَّر له جميع أسباب الرفاه والعيش الرغيد، يمكن له أن يستعبد حتّى الأحرار بالأصالة. إن هذا النوع من الرأسمالية هو الذي يؤدّي إلى هذه الصفات.

إن ما نقوله من صحّة الاستعباد لا يعني المبادرة إلى القول بأن ما كان يقوم به هارون الرشيد والمعتصم من امتلاك الآلاف من الغلمان والجواري صحيحٌ أيضاً! فالسؤال هو: من أين جاء هؤلاء المترفون بالأموال والثروات التي أتاحَتْ له امتلاك هذا العدد الكبير من العبيد؟ ولذلك فإننا نقول: إن أمثال هارون والمعتصم يبقَوْن على ما هم عليه من الفساد، بوجود العبيد أو مع عدم وجودهم. فلا ربط لهذا الأمر بالعبيد من قريبٍ أو بعيد. ألم يَرِدْ في خطبة لأمير المؤمنين عليّ×، بعد وصوله إلى السلطة ـ بشأن الفساد الذي تركه عثمان بن عفان، وما قام به من الإسراف والتبذير، حتّى أدى إلى تفشّي ظاهرة الاختلاف الطبقي بشكلٍ مجحف ومخيف، حتّى وصل الأمر بالذين لم يكن لهم في خلافة عمر، والنصف الأول من خلافة عثمان، ما يمتلكونه من القوت إذا بهم فجأةً يصبحون بين ليلة وضحاها من أصحاب الملايين، وأصبح لبعضهم آلاف الأفراس والإبل، ومئات الجواري والغلمان، الأمر الذي اضطرّ الإمام عليّ× إلى معالجة هذه الظاهرة، وكان من ذلك ما ذكره في الخطبة الثانية بعد تولّيه السلطة ـ أنه قال: «وَاللهِ، لَو وَجَدْتُهُ قَد تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ، وَمُلِكَ بِهِ الإِمَاءُ، لَرَدَدْتُهُ، فَإِنَّ فِي العَدْلِ سَعَةً، وَمَنْ ضَاقَ عَلَيهِ العَدْلُ، فَالجَوْرُ عَلَيهِ أَضْيَقُ»([7]).

وعليه فإن هذا الموضوع موضوعٌ آخر؛ فإن مجرَّد أن يكون لشخصٍ [عددٌ من العبيد] ـ الذين إذا امتلكهم بالطرق المشروعة لن يبلغ عددهم هذا المقدار الهائل، وكما أن الثروة لا تتراكم بالطرق المشروعة كذلك لا يجتمع هذا العدد من العبيد بالطرق المشروعة أيضاً ـ غير موضوع امتلاك الكثير من العبيد، والذي بسببه لا يكون لدى المالك من عملٍ سوى الجلوس في البيت، وارتكاب الموبقات والفساد.

 

ثلاثة أدلّة يسوقها القدماء لحقّ الاستعباد

1ـ الحرب

ثمّ استطرد مونتسكيو يسرد عوامل الاستعباد عن علماء الحقوق ـ ويغلب الظنّ عندي أنه يعني بذلك علماء الحقوق في روما القديمة ـ قائلاً: إنهم قد ذكروا ثلاثة أسباب ومناشئ لحقّ الاستعباد. ولكنّه ينكرها بأجمعها. يقول: إن من الأسباب التي ذكرها علماء الحقوق لجواز الاسترقاق هي أن الحقوق الدولية قد سمحت بقتل الأعداء في الحروب. وهذا ما عليه الواقع في عصرنا الراهن أيضاً، حيث ما نراه من الحروب وسفك الدماء، وعليه لا يكون القتل جُرْماً، والحرب تتبع منطق الأقوى. فإذا اقتتلت طائفتان حقّ للغالب المطلق، بالإضافة إلى قتل أفراد المقهورين، أن يحمِّلهم خسائر الحرب وتَبِعاتها أيضاً. يقولون: إن الحرب هي التي تعطي الإذن بالقتل، ولذلك فإن مَنْ يقع أسيراً في الحرب يجوز قتله لمَنْ يأسره، طبقاً للمواثيق الدولية، فإذا جاز قتله جاز استرقاقه بالأَوْلوية؛ لأن الاسترقاق أخفّ من القتل على كلّ حالٍ، وبذلك يكون الآسر قد أحسن إليه.

وعليه فإن نفس الدليل الذي يبيح القتل يبيح الاسترقاق أيضاً.

لا يرتضي مونتسكيو هذا الرأي ويقول: إن هذا الكلام خاطئٌ؛ إذ أقصى ما هنالك هو وجود الحقّ في القتل في ساحة المعركة، وأما جواز قتل الأسير فهذا ما لا أرتضيه. فقتل الأسير لا يندرج في خانة الحقّ.

 

 تقييم هذا الدليل

ولكن يبدو أن كلام مونتسكيو بدوره غير صحيحٍ أيضاً. وهذا هو عمدة البحث. فمَنْ الذي يقول: إن الحرب تعطي الحقّ لأيّ شخصٍ بممارسة القتل؟!؛ إذ لا بُدَّ من البحث في جذور هذه المسألة أوّلاً وقبل كلّ شيء.

فالسؤال أساساً: ما هو المسوِّغ للحرب؟

إن الحروب تنقسم إلى: حروب هجومية؛ وحروب دفاعية.

فإذا كانت الحرب دفاعية، بأن يكون هناك جهةٌ معتدية، وقامت الجهة الأخرى بالتصدّي للدفاع، وحماية الأرواح والأعراض والوجود، فإن قامت الجهة المدافعة بقتل المعتدين كان ذلك جائزاً بلا شكٍّ، وكان هذا حقّاً مشروعاً.

ولكن كيف يمكن القول بأن هذا الحقّ نفسه مباحٌ للجهة المعتدية والمهاجمة أيضاً؟ إذا كانت أهداف الحرب سياسية أو اقتصادية هل يكون ذلك مسوِّغاً للحرب والقتل، تحت ذريعة أن الحرب ناموسٌ طبيعي قائمٌ بين الشعوب والأمم منذ القدم، وحتى يومنا هذا؟!

إذن الصحيح هو أن هذا الأمر يتوقَّف على أسباب الحرب. فإنْ كانت الحرب لمصلحة البشرية وهؤلاء القوم حقّاً يكون هناك حقٌّ بقتلهم في ساحة المعركة، حتّى تحقيق الهدف؛ وأما إذا لم تكن الحرب لهذه الغاية فلا يكون الحقّ في تأجيج الحرب ثابتاً، ولا يكون مثل هذا الحقّ صحيحاً.

وأما بشأن جواز استرقاق الأسير فلا بُدَّ من فتح بحثٍ مستقلّ بهذا الشأن. فهل الدليل والمصلحة التي أجازت وأذنت بحربهم وقتلهم تأذن باسترقاقهم أيضاً أم لا؟ إنْ أوجبت هذه المصلحة استرقاقهم جاز استرقاقهم، وإلاّ فلا. هذا هو لبّ المطلب، لا ذاك.

 

 2ـ الاستعباد الطوعي

الدليل الثاني الذي ذكره علماء الحقوق في روما القديمة هو أن بعض الأشخاص يعرضون أنفسهم للاستعباد طَوْعاً، وبمَلْء اختيارهم وإرادتهم. ويتَّضح من ذلك أن هذا النوع من الاستعباد كان سائداً، حيث يكون الشخص مَديناً لآخر، ويعجز عن سداد الدين، فيضغط عليه الدائن، الأمر الذي يضطرّ المدين إلى عرض نفسه عليه ليشتريه، بدلاً عن الدين. لنفترض أنه كان مديناً لشخصٍ بعشرة آلاف دينار، ولكنّه لا يمتلك هذا المبلغ، فيقترح على الدائن أن يشتريه؛ ليسقط عنه ذلك المبلغ. وبذلك كان المدينون يتحوَّلون إلى عبيدٍ. وقيل: إن هذا حقٌّ مشروع؛ فإن الدائن يطلبه، ولا ينبغي لحقِّه أن ينتهك، والمَدين من الناحية الأخرى لا يمتلك غير نفسه، وله كلّ الحقّ في أن يملِّك نفسَه لغيره، وبذلك يفي بسداد دينه، ويُستعبد.

وهذا الدليل لا يرتضيه مونتسكيو أيضاً، حيث يقول: إن الإنسان لا يمتلك نفسه. فكما أن الإنسان لا يمتلك حياته، ولا يحقّ له الانتحار، كذلك لا يمتلك الحقّ في أن يتجرَّد من حرّيته. وغاية ما هنالك أنه يقيم هذا الرأي على دعائم المجتمع، ويقول: إن هذا الحقّ إنما هو للمجتمع في أن يقرِّر ما إذا كان يتعيَّن عليك أن تعيش أو أن تبقى حرّاً؛ لأن المجتمع هو الذي أوجد الإنسان، وبذلك يكون للمجتمع حقٌّ في رقبة الأشخاص، والآن حان دور الشخص ليخدم المجتمع ويردّ إليه جميله، بأن يعمل ويكدح، وعليه لا يحقّ للشخص أن يقتل نفسه، وإنْ قتل نفسه يكون قد تهرَّب وتنصّل من واجبه في خدمة المجتمع. ومن حقّ المجتمع أن تكون حرّاً؛ لتخدم المجتمع، لا أن تكون عبداً لتكرِّس خدمتك واهتمامك لشخصٍ واحد فقط.

 

تقييم هذا الدليل

بطبيعة الحال يبدو لنا أن استدلال مونتسكيو غيرُ صحيحٍ، وإنْ كان أصل المسألة صائباً، وهو أنه لا يحقّ لشخصٍ أن يُرقّ نفسه، ويجعل من نفسه عبداً لغيره. بَيْدَ أنه إذا كان الموجب للاسترقاق هو احتياج الشخص الكافر إلى أن يكون تحت رعاية شخصٍ مسلم يصلح للقيام بهذه المهمّة والمسؤولية أمكن للكافر أن يضع نفسه تحت تصرُّف ذلك المسلم، وإلاّ إذا لم يكن هناك ما يستوجب الإذن باسترقاق الشخص لنفسه فإن هذا الشخص لا يحقّ له أن يتنازل عن حرّيته، ويكون عبداً لشخصٍ آخر.

 

3ـ الأولاد

أما الدليل الثالث الذي ذكروه لتسويغ الاستعباد فهو الأولاد والذرّية. حيث قالوا: إذا ولد شخصٌ في بيتٍ، وكان أبوه عبداً رقيقاً، فإنّ هذا الأب لا يملك شيئاً يطعم به وليده، أو يتعهَّد بتنشئته وتربيته، وإنّ كلّ هذه المهام ستقع على عاتق المالك والسيد، وبذلك سيكون الوليد ملكاً لذلك السيد تلقائياً.

وهذا الدليل لا يرتضيه مونتسكيو أيضاً.

 

أسباب الاسترقاق من وجهة نظر مونتسكيو

1ـ الاستعلاء

ثمّ قال مونتسكيو: إن علينا أن نبحث في الأسباب الحقيقية للاستعباد، دون الأسباب والعلل الحقوقية. فلماذا وجد الاسترقاق في العالم أصلاً؟

يدّعي مونتسكيو أن من مناشئ الاسترقاق الموجود في العالم على المستوى العملي هو استعلاء شعبٍ على شعبٍ آخر، بأن يعتبر نفسه أسمى وأفضل وأرقى منه شأناً وعِرْقاً، ولا يرى الآخر مساوياً له، ولذلك يعطي لنفسه الحقّ في استعباده.

 

2ـ قدرة العبد على القيام بالأعمال الشاقّة

الأمر الآخر أن بعض الشعوب قد شاع بينها القول: إن بعض الأعمال في الحياة الاجتماعية من الصعوبة بحيث لا يمكن لغير العبيد القيام بها؛ إذ قالوا: كما توجد هناك أعمالٌ لا يمكن لغير الخيل والأبقار والحمير أن تقوم بها، كذلك هناك أعمال لا يمكن لغير العبيد أن يقوموا بها. وكانوا يتصوَّرون ـ كما كان يقول أرسطوطاليس ـ أنّ العبيد طبقةٌ خاصّة من البشر، لا يتأتّى من غيرها القيام بالأعمال الشاقّة والثقيلة، وإن هذه الطبقة لا يمكن لها إلاّ أن تُستعبد من قبل الآخرين، وعليه لا بُدَّ من استعبادهم.

يقول مونتسكيو: إنّ هذا كان سبباً اجتماعياً. ثمّ قال بعد ذلك: وهذا بدوره أيضاً مجرَّد سبب واهٍ، فمن الخطأ القول بأن هناك أموراً لا يمكن القيام بها إلاّ من قِبَل العبيد، بحيث لا يمكن لغيرهم القيام بها.

 

مسألة امتلاك العصمة

إن من المسائل التي يواجهها مونتسكيو بشدّةٍ هي مسألة امتلاك العصمة، وقال: إن هذه المسألة شائعةٌ بين المسلمين. بَيْدَ أنه بطبيعة الحال لا يحصرها بالمسلمين فقط، وذلك بأن يمتلك الشخص امرأةً، لا باعتبارها خادمة له، كما يجعل من الرجل خادماً له، بل لكي يستفيد من عصمتها، في حين أن حقّ العفاف من الحقوق البشرية والإنسانية الطبيعيّة لكلّ شخصٍ، فلكلّ شخصٍ كامل الحقّ في أن يعيش عفيفاً.

في بداية الأمر لم أفهم مراده في هذه المسألة بشكلٍ جيد، ولم أفهم كيف أدخل هذا الموضوع في باب العصمة والعفاف؟! ثمّ أدركتُ أنّه توهَّم أن القوانين الإسلامية يتمّ تشريعها بحيث إن الرجل إذا امتلك امرأةً يحقّ له الاستمتاع بها في جميع الظروف، ومن دون أيّ ضوابط أو قيود أو شروط، وذلك بأن يستمتع بها بجميع أنواع الاستمتاع، كما يُصنَع مع البغيّ التي لا تحكمها أي ّضوابط في التعاطي الجنسي، مع فارق أن البغيّ تتقاضى أجراً، وهذه الأَمَة لا تتقاضى شيئاً!

في حين أن الجارية في الإسلام تتمتَّع بنفس قيود وحدود العفاف التي تتمتَّع بها المرأة الحرّة.

فيمكن للجارية أن تكون متزوِّجة أو لا تكون متزوِّجة، أي إنها يمكن أن تكون وفق القانون في عصمة رجلٍ في الوقت الذي تكون فيه جاريةً، ويمكن أن لا تكون متزوِّجةً.

وإذا كانت متزوِّجةً يمكن أن يكون زوجها عبداً مثلها، أو أن يكون زوجها حرّاً، ويمكن لمالكها أن يتزوَّجها.

وإذا كانت هذه الجارية متزوِّجةً من غير مالكها لم يكن لمالكها ـ بداهةً ـ أن يتَّخذها للأمور الجنسية.

وإنْ لم تكن متزوِّجةً جاز للمالك أن يطأها وفقاً للضوابط والقيود والحدود الشرعية، التي تساوي ـ في مثل هذه الحالة ـ بينها وبين الزوجة الشرعيّة.

فعلى سبيل المثال: إذا كانت متزوِّجةً، وأراد المالك أن يطأها، وجب عليها الانفصال عن زوجها، وأن تعتدّ، ولا يمكن لمالكها وطؤُها إلاّ بعد انتهاء عدَّتها.

وإذا كانت تحت مالكها، وأراد تزويجها من غيره، كان عليها أن تعتدَّ من مالكها، ليتمّ تزويجها من غيره بعد انتهاء العدّة.

وإن الولد الذي تنجبه الجارية لا يختلف عن الولد الذي تلده الحرّة؛ لأن الولد يتبع أشرف الأبوين، أي إذا كانت الأمّ حرّة والأب عبداً كان الولد حرّاً، وكذلك إذا كان الأب حرّاً والأمّ أمةً كان الولد حرّاً أيضاً.

ويكون الولد الذي تلده الأمة ولداً شرعياً، وله كلّ حقوق الولد الشرعي.

وعليه هل يجوز لشخصين (مثل: المالك؛ وشخص آخر) أن يمارسا الجنس مع جاريةٍ واحدة في وقتٍ واحد؟

كلا. وعليه هل هناك من مفهوم للعفاف غير هذا المفهوم؟

وعليه، لستُ أدري ـ مع افتراض كلّ هذه الضوابط والقيود ـ كيف يمكن لذلك أن يوصف بمجانبة العفاف؟!

 

هل يجوز للأمة أن تمتنع عن الزواج من مالكها؟

ليس من اللازم أن نتناول الموضوع من زاوية ما إذا كان بإمكانها أن تريد أو تختار الزواج من مالكها أو ليس لها ذلك؛ [إذ المفروض أن العبد مسلوب الإرادة من هذه الناحية]، ولكنْ يمكن توجيه السؤال إلى ناحيةٍ أخرى، والقول: إذا أرادت الأمة أن تتزوَّج من شخصٍ آخر هل يجوز لمالكها أن يمنعها من الزواج منه أم لا؟ هذا ما سوف نبحثه لاحقاً، حيث سندرك أن الفقهاء يقولون: له ذلك، من باب الولاية، إلاّ أنه لا يستطيع أن يمنعها من أصل الزواج، كما كان سائداً.

يقول مونتسكيو: كان الأسياد في روما القديمة يمنعون الغِلْمان من الزواج؛ لأن ذلك يخفض من مستوى استثمارهم وتسخيرهم اقتصادياً؛ لأن الغلام سيشغله الاهتمام بأمور أسرته عن خدمة سيِّده.

إذن تارةً يكون البحث في أن المالك هل يحقّ له منع غلمانه أو جواريه من أصل الزواج؟

وجواب ذلك هو النفي، فلا يحقّ للمالك أن يمنع الأمة أو العبد من أصل الزواج.

وتارةً يقول السؤال: هل يتوقَّف زواج الأمة والعبد على إذن المولى؟

الجواب: نعم بطبيعة الحال؛ لأنه مولاه، أي إنّ حرّيته ليست مطلقاً، وإن هذا المورد من الموارد التي تُسلب فيه حرّيته.

ولننظر هنا إلى المسألة من زاوية العفاف. لستُ أدري أيّ شيء يوجد في ملك اليمين ـ بوصفه مصطلحاً فقهياً ـ يتنافى مع مفهوم العفاف والعصمة؟ إن موضوع ملك اليمين إنما يتنافى مع العصمة والعفّة إذا كان يعني أن يتّصل رجلٌ بأَمَةٍ دون قيود أو ضوابط، من قبيل: أن يطأها حتّى إذا كانت متزوِّجة من غيره، فإن هذا يتنافى مع أصل العفاف؛ أو أن لا تتقيَّد الأَمَة بأيّ قيود أو حدود، وتمارس ما تمارسه البغيّ في تعاطي الجنس مع العديد من الرجال، وهذا أيضاً يتنافى مع أصل العفاف. وعليه ما إن يتمّ الاتفاق على جملة من الضوابط والقيود في ما يتعلَّق بالتعاطي الجنسي من جهةٍ، ويتمّ الاعتراف بالحقوق الشرعيّة للولد، كان ذلك متطابقاً مع شروط العفاف والعصمة.

ثم تعرَّض مونتسكيو إلى أمور أخرى، وهي إنما تنفع في زيادة معرفتنا لا غير، وإلاّ فإنها لا ترتبط بقوانين الرقّ في الإسلام من قريبٍ أو بعيد.

عيوب الاستعباد السائد من وجهة نظر مونتسكيو

 1ـ كراهية العبد للمجتمع

إن من العيوب التي يذكرها مونتسكيو لظاهرة الاستعباد أنّ العبد عندما يرى أن إمكاناته تختلف عن المزايا التي يتمتَّع بها السيد والمالك إلى حدٍّ فاحش، حيث ينعم السيد بالأمن من دونه، وإن السيد يستطيع أن يطوِّر قدراته الروحيّة بينما هو لا يجد الفرصة لذلك ـ ويبدو أنه يعني بذلك توفُّر الظروف للسيد كي يتعلَّم ويدرس وينمِّي طاقاته العلمية والروحية، بينما لا يستطيع العبد ذلك ـ سوف يُصاب بالإحباط والانهيار على المستوى النفسي، ويتحوَّل إلى عدوٍّ للمجتمع.

أما مسألة الأمن فغير مطروحة من وجهة نظر الإسلام أبداً. فالعبد في الإسلام يتمتَّع بنفس الأمن الذي يتمتَّع به الحرّ. كما أن حقّ التعليم لا يختصّ بالحرّ دون العبد، بل يشهد تاريخ الإسلام على أن الفرص والإمكانات التي يتمتَّع بها العبد كانت أكبر من فرص الأحرار من الناحية العملية، وقد سبق أن ذكرنا أمثلةً على ذلك.

 

 2ـ الاستعباد بوصفه عقوبة

قال مونتسكيو: إن الاستعباد كان مُدْرَجاً في بعض القوانين الوضعية بوصفه عقوبة، بمعنى أن يرتكب شخصٌ جريمة أو جنحة فتكون عقوبته استعباده.

نعلم أن هذه العقوبة غير موجودة في التشريع الإسلامي، فليس هناك جريمةٌ في الإسلام يُعاقَب عليها باستعباد المجرم. يكفي أن يكون الشخص مسلماً حرّاً، فلا يُستعبد بسبب ما يقترفه من الجرائم والجنح.

 

 3ـ تشريع القوانين القاسية ضدّ العبيد

يُقال: إن روما في العصور اللاحقة بدأت تشرِّع قوانين قاسية على العبيد؛ والسبب في ذلك أن السادة كانوا يقسون على العبيد، ويسيئون معاملتهم، الأمر الذي كان يخلق الرغبة لدى العبيد في التآمر على أسيادهم، وقتلهم. وللحيلولة دون ذلك تمّ تشريع قوانين تعسُّفية للغاية بحقّ العبيد؛ لمنعهم حتّى من التفكير في مثل هذه المؤامرات.

وممّا قيل في ذلك: إذا قتل سيّدٌ في بيتٍ جاز قتل جميع العبيد الذين يسكنون في ذلك البيت، بل حتّى العبيد الذين يسكنون في الجوار؛ لاحتمال مقدرتهم على المشاركة في تلك الجريمة، أو الاطّلاع عليها وعدم الإخبار عنها قبل حصولها.

كما ورد في بعض هذه التشريعات: إذا قتل سيّد في سفر أمكن قتل جميع العبيد السائرين في ركابه!

كان يتمّ وضع هذه القوانين للحيلولة دون تفكير العبيد بقتل أسيادهم. وهذه الأمور لا موضوعية لها في الإسلام أبداً، فلا حاجة إلى البحث فيها.

 

 4ـ حقّ معاقبة العبد من قبل السيّد

أما الموضوع الآخر ـ الذي يحظى بالموضوعية عندنا، وسوف نبحثه لاحقاً ـ فهو إعطاء الحقّ للسيّد بمعاقبة العبد إلى حدّ إزهاق روحه وقتله. فيحقّ للسيد والمالك أن يعاقب عبده على جريمةٍ تبلغ عقوبتها حدَّ الإعدام. وفي الحقيقة يمكن للسيّد في مثل هذه الحالة أن يلعب دور الشاكي والقاضي والمنفِّذ للحكم.

وبطبيعة الحال إن موضوع القتل غير مطروح في التشريعات الإسلامية؛ وأما بالنسبة إلى سائر العقوبات والتعزيرات الأخرى فلا بُدَّ من البحث فيها؛ لكي نرى ما إذا كان التشريع الإسلامي يبيح للسيد معاقبة عبيده بما دون القتل أم لا؟

 

 5ـ حرمان العبد من حقّه الطبيعي في الدفاع عن نفسه

يقال: إن قانون إفلاطون ـ يبدو أن إفلاطون قد قال هذا الشيء، وهو أمرٌ عجيبٌ للغاية ـ قد اشتمل على فقرة تتضمَّن حرمان العبد من حقِّه الطبيعي والمدني في الدفاع عن نفسه. وهذا ظلمٌ فاحش!

إن الحقّ الطبيعي في الدفاع يعني أن لكلّ شخصٍ الحقّ في الدفاع عن نفسه. وهذا الحقّ ثابتٌ حالياً للجميع. فإذا اقتحم بيتك شخصٌ يريد قتلك جاز لك أن تدافع عن نفسك. وإذا تعرَّض المهاجم لنقص عضوٍ، أو حتّى الموت، لم تكن ضامناً إذا ثبت أن ذلك قد حصل نتيجةً لدفاعك عن نفسك، فهذا حقّك الطبيعي الذي يضمنه لك القانون.

بَيْدَ أن هؤلاء قالوا: إن العبد لا يملك حقَّ الدفاع عن نفسه، فإذا هاجمه شخصٌ لا يحقّ له أن يصدَّه دفاعاً عن نفسه، كما أنه لا يملك حتّى الحقّ المَدَني في هذا الشأن؛ فلا يحقّ له أن يرفع الشكوى ضدّ مَنْ هاجمه إلى المحاكم.

وهذا كلامٌ عجيب!

 

مخالفة مونتسكيو لمطلق الحرّية للعبيد

ثمّ يستطرد مونتسكيو في بحثٍ قَيِّم وتفصيلي. فإنّ مونتسكيو نفسه، الذي يُعارض ظاهرة الاستعباد، يخالف ـ في الوقت نفسه ـ منح العبيد الحرّية بجَرَّة قلم واحدة، من خلال إصدار قانونٍ شامل يقضي بتحرير جميع العبيد في العالم مرَّةً واحدة، بل يقول: إن مشروع تحرير العبيد يجب أن يكون وفق خطّةٍ مدروسة ومتأنِّية، وإلاّ فإن التحرير المنفلت سيعود بالضَّرَر على المجتمع، وعلى العبيد أنفسهم.

وهذا كلامٌ منطقي ومتين.

يقول مونتسكيو: حيث اعتاد العبيد على حياةٍ وضيعة، جعلتهم على كلّ حال ينتسبون إلى الطبقة السفلى، كانت صلاحيّاتهم ـ على كلّ حال ـ مختلفة عن صلاحيات السادة، فلو تمّ تحريرهم دون ضابطةٍ، وتُركوا وشأنهم، فإنّ فناءهم سيكون محتوماً.

وهذا ما ثبت بالحقائق التاريخية. ففي عملية الإصلاح الزراعي([8]) عندنا حَدَث الشيء ذاته، وقد شاهدنا ذلك بأمِّ أعيننا. فقد كان القرويّون في منطقتنا([9]) قد اعتادوا على العمل تحت إمرة الإقطاعيين لمئات السنين، فكانوا يأتمرون بأوامر السادة، حيث يستيقظون كلّ يومٍ في الصباح الباكر، ويجتمعون في مكانٍ معيَّن، ينتظرون إطلالة الإقطاعي أو مَنْ يمثِّله؛ ليصدر لهم الأوامر، ويحدِّد لهم الذي عليهم القيام به، وإلى أيّ بقعةٍ من الأرض يتوجَّهون، والعمل الذي يتعيَّن عليهم القيام به في ذلك اليوم، من حراثةٍ أو زراعة أو سقاية أو حصاد وما إلى ذلك، دون أن يكون لديهم أيّ خيار أو استقلال من أنفسهم. ولذلك عندما تمَّ صدور القانون القاضي بتحريرهم من ربقة الإقطاع، وقامت الدولة بتقسيم الأراضي عليهم، لم يدركوا ما الذي يجب عليهم فعله، وكيف لهم أن يأخذوا زمام المبادرة، فكانت النتيجة أن بقيَتْ تلك الأراضي غير مستثمرة، حتّى أدركَتْ الدولة السبب الكامن وراء ذلك، فقامت بتأسيس مؤسَّسة من قبيل: «مصرف العمران»، تتولى مهمّة توجيه عمل القرويين والمزارعين؛ لكي تقوم مؤقَّتاً بما كان يقوم به الإقطاعيّون، حتّى يكتسب المزارعون معنى الاستقلال بالتدريج.

من هنا فإن مونتسكيو يؤكِّد على هذه الناحية بشدّةٍ، ويدعو إلى العمل على إطلاق مشروع يقضي بعتق العبيد وتحريرهم بالتدريج، بمعنى العمل على إطلاق سراحهم عندما نستأنس منهم القدرة على إدارة أنفسهم بأنفسهم.

وهذا هو عين ما جاء في القرآن الكريم في موضوع المكاتبة، حيث يشترط السيد على العبد أن يقوم بعملٍ معيَّن يُثبت فيه جدارته وأهليّته للاضطلاع بالمهمّة، وأنه قادر على توفير مبلغٍ من المال، فإنْ أمكنه أن يوفِّر ذلك المال، طبقاً للشروط المذكورة في متن العقد والمكاتبة، صار حُرّاً، بمعنى أن الحصول على المال لوحده ليس كافياً، بل يُضاف إلى ذلك إدراك السيد أن العبد يمتلك صلاحيّة أن يكون حرّاً، وأن يدير أموره بنفسه. قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً﴾ (النور: 33).

وهنا أجد من المناسب أن أذكر أسئلة الأستاذ المهندس كتيرائي:

1ـ ما هي الاختلافات الجوهرية بين الحرّ والعبد، أو بعبارةٍ أخرى: ما هو الفرق بين الحرّ والعبد؟ (وفي الحقيقة: ما هو تعريف العبودية؟).

2ـ ما هي الحقوق التي تمَّ حرمان العبد منها في أكثر البلدان، والتي أقرَّها الإسلام؟ (لقد ذكرنا بعض هذه الحقوق في معرض نقلنا لكلام مونتسكيو).

3ـ طرق الاستعباد المختلفة في مختلف البلدان (أجَبْنا عن شيءٍ من هذا السؤال ضمن الحديث السابق، ولكن سنعيد تنظيم الإجابة في هذا الشأن).

4ـ ما هي طرق الاستعباد في الإسلام؟

5ـ ما هي شروط تحرير العبيد في مختلف القبائل؟ (لقد بحث مونتسكيو في هذا الشأن إلى حدٍّ ما).

6ـ تحرير العبيد وفقاً لقوانين الإسلام. (وقد بحثنا في هذا الشأن، ولا بأس من الإعادة).

7ـ ما هي الحالة التي يعتبر فيها الطفل المولود حديثاً من العبيد في الإسلام؟

8ـ ما هي الأحكام الإسلامية التي لا تساوي بين الحرّ والعبد؟ والمراد من ذلك الأحكام الهامّة والجوهريّة (سؤالٌ هامّ، يجب علينا أن نبحثه لاحقاً).

9ـ ما هي المباني الأساسية ـ في القرآن والروايات المعتبرة ـ للاعتراف بالعبودية من قبل الإسلام؟ (ما ورد في القرآن من ذكر للعبيد يكفي لإثبات أن نظام الاسترقاق والاستعباد كان قائماً).

10ـ لو انتصر العرب على إسرائيل في الحرب القائمة هل يمكن استرقاق الأسرى من اليهود؟

11ـ هل يمكن اليوم شراء العبيد؟ وما هو رأي الإسلام في هذه المعاملة؟ ولو تمَّت هذه المعاملة ألا يكون فيها إشكالٌ، أم يجب التحقيق في سوابق العبد؟

12ـ العبيد كانوا يُستعبدون طبقاً لقوانين سائر المذاهب والأمم، وقد اعترف الإسلام بظاهرة الاستعباد، وكان يقرّ شراء العبيد وبيعهم. فما هي أسباب اعتراف الإسلام بظاهرة الاستعباد؟

13ـ بيِّن لنا جميع طرق تحرير العبيد في الإسلام بشكلٍ مختصر وجامع.

 

أسئلةٌ وأجوبة

_ ذكرتُم أن الصحيح بحسب القواعد هو أن نرى ما إذا كان الإسلام قد أقرّ العبودية أم لا؟ فإن كان الإسلام قد أقرَّ امتلاك شخصٍ لشخص آخر فهذا يعني أن الإسلام قد أقر الاستعباد، وبذلك تَرِدُ عليه الإشكالات اللاحقة، وأما إذا لم يكن قد أقرَّها فهو إذن لا يقرّ الاستعباد.

^ نحن لم نتعرَّض لرأي الإسلام. إنما نقلنا كلام جون لوك وغيره، حيث قالوا: إن الاستعباد باطلٌ، أيّاً كانت الظروف والأحوال. وعليه لا يبقى لنا من متَّسع للحديث عن مفهوم الاستعباد في الإسلام؛ لأنهم يقولون: إن أصل الاستعباد باطلٌ، وعلى خلاف الأصول الإنسانية في جميع الأنظمة. وهذه هي عُمْدة المسألة من وجهة نظرنا، وهي: هل أصل الاستعباد ـ بغضّ النظر عن الأنظمة الخاصّة ـ مخالفٌ لأصول الإنسانية أم لا؟

_ يكمن الاختلاف بين المقاتل والأسير في أن المقاتل يحمل سلاحاً ويباشر القتال في ساحة المعركة، بينما الأسير هو الذي ألقى سلاحه أرضاً، وتخلّى عن الحرب، وعليه لا يستحقّ القتل. وهذا ما عليه علماء الحقوق في العصر الراهن. وهذا هو رأيهم بشأن الجريح أيضاً.

^ هذا ما نذهب إليه، وهذا هو ما يقوله الإسلام أيضاً. وقد أمر النبيّ الأكرم| بعدم الإجهاز على الجرحى، وعدم تعقُّب الهاربين؛ إذ قال: «لا تقتلوا الأسرى، ولا تجهزوا على جريحٍ، ولا تتبعوا مولياً»([10]). وقد رُوي عن أمير المؤمنين الكثير من هذه الأمور. إلاّ أن هذه الأمور ليست هي الملاك، فإنّ مجرَّد أن يستسلم شخص، حتّى ولو كُرْهاً، لا يشكِّل دليلاً على عدم جواز قتله. فلو كان وجود الأسير يشكِّل خطراً فإنّ نفس الدليل الذي يسمح بقتاله ابتداءً يجيز قتله حتّى بعد استسلامه وأسره لاحقاً. فلو افترضنا أن موشي دايان([11]) قد سلَّم نفسه الآن ألا تقتلونه؟! وهل يعني التسليم عن الاضطرار وانعدام الخيار دليلاً على أنه قد تغيَّر حقّاً؟!

_ إن الحرب لا تؤدّي بالأشخاص إلى تغيير عقائدهم، وإنما تدفعهم إلى الاستسلام، وهذا هو ما يريده الإسلام من وراء تشريع الجهاد، حيث أراد من ورائه إجبار الأعداء على الاستسلام، وبعد استسلام العدوّ وإلقاء السلاح يتمّ العمل من قبل الإسلام على تغييره بالتدريج.

^ نعم، هذا ما أقوله أنا أيضاً. فلو كان الذي تظاهر بالاستسلام من أولئك الذين لا يُرْجى خيرهم وصلاحهم، بل كان بقاؤه يُشكِّل خطراً على المجتمع، وكان بقاؤه حيّاً يخلق بلبلةً بين الناس، ويكون مصدراً للفتنة، وكان القضاء عليه يعني القضاء على دابر الفتنة، واجتثاثها من جذورها، ألا يجب قتل هذا الشخص [حتّى إذا أصبح أسيراً]؟

_ يجب أن يكون مستسلماً [حقيقة]؟

^ نحن نشير إلى هذا الاستسلام الظاهري.

_ [تأييداً لكلام الأستاذ مطهَّري]: بطبيعة الحال شهد الإسلام حالات أسر، وإن النبيّ الأكرم قد أصدر حكماً بإعدام شخصٍ أو شخصين من هؤلاء الأسرى. بل حتى بالنسبة إلى أبي سفيان، الذي رفع راية الاستسلام، قد أراد عمر أن يقتله. ولكن ما الذي يدعوكم [مخاطِباً السائل السابق] إلى البحث بشأن الأسير؟ فحتّى في المجتمع المتحرِّر إذا كان هناك شخصٌ يشكِّل خطراً على المجتمع، ويخلّ بالقوانين، وأدرك القانون أو النبيّ خطره، ألا يجوز قتله أم لا؟

_ [السائل السابق]: ما دام لم يُباشر العمل لا يجوز قتله.

^ إن الذي باشر القتال ينطبق عليه أنه باشر العمل.

_ [السائل السابق]: ثمّ استسلم.

^ هذا الاستسلام لا يعتبر ملاكاً.

_ [موجِّهاً الكلام إلى السائل السابق]: هل إذا كان النبيّ [لم يقتل] أبا سفيان بعد أسره، أو لم يقتل أبا جهل بعد تلك الفتنة، هل كان هناك من إشكالٍ يتوجَّه إلى رسول الله|؟

_ [السائل السابق]: ولهذا السبب لم يقتل النبيّ أبا سفيان.

^ إن حرب الإسلام حربٌ عقائدية. فالذي يستسلم ـ على حدِّ تعبيركم ـ قد يكون استسلامه ناشئاً من تغيير عقيدته، ففي هذه الحالة يكون الموضوع منتفياً. فإذا جاء شخص أثناء القتال، وقد أسلم حقيقةً، لا يجوز قتله أبداً. وتارةً يُظهر الإسلام وتغيير العقيدة، وأنتَ على يقينٍ من أنّه يكذب، وهنا يختلف الأمر، فأنتَ في هذه الحالة، على الرغم من تكليفك بالتعامل معه على أساس الظاهر، واعتباره مسلماً، عليك في الوقت نفسه أن تلزم جانب الحيطة والحَذَر منه. هذا هو الدستور الذي خطَّه لنا القرآن الكريم بقوله: ﴿وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً﴾ (النساء: 94). فالقرآن لا يجيز قتل قومٍ قالوا: نحن مسلمون، وقالوا: «أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أن محمداً رسول الله». وهذا ينطبق على حالة أبي سفيان أيضاً. وبطبيعة الحال كان لأبي سفيان حسابان: الأوّل: إنه ربما لم يكن قد اعتنق الإسلام بعدُ حقيقةً، وكان يريد التستُّر على واقعه من خلال التظاهر بالإسلام؛ والثاني: إن الإسلام يحترم قانون الذمام والاستجارة، وفي ذلك يقول رسول الله|: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمَّتهم أدناهم، وهم يدٌ على مَنْ سواهم»([12]). ولقد كان العباس بن عبد المطلب مسلماً، وقبل أن يأتي بأبي سفيان إلى النبيّ كان قد آمنه وأعطاه الذِّمام. ولربما كان هذا السلوك من العباس خاطئاً، وكان عليه أن لا يقوم بمثل هذا التصرُّف، إلاّ أنه بعد أن أعطى الذِّمام لأبي سفيان لو أن النبيّ كان قد أمر بقتل أبي سفيان لكان عمل على نقض قانونٍ قد سبق له أن قام بتشريعه! فالنبيُّ، الذي قال: «يسعى بذمّتهم أدناهم»، بمعنى أنه حتّى لو قام أدنى مسلم شأناً بإيواء كافرٍ أو مشرك كانت ذمَّته محترمة، إذا كان الذي أعطى الذِّمام هو شخص العبّاس عمّ النبيّ، وقد أعطى الذِّمام لشخصٍ مسلم، هل يجوز له [أي للنبيّ] القول: لا أحترم ذمامك؟! في هذه الحالة يكون قد نقض تشريعه بنفسه!

وكان عمر قد عرف ملابسات الأمر، حيث أدرك أنّ العباس سيأخذ أبا سفيان إلى النبيّ، ويقول له: إنه آمنه وأجاره، وأن النبيّ لن يكون أمامه إلاّ أن يحترم جواره، ولن يتمكَّن أحدٌ بعد ذلك من قتله والإجهاز عليه. من هنا كان عمر يريد قطع الطريق على حصول ذلك، بأن يقتل أبا سفيان قبل أن يصل إلى رسول الله، فهجم عليه بسيفه…، إلا أن العبّاس كان قد تعمَّد إركاب أبي سفيان على بغلةٍ لرسول الله، مستفيداً من حيثية النبيّ؛ لينقذ صاحبه من القتل؛ بحكم زمالة العمل؛ لكونهما تاجرين قريبين من بعضهما منذ عصر ما قبل الإسلام. وعليه فإنّ نجاة أبي سفيان لا تكون بسبب إسلامه، بل بسبب الذِّمام الذي أعطاه العبّاس له.

_ في حالات الاستعباد لا تتوفَّر شروط الحياة للعبد، الأمر الذي يشكِّل أرضيةً خصبة لانقراض العبيد. وتقول منظَّمة الأمم المتَّحدة: حرِّروا العبيد، ليعيشوا كما يحلو لهم.

^ في المواضع التي يكون فيها النظام العبودي ـ وليس العبودية نفسها ـ بحيث يكون مجحفاً على العبيد قد يؤدّي الأمر إلى انقراضهم. ومن ذلك: قانون إخصاء العبيد المجحف، حيث كان هذا الأمر يؤدِّي حتماً إلى انقراضهم. وهكذا الأمر بالنسبة إلى منعهم من الزواج، أو فرض الأعمال الشاقّة عليهم، مع حرمانهم من الأطعمة الصحّية. وأما في المواطن التي يتمّ فيها الإحسان للعبيد، ولا يتمّ فيها حرمانهم من حقوقهم الطبيعية والعادلة، نجد الأمر معكوساً، حيث يعتمد الأسياد بالكامل على عبيدهم، فيحصلون على مهاراتٍ وتجارب في الحياة، بينما يُصاب الأسياد بالغرور والترهُّل، ويؤدّي الأمر بأبنائهم إلى الدَّعة والتَّرَف والكسل والفساد، ثم الزوال والانقراض، كما هو الحال بالنسبة إلى أيّ مجتمع (ولا يقتصر ذلك على العبودية). فعندما تُبتلى طبقةٌ بالتَّرَف، ويعيش أبناؤها وسط الدَّعة وناعم العيش، فإن نفس هذا الأمر يؤدّي بهم إلى الانقراض، بعكس العبيد الذين يعيشون كادحين ومنتجين، فتكون أدوات العمل طَوع إرادتهم، فيصبحون أكثر ذكاءً ونشاطاً، الأمر الذي يعكس الآية بعد فترةٍ من الزمن، حيث يصبح العبد سادة أسيادهم.

هناك دراسةٌ قيّمة لـ (غوستاف لوبون)، تحت عنوان «الاستعباد في الشرق»، يقول فيها: إن من الأخطاء التي نرتكبها نحن الأوروبيون أننا نساوي بين الاستعباد في الشرق ـ مراده الشرق الإسلامي ـ والاستعباد في الغرب، في حين أن هناك بين الظاهرتين بَوْناً شاسعاً. ثمّ يذكر الكثير من الشواهد التي وصل فيها العبيد في الشرق الإسلامي إلى الكثير من المناصب الكبيرة في الدولة، حتّى وصل البعض منهم إلى تولّي الوزارات، وهناك مَنْ أصبح من الأمراء أيضاً، يُضاف إلى ذلك العلماء الذين كانوا من العبيد. الأمر الذي يُثبت أنهم كانوا يتمتَّعون بفرصٍ كبيرة. وعليه فإنّ ما ذكرتموه من الفرص إنما يعود إلى طبيعة بعض أنظمة الاستعباد، لا إلى أصل الاستعباد.

_ يبدو أن الإسلام لم يقرّ الاستعباد، ولكنْ حيث رأى الظروف غير مؤاتية للتصريح بمخالفته عَلَناً، أو القضاء عليه بضربةٍ واحدة، عمد إلى معالجته التدريجية، من خلال وضع القيود التي من شأنها قطع شرايين الحياة عليه، حتّى يأتي اليوم الذي تغيب فيه ظاهرة الاستعباد في المجتمع الإسلامي تماماً.

^ إنّ ما ذكرتموه من أن الإسلام قطع أوردة الحياة على جذور الاستعباد يعني أنه كان من البداية مخالفاً لأصل الاستعباد، غاية ما هنالك أنه لم يصدر قراراً، ولم يُشرِّع قانوناً، يحظر فيه الرقّية؛ لأن الظروف لم تكن مؤاتيةً.

وقد ذكرتُ سابقاً أن الأمر لم يكن كذلك. وهذه حقيقةٌ. فلو كان الإسلام مخالفاً لأصل الاستعباد لأعلن ذلك من البداية، ولما خشي أحداً. والدليل على ذلك أن الإسلام قام بما يفوق ذلك، كما قيل ذلك بالنسبة إلى تعدُّد الزَّوجات، حيث قيل: إن الإسلام كان مخالفاً لأصل التعدُّد في الزوجات، ولكن حيث لم يكن بالإمكان إلغاؤه دفعةً واحدة، فقد لجأ إلى تحديده! إلاّ أن الصحيح هو أن الأمر لم يكن كذلك. فالإسلام لم يخالف أصل الاستعباد، وإنما خالف الاستعباد بمعنى الإبقاء على الشخص عبداً أبداً، بل أراد توظيف الاستعباد بوصفه قنطرةً يتلقّى الفرد خلالها تربية إسلامية صحيحة توفِّر له جميع ظروف الرقيّ والتكامل، التي تؤدّي به إلى التحرُّر والانعتاق. وبعبارةٍ أخرى: إن الإسلام قد أقرّ الاستعباد؛ ليكون ممرّاً يكون فيه الفرد عبداً مسلوب الإرادة، ليخرج من هذا الممرّ بعد فترةٍ بوصفه شخصاً مسلماً وحرّاً، وأن يدخل عبداً كافراً، ويخرج حرّاً مسلماً. وهذا يعني أن الإسلام أراد لبعض الناس أن يجتازوا هذا الممرّ حتماً، لا أنه كان يخالفه من الأساس، ولكنْ حيث لم تكن الظروف مؤاتيةً لجأ إلى خيار التدرُّج في معالجة هذه الظاهرة، وشرَّع الدخول في هذا المجاز بنيّة الخروج منه، وإلاّ لو أمكن العمل منذ البداية على عدم الدخول في هذا المجاز [لحرَّم دخوله منذ البداية]. إلا أن الأمر ليس كذلك.

ـ يتبع ـ

 

الهوامش

(*) مفكِّرٌ إسلامي كبير، وأحد أبرز رموز النهضة الحديثة في إيران. له عشرات المؤلَّفات والأعمال والنظريّات والأفكار. استشهد مطلع انتصار الثورة الإسلامية في إيران.

([1]) إن هذه المحاضرة ـ كما جاء في مقدّمة الكتاب ـ كان لها نصٌّ واحد قدَّمه أحد الحاضرين إلى سماحة الأستاذ، أما شريط التسجيل فهو مفقودٌ. وعليه إذا كان هناك من ضعفٍ في التعبير أحياناً فإنما يعود إلى عجزنا عن مقارنتة النصّ المكتوب بالتسجيل الصوتي. ولذلك رأينا التنويه.

([2]) بمعنى الاختلاف في اللغات.

([3]) لأن المالك يقول فيه لعبده: «أنت حرٌّ دبر وفاتي». (المعرِّب).

([4]) وهو الذي قاد المسلمين إلى فتح الأندلس بعد أن خاض بهم البحر الأبيض المتوسط، وقال عبارته الشهيرة، بعد بلوغ الضفة الأوروبية، وأحرق السفن؛ ليقطع على المسلمين طريق العودة: «العدوّ أمامكم، والبحر من ورائكم». (المعرِّب).

([5]) سبق أن ذكرنا أن تسجيل المحاضرة الثانية مفقودٌ. وعليه فإن هذه المحاضرة هي المحاضرة الثالثة، ولكن حيث أورد فيها خلاصة المحاضرة الثانية يكون النقص قد ارتفع إلى حدٍّ ما.

([6]) أي القول بأن من الظلم أن يمتلك الإنسان إنساناً آخر، وأن هذا الأمر مخالفٌ للحقّ الطبيعي لكلّ إنسان.

([7]) نهج البلاغة، الخطبة رقم 15.

([8]) المشروع الذي قامت به السلطات المَلَكية الإيرانية في عام 1962م.

([9]) منطقة فريمان، مسقط رأس الأستاذ الشهيد مرتضى المطهري، تبعد عن مدينة مشهد المقدَّسة مسافة تقدَّر بخمسة وسبعين كيلومتراً.

([10]) العلامة المجلسي، بحار الأنوار 32: 210.

([11]) موشي دايان(1915 ـ 1981م): سياسي إسرائيلي، كان عضواً في عصابات الهاغانا، وتولّى لفترةٍ وزارة الزراعة، ثمّ تولّى وزارة الحرب في عهد ليفي أشكول، يترجم اسمه بالعبرية: (القاضي موسى)، ويعرف بين العرب بـ (الأعور). (المعرِّب).

([12]) الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 19: 55 (باختلافٍ يسير).

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً