أحدث المقالات

دراسةٌ في الصحّة والبطلان، استناداً إلى (قاعدة لا ضَرَر)

د. محمد رضا گيخا(*)

أ. زهرا گلستان فرد(**)

مقدّمة

إن الإنسان من حيث هو إنسان خلق على الفطرة([1])، وأودع فيه الصفات المختلفة المتناقضة. وبناء على ذلك أصبح موضوع العلوم الإنسانية؛ لأنه كائن اجتماعي، فهو لرفع حوائجه ودفع المضارّ عنه يحتاج إلى أن يكون اجتماعياً يعيش في الاجتماع ومع بني نوعه. وهذه الروابط والأواصر البشرية تتطلب قواعد وأصولاً يسير عليها الإنسان، وينظم من خلالها حياته، ويعدّلها حسب الظروف ومقتضيات العصر. ولا شَكَّ أن هذه الأمور إنما تصدر عن علم القانون المنبثق عن العلوم الإسلامية.

ومع تقدُّم التكنولوجيا والتقنية وتعقيد الروابط الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع المعاصر أصبحت العلوم الإنسانية ضحية التغيير والتحوّل. ولم يسلم علم الفقه والقانون من هذا التغيير، رغم أصالته وقدمه قدم التاريخ البشري. وكثير من قواعده وأصوله يحتاج إلى التعديل وإعادة النظر. وفي العصر الحاضر؛ نظراً إلى توسيع الروابط البشرية والمنافسة الشديدة في المجالات المختلفة للاقتصاد، يحتاج الفقه إلى أنواع جديدة من التعاريف والآليات القانونية الحديثة المتطوّرة. على سبيل المثال: يمكن الإشارة إلى المعاملات والعقود الدولية المختلفة التي تتمّ على أساس الحرّية بين الأشخاص الطبيعيين والاعتباريين، فهذه المعاملات والعقود متنوعة ومختلفة إلى حدٍّ يصعب تقييمها تحت أصول وقواعد خاصّة، ما يتطلب من الفقهاء والأخصائيين استعراضاً جديداً وجهوداً مضنية.

فلو نريد أن نعرف الأصول السائدة على المعاملات والعقود الرائجة من حيث الصحة والبطلان على أساس الأصول الفقهية والقانونية يجب أن ندرس القواعد الفقهية دراسةً معمقة في شتى المجالات، حتّى نجد أسس الأحكام والموضوعات الفقهية.

وتتعلق بعض المعاملات بتوريد السلع وتصديرها، حيث هي إحدى مصادر الدخل لكلّ دولة. وإن توريد السلع وتصديرها عبر المنافذ الجمركية يكون بثلاثة طرق: 1ـ السلع الشرعية؛ 2ـ السلع الشرعية المشروطة؛ 3ـ السلع الممنوعة.

فالذي يورِّد السلع الشرعية أو السلع الشرعية المشروطة دون الإجراءات الجمركية، ودون الحصول على الترخيص، أو يورِّد السلع الممنوعة بأيّ طريقة، فقد ارتكب التهريب.

وإن ظاهرة تهريب السلع من الموضوعات الحادّة والمهمة في علم الاقتصاد وعلم الجرائم والقانون؛ لأن مرتكب هذه الجريمة في الحقيقة يضيِّع حقّ الدولة وقطاعات المجتمع.

وعندما نلقي نظرةً فاحصة ومعمقة إلى مسألة تهريب السلع نستنتج أن مرتكبه وإنْ ربح في الظاهر بعد اجتيازه الحواجز القانونية والحكومية، فإنّ السلع الممنوعة سوف تُعرَض للتسوّق، وتصبح في متناول أيدي الناس، ما يترك أثراً سلبياً في المجتمع.

وهذا المقال بصدد تحقيق مسألة معاملة السلع المشروعة في الظاهر، والمهرَّبة بالذات، من حيث الصحة والبطلان. وركيزة البحث استعراض مدى الصحة والبطلان للسلع المهرَّبة المستوردة في سوق المسلمين، بالاستناد إلى «قاعدة لا ضَرَر».

الباحثون والدارسون في هذا المجال عامّة بصدد الإجابة عن هذا السؤال المهم: هل معاملة السلع المهرَّبة المستوردة في أسواق المسلمين في حكم البيع الصحيح أم الباطل؟

فرضية المقال: باعتبار الواقع إنه وإنْ كانت سوق المسلمين يتوفَّر فيها شروط صحة السلع المهرَّبة وشراءها؛ نظراً إلى الأصول المقرَّرة في العقود، ونظراً إلى جواز البيع في الظاهر بالرجوع إلى المصادر الفقهية وأصول القانون، إلاّ أن مثل هذا البيع والشراء إنما يصحّ إذا لم تتوجّه المضار إلى مصالح الحكومة والمجتمع، مع أن السلع المهرَّبة تلحق أضراراً بالمجتمع والحكومة. وبناءً على ذلك يبدو أن معاملة السلع المهربة باطلٌ بالاستناد إلى «قاعدة لا ضَرَر».

المؤلَّفات السابقة

وقد ألّفت في موضوع «التهريب» مقالات وكتب وأطروحات مختلفة ومتنوعة.

فمن الكتب: «جريمة التهريب»، لعبد الله أحمدي؛ «تهريب السلعة والصرف»، لمختار فيروزجايي.

ومن المقالات التي كتبت في هذا المجال: «تهريب السلعة في الفقه والقانون الجنائي مع التركيز على السوابق القضائية»، لوهاب علي نجاد؛ «التحليل الاقتصادي للتهريب في إيران»، لجمشيد بجوهيان ومجيد مداح؛ «أثر القوانين والأحكام التجارية والجمركية على تهريب السلع»، لرضا بنائي؛ و…

ومن الأطروحات: «الأصول الفقهية والقانونية لتهريب السلع وأثرها في منظر الفقه الإمامي»، للسيد حسن ثامنيان؛ «تحليل سياسة الجريمة في إيران إزاء تهريب السلع والصرف بالنظر إلى القانون الجديد»، لأحمد ملائيان؛ «تهريب الأشياء الأثرية والثقافية في قانون إيران والوثائق الأثرية»، لآيدا زيدي.

إلاّ أن هذه التحقيقات تناولت مسألة التهريب كجريمة يترتَّب عليها الأبعاد القانونية، أو تحدثت عن المناطق التي يكثر فيها هذه الظاهرة، ولكنْ لم يتناول أحد هذا الموضوع من الزاوية الفقهية والقانونية مع تطبيق القواعد والأصول. وعليه فإن هذا الموجز يعالج هذا الجانب المهمّ.

طبيعة التهريب

التهريب (قاجاق) اسم تركي بمعنى العبد والمخطوف([2]). واستعمل بمعنى الهارب، والرجل السريع، والعمل الذي يقوم به أحدٌ بالخفاء والخفة([3]).

يستنبط من معاني التهريب أن التهريب عبارة عن تهريب الأموال، سواء كانت تلك الأموال متعلقة بالدولة، أو كان توريدها وتصديرها، وبيعها وشراءها، عبر التهريب، وخلافاً للقوانين والأصول الحكومية([4]).

ولا شَكَّ أن المنافذ الجمركية من إحدى مصادر الدخل السنوية لكلّ دولة. وإن تصدير السلع وتوريدها عبر المنافذ الجمركية يتمّ بثلاثة طرق:

1ـ السلع المرخصة: وهي عبارة عن التوريد والتصدير مع مراعاة الأحكام الجمركية، دون الحاجة إلى الترخيص من أيّ مصدر حكومي.

2ـ السلع المرخصة المشروطة: وهي عبارة عن السلع التي يحتاج توريدها وتصديرها إلى الترخيص من المصادر الحكومية، بالإضافة إلى مراعاة الأحكام الجمركية.

3ـ السلع الممنوعة: وهي عبارة عن السلع التي يمنع منعاً باتاً توريدها وتصديرها.

وقد قسم بعض المحامين التهريب إلى ثلاثة أقسام:

الأول: السلع المهربة الخالصة، بمعنى أن المشرِّع يرى بعض السلع جريمة، ويعيّن لها عقاباً رادعاً، كالأسلحة والذخائر.

الثاني: السلع التي هي في حكم التهريب، حيث هي في زمرة السلع المهربة غير مباشرة، كتوريد الألبسة التي يحرم لبسها في العلانية.

الثالث: التهريب بسبب الانتهاكات الجمركية، بمعنى تخطّي القوانين والأحكام الجمركية، كأن يكون بيان مواصفات السلع المستوردة غير صحيح([5]).

مفهوم البيع وشروط صحّته في المصادر الفقهية

العقد مصدر بمعنى الجمع بين أطراف الشيء. ويستعمل ذلك في الأجسام الصلبة، كعقد الحبل وعقد البناء، ثم يستعار ذلك للمعاني، نحو: عقد البيع والعهد وغيرهما. جمع العقد العقود. قال تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ([6]).  والعقد أيضاً يأتي بمعنى احتباس اللسان، العهد، الخيوط المعقدة، و… ([7]).

البيع هو الإيجاب والقبول الدالاّن على نقل الملك بعوض معلوم([8]). وهكذا عرّفه الشهيد الثاني([9]) .

ويعرِّفه صاحب الشرائع بالألفاظ التالية: «البيع هو اللفظ الدال على نقل الملك من مالكٍ إلى آخر بعوض معلوم»([10]). وهكذا عرَّفه الفقيه المتأخِّر صاحب الجواهر([11]).

وبناءً على ما تقدَّم يمكن القول بأن العقد (البيع) في مصطلح الفقه عبارة عن عقد حقيقي له آثاره القانونية، وبالتالي هو توافق بين طرفين أو أطراف للتوصل إلى نتيجةٍ بينهم([12]).

تتلخّص شروط صحة البيع على أساس الفقه في ثلاثة محاور: الإيجاب والقبول؛ نقل الملكية؛ العوض المعلوم. وعند الإمام الخميني& شروط صحة البيع كما يلي: الإيجاب والقبول، وبعبارةٍ أخرى: صيغة العقد؛ المتعاقدان؛ والأحكام المتعلقة بهما وبمحلّ العقد.

المصطلح القانوني للبيع وشروط صحته في المصادر القانونية

جاء في مادة 183 للقانون المدني أن العقد عبارةٌ عن اتفاق فرد أو أفراد بعوض شيء أو أشياء بشرط القبول والرضا.

وفي مادة 337 للقانون المدني عُرِّف البيع بالعبارات التالية: البيع عبارة عن تمليك عين بعوضٍ معلوم([13]).

وجاء في مادة 190 للقانون المدني حول النظرية القانونية لصحّة العقد ما يلي: «الشروط التالية لازمةٌ لصحة كل معاملة: 1ـ قصد الطرفين ورضاهما؛ 2ـ أهلية الطرفين؛ 3ـ الموضوع المعين الخاص بالمعاملة؛ 4ـ مشروعية المعاملة.

وعليه فإن القانون يرى هذه الشروط الأربعة لازمةً لصحّة كل عقد.

وبناءً على ما تقدَّم يمكن القول: إن جوهر العقد هو التوافق الذي يتم بين الطرفين أو أطراف مختلفة. والركن الأساس هو الرضا بين الأفراد. وأهلية الطرفين يكمن في الصحة والإرادة والالتزام. ولا شَكَّ أن لكل عقد التزاماته الخاصة([14]).

تطبيق مفهوم بيع السلع المهرَّبة بالاستناد إلى المكانة الفقهية والقانونية للمعاملات

ويبدو من تعريفات ومفاهيم البيع وشروط صحته في المصادر الفقهية والقانونية التي سبقت أنه لا تنافي للمعاملة بمفهوم العقد بين الطرفين للمبيع الذي يكون من السلع المهربة؛ لأن شروط صحة المعاملات تصدق على معاملة السلع المهربة. ولكن ليعلم أن المشروعية من إحدى شروط الصحة، ولكنْ إذا وقع الشكّ في مشروعية المعاملة وعدم مشروعيته يصحّ العقد؛ لأن الأصل هو الصحة في المعاملات([15]).

إلى هنا نستنتج أن تعاطي السلع المهربة في أسواق المسلمين صحيحٌ؛ لأن تعاطي السلع المهربة يصحّ بناء على أساس البيع وشروط صحته في المصادر الفقهية الحقوقية، بدليل تطابقه مع الفقه والقرارت الحقوقية، هذا من جانب؛ وأما من جانبٍ آخر فإن مجرد تواجد سلعة في أسواق المسلمين أمارةٌ على صحة تعاطيها، ومن هنا فإن بيع وشراء السلع المهربة الموجودة في أسواق المسلمين جائز لا بأس به.

قاعدة (لا ضَرَر ولا ضرار) وتحليل صحة بيع السلع المهربة([16])

المسألة التي لا بُدَّ من استعراضها وإثباتها هي: هل شروط صحة البيع مقبولة بشكلٍ تام، أم أنها عامّة وتابعة لمسائل فرعية أخرى؟ إحاطة البيع بالمسائل الفرعية هل لها أثر في صحته أو بطلانه؟

قاعدة (لا ضَرَر) واحدة من أهم القواعد الفقهية التي تركت أثرها على كافة أبواب الفقه تقريباً، بما فيها العبادات والمعاملات، وتمّ الاستناد إليها في المصادر الفقهية مرّات، والعديد من كبار الفقهاء قاموا بتأليف كتيِّبات مستقلّة حول هذه القاعدة([17]).

1ـ الضرر، ثلاثيٌّ مجرد، بمعنى إلحاق الخسارة، ويبدو أنه عامّ، سواء قصد إلحاق الضرر أو لم يقصد([18]).

يقول الفقهاء: وجوب درء الضَّرَر من البديهيات العقلية، أي لو لم يأتِ حكم من الشارع في هذا الباب لكان العقل الإنساني يدركه بنفسه. كما أن المحامين والعقلاء في المجتمعات البشرية أدركوا مغزاه، وبالتالي بنوا المسؤولية المدنية على هذا الأساس. مضافاً إلى أن العقل وحده ينفي الضرر ويوجب جبرانه، أيضاً قاعدة (لا ضرار)، التي هي مدعومة بالآيات القرآنية([19])،  والروايات([20])،  تؤيِّده.

بالنظر إلى المعنى الذي سرده أهل اللغة لكلمة الضرر، وكذلك الاستنباطات التي أخذ منها الفقهاء، والمفهوم الذي يستنبط من هذه القاعدة، نصل إلى أن قاعدة (لا ضَرَر) تعمل كلما حدث ضرر، ولا تكون مقيَّدة بـ (قصد الإضرار)، والعمد، ولا التقصير. ومن الممكن التصريح بأنه لا يعبأ في قاعدة (لا ضَرَر) بقصد الإضرار والتقصير. لقد نُفي الضَّرَر في الشرع الإسلامي سواء كان مع قصد الإضرار أو التقصير أو بغيرهما. الفقهاء يستنبطون هذا الرأي من فحوى هذه القاعدة. وحصيلة فهمهم من القاعدة هي نفي أيّ ضَرَر بشكل عام، سواء قصد أو لم يقصد، وهذا ما ذهب إليه فقهاء الإمامية([21]).

خلال قاعدة (لا ضَرَر) يلاحظ الالتفات إلى أهداف الحقوق الاجتماعية بكل وضوح. في السنوات الأولى للقرن العشرين قدم أحد المحامين الفرنسيين رأي «الهدف الاجتماعي للحقوق» ما معناه أن للحق هدفاً اجتماعياً، ولا بُدَّ من وصوله إليه. وقد ترك هذا الرأي أثره في المجتمعات الحقوقية والسياسية بشكلٍ ملموس. لكنّ الإمعان في القوانين الإسلامية يبدي أن الالتفات إلى أهداف الحقوق الاجتماعية كان في نظام الإسلام الحقوقي منذ البدء. يقول صاحب الجواهر: «كل شيء يضمن نقض غرض مشروعية الحكم يحكم ببطلانه»([22]). الذي أشار إليه صاحب الجواهر هنا هو نفس الشيء الذي كان موضع اهتمام المحامين الأوروبيين، والذي ذكروه بوصفه هدفاً وغاية للقرارات الحقوقية. الفقهاء يتوسَّلون هذه القاعدة تحسُّباً من الحيل غير المشروعة. كما أن صاحب الجواهر أيضاً توسل هذه القاعدة (نقض الغرض) بهدف إبطال الحِيَل التي يلجأون إليها؛ بغية الفرار من أداء الخمس والزكاة والضرائب وغيرها([23]).

وعليه فلو بادر شخصٌ بعملٍ يؤدي إلى تضرُّر المجتمع كلّه، استناداً إلى أن الشارع أعطاه حقّ شخص آخر، فالشارع يبطل عمله الذي مارسه لنفعه. وليس هذا فحَسْب، بل يبطل ملكه للشيء أيضاً. مثلاً: حق المالكية من الحقوق الخاصة التي تتوسع فيه الاختيارات، وتقلّ المحدوديات، إلاّ أن الحرّية في هذا المجال ليست مطلقة بلا حدٍّ، بل بشرط مراعاة حقوق وحرِّية الآخرين([24]).

إثبات المسألة

نظراً إلى ما مضى في مجال قاعدة (لا ضَرَر)، وأصل صحة العقود الذي أكّد فيما قبل صحة بيع السلع المهرَّبة، يستدلّ بأنه لو حكم في الظاهر بصحة بيع السلع المهربة، وكان هذا الأمر عامّاً ويعمل به، ألا يتوجَّه الضرر إلى الشخص الثالث، أو المصالح العامة؟ في الحقيقة أصل صحة العقود وفقاً للشروط المبينة في فقه وحقوق إيران يقبل مهما لا يغاير المصالح العامة، والنظام العام. لكنّ العقود التي تتمّ في السلع المهربة؛ لأنها تغاير المصالح العامة والأخلاقية، فهي تصنَّف في العقود الباطلة([25]).

الناحية المغايرة مع الشروط التي وضعها القانون المدني يشكِّل الدافع الرئيس الذي يخالف قِيَم مجتمع. الاتجاه غير المشروع يقابل الاتجاه المشروع وجهاً لوجه. ومضافاً إلى أنه يوجب بطلان البيع، يبيد الآثار الوضعية التي تحصل عامة في بيع صحيح، وتفقد صحته كلياً، لزوم مشروعية اتجاه البيع من الأسباب التي تضمن مراعاة الأخلاق الحسنة، والخضوع للقانون في العقد. من الممكن أن يكون هناك بيعٌ يتسم بالصحة من حيث جدّية الإرادة، وأهلية الطرفين، وموضوع البيع، لكنْ يتخذه الطرفان وسيلةً لخرق القانون، والإخلال بالنظام العام. في باب بيع السلع المهربة موضوع العقد هو مبادلة النفع بالثمن، وكذلك من حيث القصد، والرضا، والأهلية، لا إشكال فيه. إلاّ أن لزوم المشروعية يخدشه([26]).  وانطلاقاً من هذا فالناحية المشروعة لا تتعلق بالعناصر الداخلية والفنية، والتراضي، بل هو عاملٌ يمنع العقد من الارتطام بالمصالح الاجتماعية والأخلاقية، ويصدّ العقود غير المشروعة عن التسرُّب. في الفقه أيضاً اتفاق الطرفين على هدفٍ حرام يسبِّب بطلان العقد، كـبيع العنب للتوصُّل إلى الخمر([27]).

التهريب يُعَدّ من الجرائم ضدّ الأموال والحقوق العامة([28])؛ لما يسببه من خسائر غير قابلة للجبران، باستهداف كيان الاجتماع والدولة، ومنها:

أـ الخسائر الملحقة بنظام الإنتاج: بما أن من موجبات تقوية الوضع الاقتصادي للبلاد هو العناية بالإنتاج يبدو أن في طريق تمرير المشروع الاقتصادي، التهديدات الاقتصادية بشكلٍ عامّ، وتهريب السلعة بشكلٍ خاص، يستطيع كتهديد جدّي للاقتصاد من منع النظام الحاكم من تحقيق الأهداف، أو إيجاد المطبّات على طريقه، وأخيراً يتمكن من إضعاف القدرة الاقتصادية بوصفها واحداً من أهمّ العناصر المؤثِّرة في الأمن القومي.

في تهريب السلعة، وبالتالي في البيع والشراء، لا يعين في الابتداء نوع السلعة وسعرها ومقدارها، خلافاً للبيوع المشروعة. ولذا التخطيطات الإنتاجية، والسياسات التجارية للدولة، والقطاع الخاص، يداهمه الخطر دائماً؛ فالشركة المنتجة لا تشترك في الإنتاج من البداية، أو تساهم بدهاءٍ، فتطالب معدل العائد أكثر في فترةٍ موجزة. والدولة تواجه هذه المشكلة في مجال التخطيط للإنتاج. في وضعٍ مثل هذا تهريب السلع؛ نظراً إلى التداعيات التي يخلِّفها، كزعزعة منظومة الاقتصاد، والإخلال في التخطيط الاقتصادي، ونظام التوزيع، يسبِّب الإشكال في مراقبة الدولة، وبالتالي يجعل الاقتصاد عرضةً للأخطار. التهريب مع تحريف إنتاج القومي غير الخالص، يضعِّف من قوة الدولة في اتخاذ الأساليب المجدية للوصول إلى أهدافها التي تتطلع إليها.

ب ـ التهريب يخلّ أجواء توزيع الأرباح والأرصدة الاجتماعية، ويسبّب تقليل طاقات الدولة الاقتصادية، التي تمكِّنها من دعم الطبقة المحرومة عبر التكاليف العامة، والدعم. وصول الطبقة المهربة إلى الأموال الهائلة يعجل سير إفقار الطبقة المقفرة؛ لأنه في ظلّ تنامي الطلب، والضغوطات التضخمية، ينحطّ مستوى الرفاه العام، ما يلقي الطبقات السفلى في اختناقاتٍ أكثر، ويوسِّع الهوة بينها وبين الطبقات الغنية. في بلدنا الذي يبلغ معدل الأرباح العالية أضعاف ما دونها لا يجوز التغاضي عن التهريب، الأمر الذي يعزف على أوتار عدم المساواة.

ج ـ تهريب السلع تلحق خسائر بمجرى نقد البلد، ومن أهمها: خروج الصرف من البلد، وغسل الأموال. وإن دخول النقود السوداء في مجال الاقتصاد والسوق ينافي السير الطبيعي لتنفيد السياسات المالية والنقدية والاستثمار. ضمن الخلل الذي يسببه في التخطيطات الاقتصادية للدولة([29]).

السيولة المرتفعة وطلب الصرف في المجتمع لا يمكن فصل الصلة بينها وبين الأرباح الحاصلة من التهريب، والأهداف الغسلية للأموال. الأموال القذرة تدخل البلد أو تخرج منه بشكلٍ غير شرعي في قالب الأعمال الفنية، والمعادن الثمينة، أو الأشياء الأثرية. المال الحاصل من بيع السلع المهربة عندما تدخل بنوك البلد يتّخذ له مظهراً شرعياً، وبعد التطهير يخرج من البنوك، ويحوَّل إلى ممتلكات مشروعة في الظاهر، ذلك في النظام البنكي لا يسأل عن مكسب المال([30]). من إنجازات التهريب الأخرى المضرة هي سوق التجارة الرسمية إلى التهريب، وبطء توسيع المناطق الحدية، والضرر بإيجاد المكاسب.

النتيجة

من مجموع الاستعراضات الممارسة في مجال توصيف الأسناد وتحليله القواعد الفقهية الحقوقية والمنطقية، بالنظر إلى 30 مصدراً تقريباً، تحصل النتائج التالية:

1ـ عند تطبيق مفهوم بيع السلع المهربة مع مكانة معاملات الفقهية والحقوقية تبدو النتيجة الابتدائية، بأن المعاملة من حيث إنها عقد يتم بين الطرفين لموضوع المبيع الذي تشكله السلعة المهربة لا تنافي أركان الصحة بالشكل العام. وكلّما يشك في مشروعية ناحية البيع وعدمها يحكم بصحة العقد بحَسَب أصل الصحّة. وأخيراً فبيع السلع المهربة المتواجدة في أسواق المسلمين صحيحٌ؛ لأنه من جانب رغم وجود الإبهام مع الإجمال في موضوع صحة البيوع، على أساس البيع وشروطه للصحة، المتوفرة في المنابع الفقهية الحقوقية، يصحّ عقد السلع المهربة؛ بدليل الانطباق مع الفقه القوانين الحقوقية، ومن جانبٍ آخر إنّ تواجد السلع في سوق المسلمين أمارةٌ على صحتها، وعليه فإن تعاطي السلع المهربة الموجودة في أسواق المسلمين يجوز، ولا إشكال فيه.

2ـ ولو أن شروط صحة البيع توجد في موضوع بيع السلع المهربة، لكنّ الشروط ليست تامةً، بل هي بشكلٍ عامّ، ويحكم بصحته ما دام لا يتوجّه ضرر إلى الفرد الثالث والمصالح العامة. في الحقيقة يُقبل أصل صحة العقود على أساس الأركان المعروفة في فقه إيران وحقوقها ما دام لا يغاير المصالح الاجتماعية والنظام العام. ناحية لزوم مشروعية البيع هي من الأسباب التي تضمن في العقد مراعاة الأخلاق الحسنة والخضوع للقانون. من الممكن أن يكون هناك بيع يتّسم بالصحة من حيث جدّية الإرادة، وأهلية الطرفين، وموضوع البيع، لكنْ يتّخذه الطرفان وسيلةً لخرق القانون، والإخلال بالنظام العام. في باب بيع السلع المهربة، موضوع العقد هو مبادلة النفع بالثمن، وكذلك من حيث القصد، والرضا، والأهلية، لا إشكال فيه، إلاّ أن لزوم المشروعية يخدشه. وانطلاقاً من هذا، فالناحية المشروعة لا تتعلق بالعناصر الداخلية والفنية، والتراضي، بل هو عاملٌ يمنع العقد من الارتطام بالمصالح الاجتماعية والأخلاقية، ويصدّ العقود غير المشروعة عن التسرُّب.

3ـ على أساس مضمون (قاعدة لا ضَرَر)، التي تعني دَرْء الضَّرَر بأنواعه المختلفة، بما فيه العمد أو التقصير، تعاطي السلع المهربة ينافي المصالح الاجتماعية والأخلاقية. التهريب يُعَدّ من الجرائم ضدّ الأموال والحقوق العامة؛ لما يسببه من خسائر غير قابلة للجبران، باستهداف كيان الاجتماع والدولة؛ لأن قصف كيان المجتمع والدولة يسبب خسائر غير قابلة للجبران، منها: حطّ أرباح الدولة، تضعيف نظام الإنتاج، وبالتالي تقليل الطاقة الاقتصادية، وتضعيف الأمن القومي، خلط تخطيطات الدولة التي اتّخذتها نحو تنفيذ سياسات المعاملات التجارية، توزيع الأرباح بشكلٍ غير عادل، خروج الصرف من البلد، وظاهرة تغسيل الأموال المشؤومة، وبطء توسيع المناطق الحدية، والضرر بإيجاد المكاسب، وغيرها.

4ـ دَرْء الضرر هو من المفاهيم التي يعرفها كلّ إنسان في أيّ ناحية من نواحي العالم، ومع أي دين يتبناه، وفي ظلّ أيّ نظام حقوقي. وعليه فإن تعاطي السلع المهربة باطلٌ؛ من حيث عدم مشروعية اتجاه المعاملة، وتخطّي القانون، وإخلال النظم العام، ممّا يسبب خسائر عديدة للدولة الإسلامية. وأخيراً إن مكافحة التهريب والوقاية من ارتفاعه غير المنتظم، عن طريق الهداية و توجيه الأفكار، ليس استحساناً فحَسْب،بل ضرورة.

الهوامش

(*) أستاذٌ مساعد في قسم الفقه بجامعة سيستان و بلوشستان. من إيران.

(**) طالبةٌ من جامعة سيستان وبلوشستان.

([1]) ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ (الروم: 30).

([2]) متاع قاچاق بمعنى متاع ممنوع الورود وممنوع المعاملة. دهخدا 38: 48، ط2، طهران، دار دهخدا المتعلقة بجامعة طهران. انظر: دهخدا، مادة قاجاق.

([3]) العميد، المعجم الفارسي: 416، ط11، طهران، دار أمير کبير، 1356.

([4]) جعفري لنگرودي، دايرة المعارف للعلوم الإنسانية: 189، ط1، طهران، دار گنج، 1360.

([5]) الوليدي، نگاهي به موقعيت کيفري اقتصادي در إيران، نشريه دادرسي، العدد 40: 30، 1382.

([6]) الإمامي، حقوق مدني: 243، ط3، طهران، دار النشر الإسلامي، 1351؛ ابن منظور، لسان العرب، مادة عقد، قم، دار الحوزة العلمية، 1363.

([7]) الراغب، مفردات ألفاظ القرآن: 120، قم، دار إسماعيليان.

([8]) الشهيد الأوّل، اللمعة الدمشقية: 154، قم، مؤسسة دار الفکر، 1374.

([9]) الشهيد الثاني، الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية: 140، طبعة النجف، 1398.

([10]) الحلي، شرايع الإسلام في مسائل الحلال والحرام: 78، ط2، طهران، دار الاستقلال، 1409.

([11]) النجفي، جواهر الکلام 39: 232.

([12]) النائيني، منية الطالب في شرح المکاسب: 98، مکتبة المحمدي، 1373؛ انظر: الأنصاري، المکاسب.

([13]) الإمام الخميني، البيع: 67، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1415.

([14]) کاتوزيان، حقوق مدني: 47، ط3، طهران، دار شرکت سهامي، 1374؛ کمالان، هند بوك کاربرد: 78، 1389.

([15]) علي أبادي، إيجاد وإسقاط تعهدات ناشي أز عقد در حقوق إسلامي: 189، طهران، 1376.

([16]) کاتوزيان، دوره مقدماتي حقوق مدني: 78، ط3، طهران، دار شرکت سهامي، 1374.

([17]) انظر: افتخاري، حقوق مدني: 89.

([18]) انظر: أحمد النراقي، عوائد الأيام؛ محمد النراقي، مشارق الأحکام؛ الأنصاري، المکاسب.

([19]) 1ـ ﴿لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ (البقرة: 233). انظر: أسبوع الفقه الإسلامي: 25؛ المحقّق الداماد، قواعد فقه: 132، 1383.

2ـ ﴿وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ﴾ (البقرة: 282).

3ـ ﴿وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ﴾ (الطلاق: 7).

([20]) انظر: الکافي، ج5، کتاب المعيشة، باب الضرار، ح2. وانظر: فخر المحققين، إيضاح الفوائد في شرح القواعد؛ الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة، باب أنه لا يجوز الإضرار بالمؤمن.

([21]) النجفي، جواهر الکلام: 99، ط7، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1401.

([22]) کاتوزيان، حقوق مدني: 90.

([23]) النجفي، جواهر الکلام: 100.

([24]) انظر: الکليني، الكافي، باب الإضرار من قاعدة لا ضرر.

([25]) انظر: شهيدي، حقوق مدني: 140، 1367.

([26]) علي أبادي، إيجاد وإسقاط تعهدات ناشي أز عقد در حقوق إسلامي: 120، طهران، 1388.

([27]) کاتوزيان، حقوق مدني: 90.

([28]) أحمدي أحمدي، جرم قاچاق: 178، ط3، طهران، دار الميزان، 1385.

([29]) رازيني، روشهاي منطقي کردن تعرفه ها در اقتصاد إيران: 86، موسسه مطالعات وپژوهش هاي بازرگاني، 1378.

)[30]( www.Iranianstitute.com

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً